|
ملك الحمام
سهر العامري
الحوار المتمدن-العدد: 5351 - 2016 / 11 / 24 - 13:20
المحور:
الادب والفن
ملك الحمام سهر العامري مئات العيون تسقط نظرها عليه كل يوم ، وهو يدور في مملكة شيد بيوتها بنفسه تحت مجسر يقع في نهايات طريق طويل ، تذهب منه تلك النهايات متفرعة الى عدة ضواحي من مدينة لندن ، وأهمها ضاحية همرسميث الواقعة في الغرب من تلك المدينة المشهورة ، والتي يرتادها الناس في جميع مواسم السنة ، ومن بلدان شتى . الملفت للنظر أن ذاك المجسر الضخم الذي اختاره جون أو ملك الحمام ليبني تحته مملكة الحمام كان ردئ البناء ، فلطالما تساقطت بعض القطع الاسمنتية منه على السيارات المارة من تحته ، أو كثيرا ما كانت مياه الأمطار الساقطة عليه تتسرب منه تاركة آثارها عليه ، والسبب في ذلك مثلما يظهر لكل عابر لذلك الطريق هو رداءة مادة الاسمنت التي دخلت في تكوينه وبنائه ، ومع ذلك فقد حاول من يعنيه الأمر أن يقوم باصلاح هذا الخلل البين فيه ، ولكنه ظل اصلاحا ملفقا لا يمكن أن يعمر طويلا . لا أحد يعرف لماذا اختار جون هذا المكان للعيش فيه ، مع المئات من طيور الحمام على مختلف صنوفها وألونها ، رغم أنه رجل يعيش في أطراف العمر ، قد أحنت السنون قامته على قصرها ، فراح يمشي محدودبا ، واضعا على عينيه الصغيرتين ، الخضراوين ، نظارة كبيرة سوداء ، مثلما يضع على رأسه طاقية بلون نظارته وملابسه القادمة من القرون الوسطى . تقوم مملكة جون على بيوت صغيرة من خشب عتيق ، يصطف بعضها الى بعض بشكل عشوائي ، وتمتد على مسافة صغيرة تحت رصيف ذلك المجسر ، ولا يعاني المارة من ذلك الطريق من معرفة ما في داخل تلك البيوت الخشبية ، فهي بيوت دون سقوف يستطيع أي واحد أن يرى فيها بعضا من أكياس النايلون المتسخة ، جمع فيها جون أشياء من نفايات القمام التي توضع في أماكن معين في شوارع تلك المدينة ، وخاصة تلك النفايات التي تحتوي على بقايا الأكل ، حبث تشكل قطع الخبز أكثرها ، وقد كان هدفه من جمع بقايا الخبز من صناديق النفايات هو تقديمه كطعام للحمام الذي يشكل جزءا مهما من مملكته تلك ، ولكن طريقة تقديم تلك القطع يتخذ طقسا معدا بعناية من قبله ، فهو حين يريد اطعام الحمام بفتات الخبز ذاك يقوم بلباس رداء خفيف ، رمادي اللون ، يشابه الى حد بعيد لون الحمام الذي يجول فوق رأسه ، أو يحط على جدران بيوته الخشبية الواهية التي تتقدمها نجمة داود مرسومة على الأرض الاسمنتية بلون أبيض ، ولا يعرف أحد لماذا قام جون برسم نجمة داود على أرض مملكته ، فهل كان يظن أنها شعار ديني يصون له تلك الجدران الخشبية ؟ أم أنه يريد أن يمثل مملكته بمملكة داود ؟ تلك المملكة التي ينحشر لها الطير ويؤب . ثم إن جون نفسه يشبه داود في زرقة عينيه وقصر قامته ، ولهذا يجلس هو على الارض محدودبا ، ويطأ برأسه مرة ، ثم يرفعه بحركة سريعة ، بينما تباشر يداه برمي فتات الخبز الى الأعلى ، فيهب الحمام نحوها ، يلتهمها وهي طائرة ، أو وهي ساقطة على جنبي جون ، وهو في هذا الطقس الغريب يتحد تماما مع الحمام فلا يفرق بينه ، وبين ذاك الحمام سواء هيئته كواحد من البشر ، وليس من الطيور . بعض من العابرين بالسيارات من ذلك الطريق يظنون أن الرجل فقير لا يملك شيئا ، حتى أنه يجلس في بيت خشبي لا تزيد مساحته عن نصف متر مربع ، يضع أمامه علبة صفيح يشعل بها نارا يتصاعد منها دخان كثيف ، وتفسير فعله هذا يظل سرا في صدره ، فلا أحد من المارة يعلم لماذا يشعل النار ويجلس في هذا الحيز الضيق . ومع ذلك فقد اعتقدت نجلاء ، وهي تمر عليه كل يوم في باص من باصات لندن ذوات الطابقين ، أنه رجل فقير ، ولهذا طلبت من زوجها بالحاح أن يقدما له مساعدة مادية قد تنفعه في شيء ما ، خاصة وهما قد شاهداه على حاله هذا على مدى سنوات طويلة ، وقد كانا حائرين في تقديم تفسير لذلك الحال الذي عليه هو . كانا هما مقتنعين من أن الرجل كان فقيرا في مجتمع تدور فيه عجلة الرأسمال دونما التفاتة لهؤلاء الذين يعيشون على قارعة الطريق ، فهما لا زالا يتذكران تلك الليلة التي كانا جالسين فيها في مقهى من العاصمة البلغارية صوفيا ، وفي ساعة متأخرة من الليل في زمن الاشتراكية ، كيف وقف شرطيان أمام طاولة يجلس حولها شابان ، وفي عجالة سألهما أحد الشرطين عن سبب تأخرهما الى هذه الساعة المتأخرة من الليل ، فرد أحدهما أنهما لا يملكان عملا ما . أخرج الشرطي دفترا صغيرا من جيبه ، ثم دون فيه معلومات عنهما ، وطلب منهما مرافقته الى مكان ما يتم من خلاله في اليوم التالي توفير عمل لهما . قناعة نجلاء بأن جون كان رجلا فقيرا دفعتا الى الطلب من زوجها أن يترجلا من الحافلة في اليوم التالي وفي محطة توقف تلك الحافلة التي تقابل مملكته ، ثم يتوجهان له وهو بين الحمام ، ويقدمان له عشرين جنيها يصرفها مثلما يحلو له ، ولهذه الغاية نزلا في صباح اليوم التالي في المكان المحدد ، واتجها صوب الرجل ، الملك : - هلو ! حياه زوج نجلاء بلغته الانجليزية ومثله حييته نجلاء . بعدها أخرج الزوج من جيبه عشرين جنيها ، وسلمها لجون الذي خلع نظارته السوداء ، فبدت عيونه الصغيرة الزرقاء المختفية وراء سواد تلك النظارة التي لا تفارق عينيه ، وراح يتفحص ورقة العشرين جنيها التي تقبلها من نجلاء وزوجها بطيبة خاطر . لكن الأمر المثير والغريب حدث بعد ذلك حين عبرت نجلاء وزوجها الى رصيف الشارع الآخر كي يستقلا الحافلة القادمة من جديد رغم زحام مرور السيارات في ساعات الصباح الأولى ، حيث يهب العمال والطلاب والموظفون الى أماكن أعمالهم ، فالكل يجب أن يتوجه لعمله ، فالطلاب مثلا كانوا يتوجهون الى مدارس تبعد عن بيوتهم مسافات بعيدة ، وأحيانا تتعاكس حشودهم ، فبعضهم يتوجه من شرق المدينة الى غربها ، والبعض الآخر يتوجه من غربها الى شرقها ، وفي حركة تعاكس يفهم منها أن الطالب ليس حرا في اختيار المدرسة التي يريد ، أو التي تقع على مقربة من سكناه ، يضاف الى ذلك أن معاناة الطلبة الصغار أكبر من معاناة الكبار ، والى الحد الذي يتطلب من الأم أن ترافق بنيها الى المدرسة ، مثلما تتبرع نساء أخر بالوقوف في منطقة ما من الشارع من أجل مساعدة الطلاب على عبورهم خوفا عليهم من السيارات المارة . ولكن جون رغم زحام حركة مرور السيارات اندفع نحو الرصيف المقابل للشارع الذي يقف عليه زوج نجلاء ، والذي كان يحاول أخذ صورة له ، وهو يتوسط حشد من الحمام قرب مدينة بناها على شكل بيوت استعاض عن سقوفها ، على ما يبدو ، لقلة حيلته بسقف ذلك المجسر . صار وجها لوجه مع الزوج ، وهو يرتعش ويهذي بكلمات غير مفهومة ، ويده تمتد الى محفظة صغيرة أخرجها من أحد جيوبه ، وراح يفتش بين أوراق عادية فيها على العشرين جنيها التي منحها زوج نجلاء له ، وحين عثر عليها ردها له ، وهو في حالة غضب قائلا : خذها لا أريدها . لم يكتف هو بذلك بل ظل يلاحق نجلاء وزوجها رغم انهما تفاديا غضبه وانزعاجه بهدوء وبرودة أعصاب ، ويبدو أن هذا الرد هو الذي شجعه على ملاحقتهما رغم أنهما ابتعادا عنه مسافة ليست بالقصيرة ، ولكنه مع ذلك ظل على ملاحقته لهما وهذيانه ، وهذا ما اضطر زوج نجلاء أن يعود الى ملاقاته من جديد ، ويحذره هذه المرة بأنه سيتصل بالشرطة إذا لم يكف عن ملاحقته تلك ، وبهذا التحذير خمد هو ، ولم ينبس ببنت شفة بعدها ، وعاد من حيث أتى صامتا . صمت تماما حين خرجت كلمة "police" من فم الزوج ، تلك الكلمة التي أصابته في مقتل حتى أن الزوج بعدها تأكد أن هذا الرجل ليس فقيرا ، وإنما هو رجل معتوه ، تعرض لآخرين غير نجلاء وزوجها ، ولهذا فقد زار هو من قبل مراكز الشرطة ، ولقن فيها أكثر من درس ، عاد بعدها يخاف أشد الخوف من كلمة شرطي ، ولم يقف الحال عند هذا الحد بل ربما قامت الشرطة بإزالة مملكته من أماكن أخرى كان قد شيد فيها تلك المملكة ، وحرم من أجواء غرام كان يعيش فيها بين أجنحة الحمام . لم يكن زوج نجلاء يهدف من أخذ صورة لمملكة الحمام تلك سوى الاحتفاظ بها كذكرى ، وليس لشيء آخر ، ولكن الملك المعتوه ، جون ، اعتقد أن هذه الصورة ستأخذ طريقها الى الصحافة ، وحال نشرها، ثم معرفة شرطة المدينة بها ستكون تلك المملكة قد سقطت وأزيحت من تحت سقف ذلك المجسر الخرب بأمر من شرطة المدينة .
#سهر_العامري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ترامب ابن أمين للبراغماتية !
-
رحلة في السياسية والأدب ( 11 )
-
رحلة في السياسية والأدب ( 10 )
-
رحلة في السياسة والأدب (9)
-
رحلة في السياسة والأدب ( 8 )
-
رسالة الرئيس
-
العبور الى أيثاكا
-
الهجرة الى دول الكفر !
-
مرضان مستبدان في العراق : أمريكا وإيران
-
الدين والحكم (2)
-
الدين والحكم (1)
-
لا وجود لدولة اسلامية أبدا !
-
الحل في الثورة الشعبية !
-
رحلة في السياسة والأدب ( 7 )
-
رحلة في السياسة والأدب ( 6 )
-
رحلة في السياسة والأدب ( 5 )
-
البيت الذي طاردته شرطة الأمن !
-
الأزمات في العراق تجاوزت الحلول !
-
السقوط المذل !
-
الى بلاد العم سام (3)
المزيد.....
-
-كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟
...
-
مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان
...
-
الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل
...
-
فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل
...
-
-سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال
...
-
مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م
...
-
NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
-
لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
-
فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر
...
-
هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا
...
المزيد.....
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
-
الهجرة إلى الجحيم. رواية
/ محمود شاهين
المزيد.....
|