أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم الساعدي - صوت اللسان














المزيد.....

صوت اللسان


عبدالكريم الساعدي

الحوار المتمدن-العدد: 5397 - 2017 / 1 / 9 - 00:37
المحور: الادب والفن
    


صوت اللسان
يتشبّث بجذع نخلة، عشقها منذ زمن طويل، كلّ صباح يخرج محتمياً بالولاء، يتردّد إلى دكان له في السوق، بقالاً يبيع التمر فيه، يولّي بصره نحوها، يشير إليها، يكاد لا يبصر سواها، يسقيها، يطوف حولها، يصلّي عندها، يفتضّ سرّه وسرّها، يحدّثها:
- بوركت من نخلة، لك خُلقتُ، ولي غُذِّيتِ.
يهزّ جذعها؛ لعلّها تساقط موته الجميل الذي ينتظره، مذ بشر به صاحبه الأمين:
- ستصلب على جذع هذه النخلة، ولن تموت حتى يُقطع لسانك.
يحمل خشبته على ظهره، وكفن مكتظّ برائحة النخيل، وبالحنين لرفاق الأمس؛ وجوه تستظلّ بعتمة الليل، تطارد خطاه، تراود رأسه، تبغي لسانه، تطلق صيحة استنكار كلّما مرّ بهم:
- هذا هو الكذّاب، مدّعي الغيب.
يخرج صوته المخبوء تحت طي لسانه، تستيقظ النهايات على جبين الناظرين إليه، يفرّ الآخرون خوفاً من لسانه، يطارد خيولهم الهزيلة:
- انتظروا كي لا تموتوا، لا تهجروا مقام الراحلين، ستضيق بكم الأمكنة إذا ما انفصل رأسي.
يمعن في الظلمة، يعاود صورة موته، يشعل قنديله، يرسم ما بين الحرائق والخرائب أطياف العاشقين، يتسلّق سلالم الاستغراب:
- كيف تمدّ المدينة جسراً نحو الجوع والخوف، نحو الجحيم؟!
يمازحه صوت في السوق، يقطع حبل خلوته:
- أيّها التمّار، أ لم تهيّء رأسك؟ لقد طال الانتظار.
يدلق شهقة، يلتفت نحو النخلة، تبتسم المسافة الممتدّة بينهما، تفوح برائحة نشيج بقّعهُ الأنين، يثمله شوق اللقاء، يتلمّس رقبته:
- سيطرقون الباب.
في الصباح يقف على دكة السوق، يلوي عنان الخوف، يصدح بالسرّ:
- ألم تزكم أنوفكم رائحة الجثث المتعفنة، رائحة القمامة التي ملأت أرجاء السوق؟ أتخشون رجالاً ممتلئين شبقاً وشهوة؟ سأريح ضميري، افتحوا كتابكم ولا تبارحوا نوره.
يتحصّن بحجته:
- ستعرفون الطريق حين أُصلَب على تلك النخلة، حين يقطع رأسي ولساني.
جدران القصر، أبوابه، يصفعها الصوت، تهتزّ؛ سدنة الليل المخمورون بالترف، يستعينون بمخاوفهم:
- مولاي، لسان التمّار اعتقل الجميع، يجلدهم بسوط نبوءاته الكاذبة.
- اسجنوه.
أسوار السجن تضيق ذعراً به، يخنقها صوته المجلجل بين السجناء، يشحذ هممهم، ينبثق من لسانه ضوء يلهج بالحياة، يعشق إشراقة الصباح:
- أنت ، وأنت، وأنت, و... ستلحقون بنا؛ أما أنت ستنجو، وتدرك ثأرنا، أمّا أنا سأرتدي ثوب الحكاية.
عند سعال الليل يطلق سراحه، يمشي حافياً، السوق خالٍ من الباعة، الطرقات مكتظّة بالوحشة، تتراص على أطرافها مخالب تقطر دماً، رغبة جامحة تكبح خطواته، يختلس النظر إلى نخلته، يمرّ بها سريعاً، يمسح ما تيسر من كربها، يتدلّى السعف، يدنو منه، يتساقط، تصفق الحمائم بأجنحتها حائرة، تلوذ فاختة بالفرار، يتلوّى الجذع حوله عارياً، الصورة تقترب من الاكتمال.
عند الفجر يعتقل مرة أخرى، لم يكن بوسعه غير أن يجدل ضفائر اللقاء، الحضور يتجدّد، يهتك ستر الخوف، يفقؤ عين العتمة:
- اقتربوا منّي أكثر، ها أنا رجعت إليكم ثانية، لكنّي مفارقكم؛ فاجعلوا من غيبتي جسراً يمتدّ إلى القادمين من مساكن النور, ولا تخبّئوا رؤوسكم في الطمي.
جذع النخلة يتشكّل خشبة، يُرفع عليها عند باب جار النخلة، يلتفت إليه باسماً:
- لماذا تبسّمَ في وجهك؟ قال أحدهم.
- كان والله يقول لي إنّي مجاورك، فاحسن جواري.
تُقطع يداه ورجلاه، وقبل أن يقطعوا رأسه تركوه جانباً؛ ليحتفلوا بزهوهم، بانكساره، ينادي خلفهم:
- مهلاً، ألا تقطعون لساني؟.
ابتسامة خبيثة ترتسم على شفتي السيّاف:
- حتى يعرف الحاضرون، من الكذّاب.
تخزه العبارة، تدمع عيناه، يطلق في الحضور صوته:
- من أراد الحديث المكتوم، فليستمع لآخر كلماتي.
اللسان يلهث بين الفكين، تفتح الشفتان، يفرّ الصوت، يفتح نافذة للطرقات، يكشف الستر، يلهج بفضائل صاحبه الأمين... ينتصب اللسان جيشاً، المكان يتّسع، الحضور يتناسلون خوفاً، يغتنمون ودّ اللحظة، لحظة ضجيج الحرف " الشهداء يتجددون، الشهداء قادمون..."؛ فيفرون إلى أنفسهم، تاركين ظلّهم غارقاً بالدموع.
- أيّها الأمير، لقد فضحكم هذا العبد.
يقطب جبينه، يعبس، يرتعد غيظاً:
- وماذا تنتظرون؟ الجموه.
ينخره الوجع، يتلظّى بنار الانتظار، ضباب كثيف يغشى عينيه، لا يكاد يرى سوى رجلٍ مهتاج، أكثر الطعن فيه:
- افتح فمك.
- عجيب أمركم! تطلبون أمراً لم ترجوه بالأمس.
- سنقطع لسانك؛ كي تسكت إلى الأبد.
يبتسم على رغم الجراح:
- آن لي أن أرحل، لقد صدقت النبوءة.



#عبدالكريم_الساعدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ( تكوين ) نص أدبي يتقاطع و يلامس أكثر من نظرية فلسفية و فكرة ...
- تكوين
- أمل
- القاص الذي جعل حوادث قصصه قريبة من العقل والمنطق... قراءة / ...
- تأملات في لوحة مرمرية أيديولوجيا الوجع في القص العراقي -33 أ ...
- جماليات اللغة في [ ولادة ] للقاص عبد الكريم الساعدي
- الغريب
- السفير / قصة قصيرة
- دراسة نقدية بقلم الأستاذة سامية البحري: - أحلام وذباب- ...
- بين الانتظار والاحتضار/ سامية البحري - تونس
- عيناك للعراق / الأستاذة سامية البحري / تونس
- دراسة نقدية لقصة ( طقس عبثي ) للقاص عبدالكريم الساعدي، بقلم ...
- قراءة نقدية للأستاذة/ زهرة خصخوصي لنصّ “الرّفيق ديونيسوس” لل ...
- - الكلام على الكلام صعب -
- عطب
- سيرة معطف / قصة قصيرة
- امتزاج التأريخ بالشعر والخيال في ( غبار القصائد) / دراسة نقد ...
- دراسة نقدية لقصة ( توهُّم ) / بقلم الناقد أحمد طنطاوي
- قراءة نقدية لقصة ( في بطن الحوت ) للقاص عبدالكريم الساعدي
- حين يغرد حمار جارنا


المزيد.....




- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم الساعدي - صوت اللسان