أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جمال البزويقي - في ذكرى اغتيال باتريس لوممبا















المزيد.....

في ذكرى اغتيال باتريس لوممبا


جمال البزويقي

الحوار المتمدن-العدد: 5405 - 2017 / 1 / 17 - 09:27
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


انه يناير 1961، باتريس ينزل بمطار اليزابيثفيل رفقة مصاحبيه ليتم توقيفهم من قبل مجموعة درك كانتانغا يتقدمهم تشومبي الحليف اللدود لموبوتو، في الخلف كان ستة جنود سويديين تابعين لقوات الأمم المتحدة يؤمنون سلامة العملية، ليتم نقل باتريس ورفاقه في سيارة جيب يقودها ضابط بلجيكي الى سجن خاص بالجيش البلجيكي، ويعدموا رميا بالرصاص على يد كتيبة اعدام بلجيكية بقيادة الضابط جيرارد سويت، و يتم تقطيعهم الى قطع صغيرة تم اذابتها في حمض الكبريت الذي أتت به شاحنة مملوكة لشركة التعدين البلجيكية، و ستمر عدة سنوات ليعترف سويت في لقاء تلفزيوني أنه احتفظ باثنين من أسنان لومومبا كتذكار، و تبدأ موجة كشف الحقائق الغريبة التي اطمأنت قبل أن تكشف عن نفسها أن الكلونيالية بالكونغو قد أثبتت أركانها وأرست دعائمها، ليعلن عن فتات قليل من الحقائق و تسريبات متسللة من ثقب الباب، و حقائف آخرى فرضتها زخم التساؤلات والاتهامات على المؤسسات العالمية التي كانت شركات القنوات الوثائقية و الاعلامية أهمها و التي جعلت القضية برمتها سبقا صحفيا في مشهد يقطر دما من ابتسامات و اعتذارات و صيحات تنديدية باغتيال أحد أبرز القادة التحررين الأفارقة باتريس لوممبا في السابع عشر من كانون الثاني-يناير 1961.
اذ في واقع الأمر و أمام الحزم الذي تستلزمه وحدة العمليتين الفكرية السياسية و الغربلة الجدلية في تعاطيهما مع ملف بهذا الحجم و الحساسية، تفرض علينا هذه النسقية تقديم نقد جاد غير مُجامل لحصيلة الكتابات و التوثيقات و الاسهامات التي كان غالبها ضحكا على أطلال تجربة هزت أركان الامبريالية العالمية،الزبون الأول للفوسفاط و الحديد الخام و الذهب و البرونز الأبيض و غيرها من المواد التي تحتل فيها الكونغوا مراتب عالمية، نقد جاد لمحاولات التأريخ وفق المصالح السائدة، مصادفين لوثائقيات تبدأ مواضيعها بلقاء مع "أمازاني فلبن" السجان المكلف بزنزانة باتريس لوممبا وهو يبكي ندمه الشديد تجاه ما قام به، كأن لسان حالهم يقول هذا هو المذنب و هذا هو الفاعل. لذا علينا الاشارة هنا الى أن مغزانا الفعلي بهذا المقال ليس البحث عن المذنب أو المسؤول، لأننا نعرفه سلفا و نعرف نسله في التاريخ و ندري دراية مادية لماهية سياساته الاستعمارية، هذه السياسات التي تتستر عليها مجموع المواد التوثيقية التي فشلت عن جد في ملأ فراغ التكتم رغم ما نظمته من لقاءات غزيرة مع أهم الأسماء الموازية لاسم باتريس لوممبا، مثل زوجته، صديقه المقرب، زميل دراسته الجامعية ببلجيكا، و أولاده .... وغيرهم، و لا أيضا الكتاب الذين قاموا بجهد غير مسبوق للحصول على وثائق سرية من أجهزت المخابرات، الا أن واقع الأمر يفرض تقديم قراءة أكثر شمولية أكثر استقلالية من كونها سردا للأحداث أو كشفا لأوراق.
الا أن العملية التوثيقية أو العمل التاريخي الخالص من الميول للمصالح الامبريالية هو مسألة صعبة و غير يسيرة، كونها تكاد تستحيل، و تغيب في المجهودات الفردية للكتاب الثوريين أو المناضلين بشكل عام، في حاجة ماسة للعمل الثقافي العظيم الذي أطلقه ماو و لنفس البادرة التي أطلقها الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين من ثورة معرفية و فكرية و تأريخية لاسهامات الشعوب ومسار كفاحها بما يتلائم وقضاياها، وهذا ما صادفته في اقبالي المستعجل لكتابة هذا المقال، مقرا أن التنظيم الثوري و حزب العمال و الأداة السياسية و الجامعات العمالية و الجامعات الروسية (جامعة موسكو، جامعة الصداقة...)، هي مصطلحات وروافد تحضر أكثر من غيرها حاضرة مكتبي الذي تحدد اطلاعه على المادة الأولية الكفيلة بكتابة مقال متمكن، تحدده المصالح الطبقية لماسكي الأداة الاعلامية و محركي المؤسسات الأيديولوجية وفق ما يخدمهم و يبرئهم من كل جرم في التاريخ اقترف تجاه قائد و مناضل كباتريس، لذلك أجدني -وان كان ذلك عملا ناقصا- مضطرا للتكثيف من الوحدة النسقية للنشاط الفكري في ارتباطه بالتحليل المادي التاريخي للوقائع المسجلة لملأ فراغ غياب الوثائق السياسية و التاريخية الكافية، و هي عملية مخاطرة حقيقية فضلتها عن عملية افلات هذا اليوم دون تسجيل شيء و دون المحاولة "العملية" لتقديم قراءة علمية، أمام تأكيدنا على أن القراءات المتمكنة و المحورية للتصحيح الثوري للتأريخ يكمن في بلورة الأداة السياسية... و ان الأولى هي شكل جنيني للثانية، و ما بين الشكلين تكمن ضرورة التاريخ.
لقد تم الاعتقاد الى حدود 1958بأن الأنظمة الكلونيالية التي أرست الامبرالية دعائمها بالمناطق المقاومة للاستعمار الامبريالي بشمال افريقيا هو ضمان لعدم قيام أي مد تحرري آخر، خاصة بعد حجم المجهودات المقدمة لاقبار أسماء كبرى قادت المشروع التحرري ( محمد أمزيان،محمد عبد الكريم الخطابي، حدو أقشيش، عمر المختار، مقاومة القبائل الجزائرية .... و بقية قادة و أعضاء حركة التحرر بافريقيا) اعتقاد لم يجد له دعما كالذي أحدثه نيكيتا خروتشوف في الاتيان على المشروع التحرري العالمي و بداية تذبذبه بين الخطوط، نيكيتا زعيم الخط التحريفي، وزعيم افشال كل الاتحادات الشيوعية العالمية بين الدول و حركات النضال و المقاومة،وقد كان سحبه للخبراء السفييت من الصين سنة 1961 بمثابة الاعلان الرسمي عن الارتداد والمواجهة اللطيفة لكل الأحرار و المناضلين، الى جانب مشكل الصواريخ الموجهة للولايات المتحدة بكوبا حيث كان المسؤول عن قيادة العملية ضد كوبا، و قد كان حضور هذا الاسم بالكونغو حضورا مموها خاصة بعد اتهام باتريس في اعتقاله الأول بتلقيه للدعم الأجنبي من الاتحاد السوفييتي، اتهام وجهه المحققون البلجيكيون الذين لم يعتبروا أنفسهم كأجانب بل كأسياد لمجموع المُهَجَّرين الكونغوليين الى بلجيكا المكبلين في سلاسل و المقتادين للنخاسة و سوق العبيد العالمي الكبير ببلجيكا، و قد أكدت عدة وثائق مشاركة المخابرات الخروتشوفية الى جانب المخابرات البلجيكية في مجمل الدسائس و الخطط المرسومة.
لقد كانت سنة 1958 سنة تأسيس الحركة الوطنية بزعامة لوممبا، وقد مثلت أقوى حركة سياسية بالكونغو، بعد الدور القيادي لباترس في جل المظاهرات و المواجهات مع الاستعمار البلجيكي الذي كان يعقد الرهان على انشاء حكومة محلية تبعية تسهر على مصالحه بالكونغو، لكن بعد هذا التاريخ بالذات تكشف أن باتريس معرقل حقيقي للمشروع الاستعماري، ليعتقل مباشرة بعد ذلك لمدة ستة أشهر، ليكون ذلك بداية صخط شعبي عارمي فجر معارك لم ينل منها نقل لوممبا الى بروكسيل التي شهدت مفاوضات لبحث مستقبل الكونغو وانهاء الاحتشادات الشعبية العارمة، ليتم الاتفاق على استقلال الكونغو بعد ثمانين عاما من الاستعمار.
أدركت القوى العالمية المتحالفة هنا بضرورة السير في الخيار السياسي الكفيل باحتواء الحركة الشعبية فكانت الانتخابات التي أجريت في أيار-مايو 1960 محفلا لتشكيل الحكومة المراد سلفا تشكيلها، ففي خضم فعاليا التحضير لهذه الانتخابات التي كانت غايتها اسقاط أعداء التدخل الأجنبي، شهدت الكونغو موجهة واسعة من انشاء الأحزاب المشوشة على الحركة الوطنية من خلال استغلال القبائل المختلفة و تحريضها بضرورة انشاء أحزابها الخاصة الممولة من كبار المستشمرين المتكالين على مناجم الجبال و خيرات الجنوب مبينين عن أطماعهم الحقيقية حتى قبل الانتخابات نفسها، مما سيعطي للوممبا أفضلية في فضح الأحزاب و مشروعها، حاشدا بذلك سخطا شعبيا تصدى عبره لمحاولات بلجيكا كراعٍ رسمي في اخفاء نتيجة الانتخابات و محاولة اسنادها للحليف الوفي جوزيف اليو، لتتشكل في 23 حزيران-يونيو 1960 أول حكومة كنغولية ديمقراطية، حتم معها الضعط الشعبي على الملك البلجيكي بودوان بتسليم الحكم رسميا، من خلال تنظيم حفل التسليم و الذي لم يستطع معه الملك البلجيكي اخفاء تسلطه على الشعب الكونغولي باديا بمظهر و خطاب استفز الحضور بما فيهم باتريس لوممبا الذي علم بضرورة رد الاعتبار مقاطعا اياه بخطاب تاريخي عرف بخطاب "الدموع و الدم و النار" ليكون بداية جديدة لنوايا لوممبا في تأجيج الوضع و عدم الملاطفة المطلقة للاستعمار بمختلف تجلياته، متوجها نحو شعب الكونغوا و مكتفيا به.
لكن لم يكن للتحالفات الرأسمالية أن يغفوا لها جفن و هي تلهث لعاب الثروات الطبيعية و المعادن، فكان بعد الأسبوع الأول للاستقلال أن تم نشر أوامر شاملة لزعزعة استقرار الكونغو و افشال الحكومة و رئيس الكونغو لوممبا بكل الوسائل، و قد كانت فكرة عدم اعطاء المجال لبناء دولة مستقلة أساس توجيه ضربات متتالية انطلقت من الركائز العسكرية الاقتصادية، التي كانت لاتزال في أيدي بلجيكا، و التي سارعت لتنظيم تمردات عسكرية منسقة في الجيش و عملت من خلال أحزابها المشكلة سابقا على تقسيم الكونغو لينفصل أهم اقليم بدعم من بلجيكا التي وفرت لـ"كتانغا" الاقليم الغني بالنحاس كل ما تحتاجه للانفصال مقابل زعزعة الاستقرار الداخلي بدعم من الصحافة و الاعلام المحليين الذي بدأ في طرح تساؤلات مبكرة حول راهنية الحكومة المنتخبة و مشروعيتها، بعد ذلك ستنضاف مقاطعة كازائي بزعامة كازافوبو لانفاصال كتانغا عن الكونغو، الذي لم يرد لموممبا أن يكون مزاحما له معبرا عن كرهه الجاد لخطاباته و تحريضاته التي تمس سلامة الكونغوليين حسب قوله.
لقد تم النفخ بكل ما أمكن في جمر التحالفات لاحراق لوممبا الذي لاالمواجهة المباشرة أطاحت به و لا سياسة الاحتواء أقصته من المشروعية، فكانت الأمم المتحدة المزار الأخير لحل المشكلة السياسية بالكونغو لصداقتها المشهود بها لمشروع باتريش، لكن و لحجم القوى المتدخلة انقلبت الأمم المتحدة هي الأخرى ضد باتريس مبينة عن دورها الحقيقي السرابي، لينقض على لوممبا عدد من حلفائه بدعم أمريكي بلجيكي، تحالف شكل الأساس القوي لانقلاب عسكري هو الأول في أفريقيا في مرحلته سنة 1961 بزعامة موبوتو كرئيس للأركان، ليعتقل لوممبا الى جانب اثنين من أهم رفاقه على الشاكلة التي افتتحنا بها المقال و هما، موريس موبوبو وزير الاعلام، و جوزيف أوكيتو رئيس مجلس الشيوخ، و يتم اعدامهم.
اعدام أتى على كل وثائق و كتابات و أرشيف باتريس الا بعض مما كشف بشكل خجل، و قد راسل لوممبا زوجته في رسالته الأخيرة قبل اغتياله قائلا (مقتطف):
يوما ما... سيقول التاريخ كلمته، ولكنها لن تكون كلمة التاريخ الذي يلقونه في الأمم المتحدة، او واشنطن، او باريس، او بروكسل، وانما التاريخ الذي يتعلمه الناس في البلاد التي خلصت نفسها من اسر الاستعمار والدمى التابعة له.،افريقيا هي التي ستكتب تاريخها، وسيكون تاريخ الصحراء الكبرى ـ شمالها وجنوبها ـ حافلا بالمجد والكرامة.
و رغم المصادرة و التهجير لكل مايمكن أن يقيم شعلة الشعب الثائر الذي احتاجت دمى الاستعمال لسنوات و عقود لتثبت دعائمها السياسية،لم تُخفِى الحقيقة الساطعة التي لم تكن يوما رهينة بوثيقة أو ورقة، فقد انتشرت حركة واسعة من التنديد و الطعن في مجموع المتحالفين اللاهثين وراء المال و السلطة، من غريبي الأطوار و عديمي الوعي و منحطي المستوى حيث سجلت نسخة قديمة لاحدى الجرائد الرسمية يصرح فيها بعض أبرز المسؤولين ما مفاده أن "اغتيال لوممبا قد نفذه الشعب الكونغولي و لا أحد شارك به"، محاولين اخفاء تناسق أممي لكل الهجمات الموجهة ضد الأصوات التحررية و التي قادها التحالف الأمريكي مع أصدقائه من دول أوروبا. و نورد هنا مقتطفا مهما من كتاب "اغتيال لوممبا" لكاتبه لودو ديفيت الذي يشتمل على مواد هامة و سرية تؤكد ما نحن بصدد الاشارة له :
"ذلك لم يكن ليتم من دون الخطوات التي اتخذتها واشنطن والأمم المتحدة خلال الشهور السابقة على الجريمة. ففي يوليو 1960 وبعد التدخل البلجيكي في الكونغو، وبعد انفصال اقليم كاتانجا الغني بالنحاس، بدأت الولايات المتحدة في العمل وايدت تدخل الأمم المتحدة لمنع لومومبا من الاستعانة بجيوش الدول الافريقية الصديقة لمساعدته على مواجهة العدوان البلجيكي ـ الكاتانجي. فقام داج همرشولد الأمين العام للأمم المتحدة بنشر مجموعات من القوات العسكرية، وتولي جنود الأمم المتحدة حماية كاتانجا، ولعبوا دورا حاسما في الاطاحة بحكومة الكونغو. وفي الوقت نفسه اصدر الرئيس الأمريكي دوايت ايزنهاور تعليماته الى مساعديه لتصفية لومومبا، وقد اسندت مهمة التخلص منه الى وحدة بالغة السرية في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ورحبت بروكسل بهذه المهمة ترحيبا حارا، وارسلت ايضا وحدة عمل من الكوماندوز لهذا الغرض نفسه."
و رغم أهمية هذا الكتاب و محتوياته الا أنه يبقى مادة أولية حاد عن تقديم قراءات علمية كلما حاول فيه الكاتب ابداء رئيه الخاص فيما يخص القوى المتحالفة و الحركة الرأسمالية العالمية، لكن بالرغم من ذلك تبقى الحقائق حقائقا، و لايمكن التستر على وهج الشمس فقد أشار الكاتب و جل الوثائق المكشوفة الى أن خروتشوف كان يعي جيدا ان الكونغو يقع ضمن حصة المعسكر الغربي وفق تقسيم الستعمرات، وذلك على الرغم من أن الكرملن وقتها ساد فيه الفهم المشجع لمد النفوذ في أنحاء العالم، حيث لم تكن له النية أو الوسائل لتهديد هيمنة الغرب على الكونغو، وكان ذلك أمرا واضحا لمعظم المراقبين. ومن المؤكد ان الكرملن لم يكن يريد دعم لومومبا بغير شروط أثناء الأزمة، ولكنه كان أكثر اهتماما بتحقيق انتصار اعلامي. وقد هاجم خروتشوف التدخل الغربي ليدعم موقفه الدبلوماسي في ارتباطه بالقوى العالمية خاصة بعد ما وقع مع الصين. وكان القضاء على الحركة الوطنية في الكونغو ضربة قاسمة للمناضلين من أجل التحرير في افريقيا، ولكنها لم تكن تقلق التحريفيين المحافظين ضيقي الأفق في الكرملين، الذين كان لومومبا وحركة التحرر الوطنية الافريقية بالنسبة لهم مسائل جانبية لا أهمية لها. ويكشف المؤلف المذكور سابقا ان خروتشوف قال للسفير الأمريكي في موسكو بصفة غير رسمية انه «كان يشعر بالأسف من أجل لومومبا كشخص عندما كان في السجن، غير ان اعتقاله قدم في الواقع خدمة للمصالح السوفييتية».
هذا واقع الأمر في مرحلة تم مسايرة مختلف السياسات و الأساليب الماكرة مخافة تدوين التاريخ و ايضاحه للأطماع الاستعمارية ولرسم الوجه الحقيقي للقوى الامبريالية الكبرى، لكن وكما تجري العادة دائما، فصواب السياسيين الاستعماريين يُفقد في اللحظات الأخيرة من ضغط الشعوب و استقلالها و صلابة حركة تحررها، فتدون حروف التاريخ عندها بدماء المجازر و الخيانات و المؤامرات، و هي الحروف الأصدق و الأكثر نصاعة، و التي تفشل كل المحاولات اللاحقة في مسحها و في تزيينها، و قد كان الاعتذار الذي قدمته بلجيكا سنة 2002 للشعب الكونغولي أغرب محاولات وضع مساحق تجميل للتاريخ، اعتذار صرح به وزير الخارجية لوي مارشال الذي عبر عن الأسف العميق و الصادق للدور الذي لعبه بلده في اغتيال لوممبا و يضيف قائلا: "الحكومة ترى انه من اللائق نقل اسفها العميق والصادق واعتذاراتها الى عائلة باتريس لومومبا والى الشعب الكونغولي للألم الذي انزلته بهما".
و نصدقكم القول أن التمكن من فهم حركة التاريخ و حركة الصراع الطبقي لترويض المجتمعات في سيرها نحو التحرر والانعاق، يُفقِد المتصفحين لأحداث ومحطات مشابهة، يفقدهم الاستغراب بما تحمله الأنظمة الاستبدادية من طبيعة وحشية في كنهها و جوهرها، و بما يحتمه ذلك من اقتسام للعالم و اعادة اقتسامه، وفق تنبؤات كبار السياسيين و المفكريين الذين أمكنه فهم مراحل متقدمة من المستقبل، انطلاقا من فهم علاقات الانتاج و التناقض الدائم في طبيعة النظام الرأسمالي اذ يشير لنين في دراسته لتقاسم أفريقيا و بقية المستعمرات العالمية (بولينيزيا، أستراليا، أسيا) من خلال استنتاجات سوبان الى الميزة الأساسية للامبريالية كمرحلة عليا في الرأسمالية، و هي اقتسام المناطق الغير المعمرة من العالم و اعادة اقتسامها و يضيف:
"...فالسمة المميزة لهذه المرحلة هي إذن اقتسام افريقيا وبولينيزيا. وبما أنه لا توجد في آسيا وفي أمريكا اراض غير مشغولة، أي غير عائدة لدولة من الدول، ينبغي علينا أن نوسع استنتاج سوبان وأن نقول أن السمة المميزة للمرحلة المذكورة هي الإقتسام النهائي للأرض، لا بمعنى استحالة إعادة التقاسم، – فإعادة التقاسم هي بالعكس أمر ممكن ومحتوم – بل بمعنى أن السياسة الاستعمارية التي تمارسها الدول الرأسمالية قد انجزت الإستيلاء على الأراضي غير المشغولة في كوكبنا. ولأول مرة بدا العالم مقتسما بشكل لا يمكن معه في المستقبل إلاّ إعادة التقاسم، أي انتقال الأراضي من « مالك » لآخر، لا إنتقالها من حالة أراض لا مالك لها إلى ذات « مالك »."
لذلك ستبقى الاقتسامات و اعادتها سائرة في مخاض التنفيس عن الأزمات البنيوية للأنظمة الرأسمالية، و الواقع السياسي الآني للعالم يؤكد و يشدد على ذلك، أمام تكشف الوجه الحقيقي للأنظمة أكثر فأكثر و التي بدأت تفقد صوابها وتعنف شعوبها في اشارة الى فشلها و بداية سقوطها، أما باتريس لوممبا فسيحتفل باغتياله حتى من لدن قاتليه و كارهيه و من لا يمتون بصلة مع فكره و مشروعه، للأن الممارسة السياسية هي التعبير الأصدق و المكثق للنظرية و للأيديولوجية .... لذا فلا لبكاء الأبطال و القادة، و لتكن أعيادهم بحثا حِرَفِيا في تاريخهم و فكرهما من أجل صنع عيد كل الأبطال و كل الشعوب و كل الأعراق و الجلود و الألوان
الكثيرون مروا و الكثيرون قدموا، وما اسْتُذكروا لكنهم تقدموا
هكذا علينا الجد و قلب المحطات متمدرسين فيها و محتفلين بأبطالها احتفالا ثوريا، فالحياة ليست محض جسد يمشي أو بدن واقف بل هي حياة الأفكار التي يحيى مجدها أكثر من زنازين القمع و عمليات الاغتيال، كما حيى باتريس هذا اليوم يحدثنا عن تجربته و نحدثه في "ممارستنا" عن مستقبلٍ تصنعه التجارب.

البيبليوغرافيا
____________
من قتل لومومبا، ملف نشر في مجلة New Africa عدد شباط/ 2000 ونشرت ترجمة له في مجلة الثقافة العالمية/ الكويت، عدد:102، أيلول/ 2000 وقد شارك فيه كل من: فرانسوا ميسي، وأوزي بواتنج، ترجمة رنا مأمون نجيب.
موسوعة السياسة، ج 5، مادة لومومبا.
خطاب الدموع والدم والنار - عصام البغدادي
الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية - لنين



#جمال_البزويقي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في ذكرى الهجوم على السماء .. ذكرى الكمونة.
- غرفة جراحة المفاهيم (المقتطف 2)
- غرفة جراحة المفاهيم


المزيد.....




- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...
- زاخاروفا: إستونيا تتجه إلى-نظام شمولي-
- الإعلام الحربي في حزب الله اللبناني ينشر ملخص عملياته خلال ا ...
- الدرك المغربي يطلق النار على كلب لإنقاذ فتاة قاصر مختطفة
- تنديد فلسطيني بالفيتو الأمريكي
- أردوغان ينتقد الفيتو الأمريكي
- كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي
- تظاهرات بمحيط سفارة إسرائيل في عمان


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جمال البزويقي - في ذكرى اغتيال باتريس لوممبا