أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مهرائيل هرمينا - تناقضات العهد الجديد المنقح22















المزيد.....



تناقضات العهد الجديد المنقح22


مهرائيل هرمينا

الحوار المتمدن-العدد: 5408 - 2017 / 1 / 21 - 11:18
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


وصلت إلى سيمينار برينستون اللاهوتي في عام 1978، حديث عهد بالتخرج من الكلية وبالزواج. نسختي من العهد الجديد كانت قد اهترأت من كثرة قراءتي لها، وفي القلب شغف بطلب العلم، وكان هذين هما جل ما أملكه. لم يكن شغفي بطلب العلم سمة ملازمة لي قبل ذلك. ولم يكن ثمة شخص ممن يعرفونني قبل هذه اللحظة بخمس أو ستة سنوات ليتوقع أنني سأتجه إلى أحد الأوساط الأكاديمية لبناء مستقبلي المهني. لكن الحماس إلى العمل الأكاديمي سيطر على عقلي في لحظة ما أثناء دراستي في الكلية. أعتقد أن هذا الشعور راودني للمرة الأولى في معهد مودي للكتاب المقدس في شيكاغو وهي كلية أصولية لتدريس الكتاب المقدس بدأت في التردد عليها طالبا للعلم وكنت حينها شابا في السابعة عشرة من عمري اليانع. كان دافعي العلمي عندها يؤججه رغبة دينية في الوصول إلى اليقين أكثر من كونه نتاج فضول فكري.

كانت الدراسة في معهد مودي تجربة حادة من وجهة نظري. كنت قد ذهبت إلى هناك لأنني كنت قد خبرت تجربة «الميلاد من جديد» في المدرسة الثانوية وقررت أنني لكي أصير مسيحيًّا «جادًّا» فلابد أنني في حاجة إلى التعلم الجاد للكتاب المقدس. وعلى نحو ما وقع لي شيء بينما كنت أدرس في نصف عامي الأول في الكلية: لقد صرت متحمسًا –بل وضارٍ حتى- في بحثي عن المعرفة المتعلقة بالكتاب المقدس. في مودي لم أحصل فحسب على كل دورة أمكنني الحصول عليها في ميدان اللاهوت والكتاب المقدس، بل قمت بمبادرة شخصية مني بحفظ أسفار كاملة من الكتاب المقدس عن ظهر قلب. لم أترك لحظة فراغ إلا وقمت باستغلالها في المذاكرة. قرأت كتبا وبرعت في تدوين حواشي على المحاضرات الدراسية. كنت طوال كل أيام أسبوع تقريبا أقضي الليل في المذاكرة استعدادًا للمحاضرات.
ثلاث سنوات على هذا المنوال سارت من شأنها أن تحدث في حياة المرء تغييرات جمة. فهي بالتأكيد ستنمي عقليته. وحينما تخرجت من مودي توجهت مباشرة إلى كلية ويتون لكي أحصل على شهادة في الأدب الإنجليزي، لكني حافظت على تركيزي المكثف على الكتاب المقدس، فواظبت على حضور دورات في تفسير الكتاب المقدس وتدريسه في كل أسبوع لأطفال من مجموعة الشباب التابعة لي داخل الكنيسة. وتعلمت اليونانية حتى أكون مؤهلا لدراسة العهد الجديد في لغته الأصلية.
كنت، كمسيحي ملتزم يؤمن بالكتاب المقدس، على يقين من أن الكتاب المقدس، بما في ذلك كل كلمة من كلماته، منزل من عند الله. ربما هذا هو الذي كان الدافع لدراستي المكثفة. فهذه كلمات الله، وسائل اتصال خالق الكون ورب العالمين بنا، بها تحدث إلينا نحن الفانين التافهين. من المؤكد أن التعرف عليها عن قرب هو أهم شئ في الحياة، أو على الأقل هكذا كانت نظرتي إليها. إن استيعابي للأدب على نحو أوسع ربما سيساعدني على فهم هذه القطعة الأدبية على وجه التحديد(ومن هنا جاء تخصصي في الأدب الإنجليزي)؛ وقد ساعدتني القدرة على قراءة العهد الجديد باللغة اليونانية في التعرف على الكلمات الأصلية التي منحنا إياها كاتب النص الأصلي.
كنت قد اتخذت بالفعل قرارا أثناء عامي الأول في معهد مودي أنني أريد أن أصبح أستاذا متخصصا في علوم الكتاب المقدس. بعد ذلك، أبان وجودي في ويتون، أدركت أنني كنت ذا مستوى متميز في اليونانية ولذلك كانت خطوتي التالية مفروضة علي ولم أخترها لنفسي: أعني أن أحضر الدكتوراة في دراسات العهد الجديد، وأن ينصب عملي تحديدا على جانب اللغة اليونانية. أستاذ اللغة اليونانية الأقرب إلى نفسي في ويتون، أعني جيرالد هاوثورن، عرفني على مؤلفات بروس ميتزجر، أكثر علماء المخطوطات اليونانية للكتاب المقدس في البلاد تبجيلا، والذي تصادف وأنه كان يقوم بالتدريس في سيمينار برينيستون اللاهوتي. ولهذا السبب تقدمت بأوراقي للالتحاق بسيمينار برينيستون، جاهلا تماما بحقيقة الوضع في برينستون عدا أن بروس ميتزجر هو أحد أعضاء الهيئة التدريسية فيه وأنني أريد أن أصبح خبيرًا في المخطوطات اليونانية، وكان برينيستون هو المكان المثالي الذي أنا بحاجة للالتحاق به.
أعتقد أنني كنت أعرف شيئا واحدًا عن سيمينار برينيستون: أنه ليس معهدا إنجيليا. ولكما توطدت معرفتي بالوضع فيه خلال الشهور التي سبقت انتقالي إلى نيوجيرسي، كلما صرت عصبي المزاج. عرفت من أصدقائي أن برينيسوت هو سيمينار «ليبرالي» النزعة لا يؤمنون بين أروقته بالحقيقة الواضحة للكتاب المقدس وبإلهاميته الحرفية. أكبر التحديات التي ستجابهني لن تكون ذات طبيعة أكاديمية مجردة، أعني تحقيق النجاح الكافي في فصول المستوى الأساسي لكي أكتسب الحق في مواصلة التحضير لنيل شهادة الدكتوراة. بل ستكون قبضي على ديني واعتقادي في الكتاب المقدس ككلمة الله المنزلة والمعصومة من الخطأ.وهكذا خطوت خطواتي الأولى على أرض سيمينار برينيستون اللاهوتي صغير السن وفقيرًا ومتلهفا مع ذلك ومهيئا لتحدى هذه الطغمة من الليبراليين برؤيتهم الأقل صرامة تجاه الكتاب المقدس. كنت مستعدا كمسيحي إنجيلي صالح لصد أي هجوم على إيماني بالكتاب المقدس. كان بمقدوري الإجابة على أي تناقض متوهم وحل أي تعارض محتمل بين دفتي كلمة الله، سواء أكانت في العهد القديم أم في الجديد. كنت أعلم أنني كان لدي الكثير لأتعلمه، إلا أنني لم أكن بصدد تعلم أن نصي المقدس يضم أغلاطًا بين دفتيه.
بعض الأمور لم تجر كما كان مخططا لها. فما تعلمته على أرض الواقع في برينستون قادني إلى تغيير قناعاتي بشأن الكتاب المقدس. لم تتغير قناعاتي عن رضا- لقد بدأت في الصراخ والعويل. صليت لله كثيرا بهذا الشأن وقاومت هذا التغيير باستماتة، قوامته بكل قواي. لكن تزامن مع مقاومتي هذه أنني فكرت في أنني لو كنت مستسلما لله بحق، فلا مفر من أن أستسلم للحقيقة. وأصبح واضحًا لي بعد مرور وقت طويل أن رؤاي السابقة عن الكتاب المقدس باعتباره كلمة الله المعصومة كانت خطأ أبلقا. كان أمامي خياران: إما أن أتمسك بمعتقداتي التي صرت مدركا لخطئها أو أن أسلك السبيل الذي أؤمن أن الحقيقة ستقودني إليه. لم أختر في نهاية المطاف. فلو أن أحد الأشياء هو الحقيقة ، فهو الحقيقة، والعكس صحيح.
خبرت أناسا عبر السنين كانوا يقولون:«لو كانت معتقداتي تخالف الحقيقة، فلتذهب الحقيقة إلى الجحيم.» لم أكن يوما واحدا من هذا الصنف. في الفصول التالية سأحاول أن أفسر كيف قصرتني المعرفة بالكتاب المقدس على تغيير معتقداتي قصرًا.
هذا النوع من المعارف لا يتعلق فحسب بالعلماء من أمثالي، الذين كرسوا أعمارهم للبحث العلمي الجاد، بل إنها ذات صلة كذلك بكل إنسان يجد في نفسه اعتناءً بالكتاب المقدس- سواءً أكانوا يصنفون أنفسهم كمؤمنين أم لا. بحسب ما أعتقده، هذا الأمر له أهمية, فسواء أكنت مؤمنا- أصوليا كنت أم إنجيليا أم معتدلا أم ليبراليا- أم كنت ملحدًا، فالكتاب المقدس هو أهم الكتب التي أنتجتها حضارتنا. أن يصل المرء إلى إدراك الطبيعة التي كان عليها هذا الكتاب في الحقيقة، والطبيعة التي كان عليها في غير ذلك، هو واحد من أهم المساعي الفكرية التي بوسع أي شخص في مجتمعنا أن يشرع في إنجازها.
بعض الناس عند قراءتهم لهذا الكتاب ربما يشعرون بالضيق الشديد تجاه المعلومات التي يقدمها. كل ما أطلبه منك، إن كنت واحدًا من هذا الصنف، أن تفعل ما فعلته شخصيا: أن تتعامل مع هذه الملعومات بعقل متفتح وأن تعزم على التغيير إن وجدت فيه ضرورة. أو إذا كنت من الصنف الآخر فم تجد في الكتاب ما يشعرك بالصدمة أو بالانزعاج، فاجلس واستمتع وهذا كل ما أحتاجه منك.
أدين بجبال من العرفان لعدد من القراء الذين أنهكوا نسختي المخطوطة من هذا الكتاب قراءة وأصروا بكل نشاط وحيوية- وأرجو أن تكون جهودهم هذه قد أثمرت- أن أغير بعض المواضع فيها لكي يخرج هذا الكتاب في أبهى صورة. وأخص بالذكر في هذا الصدد: «ديل مارتن» من جامعة ييل و«جيف سايكر» من جامعة لويولا مارماونت؛ وابنتي «كيلي إيرمان كاتز»؛ وطلابي في الدراسات العليا «جيرد أندرسون» و«بينجامين وايت»؛ وقارئ فطن في شئون الطباعة؛ والمحرر الألمعي والمعوان في «هاربر وان» السيد «روجر فريت».
ترجمات الكتاب المقدس العبري(العهد القديم) التي سأوردها في هذا الكتاب مأخوذة من النسخة المعيارية المنقحة الجديدة؛ أما ترجمات العهد الجديد فقد أخذتها من الترجمة نفسها أو من ترجماتي الشخصية؛ إقتباساتي من كتابات الآباء من ترجمتي الخاصة لأعمالهم.اعتداء تاريخي على الإيمان



الكتاب المقدس هو أكثر الكتب مبيعًا وأوسعها قراءةً وأعلاها توقيرًا في تاريخ الحضارة الغربية. بل إن البعض يجادل بالقول إنه كذلك أكثر الكتابات التي كانت عرضة لإساءة الفهم من جهة عامة القراء من الدوائر التي لا تنتمي إلى طبقة رجال الدين على وجه التحديد.
حقق علماء الكتاب المقدس تقدمًا عظيما في تفسيرهم للكتاب المقدس خلال القرنين الأخيرين اعتمادًا على الاكتشافات الأثرية والتقدم الذين تحققا بشأن معرفتنا باللغتين اليونانية والعبرية اللتين كتبت بهما أسفار الكتاب المقدس في شكلها الأصلي، وعلى التحليلات الأدبية والتاريخية والنصية المعمقة والمتأنية. وهذا نشاط ضخم يبذله العلماء. حسبك أن تعلم أن آلافا من العلماء في أمريكا الشمالية وحدها يواصلون القيام بأبحاثهم الجادة في هذا الميدان، وتتحول نتائج أبحاثهم بانتظام وعلى نحو اعتيادي إلى مادة دراسية يتعلم منها طلبة الدراسات العليا في الجامعات وكذلك قساوسة المستقبل ممن يدرسون في معاهد اللاهوت(السيمينارات) التي تعدهم لتولي مناصب كهنوتية.
مع هذا، ما تزال آراء هؤلاء العلماء حول الكتاب المقدس مجهولة لدى الأفراد العاديين بوجه عام. والسبب في هذا في أغلب الأحوال هو أن زملاءنا ممن ينفقون أوقاتهم المهنية في دراسة الكتاب المقدس لم يبذلوا جهدًا في توصيل هذه المعارف للعامة ولأن عددا كبيرا من القساوسة ممن تعلموا هذه العلوم في المعاهد الدينية لا يقاسمون، لعدد من الأسباب، أبناء أبرشياتهم هذه المعارف عندما يتسلمون مناصبهم في الكنيسة(الكنيسة هي، أو يفترض أن تكون كذلك، أنسب الأماكن لتعلم الكتاب المقدس ومدارسته). نتج عن ذلك أن غالبية الأمريكيين لم يتزايد جهلهم بمحتوى الكتاب المقدس فحسب، بل تعدى الأمر إلى أن صاروا مغيبين تماما عما ظل العلماء يقولونه عن الكتاب المقدس طوال العقدين الأخيرين. من هنا يأتي هذا الكتاب وغرضي من كتابته أن أساعد في معالجة هذه المشكلة. وبمقدورك، أيها القارئ، أن ترى فيه محاولة من جانبي لإماطة اللثام عن هذا الأسرار الدفينة.
وجهات النظر التي سأعرضها في ثنايا الفصول التالية ليست آرائي الشخصية حول الكتاب المقدس. بل هي آراء ظلت متداولة لسنوات كثيرة بين الغالبية الغالبة من علماء النقد الجادين ممن امتهنوا مهنة التدريس داخل أروقة الجامعات والمعاهد في أمريكا الشمالية وأوروبا، حتى لو لم يتم إيصالها بفاعلية إلى الشعوب بوجه عام، ناهيك عن نشرها بين المؤمنين الذين يحملون في نفوسهم توقيرا خاصا تجاه الكتاب المقدس والذين يفترض بهم أن يكونوا أكثر البشر اعتناءً بأمر على هذه الشاكلة. أقول لمن يطمحون أن يحصلوا على قسط جيد من المعرفة في هذا الباب، وأن يصيروا من أهل العلم، وأن يكونوا من أهل الاطلاع، هذا الواقع لابد أن يتغير.

مقدمة للتلاميذ عن الكتاب المقدس


تلقت الغالبية العظمى من المتعلمين في المؤسسات التعليمية الكتابية معارفهم داخل المعاهد اللاهوتية. شريحة واسعة من الطلاب يغيرون مسارهم، بطبيعة الحال، نحو المعاهد في كل عام. عدد كبير من هؤلاء قد حضروا دروسًا عن الكتاب المقدس أثناء الأعوام التي قضوها في المدارس، بل بعضهم تعود دراسته للكتاب المقدس إلى أيام فصول مدارس الأحد التي كان يحضرها في طفولته. لكنهم درسوا الكتاب المقدس دراسة تقليدية من منظور إيماني، قرأوه ليحصلوا منه على إرشادات تحدد لهم أي العقائد بها يؤمنون وأي السبل يسلكون في حياتهم اليومية. نتج عن هذا أن هؤلاء الطلاب لم يكونوا معنيين بما اكتشفه العلماء عن مشكلات الكتاب المقدس حينما درسوه من منظور أكثر موضوعية وأكثر اعتبارا للحقائق التاريخية، بل لم يكونوا حتى معرضين لاستكشاف ذلك.
نوع آخر من التلاميذ هم جادون في القيام بواجباتهم الدراسية على أحسن وجه في المعاهد التعليمية لكنهم فيما يبدو تعوزهم المعرفة الواسعة بالكتاب المقدس أو يتمسكون بآراء حاسمة فيما يتعلق بالكتاب المقدس باعتباره كلمة الله التي أوحاها. هؤلاء التلاميذ هم في كثير من الأحوال مؤمنون بالفطرة وبالتربية، وهم يشعرون أنهم مختارون للكهنوت، غالبيتهم يشعرون أنهم مختارون للعمل الكهنوتي بين جدران الكنيسة، لكن عدد لا بأس به منهم يمارس الكهنوت بمختلف أشكاله الاجتماعية. من بين الطوائف الكبيرة داخل البلاد- أتباع الكنيسة المشيخية، والمنهجيين(الميثوديست)، واللوثريين وأتباع الكنائس الأسقفية وغيرهم- عدد لا بأس به من هؤلاء التلاميذ هم بالفعل ممن أُصنِّفُهم كمناصرين للاتجاهات المتحررة. هؤلاء لا يؤمنون بعصمة الكتاب المقدس وهم أكثر التزاما نحو الكنيسة باعتبارها مؤسسة أكثر منهم ملتزمين نحو الكتاب المقدس باعتباره برنامج عمل يوضح ما يجب أن يعتنقه الإنسان من عقائد وما ينبغي أن يسلكه من سلوكيات في حياته. وكثير منهم لا يعلمون الكثير عن الكتاب المقدس وجل ما لديهم من معرفة هو مجرد مفاهيم ضبابية عن ما يقدمه من قيم دينية.

لا يمضي الأمر دائما على هذا النحو في المعاهد العلمية البروتسانتية. في العقود المبكرة كان من الممكن افتراض إمكانية أن يلتحق طالب ما بمعهد ما من المعاهد حاملا في جعبته مقدارًا هائلا من المعرفة عن الكتاب المقدس، وأن تفترض عملية التدريب على الأعمال الكهنوتية مسبقا أن الطلاب لديهم معرفة بالمحتوى الأساسي للعهدين كليهما، القديم والجديد. من المحزن أن هذا الأمر لم يعد له وجود. حينما كنت أدرس في معهد «برينستون» اللاهوتي(وهو مدرسية تابعة للطائفة المشيخية) في أواخر سبعينات القرن العشرين، غالبية زملائي في الدراسة كانوا مطالبين بتلقي دروس تقوية في سبيلهم لاجتياز اختبارا كنا نسميه اختبار « الكتاب المقدس للأطفال »، وقد كان امتحانا يقيس معلومات الطالب عن أبسط أبجديات المعرفة فيما يتعلق بالكتاب المقدس – ما هي«الأسفار الخمسة»؟ من هو «ثاوفيلوس»؟- وهي المعلومات التي يحفظها غالبيتنا، نحن الصادرين عن خلفيات إنجيلية راسخة، عن ظهر قلب.

إحساسي الداخلي أن غالبية الطلاب الذين يلتحقون بفصلهم الأول في دروس السيمينار التعليمية لا يعرفون ما عليهم أن يتوقعوه من تلك الحلقات الدراسية التي سيلتحقون بها عن الكتاب المقدس. هذه الفصول هي فحسب جزء صغير من المنهج الدراسي بطبيعة الحال. هناك حلقات دراسية أخرى مطلوبة في تاريخ الكنيسة واللاهوت النظامي والتعليم المسيحي و الخطابة وفنون الوعظ، وإدارة الكنيسة. هذا كم كبير من المواد يصعب ضغطه في ثلاث سنوات. لكن كل امرأٍ مطالب بتلقي دورات دراسية تحضيرية ومتقدمة في الدراسات الكتابية. طلاب كثر يتوقعون أن تتلى هذه الدورات على مسامعهم من زاوية نظر دينية إن على نحو أكبر أو أقل، وأن تكشف لهم كيف، باعتبارهم كهنة المستقبل، يمتلكون ناصية الكتاب المقدس وكيف يجعلونه خلال المواعظ الأسبوعية قابلا للتطبيق في حياة الناس.

هذا النوع من الطلاب من المحتمل أن يمر بصحوة عنيفة. الاتجاه الرئيس من المعاهد الدينية(السيمينارات) البروتسانتية في هذه البلاد مشهورة بتحديها للمعتقدات المألوفة في أذهان الطلاب نحو الكتاب المقدس – حتى إذا كانت هذه المعتقدات المألوفة هي ببساطة شعور دافئ وغامض بأن الكتاب المقدس هو الدليل الأريب إلى الإيمان والعمل، وبأنه ينبغي أن يعامل بتوقير وبتقوى. هذه المعاهد تمنح علما جادًّا وحاسمًا وغير قابل للتشكيك فيما يتعلق بالكتاب المقدس. لا تمنح هذه المعاهد تدليلا للمعتقد الديني. يدرس في هذه المعاهد علماء يتمتعون باطلاع كاف على ما دأب العلماء من المتحدثين باللغتين الإنجليزية والألمانية على قوله عن الكتاب المقدس طيلة القرون الثلاثة الماضية. وهم شغوفون بجعل طلابهم على اطلاع حسن عن الكتاب المقدس، أكثر من شغفهم بتعليمهم ما هو مكتوب بالفعل بين دفتي الكتاب المقدس. دروس الكتاب المقدس في المعاهد عادة ما يتم مدارستها من زاوية تاريخية وأكاديمية محضة، وهو ما لا يشبهه أي شئ يتوقعه غالبية طلاب السنة الأولى ولا يشبهه أي شئ سمعوا عنه من قبل سواء داخل الكنيسة، أو في البيت أو في مدارس الأحد.

المنهج المعتمد في التعامل مع الكتاب المقدس في غالبية السيمينارات البروتستانتية(والكاثوليكية في العصر الحاضر) التقليدية هو ما يعرف باسم منهج «النقد التاريخي». هذا المنهج يختلف تمام الاختلاف عن ذلك المنهج«الإيماني» في التعامل مع الكتاب المقدس الذي يتعلمه المرء في الكنيسة. المنهج التعامل مع الكتاب المقدس صدورًا عن آراء إيمانية يهتم كثيرًا بالحديث عن ما يقوله الكتاب المقدس – خاصة ما على الكتاب المقدس أن يقوله لي على المستوى الشخصي أو ما يقوله لمجتمعي الذي أعيش فيه. ماذا يقول لي الكتاب المقدس عن الله؟ عن المسيح؟ عن الكنيسة؟ عن علاقتي بالعالم؟ عن الإيمان الذي سأعتنقه؟ عن سلوكي في الحياة كيف يكون؟ عن مسئولياتي تجاه المجتمع؟ كيف يمكن للكتاب المقدس أن يقربني من الله زلفًا؟ كيف يساعدني على العيش؟

المنهج النقدي التاريخي لديه مجموعة مختلفة من الاهتمامات ولهذا يقدم لنا مجموعة مختلفة من الأسئلة. في قلب هذا المنهج تأتي القضية التاريخية(ومن هنا استقى المنهج اسمه) المتعلقة بمعاني نصوص الكتاب المقدس في سياقها التاريخي الأصلي. من هم الكتاب الحقيقيون للكتاب المقدس؟ هل من الممكن(نعم ممكن!) أن يكون مؤلفو بعضا من أسفار الكتاب المقدس ليسوا هم في الحقيقة من زعموا أنهم مؤلفوها، أو من زُعِمَ أنهم كذلك – كالقول إن الرسالة الأولى إلى تيموثاوس، على سبيل المثال، لم يكتبها بولس، أو إن سفر التكوين لم يكتبه موسى؟ متى عاش هؤلاء المؤلفون؟ ما هي الظروف التي كتبوا كتاباتهم في ظلها؟ ما هي المشكلات التي كانوا يحاولون مواجهتها في عصرهم هذا؟ كيف أثرت عليهم الافتراضات الثقافية والتاريخية التي سادت زمانهم؟ ما هي مصادرهم التي استقوا منها معلوماتهم؟ متى أنتجت هذه المصادر؟ هل يمكن أن تكون وجهات نظر هذه المصادر مختلفة أحداها عن الأخرى؟ هل من الممكن أن يكون لدى كل مؤلف ممن استعملوا هذه المصادر وجهات نظر مختلفة عن ما لدى مصادره من وجهات نظر أو عن بعضهم البعض سواءً؟

هل من الجائز أن تكون أسفار الكتاب المقدس التي اعتمدت على مصادر متنوعة تضم بين ثناياها تناقضات داخلية؟ أو أن يكون ثمة تناقضات لا يمكن التوفيق بينها بين تلك الأسفار؟ وهل يمكن أن يكون معنى الأسفار الذي كان يقصده المؤلف في سياقه الأصلي في الأساس مختلفا عن تلك المعاني التي استقر الناس اليوم على أنها هي المعنى المقصود من الأسفار؟ أو أن تكون تفسيراتنا للكتاب المقدس تضم بين ثناياها اجتزاء الكلمات اجتزاءً من سياقها ومن ثم تشويها لما تحويه من رسالة؟
وماذا سيكون الحال إذا كنا لا نملك حتى كلمات النص الأصلية؟ وماذا لو كانت كلمات الكتاب المقدس، أثناء القرون التي كان ينسخ فيها الكتاب المقدس- بعهديه كليهما، القديم وهو المكتوب بالعبرية، والجديد وهو المكتوب باليونانية، نسخًا يدويًّا، قد تعرضت للتحريف بيد نساخ تميزوا بحسن نياتهم وإهمالهم، أو على يد نساخ كانوا في أوج يقظتهم قصدوا إلى تحريف النصوص قصدًا لكي يقصروها قصرًا على أن تقول ما أرادوا منها أن تقوله؟

هذه الأسئلة هي عينة صغيرة من الأسئلة الكثيرة التي يثيرها منهج النقد التاريخي. لا عجب إذن أن يكون لزاما على الطلاب الملتحقين حديثا بتلك المعاهد أن يحصلوا على دروس تقوية تعينهم على اجتياز اختبارات «الكتاب المقدس للأطفال» قبل حتى أن يكون بمقدورهم أن يبدؤوا دراسة جادة للكتاب المقدس. هذا النوع من الدراسات يفترض مسبقا أنك تعرف ما ستتكلم عنه قبل أن تبدأ في الكلام عنه.
نسبة كبيرة جدا من طلاب السيمينارات يفاجئهم منهج النقد التاريخي. فهم يلتحقون ويراودهم أمل بأن يتعلموا الحقائق الدينية عن الكتاب المقدس لكي يكون بوسعهم تمريرها في مواعظهم إلى المؤمنين، كما وقع لهم مع كهنة كنائسهم. لا شئ يعدهم لصدامهم بالنقد التاريخي. ما يفاجئهم هو أنهم يتعلمون حصيلة ما أقره علماء النقد التاريخي معتمدين على قرون من الأبحاث بدلا من تعلم مضامين وعظية. الكتاب المقدس يغص بالاختلافات، وكثير من هذه الاختلافات هي تناقضات غير قابلة للتوفيق بينها. فموسى لم يكتب الأسفار الخمسة( أي أول خمسة أسفار من العهد القديم) ومتَّى ومرقص ولوقا ويحنا لم يكتب أي منهم تلك الأناجيل. هناك كتب أخرى لم تعتبر جزءًا من الكتاب المقدس اعتبرت في وقت من الأوقات جزءًا من لائحة الأسفار المعتمدة – على سبيل المثال أناجيل تختلف عن الأناجيل الرسمية يزعم أنها من نتاج أقلام تلامذة يسوع بطرس وتوما ومريم. واقعة الخروج، على الأرجح، لم تقع على الوصف الذي ورد عليه في العهد القديم. غزو أرض الميعاد يعتمد على الأرجح على رواية أسطورية. والأناجيل تتناقض فيما بينها في عدد من النقاط وتتضمن معلومات ليس عليها دليل تاريخي. من العسير معرفة ما إذا كان موسى قد كان له وجود في عصر من العصور وما هو الشكل الأصلي لتعاليم المسيح التاريخي. المرويات التاريخية التي ذكرت في العهد القديم تغصُّ بالاختلاقات الأسطورية وسفر الأعمال في العهد الجديد يحتوي معلومات غير موثق بها من الناحية التاريخية عن حياة بولس الرسول وتعاليمه. كثير من أسفار العهد الجديد مكتوبة بأسماء مستعارة(pseudonymous)- أي أن الرسل لم يكونوا هم كاتبيها بل مؤلفين من عصور متأخرة ادعوا أنهم الرسل. والقائمة تطول.

بعض هؤلاء الطلاب يتقبلون هذه الآراء الجديدة من الوهلة الأولى. أما الآخرون – وخاصة من بين الطلاب الأكثر محافظةً- يقاومون لفترة طويلة مطمئنين إلى معرفتهم أن الله لم يكن ليسمح بمرور البهتان إلى كتابه المقدس. لكن قبل فوات الأوان، ولأن الطالب يرى البراهين أكثر وأكثر، يجد كثير منهم أن إيمانهم بعصمة الكتاب المقدس ومصداقيته من الناحية التاريخية يبدأ في الاضطراب. هناك ببساطة الكثير جدا، جدا من الأدلة، وللتوفيق بين كل هذه المئات من الاختلافات بين المصادر الكتابية ينبغي وجود الكثير جدا من التخمين ومن المناورات التفسيرية الوهمية التي في النهاية تصل إلى أنك لا قبل لك بالتوفيق بينها.مشكلات مع الكتاب المقدس



بالنسبة لهذا الصنف من الطلبة الذين يلتحقون بالسيمنار مقتنعين برؤية مفادها أن الكتاب المقدس بكامله وعلى نحو مطلق وبنسبة مائة في المائة هو كتاب يخلو من الأخطاء، كون غالبية علماء النقد يعتنقون فهما مختلفًا تمام الاختلاف عن ما يؤمنون به بمقدوره أن يمثل لمنظومات الأفكار التي يؤمن بها هؤلاء صدمة حقيقية. وبمجرد أن يفتح هؤلاء بوابات السدود التي تغلق عقولهم عبر اعترافهم بإمكانية وقوع الأخطاء في الكتاب المقدس، يتعرض فهم هؤلاء للكتاب المقدس لتحولات عنيفة. وكلما قرأوا النص بعناية أكبر وبجدية أكثر، كلما وقعت أيديهم على أخطاء أكثر وأكثر، ويبدأون في معرفة أن معاني الكتاب المقدس في الحقيقة يكون ذا معنى أكثر منطقية إذا سلمت بوجود تناقضات فيه بدلا من إصرارك الثابت أنه ليس ثمة أي أخطاء، حتى عندما تظهر هذه الأخطاء جلية أمام عينيك.

لا شك أن عددًا كبيرًا من الطلاب المبتدئين هم خبراء في التوفيق بين المتناقضات التي يعاني منها الكتاب المقدس. يشير إنجيل مرقص، على سبيل المثال، إلى أن الأسبوع الأخير في حياة يسوع كان هو الظرف الزماني الذي «طهر فيه يسوع الهيكل» عن طريق قلبه موائد الصيارفة وهو يردد مقولته الشهيرة:« مكتوب بيتي بيت صلاة...وأنتم جعلتموه مغارة لصوص»(مر: 11 )، بينما هذا قد حدث، وفقا لإنجيل يوحنا، في بداية خدمة يسوع التبشيرية(يوحنا 2). بعض القراء اعتقدوا أن يسوع لابد وأنه قد طهر الهيكل مرتين، مرة في بداية خدمته الكهنوتية وأخرى عند نهايتها. لكن هذا لا يعني سوى أن مرقص ويوحنا كليهما لم يخبرانا بالقصة «الحقيقية»، حيث إنه في الروايتين معا يطهر الهيكل مرة واحدة فحسب. فوق ذلك، هل التوفيق بين الروايتين يمكن قبوله ظاهريًّا من الناحية التاريخية؟ إذا كان يسوع قد أحدث اضطرابا في الهيكل في بداية خدمته الكرازية، فلماذا لم تقم السلطات باعتقاله عندها؟ بمجرد أن يتوصل المرء لإدراك أن الكتاب المقدس من الجائز أن يضم بين ثناياه تناقضات، من الممكن أن يدرك أن إنجيلي مرقص ويوحنا ربما أرادا أن يعلمانا درسين مختلفين عن تطهير الهيكل، ولذلك فهما قد وضعا الحادثة في زمنين مختلفين من الخدمة الكرازية اليسوعية . فإذا تناولنا القضية من الناحية التاريخية، من ثم، نجد أن الروايتين لا يمكن التوفيق بينهما.

الأمر نفسه يصدق على إنكار بطرس ليسوع. في إنجيل مرقص، يخبر يسوع بطرس أنه سينكره ثلاث مرات« قبل أن يصيح الديك مرتين.» في إنجيل متى يخبره يسوع أن الإنكار سيقع «قبل أن يصيح الديك.» حسنًا، أيهما الصحيح- قبل أن يصيح الديك مرة أم مرتين؟ حينما كنت طالبا في الكلية، اشتريت كتابا كان مقصود مؤلفه منه أن يوفق بين المتناقضات من هذا النوع. وكان الكتاب يحمل العنوان التالي:«حياة يسوع مجسمةً» أو «The Life of Christ in Stereo ». المؤلف، جوستون تشيني، أخذ روايات الأناجيل الأربعة ونسجهم معا في نسيج واحد على هيئة إنجيل واحد من النوع الضخم، وكان هدفه أن يكشف لنا الصورة الأصلية التي كان عليها الإنجيل. بالنسبة للتناقضات في قصة إنكار بطرس، كان للمؤلف حلا ذكيا للغاية: لقد أنكر بطرس سيده ست مرات في حقيقة الأمر: ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك وثلاث مرات أخرى قبل أن يصيح الديك مرتين. وهذا بمقدوره كذلك أن يشرح سبب إنكار بطرس ليسوع لثلاثة أشخاص مختلفين( أو لثلاث مجموعات مختلفة من الناس) في الروايات المتعددة. لكن في هذا الموضع أيضًا، وبهدف تخفيف التوتر الحاصل بين الأناجيل، كان على المفسر أن يكتب إنجيله الخاص الذي لا يشبه أي إنجيل من الأناجيل التي نجدها بين دفتي العهد الجديد. ومع ذلك، أليس من السخف أن يقول امرؤ إن «إنجيلي» وحده- أي ذلك الإنجيل الذي اختلقته من أجزاء الأناجيل الأربعة في العهد الجديد- هو الإنجيل الصحيح، وأن الأناجيل الأخرى صحيحة جزئيًّا؟

المشكلة ذاتها نصادفها في روايات قيامة المسيح. بعد موت المسيح بأيام ثلاثة، تمضي النسوة إلى القبر لكي يدهنوا جثمانه من أجل الدفن. فمن يرونه هناك يا ترى؟ هل يرون رجلا، كما يقول مرقص؟ أم يرون رجلين (كما يقول لوقا؟ أم ملاكا كما يذكر متَّى؟ هذه التناقضات يتم التوفيق بينها كالعادة بالقول إن النسوة رأوا في الحقيقة«ملاكين اثنين». هذا القول بمقدوره تفسير أي قول آخر – فسبب قول متى إنهن رأين ملاكا( هو أنه يذكر واحدًا منهما فحسب، وهذا لا ينفي وجود الثاني!) وسبب قول مرقص إن المرئي كان إنسانًا( هو أن الملائكة قد بدوا وكأنهم بشرٌ، مع أنهم في الحقيقة ملائكة، ومرقص يذكر واحدا منهما فحسب من غير أن ينفي وجود ثانٍ)، أما سبب قول لوقا إنهما كانا رجلين (فلأن الملائكة قد ظهرت كبشر). المشكلة هي أن هذا النوع من التوفيق يتطلب مرة أخرى من المرء أن ما حدث في الحقيقة مخالف لما يقوله كل إنجيل من الأناجيل الأربعة – حيث إن أيا من الروايات الثلاث لم يذكر أن النسوة رأين «ملاكين اثنين».

كما سنرى، هناك كثير من التناقضات داخل دفتي العهد الجديد, بعضها إمكانية التوفيق بينها أكثر صعوبة ( بل إني أقول إنه من المستحيل أن تفعل ذلك) من هذه الأمثلة البسيطة التي ضربناها ها هنا. لا أعني فحسب التناقضات التي بين سفر وآخر من أسفار الكتاب المقدس، بل إن تناقضات ثمة داخل السفر الواحد في بعض الأسفار، وهي المشكلة التي عزاها علماء النقد التاريخي لفترات متطاولة إلى أن مؤلفي الأناجيل كانوا قد استعملوا مصادر مختلفة من أجل كتابة رواياتهم، وهذه المصادر في بعض الأحيان عند المزاوجة بينها بدت متناقضة فيما بينها. المدهش هو سهولة عدم ملاحظتك مثل هذه المشكلات الداخلية ، إذا لم ينبهك أحد بشأنها، عند قيامك بقراءة الأناجيل، لكنهم حين يلفت أحدهم انتباهك إليهم يبدون متناقضين تناقضا بالغ الوضوح. غالبا ما يسألني الطلاب:« لماذا لم أنتبه إلى هذا من قبل؟» خذ على سبيل المثال في إنجيل يوحنا يقوم يسوع بمعجزته الأولى في الإصحاح الثاني عندما يحول الماء إلى خمر(وهي المعجزة المفضلة داخل أروقة الحرم الجامعي)، ويقال لنا إن «هذه كان أولى المعجزات التي صنعها يسوع»(يو 2 : 11 ). في موضع متأخر من هذا الإصحاح يقال لنا إن يسوع صنع «معجزات كثيرة» في أورشاليم(يوحنا 2 : 23 ). وبعدها، أي في الإصحاح الرابع، يشفي ابن قائد المائة، ويخبرنا المؤلف:«هَذِهِ أَيْضاً آيَةٌ ثَانِيَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ ...» ماذا؟! المعجزة الأولى، ثم معجزات كثيرة، ثم المعجزة الثانية مرة أخرى؟![1]

واحدة من تناقضات الكتاب المقدس الواضحات المفضلة لدي – أقرأ إنجيل يوحنا منذ سنوات من غير أن أدرك غرابة هذا التناقض- يأتينا في «خطبة الوادع» التي ألقاها يسوع، وهي خطبته الأخيرة التي ألقاها على مسامع تلامذته عند تناوله عشاءه الأخير برفقتهم، وتشغل الفصول من 13 إلى 17 بالكامل من إنجيل يوحنا. في العدد يوحنا 13 : 36 يقول بطرس ليسوع:«يَا سَيِّدُ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟» بعدها بعدد قليل من الأعداد يخاطبه توما قائلا: «يَا سَيِّدُ لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟»(يو 14 : 5 ). ثم بعد دقائق قليلة، وأثناء العشاء نفسه يوبخ يسوع تلاميذه قائلا:« وَأَمَّا الآنَ فَأَنَا مَاضٍ إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَسْأَلُنِي أَيْنَ تَمْضِي؟»(يو 16 : 5 ). إما أن حيز الانتباه لدى يسوع كان حيزا محدودا جدا أو أن هناك شيئا غير طبيعي يتعلق بمصادر هذه الفصول ما أحدث هذا الشكل الغريب من انعدام الاتساق بينها.
هذا النوع من التناقضات من الواضح أنه أكثر شيوعا في العهد القديم بداية من أسطره الأولى نفسها. بعض الناس يبذل مجهودا ضخما لإيجاد أعذار لكل هذه الاختلافات لكنك إذا نظرت إليها عن كثب، تجد التوفيق بينها من الصعوبة جدا بمكان. ولماذا ينبغي أن يتم التوفيق بينها أصلا؟ فربما هي ببساطة اختلافات. قصة الخلق في الإصحاح الأول من سفر التكوين تختلف تماما عن مثيلتها في الإصحاح الثاني من سفر التكوين. ليس في في الصياغة وأسلوب الكتابة فحسب يكمن الاختلاف، كما يبدو ذلك لك جليا عند قراءتك النص في شكله العبري، وليس لأن الفصلين يستخدمان اسمين مختلفين لله، بل لأن محتوى الفصلين نفسه يختلف من عدد من الأوجه. حسبك أن تكتب قائمة بكل الأحداث التي تقع في الإصحاح الأول بالتسلسل الذي وقعت به، وقائمة أخرى منفصلة للإصحاح الثاني، وقارن بين قائمتيك. هل خلقت الحيوانات قبل البشر، كما في الإصحاح الأول، أم بعدهم كما في الإصحاح الثاني؟ وهل خلقت النباتات قبل خلق الإنسان أم بعده؟ وهل «الإنسان» هو أول المخلوقات الحية أم آخرها؟ وهل تزامن خلق النساء مع خلق الرجال أم خلق كلٌ في وقتين منفصلين؟ بل داخل كل قصة حتى نجد هذه المشكلات: إذا كان «النور» قد خلق في اليوم الأول من الخلق في سفر التكوين الإصحاح الأول، فكيف إذن لم يكن الشمس والقمر والنجوم قد خلقت حتى حلول اليوم الرابع؟ ما هو مصدر الضوء إذن، لو لم يكن ثمة شمس ولا قمر ولا نجوم؟ وكيف أمكن أن هناك «مساء وصباح» في كل من الأيام الثلاثة الأولى لو لم يكن ثمة شمس؟
لم يكن هذا سوى البداية. فعندما يصطحب نوح الحيوانات على سفينته، هل أخذ سبعة أزواج من جميع الحيوانات «الطاهرة» كما يصرح سفر التكوين 7 : 2 ، أم اصطحب فحسب زوجين اثنين كما يشير إلى ذلك العددان من 9 – 10 من الإصحاح 7؟
في سفر الخروج، يخبر الرب موسى:« وأنا ظَهَرْتُ لإبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بِانِّي الْإلَهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَأمَّا بِاسْمِي «يَهْوَهْ»[الرب] فَلَمْ أُعْرَفْ عِنْدَهُمْ.» (خرو 6 : 3 ). كيف يتوافق هذا القول مع ما نجده في موضع سابق، في سفر التكوين، حيث يعَرِّفُ الرب إبراهيم على نفسه باعتباره الرب[أي يهوة]: «أَنا الرَّبُّ [يهوة ]الَّذِي أخْرَجَكَ مِنْ أورِ الْكِلْدَانِيِّينَ لِيُعْطِيَكَ هَذِهِ الأرْضَ لِتَرِثَهَا.»(تك 15 : 7 )؟
أو ألق نظرة فاحصة على واحدة من فقراتي المفضلة إلى الأبد، أعني الفقرة التي تقدم وصفا للضربات العشر التي جلبها موسى على رؤوس المصريين لكي يجبر فرعون على «أن يطلق شعبي.» كانت الضربة الخامسة وباءً قتل«كل ماشية المصريين»(خر 9 : 5 ).
كيف يعقل إذن أن تكون الضربة السابعة التي تقع بعد ذلك بأيام قليلة، وهي البَرَدُ، مخصصة لتدمير كل ماشية الحقل التي للمصريين(خر 9 : 21 – 22 ) عن أيَّ ماشية يتحدث؟
قراءة متأنية للكتاب المقدس تبوح بمشكلات أخرى إلى جانب الاختلافات والمتناقضات. هناك مواضع يبدو النص فيها وكأنه يتبنى رؤية لا تليق عن الرب أو عن شعبه. هل علينا بالفعل أن نعتقد في أن الرب يأمر بتنفيذ مذبحة جماعية بحق مدينة بأكملها؟ في الإصحاح 6 من سفر يشوع، يأمر الرب جنود إسرائيل بأن يهاجموا مدينة أريحا وأن يذبحوا كل ذكر وأنثى وطفل يجدونه في المدينة. أفترض أن هذه الأعداد توضح أن الرب يرغب في أن لا يلحق بشعبه أي أذى – ولكن هل هو بالفعل يعتقد أن قتل كل الأطفال الصغار والرضع هو ضروري لتحقيق هذه النتيجة؟ فكيف سيكون إذن تعاملهم مع الأشرار؟
أو ماذا على المرء أن يفعل حيال مزمور 137، واحد من أكثر المزامير جمالا، والذي يبدأ بأسطر جديرة بأن تحفظ:«عَلَى أَنْهَارِ بَابِلَ هُنَاكَ جَلَسْنَا. بَكَيْنَا أَيْضاً عِنْدَ مَا تَذَكَّرْنَا صِهْيَوْنَ.» أمامنا هاهنا تأمل مؤثر لأحد المؤمنين من بني إسرائيل يشتاق للعودة إلى أورشليم التي جرى تدميرها بيد البابليين. لكن هذا التسبيح والثناء على الله ومدينته المقدسة يتحول تحولا معيبا عند نهايته حينما يدبر مكيدة لإمضاء انتقامه من أعداء الرب:«طُوبَى لِمَنْ يُمْسِكُ أَطْفَالَكِ[يعني أطفال البابليين] وَيَضْرِبُ بِهِمُ الصَّخْرَةَ!»(137 – 9 ). أيحطم المرء رؤوس أطفال البابليين انتقاما مما فعله آباؤهم الجنود؟ هل هذا كلام يرد في الكتاب المقدس؟

إله الثأر والانتقام ليس ماركة مسجلة باسم العهد القديم تسجيلا حصريًّا كما حاول بعض المسيحيين أن يزعموا. بل إن إله العهد الجديد هو الآخر إله دينونة وعقاب كما يعرف ذلك تمام المعرفة أي قارئ لسفر الرؤيا. بحيرة الكبريت ملتهبة ومعدة لكل من يتمرد على الرب. هذا يشمل فيما يشمل الاحتراق الأبدي- أي عقوبة دائمة حتى لمن عصى الله على فترات متقطعة خلال عمره الذي دام عشرين عامًا. 20 بليون عاما من التعذيب في مقابل عشرين عاما من العيش في تضاد مع تمليه الشريعة؛ وهذه فحسب هي البداية. هل يجدر بنا أن نصف الرب بهذا؟
لابد أن أؤكد أن العلماء والطلاب الذين يثيرون هذه الأسئلة في وجه هذه الفقرات لا يحاكمون الله نفسه. بل يحاكمون ما يقوله الكتاب المقدس عن الله. البعض من هؤلاء العلماء يواصلون إيمانهم بأن الكتاب المقدس من بعض الأوجه هو كتاب أوحاه الله – والبعض الآخر بطبيعة الحال يتوقف عن ذلك. بل حتى إذا كان مؤلفو الكتاب المقدس من بعض الأوجه أنبياءً موحى إليهم، فهم بلا شك لم يكونوا معصومين تماما من الزلل؛ بل ارتكبوا أخطاءً بالفعل. هذه الأخطاء تتضمن تناقضات واختلافات، وتتضمن كذلك مفاهيم مغلوطة عن الله: من كان وماذا كان يريد منا بالحقيقة. هل كان يريد من المؤمنين به أن يرطموا أدمغة أطفال أعدائهم في الصخور؟ هل يخطط بالفعل لتعذيب غير المؤمنين به لبلايين السنين؟
هذه عينة من الأسئلة التي رأى خريجو السيمينارات ومعلموها أنهم ملزمين بالتعامل معها حال نأيهم بأنفسهم بعيدا عن الالتزام الديني تجاه الكتاب المقدس الذي جاؤا حاملين إصره معهم لحظة التحاقهم بالسيمينارات وابتدائهم في دراسة الكتاب المقدس في ضوء العلم. هي أسئلة أثيرت، على نطاق أرحب، كنتيجة للدراسة على ضوء منهج النقد التاريخي في دراسة الكتاب المقدس، المنهج الذي يجري تدريسه في معظم السيمينارات البروتستانتية التقليدية والذي يمثل الرؤية الأقل أو الأكثر «أرثوذكسية» في أوساط علماء الكتاب المقدس في أمريكا وأوروبا.
تصر هذه الرؤية على أن كل مؤلف على حدى من مؤلفي الكتاب المقدس عاش في زمنه وفي مكانه وليس في زماننا أو مكاننا. كل مؤلف كان يؤمن بمجموعة من الافتراضات الثقافية والدينية ربما لا نؤمن نحن بها كما يؤمن هو. المنهج النقدي التاريخي يحاول أن يفهم المعنى الذي كان كل مؤلف من هؤلاء يرمي إليه في سياقه الأصلي. وفقا لهذه الرؤية، ينبغي أن نسمح لكل مؤلف أن يعبر عن رأيه الشخصي بحرية. فيما يتعلق بمؤلفي العهد الجديد، لا يقول مؤلف إنجيل متَّى الشيء نفسه الذي يقوله مؤلف إنجيل لوقا. ومرقص يتميز برؤيته المختلفة عن يوحنا. وبولس ربما لم ينظر إلى الأمور بالعين نفسها التي نظر بها يعقوب إليها. فيما يبدو مؤلف سفر الرؤيا مختلفا عن كل من عداه. وبمجرد أن تبدأ في تطبيق الاعتبارات نفسها على العهد القديم، تضطرب كل الأشياء اضطرابا تاما. فمؤلفا سفريّ أيوب والجامعة يصرحان بوضوح تام أنه ليس ثمة حياة أخرى. بينما يصر سفر عاموس على أن شعب الله يلحقه الآلام لأن الله يعاقبه على آثامه؛ أما سفر أيوب فيصر على أن البرئ قد يتألم؛ أما سفر دانيال فيؤكد أن البرئ سيتألم في الحقيقة. كل هذه الأسفار هي أسفار متمايزة، وكلهم يملك رسالة أخلاقية، وكل رسالة من هذه الرسائل تستحق أن نصغي إليها السمع.إحدى خصائص الاتجاه السائد من المسيحية المثيرة للدهشة وللحيرة معا هو أن خريجي السيمينارات الذين تعلموا مبادئ المنهج النقدي التاريخي في فصول دراسة الكتاب المقدس يبدون وكأنهم قد نسوا كل ما تعلموه حينما يحل موعد التحاقهم بسلك الكهنوت. يعَلَّمون مناهج نقدية في التعامل مع الكتاب المقدس، يتعلمون أمورًا عن الاختلافات والتناقضات، يكتشفون كل أنواع الأخطاء والأغاليط التاريخية، يبدأون في إدراك أنه من العسير أن يعرف المرء ما إذا كان موسى قد كان له وجود تاريخي أو أن يعرف ما قاله يسوع فعليا وفعله ، يجدون أن هناك أسفارًا أخرى كانت في وقت من الأوقات معتبرة بين الأسفار المعتمدة ككتب إلهية ولكنها في نهاية الأمر لم ينته بها الحال بين جلدتي الكتاب المقدس ككتب معترف بصحتها( هناك على سبيل المثال أناجيل وأسفار رؤوية أخرى)، يحصل أنهم يعترفون أن عددا لا بأس به من أسفار الكتاب المقدس هي كتب مكتوبة بأسماء مستعارة(كأن يكتب شخص آخر كتابا ثم يدعي أن رسولا من الرسل قد كتبه)، وأننا في حقيقة الأمر لا نمتلك أي نسخ أصلية من أسفار الكتاب المقدس بل نسخا كتبت بعد ذلك بقرون وكلها تعرضت للتحريف.
يتعلمون كل هذا، إلا أنهم بمجرد أن يلتحقوا بالكهنوت الكنسي، يبدون وكأنهم قد تركوا كل ما تعلموه جانبًا. يمتنع القساوسة عموما، لأسباب سأتطرق إليها في الخاتمة، عن بذل ما تعلموه عن الكتاب المقدس في السيمينار.[2]
أتذكر جيدا أول مرة أدركت فيها هذا الأمر على نحو ملموس. كنت قد بدأت للتو في التدريس في جامعة نورث كارولينا في تشابل هيل، وكنت وقتها ما أزال مسيحيًّا. طلب إلي أحد قسوس الكنيسة المشيخية في نورث كارولينا أن أحضر سلسلة تلقى على مدى أربعة أسابيع تتناول قضية «يسوع التاريخي». وقد نفذت ما طلب مني بالفعل. تحدثت، أثناء إلقائي لمحاضراتي تلك، عن الأسباب التي تعيق المؤرخين عن اعتماد الأناجيل كمصادر تاريخية، وذلك في ضوء ما تشتمل عليه هذه الأناجيل من تناقضات وحقيقة أنها قد كتبت بعد عشرات السنين من زمان المسيح بيد مؤلفين مجهولين ورثوا رواياتهم عن حياته من تراث شفوي قابل للتشكل لأقصى درجة. تطرقت أيضًا إلى الحديث عن كيف أبدع العلماء مناهج لإعادة تشكيل ما وقع من أحداث أثناء حياة يسوع، وأنهيت السلسلة بترتيب ما نعرف من معلومات حقيقية عن حياته. لم يكن ثمة جديد على الإطلاق بين ما تناولته بالنقاش- كان ما ناقشته مجرد معلومات علمية نمطية من ذلك النوع الذي جرى تداوله تدريسا وتعليما في السيمينارات خلال ما يربو عن خمسين عاما. تعلمت كل هذه المعلومات أبان وجودي شخصيا في سيمينار برينيستون.
بعيد ذلك اقتربت مني سيدة عزيزة طاعنة في السن وسألتني وقد أصابها الإحباط:«لماذا لم أسمع عن هذا من قبل؟» لم تكن غضبة على ما تفوهت به؛ كان صمت قس الكنيسة التي تصلي فيها عن إخبارها مثل هذا الكلام هو ما أغضبها. أتذكر أن عيناي قد التفتتا عبر ردهة الزملاء لتقع على القس الذي كان منهمكا في حوار مع زوجين آخرين من المترددين على الأبرشية، وكان التساؤل نفسه يعتمل في صدري: لماذا لم يخبرها هذا الأمر من قبل؟ هو الآخر كان قد درس في معهد برينيستون اللاهوتي، وتعلم القضايا نفسها؛ لقد حاضر في هذه الكنيسة في فصول تربية الراشدين وكان يفعل ذلك حتى لحظتنا هذه لما يربو عن خمس سنوات. لماذا لم يخبر أبناء أبراشيته عما يعرف عن الكتاب المقدس وعن يسوع التاريخي؟ من المؤكد أنهم يستحقون أن يسمعهم هذا . أكان هذا لأنه يعتقد أنهم «غير مستعدين» لسماع هذا- وهو الموقف الوقائي الشائع شيوعًا مزعجًا؟ أكان يخشى من أن «يحدث بلبلة»؟ أم كان يخشى أن تؤدي تلك المعلومات التاريخية إلى تدمير إيمان أبناء رعويته؟ أم لعله كان خائفا أن ألا يتعامل زعماء كنيسته بلطف مع إذاعة هذا النوع من المعرفة؟ هل يمارس زعماء الكنائس بالفعل ضغوطا عليه لكي يتمسك بالمعنى الديني للكتاب المقدس في الوعظ والتعليم؟ هل كان قلقا على استقراره الوظيفي؟ لم أكتشف الإجابة على هذا التساؤلات أبدًا.
لا أقول إن الكنائس عليها أن تكون جامعات مصغرة يعمل فيها القسوس كأساتذة من فوق منابر الوعظ. لكن بالتأكيد دور الخدمة الكهنوتية يتعدى مهمة التبشير بـ«الأخبار السارة»(نتفهم هذه المهمة مع ذلك) أسبوعيا. فهي تتضمن كذلك دور التعليم. غالبية الكنائس بها فصول لتعليم البالغين. لماذا لا يتم تثقيف هؤلاء البالغين؟ خبرتي مع هذه الكنيسة تحديدًا ليست حالة فريدة من نوعها.
أعلم سنويا المئات من الطلاب في دورة «مقدمة إلى العهد الجديد» التي أقوم بتدريسها في تشابيل هيل. يوجد في العادة ما بين 300 إلى 350 طالبا في هذا الصف. لا أدارس صفي، بطبيعة الحال، صدورا عن وجهة نظر دينية أو كهنوتية- وهي وجهة النظر الذي اعتاد غالبية هؤلاء التلاميذ، كونهم قد ربوا داخل الكنيسة، على الاستماع إليها- بل انطلاقا من منهج النقد التاريخي. المعلومات وزوايا الرؤية التي طرحتها في هذا الصف ليس بها أي فكرة متطرفة. بل هي أفكار تجدها بين علماء النقد الذين يتناولون الكتاب المقدس من زاوية رؤية تاريخية- سواء أكان العلماء أنفسهم مؤمنين أو كانوا ملحدين، بروتستانت أو كاثوليك، يهود أو لا أدريين، أو كانوا من أي ملة أخرى. إنها وجهات النظر التي تعلمتها في السيمينار والتي يجري تعليمها في المدارس اللاهوتية والجامعات في أنحاء البلاد. مع ذلك فهي الرؤى التي لم يسمع عنها تلامذتي من قبل مطلقا، رغم أن غالبية هؤلاء الطلاب قد قضوا جزءًا كبيرًا من أعمارهم في مدارس الأحد وداخل الكنائس.
كان لتلامذتي مجموعة من ردود الأفعال على هذه الأفكار. كثير من تلامذتي الأكثر ميلا إلى الاتجاه المحافظ يشبهونني حينما كنت في مرحلتهم العمرية ذاتها- متيقنون من صحة الكتاب المقدس المطلقة ويشعرون بالقلق نحو أي شخص ربما يخضعه للبحث وللتساؤل. البعض من هؤلاء الطلاب يرفضون الإصغاء- يبدو الأمر كما لو كانوا يستغشون ثيابهم ويصمون آذانهم ويغمغمون بصوت عال حتى لا يتوجب عليهم أن يسمعوا أي شئ قد يثير الشكوك لديهم في معتقداتهم المحببة في الكتاب المقدس. البعض الآخر يشعرون بالتلهف لأن يخلعوا عن أنفسهم نير الكنيسة والدين بالكلية، ملتهمين هذه المعلومات التي أقوم بمنحهم إياها التهاما كما لو كانت تمنحهم ترخيصا للكفر.
شخصيا، لا أعتقد أن ردَّي الفعل كليهما- سواء أكان الرفض المطلق للرؤية الجديدة نحو الكتاب المقدس أو كان التبني المتلهف لها على نحو متطرف – هو رد فعل مثالي. رد الفعل الذي أفضله هو ما يصدر عن هؤلاء الطلاب الذين يدرسون المادة العلمية بحذر ويتأملونها تأملا عميقا، ويشككون في بعض افتراضاتها واستنتاجاتها(وافتراضاتهم الشخصية واستنتاجاتهم كذلك) والتي تلقي ظلالا على الكيفية التي قد تؤثر بها على الطريقة التي ينظرون من خلالها إلى الكتاب المقدس والديانة المسيحية التي ربوا عليها، وينظرون بحذر إلى تأثيراتها المحتملة عليهم شخصيا. واحد من أهدافي الرئيسة بطبيعة الحال أن أصل بهم إلى مرحلة استيعاب المادة المخصصة للدراسة خلال دورتي العلمية. إنها مع ذلك مجرد معلومات تاريخية بشأن ديانة تاريخية ومجموعة من الوثائق المعتمدة على أحداث تاريخية. ليس المقصود من هذا الفصل الدراسي أن يكون تدريبا لاهوتيا لتعزيز إيمان المرء أو توهينه. ولكن لأن الوثائق التي ندرسها هي، بالنسبة للكثيرين من طلابي، وثائق تنتمي ملكيتها إلى العقيدة، فمن المتحتم أن يكون لمنهج النقد التاريخي الذي نستعمله في الفصل تأثيرات على الإيمان. وهناك أهداف نهائية أخرى في مخيلتي- كما ينبغي على كل أستاذ جامعي- كأن أدفع طلابي إلى التفكير.



تقبل منهج النقد التاريخي


مثل جموع غفيرة من طلاب السيمينارات، ما إن صرت أرى القيمة الكامنة في منهج النقد التاريخي أيام دراستي في سيمينار برينيستون، بدأت في تبني هذا التوجه الجديد(بالنسبة لي)، في البداية بحذر بالغ، فقد كنت غير راغب في أستسلم كليةً للمنهج العلمي. لكني في نهاية المطاف رأيت منطقا قويا وراء منهج النقد التاريخي وارتميت بقلبي وروحي بين أحضان دراسة الكتاب المقدس من هذا المنظور.
من العسير بشدة أن أعين اللحظة التي توقفت فيها عن اعتبار نفسي أصوليا يؤمن بعصمة الكتاب المقدس المطلقة وإيحائه الحرفي تعيينا دقيقا. فكما أوضحت في كتابي«تحريف أقوال المسيح» كانت القضية الرئيسة بالنسبة لي في وقت مبكر من هذه المرحلة هو حقيقة أننا لا نملك الوثائق الأصلية لأي سفر من أسفار الكتاب المقدس، ما نملكه هو نسخ جرى إنتاجها في مرحلة لاحقة- في غالبية النماذج، بعد عصر المسيح بقرون. بالنسبة لشخصي، صار تقبلي لفكرة أن الله قد أوحى كل كلمة من النص يتضاءل شيئا فشيئا لأننا لا نملك هذه الكلمات في حقيقة الأمر، فلو كانت النصوص بالفعل قد تعرضت للتحريف في آلاف كثيرة من المواضع، فبعض هذه التغيرات غير ذات أهمية، لكن البعض الآخر من الأهمية بمكان. لو أراد الله أن تصلنا كلماته، فلماذا لم يحرص على حفظها؟
قريبا من هذا الوقت الذي كنت قد بدأت خلاله في التشكك في أن الله قد أوحى كلمات الكتاب المقدس، بدأت الدروس التي كنت أواظب على حضورها والتي يجري التدريس فيها وفقا لمعطيات منهجية النقد التاريخي. بدأت في رؤية التناقضات التي يشتمل عليها النص. علمت أن بعض أسفار الكتاب المقدس كان بينها وبين أسفار أخرى اختلافات. بدأت في الاقتناع بالحجج التي تزعم أن بعض الأسفار لم يكتبها المؤلفون التي سميت بأسمائهم. وبدأت في رؤية أن كثيرًا من العقائد المسيحية التقليدية التي آمنت لزمان طويل أنها بمنأى عن المساءلة، عقيدة لاهوت المسيح على سبيل المثال وعقيدة الثالوث المقدس، لم يكن له حضور في التقاليد المخطوطة للعهد الجديد الأكثر قدمًا وإنما جرى تطويرها عبر السنين وأنها تختلف كثيرًا عن التعاليم الأصلية ليسوع وتلاميذه.
هذه المفاهيم كان لها وقع عميق على إيماني وعلى إيمان كثير من زملائي في السيمينار في هذا الوقت واستمر تأثيرها هذا على كثير من طلبة السيمينارات إلى اليوم. خلافا لكثير من زملاء دراستي، لم أرتد، مع ذلك، إلى المنهج العقائدي في التعامل مع الكتاب المقدس بعيد تخرجي بدرجة الأستاذية في اللاهوت. بل كرست نفسي بإخلاص أكثر لتعلم المزيد عن الكتاب المقدس من وجهة نظر تاريخية وعن الإيمان المسيحي الذي اعتقدت أن الكتاب المقدس يبشر به. كنت قد بدأت دراستي في السيمينار كأصولي مولود من جديد؛ وقريبا من لحظة تخرجي كنت أتحول إلى الشكل الليبرالي من المسيحية الإنجيلية، ذلك الشكل الذي كان ما يزال ينظر إلى الكتاب المقدس باعتباره يوصل تعاليم هامة من الله إلى شعبه، لكن باعتباره كذلك يغص بوجهات النظر البشرية وبأخطائهم.
وكلما مر الوقت كما تواصلت قناعاتي في تطورها. لم أنتقل من كوني شخصا يؤمن بالرؤى الإنجيلية إلى لا أدريٍّ بين ليلة وضحاها. بل العكس تماما هو الصحيح: فبعد خمسة عشر من اللحظة التي تخليت فيها عن معتقداتي بشأن الإلهام الحرفي للكتاب المقدس، كنت ما أزال مسيحيا مؤمنا- أعني من المترددين على الكنيسة والمؤمنين بالله ومن المسيحيين المواظبين على الاعتراف بخطاياهم. بدأت وجهات نظري تنحاز إلى الاتجاهات المتحررة. قادتني بحوثي إلى الشك في جوانب مهمة من جوانب عقيدتي. في نهاية الأمر، وليس بعد وقت كبير من مغادرتي للسيمينار، وصلت إلى حالة كنت أثناءها مؤمنا تمام الإيمان بالله، لكن مؤمنا بالكتاب المقدس على معنى أكثر مجازية وأقل حرفية: لقد بدا الكتاب المقدس بالنسبة إلي أنه يحوي بين دفتيه مواد أدبية أوحاها الله، أعني أن بمقدورها أن تثير في النفس أفكارًا صحيحة و مفيدة عن الله، لكنه مع ذلك كان لا يزال مؤلَّفا أنتجته أياد بشرية ويحتوي كل أنواع الأخطاء التي سيقع فيها أي مغامرة بشرية. وعند تلك النقطة حل زمان هجرت فيه الإيمان. لم يكن سبب ذلك ما تعلمته عبر النقد التاريخي، بل لأن يلم أعد قادرا على التوفيق بين إيماني بالله وبين حال العالم الذي أرى فيه كل هذه الأحداث التي تدور من حولي. هذه هي القضية التي تناولتها في كتابي «مشكلة الرب: كيف فشل الكتاب المقدس في إجابة أكثر الأسئلة أهمية- لماذا نعاني.» هناك الكثير من الآلام والبؤس الذين لا منطق من ورائهما ما جعلني أنتهي إلى أنه من المستحيل أن أؤمن بأن هناك إله خير ومحب يسيطر على هذا العالم، على الرغم من علمي بكل الأجوبة النمطية التي يقدمها الناس على هذه الأسئلة.
هذا الموضوع سأفرده بالبحث في كتاب آخر، لكنها من بعض النواحي ذات علاقة وثيقة بكتابنا هذا لأنني خلال خمسة عشر عامًا بين لحظ هجراني لالتزاماتي كإنجيلي وبين الوقت الذي تحولت فيه إلى المذهب اللاأدري، كنت منهمكا بصدق في النقد التاريخي للكتاب المقدس، وخاصة فيما يتعلق بالعهد الجديد. وهنا أريد أن أؤكد على نقطة سأكرر الحديث عنها على نحو أكثر تفصيلا في الفصل الأخير من هذا الكتاب. لا أعتقد على نحو صارم أن الاشتغال بالنقد التاريخي بالضرورة سيؤدي بالدارس إلى أن يفقد إيمانه.
كل أصدقائي المقربين(وقبل المقربين) في ميدان دراسات العهد الجديد يتفقون معي تمام الاتفاق في غالبية آرائي التاريخية بشأن العهد الجديد ويسوع التاريخي وتطور الإيمان المسيحي والقضايا الأخرى المشابهة. ربما نختلف في هذه النقطة أو تلك(وفي الحقيقة نختلف بالفعل- فنحن في النهاية علماء)، لكننا نتفق جميعا على نجاعة المناهج النقدية التاريخية والاستنتاجات الرئيسة التي تؤدي إليها. كل هؤلاء الأصدقاء، مع ذلك، ظلوا على التزامهم بالمسيحية. البعض يدرس في الجامعات، والبعض يفعلها في السيمينارات والمدارس اللاهوتية. والأغلبية يكدون بنشاط في كنائسهم. وهم رأوا في المناهج النقدية التاريخية للكتاب المقدس في مرحلة الدراسة في السيمينار صدمة، لكن إيمانهم تغلب على الصدمة. في حالتي، أدى بي النقد التاريخي إلى الشك في إيماني. ليس الشك في الجوانب السطحية للإيمان، بل في أكثرها محورية. مع ذلك فقضية المعاناة هي التي قادتني إلى اللاأدرية وليس التعامل مع الكتاب المقدس من منظور تاريخي.
ليس هذا الكتاب إذن عن هجراني للإيمان. بل هو بالأحرى عن أن أنماطا معينة من أنماط الإيمان- وخاصة الإيمان بالكتاب المقدس باعتباره كلمة الله المعصومة والموحاة- لا يمكنها أن تصمد في ضوء ما توصلنا إليه، نحن المؤرخين، من معارف عن الكتاب المقدس. وجهات النظر والرؤى التي بثثتها في هذا الكتاب هي آراء ينظر إليها في أوساط العلماء كقواعد معيارية. لا أعرف عالما واحدا من علماء الكتاب المقدس سيدرس ولو بندًا واحدًا مما سيرد في هذا الكتاب، على رغم أنهم سيختلفون مع الاستنتاجات هنا أو هنالك. من الناحية النظرية، لا يتوقع أن يتعلم قس الكثير من هذا الكتاب لأنه هذه المعلومات يتم تدريسها على نطاق واسع في السيمينارات والمدارس الدينية. لكن الناس في الشارع وعلى المقاعد الخشبية داخل الكنائس لم يسمع غالبيتهم هذه المعلومات من قبل. وهذا أمر مخز في الحقيقة، وقد حان الوقت لتصحيح هذا الخطأ.


[1] نتيجة للطريقة التي ترجم بها العدد 4 : 54 من إنجيل يوحنا، بعض القراء تعنتوا بالتفكير في أن هذه المعجزة تشير فحسب إلى المعجزة الثانية التي قام بها يسوع في الجليل؛ الترجمة الأصح هي أن هذه المعجزة هي الثانية، أي تلك المعجزة التي قام بها يسوع بعد عودته من أورشليم إلى الجليل.

[2] من المؤكد أنني لا أعتقد أن القساوسة يلزمهم أن يبشروا بنتائج النقد التاريخي من فوق سدة الوعظ في مواعظهم الأسبوعية( على الرغم من أنني أعتقد أن المواعظ ينبغي بالتأكيد أن تكون مبنية على قاعدة علمية سليمة). لكن ثمة فرص عديدة أمام القساوسة أن يعلموا أتباع أبراشياتهم ما يقوله العلماء عن الكتاب المقدس في الكنائس في غير أوقات العظة الأسبوعية. وهذا ما لا يحدث مطلقا في غالبية الكنائس.حينما قدمت دراسة للكتاب المقدس من منظور تاريخي أول مرة إلى الطلاب كمنهج بديل عن المنظور الديني الإيماني، واحدٌ من الأشياء التي كان هؤلاء مجبرون على التعامل معها هو القول بإن نص الكتاب المقدس، بعهديه كليهما، طافح بأعداد بينها وبين بعضها الآخر تناقضات، وكثير منها لا سبيل إلى التوفيق بينها. بعض من هذه التناقضات ليست سوى تفاصيل سطحية يتناقض فيها ما يقوله سفر من الأسفار مع ما يقوله سفر آخر في قضية ثانوية: عدد الجنود في جيش من الجيوش، أو العام الذي بدأت فيه فترة حكم ملك ما، أو تفاصيل مسار رحلة رسول من رسل المسيح. في بعض النماذج يكون لبعض نقاط الاختلاف التي تبدو سطحية في ظاهرها أهمية بالغة في عملية تفسير سفر ما أو في إعادة رسم تاريخ إسرائيل القديمة أو حياة يسوع. ومن ثم هناك أمثلة لها علاقة بقضايا ذات أهمية بالغة يكون لأحد المؤلفين وجهة نظر واحدة تجاه موضوع ذي أهمية(كيف خلق العالم مثلا؟ لماذا يعاني شعب الله؟ ما الأهمية التي يمثلها لنا موت يسوع؟)، ولمؤلف آخر رأي آخر. في بعض الأحيان يكون بين هذين الرأيين اختلاف بسيط، إلا أنه في أوقات أخرى يكون الرأيان متعارضان تعارضا مباشرًا.

سأتناول بالحديث في هذا الفصل تناقضات هامة وطريفة يتضمنها الكتاب المقدس تبرز حينما يتم تناولها من منظور علم النقد التاريخي. وحيث إن العهد الجديد هو مادة تخصصي، سأتناول أنواع المشكلات التي نجدها بين جلدتيه.
لكن بمقدورك أيها القارئ أن تبيت واثقا أن نماذج كثيرة من الأخطاء نفسها بمقدورك أن تصادفها بين دفتي العهد القديم كذلك- بل أكثر منها في حقيقة الأمر. فبينما جرى تأليف العهد الجديد، الذي يتكون من سبعة وشعرين سفرا، على يد مؤلفين يبلغ عددهم ستة أو سبعة عشر مؤلفا خلال مدة تزيد عن سبعين عاما، نجد العهد القديم، الذي يشتمل على تسعة وثلاثين سفرا قد كتبه العشرات من المؤلفين فيما يزيد عن ستمائة عاما على أقل تقدير. فثمة متسع كبير للآراء المتباينة التي إن بحثت عنها، ستجدها بالجملة.
ليس ما أعنيه ببساطة، كما سأشرح ذلك شرحا وافيا في نهاية هذا الفصل، أن أثبت أن الكتاب المقدس متخم بالتناقضات. ينتاب تلامذتي في بعض الأحيان الشعور بأن هذا هو بيت القصيد والغاية النهائية من أبحاثي- أعني أن الكتاب المقدس ملئ بالمشكلات وأنه لهذا السبب «لا يمكن الإيمان به.» لكن هذا ليس صحيحا- رغم أن تناقضات الكتاب المقدس من شأنها أن تخلق بعض المشكلات لبعض الناس ممن يحملون في قلوبهم إيمانا ما تجاه العقيدة المسيحية(ليس لكل المسيحيين مع ذلك). لكن هناك أسباب أخرى لمحاولتنا استكشاف ما يحتويه الكتاب المقدس من تناقضات. لكني، مع ذلك، أفضل أن أبسط القول في هذه الأسباب في نهاية الفصل وليس في أوله؛ فلزاما على المرء أن يعرف أولا حقيقة ما بين يديه من معلومات وكنهها قبل أن يتعجل كثيرا في اتخاذ قرارا فصلا فيما يتعلق بما تعنيه هذه المعلومات.

ليس هدفنا مع ذلك أن نوضح كل تناقض يمكننا اكتشافه في العهد الجديد، بل البعض من أكثر هذه التناقضات طرفة وأهمية. سأبدأ بالأناجيل وسأثني بعدها برسائل بولس. على مدى هذا النقاش لن أتناول بالبحث واحدة من أهم القضايا وهي التي تتناول هوية مؤلفي هذه الأسفار في الحقيقة(هل كانوا من رسل المسيح؟ أم كانوا رفقاء للرسل؟ أم مسيحيون عاشوا في أزمنة متأخرة؟). فهذا هو موضوع فصل تال.

أما في هذا الفصل فيكفي أن نشير إلى أنه مهما تكن هوية من ألف هذه الأسفار، فإنهم في كثير من الأحيان وقفوا مواقف اختلف أحدهم مع الآخر.
لماذا لم يكتشف مطلقا القارئ غير المواظب على القراءة، بل وحتى ذلك القارئ النهم للكتاب المقدس هذه التناقضات التي ربما يبدو بعضها واضحا لا تخطئوه العين بمجرد أن تلفت الانتباه إليها؟ ما أعتقده هو أن لهذا علاقة بالطريقة التي يقرأ الناس بها هذه الأسفار. معظم الناس يقرأون هذا الموضع من الكتاب المقدس ثم ذاك الموضع- يفتحونه ثم يختارون فقرة ثم يقرأونها ويحاولون تصور معناها. وليس ثمة جهد ولو قليل لعقد مقارنة مفصلة بين الفقرات الأخرى المتشابهة في الأسفار الأخرى. أنت تقرأ نتفا هنا ونتفا هناك وكلهم يبدون مماثلين لأسلوب الكتاب المقدس. مع ذلك، فلكي تطبق المنهج النقدي التاريخي في دراسة النص عليك أن تقرأ النصوص وأن تقارن بينها مقارنة دقيقة فلا تغفل حتى أدق التفاصيل.
مع ذلك فحتى القارئ المتيقظ للكتاب المقدس غالبا ما يفشل في اكتشاف الاختلافات بين أسفاره، وذلك، وأكرر، ناتج عن الطريقة التي تتم بها القراءة. غالبية القراء من العوام، وذلك على خلاف القراءالذين يقرأون الكتاب المقدس قراءة نقدية من منظور نقدي تاريخي، يقرأون هذه الأسفار على التتالي، واحدًا وراء الآخر. وهذا أمر منطقي- فهذه في نهاية الأمر هي الطريقة نفسها التي نقرأ بها غالبية المختارات الأدبية. وبهذه الطريقة، إذا أردت أن تقرأ العهد الجديد، تبدأ من إنجيل متَّى مفتتحا قراءتك بالإصحاح الأول والعدد الأول، وتقرأ الكتاب من بدايته حتى نهايته وهدفك من هذا أنتستخلص المعنى الذي يحاول متى أن يخبرك إياه عن حياة المسيح. ثم تقرأ بعده إنجيل مرقس، مبتدئا بافتتاحيته حتى تصل إلى خاتمته- وتجد أنه يشبه كثيرا إنجيل متَّى. فثمة كثير من القصص ذاتها، وغالبا بالكلمات ذاتها- ربما يتم إهمال أشياء قليلة في هذا الموضع أو ذاك، لكنه النوع نفسه من الأسفار. ثم تقرأ لوقا من بدايته لنهايته. ومرة أخرى تجد القصص ذاتها أو قصصا شبيهة لها مكتوبة بالكلمات ذاتها. وعندما تقرأ يوحنا ربما تلحظ بعض الاختلافات، لكنهم يبدون متماثلين تماثلا جوهريا: فثمة قصص عن أشياء قالها يسوع أو فعلها قبل سفره إلى أورشليم، ثم تعرضه للخيانة والاعتقال ثم للصلب والقيامة من بين الأموات.
تلك هي الطريقة الأكثر شيوعا في قراءة أي كتاب، أعني أن تقرأه من بدايته إلى نهايته. القراءة «العمودية» هو ذلك الاسم الذي سميت به هذا النوع من القراءة. تبدأ من رأس الصفحة متحركا إلى ذيلها؛ وتبدأ من بداية الكتاب منتقلا إلى نهايته. ليس ثمة أي خطأٍ فيما يتعلق بقراءة الأناجيل على هذا النحو، فهذه بلا الشك الطريقة التي كان مؤلفو هذه الكتب يخططون لأن تقرأ كتاباتهم بها.

مع ذلك فثمة سبيل أخرى لقراءة هذه الكتب: أعني أن يقرأها قارئها قراءة أفقية. في القراءة الأفقية تطالع قصة في واحد من الأناجيل، وبعدها تقرأ القصة ذاتها بحسب ما يقصه عليك إنجيل آخر كما لو كانتامكتوبتين في عمودين يقف أحدهما بجانب الآخر. وتقارن بين هاتين القصتين مقارنة حذرة ومفصلة.[1]
تكشف قراءة الأناجيل قراءة أفقية الاختلافات والتناقضات من كل الأنواع.
أحيانا لا تعدو هذه الاختلافات أن تكون تنوع في قراءات قصة من القصص، وربما تكون لها أهمية إذا أردنا أن نعرف ما كان هذا الكتاب من كتاب الأناجيل أو ذاك يرغب أن يؤكد عليه، لكن هذا التنوع لا يضاد ما يريد الكاتب الآخر يؤكد عليه.
في روايات ميلاد المسيح الواردة في إنجيلي متَّى ولوقا، على سبيل المثال، تظهر القراءة الأفقية للإنجيلين أن متى يحكي قصة الرجال الحكماء حال مقدمهم للسجود أمام المسيح، بينما يحكي لوقا قصة الرعاة حين مقدمهم للسجود أمامه. ليس ثمة رعاة في متَّى ولا رجال حكماء في لوقا. ليس هذا تناقضا: يريد متَّى (لأسباب بالغة الأهمية كما سيبدو جليا) أن يحكي قصة الحكماء ولوقا يريد(لأسباب أخرى مختلفة) أن يحكي قصة الرعاة.
إذن لدينا في هذا الموضع اختلافات ربما لا تمثل تناقضا صريحا لكنها ربما تبدو إلى حد ما وكأنها تمثل اختلافا فيما بين القصتين.
لقد ذكرت من قبل بالفعل قصة تطهير الهيكل الواردة في إنجيل مرقس الإصحاح 11 ويوحنا الإصحاح 2. في مرقس تقع هذه الحادثة قبل أن يموت يسوع بأسبوع؛ لكنها في إنجيل يوحنا تمثل الحادثة العلنية الأولى في فترة رسالة يسوع الكهنوتية التي استمرت ثلاث سنوات. أقول جازما إن هذا الاختلاف لا يمثل تناقضا: فلو كان لديك قدر كاف من الإبداع، لاستطعت أن تجد تفسيرا مقبولا يجعل الروايتين صحيحتين. فكما ذكرت في الفصل السابق، ربما يكون المسيح قد طهر الهيكل مرتين، مرة في بداية خدمته وأخرى في نهايتها. من ناحية أخرى، لا يبدو هذا احتمالا مقبولا كما يشي السؤال التالي نفسه: لماذا لم يلق القبض عليه في المرة الأولى؟ بالإضافة إلى ذلك هذا الأمر يعني أنه لكي تحدث توافقا بين مرقس ويوحنا، فقد كان لزاما عليك أن تكتب نسختك الشخصية من الإنجيل، نسخة تختلف اختلافا جذريا عن الإنجيلين الذين تقرأهما، ففي إنجيلك هناكتطهيران للهيكل لا تطهيرا واحدا.

هناك اختلافات أخرى، في رأي عدد كبير من علماء النقد التاريخي، لا يمكن التوفيق بينها ببساطة من غير أن تستعمل العنف استعمالا فعليا مع النص. سأقوم بتناول بعضا من هذه الاختلافات على مدى هذا الفصل، ولا أريد أن أقطع متعتي بذكر أكثر النماذج طرافة وإمتاعا من بين هذه الاختلافات في هذا الفصل. أما الآن فالنقطة الأساسية التي أريد التشديد عليها هي أن غالبية القراء لا يلحظون هذه الاختلافات لأنهم دربوا على قراءة الإنجيل بطريقة واحدة وهي الطريقة العمودية، أو على الأقل يميلون إلى ذلك، بينما يقترح منهاج النقد التاريخي أنه من المفيد أن يقرأ النص بطريقة أخرى وهي طريقة القراءة الأفقية.

لو كنت أيها القارئ معني بالعثور على التناقضات بنفسك، فيمكنك، في الواقع، فعل هذا بسهولة تامة. اختر قصة من الأناجيل- ميلاد المسيح على سبيل المثال، أو شفاء ابنة يايرس، أو حادثة الصلب أو القيامة- ومهما يكن اختيارك من بين هذه القصص فستنطبق عليه القاعدة في الغالب. اقرأ الرواية في أحد الأناجيل، وأدرج في جدول قائمة بكل ما يحدث على التتالي؛ ثم اقرأ القصة ذاتها في إنجيل آخر، ومرة أخرى دون ملاحظاتك بعناية. قارن، كخطوة أخيرة، بين ملاحظاتك. في كثير من الأحيان تحصل اختلافات بسيطة، لكن في أوقات أخرى كثيرة يكون لها شأن كبير- حتى لو بدت للوهلة الأولى تافهة إلى حد ما. وهذا هو شأن مثالي الذي سأتكلم عنه أولا. القضية موضع دراستنا هي قضية بالغة البساطة وجوهرية إلى حد بعيد ويمكن التعبير عنها في صيغة سؤال مباشر فيما يبدو:

متى مات يسوع؟ أعني في أي يوم صلب يسوع، وفي وقت من هذا اليوم ؟
سيتضح لنا أن إجابة هذا السؤال تختلف باختلاف الإنجيل الذي تقرأه.


بيان استهلالي: موت يسوع في إنجيلي مرقس ويوحنا


هذا بيان للتناقضات بين دفتي العهد الجديد التي أستعملها مرارا وتكرارا مع تلامذتي.[2] إنه «حالة نموذجية» لأن مرقس ويوحنا كليهما قد قدما إشارات واضحة للوقت الذي مات فيه يسوع. وهويموت في وقتين مختلفين بحسب الإنجيل الذي تقرأ فيه.
من الراجح أن مرقس كان أول الأناجيل تأليفا. وقد اعتقد العلماء لأزمنة مديدة أنه قد جرى تأليفه بعد وفاة يسوع بخمس وثلاثين أو أربعين سنة، أي ربما سنة 65 أو 70 ميلاديا.[3]
الإصحاحات العشرة الأولى من إنجيل مرقس: موضوعها خدمة يسوع التبشيرية في الجليل الواقعة في الطرف الشمالي لإسرائيل حيث كان يعلم ويشفي المرضى ويطرد الشياطين ويواجه خصومه اليهود والفريسيين. في نهاية حياته يقوم برحلة نحو أورشليم ليحضر احتفال اليهود بعيد الفصح؛ وبينما كان هناك يلقى القبض عليه ويتعرض للموت صلبا(الإصحاحات 11 – 16 ). لكي تفهموا قضية توقيت الصلب في إنجيل مرقس(وتوقيت يوحنا من وجهة النظر نفسها)، أحتاج إلى أن أتلو على مسامعكم بعض المعلومات العامة. في أيام يسوع، كان عيد الفصح، الذي يقام سنويا، أهم الأعياداليهودية. لقد أسس هذا العيد احتفالا بذكرى وقائع الخروج والتي جرت في زمن موسى قبل ذلك بقرون وذكرت تفاصيلها في سفر الخروج في العهد القديم( خروج 5 – 15). وفقا لرواية الخروج، كان أبناء الشعب الإسرائيلي مستعبدين في مصر لمدة أربعمائة سنة، لكن الرب سمع لبكائهم وربى على عينيه مخلصا لينقذهم وكان موسى هو ذاك المخلص. أرسل موسى إلى فرعون وطالبه، متحدثا نيابة عن الرب، أن «أطلق شعبي.» لكن قلب فرعون كان أقسى من الحجر فرفض الخضوع لأمر الله. ولكي يخضعه الله، زود الله موسى بقوة يستطيع من خلالها أن يرسل على المصريين الأوبئة المرعبة،وكان آخرها هو أكثرها رعبا: أن كل مولود بكر من أبناء المصريين أو من الحيوانات يكون عرضة للهلاك بيد ملك الموت.
وقد أعطي الإسرائيليون إرشادات لكي يجنبوا أبناءهم المصير ذاته. فكل عائلة كان عليها أن تقدم أضحية على هيئة خروف وأن تأخذ بعضا من دمه وأن تنثرها على عضادة الباب وعتبة البيت الذي يعيشون بين جنباته. بعد ذلك سوف يرى الملاك الدم على الباب ويتجاوز (وهو معنى الفعل pass over الذي سمي به العيد) هذا البيت الإسرائيلي لينتقل إلى البيوت التي ليس عليها دم لكي يقتل كل طفل بكر. وهذا ما حدث. أصيب فرعون بالرعب وسمح على مضض للإسرائيليين( ستمائة ألف رجل مضافا إليهم النساء والأطفال) بأن يغادروا البلاد. لكنه بعد انطلاقهم تغير قلبه عليهم فقاد جيشه في إثرهم. تعقب فرعون الإسرائيليين حتى البحر الأحمر –يسمى بالعبري«بحر الرياح العاصفة»- لكن الرب صنع معجزة أخرى فأعطى موسى القدرة على قطع مياه البحر حتى استطاع الإسرائيليون المرور على الأرض اليابسة. وعندما تبعتهم الجيوش المصرية التي تتعقبهم، أمر الرب المياه أن تعود لسابق عهدها وأغرق الشطر الأكبر منهم. وهكذا أنقذ الرب الإسرائيليين من العبودية في مصر. وقد أخبر الله موسى أنه على الإسرائيليين من هذه اللحظة فصاعدا أن يحتفلوا بذكرى هذه الواقعة العظيمة بتناولهم وجبة خاصة أثناء عيد الفصح الذي يحتفلون به سنويا(خروج إصحاح 12 ). في زمان المسيح كان اليهود من مختلف أرجاء المعمورة يأتون إلى أورشليم بغرض الاحتفال بهذا الحدث. في اليوم السابق ليوم تناول الطعام المخصص للاحتفال، كان على اليهود أن يجلبوا خروف الفصح إلى الهيكل في أورشليم، أو أن يشتروا بالأحرى واحدا من هناك، وأن يذبحه الكهنة نيابة عنهم. وعندها كانوا ليأخذوه إلى بيوتهم لكي يعدوا وجبة الطعام. كل هذا وقع في يوم الاستعداد ليوم الفصح.
الآن الوجه المربك الوحيد لهذا الاحتفال يتعلق بالطريقة التي كان اليهود يعبرون بها عن مواقيتهم- وهي الطريقة ذاتها التي يعبر بها اليهود المعاصرون عن التوقيت. فحتى اليوم يوم السبت هو نفسه يوم «السبَّاث» لكنه يبدأ من يوم الجمعة ليلا، حينما يبدأ الكون في الإظلام. وهذا لأن اليوم الجديد في الديانة اليهودية التقليدية يبدأ عند غروب الشمس، أي عند المساء( ولهذا السبب قيل لنا في سفر التكوين حينما خلق الله السماوات والأرض:« وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ ، اليوم الأول » فاليوم كان يتكون من مساء وصباح وليس من صباح ومساء.) وهكذا يبدأ السبت يوم الجمعة مساءً- وكل الأيام في حقيقة الأمر يبدأ على هذا النحو، أي من لحظة الغروب.

وهكذا، في يوم الاستعداد ذبح الخروف وأعدت الوجبة في وقت العصر. وأكلت الوجبة في هذه الليلة والتي هي في حقيقة الأمر بداية اليوم التالي: أعني يوم الفصح. كانت الوجبة تتكون من عدد من الأكلات التي تمثل شكلا من الرموز : فهناك الخروف وهو يرمز إلى الاحتفال بذكرى الذبح الأول للخراف أثناء الخروج؛ وهناك الأعشاب المرة التي تذكر اليهود بمرارة العبودية التي قاسوها في مصر؛ وأما خبز الفطير( وهو خبز يصنع بدون أن يختمر العجين)فيذكرهم بأنه كان لزاما على اليهود أن يهربوا من مصر بدون سابق إنذار حتى إنهم لم يستطيعوا أن ينتظروا أن يختمر الخبز؛ وهناك أخيرا كؤوس متعددة من النبيذ. يوم الفصح إذن كان يبدأ بوجبة المساء ويستمر لما يقارب الأربع والعشرين ساعة خلال نهار اليوم التالي وعصره والذي يأتي بعده اليوم التالي ليوم الفصح.
الآن يمكننا الرجوع إلى رواية مرقس عن موت المسيح. لقد حج يسوع وتلاميذه إلى أورشليم للاحتفال بيوم الفصح. في العدد 14 : 12 من إنجيل مرقس، يسأل التلاميذ يسوع عن المكان الذي يفترض بهم أن يعدوا وجبة الفصح لهذا المساء. أي أن هذا، إذا أردنا صياغتها بطريقة أخرى، كان في يوم الاستعداد للفصح. فيعطيهم يسوع توجيهاته. يقومون بانهاء الاستعدادات وحينما يحل المساء- أي بداية يوم الفصح- يتناولون وجبة الفصح. لا شك أنها وجبة مميزة. يتناول يسوع الأطعمة المشحونة بالمعاني الرمزية ويضفي عليها فوق رمزيتها المزيد من المعاني الرمزية الجديدة. يتناول خبز الفطير، يكسره، ويقول:«هذا جسدي.» ضمنيا هذا يعني أن جسده لابد أن يكسر من أجل الخلاص. ثم بعد العشاء يتناول كأس النبيذ ويقول:« هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ.»(مرقس 14 : 22 – 25)، قاصدا أن دمه لابد أن يراق.
وبعد أن يأكل التلاميذ طعام الفصح يخرجون إلى ضيعة جَثْسَيْمَانِي من أجل الصلاة. ويجلب يهوذا الإسخريوطي الجنود ويقترف صنيع خيانته. فيؤخذ يسوع ليقف أمام المحكمة قضاتها قادة الشعب اليهودي. يقضي الليلة في السجن وفي الصباح التالي يوقفوه ليحاكم أمام الوالي الروماني بيلاطس البنطي الذي يجده مذنبا ويحكم عليه بالموت صلبا. ثم يقال لنا إنه صلب في اليوم نفسه في الساعة التاسعة صباحا(مرقس 15 : 25). فموت يسوع إذن قد وقع في يوم الفصح، وتحديدا في أول صباح بعد تناوله طعام الفصح.

كل هذه الأمور واضحة وتحكى بطريقة مباشرة لا اعوجاج فيها في إنجيل مرقس، لكن رغم بعض أوجه الشبه الأساسية، فهي تقف على خلاف مع قصة موت المسيح التي يحكيها لنا إنجيل يوحنا والتي تتسم هي الأخرى بالوضوح والمباشَرة. فهنا يذهب كذلك إلى أورشليم في الأسبوع الأخير من حياته ليحتفل بيوم الفصح وهنا كذلك هناك عشاء أخير وخيانة ومحاكمة أمام بيلاطس وأخيرا هناك صلب.

لكن المثير للصدمة في رواية يوحنا أنه في بداية الرواية، وعلى خلاف في ذلك مع ما يقوله مرقس، لا يسأل التلاميذ يسوع عن مكان «إعداد الفصح.» وبناءً على ذلك لا يعطيهم يسوع أي توجيهات فيما يتعلق بإعداد طعام الفصح. صحيح أنهم يتناولون العشاء الأخير معا، لكن يسوع في إنجيل يوحنا لا يذكر أي شئ عن كون الخبز يرمز إلى جسده أو أن الكأس يمثل دمه. بدلا من ذلك يعسل يسوع أقدام تلاميذه وهي القصة التي لا نعثر لها على مثيل في أي إنجيل آخر(يوحنا 13 : 1 – 20 ).

بعد انتهائهم من تناول العشاء ينطلقون للخارج. ويخون يهوذا يسوع، ويظهر أمام السلطات اليهودية ويقضي الليلة في السجن ويوقفونه أمام محكمة قاضيها بيلاطس البنطي الذي يجده مذنبا ويحكم عليه بالموت صلبا. ويقال لنا تحديدا حينما يرفع بيلاطس صوته ناطقا بالحكم:« وَكَانَ اسْتِعْدَادُ الْفِصْحِ وَنَحْوُ الظهيرة. »(يو 19 : 14 ).

الظهيرة؟! في ويوم الاستعداد للفصح؟ أي في اليوم الذي ذبح فيه الخروف؟ كيف يصح هذا؟

في إنجيل مرقس اجتاز يسوع هذا اليوم وهو حي يرزق وأعد تلامذته طعام الفصح وتناوله معهم قبل أن يلقى القبض عليه، وقبل أن يؤخذ إلى السجن ليقبع فيه مدة ليلة وقبل أن يحاكم في الصباح التالي ويعدم في تمام التاسعة صباحا من يوم الفصح.
لكن هذا لا ينطبق على إنجيل يوحنا. ففي يوحنا يموت يسوع قبل يوم من كل هذه الأحداث، أي في يوم الاستعداد للفصح في وقت ما بعد الظهيرة.
لا أعتقد أن هذا الاضطراب هو من النوع الذي يمكن دفعه. لقد حاول الناس عبر سنوات بطبيعة الحال أن يفعلوا ذلك. فأشار بعضهم إلى أن مرقس أشار هو الآخر إلى أن يسوع مات في يوم سماه « يوم الاستعداد»(مرقس 15 : 42 ). وهذا الزعم صحيح تماما- لكن ما أخفق هؤلاء القراء في الانتباه إليه هو أن مرقس يخبرنا بما يقصده من هذه الجملة: إنه يوم الاستعداد للـ«سبت»( وليس الاستعداد للفصح). في مرقس بطريقة أخرى هذا الأمر لم يحدث في اليوم السابق ليوم تناول طعام الفصح بل في اليوم السابق ليوم السبت؛ ويطلق على هذا اليوم يوم«الاستعداد» لأن المرء كان عليه أن يعد الأطعمة ليوم السبت في يوم الجمعة بعد الظهر.
وهكذا يظل التناقض قائما: في مرقس يتناول يسوع طعام الفصح(الخميس ليلا) ويجري صلبه في الصباح التالي. أما في يوحنا فلا يتناول يسوع طعام الفصح بل يصلب في اليوم السابق ليوم تناول طعام الفصح.[4]

أضف إلى ذلك أن يسوع في إنجيل مرقس يتم تسميره إلى الصليب في التاسعة في الصباح؛ لكنه في يوحنا لا يتم الحكم بإدانته قبل الظهيرة، ويؤخذ حينها خارجا يوتم صلبه.

بعض العلماء جادل قائلا إن هذا الاختلاف بين الأناجيل حدث لأن هناك طوائف يهودية مختلفة من اليهود تحتفل بيوم الفصح في أيام مختلفة من أيام الأسبوع. هذا النوع من التفسيرات هو من ذلك النوع الذي يبدو مقبولا ظاهريا إلى أن تفتش وراءه وتتأمله قليلا. صحيح أن ثمة طوائف لم يكن لها علاقة بهيكل في أورشليم كانوا يعتقدون أن سلطات الهيكل تتبع تقويما جرى حسابه على نحو غير صحيح. لكن يسوع في إنجيلي مرقس ويوحنا لا يتم تصويره كعضو في طائفة يهودية خارج أورشليم: لقد كان في أورشليم حيث يذبح الخروف. وفي أورشليم كان ثمة يوم فصح واحد في العام. والكهنة في أورشليم لم يكونوا ليعدلوا تقويمهم وفقا لتقويمات شاذة لمجموعات هامشية ضيقة الأفق وقليلة العدد.

ماذا بمقدور المرء أن يصنع تجاه مثل هذا التناقض؟ مرة أخرى أقول إنها من ناحية قد تبدو كما لو كانت قضية ثانوية تافهة. أعني أنه من يهتم بالفعل إذا كان هذا الحدث قد وقع في أحد الأيام أو في اليوم الذي يليه؟ فالقضية الأكثر أهمية هي أن يسوع قد صلب، أليس كذلك؟
حسنا، هذا الأمر صحيح وغير صحيح في الآن ذاته.

سؤال آخر ينبغي أن يسأل لكنه ليس التالي:«هل صلب يسوع؟» بل كذلك:«ماذا يعني قولنا إن المسيح قد صلب؟»
وللإجابة على هذا السؤال، تفاصيل قليلة مثل قضية التوقيت ويوم وقوع الصلب لها أهمية كبيرة في واقع الأمر.

المثال التالي هو الذي أستعمله دائما لكي أوضح لطلابي أهمية تلك التفاصيل: عندما تقع جريمة قتل في عصرنا هذا، يصل أفراد المباحث إلى موقع الجريمة ويشرعون في البحث عن أجزاء الدليل بالغة الصغر، فيبحثون عن آثار أو بصمات الأصابع أو ضفائر شعر على أرضية الموقع.
ربما ينظر أحد الناس مصطنعا العقلانية إلى ما يقومون به ويبدأ في القول:« ماذا دهاكم؟ أتعجزون عن رؤية الجثة راقدة على أرضية المكان؟ لماذا تفتشون المكان بحثا عن البصمات؟» وذلك رغم أن أبسط الأدلة بمقدورها في كثير من الأحيان أن تكون السبيل إلى حل القضية: لماذا قتل هذا الشخص ومن قتله؟ والأمر نفسه يصدق على الأناجيل. في كثير من الأحيان يمكن لأقل الأدلة أهمية أن تمنحنا مفاتيح بالغة الأهمية تعيننا على معرفة الفكرة التي كانت تدور في عقل المؤلف في واقعة الأمر.

لا يسعني أن أضع تحليلا كاملا لهذا الأمر في موضعنا هذا من الكتاب، لكني سأشير إلى سمة بالغة الأهمية ينفرد بها إنجيل يوحنا الذي هو آخر الأناجيل تدوينا، فقد دوِّن على الأرجح بعد حوالي خمس وعشرين سنة من لحظة تأليف إنجيل مرقس.
إن إنجيل يوحنا هو الإنجيل الوحيد الذي يشير إلى أن يسوع هو«...حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ.»(1: 29)ويكررها مرة أخرى بعد هذا العدد بسبع أعداد(يوحنا 1: 36). فلماذا إذن يُقْدِم يوحنا- آخر أناجيلنا تدوينا- على أن يغير اليوم والتوقيت الذي مات فيه يسوع؟ لعل السبب في ذلك هو أن يسوع في إنجيل يوحنا هو خروف الفصح الذي تجلب التضحية به الخلاص من الخطايا. فكون يسوع مثل خروف الفصح حذو القذة بالقذة، كان لزاما عليه أن يموت في اليوم(أعني يوم الاستعداد) والتوقيت(في لحظة ما بعد الظهيرة) الذي يذبح فيه خروف الفصح في الهيكل.
فيوحنا، إذا صغناها بطريقة أخرى، أدخل تغييرات على المعطى التاريخي لكي يرسخ قضية لاهوتية ألا وهي أن يسوع هو حمل الفصح. ولكي يوصل لنا هذه المسألة اللاهوتية، كان على يوحنا أن يخلق بيده تناقضا بين روايته وبين روايات الآخرين.

هذه الدراسة التمهيدية لتناقض واحد فحسب وقليل الأهمية يمكنه أن يقود خطانا إلى العديد من الاستنتاجات التي سأوردها على نحو أكثر تفصيلا في نهاية هذا الفصل.
1- هناك تناقضات بين أسفار العهد الجديد
2- بعض هذه التناقضات لا يمكن التوفيق بينها
3- من المستحيل أن تكون روايتا مرقس ويوحنا كلتاهما دقيقتين من الناحية التاريخية، حيث تتناقض إحداهما مع الأخرى حول قضية توقيت موت يسوع.

لكي نفهم ما كان كل مؤلف منهما يرمي إلى قوله، علينا أن نمعن النظر في تفاصيل كل رواية – وأن لا نتعامل مع أي رواية منهما مطلقا باعتبارها تقول الشيء نفسه الذي تقوله الرواية الأخرى. فيوحنا مختلف تمام الاختلاف عن مرقس في قضية محورية، وإن بدت تافهة ظاهريا. إذا كنا نريد أن نفهم ما يقوله يوحنا عن يسوع على حقيقته، لا يمكننا أن نوفق بين التناقض وإلا ضاعت علينا فرصة فهم مقصده.



#مهرائيل_هرمينا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تناقضات العهد الجديد المنقح23
- تناقضات العهد الجديد المنقح20
- تناقضات العهد الجديد المنقح21
- تناقضات العهد الجديد المنقح18
- تناقضات العهد الجديد المنقح19
- تناقضات العهد الجديد المنقح16
- تناقضات العهد الجديد المنقح17
- اسطورة العود الابدى ميرسيا الياد
- تناقضات العهد الجديد المنقح15
- تناقضات العهد الجديد المنقح13
- تناقضات العهد الجديد المنقح14
- تناقضات العهد الجديد المنقح11
- تناقضات العهد الجديد المنقح12
- تناقضات العهد الجديد المنقح9
- تناقضات العهد الجديد المنقح10
- تناقضات العهد الجديد المنقح8
- تناقضات العهد الجديد المنقح5
- تناقضات العهد الجديد المنقح6
- اريوسى..مؤرخ الكنيسة
- تناقضات العهد الجديد المنقح4


المزيد.....




- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...
- -تصريح الدخول إلى الجنة-.. سائق التاكسي السابق والقتل المغلف ...
- سيون أسيدون.. يهودي مغربي حلم بالانضمام للمقاومة ووهب حياته ...
- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى في ثاني أيام الفصح اليهودي
- المقاومة الإسلامية في لبنان .. 200 يوم من الصمود والبطولة إس ...
- الأرجنتين تطالب الإنتربول بتوقيف وزير إيراني بتهمة ضلوعه بتف ...
- الأرجنتين تطلب توقيف وزير الداخلية الإيراني بتهمة ضلوعه بتفج ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مهرائيل هرمينا - تناقضات العهد الجديد المنقح22