محمد علي مقلد - كاتب وباحث يساري لبناني - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: ثورة داخل الأصوليات اليسارية والقومية والدينية أم ثورة عليها.


محمد علي مقلد
الحوار المتمدن - العدد: 5383 - 2016 / 12 / 26 - 00:03
المحور: مقابلات و حوارات     

 من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -192- سيكون مع الأستاذ د.محمد علي مقلد - كاتب وباحث يساري لبناني -  حول: ثورة داخل الأصوليات اليسارية والقومية والدينية أم ثورة عليها.



ما حصل ويحصل في العالم العربي، والذي قد يستمر حصوله لسنوات طويلة، هو ثورة، بل هي الأولى، بالمعنى الدقيق للكلمة، بعد ثورة النبي محمد التي نشر فيها دعوته الاسلامية. كل ما عدا ذلك لم يكن سوى انتفاضات أو حركات تمرد أو حركات مطالبة بالسلطة، كثورة الزنج أو البابكية أو القرامطة، أو انقلابات في العصر الحديث بقيادة أصوليات يسارية أو قومية أو دينية، من سعد زغلول إلى عبد الناصر في مصر وأديب الشيشكلي وضباط حزب البعث في سوريا والعراق ومن جعفر النميري إلى عمر البشير في السودان، لا تعدو كونها تغييرات جزئية وموضعية، سلبية أحياناً وإيجابية أحياناً، من داخل المنظومة الحضارية والسلطوية ذاتها.

يعاني العالم العربي لا من أنظمته فحسب، بل من أحزابه أيضاً، التقدمية والقومية والدينية، التي هي أغصان من شجرة الاستبداد ذاته، وهي نسخ متعددة من الأصوليات التي تبحث عن الحلول في النصوص المقدسة وفي بطون الكتب، وهي معادية للديمقراطية وترى في الآخر، أياً يكن هذا الآخر، عدواً لها، ويزعم كل منها أن في بنية قيادته وإيديولوجيته وبرامجه "قداسة" ما، تمنحه نوعا من العصمة وتحميه من الزلل، فتصير الأحزاب كلها كأنها "أحزاب الله".

لا التشخيصات السابقة ولا البرامج تمكنت من إدخال بلدان الوطن العربي إلى عالم الحداثة والمعاصرة ، بل هي التي أبقته في خانة العالم الثالث بل الرابع والخامس. الحركات الدينية رأت العلاج بالعودة إلى الاسلام الصحيح، فأدخلت المسلمين ومن يعيشون داخل العالم الاسلامي في معضلة أشد وأدهى، بحثاً عن إي إسلام هو الصحيح، إسلام الاجتهادات المتعارضة والأحزاب المتناحرة؟ إسلام التنوير والمفكرين والفلاسفة أم اسلام المعممين وإبن تيمية أم إسلام السلف الصالح؟ الإيراني أم السعودي أم التركي أم الصومالي؟ إسلام العقل أم "ما قبل العقل" أم "العقل المستقيل" (الجابري). وحيث وصلت الحركات الدينية إلى الحكم لم تتجاوز برامجها "التنموية" موضوعي النساء والمشروبات الروحية، مستندين في ذلك إلى تفسيرات مغلوطة للنصوص.
الاحزاب القومية شخصت المرض بالاستعمار والعلاج بالتحرر منه، وقد أثبتت الوقائع حقيقة معاكسة تماما، وهي أن البلدان التي "استخدمها" الاستعمار "مقراً أو ممراً" كانت أكثر جاهزية للتطور والدخول في حضارة العصر من تلك التي لم يطأ الاستعمار أرضها، وأن البلدان التي تفاعلت مع الغرب الاستعماري كانت أسرع من سواها إلى الدخول في الحداثة ، وربما كان النموذج التونسي خير مثال على ذلك في تجربته التي سبقت الربيع أو في تلك التي تلت سقوط النظام القديم أيضاً. كما أثبتت أن العداء للاستعمار قد تلازم مع قيام أنظمة قومية استبدادية شمولية توسلت الانقلابات للاستيلاء على السلطة، وتحالفت مع المعسكر الاشتراكي من أجل "فك التبعية عن الاستعمار" وعن الغرب الرأسمالي، وتذرعت بالعداء للصهيونية فبالغت في الانفاق على جيوشها وعلى استعداء شعوبها. فلا هي حررت فلسطين ولا بنت الاشتراكية، بل وضعت بلدانها أمام خياري الاستبداد أو الحروب الأهلية. كما أثبتت أن الأوطان المستحدثة لم تتمكن من الحفاظ على المكتسبات التي تحققت أيام الاستعمار، ولا سيما على الصعيد السياسي، حيث سارعت القوى السياسية إلى إستعادة أنظمة الاستبداد والإطاحة ببذور الديمقراطية الفتية.
أما الاحزاب اليسارية فقد ركزت على الجانب الاقتصادي الاجتماعي، انطلاقاً من تفسير مغلوط لقانون العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية في الماركسية. حتى الأحزاب الشيوعية التي لم تتمكن من الوصول إلى السلطة في العالم العربي، فهي كانت متحالفة مع قوى قومية في الحكم أو متعاونة معها. أما في بلدان أخرى كثيرة خارج المنظومة الاشتراكية فقد استولت على السلطة بالانقلابات العسكرية، من أفغانستان واليمن في آسيا إلى أثيوبيا وبلدان أفريقية كثيرة، ولم تتمكن، لا في البلدان التي حكمتها مباشرة ولا في تلك التي دعمت الحكومات فيها، أن تقدم نموذجاً صالحاً لحل أزمة التخلف أو أزمة النهوض على امتداد أنظمة الحكم التي احتكرتها أو شاركت فيها.

قراءة الواقع العربي تتطلب إعادة صياغة الكثير من المصطلحات، كالثورة والتقدم والاشتراكية، فالثورة، على سبيل المثل، لا تكتمل إلا إذا ترافقت أو تتوجت بثورة سياسية، على هذا الأساس تسقط من التصنيف كل محاولات النهوض الاقتصادي والثقافي، مهما بلغت درجة نجاحها (العراق قبل الغزو نموذجاً)، إن لم يكن النهوض مصاناً بثورة في المجال السياسي قادرة على حماية الانجازات في سائر المجالات.
كما تتطلب التعامل مع الرأسمالية بصفتها حضارة وتقييمها استناداً إلى النصوص الماركسية الكلاسيكية، ولا سيما ما ورد عنها في البيان الشيوعي. نقول ذلك اعتقادا منا بأن الاجابات المغلوطة على أسئلة النهضة العربية ناجمة عن نظرة مغلوطة إلى الرأسمالية، وبأن النهضة ليست شيئا آخر غير الخروج من حضارة العصر الاقطاعي إلى الرأسمالية، وأن الدخول إلى هذه الحضارة الجديدة من غير بابها السياسي قد يحقق إنجازات اقتصادية وثقافية وعلمية كبيرة، لكنه لا يؤمن لها الضمانة الأكيدة للحفاظ عليها ولتطويرها. من يدرس تاريخ أوروبا في القرون الوسطى يعرف إلى أي مدى كان التشابه كبيراً في طرق العيش والتفكير وفي علاقات الانتاج وآلياته، وفي القيم الاجتماعية والسياسية، بين بلدان عديدة متباعدة من أقصى الشرق الآسيوي حتى أقصى الغرب الأوروبي، مرورا بالمنطقة العربية، ويعرف كم أن عملية الانتقال، ولا سيما صعوباتها، متشابهة هي الأخرى.

العقل، العلم،المعرفة، الصناعة، الاقتصاد، عناصر تكاملت الثورة فيها ضمن علاقة جدلية بين أطرافها. الحاجة أم المعرفة، والعقل هو السبيل إليها. في البدء كان المكوك لتطوير صناعة النسيج، ثم توالت الاكتشافات. صناعة الألوان مدخل إلى علم الكيمياء وعلوم الطبيعة، فالألوان مصدرها الطبيعة والتفاعل الكيميائي هو منجم ابتكار ألوان جديدة. صناعة الأجهزة مدخل إلى الفيزياء. المسننات ومحاور الحركة( أكسات)، وصناعة الساعة، كواحد من الأجهزة الداعمة لحواس الانسان ووعيه، ساعة الحائط وساعة اليد. صار للوقت معنى آخر وللعمل مقياس دقيق للقيمة.
من أهم هذه الأجهزة المبتكرة تلك التي تساعد العين على رؤية الأجسام الصغيرة جدا أو البعيدة جدا، التي لا تراها العين المجردة ، الميكروسكوب والتلسكوب. يمكن وصفهما بصاعقين فجّرا المعركة بين السببية وعلم الغيب، بين عالمين من المعرفة أحدهما مبني على التجربة، والآخر على الحدس و الماورائيات، بين نموذجين للوعي، أحدهما من نتاج عقل العلماء وآخر من نتاج الطقوس الكنسية. يمكن القول إن هذين الجهازين هما اللذان أطلقا ثورة ضد المعرفة الكنسية، لأنهما ساهما بتدمير عمارة المعرفة المبنية على التواتر السمعي، ناقلين المعرفة من الأذن إلى العين، ثم أرفقا ذلك بالتشكيك بالمعرفة العينية وبكل معرفة حسية قبل التثبت منها بأحكام العقل. ثورة علم الفلك بواسطة تلسكوب كوبرنيكوس ومن بعده غاليليه، سحبت الفضاء من سطوة الأساطير وجعلته مادة للعلوم العقلية. كما شكل انتقال المحورية من الأرض إلى الشمس قريناً لانتقال المحورية مما وراء الطبيعة إلى الطبيعة. كان الله هو محور الكون فصار الانسان. التلسكوب عوض قصور العين عن رؤية الأجسام البعيدة في عمق الفضاء، مثلما عوض الميكروسكوب قصورها عن رؤية الخلايا الصغيرة في بطون الأجسام القريبة.

من المفاهيم والمعادلات التي تحتاج إلى إعادة تأويل وتفسير الصراع الطبقي وعلاقة البنية التحتية بالبنية الفوقية، انطلاقاً من اعتبار الافكار قوة مادية. ذلك أن العقل، العلم،المعرفة، الصناعة، الاقتصاد، عناصر تكاملت الثورة فيها ضمن علاقة جدلية بين أطرافها. الحاجة أم المعرفة، والعقل هو السبيل إليها. في البدء كان المكوك لتطوير صناعة النسيج، ثم توالت الاكتشافات. صناعة الألوان مدخل إلى علم الكيمياء وعلوم الطبيعة، فالألوان مصدرها الطبيعة والتفاعل الكيميائي هو منجم ابتكار ألوان جديدة. صناعة الأجهزة مدخل إلى الفيزياء. المسننات ومحاور الحركة( أكسات)، وصناعة الساعة، كواحد من الأجهزة الداعمة لحواس الانسان ووعيه، ساعة الحائط وساعة اليد. صار للوقت معنى آخر وللعمل مقياس دقيق للقيمة.

على أن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه ماركس والماركسيون هو التفسير المغلوط والمشوه لفكرة الدولة وللموقف منها. لقد اقتصرت نصوص ماركس عن الدولة على مجموعة من التعليقات والتحليلات السياسية والفكرية، وعلى نقد مفهوم هيغل للدولة. رداً على هيغل الذي رأى أن الحرية هي غاية التاريخ وأن الدولة هي تجسيد الحرية، قال ماركس إن البشر لن يعرفوا حرية طالما الدولة موجودة. ذلك أنها، في نظره، أداة للهيمنة الطبقية والقمع الطبقي، وأداة لضمان ملكية الرأسمال ومصالحه ضد العمل. غير أن تلك الملاحظات المتفرقة التي أوردها ماركس عن الدولة كان يستكمل بها نقده للدولة في الحضارة الرأسمالية، وكان يستشرف زوالها في لحظة ما من التاريخ، وبالتحديد حين لا يعود المجتمع في حاجة إلى وجودها ، أي حين ينتقل المجمتع من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وتصبح الضوابط الاخلاقية بديلاً من الروادع القانونية.
اليسار الماركسي كان الأقدم عهداً في معارضة الدولة الرأسمالية، ثم تلاه الاسلام السياسي في منطقتنا معارضا لها بحجة كونها أحد تجليات حضارة موسومة بأنها "أجنبية ومسيحية ومادية"، ثم استكملت معارضتها من جانب القوى القومية بحجة كونها نتاجاً استعمارياً.
أتاحت لنا القراءة النقدية لتجارب النضال ضد "الصهيونية والرجعية والاستعمار" وضد الرأسمالية المتوحشة أن نكتشف هذه الأعطال في منظومتنا الفكرية، حين لم نكن نميز بين زوال الدولة وإزالتها، أو بين اضمحلالها والقضاء عليها، بين انتفاء الحاجة إليها أو تدميرها، أي حين فهمنا فهماً مغلوطا قانون النفي ونفي النفي، وجعلنا النفي الميكانيكي بديلاً من النفي الجدلي. لذلك عكفنا على نقد التجربة وجعلنا استنتاجاتنا بمثابة نقطة ارتكاز لرسم برنامج النهوض التقدمي يضع في رأس أولوياته بناء الدولة والنضال من داخل الحضارة الرأسمالية للتخلص من الشر الأكبر فيها، استغلال الانسان للانسان.
قد يكون من المفيد والضروري أن يعيد اليسار صياغة مواقفه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانهيار التجربة الاشتراكية، وإعادة بناء القضية المركزية التي عليه أن يناضل في سبيلها . وقد أثبتت تجربة الربيع العربي أن الحلقة المركزية المشتركة هي النضال ضد الاستبداد بأشكاله المختلفة، الظاهرة والصريحة في الجمهوريات الوراثية وأنظمة السلالات، أو المموهة بدساتير تفرغها السلطات من مضامينها الديمقراطية ، كما هي الحال في لبنان حيث شخّص اليسار عطل النظام في الطائفية فيما المرض هو في المحاصصة. أما في بلدان العالم العربي كله فقد أثبتت ثورة الربيع أن المشترك بين الأنظمة، على اختلافها وتنوعها هو الاستبداد. من طبائع أنظمة الاستبداد أنها تضع شعوبها أمام خياري الأنظمة الأبدية أو الحروب الأهلية. هذا ما حصل في الدول التي انفجرت فيها ثورات الربيع، فيما سائر البلدان العربية الأخرى مهددة بالحروب الأهلية إن لم تبادر القوى السياسية فيها إلى القيام بإصلاحات سياسية جذرية لبناء أنظمة دستورية وديمقراطية تلتزم الإعلان العالمي لحقوق الانسان وتحترم التنوع وتعتمد آليات لتداول السلطة.
ملاحظة: النص هو مقتطفات من كتابي، هل الربيع العربي ثورة، الصادر عن دار ضفاف في لبنان عام 2015