أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام الخطيب - الجلاد















المزيد.....

الجلاد


حسام الخطيب

الحوار المتمدن-العدد: 5408 - 2017 / 1 / 21 - 18:57
المحور: الادب والفن
    


وجدت نفسي منذ أن وعيت علي الدنيا وقد عملت جلادا .. كنت أخضع لرجل قاسي ، ظالم القلب مظلمه ، سيئ الطوية .. رجلا جسيما ، حاد القسمات ، جهوري الصوت كلما همس أو صرخ فلا تعرف الفرق بين همسه أو صراخه ، كان له عينان نافذتان ، وشارب رفيع ينزوي في خجل تحت انفه المعقوف ، مسترسل الشعر ويبدو شعره كأفاعي خرجت من جحورها جائعة
كان يعمل أمرا في السجن ، وكان لي أنا نفسي قوة وصرامة أستشعرها هو في داخلي فسلطني علي كل من كان يقع تحت يده ، أو يسوقه حظه العثر إلي السجن ، في البداية كنت مزهوا بوظيفتي وأشعر بمدي أهمية عملي حينما أنهال بالعذاب علي أجساد البشر ليقوموا في النهاية بالرضوخ أو الأعتراف ، كان الجسد يتغير يوما عن الاخر ، أجساد رجال ونساء وحتي أطفال لم يبلغوا بعد ، اجساد شيوخ يشارفون علي الموت ، سقط تحت يدي كل أنواع البشر وكل مشتغلي الحرف، سقط تحت يدي الغني والفقير والنبيل والوضيع والحر والعبد ولم يكن يعنيني بأي تهمة جاؤا به الي ،فالتهمة حاضرة إنه خارج عن الطاعة
كنت اظن انني اؤدي رسالة مقدسة في حفظ الأمن والأمان في البلاد، وأن كل من اسلط عليه فو وغد أثيم يستحق العقاب .. لم اكن القي بالا لآهات المقهورين ولا الي الدموع المتقجرة من عيون المظلومين . كنت اصم أذناي عن أصوات الالم المنطلقة من الحلوق واغض بصري عن قسمات العذاب البادية علي الوجوه التي انهكها التعب والجوع .
وصار سيدي فخورا بس ، يهزني في جزل وهو يحتضنني مفاخرا ، متباهيا بي بأني أستطيع أن أستنطق الحجارة الصماء ، وأشهد الأعمي علي ما لم يره ، وأنطق الابكم بما لم يسمع ، وكنت أنتشي بهذا الأطراء ويملأني الفخر حينما اسمع مديح سيدي لي . فقد كنت لا أعرف لي صاحبا سواه ولا سيدا غيره فملكته أمري وذات يوم اخذني وهو يخاطبي قائلا في قسوة ظاهرة :-
-أمامنا اليوم عمل شاق
كان السجين الذي احضروه هذه المره شيخا عجوزا ، واهنا في عقده السادس من عمره ، ضعيف الجسد ، نحيلا ، ذو لحية وافرة بيضاء كالثلج ، مهذبة الاطراف ، يشع النور من وجهه ، وبدت سيماء الطيبة الصادقة علي وجهه ، كانوا قد قيدوه بالأصفاد الي عروسة خشبية وقد كشفوا عن ظهره ، وانطلقت أنا بلا إرادة انفذ أمر سيدي فيه فأعملت الضرب علي ظهره ، وانهالت الضربات تجد طريقها علي كتفيه وظهره وذراعية ، ملتفة حول بطنه ، محدثة جروح غائرة في جلده ولحمه ، وهو يئن في صمت ، قبل ان يرتفه صوته بلهاث شديد ، كان الوحيد الذي لم يصرخ ، بل أنطلق يذكر الله قائلا :
-يا احذ يا صمد ، يا من لم تلد ولم تولد ، يا من لم يكن له كفوءا احد، يا مالك الروح والجسد ، يا حي يا قيوم ، يا خالق النجوم ، ومذهب الهموم ، باسمك اللهم نحيا ونموت ، يا جبار السموات والأرض ، يا مالك الملك والملكوت ، يا بديع السموات والأرض ، يا رحمن الدنيا والأخرة ورحيمهما ... يا اله المظلومين ، يا رب العالمين ، يا ملك القهار والمقهورين
كان يناجي ربه في احساس روحاني لم أشهده من قبل ، أحسست بكلماته تتسرب إلي نفسي لتبدد ظلام قلبي ووجدت سيدي يخاطبه قائلا :
-ألن ترجع عما قلته في حق ملكنا أيها العجوز؟
هتف العجوز في وهن وهو يتحمل ضرباتي قائلا :
-أعرف انك تستطيع ان تنكل بي وأن تعذبني ، ولكنك لن تقتل سوي جسدي ، أما روحي وعقلي وكياني فهي لله رب العالمين ، انني أموت فداء ما اؤمن به ، إن جسدي لك أما روحي فليس بوسعي أن اهبها احد ، فهي وديعة استودعها الله أيأي وسيستردها متي شاء
كانت كلمات الشيخ صادقة تصدر عن نفس قوية مؤمنة بالله ، متمسكة بتعاليمه وقيمه ، كانت نفسا حرة لم يستطع العذاب ان يثنيها عما تؤمن به ، فلم يزد سيدي وسعا الا الاغلاظ له في القول وتسليطي عليه لكي أزيد في عذابي له
واستمررت اذيق الشيخ أشد أنواع العذاب ويدور الحديث بينه وبين السيد عن العدل والظلم ، عن النور والظلام ، عن الرحمة والقسوة ، وفهمت من حديثهما أن الشيخ يجاهر بكلمة الحق ضد ملك البلاد ، الذي طغال واستعلي في الأرض بغير حق ففسدت أحوال الرعية وأنه يرجو عزله من الحكم ولأن الشيخ لع أتباع ومريدين وسماعون له فقد كان لزاما ان يعود عما قاله، فكان أن أخذوه ونكلوا به علي هذا النحو .
ولكن الشيخ كان ذا أرادة لا تلين ومبدأ لا يتغير فمازال صامدا ثابتا في وجه الطاغوت ، وكنت مع شدة إيلامي له استمع الي حديثه المفعم بالإيمان في عشق لهذا الثبات علي الحق وكان مما ادركت ان سيدي يخاطبه قائلا :
-ألن ترجع عما قلت ؟
-وهل يرجع الانسان عن الحق
-سأذيقك مر العذاب
-العذاب مهما طال فهو ليس أبدي فأما ان يموت الجلاد او المعذب وهو مهما زاد فله حد لا يستطيع تجاوزه وإن تجاوزه لم يعد له أثر
-ستتألم
-في سبيل الحق يستلذ الإنسان بالعذاب فلا يقول كفي بل يقول زدني
-امجنون أنت ؟
-بل عقلت بعد طول صمت عن الحق، لم اعد شيطانا اخرس
-سأعيدك عما قلت
-ما هي فتنة الا موقع سوطين او ثلاثة ولا أدري اين يقع الباقي مني ، إن امتصصت قطرة قطرة من دمي فعقيدتي وإيماني لا يتزعزان
-سأنتزع عينيك
-سأبصر بنور الله وسوف تخلصني من رؤية ما حرم الله
-ساصمل اذنيك
-سأسمع بوحي اللله ، وسوف تخلصني من سماع ما حرم الله
-سأقطع ساقيك
-لن أمشي بهما الي المعاصي مجددا
-سأقطع يديك
-لن أمد يدا الي المحرمات مجددا
-سأقطع لسانك
-وهل يذكر الله باللسان ، سبحانه ، يسبح له الجسد بكل جوارحه والقلب بكل جوانحه
أحس سيدي بالعجز أمام ثبات الشيخ ، فغير لهجة خطابه وهو يقترب من أذن الشيخ هامسا في صوت كفحيح افعي تتلوي في خبث :
-سنعطيك رزقا
-"يرزق من يشاء بغير حساب "
-سنعطيك قصرا
-لقد بني الله لي قصورا في الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر
-سنهبك جواري ونساء
-وعدني الله حورا مقصورات في الخيام
-سنمنحك منصبا وجاها
-وهل يظلني الله بظله إن بعت ديني وأخرتي بدنياي
عاد السيد يسلطني لكي أزيد العذاب وهو يعاود لهجته المهددة للشيخ قائلا:
-سنقتل ابنائك ونسائك
-يتشرفون بالشهادة ويدخلون بكلمتي فسيح الجنات ويبوء امثالك بالأثم زلأن هلكت الحقني الله بهم ولأن نجوت وهبني الله غيرهم
-سنسوئك
-ان كنت لا تستطيع ان تؤذيني في ديني فلن تقدر ان تسؤني في شئ
وأحسست بالخجل يعتريني وانا بجبروتي وصلاتي أقف ضعيفا لا أقوي عن رد ذلك العجوز عن عقيدته ومبدئه ، فبدأت شدتي تلين وجبروتي يضعف حتي لم أعد أحسب ضرباتي تؤثر فيه وإن كنت قد زدت من لهيب ضرباتي ولكني أحسبها كانت تتفرف علي جسده فلم تعد روحه تحسن ، همست في أذن الشيخ وأنا اضربه
-ما أنت الا رجل واحد ،ما يضيرك أن رجعت عم قلت وقلبك مطمئن بالإيمان
-لي أتباع يسمعون لي إن رجعت رجعوا وإن ثبت ثبتوا
-لو تعرضوا لمثل هذا العذاب لرجعوا بلا شك
-ولكني لا أفعل
وهنا اخذت أحدث نفسي ، أتراني قد ظلمت كل من وقعوا تحت طائلة يدي ؟، يا للجرم الذي فعلته ، ويا للوزر الذي أحمله ، كم من إنسان أذيته ورددته عن مبادئه وعقيدته وقضيته ... كم من نفسا بدلت ومن شباب احيلوا علي يدي الي كهول بعد أن امتصصت دمائهم وارتويت من أعصابهم الملتهبة
وددت لو كففت عن ضرب العجوز، لكن خوفي من سيدي جعلني أستمر وإن لم أكن راضيا عما أفعل
وتقطعت أنفاس الشيخ العجوز وتخضبت لحيته البيضاء بالدماء ، وانبثقت الجروح من كل مكان في جسده بسائل الحياة ولكنه لم يئن ولم يصرخ ولم أكن أحسب أن صراخه سيكون ضعفا طالما كان ثابتا علي رأيه ولكني حسبت أن مناجاته لربه هي صراخه بينه وبين نفسيه ..
كانت روحه البريئة تشعر بأن الله معها فنسي في نشوة الرضا عن الله قسوة العذاب وهو يدعي علي جلاده بالهداية قبل أن تبهت أنفاسه شيئا فشيئا فأسمع الواخد يتباعد عن الآخر حتي زفر أنفاسه الأخيرة قبل أن يهدأ في صمت
وهنا توقفت
استشهد الرجل ، اخذنا جسده وروحه، ولكننا لم نستطع أن نستنطقه ما يكره أو أن يفعل ما لا يؤمن به ، ما العذاب الا تهديد لمن لا يثبتون علي المواقف ، كم من بشر رأوني فرجعوا عن اقوالهم وأفعالهم دون أن أفعل شيئا ولكن كل صاحب قضية فهو إمتحان له لابد أن يجتازه وأحسست ان قسوة قلبي قد ماتت معه فلم أعد أقوي علي التعذيب منذ ذلك الحين ، هزل جسدي وضعفت ضرباتي فلم اعد احس أنني اوجع كسابق عهدي
وحاول سيدي أن يعيدني إلي سيرتي الأولي وجاهد في ذلك كثيرا ، ولكنني رفضت وأبيت وأقسمت علي نفسي إن عذبت ألا أوجع فما كان من سيدي الا أن هتف حانقا وهو يبعدني عنه
-يا لك من سوط لعين ، ساشتري غيرك غدا فلم تعد تصلح أبدا



#حسام_الخطيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النعامة تطير
- وانبلج فجر جديد
- الغرق حبا
- الأبتر
- ما تملكه موهير
- براءة
- سلوي
- حدث يوما
- خلسة
- الضرع
- عصفور
- ندم قابيل
- المتعة المسروقة
- الزيارة
- قدح الشاي
- قاتل أبيه
- فوضي الفتاوي
- اشكال الاسلام المرفوضة
- المسرح الاسلامي
- السينما الاسلامية


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام الخطيب - الجلاد