أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - خالد الحروب - لاعبُ النرد ... مُستقبلاً صادق جلال العظم















المزيد.....

لاعبُ النرد ... مُستقبلاً صادق جلال العظم


خالد الحروب

الحوار المتمدن-العدد: 5376 - 2016 / 12 / 19 - 22:32
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



ماذا فعلت مرثية محمود درويش الشهيرة "لاعبُ النرد" في وجدان وعقل الراحل الكبير صادق جلال العظم حتى يُوصي بأن تُتلى على روحه؟ ثماني سنوات مرت بين لحظة ولادة وقراءة "لاعب النرد" للمرة الاولى بصوت درويش صيف 2008 ولحظة كتابة العظم لوصيته في مكتب ناشره الالماني، كاي هينيغ غيرلاش، في برلين. كأنما نرد العظم ظل يجرب حظه مع الحياة والموت والمنفى والامل والثورة والاحباط، سارداً سيرة ثرية لإبن الارستقراطية السورية الذي قرر الإنحياز لماركسية تنتصر للفقراء منذ يفاعة شبابه. عندما ساقني لاعب نردي لأكون محظوظاً بسماع درويش في رثائه المتعالي لذاته في الصيف الرامالاوي وقبل رحلته النهائية لإجراء الجراحة القاتلة، توافقت واصدقاء كُثر على نفس الحزن المنتشر: درويش يودع الناس والحياة. "لاعب النرد" هي نصه الفخم والمُلتبس الأخير، الفائض بالأسئلة والغموض: "من انا لاقول لكم ما اقول لكم؟ وأنا لم اكن حجراً صقلته المياه فأصبح وجها، ولا قصباً ثقبته الرياح فأصبح ناياً ... أنا لاعب النرد، اربح حيناً وأخسر حيناً".
بعد موت الشاعر صار للقصيدة حيوات اخرى تتطاول بإستمرار وإعتداد مُلفت. في كل مرة أقرأُ فيها قصيدة الفلسفة والحياة والامل والموت والنصر والهزيمة هذه، تُروى لي القصة بشكل جديد وبأحداث طازجة. حياة الشاعر لم تنته مع الموت، بل هربت منه وتسللت إلى "لاعب النرد" وظلت تفور وتقامر كأنما إلى الابد. لئن كانت "لاعب النرد" اعلان استسلام الحياة العادية لبطش الموت المحتم، فهي ايضا اعلان انتصار الحياة بغرورها الجميل وديمومتها في الشعر على الضد من الموت والهباء. تُرى أين حلق بها صادق جلال العظم وحلقت به حتى ينص في وصيته على قراءتها يوم يموت؟ وماذا أريد انا من الزهر اكثر من بذخ اقدار النرد لي: رمية في الرمل، فيتقلب وجه النردين في السماء ستة وستة، دوش كامل، لأكون من يقرأها ويتلوها على روح العظم في برلين وفي مجلس عزائه المُتواضع؟
قبل عام وازيد قليلاً كانت فيمار، مدينة الشاعر والمفكر الألماني الكبير، تحتفي ب صادق جلال العظم، وكأنها وشاعرها يودعانه قبل ان يرحل. كنا مجموعة قليلة من العرب الذين جاءوا لمشاركة العظم حصوله على جائزة "ميدالية غوته" السنوية، وهي الاعرق والأكثر رصانة في هذا البلد. في ذات التاريخ المُحدد لمنحه الجائزة كنت مدعواً إلى ندوة هامة في مكان آخر مؤكداً للداعين حضوري. الغيت ذلك فور انتباهي لتضارب الموعدين، وهمست يومها لخلود، رفيقتي في الحياة وفي رحلتي إلى فيمار، بأننا نسابق الزمن في هذا اللقاء مع صادق، مشاركينه وزوجته ورفيقته إيمان هذا الإحتفاء الأخير، وهذا الآن اهم من كل الأشياء الاخرى. كنا مجموعة قليلة من عائلته واصدقائه العرب وسط جمهور الماني عريض. لا بأس من الإقرار بأن ثمة مرارة مزدوجة تحلبت في فرح ذلك اليوم المشمس: لأننا قلة اولاً، ولأن هذا التكريم، ثانياً، لم يكن له شقيق في بلاد العرب للمفكر الكبير. يومها كتبت جزء ً من المرارة: "غوته مُحتفياً ب صادق جلال العظم". اليوم ارواح شاعرين كبيرين، لاعب نرد فلسطين، وفارس لغة المانيا، ترحب بروح المفكر الكبير. اليوم (السبت 17 ديسمبر) هنا في برلين، خلود وانا مرة اخرى، إلى جانب ايمان وقد غاب صادق. ومرة اخرى تتحلب ذات المرارة المزدوجة لكن من دون الفرح الذي عشناه في فيمار العالم الماضي: لأننا قلة ايضاً في ايام العزاء هذه، قلة لا تتناسب وعلو كعب صديقنا الراحل، ولأن هذا العزاء يُقام بعيداً عن دمشق التي حلم صادق واوصى بأن يُدفن في ترابها ما تبقى من جسده ... إن امكن!
وفاءً لروح فتى دمشق التي بقيت وثابة حتى الإبتسامة الاخيرة نواصل لعبة النرد مُبتسمين. روحه لا تحتمل المديح الزائد، بل تتوق لتقليب الافكار التي حارب من اجلها. أهمية العظم تكمن في مواقفه الشجاعة وافكاره السجالية التي تستثير التفكير والنقد والإتفاق والإختلاف. ولأنه لم يكن "مثقف القطيع" بل "المثقف الناقد" و"المثقف القلق" فقد ظل حراً من قيود الأدلجة ومن الإندراج في اي قطيع. في لحظات شديدة الاختبار على كل مثقف ومفكر وقف العظم مع ضميره الفكري، وصرح عنه دون مواربة، ولم يجامل السائد والمُستقر من افكار وتوجهات. في نقده للهزيمة نفض الكسل التحليلي التآمري الذي كان (ولا زال) يلقي باللائمة على الغرب والآخرين ويعلق على مشجب الخارج كل الهزائم والتخلف الذي نرتع فيه. في نقده لسيطرة الدين على الفضاء العام وتفشي ذهنية التحريم كسر الخطوط الحمر وقدم نقدا من داخل منظومة العقل الديني. وفي نقده لنمط آخر من الكسل الفكري انتجته مقولات "الاستشراق" الإدوارد سعيدية، قال ان شطب عمل الاستشراق والمستشرقين دفعة واحدة، وهو النتيجة التي لم يردها او يدعو اليها سعيد، يعني تعزيز فكر المؤامرة، وتوفير عتاد رخيص وكسول للفكر الرجعي والظلامي كي يتمترس وراءه في نقد كل شيء له علاقة بالغرب. إنه "استشراق معكوس" بحسب عنوان مقاربته في نقد "الاستشراق" لسعيد. وعندما يتعلق الامر بحرية الفكر والتفكير والنقد ينطلق العظم ليقف في النقطة القصوى من الحريات، وليكون ذات تاريخ واحدا من الاسماء العربية النادرة التي وقعت بياناً ادان فتوى الخميني الداعية لقتل الكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي. لم تتكلس ثقافته حول القناعات اليسارية التي ظلت تشكل الدافعية الاخلاقية والانسانوية في مقارباته، ولم يقع اسيرا لايديولوجيا تتجمد عند مقولاتها او حتمياتها ولا تعترف بحركة التاريخ. انتقد التكلس والرجعية الايديولوجية عند الماركسيين العرب كما عند الإسلاميين العرب، ولم يجامل هنا ايضا.
فرح العظم بالربيع العربي واحتفى به فكريا ووجدانيا وسياسياً، ورأى فيه عودة السياسة الى الناس وعودة الناس الى السياسة بعد عقود طويلة من الجمود والاستبداد. رفض الاستقرار الظاهري الذي يتفاخر بإحلاله الاستبداد واسماه "استقرار القبور". رأى العظم في لحظة "ميدان التحرير" عودة التاريخ الى المنطقة، وظل متفائلا حتى اللحظة الاخيرة، برغم كل السوداوية التي هبطت على الثورة الاقسى في سورية. وعن سورية نفسها نطق بأجرأ ما قد ينطق به مثقف في موقعه، وكتب عما كان يجول في عقول الكثيرين لكن الخشية من الاتهام بالطائفية اسكتتهم. تحدث عن "العلوية السياسية" والتي تعني وقوع سورية طويلاً ومديداً في قبضة نظام اشتغل على إعادة انتاج البلد العريق وفق نظام اعتمد الطائفية وقوض بها الاكثرية، واستأثر بالحكم، والاقتصاد، والمال، والامن عبر فئة زبائنية اقلوية. انتقد العظم التوجهات الغربية التي تصاعدت بعد الثورة السورية بزعم الدفاع عن الاقليات في سورية، وقال ان سورية وتاريخها لم يشهدا اي حروب اهلية اثنية او طائفية تستدعي هذا النفير المزيف للدفاع عن الاقليات، وكأن الاكثرية هناك تنتظر اللحظة السانحة لتبطش بالجميع.
اخجلني بشكره الراقي سنة 2012 عندما سطرت له إهداء كتابي "في مديح الثورة: النهر ضد المُستنقع"، وكتبت فيه: "إلى صادق جلال العظم: اخيرا دقوا جدران الخزان ... انتهى استقرار القبور". ظل العظم "لاعب نرد" مُحترف مع الافكار والسياسة والإنخراط المطلق في صناعة التاريخ. لم يكن عاجياً يتكسل على أرائك اليقين والتنظير المُنفصل عن الواقع. ظل يلعب النرد، نشطاً وقلقاً. رحل العظم، لاجئاً ومُتعالياً عن قبول اي مساعدة مالية من الدولة التي استضافته، فيما ظل الدق على الجدران متواصلاً، وواعداً بأن استقرار القبور سوف ينتهي مهما تمادى النردُ في خداعه للأموات وللأحياء.

[email protected]



#خالد_الحروب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اعراس فاطمة المرنيسي، موريتانياً وفلسطينياً
- من يجلس على كرسي فاطمة المرنيسي الأكاديمي؟
- الإسلامويون و-فكرة الدولة-: توتر الواقع، قصور الخيال
- فلسطينيات -عائشة عودة-: الساعيات نحو الشمس!
- كيف نتفادى الحرب العالميّة في منطقتنا؟
- ماذا رأى ابراهيم نصر الله فوق قمة كليمنجارو؟
- -نكبة- الرواية الفلسطينية بين التحسر المدمر والثورة
- اغتيال ناهض حتر ... داعشيتنا الكامنة!
- أسماءُ نسائنا: -الشرف السمج- ... والقيعان المتلاحقة!
- «سيد قطب» متخفياً في كتاب «استحالة الدولة الإسلامية» (١ ...
- الحق في عدم التدين .. بين المواطنة والدعشنة الكامنة
- الإرهاب المُنتسب للدين: سؤالان صريحان ومواجهة!
- بريطانيا: شعبوية صادمة ... ثم تعود لاوروبا!
- الإنقسام الفلسطيني: هل تكرس سيناريو -قبرص الغزاوية-؟
- سنغافورة ... لماذا نجحت وفشل العرب؟
- «النهضة التونسية» وتحولاتها: دمقرطة إسلامية جديدة؟
- صادق خان: تجديد التعددية الثقافية وتصحيحها
- طرابيشي.. مثقف المروءة
- «الإخوان المسلمون»: مقاربات القطبيّة والتطرّف
- بروفايل «الفلسطيني العادي» ... خليط الأزمنة والهويات


المزيد.....




- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - خالد الحروب - لاعبُ النرد ... مُستقبلاً صادق جلال العظم