أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي أحماد - اللقاء الأخير














المزيد.....

اللقاء الأخير


علي أحماد

الحوار المتمدن-العدد: 5341 - 2016 / 11 / 12 - 17:12
المحور: الادب والفن
    


عاد من العمل متعبا والحمى تدك منه العظام وتوهن المفاصل . صعد الأدراج الإسمنتية بمشقة كبيرة تتقطع منه الأنفاس وكله أمل ان يستلقي ولا يغادر الفراش قط. لكن نداء من الأعماق يحضه على زيارة الأب ليقوم بواجب البنوة ويصل الأرحام ويطمئن على حاله بعد أن أقعده المرض ومنعه من الخروج. رافقته الزوجة التي تلح عليه كثيرا وتبذل مسعاها -دون ملل ولا كلل -لتحمله على زيارة الأهل وتحثه أن لايتهاون في ذلك . بلغا الزقاق الضيق والمترب والذي تقوم على جنباته دور طينية وطيئة . دخلا عليه الغرفة والى جانبه أفراد الأسرة . بدا لهما وقد علا محياه إصفرار..غائر العينين..حفنة من عظام لايكاد اللحم يكسوها ، دقيقة كأنها لطفل حديث الولادة. لايقوى على تحريك رجليه. انحنى وقبل يده و همس في أذنه فأومأ بإشارة من رأسه أنه عرفه وعرف مرافقته ..حمل إليه كيسا من الحفاظات لعله في حاجة إليها وقد ذكرت أمه ذلك أمامه في زيارة سالفة . خارت قواه ووهن العظم منه وقد بلغ من الكبر عتيا. لايستطيع النظر اليه طويلا فرؤياه ينفطر لها القلب وهو في أرذل العمر. يهش على وجهه بيدين نحيلتين ويشدهما الى حبل يتدلى من السقف الخشبي كلما أراد أن يعدل من قامته. لقد ظل طول حياته يبتكر ما يسهل عليه العيش في نظره دون أن يلتفت الى كلام الناس وألسنتهم اللاذعة . كانت العمة حاضرة وطال مقامها على غير العادة ، فهي دائما تستعجل العودة لأنها لاتتحمل فراق إبنها الوحيد وأطفاله بعدما قتل الخنزير البري ابنها الأصغر بإحدى قرى أيت حديدو في منظر تراجيدي. وكأنه على موعد لن يخلفه أبدا مع الموت بأنياب حيوان هائج محاصر ومثخن بالجراح. وقد أصر على أن يشارك القبيلة خروجها لقتل هذه الوحوش المتكاثرة والتي تعيث في الأرض فسادا وتتلف الزرع والحرث. ولم يستسغ أبدا أن يعفى من هذه المهمة النبيلة بحجة أنه فرد واحد يعول أسرة ولا إخوة لديه ولا أعمام . بكته المسكينة بحرقة حتى ابيضت عيناها حزنا على فراق ابنها بهذا الشكل المأساوي . كانت لاتطيق السفر وركوب الحافلات ولا تتحمل منعرجات فج تالغمت . نظفت المنزل لاستقبال المعزين فقد أزف موعد الرحيل فالرجل – كما تقول – لايذكر سوى الأموات خصوصا عمر الأخ المقرب إليه والذي شاركه العمل المضني بمناجم اليهودي بينتو وابنه باروخ. مكثا قربه يتسامرون مع الباقين وهو شاخص البصر يطلب بين الفينة والأخرى رشفة ماء يبلل بها شفاهه طامعا ان يمسك الكاس بيديه ولكن هيهات أن يفعل. لايفتأ يعبر عن رغبة جامحة في الانتقال الى الدار الأخرى ويطلب ملاسة يصلح بها مثواه الأخير ويستعجل لاندروفير تحمله الى حيث يرقد عمر ويعجب كيف تأخرت عن الموعد المحدد ويحث الحاضرين على تقديم ذبيحة قربانا لعبد أسود عملاق يراه جالسا فوق أبراج قصر تاشويت. ودعا أهل الدار لأنهما تركا أطفالهما وينتهزان الفرصة لاستكمال إقتناء الأدوات المدرسية .إنها زحمة الحياة التي لاترحم. دخلا دارهما وقلبه منقبض . هيأ كعادته كأس شاي ووضعه امامه فوق طاولة الحاسوب . وهو يرشف رشفة رن الهاتف الخلوي. رفعه فوجد إسم أخيه منقوشا على شاشته ، وقبل ان يجيب قال لزوجته " لقد مات الأب " ولكنها امرته أن يجيب الداعي . سمع على الطرف الآخر صوت أخيه مبحوحا يقول وهو يداري بكاءه " اللهم ارحمه..لقد مات ". لقد أنهى الموت عذابه وألمه . أدار محرك السيارة وأخرجها من المرآب والغصة تكاد تخنقه . يطلب الدموع ولكن المقل جافة ، وهل للحزن عند الناس عنوان سوى الدموع والعويل والنحيب ؟ يحزن القلب ولا تدمع العين. تركا إبنهما نائما وأختيه تبكيان . أمام الدار جلبة وضوضاء . بكاء وعويل النساء اللواتي تجمعن بعدما سمعن نبأ وفاته يكسر صمت الليل البهيم. مات وكأنه لبث بالدنيا أياما معدودات وهل يطمع أن يخلد فيها. كان المسكين يردد (هل تسعفني ركبتاي على المشي ثانية ؟) بوده أن ينام فوق سطح المنزل أو في الزقاق أمام عتبة الدار. جاء لتقديم العزاء صديق الأخ الأكبر تفوح منه رائحة الخمر تفضحه وقد تورد وجهه والدموع تنهمر كالسيل من عيونه. يجلس ردحا من الزمان ويقف وهو يذرع المكان جيئة وذهابا وكأنه يفترش جمرا متقدا. وينوء كاهله بسر يحمله ولا يعلم كيف يبوح به . وصلت الأخت الصغرى وتمرغت في الأرض فاقدة الوعي لأنها كانت متعلقة به . لم يتركها الحاضرون تلقي عليه نظرة الوداع وتعانقه حتى لاتؤذّي نفسها. كان الأخ الأكبر الحاضر / الغائب ، الكل يسأل عنه ويستحضره ولكن الزوجة تؤكد أنه سافر الى بني ملال. الأم قلقة عليه وأهوال الطريق مع فقدان الأب. الوقت يزحف بتوؤدة والمعزون يتوافدون فرادى وزرافات وعويل النساء لايكاد ينقطع حتى يبدأ من جديد. اتشحت الأم بالأبيض وانزوت في غرفة مع بعض النسوة . البعض يسألون هل تبقى الحبابة مضاءة على الميت ؟ مالفرق والميت سيوارى التراب في حفرة مظلمة وحالكة وأشد وحشة. بدا الليل طويلا لانهاية له وكأن الزمن توقف عند نهاية حياة الأب التي امتدت عبر السنوات الطوال . انقطع الإتصال بالإبن الأكبر، أو هو تعمد عدم الإجابة على المكالمات...جاء صديقه وهو مرتبك مشوش البال أخذه من يده وأخرجه من المنزل وهمس في أذنه ( الأخ الأكبر موجود بالمدينة فلا تقلق ) . هو يعرف ذلك وأخفاه لأنه رأى سيارته قرب فيلا البناني بأيت عياش .. نقل الخبر الى الأم فعاد إليها هدوءها واستكانت ... تذكر امرؤ القيس وقولته المشهورة عندما وصله خبر موت أبيه . عاد الى داره ليبقى مع أطفاله وترك الزوجة هناك مع النساء بعدما اتفق مع الجيران على موعد الدفن.



#علي_أحماد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجمرة الخبيثة عراب موسم الخطوبة بإملشيل
- من ذكرى أبي الدراجة الهوائية
- من مذكرات معلم / وريث حمل ثقيل
- التزيين في قضية تعنيف الأساتذة المتدربين
- وشاية كاذبة تستنفر الإذاعة و نيابة التعليم بميدلت .
- مدارس بدون تدفئة في ذروة القر والصقيع
- كلمة في حق صديق
- يوميات معلم بدكالة / أكتوبر 1991 الشيخ والوليمة
- من ذكرى أبي / الجزء الرابع الكفن
- لحظة عشق
- الأستاذة وحجرة الدرس
- صلاة فوق أريكة خشبية على الرصيف
- من مذكرات معلم بالجنوب المغربي تازناخت 1987/ معلم يستحم وسط ...
- طفل خارق للعادة
- الباشا والعدوان على أستاذ -العدل والإحسان-
- ورطة العشق
- كلمة المناضل عبد الرحمن العزوزي الأحد 14/09/2014 بخنيفرة
- ذكرى خيانة
- النائب ،التلميذ واللوح الأسود
- من أوراق معلم بالجنوب/ نواة تمرة 1989


المزيد.....




- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي أحماد - اللقاء الأخير