أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - ابراهيم محمود - الارتحال إلى الدكتورنورالدين ظاظا6- بين الوعيين : القومي والسياسي















المزيد.....


الارتحال إلى الدكتورنورالدين ظاظا6- بين الوعيين : القومي والسياسي


ابراهيم محمود

الحوار المتمدن-العدد: 1416 - 2005 / 12 / 31 - 10:17
المحور: القضية الكردية
    


بالنسبة لمن يعرف ظاظا من الكرد، لا بد أن يقفز إلى ذهنه ، بمجرد ذكر اسمه، ذلك الكردي: السياسي والمناضل العقائدي والحزبي كذلك، وفي أطر محددة، من العلاقات الرفاقية والاجتماعية والسياسية الخاصة. إن هذا التوصيف ينطبق على الذين عاصروه، وعاشوه عن قرب تماماً، وخصوصاً من ذوي الشأن السياسي الحزبي الكردي، ومن خلال وقائع تاريخية مؤرشفة، وكذلك من خلال تداخل اسمه مع ما هو قومي كردي. لكن خارج هذا التوصيف يبرز اسم ظاظا ليس بصفته الواعي لما هو سياسي وقومي، وديالكتيك العلاقة الفائقة الزخم الحركي والدلالي بينهما، خلاف الكثير من التصورات التي كانت سائدة في زمنه، عندما انخرط في العمل السياسي الثقافي قبل الحزبي، وآل على نفسه أن يكون ذلك القومي والسياسي الحزبي الكردي، إنما كمثقف أولاً وأخيراً، يحمل أكثر من تاريخ لنسَب قومي أو أثني ضيق، متجاوز لهما، لأنه عاش الكثيرين من اللغات الأخرى بأقوامها، وتعلم اللغات تلك، وكان لـه علاقات مع رموز فيها، وخلاف الكثير ممن يعتمدون الحزبية كمفهوم تمايزي عن الآخر، لتقتصر حركية العلاقات على أسس محددة، مقننة، كلٌّ خارج عليها، ووفق اعتبارات هرمية، يؤثَم بأكثر من صيغة.
في قراءة سيرته، يبدو ظاظا داخلاً إلى المجال السياسي، وفيه، ليس باعتباره كردياً متحزباً أو عقائدياً، كما هو حال السائد في المجمل، وأن كرديته تلك جعلت منه قومياً كردياً، كما همو الكثيرون هنا وهناك أيضاً، وإنما كونه يعيش كرديته في منحييها القومي والسياسي كباحث معرفي وانساني في الصميم، وذلك من خلال بناء فكري يعرّف بالكتاب: كتابه( لورثته المعنيين به) من ألفه إلى يائه.
كان لتربيته في مادن، ولطريقة تعليمه، وثقافته الخاصة من خلال احتكاكه بالآخرين، الدور الجلي في ظهور ظاظا، وفي تعرّضه للكثير من المتاعب، ليس ممن آثروا على أنفسهم أن يضايقوه، بسبب مبدئه ككردي، فهذه بداهة تاريخية، مؤكدة، وإنما ممن رأوا فيه: الواحد المختلف، ممن زاولوا العمل الحزبي، وأبصروا في سلوكيته ذلك الخط المتعدد الممتد في كل اتجاه، وفق رؤية خاصة به، لم يكن خطاً دائرياً. نعم لقد أقضَّ ذلك مضجع خصومه المختلفين عنه في الانتماء القومي والثقافي، لكنه، في الآن عينه، إنما ليس بالتوازي كاملاً، أقلق وأرهق الكثيرين من رفاقه الكرد: قريباً منه أو بعيداً عنه، من خلال طريقة التفكير والتدبير معاً، ومعايشة الأحداث، أو عبر التعامل مع الوقائع ووعي الذات.
عند الانتهاء من كتابه، يمكن وضع بانوراما شاملة، تخطيطاً لونياً لسيرة حياته المركَّبة، بحسب انتماءاته الثقافية : السياسية والتاريخية والفكرية الفلسفية والأدبية وغيرها، حيث تبدأ البانوراما الحياتية تلك من ثقافته المادنية: البصرية، وهو يكبر على ترددات أصوات الذين كانوا يتحدثون عن التمييز العنصري، واستقلال كردستان، وأسماء الذين ناضلوا في سبيلها، كما في حال الشيخ سعيد، ومن جاؤوا بعده أو تابعوا المسيرة الكفاحية في ميسمها الكردي الانساني، وهي لم تتوقف حتى اللحظة هذه، وهو لما يزل غضاً طري العود، لترسم البانوراما الحياتية الشخصية هذه عقدتها المفصلية، وهو يحل في الخارج، في سويسرا، في نهاية1947، للتعلم، فتكون الفلسفة وتجلياتها المعرفية والتاريخية النار التي انطبخت ونضجت كثيراً عليها أفكاره الأخرى التي حملها معه من يوم خروجه الاضطراري من مادن البداية الناهضة، وهي أفكار الانتماء القومي ومشروعية التعبير عنها وتمثيلها اللوجستي، ومن خلال تعليمه الجامعي، واحتكاكه بالطلاب الكرد والأجانب، وتعرضه لمضايقات شتى( انظر ص 103)، خصوصاً وأنه أراد أن يقدم العمل الطلابي الكردي، عبر رابطة موحدة، ما يفعّل الممارسة النضالية والثقافية الجامعية والحياتية خارجاً أكثر فأكثر منذ 1949، وربما لتكون فكرة الرابطة الطلابية هذه، الرحم الأثير الذي مهَّد لتكوين حزب كردي، كان فاعلاً في تكوينه، فكان هذا المولود العقائدي في سوريا نهاية سنة 1957، ليُنتخَب رئيساً لـه( للحزب الديمقراطي الكردي . ص 108)، ويعني ذلك أنه دخل الحزب كمثقف، كما أسلفتُ، بكل ما تعنيه مفردة المثقف من شمولية رؤية، وتعددية أبعاد حوارية، واختلاف وجهات نظر، وحتى صاحب تصور فلسفي، خصوصاً وأن رسالته الجامعية كانت عن مفهوم الالتزام، وأن الالتزام هذا، لا ينفصل عن تلك الرغبة الذاتية، في توسيع نطاق رؤيته لما هو معرفي ونضالي، بشكل خاص، لأن الوجودية، بصيغتها السارترية كانت مؤثرة حتى ذلك الوقت، وكذلك مفهوم المثقف العضوي الغرامشي الاتجاه، كان لـه باعه الطويل في التعبير عن المرامي السياسية والفلسفية معاً. وأعتقد أن هذا التفكير( البرمائي) المسلح بمعرفية متعددة المصادر، اصطدم بالكثيرين ممن كانوا في الحزب، وصاروا رفاقاً فيه، وأرى( ولا أعتقد في الحالة هذه، إنما أؤكد تمام التأكيد، من خلال تفكيك البنية المعرفية لمفهوم الحزب وقتذاك، وهي في صيغتها الكبرى أو المفصلية، ماتزال هكذا حتى اللحظة، أن التفكير الهندسي لظاظا، لم يستطع التواصل مع تفكير حسابي لمجمل الذين تجاوبوا معه، إنما إلى حين)، نعم، أرى أن برمائية تفكير ظاظا، كونها جمعت بين ثقافات وتنوع لغات ومشروع بناء مجتمع، قبل التأطُّر داخل حزب، وبناء ذات، قبل ثكننة الفكر( جعله ثكناتياً)، والتوسع في فهم التاريخ، وليس تقليص التاريخ ليكون شعاراتياً كسواه في الجوار القريب، أي تمدين الفكر والسلوك، بإطلاق العشائرية دفعة واحدة.. الخ، أرى أن كل ذلك جعل من مقام ظاظا( كصالح في ثمود)، وكما دخل مثقفاً وعانى الكثير، وأكد الكثير من أجل ذلك، وهو معايش أكثر من سجن، هكذا خرج ليس من الحزب، وإنما من شرنقته: خندقته، لائذاً بأفكاره، ليعيشه فرداً واحداً، كما تقول مرويته الحياتية المحفوظة هنا وهناك، بكرديته التي حلم فيها في كيان ذي شأن مشروع، لتستحيل يوتوبيا خاصة به، بقيت معه، وهو في سويسرا التي وفرت لـه كل ما يحتاج إليه، إلا تلك اليوتوبيا، التي عنت كردستانه، وأجزم تمام الجزم أنه مات وفي روحه حسرة بليغة من كردستانه.
وربما كان سجنه في 8آب 1960، وتعرضه لأذى جسدي ونفسي، ومن خلال وشاية رفاق لـه به اضطراراً، كما يقول هو نفسه عن ذلك( ص 111)،( ولكنها وشاية في المحصّلة)، الألم النافذ بجلاء في كيانه، ذاك الذي شكل لـه أكثر من إشارة استفهام حول الدور الذي ارتضاه لنفسه حزبياً، وما جناه لاحقاً: قومياً وانسانياً.
هنا يمكن التأليف بين أكثر من مهماز معرفي، وكيف أن ظاظا، عندما فكر في تدوين مؤلَّفه، رغب في أن يكون خلاصة ما كان يريد، ليترك الكثير من الفراغات، لتُملأ من قبل القارىء، والمسامات التي ترشح الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام، وكأن الكثير في ذاته، والمؤلف في صفحات محسومة، يستحضر إلى جانبه، أكثر من كتاب، يخص سيرة حياته، تلك التي يعنى بها من عرفهم، ومن التقى بهم، ومن اصطدموا به، والذين لم يبخلوا في النيل منه، وتشويه سمعته، ومن رفاقه الكرد، لأنه رفض الثكناتية في التفكير، بجماع أسلحتها الفاسدة.
خلاف الكثيرين من بني جلدته الكرد( ممن جلدوه نفسياً، خصوصاً بعد نيله شهادة الدكتوراة في سويسرا) ، ومن رفاقه الحزبيين بالذات، لم يدخل البيت الحزبي الكردي، ليتثقف من خلاله وداخله، لقد كان بيته الفكري الذهني الوطيد بنيةً وسقفاً، يؤمّن لـه المناعة الذاتية في تأكيد شخصيته، وحين بدا الفارق كبيراً بين حجم ذلك البيت الذي حلم في توسيعه وتمتينه، ارتطم بسقفه الدوغمائي ومفروشاته العشائرية الماركة،( كما سنرى في مكان لاحق، وبتوسع)، ولهذا، وخلاف الكثيرين ممن أتينا على ذكرهم عددياً( في كثرتهم الكاثرة)، ومن خلال تقديره العميق لذلك التواصل العميق أيضاً، بين الوعيين : القومي والسياسي، خرج من البيت ذاك مهزوماً في كرديته وبها، تلك التي أُريد لها أن تتحزب وتتهذب وتتشذب، في مقاس البيت المحلي النشأة، وليس في كرديته التي عنت كردستاناً خارج التصنيف التكتلي العشائري، رغم أنه على صعيد المنبت العشائري، كان يبز الجميع دون استثناء، كما يقول تاريخه.
في سيرة حياته، تتجلى سيرة تاريخ، سيرة شخص تنامى تاريخاً، لم تتم مقاربته في الحد الأدنى كردياً، وهذا يؤكد كل التساؤلات التي يمكن أن تطال موقعه داخل الحزب، وحتى عمله كمثقف وحزبي معاً، وفي وسط خاصم تاريخاً كاملاً فيه، وأُغلق عليه غالباً، إنها سيرة كاميرا سينمائية واسعة، هي عيناه وقد أخذتا بأشياء كثيرة في خدمة شيء لـه معنى، كما هي الوقائع التي تجسد حدثاً ( في محادثات فيرساي، كان وفد كوردي بقيادة ( شريف باشا) يكافح لإرغام الدول المتناحرة على قبول تأسيس دولة كوردية. ص 5).
كانت فرساي الحاجز التاريخي والسياسي والعسكري الأوربي الأول سنة 1919، وبعد الحرب العالمية الأولى، وقد صدمت أماني الكرد وسواهم من الشعوب المستعمرَة، كالأرمن مثلاً، وتكون بمثابة جرس الإنذار لممثلي الكرد على أن ( نيل المطالب ليس بالتمني)، فثمة ظروف قاهرة، والتذكير بفيرساي، ومنذ البداية، يعني التفكير في لعبة التاريخ وتتالي وقائعه، أي لعبة الأمم، وكيف يمكن لأمة أن تكون أمة، وهي ليست كذلك، وسواها دونها مقاماً، لتتشكل إطار أمة، كما هي حال أمم أوربية وافريقية كثيرة أقل مساحة وعدداً في السكان، بعكس كردستان، وهي لعبة لازالت قائمة عبر أكثر من فيرساي حديثة ومعاصرة.
يكون هذاالتوقف عند معاهدات ووقائع تاريخية مختلفة، أو التذكير بها، قبل ولادة ظاظا وبعدها نوعاً من التحالف الودي مع التاريخ، واستمرار البقاء فيه، لأنه أولى بالسكنى فيه من سواه، كونه بحاجة إلى فهم منطقه أكثر، وهو بذلك يقيم علاقة قوية بين ما هو قومي وانساني، معتمداً ثقافة ترابطية، حيث إن كرديته على الصعيد القومي لا تبعد في الصميم ما هو مأسوي وانساني فيه، وكذلك فإن انسانيته لا تمحو هاجسه القومي بالمعنى الواسع للكلمة.
إن معاهدة فيرساي تاريخاً، تترافق مع سنة ولادته، وثورة الشيخ سعيد جرت واقعاً وهو في نهاية فترة الطفولة الأولى، وإذ يتحدث عن وقائع التاريخ، ينعطف على عميق القوام التاريخي، حين ينطلق من بيته، من مادنه التي حوت الكثير من الأرمن وآمنتهم من بطش الترك، وكان هناك اليونان، وكيف تم إبعادهم والنيل منهم( ص 10).
كل حديث عن المجتمع والتعليم وحركية التاريخ، يصعد بلغة ظاظا الثقافية وبعدها الفكرية خصوصاً، فحين يتحدث عن فترة التعليم الأولية، لا ينسى التشديد على تلك الممارسات العنصرية بحق الآخرين من غير الترك، والكرد بأطفالهم نموذج جلي هنا، وتبرز وتيرة الأحداث أكثر إقلاقاً كلما تقدم به العمر، وبعد الحرب العالمية الأولى، وعلى الصعيد الكردستاني العام، وكأن النزعة الكمالية في جوهرها، كانت الجمرة الخبيثة الأولى، التي شكلت وباء الفكر القوموي الأكثر عصرية والأشد عنصرية، لتلتقي مع أشكال وصور العنصريات الأخرى في المنطقة: العربية والفارسية، إنما مع الكمالية، فقد شكلت لقاحاً مطعماً مميتاً جرى بين عثمانلية تترَّكت، وغربنة مجيَّرة مكولنة ومزيفة،( لقد خضع الشرق كله لميكيافيلية مصطفى كمال الإنتهازية. ص 17)، أي كان النموذج المقتدى به، خارج حدود تركيا المرسومة، وتبدَّى كمال أتاتورك مثالاً مرموقاً في وضوحه ودلالته، من التركيب القبلي الممدين، والحداثة المسحوبة من بريق المدينة، ومن قبل الكثيرين في الجوار، كما يذكر الدكتور " محمد نور الدين " في كتابه( حجاب وحراب: الكمالية وأزمات الهوية في تركيا، بيروت، ط 2001/ ص 32)، وهو تعبير عن تجلي الوعي التاريخي والفلسفي والسياسي لخاصية سلطوية جامعة بين أُبهة القوموي المعتد بنفسه، واحتكار التاريخ لنفسه، ولعل ذلك كان بمثابة ألفباء الطريق المتشعب للإجهاز على كل محاولة تخرج عن المعطف التركي الطوراني الثقيل الوطء، وخصوصاً من جهة الكرد، حيث أن الكمالية التي فتحت عين تركيا على الغرب، وبدت واعية في حنكتها للعبة التاريخ، فإنها رمَّدت العين الثانية وأعمتها، في خلطها بين حداثة غير ناضجة، وتتريك يساوَم عليه، دون تقدير العواقب الوخيمة مستقبلاً.
بين وعي لمأساة شعب ممزَّق، تعمَّق مع الزمن، هو شعبه، وإدراكه لمأساته العائلية، يكون الشعور المركب بما هو قومي وانساني معاً، حيث إن مصائبه من جهة العائلة، وخصوصاً موت أمه، مدت في نظرته ووسَّعتها انسانياً، ربما لتكون النظرة إلى الأم بكامل حنوها، تمثيلاً قلبياً، يشار به إلى العالم وأهليه، كما في حديثه عن علاقة مختصرة ولماحة( بعد رحيل والدتي أصبح والدي كتوماً وأكثر حساسية تجاه آلام الآخرين، وكان همه الأساسي إيجاد العوائل الفقيرة والمعوزة وتقديم المساعدة لها... الخ ، ص 40).
إن رؤية المفارقات، كلعبة حياتية وصادمة وموحية بالمقابل، هي أهم ما يميّز ذا النظرة الثاقبة، هي التي تولّد في الصدام بين المشتهى والمُلتغى تلك الحقيقة التي تهيّء لقابلية حياة ، لا مفر منها، والارتقاء فيها، فهو على إثر انتقاله إلى سوريا، قبل اكتمال طفولته الثانية، وفي مدينة حلب ، يستشعر حرية كانت ملغاة في تركيا، ويتلمس في الفارق حياة حثته على الاندفاع فيها، ولكن ذلك كان محدوداً زمنياً، ومنطق الزمن كان محكوماً بمنطق التاريخ، والأخير بحركية المصالح بين الدول، كما كانت فرنسا في لعبتها السياسية البراغماتيكية مع الكرد، فالسياسة الفرنسية ( تجاه الكورد كانت تتغير باستمرار وفقاً لنوع العلاقة بين فرنسا وتركيا، وكنا نحن نجهل ذلك. ص 46)، وهذه اللعبة المحكمة لا زالت سارية المفعول، وهي تستوجب الكثير من المرونة، لئلا تكون صدمة اللامتوقَّع كارثية.
ظاظا لا يقيم مصالحة فكرية مجردة، بين ما هو قومي وما هو انساني، عندما يتناول أحداثاً ووقائع، ويتعرض لسير أشخاص في محيطه، بقدر ما يضفي على الواقع المرصود والمقروء مسحة لافتة من الوضوح النظري، والحكمة العملية، كما في تناوله لشخصية علي آغا زلفو الكردي السوري، السوري بامتياز، حين يجد أن هناك من يهدد بلده، طالما أنه مكرَّم فيه( كان علي آغا زلفو في غاية النزاهة والإخلاص لوطنه سورية الذي كان فوق كل مصالحه المادية. وفي عام 1925 عندما نهضت سورية في وجه ابتزاز السلطات المنتدبة ترأس المتطوعين الكورد من أبناء حيه وكبد الفرنسيين خسائر فادحة.. الخ ص 54).
ما أشبه اليوم بالأمس، إذا كان ابن اليوم، أعني به الكردي، هو كابن الأمس وفق التاريخ الموسوم، أعني به الكردي أيضاً، عندما تكون سورية اليوم هذا، كسورية اليوم ذاك، وهذه ليست نزعة توافقية، إنما هي مبدأ فكري وتاريخي أخلاقي. ولعل ما يكتبه عن جلاد عامودا وسواه، ممن كانوا يتلمسون من العروبيين، في كل كردي يسمي نفسه كردياً خطراً على الأمة العربية، وسوريا، لم يكن توهماً أو توليفاً، إنما حقيقة لا زالت مُعاشة، فحين يورد كلام الملازم الأول في السجن، الذي احتد كثيراً وهو يريد النيل من سجين كردي،، ومنذ مطلع ستينيات القرن الماضي
( إنكم تهدفون تماماً إلى اقتطاع قسم من سوريا وإلحاقه بدولة تطمحون بإنشائها، لذلك فإنه يحق لنا أن نسمي الكورد" اسرائيل الثانية" وأن نتخذ إجراءات ضرورية لكي نسحق محاولاتكم وهي لا تزال في مهدها. ص 114)،، وهذا الكلام المرعب والرهيب يوجَّه إليه أكثر من مرة( ص 112-116-126)، فإنه يقدم تاريخاً طويلاً على غاية من التضاد في منطوقه القيمي الانساني: حيث يكون العربي المعتبر لسان حال التاريخ، ومطوّب الجغرافيا والذين يقيمون فيها، والقادر على أن يقول أي شيء بحق الآخر، كما هو حال من يعتبر نفسه لسان حال الحقيقة، مسفهاً الآخر المعتبَر نقيضه: خصمه، عدوه، ويكون ما عداه معادياً لـه، ويكون الكردي هو النموذج الأكثر بروزاً هنا، وهو التاريخ الذي لا زال على حاله، فكأن القيّم العروبي بامتياز هنا، لم يتغير، ولم يغيّره التاريخ، وكأن الوعي الجغرافي والأبعاد السياسية للمكان لم يحركا فيه شبح تاريخ آخر خارج نطاقه، رغم كل التغيرات، وعلى الأصعدة كافة من حوله، فكل كردي، حتى لو كان أصم أبكم أعمى، يكون انفصالياً، وكأن الجسد الكردي هو ذاته بات ذاكرة مفتوحة مجروحة، تتضمن عبارة واحدة، هي : انفصالي كردي، ليتصرف العروبي العفلقي على ضوء مقروئه الحصيف، ما يعتبره دفاعه المشروع عن تاريخه.
لا ينسى في الحيّز ذاته، ذلك الموقف الانساني من العربي، وسواه، ذاك الذي يجد في الكردي توأمه التاريخي: مصيراً ومعايشة حياة مشتركة، كما في حال المحامي العربي الذي دافع عن الكرد: تاريخاً ووجوداً تاريخياً وثقافة ومشروعية تمايز في المحكمة( ص 133-134)، ومن خلال المواقف الهمجية في التعامل مع السجناء، وخصوصاً ممن ليسوا عرباً، وخصوصاً الكرد، كما في سجن المزة العسكري : السيء الصيت، والذي سماه( سجن الباستيل السوري. ص 110)، لا ينسى التذكير بالذين أبدوا مواقف قومية وانسانية من كرده وغير كرده، ممن وقفوا معه، وهو ورفاقه، للدفاع عنهم، حيث حكم عليهم بالاعدام في الاعتقال الأول، ثم بضغط خارجي، ومن قبل معارفه وأصدقائه: كرد فرنسا وألمانيا والسويد وبلجيكا... الخ وأصدقاء سويسريين وآخرين، خفض الحكم ، ليكون ( سبعة أشهر من السجن. ص 134).
ربما يلحّ سجينناالظاظي الأثير، إلى أن عظمة الانسان، تبقى كامنة في مواقفه، وأن دويَّ العظمة هذه، هو الذي يلفت الأنظار إليه، والدفاع عنه، ليكون البعدان: القومي المعبّر عن مشروعية هويته، والانساني المجسد لما هو قيمي عام، وقومي خاص، متكاملين بامتياز هنا.
إن حديث ظاظا عن سوريا خمسينيات القرن الآفل، هو حديث اقتصادي وسياسي ومحلل عام، وكيف أن الكردية كانتماء قومي وانساني وجدت مقاومة ضارية من قبل القوميين العرب
( البعثيين في الواجهة، وإلى اليوم طبعاً) وحتى من الشيوعيين الذين كانوا يعتبرون بروز القومية صدعاً في تاريخ أرادوه أممياً، وخطورة على مبادئهم، والكثير منهم كانوا كرداً، وهذه مفارقة، ليكون ظاظا مشكوكاً في أمره، وفق تصور كهذا، خصوصاً وأنه كان المؤثر في قيام أول حزب قومي كردي في سوريا، وجاء من الخارج مثقفاً ومفكراً، وما كان يعنيه وجود مثقف قادم من الخارج، وأي خارج؟ من سويسرا، وليس من الاتحاد السوفياتي وقتذاك، لأن تحديد البلد هنا كاف لتحديد هوية الشخص الفكرية والايديولوجية، ليصبح الكردي السويسري ذاك، بين مطرقة العروبيين وسندان الشيوعيين، كما يمكن استخلاص ذلك في حديثه الموسع والتحليلي عن سوريا ( ص 106- 152).
أمكنة كثيرة تشابه في العنف المتولد والمعمول به، بالنسبة للكردي هنا كنموذج، والكاتب، يشير إلى عمومية القهر الكردي وهدر قيمته بالنسبة للأنظمة التي تقاسمته: العربية والتركية والفارسية، وربما بدا القهر أكثر، حين يعاني القهر من مثيله الكردي أيضاً، ولكن يبدو أنه كان يغالب نفسه، إزاء قهر الكردي فيه، لأن ثمة مبدأ كردستاني العلامة، هو الذي يسم فيه تفكيره وسلوكه.
بدءاً من بداية سبعينيات القرن المنصرم، يكون خروجه الإلزامي من تركيا، من استانبول حيث كان يلتقي سراً، وفي مقاهيها ( بالشعراء والكتاب القوميين الكورد، وبالطلاب الثوريين الجامعيين حيث كانوا يقاتلون العصابات الفاشية التي شُكلت ووجهت ضدهم. ص 195).
يمضي ظاظا، بقية حياته ( قرابة عقدين من الزمن)، وهو في أوج حيويته، خارج كردستانه الممزقة( في سويسرا)، وبعيداً بعيداً،عن الذين صادقهم وصاحبهم في تنوع انتماءاتهم القومية، بعيداً أكثر، ربما، عن الذين كانوا رفاقه، ولم يستطيعوا استيعابه، فلم يأتي على ذكرهم، كما يجب، بقدر ما آثر الصمت كثيراً في هذا المجال، ليترك للباحث المعني أمر التبحر في الصمت المؤثر. إنه لمرعب أن يموت المرء وهو على قيد الحياة بأكثر من طريقة رمزية، وأن يموت مرات، وهو بعيد عن وطنه الذي يفضله على نفسه، وعن الذين أرادهم قريبين منه داعمين لـه، فيلقى صدَّاً في المجمل، ليكون المنفى الاضطراري، والغربة الحارقة كفَّتي ميزان التاريخ، وهما تتقاسمان همومه وشجونه وإحباطاته أيضاً، ومن كانوا سبباً في ذلك، ولكن ليعيش في الطرف الأقصى من مرارة التشتت والإقصاء، وطناً موحداً في متخيَّله، هو : كردستان، كما يعلمنا بذلك كتابه، أعني كما يوضح لنا مسار حياته: مسيرتها الصاعدة هنا وهناك.



#ابراهيم_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نيران الكردي الفاشية
- الارتحال إلى الدكتور نورالدين ظاظا4- سيرة المكان في سيرة حيا ...
- رسالة مفتوحة إلى الأخ الرئيس مسعود البارزاني: حين يكون العدل ...
- الألفباء الكردية اللاتينية إنشاء امبريالي:ترجمة وتعليق وتقدي ...
- الارتحال إلى الدكتورنورالدين ظاظا2- د.نورالدين ظاظا وتفعيل ا ...
- الوصايا العشرلإفساد الثقافة الكردية
- الارتحال إلى الدكتورنورالدين ظاظا1- لحظة الكتابة الأولى
- الديون المستحقة على الحركة الكردية السورية راهناً
- رطوبة بيروت وأخواتها الضبابيات
- البيان الملغوم - حول بيان المثقفين الكرد في سوريا-
- العرب الذين نعوا عراقهم
- جبران تويني مهلاً
- الملف التقييمي الخاص بالحوارالمتمدن
- ممثلو المراصد الثقافية الكردية- أي كاتب أنت، أي كردي تكون-
- هل كان د. نورالدين ظاظا خائنا حقاً؟- صورة طبق الأصل عن وثيقة ...
- التفكير معاً، أما التكفير فلا يا شيرين
- بؤس الأدب الكردي في بئس النظرة العربية
- أهل الكتابة
- رسالة مفتوحة إلى شهداء: عتقاء حريق سينما عامودا
- - ردا على محمد عفيف الحسيني -بصدد مهزوم المشيخة الأدبية


المزيد.....




- حركة فتح: قضية الإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين تحتل أولوي ...
- نادي الأسير يعلن ارتفاع حصيلة الاعتقالات منذ 7 أكتوبر إلى 78 ...
- الاحتلال يفرج عن 7 معتقلين من الهلال الأحمر ومصير 8 ما زال ...
- الأمم المتحدة: الوقت ينفد ولا بديل عن إغاثة غزة برا
- تعذيب وتنكيل وحرق حتى الموت.. فيديو صادم يظهر ميليشيا موالية ...
- الأمم المتحدة: أكثر من مليون شخص في غزة يواجهون انعدام الأمن ...
- الأمم المتحدة: أكثر من مليون غزي يواجهون انعدام الأمن الغذائ ...
- زاخاروفا تضيف سؤالا خامسا على أسئلة أربعة وضعتها برلين شرطا ...
- مقال بموقع بريطاني: هذه طريقة محاسبة إسرائيل على تعذيب الفلس ...
- الأردنيون يتظاهرون لليوم الرابع قرب سفارة إسرائيل ومسيرات بم ...


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - ابراهيم محمود - الارتحال إلى الدكتورنورالدين ظاظا6- بين الوعيين : القومي والسياسي