أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مهرائيل هرمينا - تناقضات العهد الجديد المنقح20















المزيد.....



تناقضات العهد الجديد المنقح20


مهرائيل هرمينا

الحوار المتمدن-العدد: 5407 - 2017 / 1 / 20 - 08:23
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


هذه المرة، بدلا من أن نفتش عن الاختلافات الدقيقة للغاية في هذا الموضع أو ذاك، ها نحن أولاء نبحث عن موضوعات أكثر رحابةً، وعن اختلافات أساسية في الطريقة التي تحكى بها قصة ما. إن ثمة قصة واحدة من قصص الأناجيل حكيت على نحو مختلف تماما هي أكثر هذه القصص أهمية: وأعني بها قصة صلب يسوع. ربما تكون أيها القارئ ممن يعتقدون أن الرسالة التي تبعث بها كل الأناجيل فيما يتعلق بقضية الصلب هي رسالة واحدة، وأن الاختلافات فيما بينها إنما تعكس بكل بساطة القليل من التغييرات في وجهات النظر، يبرز في ظلها أحد المؤلفين شيئا ما ويبرز المؤلف الآخر شيئا آخر مختلفا. لكن الاختلافات بينهم هي في حقيقة الأمر أوسع بكثير وأكثر جذريةً مما تعتقد. وهذا لا يبدو واضحا مثل الشمس في رابعة النهار في موضع كما هو الحال في روايات موت يسوع الواردة في إنجيلي مرقس ولوقا.
لقد اعترف العلماء منذ مطلع القرن التاسع عشر بأن مرقس هو أقدم الأناجيل كتابةً، فلقد كتب بين عامي 65 و 70 ميلاديا. ومتَّى ولوقا، كونهما بدأا كتابة إنجيليهما بعد ذلك بخمسة عشر أو عشرين عاما. ولهذا السبب نجد كل القصص التي يرويها مرقس تقريبا متضمنة في إنجيلي متَّى ولوقا، ولهذا السبب كذلك تتفق هذه الأناجيل الثلاثة أحيانا تماما في الطريقة التي يحكون بها القصص. وأحيانا يتفق اثنان فقط في المحتوى ويخالفهما الثالث، وذلك لأن واحدًا من الإنجيلين الأحدث قد غير القصة التي رواها مرقس. هذا يعني أنه لو أننا لدينا القصة نفسها في مرقس ولوقا، مثلا، وهناك اختلافات، فإن هذه الاختلافات وجدت تحديدًا لأن لوقا قام في الحقيقة بإدخال تعديلات على الكلمات التي استقاها من مصدره، أو قام بحذف كلمات وجمل، وأحيانا أضاف بعض المعلومات، بل وحتى سلسلة من الأحداث، وأحيانا قام بتحريف طريقة الصياغة التي وضع مرقس الجملة عليها. ولن نكون مخطئين على الأرجح إذا افترضنا أن لوقا لو أدخل تعديلات على ما قاله مرقس، فإنه يكون قد فعل ذلك لرغبته في أن يقولها بطريقة مختلفة. وهذه الاختلافات في بعض الأحيان تكون مجرد تغييرات محدودة في طريقة الصياغة، إلا أنها في أحيان أخرى تؤثر بطرق بالغة الأهمية على الطريقة التي تحكى بها القصة كلها. وهذا فيما يبدو ينطبق تماما على الطريقة التي صور بها يسوع وهو سائر إلى حتفه.
وفاة يسوع في إنجيل مرقس
في نسخة مرقس من هذه القصة(مر 15 : 16 – 39)، يحكم بيلاطس البنطي على يسوع بالموت ويسخر منه الجنود الرومان ويضربونه ويسحبونه إلى الصليب ليعلق عليه. وهناك سمعان القيرواني يحمل صليبه. فيما لا ينبس يسوع ببنت شفة طوال الوقت. يصلب الجنود يسوع وهو ما يزال مصرًّا على صمته. ويسخر منه اللصان المصلوبان معه كلاهما. وهؤلاء الذين يمرون على مقربة من موقع الصلب يسخرون أيضًا منه. ويهزأ به زعماء اليهود. ويسوع محتفظ بصمته حتى قبل النهاية بلحظات، وعندها يلفظ كلمات صرخته البائسة:« إلوي إلوي لما شبقتني» ةالتي يترجمها مرقس من الآرامية لمصلحة قرائه:«إلهي، إلهي لما تركتني؟» وشخص ما يقدم ليسوع إسفنجة ممتلئة بالخل لكي يشرب. ويتنفس نفسه الأخير ويسلم الروح. وعلى الفور تقع حادثتان: ينشق حجاب الهيكل إلى نصفين، وقائد المائة الذي كان يراقب المشهد يعترف:« حَقّاً كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ ابْنَ اللَّهِ!»
ياله من مشهد قوي محرك لمشاعر مفعم بالمشاعر والأحزان. يسوع صامت طوال الوقت، كما لو كان الصدمة تيسطر عليه، حتى يصرخ صرخته النهائية مرددًا كلمات المزمور 22 .وأنا أوجه السؤال ذاته إلى الرب باعتباره سؤالا منطقيا.ها هو يسوع يريد عن حق أن يعرف لماذا خذله الله على هذا النحو. هناك تفسير شائع جدا لهذه الفقرة وهو أن يسوع كان في الحقيقة يفكر في أن ينتهي به الحال كما انتهى المزمور 22 بتدخل الرب وبتخليصه لناظم المزمور من معاناته، ولذلك يقتبس العدد 1 من المزمور 22. رأيي أن هذا التفسير هي طريقة لقراءة الفقرة تحتوي على كثير من المبالغة وأنه تسلب «صرخة الهجران» كما يسمونها من كل ما بها من عظمة. وحقيقة الأمر هو أن يسوع قد رفضه الجميع: فلقد خانه واحد من خاصته وأنكره أقرب أتباعه إلى قلبه ثلاث مرات، وانفض عنه جميع تلاميذه، ورفضه الزعماء اليهود، وأدانته السلطات الرومانية، وسخر منه الكهنة والمارَّة، بل وحتى المصلوبان إلى جواره. وفي النهاية يشعر أن الله نفسه حتى قد تخلى عنه. لقد غرق يسوع تماما في أعماق اليأس وسيطرت عليه آلام قلبه المتوجع، وهكذا يموت. يحاول مرقس أن يوصل معنى عبر ريشته التي رسمت هذا المشهد. فهو لا يريد أن يمنح قراءه عزاءً مصدره أن الله كان بالفعل هناك يمد يسوع براحة جسدية. يسوع بحسب مرقس يموت في عذاباته، ليس على يقين من السبب الذي يوجب عليه الموت.
لكن القارئ على يقين من السبب. فعلى الفور بعد أن يموت يسوع ينشق حجاب الهيكل لنصفين ويعلن قائد المائة إيمانه. انشقاق الحجاب إلى نصفين يعلن أنه بموت يسوع يصبح الرب متاحا لشعبه مباشرة من غير أن تكون ذبائح الكهنة اليهود في الهيكل واسطة بين الله وشعبه. لقد جلب موت يسوع تكفيرا عن الخطايا(أنظر مر 10 : 45 ). وهناك شخص ما يدرك هذه الحقيقة على الفور: وهو جندي وثني لم يمض وقت طويل على صلبه ليسوع، وليس تلامذته المقربون ولا المشاهدون اليهود. لقد جلب موت يسوع الخلاص، والأمميون هم من سيدركون هذا. ليست هذه مجرد رواية منزهة عن الأغراض لما قد وقع «بالفعل»حينما مات يسوع. بل إنه درس لاهوتي وضع في شكل حكاية.
لقد اعتقد علماء التاريخ طويلا أن مرقس لم يكن يشرح أهمية موت يسوع في روايته هذه، بل إنه من المحتمل أن مرقس كان يكتب وفي مخيلته جمهور محدد من القراء، إنه جمهور يتشكل من أتباع يسوع المتأخرين عنه زمنيا الذين عانوا هم كذلك عذابات واضطهادات على أيدي السلطات التي كان رجالها مناوئين للرب. فالأتباع، مثل يسوع، ربما لا يدركون السبب الذي من أجله يعانون مثل هذه الآلام ومثل هذا البؤس. إلا أن مرقس يقول لهؤلاء المسيحيين أن يطمئنوا: فعلى الرغم من أنهم قد لا يدركون سبب معاناتهم، فالله يعرف، وهو يعمل من وراء الحجاب لكي يجعل لمعاناتهم قيمة تكفيرية. فمقاصد الله نافذة عبر اختبار الآلام تحديدا، وليس عبر تجنبها، وحتى لو لم تكن هذه الأغراض واضحة في ذات اللحظة. إن النسخة المرقسية من موت يسوع على هذا النحو إنما تمدنا بمثال به نفهم ما يقع للمسيحيين من اضطهادات.
موت يسوع بحسب لوقا
الرواية التي يسردها لوقه تتسم هي الأخرى بطرافتها وعمق رؤيتها وتحريكها للمشاعر، لكنها بالطبع مختلفة تمام الاختلاف عن التي لمرقس(انظر لوقا 23 : 26 – 49 ). لا يقتصر الأمر على أن ثمة تناقضات في بعض التفاصيل التي وردت في الإنجيلين،؛ فما بينهما من فروق أكبر من هذا. فالفروق التي بينهما تؤثر على الطريقة نفسها التي تحكى بها القصة و كمحصلة نهائية على الطريقة التي ستفَسَّرُ بها القصة.
في لوقا كما في مرقس، يخون يهوذا معلمه يسوع وينكره بطرس ويرفضه القادة اليهود ويحكم عليه بيلاطس البنطي بالموت صلبا، لكن جنود بيلاطس لا يسخرون منه ها هنا ولا يوسعونه ضربا. لوقا يحكي القصة مقتصرة على بيلاطس وهو يحاول أن يورط الملك هيرودس الجليلي – ابن الملك هيرودس الوارد ذكره في قصة الميلاد- في النظر في قضية يسوع، وجنود هيرودس هم من يسخرون من قبل أن يصدر بيلاطس حكمه عليه بالإدانة. ولا شك في أن هذا تناقض، لكنه لا يؤثر على القراءة الشمولية للفرق بين الروايتين الذي أقوم هنا بتوضيحه.
في لوقا يسحب يسوع لكي ينفذ فيه الحكم ويتم إجبار سمعان القيرواني على أن يحمل الصليب عن يسوع. لكن يسوع لا يقف أخرص اللسان طوال طريقه للصلب. ففي الطريق يرى يسوع عددًا من النسوة ينتحبن حزنا على ما آل إليه مصيره، فيتحول إليهن قائلا:« يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ»(لو 23 : 28 ). ثم يواصل حديثه إلى حدِّ التنبوء بالدمار القادم الذين سيلاقينه. لا يبدو يسوع مصدوما لما يقع له. فهو معني بالآخرين المحيطين به أكثر من اعتنائه بمصيره الشخصي.
فوق ذلك لا يلتزم يسوع الصمت بينما يجري تثبيته بالمسامير على الصليب، كما هو الحال في مرقس. بل يصلي بدلا من ذلك قائلا: «يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ»(لو 23 : 34 )[2] يبدو يسوع وكأن بينه وبين الله صلة حميمة وهو معني أكثر بأمر من يصنعون به هذا الصنيع أكثر من اعتنائه بأمر نفسه. لقد تعرض يسوع للسخرية والامتهان على يد القادة اليهود والجنود الرومان، لكن زميلي الصلب لم يسخرا منه كلاهما كما ذكر مرقس. بل يسخر منه واحد منهما فحسب بدلا من ذلك فيوبخه الآخر على صنيعه هذا وهو يصر على أنهما يستحقان العقوبة التي حاقت بهما فيما لم يرتكب يسوع سوءًا يستحق عليه العقاب( لا تنسوا أن لوقا يشدد على براءة يسوع التامة). ثم يتوجه هذا الأخير ليسوع بطلب قائلا له:«اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». فيجيبه يسوع بالجواب اللازم: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ» (لو 23 : 42 – 43 ). في هذه الرواية لا تبدو على يسوع سيماء القلق على الإطلاق فيما يتعلق بما يحدث له أو بأسبابه. فهو هادئ تماما ومسيطر على الموقف؛ وهو يعرف ما هو مزمع أن يقع ويعرف ما سيقع له بعد ذلك: فهو سيقوم من موتته في الفردوس وهذا المجرم سيكون برفقته هناك. وبين هذه الصورة التي يرسمها لوقا ليسوع وبين الصورة المرقسية، التي يشعر فيها يسوع بالخذلان حتى النهاية، بعد المشرقين اختلافا.
وتقع ظلمة فوق المدينة وينقسم حجاب الهيكل نصفين بينما يسوع ما يزال حيا وهو ما يتناقض مع ما ذكره مرقس. ها هنا لا ينبغي أن يكون انقسام حجاب الهيكل إشارة إلى أن موت يسوع هو الجالب للخلاص وذلك أنه لم يمت بعد. بل إنه يبرز بدلا من ذلك أن موته هو «ساعة الظلمة» كما يقول في موضع سابق من الإنجيل (23 : 53 )، وهذا يرمز إلى دينونة الله ضد الشعب اليهودي. أما انشقاق حجاب الهيكل ها هنا فهو يشير فيما يبدو إلى أن الله يرفض نظام العبادة اليهودي والذي يرمز له هنا بالهيكل.
الأمر الأكثر أهمية هنا هو أن يسوع بدلا من أن يصرخ صرخته التي تعبر عن معنى الشعور التام من جانبه بخذلان الله له في النهاية(«لماذا تركتني؟»)، يصلي يسوع، بحسب ما يورده لوقا، بصوت عال قائلا:« يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي»( 23 : 46 ). ليس هذا هو يسوع الذي يشعر بخذلان الله له والذي يتساءل عن أسباب مروره بآلام الخذلان والموت تلك. بل هو يسوع آخر يشعر بالحضور الإلهي يرافقه وتسليه عن آلامه حقيقة أن الله في جانبه يعينه. وهو على وعي تام بما يحدث له ولأسبابه، وهو يستسلم أمام عناية أبيه السماوي العطوفة، كما أنه على يقين تام بما سيقع له في قابل اللحظات. وقائد المائة يؤكد حينئذ على ما كان يعلمه يسوع تمام العلم:« بِالْحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ بَارّاً!».
من العسير أن يبرز المرء الفروق بين هذين الوصفين لحادثة وفاة يسوع إبرازًا كافيًا. لقد أشرت في موضع سابق من هذا الكتاب إلى أن افترضوا في بعض الأحيان أن رواية مرقس كتبت جزئيا لكي تمنح الذين يعانون الاضطهاد رجاءً، ولكي تسمح لهم بأن يعرفوا أنه على الرغم من المظاهر التي تشي بغير ذلك، فإن الله هو المسبب لما يعانونه من آلام تحقيقا لأغراض خلاصية. فما الغرض الذي كان يخطط له لوقا والذي من أجله أدخل تعديلات على رواية مرقس لكي لا يموت يسوع متألمًا وبائسًا؟
بعض المفسرين من علماء النقد التاريخي افترضوا أن لوقا ربما كان يكتب هو الآخر للمسيحيين المضطهدين، لكن رسالته التي يبعث بها لهؤلاء المضطهدين لأجل الإيمان تختلف عن رسالة مرقس. فبدلا من أن يشدد على أن الله يعمل من خلف الستار، وعلى الرغم من أن الأمر لا يبدو على هذا النحو، فلوقا ربما يحاول أن يقدم للمسيحيين مثلا أعلى يقتدون به بينما يضطهدون- مثل يسوع، الشهيد المثالي الذي يسير نحو حتفه واثقا من براءته موقنا من الوجود الإلهي الحسي في حياته، هادئا ومسيطرا على الموقف، عالما بأن معاناته ضرورية لنيل ثواب الفردوس وأن معاناته قريبا ستزول وستقوده إلى وجود مبارك في الحياة الآخرة. المؤلفان كلاهما ربما يواجهان موقفين متشابهين، لكنهما ينقلان رسالة مختلفة تمام الاختلاف، وكلاهما عن موت يسوع وكيف كان وكيف على أتباعه أن يواجهوا الاضطهاد.
النتيجة الحاسمة
تنشأ المشكلات حينما يأخذ القارئ هاتين الروايتين ويؤلف بينهما مستخرجا رواية واحدة شاملة يقول فيها يسوع ويفعل ويختبر كل شئ ذكر في الإنجيلين كليهما. فلا يعود يسوع يشعر بالكرب العميق بعدُ كما يذكر مرقس(وذلك لأنه بدى رابط الجأش كما يذكر لوقا)، ولا يعود يسيطر عليه الهدوء ويسيطر هو على الموقف كما يذكر لوقا( حيث يصوره مرقس خائر العزيمة). فهو بطريقة أو بأخرى متصف بتلك الصفات جميعا في آن معًا. وكلماته هي الأخرى لها معنى مختلف الآن فهو يتفوه بالكلمات التي ذكرها مرقس ولوقا كلاهما. وحينما يضيف القارئ ما ذكره كل من متَّى ويوحنا إلى هذا الخليط، يتحول هذا الخليط إلى صورة أكثر اضطرابا وأكثر تركيبا من يسوع، متصورًا على سبيل الخطأ أنه قد ركب الأحداث كما وقعت في الحقيقة. والتعامل مع القصصة على هذا النحو هو سبيل لسلب كل مؤلف تفرده باعتباره مؤلفًا وسبيل لحرمانه من توصيل المعنى الذي يريد توصيله عبر قصته.
هكذا تعامل القراء عبر السنين مع «السبع كلمات الأخيرة ليسوع المحتضر» ذائعة الصيت- أعني عبر جمعهم ما يقوله يسوع عند موته من الأناجيل الأربعة وخلطهم لها معًا وتصورهم أنهم بما نتج لديهم من مزيج قد تجمعت لهم أطراف القصة كاملة. أقول إن هذه الحركة التفسيرية لا تتيح لنا معرفة القصة كاملة. بل تمدنا بقصة خامسة، قصة لا تشبهها أي قصة أخرى وردت في الأناجيل المعترف بقانونيتها، قصة خامسة هي في الواقع تعيد كتابة الأناجيل، وتؤلف إنجيلا خامسًا. وهذا رائع جدًا لك أن تفعله أيها إذا كان هذا ما تريده، فأمريكا بلاد حرة، وليس بوسع أحد أن يردعك عن فعل ما تريد. لكن هذه ليست السبيل المثلى بالنسبة للناقد التاريخي للتعامل مع الأناجيل.
فكرتي الشاملة هي أن الأناجيل، وكل أسفار الكتاب المقدس، هي كتب متفردة بعضها عن بعض وأنه لا ينبغي أن تجري قراءتها كما لو كانت تقول الشئ ذاته. فهي عن عمد لا تقول الشئ ذاته- حتى عندما يتوحد الموضوع الذي يدور حول الحديث فيما بينها(موت يسوع على سبيل المثال). فمرقس مختلف عن لوقا وما في متى مغاير تماما لما في يوحنا، كما يمكننا مشاهدته عبر القراءة الأفقية لقصصهم الشخصية التي ذكروها عن مسألة الصلب. إن المنهج التاريخي للتعامل مع الأناجيل يسمح لصوت كل مؤلف أن يكون مسموعًا ويرفض أن تمزج هذه الأصوات لينتج شئ شبيه بإنجيل كبير يسحق الفروق التي يؤكد عليها كل واحد منهم. من الواضح أن الأناجيل الإزائية لا تتفق فيما بينها في كل ما ترويه من روايات. لكن تشابها بالغ العظم يجمعها معا ويعزلها عن إنجيل يوحنا. لقد كان من المعروف لزمن طويل أن السبب الذي يجعل هذه الأناجيل متفقة في مواضع كثيرة هو أنها جميعا تشاركت المصادر نفسها. فلوقا ومتى، على سبيل المثال، استعملا مرقس كمصدر لهما، فأعادوا إنتاج ما به من روايات إعادة إنتاج حرفية في كثير من المواضع وأدخلوا عليه تغييرات- وأحيانا كانت هذه التغييرات كبيرة- حينما كانوا يريدون أن يحكوا القصة ذاتها بطرق مختلفة.
وبالرغم من أن الكثير من القراء غير المداومين للعهد الجديد لم يلاحظوا هذا، فإن إنجيل يوحنا قضية مختلفة تمام الاختلاف. فباستثناء روايات اللآلام، غالبية القصص التي أوردها يوحنا في إنجيله لا نجد لها أي أثر في الأناجيل الإزائية، كما أن غالبية القصص الواردة في الأناجيل الإزائية ليس لها وجود في إنجيل يوحنا. وحينما يتناولان منطقة متشابهة بالحديث، تختلف قصص يوحنا اختلافا صادما عن قصص الأناجيل الأخرى. وهذا الأمر بمقدورنا أن نرصده عبر القيام بشكل من المقارنة الشاملة بين يوحنا من جهة وبين الأناجيل الإزائية من جهة أخرى.
خلافات في المضمون
لو قدر لك أن تقرأ الأناجيل الإزائية وأن تضع موجزًا للفقرات المحورية- وأعني بهذا المصطلح القصص التي تمثل البنية الهيكلية لما ذكروه من روايات- فماذا ستجد؟ يبدأ لوقا ومرقس إنجيليهما بالحديث عن ولادة يسوع في بيت لحم من عذراء. أول الأحداث الرئيسة التي أجمعت على ذكرها الأناجيل الثلاثة هي معمودية يسوع على يد يوحنا والتي يذهب بعدها إلى البرية ليجربه الشيطان. يعود يسوع من البرية ويبدأ في التبشير برسالته التي تنذر باقتراب ظهور«مملكة الرب». الشكل المميز لتعاليمه هو أنها تأتي في صورة أمثال. وفي الحقيقة، يقال في إنجيل مرقس إن يسوع علم الجموع عبر الأمثال فحسب(مر 4 : 11 ). ويصنع يسوع كذلك المعجزات. فواحدة من معجزاته الفريدة – وهي أولى المعجزات في إنجيل مرقس- كانت إخراج الشياطين من هؤلاء الذين سيطرت عليهم هذه الشياطين. ولذا يمضي في خدمته في مدينة الجليل مبشرًا عبر ما يضربه من أمثال وما يقوم به من إخراج للشياطين حتى منتصف الروايات عندما يصطحب ثلاثة من تلامذته- بطرس يعقوب ويوحنا- إلى أعلى الجبل وفي وجودهم يمر بتجربة التجلي والتي تتحول فيها هيئته تحولا مجيدا ويبدأ في الحديث إلى موسى وإيليا الذان ظهرا من قِبَل السماء. وبعد التجلي، يواصل يسوع خدمته الخلاصية حتى يذهب إلى أورشليم في الأسبوع الأخير من حياته. ويطهر الهيكل ويتناول العشاء الأخير الذي يشرع فيه للعشاء الرباني عبر حديثه عن الخبز الذي يمثل جسده والكأس الذي يعبر عن دمه. ويقف أمام المحكمة التي يترأسها القادة اليهود ويدان بتهمة التجديف. ثم تأتي النهاية المألوفة، التي حكيت بطرق مختلفة، فيموت ثم يقوم من بين الأموات.
من المدهش أنه ليس هناك واحدة من هذه القصص التي تمثل الهيكل العظمي لروايات الأناجيل المتوازية يمكننا العثور عليها في إنجيل يوحنا. فليس ثمة أي ذكر لميلاد المسيح في بيت لحم ولا لعذرية أمه. ولا يقال بوضوح أنه جرى تعميده وأنه قد مر بتجربة الإغواء من الشيطان في البرية. وفي يوحنا لا يبشر يسوع بملكوت الرب القادم ولا يذكر أي أمثال. كما أنه لا يخرج أي شيطان ولا تذكر أي كلمة عن التجلي.وحتى الهيكل لا يذكر عنه أن يسوع قام بتطهيره عند مجيئه إلى أورشليم( جاء ذكر دخوله أورشليم في يوحنا، الأصحاح الثاني). ولا يضع يسوع في يوحنا حجر الأساس لطقس العشاء الرباني(بل يستبدله بغسل أقدام التلاميذ)، ولا يخضع لأي شكل من المحاكمة أمام السنهدرين اليهودي.
فإذا لم يذكر يوحنا أيًّا من هذه الروايات التي تبدو أساسية في قصة يسوع، فعلاما يحتوي إنجيله؟ يحتوي إنجيل يوحنا قصصا لا تأتي الأناجيل الإزائية على ذكرها. فيوحنا يبدأ بتمهيد يصف على نحو يشوبه الغموض كلمة الله التي كانت مع الله منذ البدء، والتي كانت هي نفسها الله وخلق الله بواسطتها الكون. وقد صارت الكلمة، كما يقال لنا، كائنا بشريا والذي هو يسوع المسيح: كلمة الله الذي صارت جسدًا. وهذا شيء ليس لها شبيه في الأناجيل الإزائية.
ويحكي يسوحنا عن يسوع قيامه بالمعجزات بينما يمارس خدمته التبشيرية، لكنه لا يسميها معجزات(miracles) أبدًا، وهو المصطلح الذي يعني حرفيًّا «أعمال القوة». بل إنه، بدلا من مصطلح المعجزة، يسميها «علامات»(signs). لكن علامات على ماذا؟ هي علامات تدل على حقيقة شخصية يسوع الذي هو ذلك الكائن الذي نزل من السماء ليمنح كل من يؤمن به الحياة. يذكر يوحنا سبع علامات في إنجيله، وغالبيتهم لا نجده بين المعجزات المذكورة في الأناجيل الإزائية(باستثنائين اثنين وهما المشي على الماء وإطعام الجموع). وتشمل العلامات التي رواها يوحنا بعض المعجزات المفضلة لدى قراء الكتاب المقدس عبر السنين: تحويل الماء إلى نبيذ، شفاء الرجل الذي وُلِدَ ضريرا، وإحياء أليعازر من بين الأموات. كما يمتلك يسوع في هذا الإنجيل رسالة تبشيرية، لكنها لا تتحدث عن ملكوت الرب القادم، بل بشارة عن نفسه: كنهه الذاتي، ومن أين أتى، وإلى أين سيمضي، وكيف سيمنح المؤمنين الحياة الأبدية. كما ينفرد يوحنا بالعديد من أقوال المسيح التي تحتوي الجملة البادئة« أنا هو...»، والتي يعرف عبرها يسوع الناس بنفسه وما الذي بمقدوره تقديمه لهم. كل جملة تبدأ ب«أنا هو...» عادة ما يليها صنع علامة كدعامة تظهر أن ما يقوله يسوع عن نفسه صدق لا مراء فيه. وعلى هذا المنوال يقول «أنا هو خبز الحياة» ثم يشفعها بإثبات لقوله عبر تكثير أرغفة الخبز للإطعام الجموع؛ ويقول «أنا نور العالم» ويثبتها بشفاء الرجل الذي ولد ضريرًا؛ ويقول «أنا القيامة والحياة» ويحيي إليعازر من بين الأموات إثباتا لقوله.
وعادة ما يلقي يسوع في إنجيل يوحنا خطبًا مطولة في مقابل المقولات الجديرة بالذكر والتي تشبه الحكم في الأناجيل الثلاثة الأخرى. فهناك خطاب طويل في الأصحاح الثالث مع نيقوديموس، وفي الإصحاح الرابع هناك الحوار مع المرأة السامرية، وهناك الخطبة الأكثر طولا التي يلقيها على مسامع تلاميذه والتي تغطي المساحة بين الإصحاحين الثالث عشر والسادس عشر وذلك قبل أن يبدأ في صلاة تغطي الفصل التالي كله. ليس هناك خطبة من بين هذه الخطب أو مقولة من التي تبدأ بقوله«أنا هو...» يمكننا العثور عليها في الأناجيل الإزائية.
مضامين بينها فروق
بمقدورنا قول الكثير عن الخصائص التي ينفرد بها إنجيل يوحنا؛ مع ذلك فقضيتي التي أسعى إلى إثباتها هاهنا ليست أن أثبت ببساطة أن ثمة فروقا بين يوحنا من ناحية وبين الأناجيل الثلاثة المتوازية من ناحية أخرى، بل إن الصور التي يرسمها هذا الإنجيل(أي يوحنا) لشخصية عيسى هي صور بالغة الاختلاف. نعم، من المؤكد أن الأناجيل المتوازية الثلاثة بينها فروق وليست متطابقة تمام التطابق، لكن الفروق التي نجدها بين الأناجيل المتوازية من جهة، وبين إنجيل يوحنا من جهة أخرى هي فروق بالغة البروز، كما يمكن للمرء أن يلحظها عند إمعانه بحثا في بعض التأكيدات الموضوعية المتنوعة.
الولادة العذرية والتجسد
تتلخص العقيدة المسيحية الأرثوذكسية بشأن ميلاد المسيح والتي قوبلت بالتسليم في أنه كان كائنا إلهيا ذا وجود سابق على وجوده الأرضي، وأنه مساوٍ لله الآب، لكنهما ليسا الذات نفسها، وأنه قد صار«متجسدًا»، صار كائنا بشريًّا، عبر قنطرة هي مريم العذراء. لكن هذه العقيدة ليس لها وجود في أيٍّ من أناجيل العهد الجديد. فكرة الوجود العيسوي الذي سبق ميلاده وكونه كائنا إلهيا تأنس نجدها في إنجيل يوحنا وحده؛ أما فكرة ميلادي العذري فلا نعثر عليها إلا في إنجيلي متَّى ولوقا وحديهما. وبالتوفيق بين الرؤيتين بمقدور المرء أن يستخرج الرؤية التي صارت هي العقيدة التقليدية، أي تلك التي آمن بها الأرثوذكس. مفهوما الميلاد من عذراء و التجسد، في تصور مؤلفي الأناجيل، كانتا مختلفتين تمام الاختلاف.
لم ينبس مرقص في إنجيله ببنت شفة عن أيٍّ من المفهومين. فالقصة عنده تبدأ بيسوع في سن الرشد، ولا يشير مرقص من قريب أو من بعيد إلى الظروف المحيطة بلحظة الميلاد. إذا لم يكن بين يديك سوى إنجيل مرقص، وهو بالفعل حال بعض المسيحيين من العصر المسيحي المبكر، فلن يكون لديك أي فكرة عن أي شئ غير عادي في حدث ميلاد عيسى، أو عن أمه وكونها ولدته وهي عذراء، أو أن لعيسى وجود سابق عن وجوده الأرضي.
إنجيل متى بالغ الوضوح في الإشارة إلى أن أم عيسى كانت عذراء، لكنه كان بالغ التحفظ حيال أي محاولة للتخمين بشأن ما يعنيه هذا الأمر من الناحية اللاهوتية. وقد رأينا كيف كان متى حريصا على نحو خاص على إبراز كيف كان كل شئ يتعلق بميلاد عيسى وحياته وموته تحقيقا لنبوءة ورد ذكرها في الكتاب المقدس اليهودي. لذا، لم ولد عيسى من عذراء؟ كان ذلك بسبب أن إشعياء، ذلك النبي العبراني، كان قد أشار إلى أن «عذراء ستحبل وتلد ولد، وأنهم سيدعونه عمانوئيل»(متى 1 : 23 ، حال اقتباسه العدد 7 : 14 من أشعياء) . في الحقيقة، لم يكن هذا ما قاله إشعياء بدقة. في الكتاب المقدس العبري، ذكر أشعياء أن «فتاة شابة» ستحمل وتلد ولدا، وهي نبوءة، لكنها عن حدث كان مزمع أن يقع في العصر ذاته الذي عاش فيه أشعياء، وليس نبوءة مستقبلية.[1] حينما جرت ترجمة الكتاب المقدس العبري إلى اللغة اليونانية تحولت «الفتاة الشابة»(عَلْمَا بالعبري، وثمة كلمة عبرية أخرى للدلالة على معنى الفتاة العذراء) التي تحدث عنها أشعياء إلى الكلمة اليونانية (παρθενοσ)التي تعني عذراء باليونانية، وهذه الترجمة هي النسخة التي كانت بين يدي متى من الكتاب المقدس. ومن هنا فقد اعتقد أن أشعياء كان يتنبأ عن المسيح الذي يظهر في المستقبل( مع أن مصطلح المسيح لم يرد مطلقا على لسان أشعياء في الأصحاح 7)، وليس عن شيء يقع في عصره الذي عاش فيه. فمتى كتب ما كتب لكونه كان يعتقد أن الكتاب المقدس قد تنبأ بميلاد يسوع من عذراء.
أما لوقا فلديه وجهة نظر مختلفة. نعم، هو الآخر كان يعتقد أن المسيح ولد من عذراء، لكنه لم يسق نبوءة من الكتاب المقدس ليفسر سبب اعتقاده هذا المعتقد.
بل نجده بدلا من ذلك يسوق تفسيرا أكثر صراحة: كان يسوع بان لله بنوة حرفية. وقد جعل الله مريم تحبل حتى يكون ابنها كذلك ابنا لله. فالملاك جبرائيل يقول لمريم ( ينفرد لوقا بإيراد هذه الحكاية):« اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ.»(لوقا 1 : 35 ). مريم، التي تحبل، لا بفعل خطيبها أو أي إنسان آخر، بل بقوة الله، تلد كائنا هو من بعض النواحي كائن إلهي.
فلدى متى ولوقا، من هنا، يبدوان وكأن لكلٍّ منهما تفسيره الخاص للأسباب التي من أجلها ولد عيسى من عذراء، لكن، وهو الأمر الأكثر أهميةً، ليس ثمة أي موضع في الإنجيلين يذكر فيه أي تلميح إلى أن هذا الكائن كان له وجود سابق عن لحظة ميلاده الأرضية. في تصور هذين المؤلفين، أصبح لعيسى وجودا للمرة الأولى حينما ولدته أمه. ولا وجود في أي من الإنجيلين لإشارة إلى الوجود الأزلي لعيسى. هذه الفكرة منشؤها هو يوحنا، ويوحنا وحده.
لا يشير يوحنا مطلقا لأم عيسى باعتبارها عذراء، بدلا من ذلك يفسر مجيء عيسى إلى العالم باعتباره تجسد كائن إلهي كان له وجوده الأزلي قبل الزمان. مدخل إنجيل يوحنا(أي الأعداد 1: 1 – 18) هي واحدة من أكثر فقرات الكتاب المقدس كله رفعة وقوة في الأسلوب. وهي كذلك واحدة من أكثر الفقرات التي كانت محورا للجدال والتفنيد وللتفسير بتفسيرات متباينة. يبدأ يوحنا(في الأعداد 1: 1 – 3) برؤية رفيعة عن «كلمة الله» الكائن الذي يتمتع باستقلالية عن الله(فقد كان « عِنْدَ اللَّهِ ») لكنه من بعض الوجوه كان مساويا لله (« كَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ»). هذا الكائن كان موجودًا في البداية مع الله وهو الواسطة التي خلق عبرها الكون كله(«كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. »
تنازع العلماء حول تفاصيل هذه الفقرة لقرون.[2] وجهة نظري الشخصية هي أن المؤلف يعود بنا إلى قصة الخلق في العدد الأول من سفر التكوين، حيث يتكلم الله وتخلق المخلوقات تبعا لكلماته:«وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ» فَكَانَ نُورٌ.» لم يتكلف الأمر سوى كلمة من الله خلق على إثرها كل ما كان ثمة من مخلوقات. تخيل مؤلف الإنجيل الرابع، كما هو الحال مع البعض من المؤلفين الآخرين للتقليد العبري، أن الكلمة التي قالها الرب هي شكل يشبه الكائن المستقل في ذاته وعنها. لقد كانت الكلمة «عند» الله، لأنه بمجرد أن قيلت، فقد صارت مستقلة عن الله؛ و«كانت» هي الله بمعنى أن ما قاله الله هو جزء من ذاته الإلهية. فبكلامه صار وجودا خارجيا لما كان له بالفعل وجودا داخليا، بين ثنايا عقله. كلمة الله، من ثمَّ، كانت الظهور الخارجي للحقيقة الإلهية الداخلية. كانت الكلمة عند الله وكانت الكلمة الله...أي الأمرين معًا، وكانت الوسيلة التي استعملت في خلق كل الأشياء. في إنجيل يوحنا، هذه الكلمة الإلهية التي كان لها وجودًا سابقا للزمان صارت كائنا بشريًّا :«وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً». (1 : 14 ) لا عجب إذن أن قيل إن هذا الكائن البشري هو المسيح يسوع. فيسوع هنا ليس مجرد نبي يهودي ظهر فجأة على مسرح الأحداث، كما هو حاله بحسب إنجيل مرقص؛ وليس هو الكائن النصف بشري والنصف إلهي الذي ظهر للوجود لحظة أن حملت أمه به(أو لحظة إنجابها له في لحظة ميلاده) بفعل القوة الإلهية. بل هو كلمة الله عينها، كان عند الله منذ البدء، وجاء مؤقتا للسكنى على الأرض، جاعلا الحياة السرمدية أمرًا ممكنًا.
يوحنا لم يقل كيف كان مجيء هذه الكلمة إلى العالم. وليس له روايته الشخصية عن قصة الميلاد وهو لا يذكر أي شئ عن يوسف ومريم ولا عن بيت لحم، أو عن الحمل العذري. وهو يختلف عن لوقا في هذه النقطة المحورية: فبينا يرسم لوقا لعيسى صورة القادم إلى الوجود في نقطة تاريخية ما( الحمل أو الميلاد)، يرسمه يوحنا كظهور بشري لكائن إلهي يسمو فوق التاريخ.
ماذا يحدث حينما يحدث التزاوج بين وجهتي نظر لوقا ويوحنا؟ تتلاشى الخطوط المميزة لكليهما. وتبتلع العقيدة الأرثوذكسية عن التجسد عبر مريم العذراء الرسالة التي حرص كل مؤلف منهما على حدى أن يوصلها. إن قارئ الكتاب المقدس الذي يمزج الرؤيتين معا يكون قد اختلق روايته الخاصة به للقصة، رواية تتحاشى تعاليم لوقا ويوحنا كليهما وتعرض تعليما لا نعثر عليه عند أي منهما.
اختلافات حول تعاليم يسوع
يمثل إنجيل يوحنا كذلك رؤية مغايرة لما تناوله يسوع من قضايا إبَّان خدمته العلنية. سأحاول هنا أن أستعمل إنجيل مرقس، أقدم الأناجيل الإزائية كتابةً، كمنطلق لإبراز هذه المغايرة.
تعاليم يسوع بحسب إنجيل مرقس
عبر العديد من الطرق، أوجزت الرسالة اليسوعية في إنجيل مرقس في الكلمات الأولى التي تحدث بها:« قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللَّهِ فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ»(مر 1 : 15 ). أي إنسان له معرفة باليهودية في صورتها العتيقة بمقدوره أن يميز الطابع الرؤوي لهذه الفقرة. النبوءات الرؤوية اليهودية كانت تعبر عن رؤية شاملة للعالم ظهرت إلى الوجود قبل ولادة يسوع بقرن ونصف وآمن بها اليهود على نطاق واسع في عصره الذي عاش فيه. الكلمة اليونانية «أبوكاليبسيس» تعني «الكشف» أو«إماطة اللثام.» وقد سمى العلماء وجهة النظر هذه بالـ«رؤوية» لأن أنصارها آمنوا أن الله قد كشف أو أماط لهم اللثام عن الأسرار السماوية والتي بمقدورها أن تفسر الواقع الذي يعاينونه-وكثير من أحداث هذا الواقع كانت رديئة وكريهة- هنا على الأرض. واحدة من الأسئلة التي كان الرؤويون يرغبون في الإجابة هي أسباب وجود كل هذا الألم وهذا الشقاء الذان يعانيهما العالم وخاصة شعب الله. من المفهوم أن يعاني الأشرار: فهذه المعاناة هي نتاج ما عملته أيديهم. ولكن لماذا الأخيار هم أيضًا يعانون؟ بل في الحقيقة، لماذا تزيد حتى معاناة الأخيار عن ما يعانيه الأشرار، وعلى يد الأشرار؟ لماذا يسمح الله بحدوث ذلك؟
آمن الرؤَوِيُّون أن الله كان قد كشف لهم الأسرار التي تجعل لكل ما سلف معنى. فثمة قوى كونية في العالم مصطفة لمحاربة الرب وشعبه، قوى مثل الشيطان وجنده من الأرواح الشريرة. هذه القوى تسيطر على العالم وعلى السلطات السياسية التي تدير هذا العالم. وقد سمح الله لهذه القوى، لأسباب ما غامضة، أن تزدهر في هذا الزمان الحاضر الذي يخيم عليه الشر. ولكن عصرًا جديدًا آت سيطيح الرب بهذه القوى الشريرة وسيقيم مملكة الخير، أو مملكة الرب، تلك المملكة التي لن يكون فيها وجود لمزيد من الآلام والمعاناة. فالرب سيحكم من عليائه، وأما الشيطان وأرواحه الشريرة، ومعهما كل القوى الأخرى الشريرة التي تسببت في هذه المعاناة( الأعاصير، والزلازل والنساء، والأمراض، والحروب) فسيقضي الرب عليهم.
تعاليم المسيح في مرقس، من هنا، هي تعاليم رؤوية:فعبارة «قد كمل الزمان» تتضمن معاني مثل أن العصر الحالي الذي يخيم عليه الفساد، الذي نراه على خط الزمان، قد شارف تقريبا على نهايته. فالنهاية تلوح في الأفق. أما عبارة «واقترب ملكوت الله» فتعني أن الرب سيتدخل قريبا في هذا الزمان وسيطيح بالقوى الشريرة والممالك التي يدعمونها مثل روما، وسوف يقيم مملكته الخاصة، مملكة الحق والسلام والعدل. وتعني« فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» أن الشعب بحاجة لتغيير أنماط حياته عبر إيمانه بتعاليم يسوع لأنها قريبا ستتحقق، وذلك إذا أرادوا أن يستعدوا للملكة الآتية.
هذه المملكة، من وجهة نظر يسوع بحسب إنجيل مرقس، قد دنى وقت ظهورها. فكما يخبر يسوع تلامذته في موقف من المواقف:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ هَهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللَّهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ»(مرقس 9 : 1)؛ ثم يخبرهم في لحظة تالية، بعد أن يصف لهم الانقلابات الكونية التي ستقع في نهاية الزمان:« اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هَذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ.»(13 : 30 ).
كيف ستظهر هذه المملكة؟ ستظهر، بحسب مرقس، على يد «ابن الإنسان»، الذي هو قاض عالمي، الأرض هي هي مقر محكمته وسيحاكم الناس وفقا لمبدأ هو هل قبلوا تعاليم يسوع أم لا:«لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي فِي هَذَا الْجِيلِ الْفَاسِقِ الْخَاطِئِ فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ»( مر 8 : 38 ). ومن هو ابن الإنسان هذا؟ إنه يسوع ذاته، بحسب مرقس، والذي ينبغي أن يرفضه الشعب ويرفضه قادة الشعب، وأن يقتل ويقوم من بين الأموات ومن ثمَّ سيعود للدينونة جالبا مملكة الرب معه.
ولكن لأن يسوع هو ذلك الشخص الذي سيأتي بمملكة الرب في ركابه، فمملكة الرب، من وجهة نظر مرقس، هي تلك التي تتجسد في حياة يسوع الأرضية وخدمته التبشيرية على نحو نبوءيّ. في ظل هذه المملكة لن يكون ثمة شياطين، ولذا فيسوع يخرج الشياطين؛ وفي مملكة الرب لن ستختفي الأمراض، ولذا يشفي يسوع المرضى؛ وفي مملكة الرب لن يكون ثمة موت بعدُ، ولهذا السبب يحيي يسوع الموتى. لقد كان بوسع المرء أن يرى مملكة الله متجسدة في خدمة يسوع التبشيرية وكذا تلاميذه( مر 6 : 7 – 13 ). ولقد كانت هذه هي الفكرة المحورية للكثير من الأمثال التي ضربها يسوع في إنجيل مرقس: لقد كان للملكة الرب ظهور محدود، بل وخفي أحيانا، في أعمال يسوع، لكنها في نهاية الأمر ستبدو بالغة الوضوح. إنها مثل حبة الخردل التي متى بذرت في الأرض تصير أكبر شجرة(4 : 30 – 32 ). غالبية من استمعوا إلى يسوع رفضوا رسالته، لكن يوم الدينونة قادم لا محالة، ومملكة الرب ستأتي بقوة وعندئذ هذا العالم سيعاد تشكُّله (مرقس 13 ).
لم يتحدث يسوع كثيرًا عن نفسه في إنجيل مرقس. فقد تحدث بشكل رئيسي عن الرب ومملكته الآتية وكيف أن الشعب بحاجة إلى أن يعد نفسه لمجيئها. وحينما يشير إلى نفسه ملقبا إياها بلقب «ابن الإنسان»، يكون هذا دوما بصورة غير مباشرة: فهو لا يقول صراحة «أنا ابن الإنسان». وهو لا يصرح أنه المسِّيا، أي حاكم الملكة المستقبلية الممسوح بالزيت، حتى وقت قصير من النهاية حينما يضعه الكاهن الأكبر تحت القسم(مر 14 : 61 – 62 ).
ومع أن البعض في هذا الإنجيل يعترف بأن يسوع هو ابن الله(أنظر 1 : 11 ؛ 9 : 7 ؛ 15 : 39 )، فإن هذا اللقب لم يكن هو شخصيا يفضله لنفسه، وإنما اقتصر على الاعتراف به على مضض ( 14 : 62 ). من المهم أن نعرف أن لقب « ابن الله» في ثقافة اليهود القدماء يمكن أن يشير إلى الأمة الإسرائيلية(عزيا 11 : 1 )، أو إلى ملك إسرائيل (1 صموئيل 7 : 14 ). في هذه الحالات كان ابن الله شخصا اختاره الله اختيارا مخصوصا لكي يضطلع بتنفيذ مهمة إلهية وكوسيط يبلغ مشيئته إلى الناس على الأرض. وبالنسبة لمرقس، كان يسوع هو كل ما سبق – فقد كان الإنسان الذي نفذ الإرادة المطلقة للرب حينما قبل طوعا الموت على الصليب. مع ذلك، فمن المدهش أن يسوع، في إنجيل مرقس، لا يشير مطلقا لنفسه باعتباره كائنا إلهيا كان له وجود قبل الوجود، وككائن مساوٍ لله من أي وجه. لم يكن يسوع إلها ولم يدع ذلك في إنجيل مرقس.

تعاليم يسوع في إنجيل يوحنا
لكن الأمور مختلفة تماما في إنجيل يوحنا. ففي مرقس، تتمحور تعاليم يسوع بشكل مبدئي حول الله والمملكة الآتية وبالكاد يتحدث حديثا مباشرًا عن نفسه، إذا استثنينا حديثه عن ضرورة ذهابه إلى أورشليم لكي يقتل، بينما في إنجيل يوحنا كان كل ما تكلم عنه يسوع من الناحية العملية هو التالي: شخصيته ومن أين أتى وإلى أين يذهب وأنه هو الوحيد الذي بمقدوره أن يمنح الحياة الأبدية.
لم يتحدث يسوع في مواعظه في إنجيل يوحنا عن مملكة الرب المستقبلية. فالتركيز الشديد هو على هويته الشخصية كما رأينا في الفقرات التي تبدأ بقوله «أنا هو...». فهو ذلك الكائن القادر على أن يمنح المادة الواهبة للحياة(«أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ.» (يو 6 : 35 )؛ وهو القادر على أن يمنحن النور(«أَنَا نُورُ الْعَالَمِ»( يو 9 : 5 )؛ وهو الطريق الوحيد المؤدي إلى الرب(«أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي» (يو 14 : 6 ). والإيمان به هو السبيل لنيل الخلاص الأبدي:« اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ»(يو 3 : 36 ) بل إنه في حقيقة الأمر مساو لله:« أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ»(يو 10 : 30 ). ولقد علم مستمعوه اليهود تمام العلم المعنى الذي يرمي إليه بقوله هذا: فلقد سارعوا إلى التقاط الحجارة لكي يقتلوه لما يقوله من تجديف بحق الله.
زفي موضع واحد فحسب في إنجيل يوحنا يدعي يسوع لنفسه الاسم المقدس قائلا لمحاوريه من اليهود:« قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ»(يو 8 : 58 ). فإبراهيم، الذي عاش قبله بألف وثمانمائة عام، وكان أبا لليهود، يزعم يسوع أنه كان قد عاش قبله. بل إنه يزعم ما أهو أكثر من ذلك. فها هو ذا يشير إلى فقرة في الكتاب المقدس اليهودي يبدو فيه الرب لموسى في الشجرة المضطرمة ويكلفه بمهمة الذهاب إلى فرعون والسعي وراء إطلاق شعبه من الأسر. يسأل موسى ربه عن اسمه، لكي يخبر أتباعه من الشعب الإسرائيلي من هو الإله الذي أرسله. فيجيبه الرب:« اهْيَهِ الَّذِي اهْيَهْ». وَقَالَ: «هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي اسْرَائِيلَ: اهْيَهْ ارْسَلَنِي الَيْكُمْ»(خروج 3 : 14 ). ولذا فحينما يقول يسوع في إنجيل يوحنا 8 : 58 :«أنا هو..»، فهو يخلع على نفسه الاسم المقدس. وهنا مرة أخرى لم يجد مستمعوه من اليهود أي عقبة في فهم مراميه. ومرة أخرى ترفع بوجهه الحجارة.
لا يقتصر الفرق بين مرقس ويوحنا على أن يسوع يتحدث عن نفسه في يوحنا ويعين هويته باعتباره إلهًا، بل يتعدى الأمر ذلك إلى أن يسوع لا يبشر بما يبشر به في مرقس عن مملكة الرب الآتية. ففكرة أنه ستكون ثمة مملكة في المستقبل على الأرض سيحكم الرب من خلالها وأن كل قوى الشر ستتزعزع ليس لها محل من الإعراب في ادعاءات يسوع في إنجيل يوحنا. وهو ينشر بدلا من ذلك حديثه عن حاجة الناس إلى أن ينالوا الحياة الأبدية فوق في السماء من خلال تحقيقهم للميلاد السماوي( يوحنا 3 : 3 – 5). وهذا ما يعنيه «ملكوت الله» في يوحنا في المرات القليلة للغاية التي ذكر فيها هذا المصطلح: فهو يعني الحياة في السماء، فوق، مع الله ( وليس في سماء جديدة وأرض جديدة هنا على بالأسفل). الإيمان بيسوع هو ما يمنحنا الحياة الأبدية. وهؤلاء الذين يؤمنون بيسوع سيعيشون مع الله إلى الأبد؛ ومن لا يؤمن سيعاقبه الله( 3 : 36 ).
يرى كثير من النقاد أنه من المنطقي أن يمتنع يوحنا، الذي كان إنجيله آخر الأناجيل تأليفًا، عن الحديث عن الظهور الوشيك لابن الإنسان على الأرض ليقيم محكمته على الأرض معلنا قيام المملكة المثالية. في مرقس يتنبأ يسوع بأن لحظة النهاية قد أوشكت على المجيء خلال العصر الذي يعيش فيه جيله بينما يكون تلاميذه ما يزالون بين الأحياء (مرقس 9 : 1 ؛ 13 : 30 ). عندما كتب إنجيل يوحنا، ربما بين عامي 90 و 95 م، كان هذا الجيل القديم قد انقرض وغالبية التلاميذ ، إن لم نقل: كلهم، كانوا قد ماتوا بالفعل. وهذا يعني أنهم قد ماتوا قبل مجيء مملكة الرب. ماذا يفعل المرء حيال تعليم يقضي بقيام مملكة أبدية هنا على الأرض لو انقطع أمله في قيامها للأبد؟ على المرء أن يعيد تفسير التعليم. والطريقة التي أعاد بها يوحنا تفسير هذا التعليم هو أنه حرَّف التصور الأساسي.
إن وجهة نظر رؤوية بشأن العالم كهذه الموجودة في إنجيل مرقس تتعلق بنوع من الثنائية التاريخية التي يكون فيها ثمة عصر حاضر يسوده الشر و مملكة قادمة يحكمها الرب. هذا العصر والعصر القادم: يمكن رسمهما غالبا مثل خط زمني يقطع الصفحة أفقيا. فيما يدوِّر إنجيل يوحنا الثنائية الأفقية التي صدرت عن عقلية رؤوية لتتحول إلى ثنائية رأسية. لم يعد الأمر أمر ثنائية تتكون من هذا العصر الذي نحياه على الأرض والعصر الآخر الذي قد دنى بالفعل موعد قدومه والذي سيكون على الأرض أيضًا؛ بدلا من ذلك يتحول الأمر إلى ثنائية من حياة أرضية نعيشها ههنا بالأسفل وحياة أخرى نعيشها بالأعلى. نحن هنا على الأرض و الله في السماء. ويسوع باعتباره كلمة الله ينزل من أعلى لكي يمكننا أن مر تحديدًا بتجربة الميلاد «من فوق»(المعنى الحرفي للعدد يوحنا 3 : 3 ليس أننا لابد «أن نولد ولادة ثانية»، بل أن«ينبغي أن نولد من فوق»[3] حينما نمر بهذا الميلاد الجديد ونعاينه عبر إيماننا بالمسيح، سينال الآتي من فوق، ثم نحن بعده كذلك على الحياة الأبدية( يوحنا 3 : 16 ). وعندما نموت سنصعد من ثم إلى مملكة السماء لنحيا مع الرب (يوحنا 14 : 1 – 6 ). ليس بعدُ مملكة للرب آتية على الأرض. فمملكة الله في السماء ويمكننا الولوج إليها عبر الإيمان بالكائن الذي نزل من هناك ليدلنا على الطريق. وهذه تعاليم مختلفة تماما عما تراه في إنجيل مرقس.
معجزات يسوع
لماذا صنع يسوع المعجزات؟ غالبية الناس على الأرجح سيجيبون بأنه صنعها لشعوره بالشفقة على الناس ولأنه أراد أن يريحهم من معاناتهم. وهذه الإجابة لا تحيد أنملة عن الحق وفقا لما جاء في الأناجيل الإزائية. بل إن الأمر يزيد حتى عن هذا، فالمعجزات في الأناجيل الإزائية تشير إلى أن مملكة الله التي طال انتظارها قد بدأت في الظهور في شخص يسوع:
رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ
لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ
أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ
ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ
... فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هَذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ.(لوقا 4 : 18 – 21 )

وفي فقرة أخرى يأتي تابعان من أتباع يوحنا المعمدان إلى يسوع يريدان أن يعرفا هل هو ذلك الآتي في نهاية الزمان، أم هل ينتظرون ظهور آخر. فيأمرهم يسوع:«اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ:اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ»(متى 11 : 2 : 6 ). فيسوع في الأناجيل الإزائية هو ذلك الشخص الذي انتظروه طويلا والذي سيفتح مملكة الله.
وحتى في هذه الأناجيل الثلاثة اللأكثر قدما، يرفض يسوع بوضوح تام أن يصنع معجزات بغرض إثبات حقيقة شخصه لغير المؤمنين من الناس. فها هم أولاء بعض القادة اليهود يسألون يسوع كما ورد في إنجيل متَّى:« يَا مُعَلِّمُ نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً»(متى 12 : 38 ). إنهم يطلبون برهانا يثبت أن سلطانه مستمد من الله. وبدلا من أن يجيب يسوع طلبهم، يصرح بقوة:«جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ». ثم يسترسل مفسرًا ما قاله بأنه كما كان يونان بالفعل ميتا لثلاثة أيام وثلاث ليال في بطن الحوت، فهكذا سيكون «ابن الإنسان» في «باطن الأرض» لثلاثة أيام وثلاث ليال.
ما ذكره يسوع هو إحالة إلى سفر يونان من الكتاب المقدس اليهودي وهو السفر الذي يحكي كيف أرسل الله النبي يونان إلى أعتى أعداء شعب إسرائيل وهم الأشوريون في مدينة نَيْنَوَى لكي يدعوهم إلى أن يسلكوا طريق التوبة. يرفض يونان ويبحر إلى اتجاه آخر. ويثير الرب عاصفة تغرق سفينته؛ ويدرك البحارة أن تمرد يونان على أمر الرب هو سبب العاصفة، ويقذفونه خارج السفينة إلى البحر. وتبتلعه سمكة ضخمة لكنه يتقيأه مرة أخرى بعد ثلاثة أيام على الشاطئ. ولئلا يعرض نفسه مرة أخرى لغضب الرب، ذهب يونان إلى نينوى وبشر بمضمون رسالته وحول المدينة إلى الإيمان بالرب.
يقارن يسوع حالته بما جرى مع يونان. فهو، أي يسوع، يدعو شعبا متمردًا إلى الإيمان، لكنه لا يتوب عن غيه. فيرفض يسوع، مع ذلك، أن يصنع معجزة لكي يثبت أوراق اعتماد من قبل السماء. البرهان الوحيد الذي سيمنحه الشعب سيكون «آية يونان» والتي توازي بحسب السياق في إنجيل متَّى آية القيامة. فسيموت يسوع لثلاثة أيام ثم سيظهر مرة أخرى. هذه الآية، وليس شيئا آخر فعله أثناء خدمته التبشيرية العامة، سيحتاجها لكي يقنع الناس بما يزعمه من الحق.
وهذه هي وجهة نظر بطول إنجيله وعرضه، وهي تساعدنا أن نفهم واحدة من أكثر قصصه إثارة للحيرة. فقبل أن يبدأ يسوع خدمته العامة يخرج إلى البرية ويجربه الشيطان ( متَّى 4 : 1 – 11 ). يذكر متَّى ثلاث إغراءات لكن اثنين منهم فحسب يتميزان بوضوح معنيهما. أما الأولى، فبعد أن يصوم يسوع أربعين يومًا عن الطعام، يحثه الشيطان على تحويل الحجارة إلى خبز. فيرفض يسوع: فمعجزاته ليست لنفسه، بل للآخرين. والإغراء الثالث كان أن يعبد يسوع الشيطان ويعطيه الأخير، كجائزة، ممالك الأرض. والإغراء واضح: فمن ذا الذي سيرفض أن يحكم العالم؟ لكن هذه انعطافة خاصة من متى عن منهجه، فهو يعلم أن يسوع سيحكم العالم في نهاية المطاف؟ لكن سيكون على يسوع أولا أن يموت على الصليب. هذا الإغراء ذكره الشيطان لكي يتخلى يسوع عن الصلب. ويرفض يسوع مرة ثانية: فالرب وحده هو المستحق للعبادة.
ولكن ما معنى هذا الإغراء الثاني في الترتيب؟ يأخذ الشيطان يسوع إلى أعلى الهيكل اليهودي ويحثه إلى أن يلقي بنفسه: فلو أنه سيفعل، فستنقض ملائكة الرب و ستحمله قبل أن يصاب له أصبع. ما المقصود من إغراء يلقي فيه المغرى بنفسه من فوق مبنى بارتفاع عشرة طوابق؟ يحتاج المرء أن يتفهم مسألة المكان الذي يقع فيه هذا: فالمكان هو أورشليم، قلب الديانة اليهودية، وفي الهيكل الذي يمثل مركز عبادة الرب. كثير من اليهود يتحركون حول المكان. يحث الشيطان يسوع على أن يلقي بنفسه، على مرأى من الجميع، حتى تظهر الملائكة وتمسك به. بكلمات أخرى أصيغ فكرتي: هذه محاولة لإغراء يسوع أن يقدم برهانا علنيا وإعجازيا للجماهير على أنه بالحق ابن الله. فيرفض يسوع هذه كذلك بحزم باعتبارها إغراء شيطاني قائلا:«لا تجرب الرب إلهك.»
في متى، لن يصنع يسوع آية ليثبت نفسه. ولهذا سميت معجزاته في هذا الإنجيل معجزات وليس آيات. فهي إثباتات للقوة المقصود بها مساعدة من يحتاجها من الناس ولتظهر أن ملكوت الله قد دنى موعد ظهوره.
فماذا عن يوحنا؟ في إنجيل يوحنا تسمى أفعال يسوع المذهلة آيات، وليس معجزات. وهو يصنع هذه الآيات تحديدًا لكي يثبت من هو يسوع، ولكي يقنع الشعب بأن يؤمنوا به. وحيث يزعم أنه «خبز الحياة»، يصنع آية أرغفة الخبز للجماهير (يوحنا 6 )؛ وبزعمه أنه «نور العالم»، يصنع آية شفاء الأعمى منذ مولده(يوحنا 9 )؛ ولزعمه أنه هو «القيامة والحياة»، يصنع معجزة إحياء أليعازر من الموات(يوحنا 11 ).
من المثير للدهشة أن قصة متَّى عن رفض يسوع إعطاء القادة اليهود آية، فيما عدا آية يونان، لا يمكننا العثور عليها في إنجيل يوحنا. ولكن ما السبب في هذا؟ فيما يرى يوحنا، يقضي يسوع مدة خدمته التبشيرية صانعا للآيات. ويلا يخبرنا يوحنا كذلك عن قصة الإغراءات الثلاثة في البرية. مرة أخرى كيف أمكنه ذلك؟ بالنسبة له، إثبات يسوع لهويته عبر الآيات الإعجازية ليس إغراءً شيطانيًّا، بل استجابة لنداء طبيعته الإلهية.
والمقصود من هذه الآيات هو تعزيز الإيمان بيسوع. وكما يخبر يسوع بنفسه موظفا ملكيا طلب منه أن يشفي ابنه:« لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!»(يوحنا 4 : 48 ). ويشفي يسوع الصبي فيأتي الرجل ليعلن إيمانه( 4 : 53 ). وهكذا كان مؤلف إنجيل يوحنا، كذلك، يعتقد أن الآيات هي التي برهنت على هوية يسوع وقادت الشعب إلى الإيمان:«وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ.»( يو 20 : 30 – 31 ). وبينما كانت الدلائل الخارقة للطبيعة على هوية يسوع هي منطقة محظورة في إنجيل متَّى، فإنها في يوحنا كانت السبب الجوهري لما صنعه يسوع من أعمال إعجازية.
بعض الفروق الجوهرية بين بولس ومؤلفي الأناجيل
فروق أساسية بين مؤلفي العهد الجديد يمكن العثور عليها ليس فقط في الأناجيل الأربعة بل وبين كثير من مؤلفي الأسفار الأخرى التي يضمها العهد الجديد مثل كتابات الرسول بولس.
سبق بولس مؤلفي الأناجيل إلى الكتابة. غالبية رسائله كانت قد ألفت في العقد الخامس من عمر الصر المسيحي وذلك قبل أقدم أناجيلنا، إنجيل مرقس، بعشرة أو بخمسة عشر عاما. كان بولس ومعه مؤلفوا الأناجيل يكتبون في فترة أعقبت وفاة يسوع، فيما لم يكن مؤلفو الأناجيل يسجلون ببساطة الأشياء التي صنعها يسوع «في الحقيقة» قولا وفعلا لمصلحة الأجيال التالية. لقد حكوا روايات تضم أقوال يسوع وأفعاله في ضوء ما مفاهيمهم اللاهوتية التي يؤمنون بها شخصيا كما رأينا هذا مرة بعد أخرى. لكن الكثير من الآراء التي يجدها المرء في رسائل بولس تختلف تماما مع ما يمكن للمرء أن يجده في الأناجيل وفي سفر الأعمال الذي كتبه مؤلف إنجيل لوقا.

بولس ومتَّى... بين الخلاص والشريعة
تعد مسألة تبرر الإنسان أمام الله وكيف ينال الإنسان هذه المرتبة سمة هامة من السمات التي تتميز بها تعاليم بولس. ولقد زعم بعض اللاهوتيين، منذ عصر الإصلاح على الأقل، أن هذه القضية مثلت بؤرة الاهتمام الأساسية للفكر البولسي. واليوم يعترف غالبية العلماء المتخصصين في فكر بولس بأن هذا الرأي لا يعدو أن يكون مجرد إفراط في التبسيط يتجاوز مقدارا كبيرا مما وصلنا في الرسائل البولسية السبع المتنازع عليها والتي ذكرناها في الفصل الثاني من هذا الكتاب. مع ذلك فمن المؤكد أن بولس كان مهتما بالكيفية التي يستطيع بها الأفراد- أولئك الذين كان مهتما بتحويلهم إلى الإيمان على سبيل المثال- أن يوضع في علاقة صحيحة مع الله، وكان مقتنعا بأن هذا لا يمكن أن يحدث إلا عبر التصديق بموت يسوع وقيامته وليس عبر اتباع ما تفرضه الشريعة من أحكام.

هذه العقيدة تتناقض إلى حدٍّ ما مع وجهات النظر الأخرى في العهد الجديد بما في ذلك تلك التي يقدمها متَّى في إنجيله. فهل كان أتباع يسوع بحاجة إلى أن يلتزموا بأحكام الشريعة اليهودية إذا رغبوا في نيل الخلاص؟ تعتمد الإجابة على هذا السؤال على أي المؤلفين الاثنين تسأل. وهل يعتمد التبرر أمام الله اعتمادًا تامًّا على الإيمان بيسوع مصلوبًا وقائمًا من بين الأموات؟ تختلف قصة واحدة على الأقل مما يذكره متَّى في إنجيله مع بولس في هذه القضية تحديدًا.
رؤية بولس «للتبرر»
يستعمل بولس كلمة «التبرر» للإشارة إلى إقامة المرء علاقة طيبة بالله وصلاحه في عيني الرب. رؤية بولس عن التبرر يمكن العثور عليها بشكل أساسي في رسائله إلى أهل غلاطية وأهل رومية. في هذه الرسائل استعمل بولس العديد من الطرق ليشرح كيف ينجح المرء في إقامة علاقة طيبة بالله وكيف يكون بارًّا أمامه. أشهر آرائه وأكثرها تغلغلا بشكل مثير للجدل( والتي نجدها في رسائله الأخرى كذلك) هي أن الإنسان «يتبرر بالإيمان» بموت يسوع وقيامته وليس بالالتزام بأعمال الشريعة اليهودية.
واحدة من الطرق التي يمكن للمرء أن يفهم بها عقيدة بولس اللاهوتية بخصوص التبرر هي أن يحاول التفكير بالمنطق ذاته الذي كان يفكر به. وهذا يتطلب أن نبدأ من البداية حينما لم يكن بولس واحدًا من أتباع يسوع بعدُ، بل كان بالأحرى شخص يرى في الإيمان بيسوع كفرًا يستحق فاعله مقاومة عنيفة. وكونه يكتب مؤلفاته بعد عشرين عاما من أيام اضطهاده للمؤمنين، لا يخبرنا بولس أبدًا ما الذي كان يجده في الأساس مستحقا للتوبيخ لهذه الدرجة في الإيمان المسيحي، وم ذلك فهناك بعض الافتراضات التي نجدها مبعثرة بطول رسائله وعرضها. ربما شعر بالإهانة من الادعاء ذاته بأن يسوع هو المسيا.
وهو، كيهودي ملتزم، وقبل تحوله للإيمان بيسوع، كان لديه بلا شك أفكاره عن شخصية المسيا وما هي صفاته. قبل أن تظهر المسيحية لم يكن ثمة يهودي واحد يؤمن بأن المسيا سيتألم ويموت. بل الأمر على العكس من ذلك تماما، فمهما كان ما يعتقده اليهود حيال هذا الأمر مختلفا من يهودي لآخر، إلا أنهم مجمعون على أن المسيا سيكون شخصية لها مهابتها وسلطانها ستنفذ إرادة الله على الأرض بالقوة المسلحة. لم يكن اليهود يفهمون معنى فقرات الكتاب المقدس التي تتحدث عن معاناة عبد الرب الصالح باعتبارها إشارة إلى المسيا.
لقد كان المسيا مشمولا بعناية خاصة من قبل الله وكان تعبيرا عن الوجود الفعال والقوي للرب على الأرض. فمن يسوع هذا؟ إنه مجرد مبشر مغمور متجول خرج على الشريعة ومات مصلوبا بتهمة التمرد على الدولة. لقد كان خلع لقب المسيا على يسوع في أعين غالبية يهود القرن الأول الميلادي لا يعدو أن يكون مجرد مزحة في أحسن الأحوال أو هرطقة وكفرا في أسوأها. ليس هناك ما هو أكثر جنونا من ذلك وليس هناك من هو أقل حظا في الانتساب إلى المسيانية من مجرم مات مصلوبا(أنظر 1 كورنثوس 1 : 23 ). من الواضح أن بولس كان يفكر على هذا النحو هو الآخر. لكن شئ ما حدث لبولس بعد ذلك. فقد زعم فيما بعد أنه رأى يسوع في رؤيا بعد وفاته( 1 كورينثوس 15 : 8 ). هذه الرؤيا أقنعته بأن يسوع لم يكن ميتا. ولكن أنَّى ليسوع أن يكون كذلك؟
كان بولس، قبل تحوله للإيمان بيسوع، باعتباره يهوديًّا رؤويًّا، يؤمن بفكرة مفادها أنه بنهاية هذا العصر الذي يسيطر فيه الأشرار سيكون ثمة بعث للموتى، وأن الله عندما سيطيح بقوى الشر سيبعث كل الموتى وسيحاسب الجميع على أعمالهم فيمنح الأخيار جزاءهم الأبدي والأشرار عقابهم الأبدي. لو لم يكن يسوع ميتا، كما «علم» بولس ، لأنه قد رآه حيا (فلنقل قبل ذلك بعام أو بعامين)، إذن فهذا لأن الله قد أقامه من بين الأموات. لكن إذا كان الله قد بعثه حيا من بين الأموات، فهذا يعني إذن أنه كان ذلك الذي اجتباه الله بعنايته الخاصة. فهو إذن المسيا، ولكن ليس بالمقاييس التي كان يظنها أي يهودي من قبل، ولكن بمقاييس ما مغايرة.
ولكن إذا كان هو نفسه مختار الله، أو المسيا، فلماذا مات؟ من هذه النقطة نبدأ في التفكير مع بولس – أو بطريقة معكوسة، كما حدث الأمر بالفعل، مبتدئين من النهاية، ثم التحرك إلى الوراء إلى موت يسوع فوفاته. كان بولس يعتقد أن يسوع ينبغي ألا يموت من أجل باطل اجترحه إذا كان هو المسيا المشمول بعناية خاصة من الله. لا يجوز في حقه أن يموت من أجل آثامه الشخصية. فلماذا إذن؟ لا شك أن الإجابة ستكون: من أجل ذنوب الآخرين. مثل الذبائح المقدمة في هيكل أورشليم، كان يسوع ذبيحة مسفوكة دمائها من أجل الخطايا التي اجترحها الآخرون.
فلماذا سيميت الله يسوع من أجل الآخرين؟ بديهي أن هذا وقع لأنه ليس سبيل لعمل أضحية خالية من العيوب إلا عبر أضحية بشرية. وإذن فنظام الأضحيات اليهودي ليس صالحا للتعامل مع الخطايا. ولكن: هل يعني هذا أن الله قد غير فكره بشأن الطريقة التي على البشر أن يتبعوها لكي يتصالحوا مع الله؟ ألم يدعُ الشعب اليهودي ليكونوا شعبه الخاص وأعطاهم شريعته حتى يتميزوا عن الشعوب الأخرى باعتبارهم شعب الله المختار؟ نعم، يجيب بولس، لقد فعل. فلابد إذن أن الشريعة والأنبياء يشيرون إلى المسيح الذي هو الحل الإلهي النهائي للمشكلة الإنسانية.
لكن ما هي مشكلة الإنسان؟ كل إنسان- يتساوى في ذلك اليهودي والأممي- فيما يبدو قد انتهك شريعة الله ويحتاج للأضحية التي بلا عيب من أجل غفران خطاياه. لكن هذا سيعني أن يقبل كل إنسان، يهودي كان أم أممي، أضحية مسيح الله هذه لكي تغفر خطاياه أو يكفر عنها أمام الله. ولكن ألا يتبرر الناس أمام الله باتباعهم ما أمر الله به في الشريعة؟ مطلقا. فلو كان هذا ممكنا، فلا مبرر لأن يصلب المسيا. لقد سفك يسوع دمه، عبر صلبه، من أجل الآخرين وليصنع أضحية كفارة للخطايا. وهؤلاء الذين سيؤمنون بموته( وقيامته التي أظهرت أن موته كان جزءًا من خطة إلهية) سيتبرر أمام الله أي سيسلك مع الله سبيل الطاعة. ومن لا يفعل، فليس بمتبرر.
كل هذا إنما يعني أن الالتزام بالشريعة اليهودية ليس له محل من الخلاص. بل حتى اليهود الذين يحفظون أحكام الشريعة لأقصى درجة لا يمكن أن يتبرروا أمام الله عبر الشريعة. وماذا عن الأمميين: هل عليهم أن يصيروا يهودًا وأن يحاولوا الالتزام بالشريعة بمجرد أن يتحولوا إلى الإيمان بالمسيح؟ إجابة بولس على هذا السؤال هي النفي البات. إن محاولة الالتزام بأحكام الشريعة ستظهر أن شخصا ما يعتقد أن بمقدوره استحقاق عفو الله – أي أن له حقوق الافتخار، إذا جاز التعبير. فمن يحاول التبرر أمام الله عبر محافظته على أحكام الشريعة ما يزال منغمسا في الخطيئة ومحاولته هكذا ستكون عبثا وبلا طائل.
السبيل الوحيد الذي على المرء أن يسلكه لكي يكون بارًّا فهو أن يؤمن بموت يسوع وقيامته. فها هو ذا بولس في العدد 2 : 16 من الرسالة إلى أهل غلاطية يقول:«إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا.»
وهذه هي تعاليم بولس بطول الرسالة إلى رومية(1- 3 ) والرسالة إلى أهل غلاطية(1 – 3). أتباع يسوع ليس عليهم أن يحاولوا التمسك بأحكام الشريعة إلا إذا كان هذا الاتباع مقصورًا على «أحب الجار كحبك نفسك» كما أن العيش وفق قانون أخلاقي خيِّر ما يزال أمرًا يتوقع الله من شعبه أن يستمسكوا به. لكن اتِّباع وصايا الشريعة ومتطلباتها- مثل الختان وأكل الحلال وتقديس السبت والمناسبات الدينية اليهودية الأخرى- فليس بينه ما هو ضروري لتحقيق الخلاص، وإذا ظننت(وعملت) على نحو مغاير لهذا، فخطر خسارتك للخلاص يحيط بك ويتهددك(غلاطية 5 : 4 ).[4]

آراء بولس ومتى حول الشريعة

كثيرا ما تساءلت عن ما كان سيحدث لو أن بولس ومتى قد أغلق عليهما باب غرفة معا وقيل لهما إنهما لن يخرجا منها ما لم يتوصلا إلى وثيقة يُجْمِعَان فيها على رأي موحد فيما يتعلق بالكيفية التي ينبغي على أتباع يسوع أن يتعاملوا بها مع الشريعة اليهودية. فهل كان سيأتي عليهما يوم يخرجان فيه من هذه الغرفة، أم كانا سيظلان فيها إلى الأبد هيكلين عظميين في قبضة الموت؟
لو كان متَّى، الذي بدأ في الكتابة بعد بولس بخمس وعشرين أو بثلاثين عاما، قد قرأ يوما رسائل بولس، فلا شك أنه لم يكن سيراها ملهِمَة له، فضلا عن أن تكون نتاج إلهام سماوي. كان متى يحمل رؤية مغايرة للرؤية التي كان بولس يعتنقها حيال الشريعة. فمتى يعتقد أن أتباع يسوع ملزمون بالاستمساك بالشريعة. وهم، في الواقع، في حاجة إلى أن يكون التزامهم بها أكثر من استمساك أكثر اليهود تدينا: أعني الكتبة والفريسيين. فلقد نقل إنجيل متى عن يسوع قوله:

«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ.مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هَذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هَكَذَا يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ فَهَذَا يُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ.»
فأما بولس فكان يعتقد أن أتباع يسوع الذين سعوا إلى التمسك بالشريعة كان خطر خسارة الخلاص يتهددهم. وأما متى فقد كان يعتقد أن أتباع يسوع الذين لم يتمسكوا بالشريعة منهجا، وحتى أكثر من متديني اليهود، لن يروا خلصا أبدًا. وقد حاول اللاهوتيون والمفسرون عبر السنين أن يوفقوا بين هاتين الرؤيتين واللتان يمكن رصدهما لأنهما معا يمثلان جزءًا من القائمة الرسمية للكتاب المقدس. لكن أي إنسان يقرأ إنجيل متى ثم يعقبه بقراءة الرسالة إلى أهل غلاطية لن يظن أن ثمة سببا أو حتى طريقة ممكنة للتوفيق بين هاتين الإفادتين. فلكي تصبح عظيما في الملكوت، فيما يرى متَّى، فهذا يتطلب منك أن تستمسك بالوصايا جميعا حتى أقلها؛ بل إن دخول الملكوت يتطلب أن تحفظ الوصايا أكثر من حفظ الكتبة والفريسيين لها. بينما يرى بولس أن الدخول إلى مملكة الله ( وهي الطريقة الأخرى للتعبير عن معنى «التبرر») لا يكون ممكنا إلى عبر موت يسوع وقيامته من الأموات؛ وهو يرى أن اتباع الأمميين لوصايا الشريعة اليهودية(الختان على سبيل المثال) هو أمر محرم تحريما صارما.
متى بطبيعة الحال يعرف كل شئ عن موت يسوع وقيامته. فقد أنفق قدرا كبيرا من صفحات الإنجيل في رواية أحداثهما. وهو كذلك يعتقد أنه من غير موت يسوع لا يمكن أن يكون ثمة خلاص. لكن الخلاص يتطلب كذلك الاستمساك بوصايا شريعة الرب. فالله في النهاية هو من أوصى بهذه الوصايا. ويفترض أنه كان يعني ما وصى به ابتداءً وأنه لم يغير رأيه فيه انتهاءً.
هناك في إنجيل متَّى فقرة واحدة تفترض أن الخلاص ليس مجرد مسألة إيمان، بل هو كذلك مسألة عمل، وهي التصور الغريب تماما عن الفكر البولسي. ففي واحدة من أعظم المحاورات التي انخرط فيها يسوع، والتي لا نجدها سوى في إنجيل متَّى، يصف يسوع يوم الدينونة الذي سيأتي في نهاية الزمان. فابن الإنسان سيأتي في مجده محاطا بملائكته وسيجمع الناس من جميع أمم الأرض فيقفون أمامه (متى 25 : 31 – 45 ). وها هو ذا يقسمهم إلى فريقين « كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ .» فالخراف تكون عن يمينه والجداء تكون عن يساره. فيرحب بالخراف الذين عن يمينه في ملكوت أبيه «الْمُعَدَّ لَهُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ». ولماذا أدخل هؤلاء إلى الملكوت يا ترى؟ .
«لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي.عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ »
ومع ذلك ف«القطيع» يظل حائرًا. فهم لا يتذكرون أبدًا لقاءهم بيسوع، أو ابن الإنسان، ناهيك عن صنعهم لكل هذه الأشياء له. لكنه يخبرهم:« بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ.» أي أن اعتناءهم بالجوعى والعطشى والعراة والمرضى والمسجونين، إذا صغناها بطريقة أخرى، هو ما أورثهم ملكوت الله.
أما الجداء، التي على يساره، فيرسلها إلى «النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ». ولماذا؟ خلافا لما فعلته الخراف، هؤلاء لم يعتنوا بابن الإنسان حينما احتاجهم. فإذا هم حيارى هم الآخرون، فهم لا يتذكرون لقاءهم بابن الإنسان مطلقا. لكنهم رأوا الآخرين معوزين فأداروا لهم ظهورهم:«بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا.» ويختم متى روايته بهذا التصريح القوي:« فَيَمْضِي هَؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ.» وهذه هي آخر الكلمات العلنية التي قالها يسوع في إنجيل متَّى.
كيف تتناقض هذه الكلمات مع أفكار بولس؟ ليس إلى حدٍّ بعيد. كان بولس يؤمن بأن الحياة الأبدية ينالها الذين يؤمنون بموت يسوع وقيامته. في رواية متَّى عن الخراف والجداء، ينال الخلاص من لم يسمع مطلقا بيسوع. يناله هؤلاء الذين يعاملون الآخرين معاملة إنسانية وباهتمام في ساعة عوزهم الشديد. وهذه نظرة مختلفة تماما لقضية الخلاص.[
وثمة رواية أخرى مثيرة للدهشة في إنجيل متَّى. ففيه يفِدُ غنيٌّ على يسوع ويسأله:« أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟» فيخبره يسوع:« إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ فَاحْفَظِ الْوَصَايَا.» وحينما يسأله الرجل:«أية الوصايا؟» يعدد له يسوع بعضا من الوصايا العشر كأمثلة. فإذا بالرجل يصر على أنه بالفعل قد التزم بها جميعا ويضيف: فَمَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ؟ فيجيبه يسوع أنه لابد أن يتنازل عن كل أملاكه «فَيَكُونَ لَهُ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ»(متى 19 : 16 – 22 ). ثم يقول له يسوع:« وَتَعَالَ اتْبَعْنِي»(لاحظ أن اتباع يسوع يأتي بعد أن يرث الرجل الكنوز السمائية في أعقاب تنازله عن كل ما يملك.)
إنني أتساءل: ماذا كان سيحدث لو أن الرجل نفسه كان قد أتى إلى بولس قبل ذلك بعشرين سنة؟ لو أن امرءًا سأل بولس عن السبيل إلى نوال الحياة الأبدية، فهل كان سيقول له:« احْفَظِ الْوَصَايَا»؟ لا بالطبع، ليس بولس. ليس للوصايا علاقة بالخلاص. إنما موت يسوع وقيامته هما اللذان يجلبانه. وهل كان بولس سيقول له إن تنازله عن كل ما يملك يكسبه كنوزًا في السماء؟ مستحيل. فالإيمان وحده القادر على أن يجلب الحياة الأبدية.
ليس بوسع المرء أن يجادل في أن يسوع كان يتحدث عن خلاص يسبق موته، بينما بولس يتحدث عن خلاص يليه، وذلك لأن متَّى كان يكتب في فترة تالية لفترة بولس. فوق ذلك نجد يسوع، في متَّى، متحدثا عن الدينونة الأخيرة والتي من الواضح أنها ستحدث بعد موته وقيامته. وهكذا فالمشكلة تتمثل في التالي: لو أن يسوع، بحسب تصوير متى له، كان على حق في قوله إن التمسك بالشريعة ومحبة المرء للآخرين كمحبته نفسه قادرة على جلب الخلاص، فكيف يكون بولس هو الآخر محقا في اعتقاده بأن فعل هذه الأشياء لا يمت إلى نيل الخلاص بأي صلة؟ العديد من وجهات النظر الأخرى المختلفة داخل العهد الجديد
هناك اختلافات أخرى منها ما هو عميق ومنها ما هو سطحي داخل أسفار العهد الجديد. توجيه عدد من الأئلة الموجهة سيكون أنسب الطرق لسرد عدد قليل من النماذج.
ما الغرض من موت يسوع؟
موت يسوع هو قضية محورية في فكر كل من بولس من جهة ومؤلفي الأناجيل الأربعة كل على حدى من جهة أخرى. ومع ذلك فلماذا مات يسوع؟ وما علاقة التي بين موته هذا وبين الخلاص؟ يعتمد الجواب على السؤال التالي: أي مؤلف منهم تقرأ له؟
مرقس واضح تمام في القول بإن موت يسوع مكفر للخطية. وكما يقول يسوع نفسه في إصحاح متقدم من إنجيل مرقس: «لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضاً لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ»(مر 10 : 45 ). لقد كان موت يسوع الفدية التي بذلت من أجل الدين الذي يدين به الآخرون الله جراء إثمهم؛ إنها من ثم تضحية تكفيرية.
أما لوقا فقد استعمل مرقس كمصدر من مصادره فأضاف فيه وحذف منه وحرَّف كلمات كلما وجد إلى ذلك سبيلا. فماذا فعل في الأعداد محل البحث يا تُرى؟ لقد حذفها فلم يبق لها أثرًا. ولماذا سيقدم على حذف هذا العدد؟ من المحتمل أن هذا العدد يقدم مفهوما مغايرا لموت يسوع عن ذلك الذي يؤمن به لوقا.
في هذا الصدد، من المثير للصدمة في إنجيل مرقس أن «الدليل» على أن موت يسوع قد جلب تكفيرا للخطايا نجده بعد موت يسوع بوقت يسير حينما ينشق حجاب الهيكل إلى شقين كاشفا أنه بموت يسوع انفتح الطريق المسدود إلى الله أمام الناس. لكن لوقا يبدل التوقيت: فانشقاق الحجاب يحدث بينما يكون يسوع ما يزال حيا يرزق. يعتقد كثير من العلماء أن لهذا الأمر أهمية بالغة: فانشقاق الحجاب لا يعني أن لموت يسوع أهمية كفارية، بل هو إشارة إلى حكم الله على هيكل اليهود، الذي هو تصريح رمزي بأن مصير الهيكل إلى دمار.
وهكذا يثور السؤال: لأي غرض مات يسوع بحسب إنجيل لوقا؟ تزداد القضية وضوحا في الجزء الثاني من إنجيل لوقا، وأعني به سفر الأعمال، حيث يبشر الرسل بالخلاص الذي جاء في المسيح لكي يحولوا الآخرين إلى الإيمان. لم يحدث في واحدة من هذه المواعظ التبشيرية أن ذكرت ولو كلمة واحدة عن القيمة الكفارية لوفاة يسوع. بل كانت الرسالة الثابتة، بدلا من ذلك، أن الناس مدانون لرفضهم لرسول الله إليهم ولإقدامهم على قتله. موت البرئ(يسوع) ينبغي أن يدفع الناس إلى التوبة عن ذنوبهم والرجوع إلى الله حتى يغفر لهم ( أنظر أع 2 : 36 – 38 ؛ 3 : 17 – 19 ). إن رؤية لوقا يمكن تلخيصها في أن الخلاص يأتي لا عبر التضحية الكفارية بل بالغفران الذي تسبقه التوبة.[1]
ولكن أليس للكفارة والمغفرة المدلول نفسه؟ على الإطلاق. مدلول كل كلمة منهما يتضح من المثال التالي. فلنفترض أنك تدين لي بمائة من الدولارات ولكنك عاجز عن الوفاء بالدين، و أن أمامك سبيلين لحل هذه المشكلة. شخص غيرك(صديقك أو أخوك أو والداك) بمقدوره أن يدفع المائة دولار بدلا عنك. فهذا سيبدو مشابها للكفارة: أن يتحمل عنك شخص آخر عقابك. أو بمقدوري بكل بساطة أن أقول، كبديل عن الحالة الأولى، التالي: «لا عليك، لا أريد منك مالي.» هذا سيكون مثل المغفرة والتي لا يدفع في ظلها أحد شيئا، بل يتنازل الله بكل بساطة عن ما له من دين.
لموت يسوع في إنجيلي مرقس ولوقا أهمية بالغة. لكن موته عند مرقس هو كفارة؛ أما عند لوقا فهو سبب يدرك الناس عبره أنهم خاطئون وأن عليهم العودة إلى الله طلبا للغفران. فالغرض من موت يسوع مختلف إذن تمام الاختلاف وهذا يدركه المرء باختلاف المؤلف الذي يقرأ له.
متى أصبح يسوع ابنا لله وربا ومسيحا؟
الخطب التبشيرية التي وردت في سفر الأعمال لا تتعامل فحسب مع مسائل الخلاص؛ كما أنها تقدم شهادات صريحة بشأن المسيح وكيف رفعه الله بعد موته. أما بولس، ففي حديثه لمجموعة من المتنصرين المحتملين من أنطاكية الواقعة في مدينة بيسيدية يتكلم عن رفع المسيح وكيف أنه كان مصداقا لنبوءات وردت في الكتاب المقدس:
«وَنَحْنُ نُبَشِّرُكُمْ بِالْمَوْعِدِ الَّذِي صَارَ لِآبَائِنَا إِنَّ اللهَ قَدْ أَكْمَلَ هَذَا لَنَا نَحْنُ أَوْلاَدَهُمْ إِذْ أَقَامَ يَسُوعَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أَيْضاً فِي الْمَزْمُورِ الثَّانِي: أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ.»
اليوم الذي صار فيه يسوع ابنا لله، بحسب النص بالأعلى، هو يوم قيامته من بين الأموات. مع ذلك، كيف يتماشى هذا ما يقوله لوقا في مواضع أخرى؟ ففي إنجيل لوقا، يلقي الصوت الكلمات نفسها:« أنت ابني، أنا اليوم ولدتك»(لوقا 3 : 22 )، بينما يجري تعميد يسوع.[2] بل في لحظة سابقة للحظة العماد، أعلن الملاك جبريل لمريم قبل الحمل بيسوع وميلاده أن «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ.»(لوقا 1 : 35 ). يسوع في هذا الموقف كما يبدو هو ابن الله بسبب الحمل العذري: فهو ابنٌ الله بنوةً جسدية. فكيف يمكن للوقا أن يقول الأشياء الثلاثة مجتمعين؟ لست على يقين من قدرة أحد على التوفيق بين هذه الروايات؛ لكن من المحتمل أن لوقا حصل على هذه التقاليد المتباينة من مصادر متباينة لا يتفق أحدها مع الآخر في هذه القضية.
هذا النوع ذاته من المشكلات يقع مع بعض الأشياء الأخرى التي يقولها لوقا عن يسوع. ففي خطبة ألقاها بطرس في يوم عيد الخمسين، على سبيل المثال، يتناول في حديثه موت يسوع ويؤكد أن الله قد أقامه ورفعه إلى السماء:« فَلْيَعْلَمْ يَقِيناً جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ رَبّاً وَمَسِيحاً»( أع 2 : 36 ). هنا لمرة أخرى يبدو أن يسوع يتلقى على مكانة الرفع عند قيامته- أي أنه في هذه اللحظة «جعله الله» ربا ومسيحا. ومع ذلك ففيما سيفكر المرء إذن بشأن قصة الميلاد في إنجيل لوقا الذي يخبر فيه الملاك الرعاة الذين كانوا « يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ» أنه قد «وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ»(لو 2 : 11 ). في هذه الحادثة، عُدَّ يسوع مسبقًا ربًّا ومسيحًا عند لحظة ميلاده. فكيف صار المسيح في موقفين مختلفتين من الناحية الزمنية الشيئين كليهما: مسيحا وربا؟ هذه فيما يبدو حالة أخرى يقع فيه تناقض داخلي في ثنايا كتابات لوقا الشخصية، ومردُّ ذلك أن هناك على الراجح مصدرين مختلفين استعملا لبناء هاتين الروايتين.
هل تغاضى الله عن جهل الوثنيين؟
رأينا كيف أن سفر الأعمال يقدم من حين لآخر تناقضات ليست بينه وبين الأناجيل فحسب، بل يتعدى الأمر ذلك إلى التناقض مع كتابات بولس، بطل الروايات الواردة في سفر الأعمال نفسه. أحد الأمثلة بالغة الطرافة تحدث في واحد من المواقف القليلة في سفر الأعمال التي يقال فيها إن بولس ألقى خطابا على جمهور من الوثنين، وأعني بها موعظته التي ألقاها أمام الفلاسفة في أثينا بينما كان واقفا وسط تلة أريوس باجوس(أع 17 : 22 – 31 ). يبدأ بولس موعظته بالثناء على تدين مستمعيه العظيم، لكنه يواصل حديثه مشيرا إلى أنهم قد ارتكبوا إثما عظيما باعتقادهم أنه لكي يعبدوا الله فينبغي أن يتوجهوا للأصنام بالعبادة، وذلك لأن الله «لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِالأَيَادِي». بل هو بخلاف ذلك رب الأرض وخالق كل شئ. لكن « اللَّهَ الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا مُتَغَاضِياً عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ». هذا العدد هو واحد من الأعداد المحورية. لقد عبد الوثنيون، وفقا لكلمات بولس، آلهة الوثنين الباطلة بسبب جهلهم. فهؤلاء ببساطة لا يعرفون ما هو أفضل من ذلك. وقد تغاضى الله عن كل ذلك وأعطاهم فرصة الآن لكي يواجهوا الحقيقة وأن يأتوا إلى الإيمان به عبر المسيح الذي أقيم من بين الأموات.
ما يجعل وجهة النظر هذه بالغة الطرافة هو أن بولس ذاته يتحدث عن الديانات الوثنية في واحدة من رسائله ويصرح بما لا يدع مجالا للشك في أنه لا يعتقد مطلقا أن الوثنيين يعبدون الأصنام نتيجة جهلهم، أو أن الله قد تغاضى عن أعمالهم أملا في رجوعهم إليهم بالتوبة.
ففي الرسالة إلى أهل رومية، العدد 1 : 18 – 32 ، يشير بولس إلى العكس من ذلك تماما، فـ«غضب الله» منصب على الوثنيين لأنهم رفضوا معرفة الله المجبولين عليها بالفطرة عمدا وعن وعي:« إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ»(رومية 1 : 19 ). فهم ما سعوا إلى أوهامهم الدينية بسبب جهلهم بل عن معرفة كاملة بالحق:« لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلَهٍ... وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى وَالطُّيُورِ وَالدَّوَابِّ وَالزَّحَّافَاتِ.»
فهل تغاضى الله عن خطيئاتهم؟ مطلقا:«إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ» والله يعاقبهم، ليس فقط في زمان ما غير معلوم سيأتي في المستقبل، بل في الحاضر كذلك بأن يجعلهم أو يسمح لهم بأن يصيروا أكثر فسادا وشرا وفسوقا.
وهكذا فلدينا تصوران مختلفان لوجهة نظر بولس حيال الوثنيين وعبادتهم للأوثان. هل عبدوا الأوثان جهلا منهم؟ «بولس» سفر الأعمال يجيبنا ب«نعم»، أما بولس بحسب كتاباته الشخصية فيجيبنا ب«لا». وهل الوثنينون مسئولون عن أعمالهم الوثنية؟ يقول سفر الأعمال:«لا»، أما بولس فيجيبنا أن «نعم». وهل الله يوقع حكمه الغاضب عليهم في الحاضر كنتيجة لذلك؟ مرة أخرى يجيبنا سفر الأعمال ب«لا» التي تتناقض مع إجابة بولس بـ«نعم».
لقد سعى العلماء كثيرا للتوفيق بين هاتين الرؤيتين المتقابلتين. في الغالب الأعم يزعمون أن بولس في سفر الأعمال، بما أنه يتحدث إليهم حديثا مباشرًا تسوده الرغبة في تحويلهم إلى الإيمان، فهو لا يصارحهم بحقيقة ما يعتقده نحوهم ولذلك نراه يمسك عن الإساءة إليهم. أصارحكم القول إنني كنت على الدوام أجد أن وجهة النظر هذه يصعب قبولها. فهذا سيعني أن بولس، بغية كسب بعض المؤمنين إلى المسيحية، كان سيكذب صراحة في حديثه عما يعتقد أنه وجهة نظر الرب فيما اقترفوه من أعمال دينية. لقد كان بولس يتصف بصفات عديدة، ليس من بينها بحسب ما أعتقد أنه كان منافقا. كان بولس سيعظهم ببعض الحديث عن بحيرة النار والكبريت لكي يجعلهم يدركون فداحة السبيل الذي يسيرون فيه؛ إن اللباقة والحس المرهف المرهف هما سمتان نادرتا الحدوث في شخصية بولس التاريخية. بل الأمر فيما يبدو هو أن بولس كما يصوره سفر الأعمال يختلف اختلافا جذريا عن شخصية بولس الحقيقية على الأقل عندما يأتي الحديث عن قضية جوهرية مثل رد الفعل الإلهي تجاه عبادة الوثنيين للأصنام.
هل الإمبراطورية الرومانية قوة خير أم قوة شر؟
سؤالي الأخير بشأن تناقض جوهري في وجهات النظر هو سؤال وجهه الكثيرون من المسيحيين الأوائل: ما هو التوجه المسيحي اللائق تجاه الدولة؟ فأما المؤلفون المختلفون فقد أجابوا على هذا السؤال أجوبة مختلفة ؛ وفي كثير من الأحيان تكون بعض هذه الإجابات مخالفة لبعضها الآخر. يمثل الرسول بولس لون واحد من ألوان الطيف :
«لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين الْفَائِقَةِ لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً. فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفاً لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثاً إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ.»(رومية 13 : 1 – 4 ).
السلطات الحاكمة هي إذن من الله وقد نصبها الله أجل إقرار الصلاح وينبغي ألا يقاومهم أحد لأن من يفعل ذلك فمقاومته هي لله وليس لهم.
وجهة النظر المقابلة لهذه يمثلها سفر الرؤيا والذي يرى أن القوى الحاكمة هي قوى شريرة نصبتها قوى الشر وتسيطر عليها وهي عرضة في نهاية المطاف لعقاب الله الذي لا مردَّ له. في هذا السفر يمثَّل للـ«سلطات الحاكمة» بالمسيح الدجال وأتباعه. كما توصف مدينة روما في السفر نفسه بأنها «الزانية العظيمة» و«أم الزواني» و«أم الرجاسات» «والشاربة حتى الثمالة من دماء القديسين وشاهدي يسوع.» مع ذلك، لماذا ينبغي أن يعتقد البعض أن «زانية بابل» التي ورد ذكرها في سفر الرؤيا، الأصحاح 17، تشير إلى الحكام الرومان، أولئك الذين أضفى عليهم بولس كل هذا المديح؟ السبب هو أن ملاكا أعطانا تفسيرًا لمعنى هذه الرؤية التي تخص «زانية بابل». إن الوحش الذي تجلس عليه له سبعة رؤوس والتي تمثل «السبع جبال التي تجلس عليها المرأة»؛ وهي نفسها (المرأة) تمثل«المدينة العظيمة التي لها ملك على ملوك الأرض»( رؤ 17 : 18 ). فما هي المدينة العظيمة المسيطرة خلال القرن الميلادي الأول والتي كانت تجلس على سبع جبال؟ إنها روما بلا شك تلك المدينة التي بنيت على «سَبْعَةُ جِبَال.»
إن روما، كما صورها سفر الرؤيا، ليست مؤسسة خيرة أنشئت لتعمل على بسط الخير، كما إنها ليست خادمة للرب عينها من أجل رفاهية شعب الله كما يصورها بولس. إنها، في سفر الرؤيا، سلطة شنيعة وقذرة وعديمة الأخلاق على نحو فاضح ومستبدة استبدادا مبني على طبيعتها العنيفة، لم يعينها الرب، بل أعداؤه نصَّبوها. لكن يومها آت؛ وسيسحقها الرب عن قريب لكي يقيم مملكته الخيرة ويطيح بزانية بابل من على وجه الأرض.
. الخاتمة
لقد قمت منذ 25 عاما تقريبا إلى الآن بإلقاء دروس حول العهد الجديد في الجامعات، وخاصة جامعتي «روتجرز» و«نورثيرن كارولينا» بـ«تشابيل هيل». وكان ما وجدته أصعب الدروس صعوبة طوال كل تلك الفترة الزمنية في إيصاله إلى عقول الطلاب-أو أصعب الدروس التي كان علي أن أقنعهم بها- هو أن كل مؤلف من مؤلفي الكتاب المقدس، كما يزعم منهج النقد التاريخي، هو بحاجة لأن يسمح له أن يعبر عن رأيه الخاص بحرية، حيث يتحتم على هذا المؤلف أو ذاك وذلك في كثير من المواقف أن يكون له رأي في موضوع ما مختلف عن رأي المؤلف الآخر. في بعض الأحيان يكون الهدف من هذه الاختلافات إبراز شئ ما أو التأكيد عليه؛ وأحيانا تكون الاختلافات تناقضاتٍ بين روايتين مختلفتين أو بين أفكار مؤلفين مختلفين؛ وأحيانا تكون هذه التناقضات من الاتساع بحيث تؤثر لا في تفاصيل لا قيمة لها داخل نص بل في قضايا كبار كان هؤلاء المؤلفون يعالجونها.
حاولت أن أغطي بعضًا من التناقضات الطريفة «البالغة الأهمية» في هذا الفصل: من يسوع؟ كيف كان مجيئه إلى العالم؟ ما ماهية تعاليمه حينها؟ ماذا كان رد فعله تجاه حادثة موته؟ لماذا كان عليه أن يموت؟ كيف يتبرر الناس أمام الله؟ كيف ينبغي أن يتعامل المسيحيون مع السلطات الحاكمة؟ هذه القضايا هي قضايا محورية بالغة الأهمية بكل المقاييس. وبتنوع شخصيات مؤلفي العهد الجديد تنوعت الإجابات عليها.
من هم هؤلاء المؤلفين الذين كان عليهم أن يختلف أحدهم مع الآخر لوقت طويل حول مثل هذه القضايا الأساسية؟ هذا هو الموضوع الذي سيحتل فصلنا التالي في فحصنا لكتابات العهد الجديد على أساس أسس علم النقد التاريخي: فمن كتب الكتاب المقدس في الحقيقة؟
Jesus, Interrupted: Revealing the Hidden Contradictions in the Bible



#مهرائيل_هرمينا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تناقضات العهد الجديد المنقح21
- تناقضات العهد الجديد المنقح18
- تناقضات العهد الجديد المنقح19
- تناقضات العهد الجديد المنقح16
- تناقضات العهد الجديد المنقح17
- اسطورة العود الابدى ميرسيا الياد
- تناقضات العهد الجديد المنقح15
- تناقضات العهد الجديد المنقح13
- تناقضات العهد الجديد المنقح14
- تناقضات العهد الجديد المنقح11
- تناقضات العهد الجديد المنقح12
- تناقضات العهد الجديد المنقح9
- تناقضات العهد الجديد المنقح10
- تناقضات العهد الجديد المنقح8
- تناقضات العهد الجديد المنقح5
- تناقضات العهد الجديد المنقح6
- اريوسى..مؤرخ الكنيسة
- تناقضات العهد الجديد المنقح4
- تناقضات العهد الجديد المنقح2
- تناقضات العهد الجديد المنقح3


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف موقع اسرائيلي حيوي ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف قاعدة -عوفدا- الجو ...
- معرض روسي مصري في دار الإفتاء المصرية
- -مستمرون في عملياتنا-.. -المقاومة الإسلامية في العراق- تعلن ...
- تونس: إلغاء الاحتفال السنوي لليهود في جربة بسبب الحرب في غزة ...
- اليهود الإيرانيون في إسرائيل.. مشاعر مختلطة وسط التوتر
- تونس تلغي الاحتفال السنوي لليهود لهذا العام
- تونس: إلغاء الاحتفالات اليهودية بجزيرة جربة بسبب الحرب على غ ...
- المسلمون.. الغائب الأكبر في الانتخابات الهندية
- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مهرائيل هرمينا - تناقضات العهد الجديد المنقح20