أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - المنظور الوجودي في قصيدة الشاعر ماهر شرف الدين: (حصاة في كليتي اليسرى)















المزيد.....


المنظور الوجودي في قصيدة الشاعر ماهر شرف الدين: (حصاة في كليتي اليسرى)


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 5375 - 2016 / 12 / 18 - 18:49
المحور: الادب والفن
    


وديع العبيدي
المنظور الوجودي في قصيدة الشاعر ماهر شرف الدين: (حصاة في كليتي اليسرى)
(1)
حصاة: إسم مؤنث من (حصى) من المفردات العجمية في اللغة العربية، والشائع ورودها في صيغة المؤثت فيقال (حصاة / حصوة). وهي أكثر ارتباطا بالمناطق الجبلية التي تجري بينها الانهار، وهذا يخرج بها من اطار مجرد إلى كونها دالة على المكان، أكثر من أي شيء آخر. وذلك ما عبّر عنه الشاعر ماهر شرف الدين في قصيدته (حصاة في كليتي اليسرى).. من مجموعته الجديدة التي تحمل نفس الأسم، والصادرة عن دار الغاوون لهذا العام (2013).
يا أمي
لقد فجّروا لي
آخر ذكرى
أحملها من مكان طفولتي. ص11/المجموعة

فالشاعر يتحدث عن الحصاة بحميمية واعتزاز، تلك التي يبثّها أقرب الناس إلى نفسه والأكثر حميمية وارتباطا بكيانه وذكرياته، ممثلة هنا بـ (الأم). ونلمس في طريقة الاخبار حسّا واضحا بالتفجع الملازم للفقدان.
وقد استهل الشاعر قصيدته بهذا التفجع والشعور بالفقدان أو الغياب، منذ السطور الأولى..
حصاة كبيرة في كليتي اليسرى
فجّروها بالليزر مساء أمس
حصاة سبّبتها مياه الحسكة الكلسيّة
التي شربتها في طفولتي. ص11/المجموعة

فالمعادلة التي يرسمها الشاعر منذ الصفحة الأولى هي ..
الأم + البلدة = الطفولة
ثم يستدلّ على الطفولة بـ (الحصاة)، في نوع من التكثيف الكيمياوي لتاريخ من الذكريات البعيدة.
الماء + الأرض = حصاة
فالطفولة باعتبارها صيرورة مستمرة تتداخل فيها جملة عوامل رئيسة تقودها في المحصلة للانتقال إلى مرحلة أو كينونة جديدة، تقابل تلك الصيرورة المستمرة لجملة ذرات من الرمل على مدى تاريخ من الزمن لتكاملها، ذلك التكامل الذي ينتهي بالانفصال عن الأصل والخروج إلى (كينونة) مستقلة. فكرة الاتحاد الكيمياوي هذه، تحيل كذلك على فكرة خليقة الانسان الفرد..
الأم + الأب = الطفل
وبقدر ما للطفولة من جمالية وألم الفقدان وحنين العودة إلى الماضي، حيث الصفاء والبراءة ، تبدو الحصاة بؤرة تحمل جملة من الدوال، تجمع بين الألم والفقدان والجمالية المرتبطة بشكل الحصاة وملمسها الناعم أو ألوانها المغرية ..
فالذي يجمع الحصاة مع الطفولة إذن؛ هو الفقدان؛ والفقدان يولّد الألم، والألم يولّد القصيدة.
وبالمعنى الثاني.. انها سؤال الحياة.. الذي يفتح النص باتجاهات شتى.
(2)
الألم مكان
الألم مطار
الألم مكان للانتظار. ص14/ المجموعة

المكان هو الدالة الثانية المشتقة من (الحصاة) في قصيدة الشاعر ماهر شرف الدين.. لذلك تسربلت القصيدة بمرادفات مكانية متنوعة جغرافية و منزلية و جسدية؛ منها ما كان في صيغة الاسم أو الفعل، ومن هذه المرادفات ..
• الجغرافية.. الحسكة-11/ الأمكنة-13/ مطار-14/ مكان للانتظار-14/ المستشفى-18/ عاصمة تينسي-24/ رقعة شطرنج-26/ غرفة العمليات-32،33، 34/ ممرات -32/ القارب-32/ الاوسنسير-32/ الطوابق-32/
• المنزلية.. حصاة-11/ مكان-11،14،34،35/ السرير-15/ بالوعة-16 / الغرفة-17،29/ السقف-17/ شباك غرفتي-18،24/ النافذة-19/ وسادة-21/ فراش-21/ شباكا-24/ سريري-26/ المنزل-31/ سرير-32/ غرفة أخرى-33/
• الجسدية.. كليتي-11،12/ الكلية-12/الخاصرة-12/ الشريان-13/ صيوان الأذن-25/ كلية-25/ الأذن-25/ الكلى-25/ خاصرتي-30/
• الفعلية.. الخروج من-13/ أغادر-13/ الخارج-18/ الداخل-18/ يتوسّط-21/ محمول إلى-32/ مستلقيا على-32/ أتنقّل-32/ أين-35/ موجود-35/

يتميز الشعر العربي بكثرة تردد المكان فيه، ولكن ذكر المكان فيه، يمثل دالة سلبية في نفس الوقت. وأبرز مظاهر السلبية يتعلق بالفقدان أو الألم أو الذم. فيلحظ طغيان المكان في الشعر العراقي في العقود الأخيرة، سواء داخل العراق أو خارجه، جراء الخراب المتصل والمصير الذي آلت إليه.
هذا يجعل العلاقة بالمكان امتدادا للذاكرة، أكثر مما هي علاقة طبيعية حية. أي أن المكان هو أحد أثنين: أما أنه (ماضٍ) يتمّ استحضاره من الذاكرة، أو أنه (راهن) ينوء تحت ظلال الماضي الكثيفة، وهو ما يميز معظم الأدب المهاجر.
وإذا كان الوطن والحسكة والطفولة هي الجانب الأول المتعلق بالماضي، فأن الراهن بحسب القصيدة يتمثل فى (المستشفى). وتشكل (الحصاة) بكل دوالها ورموزيتها، قاسم مشتركا يربط أو يجمع بين عالمين من جهة، ويفصل بينهما من جهة أخرى.
(3)
فـ(الحصاة) محمولة من ماضي بعيد [مياه الحسكة الكلسية التي شربتها في طفولتي/ص11]، اقتضت المداخلة الطبية بعدما تحولت إلى [قنفذ يتمرغ في الخاصرة / ص12] ولا ينتظر الشاعر غير أن [يحطم الدكتور بورتش رأسه/ص22].
فالماضي (حصاة)، والحاضر (مستشفى).
الحاضر معجون بالألم ومدعوك بالبنج والانتظار. وذلك ينعكس على رؤية الشاعر للوجود أو العالم المحيط به..
الألم
قنفذ في الكلية
قنفذ يتمرغ في الخاصرة
وأنا في تلك اللحظة
-قبل استقبال البنج-
زاهد بكلّ شيء
بحياتي نفسها
لا يعنيني أي شيء
سوى الخروج من هذا الألم
سوى سحق
هذا القنفذ الحقود
في كليتي اليسرى. ص12/المجموعة

ولنا أن نلاحظ دور التكرار لقياس أثر الألم على الشاعر، وبالتالي على رؤيته وتواصله مع العالم، والذي يؤكده بقوله ..
زاهد بكل شيء
بحياتي نفسها
لا يعنيني أي شيء
سوى الخروج من هذا الألم

(4)
فالقطيعة مع الماضي (الوطن) تقابلها قطيعة مع (الوطن الجديد) في حالة الراهن، مما يدفع نحو تبئير الأزمة..
شباك غرفتي في المستشفى
يعكس ما في الغرفة كالمرآة.

في الليل الشبابيك تنام
فلا تريك الخارج
بل الداخل.

في الليل الشبابيك تنام
لتستيقظ المرايا. ص18/المجموعة

الشباك هنا وظيفة وليس مكان، وظيفته أنه (نافذة) نحو الخارج، وسيلة الاتصال بالعالم خارج الغرفة. ولكن الشباك هنا يؤدي وظيفة سلبية، أنه ينام، يتحول إلى مرايا.. تعكس ما في الغرفة.. فكلما حاول الهروب من محتويات الغرفة واتجه إلى الشباك، يجد نفسه في وسط الغرفة. وعندما يكون الشباك مكانا (سلبيا) تكون المرايا كناية عن (الذكريات).
الذاكرة صندوق مغلق، والحاضر غرفة موصدة، محكومة بالألم.
*
(5)
أنا بصراحة
لا أعرف ما هو الليل ص21/ المجموعة

المشكلة اللونية هي أحد وجوه الأزمة الوجودية في هذه القصيدة أو هذه الغرفة على وجه التحديد. واللون مشتق من النافذة التي تطل على العالم.. أنه العين التي ترى ما حوالي الكائن.. والسواد هو تعطيل وظيفة النافذة، الشباك، والعين.
الطابع العام في هذه القصيدة وفي عموم نصوص المجموعة، هو محاولة جرد أكبر ما يمكن من مفردات العالم داخل اللحظة الشعرية.. ويسجل للشاعر حذقه ومهارته في تسجيل لقطات سريعة وبزوايا معبّرة لتكثيف المعنى حينا أو توصيله إلى عمق/ ذروة لازمة للربط بين الظاهر والباطن.
وهذا يجعل للضوء أهمية استثنائية في شعرية ماهر شرف الدين.. فهو يهتم بالألوان والأبعاد والزوايا.. والطاقة الفنية للغة تستنفذ معظم الطاقة التعبيرية للمفردة وتستحوذ عليها، فيبدو الشاعر رساما ومصوّرا دون أن يفقد خاصته أو امتيازه الشعري. فالمفردة لديه، هي اللحظة وهي اللقطة التي تقاس بالثانية من أجزاء الزمن، ولكنها الثانية (الكونية) التي تختزل سنوات من عمر الوجود.
لذلك يلزم التمييز بين دالة المكان ودالة المعنى في المفردة أو اللقطة، والتمييز بين زمنين فيها، تمييزا قائما على الوصل وليس القطع..
الدالة اللونية الأولى هنا هي (الألم) الذي سبق ومنحه صورة (قنفذ/ص12)، وحان الوقت لتسجيل خصائصه اللونية..
الأسود هو اللون
الذي ليس له رقبة
كالضبع
لأنه لا يراوغ ولا يلتفت. ص20/المجموعة

هو لا يسميه هنا، ولكنه يصفه، ينظر إليه من الداخل.. من داخل الألم نفسه. ولكي يستفرغ كل شحنته اللونية المترتبة عليها، يستطرد ويتوغل أكثر..
وفي حين يراوغ الأزرق
فيصبح كحليا أو نيليا أو سماويا
وفي حين يراوغ الأخضر
فيصبح حشيشيا أو سرخسيا
لا يراوغ الأسود أبداً
لأنه حين يراوغ
يصبح رماديا...
يصبح لونا آخر. ص20/ المجموعة

هذا الايغال في عالم اللون ليس من باب التعليم وانما باب الامعان في الألم، قسوة اللون العصية على التغيير، تعبير عن قسوة الألم الذي يهز كيان الشاعر فيتفجر حروفا ملونة.. وكلّ الألوان المذكورة هنا تخدم غاية واحدة هي ضراوة اللون الأسود.. لكي ينتقل بالتدريج، من حالة الألم/ القنفذ/ الضبع/ الأسود إلى اشتقاق حالة أخرى منها.. فيقول..
ليس سواد الليل شحتارا
خلّفه احتراق النهار.
ثم أن الليل ليس
وجها للنهار أو تتمّة.
وليس ظلاما بالطبع
وقمر يتوسط أنجما
تغيب وتظهر. ص21/ المجموعة

(6)
فينتقل الشاعر من الألم إلى الليل وهواجسه، [أنه الليل أيها السيرون/19]،
في الليل الشبابيك تنام
لتستيقظ المرايا. ص18/ المجموعة

القنفذ نائم
وأنا سهران
كأمّ تسهر على طفلها. ص23/المجموعة

العالم ينام، والشاعر (سهران)، لأنه يرى النوم دالة للموت (ص24)، الذي يحمل رائحة النهاية.
*
جاري العجوز في الغرفة
فتح عيني على النهاية
على خدعة الحياة
الخدعة التي
لا تساوي شيئا
لولا تبجّح الانسان
والكلمات الكبيرة للفلاسفة. ص29/ المجموعة

هذا المقطع يذكر بمقطع سابق يتعلق بمكابدة الألم ..
زاهد بكل شيء
بحياتي نفسها ص12/ المجموعة

وبالمقارنة بينهما نجد أن اللحظة الآنية تتحول إلى حالة عامة، وأن المشكلة الشخصية تتحول إلى حالة شمولية.. [فالزهد بالأشياء وبالحياة نفسها]، ليس قرارا مؤقتا بقدر انسجامه مع عبث الحياة التي يعبر عنها بالخدعة..
ان كلّ هذه الأفكار والتداعيات تتوالى في طور الانتظار، قبل اجراء العملية، والتي تقسم القصيدة إلى قسمين : القسم الأول.. ما قبل العملية، ويتمثل من ص11 حتى ص32
القسم الثاني.. ما بعد العملية، ويتمثل من ص 33 حتى ص35
وفيما يتناول القسم الأول من النص، قصة الألم بمراحله، وتدرجه من مشكلة صحية إلى غربة شخصية واغتراب عام. يتناول القسم الثاني بعبارات قليلة قصة التخلص من الألم الجسدي، ولكنه يمثل في الجانب الآخر ذروة الأزمة الوجودبة، وكأنها خلاصة أو محصلة مشكلة الحصاة..
(7)
هل كان الغرض من ذلك هو التأكد من وجود الموت..
بعد حقنة التخدير
التي أخذتها
قبل دخول غرفة العمليات
تأكدت من وجود الموت.
خمس ساعات وأنا غائب
لكني لست في أي مكان.

لا أحلام، لا ذاكرة، لا أحاسيس. ص34/ المجموعة

هذه هو الموت إذاً:
أنت غائب،
لكنك لست موجودا في أي مكان! ص35/ المجموعة

إذن، ما هو الموت، هل الموت مكان؟..
في هذه الحال مكان ثالث، بعد الوطن، والمهجر، يأتي الموت كمكان، ولكن خاصية هذا المكان، أنه ينتفي فيه كل وجود. الموت وجود نفي . شيء مثل مثلث برمودا، يختزل كلّ شيء ويجعله لاشيء.
وفق هذه الرؤية الوجودية، يمكن القول أنه ليست الطفولة وحدها، تلك (الحصاة) المسبّبة للألم، وانما الحياة برمتها، والتي تتشكل كما الجنين، هي تعبير عن الأم ومعاناة لا طائل منها ، [خدعة لا تساوي شيئا/ ص29]. فوجود الموت يضع نهاية للخدعة/ العبث/ اللاجدوى. ان قصيدة (حصاة في كليتي اليسرى) والمجموعة عموما، لا تعني مجرد مشكلة شخص أو وطن أو غربة، وانما هي تعنى بالبحث عن المعنى ومراوغة الأسئلة.. للحصول على السعادة الأبدية..
(8)
حفلت القصيدة والمجموعة بلقطات تعبيرية وصورة شعرية وفلسفية جديرة بالتأمل والمراجعة، مما لا يسعه الوقت، ولكني أود التوقف لدى واحدة من تلك الصور المدهشة والبعيدة في معناها العميق في طريقه إلى صالة العمليات..
أشعر بالخَدَر
خَدَر الاستسلام للماء الجاري
وأنا أخترق الممرّات
مستلقيا على سرير
كالقارب. ص32/ المجموعة

حيث تذكر صورة القارب برحلة جلجامش داخل المياه المالحة للعبور إلى عالم الخلود من أجل الحصول على عشبة الحياة الأبدية والشباب الدائم.. ولكن الشاعر قلب المعنى هنا، فبدل مياه الموت الفانية، التي اقتضت من جلجامش درجات عالية من الحذر والتيقظ، اتسمت لدى ماهر شرف الدين بحالة [خَدَر الاستسلام للماء الجاري/32]. وما يزال مسعى الشاعرين هو ادراك سرّ الوجود.
(9)
لا بد من الاعتراف بحجم الغرائبية الذي يتكشف عنه عنوان (حصاة في كليتي اليسرى) المجموعة الشعرية الجديدة لماهر شرف الدين، والصادرة عن دار "الغاوون" ربيع هذا العام. غنى هذه الغرائبية يتمثل فيما تستند/ (أو تشير) إليه من إحالات متنوعة بين الموروث الاجتماعي والاغتراب الوجودي، بين الذاتي والموضوعي.
فعلى صعيد الموروث، كان بعض المهاجرين يحمل معه حفنة من (تراب) مسقط رأسه، يحتفظ بها تعزية وذكرى في غربته التي قد تطول، وإذا مات تم دفن حفنة التراب معه أو نثرت على قبره. وربما حملت حفنة التراب بعدا يتجاوز أرض الوطن إلى شيء من تربة (قبر) الحبيبة الراحلة، فتكون تلك عربون الاتحاد في العالم الآخر، أو دالة القبر الواحد. وقد يكون التراب دالة غبار المسافات والطرق المهجورة، العالقة بروح المهاجر وجدران رئتيه. كما في وصية يسوع الناصري لتلاميذه: وإن كان أحد لا يقبلكم في مدينة ما، فاخرجوا من هناك، وانفضوا الغبار عن أقدامكم، شهادة عليهم. وقولوا: حتى غبار مدينتكم العالق بأقدامنا ننفضه عليكم./ (لو9: 5؛ 10: 11). فالغبار هنا دالة الرفض في معادل مساو لقرار الهجرة. وبقدر ما تتعلق دالة التراب بالأرض/ الوطن الأم، تمثل الهجرة فكرة الأمل، والبحث عن وطن بديل (وطن بالاستعارة). لكن هذا الاحتمال المعجون بالقهر والرفض، سرعان ما يحيل هشاشة ذرات الغبار إلى حالة من التصلد القاسي متمثلا في منحوتة (حصى/ حصاة). ليس الوطن فحسب؛ وانما كلّ سنوات ماضي الشخصية الحلوة والمرة تستحيل إلى قطعة من حجر أو حصى، داخل الأحشاء بكل ما يلتف به من ألم ومعاناة.
ان قاموس الأدب العربي غني بدلالات التراب ومرادفاته، لكنها بقيت محتفظة بكينونتها المستقلة، ولم يحصل أن اخترقت جسد الانسان لتتحول إلى جزء فعال وموجع داخل أحشائه. وألم الكلى من القسوة لمختبريه، ما يتجاوز أقصى احتمالات الألم، الناجم عن اختراق الحجر لمسام الأوعية الدموية الدقيقة. ولكن من جانب آخر.. وعلى رغم الطابع العضوي المباشر - لحصاة الكلى- فأن الآثار النفسية لاعتمال الحصى داخل الجسم، مفعول أقوى من العوامل الكيمياوية. وهو المرجّح في هذه المجموعة، إذ يلحظ اختزال فكرة الألم المقترن بوجود الحصاة. أما الألم الذي يرد ورودا سريعا فيتعلق بعملية استخراج الحجر، وربما لهذا دلالة مقصودة.
الألم مكان
الألم مطار
الألم مكان للانتظار. ص14- المجموعة
وتاريخ الحصاة في هذه المجموعة انما يبدأ في المستشفى الأمريكي [Stone Clinic] وينتهي هناك. بيد أن العمق الباطني غير المنظور للألم – مثل جبل الثلج- أكثر من المنظور هنا. فحصاة الكلى هنا قد تمثل معادلا موضوعيا للأنا كما يصفها فرويد، والتي تشكل فيها حالة اللاشعور (الوعي الباطن) الجزء الأكثر تأثيرا في صياغة الوعي الخارجي بالأشياء/ العالم.
وسواء ارتبطت دالة الحصاة بالوطن أو الشخصية، فقد اختار الشاعر ماهر شرف الدين أن يخرج الصورة من سياقها، ويدفعها في اتجاه اقصى احتمالات التفجير. فالحصاة تتحول هنا إلى (حالة مرضية) تقتضي مداخلة جراحية سريعة، وقد تم استخدام أحدث الوسائل فتكا لتنفيذ عملية التفجير – أشعة الليزر-. ومعروف أنها من الوسائل ذات الاستعمالات المزدوجة.
هل يمكن الخروج من كل هذا إلى دلالة أبعد قليلا.. أعني دلالة أكثر بعدا. تلك الدلالة المتعلقة بكون الانسان كائن ترابي –مصنوع من تراب- . وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يتألم التراب من بضعة ذرات إضافية؟.. لماذا يضيق التراب بالتراب؟.. لم لا يحتمل التراب التراب؟..

(10)
• البعد الوجودي لدالة الحصاة
"خفّف الوطء ما أظن هذه الأرض إلا من هذه الاجساد" - ابو العلاء المعري
الانسان كائن من تراب، والأرض التي يعيش فيها الانسان هي كيان من تراب، والوطن مقطع أرضي. فالانسان والأرض في وحدة أصل. والوحدة قاعدة التناغم والانسجام والألفة. والانسان يحب أرضه لأنه جزء -مستلّ- منها، ولذلك توصف الأرض بالأم في صورة الوطن، وبحكم الانتماء يتعلق الانسان بالأم. لكن هذه العلاقة ليست بهذا التجريد تماما. وثمة كثير من العوامل الثانوية التي استأثرت بالأهمية أكثر من الأصل في توجيه علاقة الانسان بالأرض والتحكم بها. وكلما زاد تراكم وتنوع العوامل، زاد معدل الهشاشة في علاقة المرء بالأرض، إلى حدّ الخروج عن السياق - الانسجام- إلى استحالة الانسجام والمتمثلة في حالة الاغتراب. هذه التي سرعان ما استحالت من حالة طارئة مؤقتة إلى حالة دائمة بحكم التراكم غير الطبيعي.
وقد نمت بوادر التشويش والمَرَضية بثلاثة مراحل متصلة متراكمة في تاريخ الوعي البشري..
• غربة الانسان وهي حالة اجتماعية جراء الخروج من العائلة الصغيرة إلى العائلة الكبيرة، أو الخروج من العائلة إلى المجتمع.
• غربة نفسية جراء اختلاف النظام والعادات والمعايير السائدة في المجتمع الجديد عما ألفه الشخص من موطنه الأول. ويرجع سبب تضخم هذه الحالة لكونها تجمع بين أسباب الغربة الاجتماعية والغربة النفسية، فتكون أشد وطأة.
• اغتراب فكري جراء اختلاف معايير العصر غايات وأساليب ووسائل، مما يقتضي إعادة برمجة الشخصية ومنظومة الاهتمامات وصيغ التعامل بما يناسب لغة العصر. وهذا الأمر من الصعوبة لأنه يقتضي تغيير القواعد النفسية الأساسية الممثلة في القناعات والآراء المتوارثة منذ الطفولة وما يدعى بالبنى التحتية لمكانزمات الشخصية.
الاغتراب الفكري يعكس ذروة مراحل الاغتراب، ذلك أنه يمثل موقفا شخصيا من العصر والوجود، أكثر منه مجرد أزمة اجتماعية أو نفسية، يمكن تسخير بعض العوامل الناجعة لتجسيرها واجتيازها، كالعمل أو العلاقات الاجتماعية أو الارتباط العاطفي والزواج.
أما الاغتراب الفكري أو الوجودي، فأنه يشكل حدّ يفصل بين عالمين ومرحلتين في حياة الشخص، وتفكيره. وهو بدلا من محاولة التطبيع، ينشغل في سلسلة جهود فكرية وأسئلة فلسفية طوباوية، تجمع بين إدانة الآخر، وعدمية الذات، باعتبارها دالة الذات.
المغترب الوجودي هو في الغالب يعيش في حال من اعتزال المجتمع وحركة الحياة ويرفض مظاهر التطور. وفي أثر اعتزاله يتولد لديه شعور بحالة من العوق النفسي والاجتماعي والعجز عن مسايرة المجتمع، أو تلبية ابسط احتياجاته المعيشية أو الحياتية. وفي حالة كونه لم يبغ سن التقاعد، فقد لا يحظى برعاية اجتماعية من المؤسسات المعنية. ولا توجد قوانين اجتماعية تستوعب حالة الاغتراب الوجودي أو مضاعفاته، مما يزيد نسبة التشرد أو التسكع، وضحايا المجتمع.
حالات العوق الجسدي أو العقلي أو الشيخوخة هي الوحيدة موضع الرعاية الاجتماعية والطبية، بحسب القوانين المدنية في الغرب. وانعدام وجود رعاية رسمية لضحايا الاغتراب قد يدفع البعض إلى ادعاء حالات مرضية نفسية/ عقلية أو اصطناع حالة مرضية أو اعاقة جسدية لاستحصال الاهتمام، ناهيك عن نسبة الانتحار أو التسكع المرتفعة في هذا الجانب.
كما أن تفاقم الشكوى الشائعة من الأزمات المالية لدى حكومات الغرب وقيادات أحزابها السياسية، الذي ينعكس في الالغاء التدريجي واختزال الانفاق الاجتماعي والتقشف في قطاع الرعاية والخدمات، يهدد بزيادة معدل الأسى والكوارث الاجتماعية في الغرب. أما الحالة في بلاد الشرق، فهي كارثية ولا أمل في تعديلها، ولا يخفف منها غير البقية الباقية من تقاليد الروابط العائلية والتكافل الاجتماعي الآخذة بدورها في التراجع، جراء اضطراد النزعة المادية والاستهلاكية في العصر الحديث عموما.
ـــــــــــــــــــــــ
ماهر شرف الدين شاعر سوري (الحسكة)، اصدر عدة دواوين وكتب أدبية. وقد نشرت قصيدته (حصاة في كليتي اليسرى) في مجموعة بنفس الاسم العام 2013م.



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المنظور الاجتماعي في قصيدة الشاعرة وداد نبي (لا فراشات هنا)
- المنظور الاجتماعي في قصيدة الشاعر بلند الحيدري (عشرون ألف قت ...
- المنظور الاجتماعي في قصيدة الشاعر ياسين طه حافظ (السيدة)..
- المنظور الاجتماعي في قصيدة الشاعر أحمد عبد الحسين :قول (قصة ...
- المنظور الاجتماعي في قصيدة الشاعر سلمان داود محمد (عندما حذف ...
- بورتريه شخصي للدكتور صلاح نيازي (5)
- بورتريه شخصي للدكتور صلاح نيازي (4)
- بورتريه شخصي للدكتور صلاح نيازي (3)
- بوتريه شخصي للدكتور صلاح نيازي(2)
- بوتريه شخصي للدكتور صلاح نيازي(1)
- بورتريه جانبي للدكتور شاكر النابلسي
- (مقامة أميرجيو)
- التنوير عربيا.. اشكالية المصطلح (3-3)
- التنوير عربيا.. اشكالية المصطلح (2-3)
- التنوير عربيا.. اشكالية المصطلح (1- 3)
- أصداء نظرية الفراغ في رواية منى دايخ (غزل العلوج)
- المنظور الاجتماعي في رواية ليلى جراغي: (الصدأ)..
- الياس فركوح: الصعود الى حلب!.. الهوية والانتماء في رواية -قا ...
- (موسيقى في الظلام)
- (البستاني ذهب مع الريح)


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - المنظور الوجودي في قصيدة الشاعر ماهر شرف الدين: (حصاة في كليتي اليسرى)