أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - اسماعيل داود - بكل حرارة وألم أودعك، والدي العزيز وداعاً















المزيد.....

بكل حرارة وألم أودعك، والدي العزيز وداعاً


اسماعيل داود

الحوار المتمدن-العدد: 5395 - 2017 / 1 / 7 - 15:35
المحور: سيرة ذاتية
    


رحل طيب الذكر ونقي القلب والدي ألعزيز محمد داود في ألأمس الجمعة (6-1-2017)، بعد حياة حافلة طوى فيها عشرة عقود، أمضاها جميعا في البلاد التي لم يعرف غيرها: العراق.
قصة حياته عبارة عن مشوار طويل من الكفاح خصصه كله من اجل أولأده وعائلته. بنزوحه مع والده من مكان ولادته قرب شاطئ التاجي شمال بغداد إلى قلب المدينة ، خطا مع والده خطوة هامة باتجاه الحياة المدنية. إلى أحضان بغداد المدينة مبتعداً عن أجواء العشيرة و ما يحيط بها من قسوة وعدم استقرار وعنف! أراد لنفسه ولأولاده من بعد، أن يولدوا ويتربوا بأحضان المدينة ودفئ شمسها. قاطع حياة العشيرة بالرغم من تعلقه بالأرض الزراعية والمياه والخضرة التي احبها.
أحبّ دجلة، النهر الذي مثل مصدر الحياة له ولمكان ولادته، فانحدر معه باتجاه بغداد وسكن بجانبه. بعد وفاة جدي “والده” ازداد الحمل عليه وازداد معه أصراه على أن يكمل المشوار! بالرغم من انه تعلم القراءة والكتابة لكنه لم يكمل دراسته ، وآخذ بإعالة أخيه المريض وأخواته وأمه بشكل مبكر. ترك المدرسة، لكنه احتفظ ببعض من كتبه وكأنها كنز. هذا ما كنت اشعر به ، وأنا أراقب اصفرار أوراق بعض هذه الكتب (كنز أبى) مع مرور الزمن.
سكن جانب الكرخ وتزوج وعاش حياته مكافحاً عصامياً. حرص على أن يكمل أولأده، البنات قبل ألأولاد ، دراستهم وتعليمهم. رفض فكرة الزواج المبكر لبناته وترك لهم الخيار الحر في تقرير مستقبلهم.
كان مؤمنا على طريقته، لم يجبر أولأده على التدين ولم يسمع لدعوى التطرف، أو المبالغة في التدين بالرغم من تعدد الحملات آلإيمانية ومن ازدياد مظاهر التدين من حوله! لم يكن يشرب الخمر و لم يطقه أبدا و لكنه كان مدخن شره. كان يأخذنا لزيارة المراقد الدينية أو لوفاء النذور مع والدتي. مرة في “العباس” وأخرى لدى “الشيخ عبد القادر”. لم يعرف عمره الطائفية ، لم اذكر انه كلمني يوما عن مذهب فلديه كما كان يقول “الدين والرب واحد” .عشق الاستماع لأصوات التجويد العراقية للقران الكريم والذي حفظه في صغره ولم يرد يوما أن يتاجر به!

كان يروي لي قصص كانت تبدو لي بسيطة، ومع مرور الزمن كان معنى رواياته يزداد عمقا واثر في ذهني. فمرة روى لي مزحه عن شخص قرر المسير للحج ليغير شي من نظرة الناس له. كان الناس يتعاملون مع هذا الشخص بتعال نتيجة لتصرفاته السيئة معهم ويطلقون عليه لقب "زغيرون" مشيرين لقصر قامته، بدلًا من اسمه. ولكي يتخلص هذا الشخص من هذا اللقب المزعج قرر الذهاب للحج، عسى أن يلقبه الناس من بعد حجه بلقب “الحاج”. لكن وعند عودته من الحج ، بداء الناس بمناداته بحجي زغيرون!
كم كان يعشق الخضرة والزرع والشجر والماء. عشق حمله معه إلى المدينة ، فكان بيته ألأول في حي الخضراء مزرعة وكانت حديقته بستان، كان يحب النبات المثمر. كان خبيرا يكفي أن يمسك بكفيه العارية التراب ليحوله إلى زرع وشجر. يعرف زرع التين والرمان والنخل والحمضيات ، تستهويه عملية قلب التربة وبعث الحياة فيها مرة بعد أخرى.

كان حاد المزاج وصعب حينما يغضب، لكن غضبه لا يتغلغل داخله، فسرعان ما يعود لطبيعته الهادئة والمتأملة.
كان يحب أن يشعل النار ويدخل الموقد معه إلى المنزل بعد أن يتحول الحطب جمراً أحمر. يقول بان الدفء الحقيقي لا يمكن أن نجده خارج المنزل!
لم اكن افهم سر موقفه السياسي باعتبار ثورة تموز من عام 1958 بانقلاب اسود وبداية لضياع العراق ومستقبله، كنت ارد :ولكن بابا هذه الثورة من اجل الفقراء، ثم أن نظام الملكية كان كله فساد، كان يجيبني (( وليدي بعدك صغير انته، هذولة الي اجوي وكطعوا الملك وعائلته، شيكدرون يسوون غير الاستمرار بالتكطيع و العراك بيناتهم! ))
لم يكن ملكياً لكنه كان يرى وبفطرته أن العسكر والأحزاب الذين وصلوا للحكم، بطبيعتهم غير ناضجين ويميلون للعنف، وكيف له أن يثق بهم و هم الذين نقلوا الخطر إلى قلب المدينة التي التجاء إليها ليحظى بالأمان!
عمله في السكك الحديد أضاف له الكثير من الحكمة والصبر ، وبعد النظر المعجون بالفطرة السليمة. لم نكن نحن أولأده نفهم لماذا هو قلق حول مفردات الحياة اليومية من طعام وشراب، لماذا ينظر بحذر إلى كيس الطحين لو رآه قارب على أن ينتهي ولماذا يدقق كيس السكر في كل مرة للاطمئنان على أن كميته تكفي لشهرين أو اكثر. لم نكن نفهم لماذا لم يرغب أبدا بان يترفع في عمله، تروي والدتي بانه كان يتهرب من أي ترفيع بشكل أو باخر.
كم من الحكمة كان يمتلكه هذا الرجل ! كان يعلم أن المسؤولية تزداد مع المنصب ، ولا ضمان لشروط السلامة والأمان والنظام ،فمن مستعد لتحمل هذا ألعبء والمغامرة بدون ضمانات!
في ثمانينات القرن المنصرم وخلال الحرب العراقية ألإيرانية التي دام سعيرها ثمان سنوات، كان يقول لنا، كلما مرت شحنة أسلحة في المحطة حيث كان يعمل "نحس كلنه بأن حبل المشنقة التف على رقابنا " لحين خروج الشحنة ووصولها إلى غايتها النهائية. كان يتحدث وكان الحرب لن تتوقف يوماً.
ويوم بعد يوم استمرت الحروب، وفهمنا ماذا يعني وجود كيس طحين وآخر للسكر وعلبة كبيره من الدهن، في منزل أسره كبيرة كأسرتنا.

كان عراقيا بمعنى الكلمة، وله الوطن يعني ألأرض والمياه والخضرة، وقبل كل ذلك ألأمان. لم اسمعه يوما يتغنى بعشيرة أو مذهب أو دين أو قومية. كان يشيد لي بعراقيين من أديان أخرى فيذكر اليهودي الذي ائتمنه على رهن عقاره ولم يخنه أبدا. فهذا العراقي من الديانة اليهودية كان قد باع منزلا لوالدي وكان على والدي أن يسدد له اكثر من قسط. وفي يوم تفاجئ والدي بان هذا الشخص يفتش عنه ويسال عن محل سكنه ليكمل له اجراءات حجة البيت و التحويل لوالدي، حتى قبل سداد ألأقساط آلأخيرة. الرجل كان قلقاً على حق والدي في البيت، وقرر أن يسجل له ويكمل كل شئ قبل أن يغادر العراق مرغماً في موجة تهجير اليهود العراقيين.
كان يحدثني أيضاً عن أمانة ومهنية أبناء العراق من اتباع الديانة المسيحية والصابئة، في العمل والتعامل التجاري وكيف كانوا حريصين على النظافة!
لم يقبل بان يكون حزبيا طيلة عمره، لم يكن يعلق كثيراً عن السياسة و يختصر ، بالقول ((بعد انقلاب 1957، العراق مبقه بيه أمان)) ولمن يسأل عن سر هذا الموقف الحازم وماهي خلفياته ، انصحه أن يقرا للكاتب العراقي خالد القشطيني، فهو (القشطيني) من أعانني على أن افهم موقف والدي!

لم يكن ليسمح بان يكون أي من أولأده الأربعة في جيش أو في شرطة أو جهاز أمن، في زمان كان امتيازات العسكري ورجل ألأمن والضابط تزداد يوم بعد يوم. كان الشباب من حولنا نحن أولأده، يتسابقون على المناصب الأمنية، طمعاً بما تحمله من منافع (سيارات ، منازل، قطع ارض ، بيوت)، وبما تعطيهم من سلطة. أما والدي فكان يقول لنا فلتذهب عطاياهم وأراضيهم إلى جهنم، المهم أن تكملوا دراستكم وان تعيشوا حياتكم بأمان.

لم تراوده أبدا رغبة بالعودة للعشيرة ، حتى بعد أن أقبلت الدنيا من حوله من جديد على العشيرة ومن ثم على المذهب، سار والدي بخطى “المدنية” غير عابئاً صلداً. وامس غادر الدنيا بصمت الى وادي السلام، عصامياً فرحاً بوطنه الذي تركه في المنزل وفي الحديقة.
والدي العزيز اعذرني لأني لم اكن بقربك في هذه الجمعة ألحزينة، لك كل الحب والسلام.



#اسماعيل_داود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منظمات المجتمع المدني مطالبة بتطبيق إصلاحات (2)
- منظمات المجتمع المدني مطالبة بتطبيق إصلاحات
- سليم الوردي، تبكيك بغداد، يبكيك العراق
- غيبوبة “كوب 21 “ : قمة المناخ في باريس والمجتمع المدني العرق ...
- سر الحقيبة الأشورية!
- قراءة أولية في بنود حماية الاثار الواردة في قرار مجلس الامن ...
- المثلك يا ابو انيس هذا الوكت مطلوب!
- زكية جورج لم تكن مُدافعة عن حقوق المرأة ولكن !
- كُلّ ما حَولنا سياسة، والدليل زكيّة جورج !
- الى من هم احق بالاحتفال والتهنئة!
- صديقتي التونسية... تسال عن العراق! (2)
- صديقتي التونسية... تسال عن العراق!
- دَرسٌ في الكرامة
- مشكلة واستبيان!
- احفظوا الموروث العالمي لنهر دجلة في وادي الرافدين، الاهوار ف ...
- المنتدى الاجتماعي العراقي
- الحوار المتمدن مُتَسع للكتابة والنشر والنقد، قلّ نظيرها!
- حديثٌ في الثقافة والسفارة!
- ثمانية وثلاثون سؤال حول حقوق الإنسان في العراق
- ﻻ تنتخبوا أُُم سجاد !


المزيد.....




- هارفارد تنضم للجامعات الأميركية وطلابها ينصبون مخيما احتجاجي ...
- خليل الحية: بحر غزة وبرها فلسطيني خالص ونتنياهو سيلاقي في رف ...
- خبراء: سوريا قد تصبح ساحة مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران
- الحرب في قطاع غزة عبأت الجهاديين في الغرب
- قصة انكسار -مخلب النسر- الأمريكي في إيران!
- بلينكن يخوض سباق حواجز في الصين
- خبيرة تغذية تحدد الطعام المثالي لإنقاص الوزن
- أكثر هروب منحوس على الإطلاق.. مفاجأة بانتظار سجناء فروا عبر ...
- وسائل إعلام: تركيا ستستخدم الذكاء الاصطناعي في مكافحة التجسس ...
- قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي على مناطق متفرقة في غزة (فيديو)


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - اسماعيل داود - بكل حرارة وألم أودعك، والدي العزيز وداعاً