أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - رفيق الرامي - عملية -الإنصاف و المصالحة-: بين أضاليل الديمقراطيين الزائفين و واجبات المناضلين الجذريين















المزيد.....


عملية -الإنصاف و المصالحة-: بين أضاليل الديمقراطيين الزائفين و واجبات المناضلين الجذريين


رفيق الرامي

الحوار المتمدن-العدد: 1418 - 2006 / 1 / 2 - 09:07
المحور: حقوق الانسان
    


تقدمت العملية التي تشرف عليها الدولة باسم "المصالحة والإنصاف" خطوة إضافية ببث تلفزي يومي 21 و22 دجنبر 2004 لشهادات عينة من ضحايا جرائم الدولة السياسية. ومن المرتقب أن تلي خطوات أخرى، سواء بمواصلة جلسات "الاستماع"، وما شابه من أنشطة إعلامية حول الموضوع، أو إخبار الأهل بمصير المختطفين وإصدار تقرير هيئة "المصالحة والإنصاف"، وتسوية طلبات التعويض، وبعض الإجراءات الرمزية، وصولا إلى إعلان الدولة اعتذارها الرسمي وربما حتى تواري بعض رموز آلة القمع.
وتبقى الحدود المرسومة للعملية غير معلومة سوى من مهندسيها، ومن قدماء منتدى الإنصاف والحقيقة الذين كانوا يجتمعون بكاتب الدولة في الداخلية ثم انسحبوا من المنتدى لتنفيذ الخطة التي نعاينها اليوم.
ومعلوم أن هذه العملية المنفذة بواسطة هيئة بنزكري ومن معه جاءت بعد تخبطات في معالجة النظام لمعضلة نتائج جائحة القمع والإرهاب التي اجتاحت البلد في عهد الملك السابق.
فبعد تجديد ما سمي بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وإحداث ما سمي بهيئة التحكيم المستقلة ومنح تعويضات مالية، وبوجه إصرار قسم الحركة الحقوقية الأكثر صدقية، لاسيما الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ونسبيا منتدى الحقيقة والإنصاف، على كشف الحقيقة وعدم الإفلات من العقاب، بدا أن المعضلة تحتاج إلى منهجية مغايرة.
وفي هذه القضية، كغيرها من قضايا الساحة السياسية المغربية، التقت مصلحة النظام بمصلحة المعارضة البرجوازية المتحالفة معه منذ منتصف التسعينات. و تعاونا بقصد طي السجل الحافل بالفظاعات والأعمال الوحشية والدموية، أي انهما جعلا من تسوية هذه المعضلة موضوعا للتوافق السياسي.
وتتمثل غايتهما الأساسية في نزع فتيل هذه المعضلة، وإبطال أي استعمال لها في التشهير لإيقاظ الوعي الديمقراطي لدى الجيل الشاب، ما دام الجيل الذي عاش المرحلة قد حطمته الوحشية الضارية التي ُعرف بها النظام. وتتمثل في الوقت ذاته، وهذا اقل أهمية، في تلميع الصورة "الديمقراطية" للنظام إزاء الخارج.
الظرف السياسي مطبوع بتحالف القسم الأكبر من المعارضة البرجوازية التاريخية ("الكتلة الديمقراطية") مع النظام. فبعد ارتطام مطالبها الدستورية والمؤسسية بجدار تمسك الملكية بمطلق سلطاتها، وكذا برسوخ نظام الاستحواذ على فرص الاغتناء الكبيرة (ما يسمى بالمخزن الاقتصادي)، ومع خشية استيقاظ القوة العمالية والشعبية، الكفيلة دون غيرها بتحقيق الديمقراطية،أو طوفان الرجعية الدينية النامي بفعل أزمة البديل الديمقراطي، لم يبق سوى الارتماء في أحضان النظام، وقبول إشراك شكلي في حكومة الواجهة، و ما تيسر من فتات فرص الاغتناء.
وقد وجدت المعارضة البرجوازية في تنامي قوى الرجعية الدينية مبررا لاستسلامها، ولسان حالها يقول: حكم مطلق بهامش ديمقراطي شكلي أفضل من حكم ديني مطلق. إنها طبعا تتمنى افضل من هذا الاختيار بين الطاعون و الكوليرا، لكن تعوزها القدرة بحكم طبيعتها الطبقية.
هكذا تعبأت المعارضة البرجوازية التاريخية، المشاركة بالحكومة الحالية، ومن يشاطرها فهمها العام للمرحلة )ما يسمونه كذبا الانتقال الديمقراطي( لانجاح عملية "الإنصاف والمصالحة". فطاقم تنفيذ العملية مجند بالكامل من خدام النظام و من أدعياء الدفاع عن حقوق الإنسان المتورطين في التواطؤ عبر المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، بتشكيلته السابقة كما الحالية، وكذا من عناصر سابقة بمنتدى الإنصاف والحقيقة فقدت كل أمل في الشعب متوهمة أن المكاسب في مجال الحريات وتحقيق الديمقراطية ستكون هدية من خصوم الديمقراطية أنفسهم.
وقد وقع هذا الفريق في مأزق بفعل تناقض المجاهرة العلنية بالإخلاص لحقوق الإنسان، لا سيما رفض اللاعقاب، وعدم استعداد النظام للتضحية بآلته القمعية على مذبح الصدقية الديمقراطية. فظهرت تنظيرات تنتقد ما سمته "الفهم الأصولي لمرجعية حقوق الإنسان" لفتح باب التخلي عن تلك المرجعية. وجرى الاجتهاد كي ُينتقى من التجارب العالمية (جنوب أفريقيا، أمريكا اللاتينية) ما يلائم العملية المخططة بالمغرب، مع السكوت عن الجوانب المتقدمة في تلك التجارب كمحاكمة العديد من جلاوزة التعذيب والقتلة مثلا.
هيأة إنصاف كباقي المؤسسات
تتسم عملية الاستماع إلى بعض ضحايا آلة قتل المعارضين، وكل عمل الهيأة المشرفة، بنفس مميزات الديمقراطية المغربية: فإن كانت حرية الصحافة مقتصرة على قول ما يريده الحاكمون، و الحرية النقابية لا تتعدى إعلان الانتماء (إن لم يتبعه الطرد من العمل) ، والإضراب يؤدي إلى السجن بالفصل 288 من القانون الجنائي، وحرية التظاهر رهن بإرادة السلطة، و البرلمان غرفة تسجيل قرارات تتخذ في مؤسسات أخرى لا ذكر لها بالدستور، والدستور نفسه من وضع شخص واحد ضد إرادة الملايين واشرف الجلاد إدريس البصري على تمريره بالتزوير، والقضاء يعمل بالتعليمات، فلا يمكن لجلسات الاستماع إلا أن تضع الحدود لما سيقوله شهود جحيم القمع أي تقويلهم ما يشاء مهندسو العملية، وتكون أداة لتمرير ما أعدته الدوائر العليا. كما قد لا تختلف حقيقة الهيأة عما قيل بفم الجلاد البخاري. وبذلك أضحت جلسات الاستماع مجرد شكل من العلاج النفسي للضحايا وللمستمعين، والسكوت عن أسماء المجرمين، وعدم محاكمتهم تشجيع لهم ولكل من يترعرعون حاليا في مستنبتات آلة الفتك بالمعارضين الحقيقيين.
هذا إلى جانب شروط أخرى تحد من جدية عملية "الإنصاف والمصالحة" منها قصر المدة المحددة لها ( سنة واحدة، بينما اشتغلت لجنة الحقيقة والمصالحة بجنوب أفريقيا 8 سنوات حول الجرائم المقترفة من 1960الى 1994)، والإصرار على تلافي حتى لفظ الحقيقة في اسم الهيأة، وعدم استقلال الهيأة (مشكلة من قوى وعناصر مشاركة بالحكومة وبمؤسسات رسمية).
أدعياء الديمقراطية
كان الشروع في العرض التلفزي للقطات من آثار إرهاب الدولة، بشروط مخرجي العملية، فرصة لتعبير مختلف القوى السياسية من جديد عن موقفها من السيرورة الجارية باسم "المصالحة والإنصاف". وهو أمر مفيد في إسقاط أقنعة أدعياء الديمقراطية بما فيه من حفز وعي ديمقراطي حقيقي.
نهض المستفيدون من نظام الاستغلال والاضطهاد القائم للدفاع عنه، وهم يعلمون أن آلة الفتك لن يصبها سوء وأن الحاجة إليها ثابتة. فهاجموا المطالبين بمعالجة ديمقراطية حقيقية بأوصاف من قبيل كونهم دعاة "طي الصفحة بشكل بدائي من العدالة الشاملة الانتقامية الاستئصالية" و"إحراق الجلادين ورؤسائهم في الساحة العمومية". وأبدوا المخاوف من أن تؤدي العملية الجارية إلى "إفقاد الدولة ومؤسساتها الاعتبار ونشوء حالة من الاضطراب الدائم لن ينتج غير نظام توتاليتاري ما".أوجوردوي لوماروك –24 ديسمبر 2004 .
وتعالى صراخ أبواق تقليدية (احرضان والخطيب) وكل الذين يبدون عدم اقتناعهم بفعالية المنهجية الجديدة أو يتظاهرون برفضها ليصنعوا رأيا مضادا. هذا الرأي المضاد مفيد في تنبيه المتحفظين من أهل اليسار: إذا لم تعجبكم عملية المصالحة الجارية فلا بديل غير الأسوأ.
ولإفهام الجميع حدود العملية، تضمنت جلسات الاستماع تلميحا إلى أن ثمة في سجل القوى التي ينتمي إليها الضحايا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وان النبش والإلحاح على معاقبة الجلادين ستؤدي إلى إثارتها ومن ثمة ينجر المجتمع إلى فتنة هو في غنى عنها، بينما الأولى أن ينصرف عن الماضي إلى أمور التنمية ومواجهة التحديات.
أما القوى المساندة للنظام من أحزاب الكتلة، المسماة ديمقراطية رغما عن الحقيقة، فقد سارعت إلى التطبيل. وينطوي ذلك طبعا على إشادة بسياسة مشاركتها بالحكومة. فإن لم تحسن حكومة التناوب الوضع الاجتماعي بل زادته خرابا بمواصلة تنفيذ السياسة النيوليبرإلية بجد، فلها فضل آخر. كتب اليازغي مقالا افتتاحيا - ليبراسيون 25 -12-04 - ليذكر أن حزبه كان في طليعة المساهمة لإرساء "المصالحة الوطنية على مستواها السياسي". وأبدى بالمناسبة تضايقه من فقد المشاركة السياسية لدلالتها وامنيته في استعادتها بتبني مقاربة ديمقراطية تتيح اضطلاع المؤسسات بكامل مهامها. هذا الحزب، إذ يعترف بخواء مشاركته وبكونه أُستعمل أداة للتنفيذ لا غير، يلتمس مقابلا لتعاونه مع الحكم أي متسعا أكبر في هامش السلطة الشكلية الذي تركته الملكية لباقي المؤسسات.
العربي المساري، من قادة حزب الاستقلال، دق طبله في مقال" لم يعد في المغرب مرض سري" (العلم 25 –12- 2004) بالحديث عن " نضج المجتمع ونضج الفاعلين الذين صنعوا الحدث " واعتبار ما جرى "طورا جديد في حياتنا السياسية". وسقط في تسرع غير جدير برجل سياسة جدي بالحديث عن "انمحاء التحفظ المتبادل بين الدولة والمجتمع". فهل يعتقد فعلا أن المعالجة الجارية، وبالأخص جانب الإخراج فيها، ستمحي عدم ثقة المواطن وخوفه من دولة حولت حياة الشعب طيلة نصف قرن، وما زالت، إلى جحيم من البؤس والتنكيل؟ هذا المواطن الذي يلمس يوميا سلوك رجال السلطة، ويكتوي بنار السياسة العامة للدولة على الاصعد كافة.
واعتبر جلسات الاستماع تخليا من الدولة عن احتكار الإعلام السمعي-البصري وكأنه يجهل، بعد أن كان وزيرا "مشرفا" عليه، الآلية الحقيقية لاشتغاله. و يثني المساري على المنهجية الجديدة معتبرا ما حدث "انتصار إعلام الحقيقة المتطلب ذكاء عن فكرة العام زين المعبرة عن البلادة". على هذا النحو يشارك هذا المثقف " الوطني الديمقراطي" في "المصالحة والإنصاف" بدور المباركة والتغطية بالإطراء.
تضليل سياسي
لكن الخيط الموجه لحملة التضليل الجارية هو اعتبار المسؤولية فيما حدث في المرحلة المعنية بعملية" الإنصاف والمصالحة" (1956-1999) مسؤولية مشتركة يتقاسمها النظام مع المعارضة التي لم تكن ديمقراطية. ذلك ما أراد حرزني، وهو من قادة يمين حزب اليسار الموحد، إيصاله إلى المستمعين، ولقي استهجانا واسعا في اليسار حتى في قطاعات كبيرة من حزبه. لم يثنيه ذلك عن العود في مقابلة بجريدة المستقل - 31 ديسمبر 2004 - قائلا:" الحركة الديمقراطية لها مسؤولية في مناخ المواجهة الذي ساد الأربعين سنة الماضية وساهم في توتير الأجواء" .
وفي نفس المنحى سار حزب العدالة والتنمية "الإسلامي" في مقال بعنوان " مـن أجل إنصاف ومصالحة شاملين" بجريدة "التجديد"- 4 يناير 2004 - معتبرا أن نضال المعارضة وقمع الدولة كانا ضمن " ثقافة عامة كانت سائدة هي ثقافة الإقصاء والإقصاء المضاد، لقد كان الأمر يتعلق من قبل الدولة ’’بجلادين’’ أطلقت يدهم لتدمير آدمية الإنسان، و في الجهة الأخرى في كثير من الأحيان بـ’’انقلابيين’’ لم يكونوا يحملون الفكر الديمقراطي، وكانوا مرشحين بسبب تلك الثقافة كي يتحولوا إلى جلادين جدد". الرجعية الدينية الذي تقصي بطبعها الجميع تعطي دروسا في الديمقراطية.
وكان للأقلام "المستقلة" إسهامها مثل مصطفى عنترة الذي كتب:
الإنصاف الأخلاقي والتاريخي يستدعي عدم عزل بعض الوقائع والأحداث عن العوامل التي اطرتها أو ساهمت في ذلك . فالمغرب عرف على سبيل المثال في السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي تيارات سياسية بلانكية وأخرى عسكرية متمردة اعتمدت لغة العنف الدموي ورسمت أمام أعينها الإطاحة بالملكية واقامة مشاريع سياسية، الشيء الذي خلق مواجهات بين الاثنين استعملت فيها تجاوزات غير قانونية خلفت ضحايا وأبرياء. مسؤولية هذا الماضي يتقاسمها الجميع". جريدة المستقل_ 2- دجنبر 2004 -
إننا بصدد انبعاث أضاليل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في فتواه التاريخية المساوية بين الضحية والجلاد والتي تورط بها المتواطئون أدعياء الديمقراطية من المعارضة البرجوازية والبيروقراطيات النقابية والحقوقيين المزيفين.
مؤدى التضليل أن الدولة إنما دافعت عن نفسها، والمعارضة هي التي استثارت بأخطائها آلة القمع، وبالتالي فعليها قسط من المسؤولية. هذا منطق يؤدي إلى إدانة جميع المناضلين ضد الاستغلال والاضطهاد عبر العالم وعبر العصور.
البداهة الغنية عن كل تبيان أن مسؤولية مناخ المواجهة يتحملها النظام والأقلية المستفيدة منه، فهم حرموا الشعب من الحرية والحياة اللائقة باستحواذهم على السلطة وثروات البلد غصبا. وسحقوا محاولة المعارضة تحقيق مكاسب لفائدة الشعب بالتعاون مع الحكم (سنوات "الاستقلال" الأولى وصولا إلى حكومة عبد الله إبراهيم). لكن الحكم العازم على إنماء مصالح الاستعمار الجديد والطبقات المالكة المحلية، كنس كل شيء. ودبر اغتيال المهدي بنبركة مهندس محاولة التغيير يدا في يد مع الحكم، ولم تتسع ديمقراطيته سوى للمعارضة الراضية بالمسند لها من أدوار. وحتى هذه يعيدها إلى جادة الصواب بضربات قمعية بين فينة وأخرى.
إن كان الجلادون يعتبرون المسؤولية مشتركة التماسا لتبرئة أنفسهم ولو جزئيا ووقف المطالبة بالمساءلة، فما الذي يدفع أدعياء الديمقراطية من قبيل حرزني وأمثاله إلى تبني الفكرة؟
يرى حرزني أن الاعتراف بتقاسم المسؤولية يسهل الانتقال الديمقراطي. نتبادل الاعتراف بالخطأ مع النظام ونتعاون معه لتحقيق الانتقال الديمقراطي. انه اكتشاف طريق الديمقراطية بأقل كلفة وحتى بالمجان.
لم يبق صراع الطبقات محرك التاريخ. اصبح توافق الطبقات وتعاونها، واعتذار المناضلين عن نضالهم سبيل التقدم. ويجرأ حرزني على ادعاء انه ما يزال شيوعيا-الصحيفة 12 يناير 2005-
أما اليساريون الجذريون سابقا العاملون حاليا بالهيأة، فافضل احتمال أن يكون فعلهم بدافع اقتناع انهم يساهمون في طي صفحة القمع على نحو يعزز السير نحو الديمقراطية، علما أن الأمر قد لا يخلو حتى من متملقين يقدمون خدمات لينالوا مقابلا ماديا أو سياسيا. وحتى في الاحتمال الأفضل (حسن الطوية) يقف منفذو العملية الحالية على طرف نقيض من مستلزمات نضال حقيقي من اجل الديمقراطية. انهم يساهمون في عرقلة تبلور وعي ديمقراطي. ما من أحد منهم تصدى لأضاليل حرزني ، فقد اجهر بما يشاطرونه وأعفاهم من كل حرج.
انهم ينتجون الأوهام لان طابع النظام غير الديمقراطي ليس نتاج استفزاز المعارضة له، ولا حتى نتاج سادية شخص، بل ينبع مباشرة من ارتباطه بالإمبريالية و بامتيازات أقلية من المغاربة كدسوا الثروات واستفادوا من نمط الحكم القائم الذي كان ومازال حاميا لهم. ولا يغير اضطرار الحكم إلى معالجة ارث القمع من طبعه اللاديمقراطي. أما الادعاء أن ما يجري سير خطوة خطوة نحو الديمقراطية فدجل واستبلاد للناس ليس إلا. فإلى جانب القمع ليس تاريخ علاقة الحكم بالشعب سوى تاريخ تنازلات خادعة. وقد شهد المغرب منذ الشروع في ما سمي "المسلسل الديمقراطي"، قبل 30 سنة خلت، تطبيقا متواصلا لتلك الحكمة البوليسية التقليدية:" الطمأنة بالوعد بان الخطوة الأولى لن تكون الأخيرة". وها نحن إزاء ثمار التدرج في بناء الديمقراطية بالتعاون مع أعدائها.
زيف الضمانات
تعدنا هيئة "الإنصاف والمصالحة" بالتوصيات الرامية إلى وضع ضمانات كي لا يتكرر ما حدث. وُيزف إلينا ذلك بملء الاطمئنان أن الكابوس مضى إلى غير رجعة. فهذا الوديع الاسفي يعتبر بأننا "في طريق لا رجعة فيه إزاء سنوات الرصاص، يبقى أن يرسم المغرب الإطار الذي تجد فيه الخلافات والتناقضات بين مختلف القوى المؤسسية كما الشعبية حلها السلمي". اوجوردوي لوماروك 24-12-2004-
يداهمنا، ونحن نسمع هكذا كلام، سؤال ما إن كان لأدعياء الديمقراطية قسط أدنى من ألفباء الثقافة السياسية. فدينامية الصراع الطبقي تعصف بكل النصوص القانونية والضمانات الورقية: مجرد إضراب عمالي أو احتجاج معطلين يكشف ذلك. يداس حق التنقل المنصوص عليه في الدستور عندما تحاصر المدن العمالية (اليوسفية سنة 1986 وتارميلات في 2000 ) وتتبخر كل الجمل الجميلة حول حقوق الإنسان على نار ابسط مواجهة اجتماعية.
تعطينا التجربة اليومية لكل دولة رأسمالية نفس الدرس: كل واحدة من "الأزمات الصغيرة" التي يجتازها المجتمع الرأسمالي (وليس إضراب العمال غير أزمة صغيرة) تقدم في شكل مصغر عناصر وأجنة المواجهات التي ستحدث حتما على نطاق واسع خلال أزمة كبيرة. إن استعمال الجنود ضد إضرابات العمال في كل البلدان الرأسمالية، حتى الأكثر سلمية و"ديمقراطية"، ينبئنا كيف ستجري الأمور في فترات الأزمات الخطيرة فعلا . ألم تخل أعرق الديمقراطيات البرجوازية مكانها للفاشية لما استحال احتواء التناحرات الطبقية بالتوفيق بين الطبقات؟
الضمانة الوحيدة هو قوة الكادحين الجماهيرية الواعية مجسدة في الحزب العمالي وفي النقابات و الجمعيات وغيرها من أدوات وأشكال النضال المهيكل منه والعفوي. طبعا لا يستصغر المناضلون الجذريون وجود نصوص قانونية، لكنهم لا ينخدعون بقدرتها على ضمان أي شيء. القوانين لا تكبح دينامية الصراع الطبقى. وأول من يدوس القوانين واضعوها.
موقفنا من تنازلاتهم
ليس في ماضي البشرية، ولا في واقعها الراهن، طبقة سائدة لا تدفعها مصلحتها الخاصة الى تقديم تنازلات بقصد استمالة الجماهير. وتمثل التنازلات الكاذبة والمظاهر الخادعة جوهر حكومة كل نظام استغلالي، و لأجلها ينشأ طاقم مختص في الدبلوماسية الداخلية، كالذي نجح في استقطب بنزكري وأمثاله.
ليس التنازل الحالي بخصوص ماضي القمع نتاج حكمة ونباهة بنزكري ووديع الاسفي أو نضج الأطراف أو طبعها الديمقراطي. التنازل وليد ظرف سياسي متميز باحتقان بالغ وقابل للمزيد من جراء الإمعان في تطبيق السياسات الإمبريالية (الشراكة مع الاتحاد الأوربي، والتبادل الحر مع الولايات المتحدة، والخضوع التام لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي).
إن النتائج المهولة لقرابة ربع قرن من سياسات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي تحبل بما لا يمكن التنبؤ به مطلقا. ويكفي لإدراك ذلك النظر إلى بلدان أخرى، كالأرجنتين، طبقت نفس السياسات بنفس حدق حكام المغرب، ولن يقي من عواقبها التفجرية استعمال طاقم سياسي كان ذات يوم في المعارضة.

إن الديمقراطيين الحقيقيين لا يرفضون التنازلات الحالية لأعداء الديمقراطية، بل يقدرونها حق قدرها لكنهم لا يمتنون بها للخصم. فهي تنازلات تحت ضغط حركة النضال من اجل الحقوق الإنسانية، حتى بضعفها الحالي، وتحت ضغط التبدل الطفيف لكن الحقيقي في الرأي العام المشمئز من التسلط والجبروت، وتحت ضغط الهوة الاجتماعية الآخذة بالاتساع في اتجاه مرعب للمالكين وللحاكمين. من البلادة اعتقاد أن تسيير الوضع الاجتماعي-السياسي بالمغرب عام 2005 ممكن بطرائق سنوات 70 و80 . إن المعالجة الحالية لماضي إرهاب الدولة اضطرارية: ماذا بنظركم يا أدعياء الديمقراطية سيفعل الجالسون فوق قنبلة اجتماعية وبين أيديهم أكداس جثث وكل ما ارتكبته زمرة القتلة والمنكلين والنهابين؟
إن ضرورات تدبير نزع فتيل القنبلة الاجتماعية تجعل النظام اكثر سعيا إلى ربح صدقية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان بمنح تعويضات مالية، والقيام بإجراءات رمزية، وربما حتى إبعاد بعض رموز القمع لامتصاص النقمة كما فعل بالجلاد إدريس البصري، وكما يوحي إبراز بعض الأسماء في حبكة الجلاد البخاري، و بالتضحية بسمعة الملك السابق ولو من باب اعتبار الفظاعات أخطاء مرافقة لمنجزات أكبر.
المناضلون الجذريون لا يرفضون التنازلات المتضمنة لإصلاحات، لكنهم يبرزون حقيقتها لتتحول الإصلاحات من أداة للخداع إلى رافعة تعبئة ونضال. عكس ما يقوم به المداحون و يجعل تلك التنازلات قيودا تشد المضطهدين إلى أسيادهم.
إن اعتبار التنازلات عطفا ومنة من الأسياد إفساد لوعي ضحايا الاضطهاد وهنا يكمن سوء ما قام به حرزني وبنزكري.
واجب الثوريين
تمنح جلسات الاستماع للديمقراطيين الحقيقيين فرصة توسيع النقاش، وإسقاط الأقنعة وكشف الحقائق من أجل بلورة وعي ديمقراطي حقيقي. هذا لا سيما أن عقودا من هيمنة الديمقراطيين الزائفين في حركة المطالبة بالديمقراطية عاتت فسادا في وعي الجماهير، ونفرت بفعل الإحباط الناتج عن عقم أساليب "نضالها" (الالتماس وانتظار الانصياع والضغط المحسوب) أقساما كبيرة، و ألقت بأخرى في أحضان تيارات رجعية رافضة للعبة النظام "الديمقراطية".
إن مضامين جلسات الاستماع، وكل العملية الجارية بإشراف هيئة "الإنصاف والمصالحة" تمثل ثغرة في جدار الاستبداد،يتعين على الديمقراطيين النفاذ منها لكشف مزيد من الحقائق المتعلقة بسياسة النظام القائمة على القمع والإفساد، و في ذلك فائدة جمة في التربية السياسية للجماهير الكادحة.
يجب ألا ننسى أن نظام التعليم وسياسة التجهيل المطبقة ببلادنا طيلة عقود أدت إلى حالة من الجهل تنقص فيها حتى الحاجة إلى الوضوح الفكري، فساهم ذلك في غياب وعي سياسي واضح لدى جماهير العمال والجيل الشاب وعموم الكادحين.
واجبنا طرح الأسئلة حول الأسباب العميقة لسياسة التنكيل بالمعارضة، والتشهير بنظام امتيازات الأقلية في التملك والسلطة. وعلينا أن نستعمل هذا النقاش لتجديد قوى الجمعيات الحقوقية المناضلة، وننير الجيل الشاب حول فساد النظام الاقتصادي- الاجتماعي للمغرب ونظام حكمه. يجب أن نجعل من جميع خطوات سعيهم إلى طي الصفحة معارك نتصدى فيها لأضاليلهم . انهم في موقع ضعف لا يحسدون عليه . فبدل نقاش الجوهر يسعى أنصاف الديمقراطيين إلى خلق نقاش زائف: هل ثمة جديد أم لا ؟ لعرض المناضلين الجذريين في صورة زمرة عدمية متياسرة يحكمها تشدد أعمى منكر للبداهة.
نعم ثمة تغير. لكن ما الدلالة السياسية لهذا الجديد؟ ما هي دوافعه وغاياته؟ وما موقف المناضلين من هذا النوع من التنازلات؟ هذا ما يتعين على مفكري اليسار المتضايقين من وجود ثوريين أن يجيبوا عليه بدل الألاعيب الذهنية المضللة والسفسطة السطحية.
لقد أبدى حرزني نيابة عن أترابه تضايقا كبيرا من وجود ثوريين واعتبرهم خطرا على أوهامه حول الانتقال الديمقراطي المتناغم. لكن تعوزه الحجة فعوضها بالشتم والسخرية الجوفاء بدعوتنا إلى القيام بالثورة فورا.
نم مطمئنا يا حرزني، فالثوريون سيقومون بالثورة يوم يكسبون الجماهير الكادحة أي يوم يكتمل وعيها بمصالحها الطبقية وتبني أداة الثورة، ثورة مع الجماهير وليس نيابة عنها . فقد استفادوا من أخطائك يوم كنت تسعى إلى "خدمة الشعب" مهتديا بجمل ماوية منزوعة من سياقها كأنها الكتاب المنزل. ومصيبتك انك تنظر إلى ثوريي اليوم في صورة ما كنته قبل أربعين عاما.



#رفيق_الرامي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مشروع قانون تأسيس الاحزا ب : قانون حزب التسبيح بحمد النظام ا ...
- الوضع السياسي بالمغرب :المستقبل للنضال العمالي والشعبي


المزيد.....




- مسؤولون في الأمم المتحدة يحذرون من مخاطر ظهور جبهة جديدة في ...
- الأمم المتحدة: 800 ألف نسمة بمدينة الفاشر السودانية في خطر ش ...
- -خطر شديد ومباشر-.. الأمم المتحدة تحذر من خطر ظهور -جبهة جدي ...
- إيران تصف الفيتو الأمريكي ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة ب ...
- إسرائيل: 276 شاحنة محملة بإمدادات الإغاثة وصلت إلى قطاع غزة ...
- مفوضية اللاجئين تطالب قبرص بالالتزام بالقانون في تعاملها مع ...
- لإغاثة السكان.. الإمارات أول دولة تنجح في الوصول لخان يونس
- سفارة روسيا لدى برلين تكشف سبب عدم دعوتها لحضور ذكرى تحرير م ...
- حادثة اصفهان بين خيبة الأمل الاسرائيلية وتضخيم الاعلام الغرب ...
- ردود فعل غاضبة للفلسطينيين تجاه الفيتو الأمريكي ضد العضوية ...


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - رفيق الرامي - عملية -الإنصاف و المصالحة-: بين أضاليل الديمقراطيين الزائفين و واجبات المناضلين الجذريين