أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالجواد سيد - مواسم الهجرة فى السبعينات-مقتطفات من السيرة الذاتية















المزيد.....

مواسم الهجرة فى السبعينات-مقتطفات من السيرة الذاتية


عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)


الحوار المتمدن-العدد: 5320 - 2016 / 10 / 21 - 09:26
المحور: الادب والفن
    


مواسم الهجرة فى السبعينات- مقتطفات من السيرة الذاتية
وأخذت فى الإستعداد للسفر إلى باريس، كانت الطائرة هى طائرة شركة الطيران الإيطالية (أليطاليا)، لم أكن أعرف عنها شئ سوى أن الممثل المصرى العالمى عمر الشريف كان دائم السفر عليها، لاأتذكر كيف أمكننى التعرف عليها، ولكن أتذكر أنه كان هناك مكاتب لحجز تذاكر الطيران فى الكليات للطلبة المسافرين للعمل فى الأجازات فى ذلك الزمن. كان السفر للدول الأوربية للعمل فى الأجازات قد أصبح تقليداً شائعاً فى بداية السبعينات، ولم يكن الحصول على التأشيرات يحتاج إلى الموت غرقاً، فقد كانت مصر سنة 1974 مازلت بلد معاف يقف على قدميه ويحظى بإحترام العالم، وكان معظم الطلبة يعودون قبل نهاية الأجازات لإستئناف دراستهم الجامعية مرة أخرى، قليل منهم فقط ، بدأ مواسم الهجرة ، بعيداً عن الأوطان.
وفى الطائرة جلست مصادفة بجوار طالب نوبى إسمه محمد، كان طالباً بكلية تجارة الإسكندرية، وكان أيضاً مسافراً إلى باريس للعمل فى الأجازة مثلى، لكنه ،وبعكسى، كان يحمل عنوان أو أكثر لمصريين سبقونا إلى هناك، لطلب معونتهم إذا إحتاج الأمر، لم أكن أحمل أى عناوين، كنت مغامراً كعادتى، دائماً بلا حسابات، لكن كل تجارب السفر التى عشتها بعد ذلك، أكدت لى أن الحسابات فى السفر أفضل، وأنه ليس هناك أكثر فائدة من أن يكون هناك من يستقبلك فى الغربة، ليقطع معك الخطوات الأولى ثم يتركك تكمل الطريق وحدك بعد ذلك . كان من حسن حظى أننى قابلت محمد ، فقد سهلت تلك المصادفة كل أمور الرحلة . وصلنا إلى مطار شارل ديجول منتشين برائحة الحضارة ، وإستقلينا أتوبيس المطار حتى وسط العاصمة ولاأعرف كيف إستطعنا الوصول بعد ذلك إلى عنوان أبى بكر، الذى كان محمد يحمل عنوانه، وهو شاب مصرى من حى فلمنج كان قد إستقر فى باريس منذ فترة ولاأعرف كيف حصل محمد على عنوانه، كان أبوبكر كريماً عطوفا، إستقبلنا بترحاب ثم إصطحبنا إلى حى سان ميشيل الشعبى ذو النكهة العربية، حيث كان يسكنه كثير من عرب بلاد المغرب، وأسكننا بسهولة فى أحد الفنادق القديمة ووعد أن يعود فى صباح اليوم التالى لإصطحابنا إلى أحد شركات النظافة والتى كانت تسمى بالفرنسية بشركات(النوت واياج) حيث كان يعمل كثير من المهاجرين من المستعمرات الفرنسية السابقة، وحتى من بلد أوربى، مثل البرتغال. وهكذا ففى مجرد يوم وليلة، وصلنا وسكنا، وحصلنا على عمل أيضا.
كان الفندق القديم الذى أسكننا به أبوبكر عبارة عن مستعمرة مصرية صغيرة، فقد كان معظم النزلاء من الطلبة المصريين، كما كانت صاحبته الفرنسية العجوز، وبالمصادفة الغريبة، لاتختلف كثيراً فى ملامحها وطبائعها عن صاحبة البانسيون اليونانية فى رواية نجيب محفوظ الشهيرة (ميرامار) وقد تعايشت مع المصريين وفهمت طبائعهم وكان أقسى ماتنهرهم به إذا إشتد صخبهم أو تشاجر أحدهم مع الآخر، أن تصيح ساخرة(سواح، سواح ، كلكم عمال). كان الفندق عبارة عن بناء قديم من دورين ، يطل مدخله على أحد أزقة حى سان ميشيل ، لكنه كان نظيفاً وكان هناك عاملة من أصول برتغالية - أو أسبانية - تأتى صباحاً لتنظيف الغرف والممرات. كان مستوى الغرف مقبولاً وصالحاً للحياة لكن الفندق لم يكن يحتوى سوى على حمام عمومى واحد كما لم يكن يقدم خدمات الماء الساخن والتى يبدو أنها كانت خدمة مميزة أو مرتفعة التكاليف فى باريس فى ذلك الزمن، وهو عيب سرعان ماعرفنا كيفية علاجه من خلال خبرات زملائنا وكرم بيوت الشباب المفتوحة للغرباء . كان أهم مايميز الفندق هو رخص أسعاره وكان ذلك هو فى الواقع ماجعل منه مستعمرة نموذجية للطلبة المصريين، أما عرب بلاد المغرب فقد كانت لهم تجمعاتهم الخاصة ، والتى تأسست منذ زمن طويل فى سان ميشيل، وقد تعرفنا عليها فيما بعد. وفى الفندق تعرفنا أنا ومحمد على كثير من المصريين ممن سبقونا إلى باريس مما قصر علينا رحلة التعرف على سيدة أوربا الساحرة ، وجعلنا نشعر وكأننا من سكانها فى أقل من شهر من الزمان.
كان زعيم المصريين فى الفندق شاب قبطى من الصعيد إسمه أمير، ربما لإنه كان الأقدم فى باريس، وربما لإنه كان يتمتع بصفات قيادية فعلاً، كان فى حوالى الثلاثين من العمر، متوسط التعليم، طويل، نحيف، يحمل ملامح الأٌقباط ، ويحب أن يقدم نفسه للناس بإسم، أمير مسيحى مصرى، ولم يكن يفصل الصفات الثلاث عن بعضهما أبداً، كان يعمل شيالاً لدى متعهدة شيالين باريسية شهيرة فى ذلك الزمن إسمها تينا. كان إجتماعنا يتم كل مساء فى غرفته تقريباً حيث كان يفترش الأرض وبجانبه زجاجة نبيذ أحمر وعلبة دخان بينما نلتف حوله لنسمع منه أخبار باريس اليوم والتى كانت تعنى عنده أخبار تينا وزبائنها الفرنسيين ، والشقق الفاخرة والنساء الجميلات التى تسكنها، وكان وعندما يلعب النبيذ برأسه ويبدأ فى التسلطن، يسند ظهره إلى جدار الغرفة ويمد رجليه إلى الأمام وينفث سيجارته فى نشوة ويبدأ فى الحديث عن مهارته فى نقل الأثاث وعن ثقة تينا الكبيرة به وعن آماله العريضة فى أن يصبح يوماً متعهد شيالين كبير مثل تينا . وحول أمير إلتفت كثير من الوجوه المصرية، شريحة نموذجية من أبناء العالم الثالث، غلابة ، محرومين ، تختلط فى رؤوسنا الأحلام ، بالأوهام ، بالحظ العاثر. كان هناك فتاة تدرس اللغة العربية بجامعة القاهرة، بيضاء قصيرة سمينة ترتدى نظارة سوداء بشكل دائم، متحررة ، بلاحجاب فلم يكن الحجاب قد أصبح ظاهرة بعد ، وقد حددت موقفها منا بشكل قاطع ، كانت تعلنها صراحة بين الحين والآخر، أنتم إخواتى حتى لونمت مع أى منكم فى غرفة واحدة. لم يكن إحتراسها تعبيراً عن عدم رغبة ، ولكن تعبيراً عن عدم ثقتها فينا ، موقف عام من البنت المصرية تجاه إبن بلدها المصرى، موقف له تبريره . كان هناك صالح وهذا مازلت أذكر إسمه، قصير ريفى أسمر يدرس اللغة العربية أيضا، كان حديثه المفضل عن طه حسين وعلاقته بفرنسا، لكن أحد لم يكن يهتم بحديثه، كان أمير هو الزعيم بلا منازع ، وشاب آخر من خريجى مدارس سان مارك الفرنسية، كان يعتقد إن إجادته للغة الفرنسية سوف تمكنه من الحصول على عمل أفضل، فإذا به يجد نفسه فى مستنقع القمامة وغسيل الصحون مثلنا تماماً. كان يجلس مثل الأطرش فى الزفة، يفكر يومياً فى إتخاذ قرار العودة إلى مصر دون أن يجرؤ على تنفيذ ذلك فعلاً. كان هناك آخر يحب أن يذكرنا دائماً بنصيحة أبيه له قبل السفر وهى أن أفضل مكان لإثارة المرأة هو ثدييها وأنه لايجب أن ينسى ذلك عندما يحصل على فتاته الفرنسية ، والتى لم يكن قد حصل عليها بعد، ولعله لم يحصل عليها أبداً. كان هناك على الهادئ الرصين، وآخر، ريفى أيضاً ، يحلم بشراء آلة كاتبة لكتابة قصة حياته ، التى لم تكن بدأت بعد ، فقد كان فى بداية العشرينيات ، وصديقى محمد النوبى المتدين الصموت، وآخرين لم أعد أذكر أسمائهم ولاحتى ملامحهم، كانت الوجوه تتغير، ففى كل يوم كان يرحل ناس ويأتى آخرون ليحلوا محلهم، وحتى أنا ومحمد، فلم نلبث طويلاً وإلا ورحلنا لجمع العنب. أما الوجه الذى لم أنساه أبداً فهو وجه الشهم الطيب عمر الجزائرى الذى تعرفت عليه فى بداية رحلتى فى شركة النوت واياج !!!
كانت شركة النوتواياج عبارة عن مكتب لتوظيف العمال للقيام بأعمال النظافة فى الشركات والمكاتب الحكومية، كان المديرون فرنسيين ورؤساء العمال برتغاليين وأسبان وعرب من بلاد المغرب ، أما العمال فكانوا كالعادة من كل بلاد العالم الفقير وخاصة من بلاد المستعمرات الفرنسية السابقة، لم تكن ساعات العمل طويلة لكن الأجر كان يكفى لسد النفقات الضرورية للحياة اليومية ، ولذا فقد كان معظم العمال من الوافدين الجدد الذين لم يحصلوا على أعمال ثابتة بعد، لم يكن هناك أى تعاقدات مكتوبة ولايونيفورم خاص ، ولاأى مهارات مطلوبة، فقط كنا نذهب إلى المكتب بعد الظهر من كل يوم، عدا يوم الأحد، حيث يتم تجميعنا فى باصات صغيرة مع مشرفينا ونتوجه إلى جهة العمل المطلوبة والتى غالباً ماكانت تتغير بين الحين والآخر، حيث يشرح لنا المشرفون المطلوب، والذى لم يكن يخرج عن أعمال الكنس والمسح وجمع صناديق القمامة، لنقوم بتنفيذه خلال ساعتين أو ثلاث، ليحملنا الباص بعد ذلك إلى مقر الشركة مرة أخرى، ومن هناك يتوجه كل من إلى سبيله، ليعود فى اليوم التالى، ليكرر نفس العمل الروتينى . وفى هذه الشركة تعرفنا على عمر الجزائرى.
كان عمر يعمل مشرفاً فى الشركة، كان فى حوالى الأربعين من العمر، متوسط القامة، ربعة، يحمل الملامح التقليدية لأهل المغرب العربى، لكنه يتحدث اللغة العربية بطلاقة ، كما كان يتحدث الفرنسية بطلاقة أيضا، كان محباً لمصر والمصريين ، متأثراً بأغانى حليم وأم كلثوم ، وبلهجة المصريين تأثراً كبيراً ، وهو شئ تبين لى بعد ذلك أنه لم يكن قاصراً على عمر فقط فقد كان ظاهرة شائعة بين كثير من عرب بلاد المغرب فى ذلك الزمن، لكنه كان كارهاً للفرنسيين، لأسباب لم تبد لى منطقية ولامفهومة، فقد رأيتهم أناس طيبيين منذ البداية وحتى آخر لحظة غادرت فيها باريس، لكن ربما كانت فترة الإستعمار الطويلة ، والعنيفة ، التى رضخت فيها الجزائر للإستعمار الفرنسى هى التى جعلت من عمر الطيب ، ذلك الكاره العنيف. كان اللقاء فى أحد الباصات التى أقلتنا معاً إلى مكان العمل وكان عمر هو مشرفنا فى ذلك اليوم بالمصادفة، وعندما رآنى أنا ومحمد بدا فرحاً وسألنا، مصريين، فقلنا نعم، فرد ضاحكاً باللهجة المصرية، منورين، وبدأت صداقتنا القصيرة بعمر، والذى أصبح قائدنا الحقيقى فى باريس ، وإنتزع مكان القيادة من أمير، الذى لم يبد سعيداً بإنصرافنا التدريجى عنه ، وعن حكاياته ومغامراته وطموحاته فى أن يصبح يوماً من كبار الشيالين فى باريس !!!



#عبدالجواد_سيد (هاشتاغ)       Abdelgawad_Sayed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مصر والغاز والمستقبل
- حرب أكتوبر-مقطتفات من السيرة الذاتية
- رحيل بابا جمال-مقتطفات من السيرة الذاتية
- العدوان الإيرانى الروسى ، وميراث الكراهية الأمريكى السعودى
- شعائر الحج ، وعبث التاريخ
- آسيا رمضان عنتر ، أنجلينا جولى الأكراد
- مصر الحديثة ، بين الخطر المسلم ، والخطر المسيحى
- إزدراء الأديان ، أم إزدراء الجهل والإستبداد؟
- نابوليون ، وليس محمد على
- تركيا كمان وكمان
- شواطئ الستينات-مقتطفات من السيرة الذاتية
- دفاعاً عن الجيش التركى
- الثورة الشيعية-ستانلى لين بول -ترجمة عبدالجواد سيد
- تاريخ البابوية القبطية المبكر-ستيفن ديفيز-ترجمة عبدالجواد سي ...
- تركيا وروسيا وإسرائيل ، ثورة دبلوماسية، أم مؤامرة جديدة؟
- وداعاً 30يونيو
- الإتحاد الأوربى والمشروع الإسلامى
- حضارة بابل وخرافات الخمينى
- عصر الأنوار والحروب الدينية
- مصر والبحر المتوسط


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالجواد سيد - مواسم الهجرة فى السبعينات-مقتطفات من السيرة الذاتية