أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد علاء الدين عبد المولى - محاولة قراءة جديدة في شعر نزار قباني الحلقة الثانية *















المزيد.....



محاولة قراءة جديدة في شعر نزار قباني الحلقة الثانية *


محمد علاء الدين عبد المولى

الحوار المتمدن-العدد: 1427 - 2006 / 1 / 11 - 11:15
المحور: الادب والفن
    


محاولة قراءة جديدة في شعر نزار قباني
* الحلقة الثانية *

مدخل إلى الحرية
علاقة الذات كبعد اجتماعي بالحرية في شعر نزا ر قباني
أولا: مدخل إلى الحرية:

ليس كثيراً على نزار قباني أن نجد في شعره ما يدفعنا إلى تتويجه شاعراً من شعراء الحرية.. وذلك إذا ما تشربنا رحيق مفهوم الحرية بعيداً عن كونها حاجةً قوميةً جماعيةً، أو مطلباً للشعوب المقهورة، فهي تتضمن جميع هذه الحريات.. ولكن ثمة ما هو أبعد وأعمق بالنسبة لخلاصة فضاء الحرية الأشمل، الذي يمتد في داخل الإنسان أكثر مما يمتد خارجه.
وبعيدًا عن التأويلات الساذجة لدى بعض قراء شعره، والتي تفيد بأنه يستعبد المرأة، ويهينها، و... الخ، فإننا نعتقد بأن تعلق الشاعر بطاقة الحب، والجنس، والجسد، هذا التعلق كله كان من أجل الوصول إلى هذا الفضاء الداخلي من الحرية.. لاسيما وأنه تعاطى مع هذه المفاهيم في ثقافة عربية تحتكر خطاب الجسد وتغلق عالمه، وتشلّ إلى حدٍّ بعيد صوتَ الحب، أو تتهم بالجنون والمروق والانحراف من يرفع نشيد الحب في هذا الظلام العالي.
الحب والجنس، ليسا من المعطياتِ المكتسبة، حتى يتعلمها الجسد فيما بعد. هما تدفّقٌ إنساني نابع من جغرافيا الرّوح البشري منذ الأزل ليشكّلا غريزةً كبرى من الغرائز الناظمة لشخصيته الحقيقية. وهذه الغريزة لم تتشكّل فيما بعد، بل هي تتشكل الآن، وتحيا في اللحظة الراهنة أبداً عميقاً يعيد الإنسان من أعماقه إلى بدئه الأول. المسبع بالحرية الأولى حيث لاباب تتكلم من خلفه الأنثى وفي فمها خرقةٌ حتى إذا سمعها الرجل فلا يسمع صوتها الحقيقي، فصوتها عورةٌ. الحب يعود بالكائن الراهن إلى عدم زواله. إلى الزمن الذي فيه نوع من الاتحاد الشامل بين الطاقات والإمكانيات البشرية المبدعة. وقد اكتشف حدس نزار، وثقافته الروحية المنتزعة من الحياة لا من الكتب، أن العلاقة مع الحبّ تفضي إلى علاقة مع الحرية… فالحب اسم من أسمائها كما هي معنى من معانيه. واكتشف منذ حادثة انتحار شقيقته وهو في مرحلة الطفولة بسبب فشلها في تحقيق معادلة الحب والحرية، أنّ الشاعر الذي سيكونهُ مستقبلاً أتى في زمنٍ هو من الأزمنة الجاهلية في صلته مع الإنسان وروحه وفاعليات وجدانه. وكأن ذلك إرادةٌ قدريّةٌ. ولابد للقصيدة من أن تواجه بنود الجاهلية ومنطقها الذي يحتكر قلب وروح الإنسان في عصرٍ من المفترض أن يحرر الإنسان هذا، لا أن يعتقله في صميمه..
أي لابد أن تتوتَّر القصيدة، وعليها أن تتزيّا بلغة القلق والصهيل والثورة والتمرد، على داخلها المتسرِّب من خطاب شعري موروث ومعاصر تقليدي، وعلى خارجها الذي تحكمهُ شروط الاستغلال والبشاعة الروحية، وقد تمكن نزار قباني من أن يفتح قصيدته البسيطة على هذين المحورين. فبالنسبة لداخل القصيدة تحرَّر الشاعر من أدوات غيره من آبائه الشعريين. لاسيما الآباء الذين يشكلون ذاكرةً مفاهيميةً من شأنها تأخير النشاط النفسي والإبداعي والثقافي للإنسان الراهن والقادم عبر المستقبل. فليس هناك شاعرٌ في تراثنا الشعري القديم من يمكن أن نرد إليه نزار قباني، بل هو سينفر كقطب سلبيٍّ لمغناطيس إبداعي من أي قطب مماثل له . إنه لا يلتقي مع العذريين أو الحسيين ولا مع الصوفيين العشاق ولا مع الأندلسيين في تناوله لمشكلة الحب والجسد، ولا يلتقي معهم ومع سواهم في الخطاب الشعري والجمالي، وما فيه من عناصر فنية تقنية وأسلوبية. بمعنى آخر إنه قطع علاقته معهم تحرر منهم. طرد إرادتهم من داخل قصيدته. وقطعه معهم لم يأت بقرارٍ طبعاً إنَّ أتى إلى الإبداع من تلقاء خصوصيةٍ اجتماعية آمنت أنه الكتابة كما كان يكتب هؤلاء نوع من العبودية لهم. فهو إذاً جاء الشعر متخففاً من إرث هؤلاء الآباء.
يقول نزار قباني:
((ليس عندي عقدة الشكل، فأنا أكتب بالشكل الذي يعجبني… وألبسُ اللغة التي تريحني. أنا سيد أشكالي وليست هي سيدتي.. أنا غيرُ مصرٍّ على ارتداء عباءة الفرزدق أو الأعشى أو الشنفرى… ولا على السفر في بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي. فأنا أسافر في البحر.. وعندي بطاقة سفر دائمة.. هي بطاقة الحرية)) ـ 1 ـ
هذا الاعتراف وهو واحد من عديد الاعترافات الأخرى يقول لنا إن الشاعر غير ((معقّد)) من أي شكل فني، وبالفعل فهو كتبَ قصيدة البيت الواحد، وقصيدة التفعيلة، وقصيدة (النثر) معياره في ذلك: هل يعجبه هذا الشكل أم لا؟ هل تريحه هذه اللغة أم ستشكل عبئاً على حركات جسده الإبداعي؟ أي هل تعتني لغته بحريته، أم ستقيدها؟ ولنقرأ مرةً ثانية هذه العبارة: ((أنا سيد أشكالي وليست هي سيدتي)). كم من المعنى النقدي العميق يمكن في هذا الكلام البسيط والعفوي/ الدال على أن نزار سيد على شكل الشعر الذي يبدعه، لا عبدٌ له، ومع كل كلامه في أماكن أخرى عن مفاجأة القصيدة للشاعر، والحرائق التي تشعلها على الورقة البيضاء، والزلازل التي تحدثها في قشرة الأرض، مع كل ذلك، وعند التقييم الجاد، إن الشاعر هو من يفعل ذلك. هو الذي يفاجئ ويحرق ويزلزل. بقدر ما يكون مالكاً لصولجان شعره. وإذا كانت بساطة الشعر معروفة لدى نزار. ولغته الخاصة المنسابة والمائية، كذلك، فإن الشاعر هو من جعلها كذلك وهو يتحكم بها، ويمارس إرادته الصارمة عليها. إنه سيد الشعر لا عبدٌ له. بل هو سيدٌ عندما يغني الوقت والروح في إبداع الشعر، ويمنح هذا الملاك الجميل قلبه وأعصابه وسلامه الروحي، بل حياته في النهاية، ليثبت أنه سيد عاشق لما يكتبهُ. والعاشق يتبع موضوع عشقه حتى ولو اضطره للخضوع والانحناء. لكنه خضوع نابع من فوق وانحناء الكبير للكبير. سجود الند على أرض الندّ..
إنّ نزارا لا يرتدي عباءة الأعشى، ولا الفرزدق، وليس بالضرورة أن يمسك بيد الفراهيدي. إن ما يقرر ذلك ليس الفرزدق ولا الفراهيدي. بل نزار قباني نفسه. إذا رغب في تنويع أشكاله الفنية قام بذلك، فكتب على الوزن الخليلي إذا قرر (السيد) ذلك. وإلا فليكتب على شكل آخر، هو التفعيلة أو الشكل النثري فهو الشاعر الحائز على شرعية السفر في البحر. والذي يختار سفر البحر لا ينتظر أن يملي عليه (البرُّ) لغته. ففي اللحظة التي يضع الشاعر كيانه في سحر البحر سيتحوّل هو إلى ربّان لأحواله وأهوال البحر، حيث يقود هو بكل سيادة رحلة الإبداع. لماذا؟ ذلك هو سر الإبداع الكبير: الحرية، بطاقة السفر الدائمة.
لقد اكتسب نزار فضيلة البحر في كتابته عن العشق والذات والمرأة. وذلك بما يعنيه ذلك من مفاجآت على صعيد الكتابة والإيقاع والصورة الشعرية واللغة والغناء.. الخ. كما يفاجئ البحر يفاجئ الشعر. بل ان نزارا اتخذ البحر مادةً شعريةً كثيراً ما صاغ منها مواقف جميلة مدهشة في علاقته مع المرأة حيث تتردد مفردات البحر في أنحاء شعره بصورة واضحة. وهذا البحر القباني هو من معاني الحرية تماماً فالمشهد الشعري الذي يدخل البحر في صياغته هو دائماً مشهدٌ متعلق بحرية اللحظة الإنسانية، وحرية الكلام، وحرية الجسد. وحرية الاختيار، وحرية الغَرَق كذلك. والبحر عند نزار يعني الأعمق، يعني الدخول في المواجهة بما تعني من دوار وصراع مع الطبيعة والطغيان والموت. وهو الحب بلا شروط، فالحب هنا يصبح الإبحار دون سفينة، وعلى الأنثى أن تغوص في البحر أو تبتعد بعيداً فلا بحر من غير دوار. حيث الحب مواجهة، إبحار ضد التيار. وليس هناك وقت للسؤال عن النهاية في تجربة الحب الوجودية، إنه إبحار لغاية الإبحار، كما أن الحب هو غاية الحب وحده. إنها حرية مكلِفةٌ وباهظةُ الثَّمن، لكنها خيارٌ إنسانيٌّ غير مشروط.
لقد جمعنا في الكلام السابق بين سفر الشاعر في البحر كحالة وجدانية إنسانية تعادل الحرية الحقيقية، وبين سفره في الشعر بطريقة جديدة غير مسبقة الوجود.
وكان لابد أن تترافق هذه الحرية كمحرك فني، مع حرية أبعد وأشمل هي حرية التعبير عما يؤرخ انهيار الذات الأنثوية، وعما يشرخ العلاقة بينها وبين الرجل كذلك. حرية قول ما يجب قوله في لحظة الصدق مع الذات والآخر، في لحظة رثاء الأمة والأرض، في لحظة معاناة العقدة النفسية داخل أعماق الإنسان العربي كنتاج اجتماعي في شروط القهر والتخلف.
كان لابد أن يحرّر نزار طريقةَ القول، والقول نفسه، داخل القصيدة وخارجها كما أشرنا، أي كانت خيارات العوالمُ الشعرية التي تعامل معها نزار خياراتٍ من وجهة نظر بحريةٍ كذبك. ليس عليها رقيبٌ داخليٌّ مسبقٌ، ولا شرط على المدى الممكن أن تصل إليها. لهذا قال الشاعر ما قاله. وصدم أذهان الناس بما فيه الكفاية ليسرق من سواه ضوء النجومية عشرات السنوات.
نزار قباني عبر عن هذه الحرية، كحالة مرافقة للشعر من داخله وخارجه، عبر عنها بحيث لا تكون همّاً نخبوياً محصوراً في شرائح اجتماعية ثقافية محدودة. ومع إدراكنا لخصوصية المرجعية الاجتماعية المحافظة التي يستند إليها شخص الشاعر، فإننا رأينا في هذه المرجعية محرضا آخر على التحرر. ولاسيما وان هذه المرجعية حاربت شاعرها الذي من المنتظر أن يكون صوتاً خاصاً بها وبمتطلباتها، لكنه خذل هذه المرجعية لأنها ستقف عائقاً أمام رؤيته للأشياء. فخيار (الشاعر) غير خيار هذه المرجعية بخطابها الثقافي المستقر، المحدد سلفاً. وليس سهلاً على شاعرٍ أن يدير ظهره لرضى مجتمعه المحدود، ويمضي نحو الشمس بكل ما يعني ذلك من اختيار للمجابهة والصدام، كما تمت الإشارة إلى ذلك فير غير مكان.
هل كان نزار قباني يتعاطى مع حرية الفرد، أم حرية الجماعة..؟ إن ذلك أمر ملتبس كثيراً. وإذا حاولنا الفصل بين الفرد والجماعية كنا كمن يكسر عنق الزجاجة ليتأمل جمالها بمعزل عن العنق، مع أنها لا قيمة لها إلا بذلك الجزء الصغير.
ومن مهمة الشاعر العربي أن يختار حازماً بين أن يكون شاعرَ ذاتٍ شخصية، أو شاعرَ جماعةٍ، بما يقتضي ذلك من رضوخ لمطالب الجماعة وشؤونها وملاحقتها في إيقاعها اليومي.
والتزام الشاعر العربي بلحظة الجماعة لم يكُنْ ظاهرةً معاصرةً، بل لقد تبلور الشعر العربي عبر عصوره الأولى بصفته قبلياً، مهموماً لهموم قبيلةٍ، أو عشيرةٍ، أو حزبٍ….الخ.
ولكن النظرة الفاحصةَ للنتاج الشعري العربي الغارق في محيط ((الجماعة))، تكشف عن تبعيّةٍ محقّتْ ذات الشاعر، وانتصرت لـ ((غزيّة)) التي كانت تُملي على شاعرها رُشده، وغوايته، وبالتالي شعره. بينما الدور الأهمّ المنتظر من الشاعر أن يملي هو حكمته وغوايته وصوته الرائي. ولم يقدم الشعر العربي (( الجماعي/ القبلي)) ملامحَ فنيةً ظاهرةً وخاصَّةً تخدم تطوراً محتملاً للشعر كفنٍّ لا تمارسه القبيلة، بل (الفرد / الشاعر). مع الإشادة الدائمة بأن هذا الشعر كان يتجلى بصورة أسمى وأقدر إقناعاً من وجهة النظر الجمالية الفنية عندما كان صوت الذات المبدعة، صوتَ الشاعر وحده .هذا لا يلغي طبعاً انتماءً جدلياً هنا، يعطي للجماعة مالها، ويستقل عنها عندما تريد أن تطغى على أفق الشعر وتملأه بحاجاتها، من حروب ونزاعات ودعوات أيديولوجية.
وهنا تجدر الإشارة إلى شعر الحب، والعشق الصوفي على سبيل المثال وشعر الخمرة وشعر الطبيعة، وشعر رثاء الذات ورثاء المدن، وشعر الذات المتعالية.. الخ.
وعندما برزت بوادر عصير الإحياء المعاصر، مع شعراء النهضة، استُعيد وبُعث من التراث الوجه الأقل إبداعيّةً في معظمه، فكان مرّةً ثانية تابعاً لشؤون الحياة والجماعة القومية أو الدينية أو السياسية وقد استمر ذلك حتى بعد انتشار شعر الحداثة بعامة مما فوَّتَ على هذا الشعر فرصةً للإبداع والبقاء الأهم.
وقد تولى هذا الدور شعرُ الذات والشخصية الشعر الرومانسي الذي كانت (الذات) من أهم محاوره وسبله، بل كانت المحور الأول والأخير وليس هذا مكان البحث في فرضيات القصيدة الرومانسية وما قدمت من إبداعات بشرت فيما بعد ببروز صوت الحداثة شيئاً فشيئاً فليس الشعر الحديث شعراً جماعياً بأي شكل من الأشكال.. ولابد أن نظرةً قارئةً بعمق لبعض معاني الحداثة، سترى أنها مفهوم يشمل مستويات الحياة جميعها. من علاقة مع العصر والثقافة والدين والعادات والكتابة والمؤسسات الاجتماعية المشكلة للنظام الاجتماعي والأخلاقي المكرَّس في المجتمع.
وهي- الحداثة-ُ موقفٌ كليُّ من العناصرِ المذكورة جميعها وبنيانٌ لا انفصام فيه بين جزء وآخر.
من هنا قد نشرع في الكلام عن ولادة شعر نزار من قلب هذا الموقف الشمولي للحداثة.
لقد حررت قصيدة نزار موضوعها من هويته القبلية الجماعية واحتفلت بالذات وركزت عليها وعلى أهمية أن تشعر باستقلاليتها عن شروط التبعية والهيمنة.
وسلَّطت القصيدة الأنوارَ الكاشفة على هموم هذه الذات كما تبدو في اللحظة التاريخية المعيشة الآن. مطلقةً العنان لكلام الذات بصوتٍ عال ليرتسم لها خطابٌ حرٌّ تبني من خلاله ومع تنميته وتطويره، عالماً جديداً على حجم أهوائها ورغباتها المقموعة.
وكان الشاعر أميناً على الذَّات التي نذر شعره لخطابها فلم يتخيل لها وجوداً خارج معاناتها، لم يزيّن لها فردوساً مستحيلاً بمعنى لم يبالغ في الكلام على سعادة هذه الذات ومثاليتها بل انطلق من أسرها التاريخي، كما هو معطى ثقافياً واجتماعياً وأخلاقياً. جاء إلى أرضية موجودة في الأساس ولم يقم بإنشائها عبر طرق البلاغة واللغة. فما قام بتزييف أمور الذات، ولا وصفها بما ليس متضمناً فيها. إنه كان الأقدر في جملة الشعراء العرب على إشعال ليل الذات من كل جوانبه، بحيث لم يبق ورقة توت لتغطي أي شيء.
وهذا الفعل ليس خارج مغزى الحداثة، وليس بعيداً عن درسها وأنموذجها فالحداثة من شؤونها إعادة الذات إلى ذاتها، والبوح بما تخفيه، ومجابهة كل عناصر الإعاقة الأخلاقية والاجتماعية التي تقف في طريق الذات، عندما تشعر بقيمتها بصورة حادة.
والمهم أن نزار لم يفعل هذا بصورة مسبقة مصممة من ذي قبل، لكنه وجد نفسه كشاعر أمام كمٍّ من الظَّلام يلفّ الذات العربية، وأزمات تعصف بنظام الشخصية ورأى أن الشعر العربي بمجمله كان يلعب دوراً تزييفياً في هذه المسألة، لاسيما الحلم الذي كان ينشئه الشعر على أرض تحرِّض على الهويّ في الضياع أكثر كان الشعر مصابيح تخدر الساهرين، وتحرر لهم جنة العسل من حراسها. وعندما يمد الإنسان يده ليقطف، كانت أصابعه تفقد الطريق إلى أي شجرة ممكنة. فالأمر كله كان تعويضيّاً زخرفيّاً، بلاغيّاً. من هنا يلعب الشعر ذلك الدور التنويمي عندما يخون رؤياه الثاقبة، فلا يعود يميز بين الممكن والوهم، أو بين الحلم الممكن والحلم الكاذب.
وإذا كان من حق الذات على القصيدة أن تجعلها أكثر قدرةً على بناء الحلم، فإن من حق الذات أيضاً أن تطالب هذه القصيدة بألا يتم تزويرُ واقعها ـ واقع الذات ـ.
وإذا تذكرنا ما فعله شعراء الحداثة الأولى في أوروبا، (بودلير على سبيل المثال) بموضوع تحرير الذات من مرض الحلم الرومانسي المنفصل عن واقع الحال، لقلنا إن شعر (بودلير) قام بمهمّة عظيمة عندما كشفَ تناقضات الذات وقبحها وشذوذها وجمالها المضمَر، جمالها كقيمة تتشكل الآن من خلال علاقات الذات بما حولها، وبنفسها وليس الجمال كقيمةٍ مطلقةٍ مقدّمةٍ سلفاً عبر النظريات.
إن التفكير الحديث أوَّل ما يتوجه، إلى الذات ليصنع من العلاقة معها مشروع حرية صادقة، غيرَ خجول من كل ما في هذه الذات من ملامح سوداء وأمراض فالخطاب حول هذه العناصر، الخطاب المتواصل والذي يحقق وجوداً مؤثراً لابد أن يخرج هذه الذات من علاقاتها المشوهة، وطبيعتها السوداء إلى فضاء من البوح الصريح، والقول بصوتٍ حقيقيٍّ أبيٍّ، حتى تدرك هذه الذات أولى خطوات حريتها.
وليس الفنّ بعيداً في عدد من مهامه عن تحقيق هذه الحرية للذات.
من هنا تناول نزار كفنَّان حقيقيّ، الذات العربية في أشد طبقاتها سواداً وتناقضاً وقمعاً مزمناً. وقام شيئاً فشيئاً بتحريرها فنياً. وكان يحقِّق نتائجه على المدى البعيد غير آبه بمعارضة جهاز ثقافيٍّ يرى ديمومته المشروعة، وهيمنته في إبقاء الذات مغمضة العيون، مشلولة الرغبات، فاقدة قدرة البوح والحياة..
هذه هي علاقته مع ذات الفرد. وأثر ولادته (حديثاً) على هذه العلاقة.
لكن هذه الذات لم تكن ذاتاً من كوكب آخر كما هو واضح، بل هي ذات موجودة في مجتمع متشكل من عدد هائل من الذوات التي تشترك فيما بينها في انتمائها لمرحلة من التخلف والصمت والظلام واللا إرادة. فنزار لم يتحدث عن ذات مقموعة قرأ عنها، بل ذات مقموعة موجودة حوله، وداخله، وداخل أسرته ومحيطه الثقافي. واختياره للذات لتحريرها لم يكن ليختزل في ذات عابرة متنقلة من جماعتها. إنها الذات النموذج. وذلك من أهم ما قد يكون من طموحات الفنان المبدع، أن ينمذج الواقع، ويكثف الأعداد في عدد واحد له مواصفات المجموع كلها، ويغني الكلام عليه عن الكلام على آلاف الأعداد غيره.
الذاتُ المقموعةُ، المكبوتةُ، المتوترةُ، المتأزّمةُ، التي أبدع نزار في الجدل معها، هي ذاتنا جميعاً.
قد يختار الأديب أن يتحدث بصيغة (أنا) عن ظاهرة الطغيان، جاعلاً من نفسه نموذجاً لطاغية ما. هل يحق لنا هنا أن نقيم تطابقاً بين مفهوم الطاغية، وشخصية هذا الأديب؟ بحيث يخرج الأديبُ طاغيةً؟
نزار فعل ذلك مرات ومرات، وفي كل مرة كان يحاكم من قبل جمهورٍ عابرٍ، أو نقدٍ جاهل، على أساس أن ما يقوله نزار عن ذاته هو معلومات شخصية عنه تستدعي محاكمته ورجمه..
ذلك إسقاط لوظيفة الأدب، ومهمة الشعر هنا، في أن يقوم بقراءة جميع التفاصيل المبثوثة عبر ثنيات الحياة، ثم يستخلص من مجموع قراءته نموذجاً يخاطبه، ويتحدث بلسانه ويفجر أعماقه ويستدرج أزماته إلى حلبة الصراع لتخوضه بحرية لم يحققها لها شاعر كما حققها نزار. الذي استطاع رفع الغطاء الاجتماعي والأخلاقي والنفسي والعاطفي.. عن وجوه الذات العربية، بالطريقة التي تحوِّل هذا الغطاءَ من مشكلة يتداولها المثقفون وأهل الاختصاص، إلى مشكلة ذات طابع جماهيري يكتشفها القراء، ويتلمسون خطورتها، وتتسرب في وجدانهم بحيث تغدو هما مجلواً مفضوحاً يومياً.
إن الدور الذي قامت به قصيدة نزار قباني في هذه النقطة، هو دور يجب التركيز عليه وعدم الإحاطة بأهميته. إنه لأمرٌ معقّدٌ أن يستطيع الشاعر القبض على وجدان الذات الجماعية وأخذ هذا الوجدان إلى البؤر الملتهبة من المعاناة، التي استأثر بالحديث عنها المثقف، والمفكر، والباحث الاختصاصيُّ، وربط هذا الوجدان بطريقة خفية بهذه المعاناة، لأن من حقه أن هو أن يعيها ويعمل على دراستها ورصدها، للوصول إلى لحظة اكتشافها بشمولية مقنعة، من أجل التغلب على أسبابها، وحلها كأزمةٍ حتى لو على صعيد الإدراك والمفهوم، لأن إدراك أزمة الذات، فرديةً كانت أم جماعيةًَ، وامتلاك تصور كلي عن هذه الأزمة، سيفضي، على الصعيد السُّلوكي، والاجتماعيّ والسياسيّ.. إلى تغيير في المواقف وتطوير في العلاقات.
ولا نغالي إذا ادعينا أن قصيدة نزار قباني فعلت في القاع الجماهيري، ذواتاً وجماعات، فعلاً خلاقاً في تنمية قدرات هذا القاع على بلورة موقف شعوري، أو لاشعوري،، من مجمل المشكلات التي يصطدم بها القاع، على مختلف انتماءات هذا القاع، فكراً ووعياً واجتماعاً…

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1)حوار مع نزار قباني-مجلة العواصف –عدد 17/7/1992

ثانياً : حرية التصالح بين المتناقضات في الذات


من الصعوبة بمكان اجتزاءُ مقطعٍ من المشهد الشموليِّ الذي تتصاعد فيه قصائد نزار قباني، لتقديم هذا المقطع / الجزء على أنه الشاعر كله. فالشاعر (كلُّه) غير موجود بهذه الطريقة وحدها على وجه الحَصْر والتعيين، بل هو مبثوثٌ على أكثر من صعيد مشتَّت كما لم يتشتت إلا قلَّةٌ من الشعراء غيره، متناقض فيما بين واحدة النّار والماء، ويضع عيناً على النهار، وأخرى في الغسق. وهو بنفسه لا يعترف بجدوى تجزئته واقتطاع عناصر جزئيّة من عالمه، أو اختزاله إلى وجه ما، لأنه حقّاً لا يُختزَلُ.
وقد كتب قصيدةً يحتفي فيها بتناقضاته ((تناقضات ن.ق الرائعة)) وله قصيدة بعنوان ((شيزوفرينيا)) وقصيدة بعنوان ((اعترافات رجل نرجسي)).
وهي قصائد يفصح فيها الشاعر عن لحظات من الصِّدق الجارح والكشف لأسرار الشخصية وتقلباتها. لأنه يحمل في طيات هذا الشعر إنساناً هو نتاج تاريخ طويل من التناقض وعدم الاستقرار. ونزار قباني تجرّأ فقدَّم هذا الإنسان بصبغة أنا المتكلّم. بينما في الحقيقة يمكن أن يكون هذا الإنسان قارىء القصيدة نفسه، بل هو أسلوب فنيٌّ مخاتلٌ يوقِعُ القارىء في بقعة من الاعتراف بأعماقه بصوت واضح. لهذا لاتميل إلى اعتبار ما يكتبه نزار مذكرات شخصية تخصه وحده، بل إنه يتخذ صفة الراوي ليتحدث بلسان الرجل، أو المرأة كذلك بصدق لا نبالغ عندما نصفه بأنه جارح، بل فاضح، إلى درجة أننا نهرب ممن الاعتراف به، ونختزله إلى مشكلة تخص الشاعر وحده، والحقيقة كما أشرنا أن نزار (يُنمذِج) هذا الإنسان المأزوم، ويتكلم بلسانه.
إن الشعر والفن عموماً ليس تأريخاً للمسيرة اليومية التي يمر بها الفنان بل هو خطاب جمالي ذو أساليب مختلفة، وليس بالضرورة بل ليس ممكناً أن ندين شخص الفنان إدانةً مسلكيّةً لتجرُّئه على الاعتراف بصفات الذات الإنسانية وتقلباتها وكذبها وخيانتها لنفسها ولحقيقتها. وإلا لتحوَّل الأدب إلى ملفات نحاكم من خلال حيثياتها الفنانين والمبدعين، فإذا كتب الفقير عن الحلم النبيل والقمر الفضي والجنة الذهبية والمخمل، اتهمناه بالكذب، وإذا كتب الأرستقراطي عن مشاعر الطبقة الدنيا، اتهمناه كذلك بخيانة منطق طبقته والادعاء بما ليس فيه. إن الأدب ليس نقل الحياة من ثقب إبرة ضيق.. وليس مجالاً للإدانة الشخصية.
من هنا، قام نزار بتقديم ذات هي منتشرة فنيا، متشكّلة بأثرِ التّاريخ والمجتمع، ولم يقدم شخصَهُ هو في الشعر.
إن مثل هذا الرأي يساعدنا كثيراً قس فهم نزار وقراءة شعره عبر وضع تناقضاته موقعها السليم. فمن خلال كون نزار هو الإفراز التاريخي الطبيعي لثقافتنا وذهنيتنا، نتفهم مجمل التقلبات في الرؤى النزارية حول نفسه هو، وحول المرأة والحياة وأشيائهما، فنزار لم يأت ممن خارج الذات التاريخية لشخصية عربية ثقافية تتمتع بمجموع مواصفات تبلورَت، أو تموضَعًت عبر تاريخ ليس هادئاً ولا منسجماً، خلق نموذجَ روحٍ قلقةٍ على مصيرها، مقهورة في قاعها العميق، مشوشة في نظرتها إلى كل شيء، وهو قلق هائل، موجود رغم كل مظاهر التسليم المعلن عنها عبر التاريخ. فلفم يخْلُ هذا التاريخ من التوتر والانفصام والانقسام والتشظي والتناقض، إيجاباً وسلباً. تاريخ ارتسمت كائناته على الصورة التي اختصرها شخص الشاعر نزار. مضافاً إليها الوضعية الخاصة للمبدع والشاعر الذي هو أصلاً غير منسجم مع محيطه ولا متصالح مع العالم. إن التصالح في هذه الحالة شكل من أشكال الخيانة، لذلك: لابد من التصالح مع التناقض.. من قبيل الإقرار بتناقض جوّاني وعدم أمان…
إذاً، لاينسى نزار أنه ولد ورث ثقافة هذا التاريخ التي أشرنا إلى ما فعله في شخصيتنا. مما سمح له أن يراوح بين عدد من المفاهيم المتناقضة المبثوثة عير قصائده..
ولنأخذ مثالاً، علاقته بالمفهومين المتضادين ظاهرياً على الأقل: (الحضاري) و (البدوي). وما بعنب ذلك من تضاد بين عددٍ ممن السمات المنضوية تحت كل مفهوم.
(الشفافية/ القسوة) (النظام / الفوضى) على سبيل التمثيل.
وتكاد هذه اللحظة الجامعة بين الحضاري والبدوي، كمفهومين كبيرين، تشكل أهم لحظات تجربة نزار الأوربية. عندما اختار بشيء من الإرادة وكثير من القهر النفسي أوربا مكاناً للإقامة فدخل هذا المكان كمفهوم ثقافي واجتماعي وحضاري شامل في مكوّنات خطاب هذا المكان على لغة الشاعر القادم من خطاب آخر، إن لم يكن متناقضاً بالضرورة مع الخطاب الأول، فإنه حتماً مختلف أشد الاختلاف، متباين أوضح التباين، لصالح الخطاب الثقافي الأوروبي طبعاً. وهذه ظاهرة تدخل في إطار العلاقة بين العربي والآخر الأوروبي التي غالباً ما ينظر إليها من موقع الصدمة الحضارية، والانبهار بالآخر
ومستوياتِه على الأصعدةِ جميعها، بما يشمل ذلك من طبيعة العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبينه وبين الطبيعة، بين الذكر والأنثى.
فكان أن عبَّر الخطابان عن علاقة الخلل بينهما. وقد عبَّر المثقف العربي كثيراً عن هذه العلاقة، عبر الدراسة، والبحث، والأدب الروائي والقصصي. ولكن في الشعر كان الشاعر نزار أهم من جعل من شعره حاملاً فنياً جمالياً لهذه الظاهرة الحضارية المعقدة.
وقد أشرنا في مكان آخر، إلى الفضيلة الكبرى التي يمتاز بها نزار، شاعراً. وهي قدرته اللا متناهية على تحويل الهمّ والهاجس الفكري المعقد إلى هم ذي طابع جماهيري يتغلغل عبر أحاسيسهم ويتشبعون به ويتمثلونه. أي أن نوار بعفوية يحسد عليها، ودون تعقيدات الطبقة المثقفة والطليعية، أعطى الجماهير حقها في أن تعرف مشكلاتها النفسية والاجتماعية، خاصة مسألة الكبت النفسي والأخلاقي بوساطة الشعر.
وفي هذا السياق يأتي تعبير نزار عن العلاقة مع خطاب الثقافة الأوروبية، وتناقض الذات مع ذاتها، تعبيراً ذا وزن شفّاف يناسب طبيعة الشعر الذي يمارسه هو من موقعه شاعراً للجميع..
ولأن نزارا جاء أوربا وفي مشروعه الكبير تكمن المرأة العربية بإشكالاتها التاريخية والعاطفية، ووضَعَ هذه الإشكالية (عبر القصيدة طبعاً كما أشرنا) في قلب الصراع مع مفهوم أوربي مختلف أشد الاختلاف، على صعيد المرأة ومكانتها ودورها وفاعليتها وحريتها. برزت المرأة مرة أخرى كاختيار يتعرض له الشاعر لإثبات مدى صلته بالجمال والحرية والانفتاح على الفضاء.
جاء نزار،، ووراءه ثقافة تخاطب المرأة بكثير من التهميش والتبعية والامتلاك على أنها بضاعة، سلعة تخضع لقوانين السوق والشارع التجاري بمنطقه المادي والانتهازي.
جاء إذاً ووراءه تلك الثقافة وأمامه ثقافة تمكنت من حلِّ كثيرٍ من مشكلات الإنسان، بما في ذلك المرأة, و نقلتها إلى المعنى الحضاري الكريم, أي ثقافة نفضت فيها المرأة رماد تخلفها و كسرت الحاجز بينها وبين جنة الأرض وجدوى العمل والحرية..
على أنه من المفترض أن يجد الشاعر في أوروبا ضالته المتمثلة في امرأة حرة، أنثى حضارية، منفتحة،، تبتكر حاضرها وتطالب بحقوقها وترحل إلى مستقبلها بثقة وطموح وأمان.
أليست هذه المرأة التي يدعو إليها شعر نزار ؟ تاريخها هي كذلك، تنتمي لمشاكلها وتعانيها، وتتبصر الطريق إلى خلاصها من داخل هذه اللحظة التاريخية لا من خارجها. فأنثى نزار أساساً بنت ألف ليلة وليلة، وبنت نصوص العشق، والطغيان، والفقه، والتقاليد السوداء والخضوع والعبودية. أنثاه التي انتمى إلى فضائها، هذه هي، وهي نفسها التي اجتهد عبر عمره على تحريضها وصياغة أزماتها، مقترحاً لها بدائل جمالية سعى إلى تعميقها وتكريسها كعادات شعرية يمكن عبر تراكمها في وجدان القراء، واستمرارها وإذاعتها عبر قنوات العلاقات الإنسانية ومفاهيم البسطاء من الناس، أن تمتلك القدرة على إنتاج حالة حضارية مقبولة تسم المرأة الأنثى وتساعد على تفريغ أعماقها من عقدها وأزماتها.
فماذا تشكل أوربا على هذا الصعيد لدى الشاعر؟ أوربا المجتمع المدني، فردوس للمرأة، ولمجمل حرياتها العاطفية والاقتصادية والجنسية.
لكن أوروبا ستحرض الشاعر على الإحساس أكثر فأكثر بالفجوة الحضارية بين المرأة العربية، كجزء من مشكلته الثقافية، والحداثة الأوربية.
وسوف يقف الشاعر أمام منعطفات عديدة فتارة سيجد الأنثى الحضارية التي يبحث عنها، وسوف يكتب عنها كما لم يكتتب عن المرأة الدمشقية مثلاً. فهنا يجد نفسه أمام امرأة تستمع إلى ((شوبان)) وتشاهد متحفاً، أو معرض رسم، وتحضر حفلة شاي الساعة الخامسة، وتلعب ((البريدج)) أي أمام امرأة تعيش نبض العصر بشغف، متخففة نوعاً ما من الأزمات الحادة و الفصامات و العصابات التي تعصف بنفس المرأة العربية في ظل شروطها التاريخية المتراكمة.
ولكنه في مرة ثانية لنن يجد هذه المرأة العصرية ملائمة لحقيقته كعربي ذي ذهنية حادة عصبية مزاجية متقلبة صحراوية بدوية (وكلها صفات ترد في شعره على أنها صفاته، لا كنزار قباني الشخص، بل نزار كنموذج في مواجهة حياة في لندن أو باريس).
وهنا سيرى نفسه هذا النموذج مشدوداً بحبل سرّيٍ إلى أعماقه الأولى المتشكِّلة هناك، في مناخ ((جميل بثينة)) و غزليات ((امرىء القيس)) والقهوة المرة وإيقاعات البحر الطويل، وهو عندما يستدعي هذه الرموز التاريخية، لا لكي يتناولها بصورة متعمّدة مسيئةٍ، حتى وإن كان سياقُها التَّعبيري يوحي من الظاهر بذلك المعنى التهكمي، لكنه يستدعيها لتكون دالَّةً على جملة مواصفات طبعت جزءاً كبيراً من رؤية العربي لشؤون الحب والجسد والمحرمات فهو يوظف هذه الرموز من جهة ما توحي به فقط. فكيف إذاً تنسجم هذه الشخصية مع حب امرأة مغزولة بأصابع ((بيير غاردان)) أو ((فالنتينو))؟
ليست المسألة ذات لونين، أسود/أبيض ، أبداً؟ فالشعر لا بعمل في هذه المنطقة المقسمة بمنطق ثنائي فجّ. بل علينا ، نعود هنا إلى ما أشرنا إليه من أن نزار شاعر خلق في قلب المشكلة وتمثلها وقد تسللت تمظهراتها عنبر كتابته أحياناً، مع رفضه لها. بمعنى ، أن نزار عندما يترك لحظة البدوي تعبر عن نفسها في (بار) انكليزي، فليس من أجل التباهي ببداوته، بل كان القهر والإحباط هما غالباً ما يظهران، أو يختفيان وراء هذه اللحظة المفارقة، إنه يحارب هذه اللحظة عبر تبيانها وشرحها وعرضها على الضوء الكاشف بسطوع يترك أسرار المتلقي تهتز وتنتهك، مذكرة هذا المتلقي أن البدوي الكامن فيه، يمد رأسه من حين إلى آخر في أشد لحظات علاقته مع العصر. إذاً لا يمكن أن نصدق أن البدوي كمفهوم اجتماعي متأخر لا يمثل حاجة حديثة سيكون حاضراً في خطاب الشاعر حول امرأة انكليزية، أو مع امرأة تشربت حضارة العصر وتشبعت بالمدينة والحريات على أشكالها.
إن هذا البدوي جزء من معاناة الشاعر، والشاعر هنا هو ليس شخصاً يتعلق بإنسان اسمه نزار قباني، بل هو نموذج للعلاقة بين العربي والثقافة الأوروبية وليس غريباً على وعينا ذلك المفهوم الملتبس في هذه العلاقة عندما يزدوج الموقف أمام هذه الثقافة الأوروبية. فنحن نتعاطى معها ولكننا لانوفر فرصة الانقضاض عليها ونهشها بالأظافر و تفتيل الشوارب أمامها.
مع هذا، فإن هذا البدوي قد يمثل رمزاً لحالات إنسانية عفوية صادقة شهمة كريمة نبيلة، تؤسس جانباً من ضمير الإنسان العربي في علاقته مع مادية الحضارة الأوروبية. وذلك البدوي هو بالضبط ما يستدعيه نزار قباني كذلك في لحظة الحوار مع جسد وثقافة المرأة، في المكان الأوروبي.
فمن جهة هو جزءٌ من الإعاقة، ومن جهة هو الصورة العاطفية المتوترة والصادقة أمام حالة البرودة والثلج والجمود والإفراط في ( الاتيكيت) المحاصر للحرية الروحية الجوهرية التي تحتاج أحياناً إلى فضاء وحشي طبيعي.
هذه هي الأزمة وقد تشخصت بالضبط : الصراع الحاد الداخلي الذي ارتفعت وتيرته في الشاعر، بين حضارة وطبيعة. بين بداوة ومدنية بين حرارة وبرود.. الخ. بين جسد يخضع للبرمجة عبر دقائقه و ثوانيه، وجسد هو الذي يبدع، ببروق أعماقه، أزمنته على هواه.
وعلى ما يبدو كان لابد من وجود هذا الصراع، بل كان يجب ألا يجد طريقه إلى الحل، لأنه يمثل أس الشخصية المركبة التي نتحدث عنها. فمن المحال الانحياز إلى أحد هذين الجانبين. فلا يمكن أن يكون الشاعر ((طبيعياً)) بالمطلق، ولا ((مدنياً)) بالمطلق، وهو في صدد العلاقة مع المرأة في هذا المكان. فهي علاقة لا تخضع للبرنامج الثابت. ولاينظمها قانون مستقر بعناصره ومبادئه. وهي العلاقة الطبيعية التي تنتاب الذهنية المقهورة للإنسان العربي المتمزق المتشظي بين سلطة الماضي الثقيل، وطموح المستقبل الغامض. ولابد أن تعكس هذه الذهنية أداءها على جميع مستويات الحياة التي يتمثلها الإنسان. إذاً نؤكد مرة أخرى أننا لا نستقرىء هذه الظاهرة، والتناقضات الناتجة عنها، بل إننا نحاول استنباط ما اتخذ منه نزار نموذجاً للإنسان العربي أمام المرأة المعاصرة.
لاشك أن الحضارة لا تتجزأ، وأن الحداثة عملية شموليةٌ تصيب حتى النظرة العابرة إلى أدق الوقائع والأشياء. ولكن هناك في الإنسان لحظة سرية يفلت فيها وحش (الطبيعة) داخله، منسحباً من جميع (الثقافات) ساعياً إلى الحرية الأولى المفقودة والتي أصبحت مع مرور الزمن تشكل مادة لحلم جميع المبدعين والفنانين.
ولأنها حلم إنساني، إبداعي، يمارسه فنان، فسوف يكون حلماً من قلب المخيلة الإبداعية التي تبني كوناً جميلاً، وتقيم معماراً جمالياً أساسياً. لهذا لن تكون هذه اللحظة الوحشية الأولى، الطبيعية عند الشاعر، حاضرة بمعناها الحقيقي أو المسلكي، لكنه سيدخلها إلى مختبره الجمالي،، مسبغاً عليها الروح والأناقة. وهنا يكمن جزء مهم ممن مسؤولية المبدع، عندما يزاوج بين اللحظتين الأساسيتين اللتين تبنى عليهما روح الإنسان الطبيعي. وهما لحظتا المدنية، والوحشية. ولاشك أن الإبداع يعطي هذين المتناقضين فرصة اللقاء السليم، حتى لا يتحول الإنسان إلى طاقة مهدورة..
وقد زاوج نزار قباني بين هاتين اللحظتين بمهارة نادرة ولاسيّما عندما كان المكان ينتقل عنده من هوية عربية إلى هوية أوربية متخذاً من ((الحب)) هذا المطلب الإنساني الذي ينتقل على تخوم الغريزة والثقافة معاً مجالاً لهذه المزاوجة.
وكانت نبرة نزار تمثل الصورة الصادقة والعفوية، لهذه الحالة
فيه المتناقضات. وقد استطاع نزار كونه شاعراً للجماهير المقهورة أن يستنطق بأدواته الشعريةـ بما في ذلك إحساسه العميق والناقد إلى المشاعر طبيعة العلاقة المعقدة التي يعيشها الإنسان مع أنثاه في ظروف اجتماعية ونفسية مأزومة.
فكان لايترك اللحظة البدائية، تقود السلوك الإنساني مع الآخر، ولا يتباهى بأن يغرق في نور الحضارة كلياً بالصورة المزيفة. لأن في الأمرين، كل على حدة، تشويهاً للحقيقة، هذه الحقيقة التي فحواها أن المشاعر الدقيقة مؤسسة بأسلوب متداخل يسمح لمجمل العناصر المتنافرة أن تتصالح.



#محمد_علاء_الدين_عبد_المولى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصائد قصيرة
- حلقة أولى من سلسلة دراسات نقدية عن تجربة نزار قباني
- صحوُ القصيدة
- حِوَارٌ مع المفكّر السّوري د. برهان غليون


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد علاء الدين عبد المولى - محاولة قراءة جديدة في شعر نزار قباني الحلقة الثانية *