أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أحمد الخميسي - وداعا دكتور محمد محروس














المزيد.....

وداعا دكتور محمد محروس


أحمد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 5339 - 2016 / 11 / 10 - 05:09
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


سأقدم لك إنسانا لم يكتب عنه خبر في صحف، ولم يظهر مرة في تلفزيون، ولم ينطق اسمه مرة من منصة منبر سياسي، وقلما لفت اسمه أو شكله انتباه أحد إليه. لكن كل العائلات الفقيرة في حي الأميرية الشعبي عند نهاية شارع بورسعيد تعرفه تمام المعرفة وتحفظ الطريق إلي عيادته المتواضعة التي تصعد إليها في بيت قديم على درج تآكلت سلالمه فتجده جالسا في حجرة الكشف مبتسما وبيده سيجارة مشتعلة. إنه د. محمد محروس الذي فارق عالمنا منذ أيام قليلة، ولم يترك شيئا خلفه سوى مغزى حياته التي سكبها في حياة الآخرين بصمت الدم ينسكب في البدن دون أن تسمعه. عرفته وقيمة الفحص عنده خمسة وعشرون جنيها، وعلى امتداد عشرين عاما رفض أن يزيدها جنيها واحدا. كانت عيادته مزدحمة دوما بنسوة بملاءات لف، ورجال بجلابيب، وأفندية تشى قمصانهم بأنهم من المطحونين، وأطفال يفركون عيونهم بأياد متسخة. كنت أتردد عليه كلما ألمت بي وعكة، فقد كان وكان طبيبا عبقريا بكل معنى الكلمة. أذكر أن قريبا لي شكا ذات مرة من ورم برز في ظهره فذهبت معه إلي د. محروس- وهو طبيب عام ليس اخصائيا- فكشف عليه وقبض على الورم بين أصابعه وقال له:"هذه مجرد أكياس دهنية وليست مرضا خبيثا". لكن قريبي بسبب الخوف من السرطان راح يكشف عند الاخصائيين ويجري فحوص كلفته مع أجور الأطباء آلآف الجنيهات ثم اتضح أنها أكياس دهنية كما عرفها د. محروس بلمسة من يده. قلت له مرة مازحا:" قيمة الكشف عندك رخيصة لكن الوصول إلي عيادتك البعيدة هذه مكلف! لم لا تفتح عيادة في وسط البلد؟". أجابني:" أنا عندي فلوس أقدر أفتح عيادة في أي مكان". وصمت لحظة ثم فرد كفيه في الهواء متسائلا:" لكن لمن أترك هؤلاء الناس؟" وأومأ برأسه إلي الصالة التي ينتظره فيها المرضى! قليلون هم البشر الذين يشبهون القصائد ولهم طعم الأمل، قليلون هم البشر الذين يشبهون الضحكة في اليأس، والنبتة البازغة في الصحارى، وكان د. محروس واحدا بحياته كلها يعزز لدي اليقين بأن المشاعر الانسانية ليست قاصرة على الغيرة والطمع واللامبالاة والجحود، بل إنها تنطوي على جوهرة أخرى مشعة:التضحية من أجل الآخرين، أولئك الذين يعتصرهم الفقر في الأزقة الضيقة المعتمة. ذات يوم شكا الصديق الراحل العزيز علاء الديب من وعكة صحية فقلت له"عليك بالدكتور محروس. إنه معجزة. صدقني" فقال:" لكني لا أتحرك يا أحمد فهل يأتي إلي؟". اتصلت بمحروس فأجابني على الفور:"هات العنوان. سأنهي عملي في العيادة بعد ساعة وأكون عنده"! دهش علاء الديب فقد كان يوما ممطرا والمسافة بعيدة كما أن د. محروس رفض أن يتقاضى منه مليما! منذ ثلاثة أشهر أصيب د. محروس بالمرض الخبيث. كلمته بالهاتف عدة مرات، لكني لم أجد في نفسي شجاعة كافية لألتقي به، وأواجه نظرة عينيه الطيبة، وكلانا يعلم أنه الوداع وليس لقاء. إلا أن القدر جعل إلي جواره صديقا أكثر شجاعة هو دكتور محمد مندور الذي كان ينقله بسيارته لتلقى العلاج الكيماوي ويعاونه في كل صغيرة وكبيرة. برحيل د. محروس تهدم ركن كبير في حياتي. كان إنسانا وعالما بسيطا، ودودا، ينصت إليك وأنت تكلمه كما تشرئب حديقة إلي النور. لم أسمع منه مرة واحدة حرفا عن الشعب، أو هموم الناس، أوالتغيير، رغم أنه مثقف وقاريء نهم يتابع كل شيء. لكن ذلك الانسان الذي لم أسمع منه كلمة عن التغيير كان أقوى آمالي في التغيير. وما من قوة أو جماعة سياسية منحتني الأمل في أن الحياة ستغدو أفضل مثلما منحنى دكتور محروس ذلك الأمل بحياته المبذولة في هدوء من أجل الآخرين. يبقى العطر حتى بعد أن يحصد الموت ورد الحديقة. وتبقى النجوم المشعة حتى عندما يغيبها الضباب الكثيف. ويبقى اسم دكتور محمد محروس بطعم الأمل، ويبقى مغزى حياته البسيطة العميقة التي أسالها في أعمار الآخرين، دون انتظار لأي شيء.
***
د. أحمد الخميسي. كاتب مصري



#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في البحرين أزمة من الطبل والزمر !
- من الذي لم يبصق في وجه الشعب المصري؟
- لوقا وأحمد .. خانة الوطن لا الديانة
- لا تنس أن تتذكر !
- مطر الرصيف قصة قصيرة
- الشباب والأدب والشهرة
- مساعدات أمريكية للارهاب الإسرائيلي
- ماعزة من موسكو إلي كييف
- ذكرى ميلاد العبقري ليف تولستوى
- الختان .. انتهاك كرامة البشر
- رياض أفندي والخواجة - بيلا - .. الصورة الأكبر !
- عزيزي جلال الرومي .. كلمني على الماسنجر !
- فرحة صغيرة
- ناجي العلي .. انتظار الوطن
- البحث عن بلادنا
- اسطنبول والموت حسب الأصول !
- الكتابة إلي المستقبل
- الإعلان الأساسي .. يا للي عطشان وناسي !
- لن أكتب هذا المقال !
- جو كوكس .. اقتلاع الزهرة


المزيد.....




- شاهد ما كشفه فيديو جديد التقط قبل كارثة جسر بالتيمور بلحظات ...
- هل يلزم مجلس الأمن الدولي إسرائيل وفق الفصل السابع؟
- إعلام إسرائيلي: منفذ إطلاق النار في غور الأردن هو ضابط أمن ف ...
- مصرع 45 شخصا جراء سقوط حافلة من فوق جسر في جنوب إفريقيا
- الرئيس الفلسطيني يصادق على الحكومة الجديدة برئاسة محمد مصطفى ...
- فيديو: إصابة ثلاثة إسرائيليين إثر فتح فلسطيني النار على سيار ...
- شاهد: لحظة تحطم مقاتلة روسية في البحر قبالة شبه جزيرة القرم ...
- نساء عربيات دوّت أصواتهن سعياً لتحرير بلادهن
- مسلسل -الحشاشين-: ثالوث السياسة والدين والفن!
- حريق بالقرب من نصب لنكولن التذكاري وسط واشنطن


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أحمد الخميسي - وداعا دكتور محمد محروس