أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - حمزة الجواهري - للجانب المظيء من القمر جانب آخر مظلم - ثورة تموز 58 - الأخطاء















المزيد.....



للجانب المظيء من القمر جانب آخر مظلم - ثورة تموز 58 - الأخطاء


حمزة الجواهري

الحوار المتمدن-العدد: 394 - 2003 / 2 / 11 - 02:29
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    




9-2-2003

إن هذه المقالة المتواضعة تأتي بمناسبة اجهاظ ثورة تموز 58 ولكن تركز فقط على الجوانب السلبية منها, كنوع من انواع النقد الذاتي, و التقييم الشامل للثورة, إذ أن للجانب المظيء من القمر جانب آخر مظلم. و ذلك من اجل ان نعرف الأسباب الحقيقية لأجهاظ الثورة كي لا نقع بنفس الأخطاء مستقبلا.
ان ثورة تموز التي اطلقت طاقات العراقيين على كل المستويات و أعتبرت من اهم علامات التحرر الوطني على مستوى العالم اجمع و ساندت حركات التحرر العالمية و حررت الأرض من ايدي الأقطاع الطاغي في العراق و أممت النفط العراقي الغير مستثمر و هو الأحتياطي الأكبر في العالم آن ذاك و رفضت العبث الوحدوي الغير مدروس و اطلقت التعليم على كل المستويات و أخذت بأيدي الفقراء المعدمين الى مستقبل افظل و حاربت الطائفية, وإن لم تنجح بذلك. و هذه فالثورة قد حاربت على كل الجبهات دفعة واحدة و هي الغير مسلحة بالخبرة الكافية للمواجهة. كان لابد اذا, ان تنجح احدى محاولات الأغتيال لها, و كانت كثيرة جدا.
صحيح ان عبد الكريم قاسم كان قد أذهل أساتذة الجامعته البريطانيين في إطروحته لآحتلال لندن و حذرت منه المخابرات البريطانية لوطنيته المفرطة و عزيمته التي لاتفل, إلا انه لم يكن مسلحا بالخبرة الكافية, لا هو ولا الذين ساندوه بالفعل كانوا بتلك الدرجة من الوعي و الخبرة بإدارة البلد وعمليات التنمية في احد اكثر دول العالم تخلفا, و ما زاد من الأمر سوءا وجود أولائك الذين كانوا يحيكون المؤامرات مع اسيادهم العرب و الأعاجم. اننا حين نتحدث عن فشل تجربة آلمتنا كثيرا يجب ان نكون اولا غاية بالموضوعية و ثانيا بالجرءة و الشجاعه لابراز اهم تلك الأسباب التي ادت الى انقلاب 8 سباط المشؤم و من ثم تداعياته التي ادت في النهاية لهذا الوضع المأساوي الذي يعيشه العراق هذه الأيام, و لاندري ما هو شكل الخراب القادم. لا اريد ان اخفي على القارء سرا من اني واحد من أولائك اليساريين الذين ذاقوا كل انواع العذاب و الهوان و التشرد عبر الأربعين عاما التي مرت, و لو اردت ان اكتب عاما كاملا لما استطعت ان افي المسألة حقها من التقييم. لكن الذي يجعل من الأمر يسيرا من أن الأخرين سيشاركون و الكل سيدلون بدلوهم في هذا المحور الدراسي الساخن في مثل هذه الأيام, لذا لا اخشى التقصير لان بالتأكيد سيبحث الأخرون بكل ما لم استطيع ان اقولة. ان ما ساحاول ان ابحثه هنا يصح ان يقال له مشروع كتاب لأبراز الأسباب وراء الأنقلاب, لان الكتابة فيه تحتاج الى الكثير من المصادر لدعم متن الموضوع و التي لا يمكن توفرها معي في الوقت الحاظر, هذا بالأضافة الى إننا جميعا شهود على الأحداث, فما حاجتنا إذا للمصادر؟
الأسباب عديدة تلك التي اجتمعت و انتجت ذلك الأنقلاب, و ها انا ذا احاول ان استعرضها الواحد بعد الأخر:

1. ان الواقع العراقي عشية ثورة تموز كان مزريا اذ ان الفقر و التخلف كانا اهم سمات المجتمع العراقي و خصوصا خارج العاصمة بغداد. فمستوى الدخول متدنية للغاية و التعليم محدودا جدا اذ لا تجد المدارس إلا في المدن الكبيرة نسبيا, و لايوجد في العراق جامعة واحدة, و لكن كان هناك مجموعة من الكليات في بغداد فقط. البنى التحتية و الصناعة للبلد كادت ان تكون معدومة, اما الزراعة فإنها كانت بدائية جدا بل و أكثر تدنيا من حيث المستوى الى  مستواها في العصر البابلي. المجتمع في الريف العراقي شبه اقطاعي اذ لا يرقى للمجتمع الأقطاعي, مجتمع قبلي يسوده سيد العشيرة المرتبط بالسلطة المركزية بشكل او بآخر. ليس هاك ارثا ديمقراطيا اذ ان البرلمان لم يكن منتخبا و كل اعظائه جائوا بالتعيين, لكي يقولوا نعم اذا اريد لهم ان يقولوا ذلك. و رغم وجود عددا من الأحزاب التي لم يتجاوز عددها على اصابع اليد الواحدة إلا انها كانت للخاصة من الناس ما عدا الحزب الشيوعي العريق بمقاييس العراق آن ذاك, اذ انه قد تأسس بعد تأسيس الدولة العراقية بعقد واحد فقط, و كان للحزب قاعدة شعبية واسعة في الريف و المدينة, هذا بالرغم من أن الحزب لم يكن مصرحا له بالعمل. اذا فالحزب الشيوعي, كان بحق يمثل المعارضة الوحيدة للحكومة و البرلمان الصوري, هذه الصفة بالأضافة الى مناصرته للكادحين من ابناء الشعب من عمال و فلاحين, خصوصا الفلاحين منهم و الذين كانوا يشكلون خمسة اعشار السكان في البلد. لهذه الأسباب و لنشاط اعضائه كان الحزب الوحيد الذي يشار له بالبنان و قد ارتبط به نضال الشعب العراقي ضد الأستعمار و الحكومات العراقية المتعاقبة حتى ثورة تموز عام 58 .  كان هناك نواتات لاحزاب قومية قد تشكلت للتو بسبب انتصار ثورة يوليو في مصر, كحزب البعث و القوميين العرب والتي لم يكن لها ماض سياسي يذكر و لا تلك القاعده العريظة في المجتمع. الحزب الشيوعي هو من حاول ان يدفع بهذه الأحزاب اكثر ليشكلوا قاعدة و طنية اوسع للمعارضة, فحاول ان يشكل معهم جبهات وطنية و يبلور مواقفهم الوطنية بإتجاه النظال ضد الإستعمار و أعوانه في الداخل. إن الحزب الشيوعي كان يعي تماما ان هذه الأحزاب التي يدعواها بأحزاب البرجوازية الصغيرة انها ستكون يوما ما في صراع معه, و لكن كان يجب للقاعدة الشعبية للنضال ضد الأستعمار ان تتسع. 
العراق كان قد شهد قبل ذلك بسنوات قليلة حركة عمرانية محدودة بسبب مشاريع مجلس الأعمار الذي انشئ بعد ان ازدادت صادرات النفط في تلك الفترة. هذا ما ساهم بشكل او بآخر بإتساع القاعدة الشعبية للنضال ضد الأستعمار.  كان هناك ايظا احزاب وطنية ذات قاعدة محدودة في الدن الكبيرة, كما اسلفنا, و منها الحزب الوطني و الأستقلال و الديمقراطي و غيرها من الأحزاب ذات النفوذ المحدود لمجموعات من الصناعيين و رجال دين و بعض من الأقطاعيين ذووا النزعة التحررية. كان لهذه الأحزاب تمثيلا في البرلمان و حتى انها قد ساهمت بتشكيل بعض الوزارات.

2. منذ الأستقلال عام 1921 و لحد تموز 58 كانت السلطة طائفية و عنصرية بالأضافة الى موالاتها للغرب و بريطانيا بالخصوص. على سبيل المثال و ليس الحصر, يذكر عبد الرزاق الحسني في كتابه "تأريخ الوزارات العراقية" ان من اصل التسعة و خمسون وزارة التي تاسست من العام 1923 حتى 1958 كان هناك ثلاثة وزارات شيعية و اثنان كردية, في حين ان نوري السعيد لوحده قد ترأس ثلاثة عشرة وزارة و هناك عوائل عراقية لايزيد تعدادها عن بضعة مئات قد شكلت الوزارة و اخذت من فرص الحكم ما يزيد على الشيعة مجتمعين. اما الجيش فإنه قد تأسس على نفس ذاك الطراز من السلطة العنصرية و الطائفية المذهبية رغم عدم وجود فوارق جوهرية بين المذاهب الأسلامية في العراق. و هكذا نجد ان فيه الظباط الشيعة و الأكراد لا يمثلون الا نسبة ضئيلة في الرتب ما دون العقيد اما الرتب الأعلى فانها تحتكر من قبل السنة العرب فقط, هذا بالطبع مع وجود نفر قليل من من الظباط ذووا الرتب العليا من ابناء المذهب الشيعي او الأكراد, كانوا من ابناء شيوخ العشائر لضمان ولاء أولائك الشيوخ للسلطة او الزمرة الحاكمة. إن ما تقدم اصبح ذو شأن كبير في صيرورة الأحداث و خصوصا تلك الدامية منها لاحقا وهذا ما سنأتي على ذكره في حينه.

3. في ظل هذا الواقع, تأتي ثورة تموز التي قادها مجموعة من الظباط الأحرار, أولئك الظباط ذووا النزعة التحررية. استطاعوا تغيير النظام و  لم يكن قد مضى على تشكيل مجموعتهم أكثر من سنتين. كان اغلب اعضاء هذه المجموعة من الظباط القوميين العرب و الذين لعبوا دورا كبيرا في صناعة الأحداث فيما بعد. مما لاشك فيه كان من بين هذه المجموعة ظباطا من اليساريين و الذين كانوا المعنيين اكثر في مسألة الصراع ضد الأستعمار و كذا النضال من اجل رفع مستوى الطبقات الأجتماعية المسحوقة. هناك عناصر من غير الشيوعيين و التي كانت ترغب فعلا بتغيًر هذا الواقع إلا انها كانت أقلية, و كذا مغلوب على امرها. عبد الكريم قاسم, رعم انه كان قائد الثورة, إلا إنه كان من هؤلاء النفر القليل من الظباط, فهو من اب عربي سني و ام كردية فيلية, فهو من حيث الجذور عربي و كردي و شيعي و سني في آن واحد, فهو إذا يمثل اغلب عناصر الشعب العراقي من ناحية الأنتماء, هذا بالأظافة الى انه كان شديد الحب لوطنه.
إن هذا الجيش هو من تحكم بمقاليد الأمور في العراق منذ تموز 58 و مازال لجد الأن رغم عدم اهليتهم لأدارة البلاد.

4. ألأصلاح الزراعي كان واحدا من اهم منجزات ثورة تموز, اذ ان هذا القانون قد حرر الأراضي الصالحة للزراعة من ايدي الأقطاعيين, او بالأحرى اشباه الأقطاعيين, إذ أن معظم الفلاحين كانوا من ابناء العشيرة و إن مالك الأرض الأقطاعي كان سيد العشيرة. كان ايظا هناك رجال الدين الذين قد أقتطعت لهم أراض زراعية واسعة و ذلك للأستفادة من نفوذهم الديني الواسع على ابناء الريف. كان بجانب هْؤلاء, اقطاعيي العهد العثماني و إمتداداته بعد تأسيس الدولةالعراقية. كل هذه المجموعة من الأقطاعيين كانت قد تضررت من هذا القانون, إذ لم يتبقى لهم إلا القليل من الأرض. لذا كانوا من ألد أعداء الثورة التي كان يجب ان تكسبهم بإبقاء الأرض الزراعية بحوزتهم. نعم, لقد كان ذلك ممكنا جدا, إذ أن ما هو صالح للزراعة من أراضي العراق آن ذاك كان لا يزيد على العشرة بالمائة من مساحة ألأراضي التي يمكن زراعتها في العراق, كانت ملكية أولائك الأقطاعيين ضمن هذه العشرة بالمائة. ان التسعين بالمائة الأخرى كانت فقط بحاجة الى استصلاح بسيط لتكون صالحة للزراعة. كان أغلب هذه الأراضي بحاجة الى مياه فقط لتكون زراعية, و ما اكثر المياه آن ذاك. إن مد نهر صغير من دجلة او الفرات الى تلك الأراضي سيجعل منها جنة من جنان الأرض, أما الأراضي البعيدة نسبيا عن الأنهار, كان بالأمكان حفر الأبار فيها و التي هي في الغالب لا يزيد عمقها على الخمسين مترا. إن حفر بئر و تجهيزه بكامل المعدات آن ذاك, كان لا يكلف اكثر من من خمسمائة دينار عراقي, حيث كان بإستطاعة هذه البئر ان تروي مساحة تتراوح ما بين ثلاثين الى خمسين هكتارا. بهذه الوسيلة كان يمكن للدولة ان توزع هذه الأراضي المستصلحة على الفلاحين او اقامة المزارع المملوكة من قبل الدولة. و هكذا ستطلق الدولة سوق العمل الفلاحي و تزيد من رقعة الأرض الزراعية.
إن اتساع رقعة الأرض و محدودية عدد الفلاحين, سيكونان سببا في ادخال المكننة الزراعية لسد النقص في الأيدي العاملة في الزراعة, لو كانت الدولة قد اتبعت هذا الأسلوب, لظربت اكثر من عصفور بحجر واحد.
هنا يحق للمرء أن يتسائل, إذا ما جدوى ذلك النمط من الأصلاح الزراعي؟ و الذي ساهم بتخريب الأرض الزراعية التي كانت عامرة بالفلاحين الذين هجروها نحو المدن استجابة للطلب المتزايد على الأيدي العاملة الغير متخصصة وذلك لتلبية متطلبات التنمية العمرانية في المدن, وكذا تركت كل تلك الأراضي التي شملها الأصلاح الزراعي دون استثمار. فعلى سبيل المثال و ليس الحصر, بعد ان كان العراق مصدرا للرز, صار يستورده من الخارج. ما جدوى ان تصنع من ملاك الأرض اعدائا بدلا من ان تجعل منهم شركاء في التنمية؟ ما جدوى ان تضيًق من مساحة الأرض الزراعية بدلا من زيادة رقعتها؟ ما جدوى ان تبقي على وسائل الأنتاج في الزراعة متخلفة و تعود بتخلفها العصور الحجرية من أن تجعل منها مسائل انتاج عصرية؟ ألا يحق لنا أن نتسائل عن جدوى هذا النمط من الأصلاح الزراعي؟
ان هذا ما شاهدناه على أرض الواقع فيما يخص الأصلاح الزراعي, اما ما أريد له ان يكون, فإنه لم يتحقق.

5. كان لإطلاق مشاريع التنمية الأثر الأيجابي على الكثير من مناحي الحياة في العراق, و لكن مادمنا هنا نركز على عرض الجوانب السلبية لهذه الثورة, فلنرى مالذي سببه ذلك الأطلاق لمشاريع التنمية على واقع الريف و الزراعة و نواحي الحياة الأخرى.
إن مما لا شك فيه ان هذا النوع من التنمية البدائية و التي تعتمد على و سائل الأنتاج الأكثر تخلفا في العالم, كان لابد لها من ايدي عاملة رخيصة و غير متخصصة كما اسلفنا في الحديث عنها. ان هذه الحاجة للأيدي العاملة قد اخلت الأرض الزراعية من فلاحيها, و وسعت رقعة المدن الكبرى التي لم تكن مهيأة أصلا لهذا الأنفجار السكاني الكبير و ما تمخض عنه من تداعيات مست الحياة اليومية للناس, هذا بالأضافة الى نشوء عادات و قيم أخلاقية جديدة طارئة على المجتمع الذي لم يستطع بدوره إستيعابها بهذة السرعة التي تمت فيها. و لو كانت هذه التنمية مدروسة بشكل جيد و قد ركزت منذ البداية على وسائل انتاج متطورة نسبيا, اى بإدخال الآلة الحديثة في البنيان, لكان الأمر افظل بكثير. إذ ان الحاجة للأيدي العاملة ستكون اقل لو كانت النوعية اعلى من حيث التطور. و هكذا نكون قد ضربنا عصفورين بحجر واحد, أي رفعنا من مستوى تطور وسائل ألأنتاج (ألأنسان و الآلة) و الثانية تركنا الفلاحين لأرضهم و التي هي الأخرى ستسد النقص للأيدي العاملة فيها بالآلة الأكثر تطورا, إن ذلك من شأنه ان يرفع من مستوى الفلاح و الزراعة من حيث النوع. هذا من جانب, و من جانب آخر, فإن الزيادة السكانية الحتمية على المدينة ستكون اقل و بالتالي يسهل استيعابها من دون ان تتسبب في أي ضرر او اختناق على مختلف الأصعدة.

6. إن الهجرة الى المدينة و الزيادة بأعداد العمالة الوافدة توا من الريف, الى جانب تعاظم العمل السياسي في هذه الأوساط, وخصوصا عمل الحزب الشيوعي, كل ذلك جاء في و قت تعاظم المد الثوري العالمي, مما جعل من القاعدة الشعبية لهذا الحزب من الأتساع و بشكل انفجاري, و في وقت لم يكن الحزب فيه مهيئا له على الأطلاق. ان هذا ما سمي بعد ذلك بالمد الثوري و الذي لاشك سيرافقه الكثير من الأخطاء المقصودة و غير المقصودة و حتى المفتعلة من قبل اعداء الشيوعيين بعد ان وجدوا لهم طريقا لصفوف الحزب و العبث من خلال هذا التواجد. كل تلك الأخطاء قد حسبت على الشيوعيين رغم ان الكثير من قادتهم قد فعلوا المستحيل من اجل كبح جماحها, و لكن دون جدوى. من هذه الأخطاء اعتبار الشيوعيين من الأعداء للدين في حين انهم بعيدون عن ذلك تماما. كان المحرك الأيديولوجي الوحيد لذلك هو مقولة ""الدين افيون الشعوب"". انا واثق تمام الثقة, ان الكثير من الشيوعيين و حتى المخضرمين منهم لايعرف اين وردت هذه العبارة او المقولة. إن مقولة الدين أفيون الشعوب وردت فقط في مكان واحد من كل الأرث الثقافي الذي خلفه ماركس, ذلك هو مقالة ""الثامن عشر من برومير – لويس السادس عشر"", و برومير هنا هو احد اشهر التقويم القديم قبل التقويم الجريجوري الحالي. في الثامن عشر من هذا الشهر اندلعت ثورة في فرنسا ابان حكم لويس السادس عشر. كان الجيش هو من قمع الفلاحين الثوار, و كان للكنيسة آن ذاك دور المهدئ للناس بمسح جراحهم و إطعامهم الى آخره. هنا لاحظ ماركس ان السلطة قد استعملت الجيش و سلاحه و الدين و تسامحه لتهدئة الغضب الشعبي نتيجة القمع الدموي الرهيب. إذا كان للكنيسة دور في قمع الشعب وذلك بتخديره بأدوات التسامح المسيحي المعروف. من هنا إستنتج ماركس مقولته الشهيرة التي قالها مرة واحدة فقط كما اسلفنا. واضح تماما هنا ان الدين الأسلامي بريء من تهمة التخدير كالمورفين, إذ أن الأرث الثوري الأسلامي كبير جدا هذا بالأضافة الى الجانب الأيديولوجي من الأرث الثوري في الأسلام. فالأسلام ذو طبيعة ثورية و ليس مخدرا على الأطلاق إلا إذا أريد له أن يكون كذلك.
نعم, لقد أساء الشيوعيون للفهم الماركسي للمقولة و للأسلام في آن واحد بذلك الفهم السطحي لها. بل و راح نفر منهم يروج لها بشكل تعسفي يستفز  المسلمين و يتنافى و القيم الأخلاقية السائدة في المجتمع. كلنا يشهد على ذلك, و من يتنكر له, لاشك ان لديه مشكلة تجعله متمسكا بذلك الفهم الخاطئ لماركسيته. إن هذا الفهم و الممارسات افرزت سخط القوى الدينية و المحافظة في المجتمع العراقي على ما سمي بالمد الثوري, و لهم الحق في ذلك. إن إرتباط الثورة, أي ثورة تموز بالشيوعيين, كان يعني بالضرورة أن تكون الثورة ملومة على ذلك الأمر أيظا. كان فعلا أحد الأسباب التي أدت لسقوط الثورة. أخذ هذا السخط منحا اكثر جدية حين صدرت الفتاوى بإعتبار أن الشيوعية كفر و إلحاد. و هكذا امتد تعاظم المعارضة المحافظة ليشمل القوى القومية التي كانت بالأمس حليفا للشيوعيين, إذ إن هذه القوى قد استفادت كثيرا من هذه الظاهرة و إستغلتها أسوأ إستغلال.

7. إن الحركة الكردية هي الأخرى اعلنت رفع السلاح بوجه الثورة كنتيجة لمواقف الظباط القوميين المتشددة ازاء الأكراد و منحهم حقوقهم القومية.
إن الشعب الكردي يتمتع بخصوصيات كثيرة, منها الموقع الجغرافي الذي يقطنه و كونهم امتداد او جزء من كردستان الكبرى, وكذا لغتهم وإرثهم الثقافي المتميز عن باقي العراقيين, كان لابد ان تنشأ لهم نزعة بتحقيق الذات من خلال حكم ذاتي تتمتع به المنطقة الكردية. بالإضافة الى كونهم يتمتعون ببيئة جبلية و عرة, فإن ذلك يزيد من تمسكهم بمطلبهم القومي المشروع و العمل على تحقيقه مستفيدين من خصوصيات البيئة الجبلية التي ستحصنهم, و كان لهم ما أرادوا. وهكذا فإن تعنت تلك المجموعة العنصرية من الظباط العراقيين دفع بالأكراد أن يرفعوا السلاح بوجه الثورة التي هم اول من صفق لها, و كانوا على حق. و هكذا, فبدلا من ان يكونوا عونا للثورة صاروا في موقف معادي و ثائر يحمل السلاح و مازال يحارب و لحد الأن. لم تجد محاولات الشيوعيين نفعا آن ذاك في منحهم هذه الحقوق المشروعة. ان وجود هذه الحرب الداخلية قد استنزف أغلب طاقات العراق رغم محدوديتها أصلا. كان نتيجة لذلك أيظا ان أصبح الجيش القوة الأعظم نفوذا في العراق, وهكذا الجيش هو دائما صاحب الكلمة العليا في و قت الحروب, فما بالك و الحرب داخلية و الجيش هو من يتولى أمرها. بالطبع رافق ذلك غياب كامل للديمقراطية و بداية حقبة جديدة من القمع الدموي لكل القوي الوطنية وأولهم الشيوعيين. فإمتلئت السجون و فتحت كل الملفات السياسية القديمة التي ورثوها من العهد الملكي. حدث ذلك و لم يمض على انتصار الثورة سنتين. فلو منح الأكراد حقوقهم القومية آن ذاك, لكان زخم الثورة اقوى و أعظم, و كان الأكراد أكثر حماسا في البناء و الأعمار بدلا من الحرب التي احرقت الأخظر و اليابس, و لوفر العرب المال و الرجال لمعركة البناء التي كنا قد تحدثنا عنها.

8. الوضع العربي و العالمي له دوره في اجهاظ الثورة. فمصر آن ذاك, كانت قد قطعت شوطا لابأس به, اذ انها سبقت العراق بستة اعوام, و كذلك قد بدأ مفهوم الناصرية يتبلور في العراق و الوطن العربي. إن مصر بل عبد الناصر بالذات قد اصيب بخيبة امل نتيجة لاعراض عبد الكريم قاسم عن اقامة الوحدة التي كان ناصر ينشدها.  و هكذا اخ و صديق الأمس اصبح اكبر الأعداء للعراق. مصر عبد الناصر خصصت محطة اذاعة بالكامل لمهاجمة العراق و عبد الكريم قاسم بالذات. فصوت العرب و ذلك الغراب احمد سعيد لم يستكينوا و لم يهدأ لهم بال حتى يوم 8 شباط المشؤوم. سوريا آن ذاك كانت ظمن الجمهورية العربية المتحدة في وحدة شاملة وكانت من ضمن الأعداء الجدد. من منا لايذكر صوت العرب, و من منا لم يقرأ مذكرات القوميين العرب و خصوصا البعثيين منهم من أمثال محمود الدرة و العلوي و الفكيكي و غيرهم. كلهم اعترفوا, بعضهم نادمين البعض الآخر لمجرد ذكر الحقائق, كلهم اعترفوا بدور عبد الناصر بالتأمر على الثورة و قائدها و الشيوعيين من حوله, لأنهم قد حطموا حلمه الكبير بالوحدة العربية, او الأستعمار الجديد. ولو لم تكن الوحدة التي ينشدها ناصر نوعا من الأستعمارا جديدا, لكان عبد السلام عارف الذي كان من اكثر الناس حماسة لها  و تأمرا من اجلها قد اقام الوحدة المنشودة له و لعبد الناصر حين استلم السلطة بالكامل بعد انقلاب 8 شباط. و لكن إدراك عارف و البعثيين و باقي الظباط القوميين لنوايا عبد الناصر الحقيقية. و هكذا جعل هؤلاء الظباط من الوحدة مجرد شعار للوصول الى السلطة.
إن عبد الناصر و البعثيين ركزوا بتنظيماتهم على الظباط, أولائك المغامرين الحالمين بالسلطان. انهم قد ورثوا تركيبة الجيش ذات الطبيعة العنصرية و الطائفية الذهبية, فعززوها و زادوا من ادواتها لكي تمنحهم المزيد من القوة و المكنة من إدارة البلاد و التحكم بمصائر الشعب. إن هؤلاء الظباط الطائفيين هم من تآمر على عبد الكريم قاسم و هم من اجهظ ثورة تموز و هم من استمر بالأمسك بالسلطة لحد الأن و هم من قمع الشعب و أجهظ كل ثوراته و إنتفاظاته وهم من اوصل صدام لهذه الوضعية التي هو بها و هم من يسوق العراق الأن الى جحيم الحرب التي ستأتي.

9. ان ثورة تموز كانت قد افقدت الغرب مواقعه في العراق و كذلك الثروة النفطية الهائلة المخزونة تحت ارض العراق, اذ ترك لهم قانون رقم ثمانون فقط تلك الحقول التي تم تطويرها لغاية تموز 58 .  الغرب كان قد حمل حقدا اعظم حين تقارب العراق مع المنظومة الأشتراكية و ساند حركات التحرر الوطني في العالم و خرج من حلف بغداد و فعل الكثير الذي يثير حفيظة الغرب عليه. إ ن الغرب الذي لست بحاجة لعرض رغباته و خسائره السابقة, لكن اجد نفسي مضطرا لأن أحدد من هم الذين تعاون مع الغرب لأجهاظ الثورة. انهم انفسهم من قال إننا جئنا بقطارات غربية الى السلطة في العراق. انهم أولائك الظباط الذين لا يحق لنا ان نسميهم أحرار, وللسادة القراء أن يعودوا الى قراءة مذكراتهم و التي يحق لي أن أسميها إعترافات.

10. الدول العربية المحيطة في العراق كان لها هي الأخرى نصيبا من الحقد و الكراهية لهذا النظام. فالأردن بالأظافة الى الثأر لأبناء عمومة الملك, فإن كل آماله قد انهارت, فلا اتحاد هاشمي و لا حلف بغداد, هذا بالأضافة الى التهديد الذي تشكله الثورة على الوضع الداخلي للأردن. لم يكن وضع الكويت بأحسن حال من الأردن, فإنه الذي بقي مهددا من النظام بإعادته للعراق. اما السعودية فإنها كانت تعتبر نفسها المتضرر الأكبر لوجود ثورة حقيقية في الجوار و كلنا يعرف ماذا يعني ذلك. هذا و لم تكن ايران الشاه ولا تركيا على وئام مع العراق لأسباب عدة اهمها تفكك حلف بغداد و وجود الثورة على الأبواب.

اذا, نجد ان الأعداء قد تكاثروا و كان لابد ان يتحدوا. فمصر و جدت بالقوى القومية عونا لها, و أي عون. اذ كما اسلفنا ان الجيش ذو الطبيعة القومية و الطائفية, فيه من الظباط الحاقدين على المد الثوري او ما سمي به, و كذا المتضررين من ابناء الأقطاعيين الذين قد وجدت مصر لها عونا بهم. فراحت تحيك المؤامرات و تخطط للأنقلابات بلا كلل. كان هذا من جانب, ومن جانب آخر فإن ردود الفعل للشيوعيين و الفقراء من الشعب الكادح كانت قوية جدا, و كذا رد فعل السلطة كان أقوى في كثير من الأحيان. فالحكومة قد سحقت تمرد الشواف في الموصل و الذي تلته احداث اخرى دامية في كركوك و بغداد.
اذا هكذا تشكلت جبهة عريضة بل جبهات في الداخل و الخارج, ضمت كل القوى القومية و الدينية و بقايا الأقطاع, رغم محدودية الأعداد لهذه الفئات, إلا إنها كانت فاعلة بسبب ارتباطها بظباط الجيش و دأبهم في حياكة المؤامرات و تنفيذها نيابة عن كل الذين عادوا الثورة. اما في الخارج, فكل دول الجوار و الولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا كلهم بصف واحد وقوفا بوجه الثورة.
من الذي كان فعلا العون الحقيقي لهم سوى الجيش مستفيدين من طبيعته العنصري الطائفية. و هكذا كان يجب لهذه المؤامرات من ان تنجح.
 إن إستمرار الوضع الطائفي و العنصري ايظا كان ضرورة لتلك القوى لأنها بقيت معزولة عن الشعب و كان يتوجب عليها ان تحقق اهدافها و تضمن بقائها, كان الخيار الوحيد امامها هو العنف و الأرهاب و القتل و الى آخره من هذه الأساليب. و لو انتهجت الأسلوب الديمقراطي لما استطاعت ان تحافظ على هذه المواقع. الدكتاتورية الحالية هي النتاج الطبيعي لتلك الحالة كما اسلفت, اي ان "" ما هذا الغيث إلا من ذاك السحاب"".
و قبل ان اختم مقالي هذا, لابد لي من لوم الحزب الشيوعي بعدم استيلائه على السلطة من عبد الكريم قاسم و هو القريب منها بل و الماسك بزمام الأمور كلها. رب قائل يقول ان الحزب لم يستطع ذلك لذات الظروف الموضوعية التي ذكرناها, و لكن لم يكن يحدث شيء من تلك المجازر لو استلموا السلطة و أقاموا النظام الديمقراطي التعددي على اساس دستوري و أزالوا جميع تلك المظاهر الطائفية و العنصرية و أعادوا تركيبة الجيش بشكل يتماثل و التركيبة السكانية للعراق.
من هو المسؤل إذا عن إجهاظ الثورة و المجازر التي تلتها و الحالة التي نحن فيها الأن؟
انا اعتقد اننا جميعا مسؤلين و يجب ان نعالج المسألة من الجذور. و ذلك بإقامة الحكم الديمقراطي و الدستوري و المتوازن لكل العراقيين بأطيافهم وأن يشمل ذلك كل مؤسسات البلد و إعطاء الحقوق القومية لجميع القوميات لكي تصبح متآخية فعلا و ليس تشدقا. اما التنمية و غيرها من المشاكل, سيكون امرها ميسورا آن ذاك.
______________________________________________
تنويه: إن هذه المقالة هي اعادة كتابة لأخرى كانت قد كتبت على عجل و نشرت على موقع كتابات بأخطائها.

 

 



#حمزة_الجواهري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- ?? مباشر: عملية رفح العسكرية تلوح في الأفق والجيش ينتظر الضو ...
- أمريكا: إضفاء الشرعية على المستوطنات الإسرائيلية في الضفة ال ...
- الأردن ينتخب برلمانه الـ20 في سبتمبر.. وبرلماني سابق: الانتخ ...
- مسؤولة أميركية تكشف عن 3 أهداف أساسية في غزة
- تيك توك يتعهد بالطعن على الحظر الأمريكي ويصفه بـ -غير الدستو ...
- ما هو -الدوكسنغ- ؟ وكيف تحمي نفسك من مخاطره؟
- بالفيديو.. الشرطة الإسرائيلية تنقذ بن غفير من اعتداء جماهيري ...
- قلق دولي من خطر نووي.. روسيا تستخدم -الفيتو- ضد قرار أممي
- 8 طرق مميزة لشحن الهاتف الذكي بسرعة فائقة
- لا ترمها في القمامة.. فوائد -خفية- لقشر البيض


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - حمزة الجواهري - للجانب المظيء من القمر جانب آخر مظلم - ثورة تموز 58 - الأخطاء