أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - أديية في الجنة . ملحمة روائية فلسفية . النص المعدل. الجزء الأول















المزيد.....



أديية في الجنة . ملحمة روائية فلسفية . النص المعدل. الجزء الأول


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 5297 - 2016 / 9 / 27 - 10:06
المحور: الادب والفن
    


محمود شاهين

أديب في الجنّة

"ملحمة روائية فلسفية"
















الجزء الأول .


فاتحة:
" نحن في حاجة إلى هذا الحوار، كوننا نشكّل أعلى مرحلتين في الفكرالإنساني : الإيمان المختلف الذي أمثّله أنا ، والإلحاد الذي تمثّله الرئيسة ، وأكاد أجزم أنّ مستقبل العقل البشري يكمن في هذين المستويين من الفكر : إما الإيمان المختلف ، وإما الإلحاد !"
" الملك لقمان "














(1)
انتحار جميل !!
في كل مرّة أحاول فيها الإنتحارأصادف ما لا يتوقعه عقل بشري ، إلا مرّة واحدة قررت فيها أن أتوقف عن متابعة الكتابة في الرواية التي أتحدث فيها عن محاولة انتحاري وما سبقها .. توقفت عن متابعة الكتابة لأنني عدلت عن الإنتحارولم أرغب في أن أكتب كذباً للناس وأقول لهم إنني انتحرت وأنا على قيد الحياة، خاصة إذا ما ذرفوا بعض الدموع علي وهم يقرأون تصويري الميلودرامي لإطلاق أول رصاصة على رأسي ولأتبعها بثانية وثالثة وهم يذرفون الدموع ياحرام، دون أن يتنبهوا لإطلاقي ثلاث رصاصات على رأسي وكأنّي كنت أقتل فيلاً لا أنتحر!
لكن أجمل المرات التي حاولت فيها الانتحارهي التي عثرت فيها على قمقم سجن فيه جنّي من عهد الملك سليمان . أي من حوالي ثلاثة آلاف عام ، وأي جنّي كان ذاك، ملك ملوك ! كان ذلك في الصحراء الدمشقية منذ قرابة عشرين عاماً .عثرت على القمقم في القبرالذي كنت أحفره لأنتحروأدفن نفسي فيه ، وما أن فتحت القمقم حتى انبعث منه دخان هائل، تجلى خلال لحظات عن جنّي عملاق يقف أمامي باستعداد ويهتف بنبرة عسكرية صارمة "ها ! أمر مولاي العظيم لقمان محرّرأرواح الجان ! عبدك المطيع ودرعك المنيع " شمنهورالجبار ملك ملوك الجن الحمر في سائر الأكوان والأمصار !" آظن أنني ( ليش الكذب ) تبوّلت على نفسي من هول الرعب! ولم يطمئنّي سوى معرفته لإسمي الرمزي أو شخصيتي المنفصمة "لقمان" الذي أتستر خلفه لأقول ما أريد في رواياتي كما يفعل الروائيون.. فإياكم أن تصدّقوا أنني أتحدث عن إنسان آخر .أنا محمود شاهين بشحمه ولحمه ( ليش الكذب ) وإن كنت أدخلكم في عوالم شخصيتي الإنفصامية؟!
لم ينقذني ذاك الجنّي من الإنتحار فحسب بل وضع العالم كله بين يديّ، من أجمل الحوريّيات إلى عروش من يرون أنهم آلهة . أظن أنني ملكت نصف الكون بعد أن أصلحت أحوال قارات وسحبت السلاح من كوكب الأرض، وهدمت عروش بعض الملوك والآلهة المزيفين وتُوجّت ملكاً على كافة طوائف الجن وتزوّجت من الملكة الحوريّة نورالسماء، وأصبح لدي قوى خارقة قادرة على هدم الكون كله لوأردت ! لكنّي فشلت في لقاء الله الذي أطمح في لقائه ، رغم أنني كنت أستشعر وجوده وحتى وقوفه إلى جانبي . وهذا ما كان يشكّل هاجساً لي، وهو ما دفعني إلى العدول عن الإنتحاروالصعود برفقة الجن إلى السماء في محاولة يائسة مني للعثورعلى الله ! خاصة بعد أن قص علي الملك إبليس ( الشيطان ) قصة الخلق مدعياً أنه هو من خلق آدم وحواء لمساعدة الله في عمليّة الخلق . وأن ما جرى بعد ذلك من غضب إلهي على آدم وحواء والأفعى مسألة محيرة ما تزال لغزاً يخفي الحقيقة التي لا يعرفها أحد . كل هذه المسائل المحيّرة دفعتني إلى اليأس فكيف بالعثورعلى الله وسبرالحقيقة ومعرفة الغاية من الوجود ؟ قررت ترك كل شيئ والعودة إلى الأرض لمكابدة الشقاء ورؤية القتل والقتلى والقتلة والتفرج على عارالعالم. كان إصراري على ترك هذا العالم السماوي المتخيل فائق الجمال والعودة إلى جحيم الأرض عصياً على دموع مليكة قلبي الملكة نورالسماء .. قبلتها بضع قبلات وضممتها إلى حضني دون أن أعدها بالعودة إلى السماء.. ثم أشرعت يدي لاحتضان الطفلة نسمة التي أنقذتها ووالديها وأختها وملايين المعذبين والمحترقين من جحيم الإله المزيّف داجون ، وغدت جزءاً من نسيج روحي. تشبثت بعنقي وهي تصرخ هاتفة " لا تتركنا يا عمو من سينقذنا من العذاب ومن سيحيي لنا آباءنا ثانية إذا ما قتلوا أو ماتوا ؟" همست لها من عمق اختلاج دموعنا " سأعود يوما يا حبيببتي سأعود ولن أنساكم "
ودنا مني الملك شمنهورباكياً " السجن في قمقم سليمان أهون علي من فراقك يا مولاي . أرجوك أن تفكر في العودة إلينا ولو بعد حين " " سأحاول أيها الملك الطيب . بفضلك عرفت عوالم لم يعرفها بشر من قبل . أنا مدين لك بالكثيرأيها الملك " وألقت دليلة - التي أنقذتها من جحيم الإله داجون أيضاً - نفسها علي وراحت تعانقني مدارية دموعها قدرالإمكان .. وأخيراً عانقت الجميلة أستيرالتي أنقذتها من الكوكب المسحور ولم ألبّ لها طموحها بأن تكون عشيقتي حتى لا أكدّرعيش حبيبتي الملكة نورالسماء.
كان أحبتي السماويون من الجن والإنس يبكون على فراقي ولا يصدقون أنني سأترك كل هذا الجمال الممتع وأعود إلى شقاء الأرض.
توقفت للحظات ملوحاً بيدي الإثنتين لجموع المودعين راسماً ابتسامة عريضة على شفتي خالجتها دمعة انزلقت من عيني فجأة . وقررت لأول وآخر مرة أن أوظف القدرات الخارقة الممنوحة إلي بتحويل جسدي إلى طاقة تعود إلى الأرض بسرعة الضوء ! وهذا ماكان . فقد اختفيت من هذا الكون الذي كنت أودّع فيه أحبتي لأظهر خلال لحظات في صالون بيتي الدمشقي مجسّدا بشكلي المادي !
كان ذلك قبل قرابة عشرين عاماً . كنت في دمشق وأنا الآن في عمان منذ ثلاثة أعوام ونيف .لا أعرف ماذا يخبّئ القدر لي هذه المرة، وإن كنت أدرك أن تصميمي على الانتحار جاد . صعدت إلى أعلى برج في العبدلي . وقبل أن أفكّر في العواقب ألقيت نفسي من أعلى البرج . حين تجاوزت ثلثي البرج أدركت أنني سأموت هذه المرّة ، لكن وعلى مسافة أمتار من الأرض شعرت بيدين تتلقفاني بهدوء .
فتحت عينيّ حين استعدت توازني لأرى وجهاً جميلاً على مقربة من وجهي ذكرني بوجه الملك إبليس. رسم على شفتيه ابتسامة طفيفة وهو يهتف "مرحبا عزيزي لقمان " همست متسائلا؟ " "الملك إبليس ؟" همس " أجل يا صديقي اشتقت لك " " لماذا لم تدعني أنتحر؟" لم يئن الأوان بعد " " هل ثمة أمل في معرفة الحقيقة ؟ " " أجل" " وسألتقي الله؟ " " أجل " " تضحك علي" "أبداً "
غبت عن الوجود للحظة ربما أكثرمن ثانية . وإذا بي أحطّ متسربلاً بالزي الملكي على كوكب بعيد كما يبدو وسط جمهور هائل من الملوك والملكات والحوريّات الفاتنات وفرق الموسيقى ، فيما أقواس وردية ونوافير ترذّ المياه على علو مرتفع فوق الرؤوس . أدركت أن الملك إبليس استخدم قواه الخارقة بإلباسي الزي الملكي ونقلي من كون إلى كون ، وهذا ما ذكّرني بالقوى الخارقة التي كانت ممنوحة إلي وفقدتها. فوجئت بوجودي في مواجهة أحبتي الذين تركتهم من عشرين عاماً . كانت الملكة نورالسماء تتقدم الجميع وما لبثت أن هرعت لتعانقني ودمعتا فرح تنزلقان على وجنتيها .. ولم يتح لها الملك شمنهور أن تعانقني أكثر فقد انقض علي ليعانقني ويهتف " الحياة دونك ليس لها معنىً يا مولاي "! ورحت أعانق الجميع فرداً فرداً وقد أدركت تماماً أن مشروعي الإنتحاري فشل مرة أخرى وأن الحياة تصرعلى بقائي إلى أن يحين أجلي .
******
فوجئت بكم الملوك والملكات الذين كانوا في استقبالي.. جميعهم من الذين تعرفت إليهم في رحلتي السماوية الأولى على متن المركبة الفضائية المسحورة التي يقودها الجن . نسمة أصبحت عروساً فائقة الجمال وأستيرما تزال تحتفظ بجمال أسطوري ومليكة قلبي نورالسماء حوريّة جنيّة وهي لا تشيخ ، وحتى تصغر نفسها لو أرادت !
كان ثمة قصر فاره تحيطه حدائق ورديّة ومسابح ونوافير مياه . دعتنا الملكة لاستراحة في صالونات القصر قبل أن ننتقل لتناول الغداء في الحدائق . عرفت أن الملك إبليس أوّل من عرف أنني سأقدم على الإنتحار فصمم على إنقاذي منه ، وخاطرالملكة نورالسماء والملك شمنهور بالأمر فخاطرا بدورهما جميع من عرفتهم في رحلتي السابقة ليحضروا من أكوانهم لاستقبالي ، فحضروا بسرعة تفوق سرعة الضوء !!
كانت نسمة تجلس على طرف الكنبة وأنا أضمّ خصرها فيما هي تمد يدها على كتفيّ وتقبّل جزءاً يروق لها من صلعتي بين فترة وأخرى . قبّلت خدّها ومخيلتي تستحضرصورتها وأنا أحلق بها فوق محيط داجون الجهنمي منتظراً أن تعثرعلى والديها بين جموع المحلّقين في الفضاء الذين أحيوا من الموت . أحست أنني أستحضر طفولتها فقبلتني وأعطتني خدّها ..
رحت أستعرض وجوه الملوك والملكات . ثمة وجوه نسيت أصحابها ولم أعرفهم . تناولنا القليل من المشروبات الروحية مع الموالح الحلبية . ومن ثم دعتنا الملكة إلى مائدة الغداء .. مائدة ذكرتني بأوّل مائدة أقامها الملك شمنهورعلى شرفي بعد أن حررته من القمقم . ظباء وخراف وجداء وإوز وحجل وحمام ودجاج وأسماك تشوى على سفافيد بين الموائد . مقبّلات وسلطات وخضار شامية . خمور منوّعة . وحوريّات فاتنات يتخطمن بجمال أخّاذ للقيام بواجبات الضيافة . جلس الملك إبليس في مواجهتي فيما جلست الملكة نورالسماء عن يميني ونسمة عن يساري وإلى جانبها الملك شمنهور . وجلس على المائدة الملك حامينار والملكة شامنهاز والملكة نسيم الريح والأميرة ظل القمروالملك دامرداس والملكة ظل السحاب والملك نذيرالزلازل والملكة هدباء الجفون والملك قاهرالموت والملكة شمس الربيع .. فيما توزع باقي الملوك والملكات على موائد مختلفة .
وقفت الملكة نور السماء وشرعت في إلقاء كلمة ترحيبية :
" صاحبات الجلالة الملكات . أصحاب الجلالة الملوك . صاحبات السمو الأميرات . أصحاب السمو الأمراء . صاحبات وأصحاب المعالي من الشريفات والأشراف والعلماء والأدباء والفنانين . السيدات والسادة الكرام :
"إنه لمن دواعي سرورنا وما يبعث البهجة في نفوسنا ، ويغمر قلوبنا بعمق الفرح ، ومشاعر المحبة ، أن نستقبل اليوم حبيبنا وصديقنا وراعينا ومحررنا من العبودية والسجون، ملك ملوكنا لقمان العظيم ، بعد غياب عنا دام لأكثر من عشرين عاماً "
نهض الجميع وشرعوا يصفقون مرحبين بي ما جعلني أشعر بفخرواعتزاز قل نظيرهما ( رغم أنني لا أحب التعظيم ) محاولاً قدرالإمكان أن أتناسى سفك الدماء الجاري على كوكب الأرض وسيول المشردين الذين تبتلعهم البحارأو يهيمون على رؤوسهم في مدن العالم .
وما أن توقف التصفيق وعاد الحضور إلى الجلوس حتى تابعت الملكة :
"وإننا لنشكرمن أعماقنا جلالة الملك الملاك إبليس العظيم الذي ظل طوال سني غياب الملك العين الساهرة عليه ، وحين أدرك بعون الخالق العظيم أنه عزم على الإنتحارأخبرنا وهرع لنجدته ."
" وإني لأدرك أن جلالة الملك الذي عاد إلينا بعد كل هذا الزمن لن يقبل البقاء بيننا دون مساعدته على ما كان يصبو إليه من قبل، من تحقيق لقيم الخيروالحق والعدل والمحبة والجمال والتعاون بين البشرلبناء الحضارة الإنسانية . الغاية من الوجود التي أرادها الخالق لنا . وإني لآمل من جميع ملوك وملكات الأكوان أن يضعوا كل إمكانياتهم تحت تصرفه ، والعمل معه على إنجاح مسعاة حتى لا نفقده مرة ثانية " " أكرر شكري لكم وترحيبي بكم، والسلام عليكم. وأدعو جلالة الملك لقمان إلى إلقاء كلمة بهذه المناسبة العظيمة "

********











(2)
خطاب إلى الجنِّ والإنس!
لم ألق خطبة في الجن والإنس منذ أن فارقت الكون عائداً إلى الأرض ، ولم يعد لدي أعصاب تحتمل مواجهة الجماهير ، حتى أنني في أمسياتي الأدبية القليلة كنت أتمالك أعصابي بصعوبة لتخوفي من صدى وقع كلماتي غيرالمألوفة على الأسماع والعقول ، فكيف أبرّئ الشيطان من شيطانيته وأجعله ملكاً وصديقاً ، لأصفع بذلك عقول المستمعين التي اعتادت لعنه . كنت أحبذ معارض الرسم على الأمسيات الشعرية والأدبية لأنني لا أضطر إلى إلقاء كلمات فيها ، كما أنني كنت أرتبك قليلاً في القليل من الحوارات التلفزيونية . عزائي أن معظم جمهوري هنا من الجن المغضوب عليهم وكل ما أرجوه أن تسعفني الكلمات لقول بعض ما أريد . رفعت هذا التاج الذي أشعرأنه يثقل رأسي لعدم تعودي عليه، ووضعته أمامي على المائدة ، دون أن أنسى أنني الآن ملك سيخاطب ملوكاً وملكات ، ونهضت متماسكاً بقدرما أتاحت لي شيخوختي وشرعت في الكلام :
صاحبات وأصحاب الجلالة ، صاحبات وأصحاب السمو ، السيدات والسادة الأشراف والأدباء والعلماء الكرام . محبتي وجزيل شكري لكم جميعا لهذه الحفاوة البالغة التي أحطتموني بها ، وشكري الخاص لجلالة الصديق الوفي إبليس الذي أصرعلى إنقاذي للحاجة إليّ ولضرورة بقائي على قيد الحياة ، اعتقاداً منه أن في مقدورنا أن نسبرغور الحقيقة الوجودية ونغير مجرى التاريخ البشري إلى ما هو أجمل وأفضل .
جئتكم محملاً بأوجاع كوكب ينوء تحت وطأة الآلام والعذابات منذ آلاف السنين . وإذا كانت الحروب تقام في الماضي بالسيوف والرماح والنبال ، فإنها تقام اليوم بأسلحة الدمارالهائلة ، لتبث الرعب والهلع في قلوب الملايين من البشر ، وتحيل الصّروح إلى أنقاض، وأجساد البشرإلى أشلاء . أي ضمير يحمله هذا العالم ويخوض به حروبه الفتّاكة، باسم العدالة ، وباسم الأمن ، وباسم الله . كم هو مسكين هذا الإله الذي يقتل كل يوم على أيدي هؤلاء بحجة الدفاع عنه . وكم هي العدالة بائسة التي تقتل كل يوم باسم القضاء على الإرهاب ، فضاع الإنسان لدى هؤلاء بين الإرهابي وبين المكافح للحصول على الحد الأدنى من حريته وكرامته وحقه في أن يكون مواطناً يحصل على كافة حقوقه كمواطن ، أو حتى عن مجرّد حقه في أن يكون وطنه له ! هل يعقل أن لا يحصل شعب على حقه في وطنه ويظل رازحاً تحت نيرالمحتل في القرن الحادي والعشرين ؟ أين هي العدالة التي يتشدق بها العالم ؟ وأين هوالله ؟ هل هناك من يؤمن بالله حقا . هل يعقل أن يقبل الله القتل وسفك الدماء ؟! النّبلاء من البشريعفون عن الخاطئين وحتى عن المجرمين في لحظة صفاء وعمق محبة ، فهل لا يعفو الله ويصفح ويسامح ؟! هل خلق الله الوجود لينعم بجماله ويحقق به ذاته أم ليدمره ؟ لقد شوهوا حقيقة الله وأساءوا إليه حين جعلوه معذباً فظيعاً وقاطع أيد وأعناق وألسن وأرجل، وقالع أعين ومدمّرأدمغة. الأيدي التي أوجدها لتبني الحضارة وترقى برفاهية الإنسان . والألسن التي أوجدها لتنطق بالحق وحسن الكلام ، والعيون التي أوجدها للبصروالتبصّروإبداع الجمال ، والأدمغة التي تمنحنا العقل لنعقل لا لنجن ، ولنطوّرالعلوم وسائرالوسائل والوسائط التي ترقى بحياة الإنسان ، وتحقق أرفع قيم الحق والعدل والمساواة والخير والجمال لبني البشر، مما يرضي الله ، وهو يرى خلقه يحقق الغاية التي أوجده من أجلها ، أي المساهمة معه في عملية الخلق وبناء الحضارة التي لن تقوم دون الفعل الإنساني . فعملية الخلق يا صاحبات وأصحاب الجلالة ، تكاملية بين الخالق وخلقه ، فلا خلق دون خالق ولا خالق دون خلق ، ولا غنى لأحدهما عن الآخر، وفناء أحدهما فناء للآخر ، فالله في كل كائن في الكون وفي كل إنسان، يسري بطاقته العظيمة الخلاقة في كل جسد، وفي كل مكان ، دون أن يحد وجوده مكان أو زمان ، ونحن دون طاقته السارية فينا لن نقدرعلى فعل شيء وأن نقوم بأية حركة .
فلا تنتظروا الله أن يبني لكم الحضارة بإقامة المدن وشق الطرق وبناء الجسور والمصانع وتحقيق العدالة الإنسانية . إنه واجبكم أيها البشروأيها الجن إن شئتم . لقد جن البشربدلاً من أن يعقلوا وقتلوا الإنسان ليقتلوا الله معه ، بدلا من أن يسعوا إلى المحبة والتسامح وتحقيق القيم النبيلة . فغدا القتل حقاً وارتكاب الجرائم بحق الشعوب عدالة ! فهل يمكن أن يكون هناك جنون أفظع من هذا الجنون !؟
إن القيم البشرية كلها في حاجة إلى إعادة نظر، بل وإلى إعادة بناء على أسس إنسانية حديثة وسليمة . وإذا كان أجدادنا قد فكّروا واجتهدوا حسب ثقافة زمنهم ، فإنه ينبغي ويتوجب علينا أن نفكّر ونجتهد حسب ثقافة زمننا . أمة كوكب الأرض أمة واحدة وليست أمماً وإن اختلفت وتنوعت ثقافاتها وعاداتها وتقاليدها. وإلهها إله واحد هو إله الوجود كله . وينبغي عليها أن تنبذ الخلافات وأن تتحد وتتعاون لحلّ مشاكل الشعوب واقتسام ثروات الأرض ورفع شعارالإنسانية والمواطنة المنتمية إلى كوكب الأرض . الأرض الأم الكبرى التي جئنا منها وإلى أحضانها سنعود كمادة وطاقة تساهم في ديمومة الحياة وتجددها .
وعلى أمة كوكبنا أن تسعى للإتصال بالأمم في الكواكب والأكوان الأخرى وتقيم معها علاقات حسن جوار وتعاون والإفادة من ثقافاتها وعلومها وخبراتها .
لقد قمنا بنزع السلاح سلمياً من كوكب الأرض كلّه في رحلتنا السابقة، فكيف أعيد إلى الأمم وكيف تسنى لها أن تصنع الأسلحة المدمرة والفتاكة من جديد ، هل كنا نحلم ؟ أم أننا كنا نتوهم أونكذب على أنفسنا ؟
صاحبات وأصحاب الجلالة.. السيدات والسادة .. آمل أن ننجح ولو بالحد الأدنى من مسعانا في إقامة السلام والمحبّة بين البشر .أكررشكري لكم، والسلام عليكم .
******
هب الجميع وقوفاً وشرعوا في التصفيق الحاد ، وأنا أحييهم بحركة من يدي .. ثم دعوتهم إلى الجلوس ، فيما دعت الملكة إلى تناول الطعام والشراب .
لم تكن الخدمة في عالم الجن غريبة علي فقد خبرتها بشكل جيد وأنا الآن أتذكرها فحسب . وإن كانت تختلف بعض الشيئ حسب رغبة المضيف وعاداته .. فكل ما تريده يمكن أن يأتي إليك وحده بمجرد النظرإليه والرغبة فيه. وما الحوريات المضيفات إلا لإضفاء الإحترام وإبداء المساعدة للضيف ليشعر بمكانته المرموقة . لذلك لم أفاجأ حين بدأت الكائنات المشوية تحلق بسفافيدها، وأطباق السلطات والمقبلات تحلق بأطباقها دون أن يكون لها أجنحة ، لتقدم لكل انسان ما يريده ، دون أن يصطدم سفود بسفود أو طبق بطبق ، وكأننا أمام خلية نحل تحلق في فضاء مملكتها دون أن تصطدم نحلة بنحلة . وحمدت الله أن الحدائق قائمة على الأرض وليست تحت الماء، وأن الشواء يتم على مناقل تتوهج بالجمر فوق الأرض أيضا وليس تحت الماء، كما رأيت في أوّل وليمة أسطورية دعوت إليها برفقة الملك إبليس. حيث كان الشواء يتم تحت الماء ونحن نأكل ونشرب في الماء دون أن نبتل ودون أن يبتل الشواء أو الطعام .
لا أكاد أصدق أنني في عالم متخيّل . فقبل قرابة ساعة كنت أجر خطاي المتعبة نحو أبراج عابدون في عمان لأنتحر . وأنا الآن ملك بين ملوك وملكات غيرعاديين . ما هي الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال؟ وهل وجودنا خيال أم واقع . وهل الوجود كله واقع أم خيال ؟ وإذا كان الوجود الحقيقي لله وحده حسب ابن عربي فهل يمكن أن يكون وجودنا واقعياً ؟ وإذا كان وجود الله لا ينفصل عنّا وعن الوجود كله حسب فكري الوجودي، فهل نحن واقع افتراضي متخيل أم أننا واقع حقيقي؟! ثمة مسائل أكبر من عقولنا .. حتى الفيزياء أنبأتنا بالوجود الوهمي والكون الهلوغرامي وغيره ، وكل شيء يمكن أن يتلاشى بلحظة . إذن لنعش الحياة كما نستطيع أن نعيشها وكما يمكن أن نعيشها لنتمتع بها ، حتى لا نجد أنفسنا يوماً نبحث عن دقائق نطيل بها عمرزمننا لنتمسك بلحظة سعادة ..
تنبهت الملكة إلى أنني سرحت لثوان وأنني قلق بعض الشيء وأنني لا أستشعر ولوالحد الأدنى من السعادة . أمالت رأسها نحوي لأستشعر طيب أنفاسها وهمست :
- ماذا تريد يا حبيبي ؟
ألقيت نظرة على أطباق المقبلات والسلطات الشامية وإذا بها تثب من مكانها وتدنو من الصحن الكبير المتموضع أمامي وقد اصطفت فوق المائدة واحدها خلف الآخر بانتظام شديد، فيما راحت حورية تسكب لي ما أريد ، أما الملكة فقد فاجأتني بتقريب طبق كافيارأسود أمامي .. ابتسمت لها وأنا أدرك نواياها وطموحها في إعادة الشيخ إلى صباه . هتفت :
- ماذا تريد من اللحوم ؟
ونظرا لأنني لم آكل لحما منذ أشهرهتفت " كلّ شيء"!
ولم أصدق ما جرى بعد ذلك فقد راحت السفافيد تطيربما عليها وتهرع نحوي وتصطف بانتظام طبقاً خلف الآخر في فضاء الموائد. ضحكت وضحكت الملكة والملوك والملكات . كان ظبي صغير يصطف أولاً، تبعه خروف صغير أيضاً ، تبعته إوزة ، فدجاجة ، فحجلة ، فحمامة ، فسمكة . وحتى لا أكسف هذه الأطباق التي هرعت نحوي، أشرت إلى المضيفة أن تضع لي مقدار لقمة من كل سفود . وهذا ما حصل دون أن تراعي المضيفة حجم لقمتي فكل قطعة كانت بحجم ثلاث لقمات لي على الأقل . وأشرت إلى مضيفة ثانية أن تأتيني بعرق ريان شامي. سكبت لي كأساً حسب ذوقي ، رفعته وشربت نخب الجميع.
ما إن ابتلعت أوّل لقمة من قطعة لحم الظبي حتى قفز إلى مخيلتي الأطفال السوريون والفلسطينيون والعراقيون واليمنيون والليبيون وكل المشردين والمشردات في الآفاق والغرقى العائمين في البحار تتقاذفهم الأمواج لتطرح جثامينهم على شواطئ العالم القاتل.ألقيت الشوكة والسكين على الطبق وابتلعت اللقمة بصعوبة وتوقفت عن تناول الطعام، ودمعتان تتمردان عليّ وتنزلقان على وجنتي . تنبهت الملكة إليّ وقد أدركت تماماً ما دارفي خيالي . ضمت رأسي إليها وقبّلتني وتوقفت عن تناول الطعام ليتنبه الجميع للأمرويتوقفوا تضامناً معي في انتظارأن أستأنف الطعام .
*******
(3)
عالم منزوع السلاح !
ما أن ودّع الملك لقمان آخرملك من المستقبلين حتى انطرح متهالكاً على أريكة في صالون القصر والعرق يتصبب من وجهه ودخيلته تضطرم بصراع فظيع بين شخصيتين فصاميتين تسكنان مخيلته وتطبقان على روحه المتعبة . محمود شاهين الأديب ولقمان الملك . الأول واقعي والثاني متخيل أسطوري . ومشكلة شاهين الواقعي أنه يشك ليس بوجود لقمان الأسطوري فحسب بل بما سيقدم عليه من أفعال لا تتقبلها حتى أساطيرالسابقين واللاحقين . الأول أمضى حياته مشردا ، ما أن يخلص من تشرّد حتى يغرق في جحيم تشرّد جديد. والثاني يطمح في تحقيق أحلامه الجنونية بإقامة عالم تسوده قيم المحبة والخير والعدل والجمال ، ولو على أيدي جن وشياطين يتخيّل وجودهم !
كانت الملكة تجثو على ركبتيها أمامه واضعة يديها على فخذيه داعية إياه إلى الهدوء متضرعة إلى الله أن يحميه ويقف معه !
هتف فجأة متسائلا :
- من أنتِ ؟
- أنا الملكة نورالسماء حبيبتك وزوجتك التي تركتها من عشرين عاماً وعدت إلى كوكب الأرض !
- ومن أنا ؟
- أنت الملك لقمان !
- كذب !
وكررالكلمة مرتين بانفعال متزايد"كذب ! كذب ! "وأطبق راحتيه على رأسه بعنف .
ألقت الملكة نفسها إلى جانبه واحتضنته ضامة رأسه إلى صدرها وراحت تقبّله وتجفف عرقه بمنديل حريري . راح يهدأ شيئاً فشيئاً وما لبث أن رفع رأسه عن صدرالملكة وهتف متسائلا " أين الملك شمنهور ؟ "
وخلال لحظة كان الملك شمنهور ينتصب واقفاً أمامه ليهتف :
- أمر مولاي !
- اسمع ! أريدك أن ترسل فوراً مليار جني مغوارمخفيين إلى كوكب الأرض لينزعوا السلاح من أيدي البشر جميعاً دون أن يريقوا نقطة دم واحدة . لا أريد أن يبقى بين أيديهم حتى قطعة مسدس . ليقذفوا كل شيء على سطوح أبعد الكواكب . أريد أن أرى الطائرات والسفن والبوارج وحاملات الطائرات والغواصات والطوربيدات والصورايخ والدبابات والمجنزرات والبنادق والرشاشات تقذف في الفضاء كقطع الكرتون . وثانياً : أريدك أن ترسل جيشاً يجوب البحارويساعد المهاجرين على اجتيازها ويقدّم لهم الطعام والشراب واللباس ويؤمّن وصولهم إلى البلدان التي يقصدونها . ويبني بيوتاً للاجئين السابقين ويقدم لهم كل ما يحتاجونه . وأرسل من يبني المدن والقرى المهدمة في البلدان المختلفة ويقدم للناس كل ما يحتاجون إليه . هيّا !
- مولاي سمعت أن الفلسطينيين بدأوا يستخدمون السكاكين في قتالهم !
- ألم ير جندك في كل أسلحة الدمار الشامل على أرض فلسطين إلا سكاكين الفلسطينيين أيها الملك ؟ اسحب من أيدي الفلسطينيين وغيرهم من الشعوب كل من يشرع سكيناً أوسيفاً أوأي أداة للقتل والضرب حتى لوكانت عصاً ! لكن بعد أن تسحب أسلحة الفتك والدمار من أيدي الدول .
- أمر مولاي !
- وفقك الله !
ليتفضل مولاي ويجلس على شرفة في القصر ليمتع ناظرية بأسلحة الدمار وجيوشي المغوارة تقذفها في الكون الفسيح !
أرعد الملك شمنهور بصوت هائل ملقياً أوامره على جيوشه الهائلة . ولم تمر سوى لحظات حتى راح الفضاء يتقاذف الأهوال وكأنه يوم القيامة ، فيما عم الذهول سكان كوكب الأرض وقد أدركوا أن الإرادة الإلهية قد تدخلت لإنقاذ الكوكب من الحروب !
صعد الملك والملكة إلى أعلى شرفة في القصر وجلسا يتمتعان برؤية الأجسام المتقاذفة في الفضاء وكأن ريحاً هوجاء تعصف بها .
للحظات أحس الملك لقمان أنه يعيش واقعاً لا خيالاً فانفرجت شفتاه عن ابتسامة طفيفة وهو يضم رأس الملكة إليه ويقبّلها بحرارة .
*****


(4)
المحبة والإيمان المطلق يسودان العالم !
خصص الملك لقمان ليلته الأولى للملكة نورالسماء بعد أن أمضى باقي يومه متمتعاً برؤية البوارج والسفن والطائرات والدبّابات والغواصات والصورايخ العابرة للقارات والمدافع وبراميل المتفجرات وأسطوانات المواد الكيماوية والقنابل النووية المتقاذفة في الفضاء .. وخصص ليلته الثانية للسهر مع أسرته القديمة على المركبة الفضائية المسحورة فالتقى هووالملكة ربة الجمال وأستير ودليلة ونسمة وأختها ووالديها وقائد المركبة والملك شمنهور والعديد من المقيمين على المركبة وفي قصر الملكة. ودعا الملك لقمان الملك إبليس وزوجته الملكة والملك حاميناروالد الملكة نورالسماء وزوجته الملكة إلى الحفل . رقصت أستيرمتثنية على أنغام موسيقى كونية فأذهلت برقصها الحضور وترنّمت ربة الجمال بصوت عذب لامس شغاف القلوب وحلّقت دليلة بالجميع في فضاءات الروح بعزفها على الكمان .
وفي صباح اليوم الثالث أعلن الملك شمنهورفروغ قواته من كافة المهام التي أوكلت إليها بقذف الأسلحة على كوكبي نبتون وكرونوس ، وأن آخر شيء فعلته هو نزع السكاكين من أيدي الفلسطينيين. . وأكّد للملك لقمان أن الأسلحة التي قذفت على القمر في المرة الأولى ما تزال عليه ، غيرأن الدول استغلت غياب القوى العظمى التي نزعت الأسلحة فقامت بصنع أسلحة جديدة خلال العشرين عاماً الماضية . أدرك الملك لقمان أن الملك شمنهور يضع الحق عليه بتخلّيه عن إكمال مهمته في إصلاح الكون وكوكب الأرض بشكل خاص ، وعودته إلى الأرض ليكابد الشقاء مع البشرية، تاركاً إياها تتخبط في تصرفاتها وسلوكها.. وأكّد الملك شمنهورأنه تم بناء المدن المدمرة وفي مقدمتها مدن حلب وحمص ودرعا وحماة ودوما وكل المدن والبلدات المحيطة بدمشق وغيرها، وأنه أنزل ملايين الأطنان من اللحوم والخضار والفواكه والحبوب في كل مكان فيه جوعى ومشردون وبنى بيوتاً لهم ، وأنه أنقذ آلاف المبحرين وأوصلهم إلى أماكن توجههم وبنى لهم بيوتاً. وأكد أن البشرية تحتفل الآن في الحدائق والشوارع والملاعب والغابات وسطوح الأبنية والعمارات وداخل الصالونات متبادلة القبل والأنخاب والأغاني والألحان والرقصات ، مرددة الأهازيج لمجد الآلهة بكافة مفاهيمها ، وأعلن أن البشرية لم تتبادل القبل في حياتها كما تبادلتها وتتبادلها الآن . وما يزال زعماء العالم في حالة صدمة وذهول ولم يبد أي من الكبار فرحته لما جرى ويجري، فقد صرح بوتين أن ما يجري هو مجرد خيال وأن البشرية أصيبت بالجنون ! ووافقه أوباما حين صرّح بأن ما يجري يستحيل أن يكون حقيقة واقعية . أما نتنياهو فقد بدا في غاية الحزن وهو يرنو إلى قنابل اسرائيل النووية تتقاذف في الفضاء وإسرائيل تغدوعارية دون أسلحة !
وهنا رفع الملك لقمان يده مشيراً إلى الملك شمنهور أن يتوقف عن إكمال تقريره ، وبدا عليه أنه استعاد كامل توازنه ودخل في شخصية الملك لقمان بكل أبعادها الأسطورية ضارباً عرض الحائط وإلى الأبد بمحمود شاهين الأديب ! وخاصة بعد أن استعاد معظم عناصرقوّته الخارقة من خواتم وقلائد مطلسمة وكلمات سحرية ، وراح يشكر الله بصوت خفيض مردداً " شكراً يا إلهي ، شكراً يا إلهي " ثم توجه بكلماته إلى الملك شمنهور :
- مهلا أيها الملك هل قلت إنهم يمجدون آلهتهم على اختلاف مفاهيمها ؟
- أجل يا مولاي!
- كم مرة قلت لكم أن تعفوني من ترديد مولاي هذه على مسامعي؟!
لم يجب الملك شمنهور .
وأطرق الملك لقمان للحظات وما لبث أن نهض وخرج إلى شرفة القصر. مد يداً منقبضة وأغمض عينية للحظات متفكراً وما لبث أن أطلق أصابع يده وإذا بالكون يزدحم بالمليارات من القصاصات الورقية الملونة بكافة الألوان الذهبية والخضر والحمر والصفر والزرق والبنفسجية والبرتقالية وراحت تتهاطل على كل رقعة في كوكب الأرض وقد كتب عليها بألوان تتناسب ولون القصاصة وبأكثر من مائة لغة :
" نشهد أن لا إله إلا الله
ونشهد أن الإنسانيّة حبيبة الله
هي إليه تستند
وهو عليها يعتمد
لا غنىً للخليقة عنه
ولا غنىً له عن الخليقة
فهو الواحد في الكلّ
والكلّ في الواحد يتّحد
عشق الأحبة متبادل
بنبض القلوب
وآهات الروح
ورعشة الجسد
لا يكتمل الحبيب إلا بالحبيب
فلا اكتمال بحب منفرد
سعي الخلائق إلى الكمال
بسعي الخالق يتحد
فإمّا كمال يعم الخليقة
وإما انتهاء إلى الأبد
*******
وراح الملك لقمان يردد الكلمات بصوت هائل والحضور يأخذون القصاصات ويرددون معه ليتردد صدى كلماتهم في كافة أرجاء الكون ومن كافة أجهزة التلفاز والراديو في كل جهاز في الكون . وظلت الأصوات تتردد في كافة أرجاء الكون وبلغات مختلفة ، ولم تجد البشرية والجن والشياطين على اختلاف مذاهبهم على كوكب الأرض وغيره من الكواكب . إلا أن تخرج من ذهولها وتجثو على ركبها وتردد الكلمات ليتردد صداها من كافة أرجاء الكون . معلنة بذلك الدخول في الإيمان المطلق . الإيمان الذي ليس بعده إيمان ! الإيمان بالإله الواحد الساري بطاقته وقدرته في الكون والكائنات وفي مقدمتها الإنسان كأجمل تجليات الألوهة !!
*******
(5)
سجون بلا سجناء حرية وكلمة !
عبثا يحاول الملك لقمان النوم لكن دون جدوى . ينظر إلى جمال وجه الملكة المستلقية إلى جانبه على السرير الفسيح محاولا تأمله ليطرد الصورالمختلفة من مخيّلته . يمثل الوجه له بكل جماله لكن تظل الصورة مضطربة ، فمعجزة الصلاة الكونيّة التي تحققت لأول مرة في التاريخ على ألسن البشرجميعا مرددة كلماته الشعريّة التي سطّرها في مفهومه للإيمان جعلته يشعر بفرح لم يستشعره من قبل على الإطلاق . وإذا ما أضاف إليها معجزة نزع السلاح وغيرها من المعجزات مثل صعوده إلى الفضاء بسرعة قد تفوق سرعة الضوء، وحضورملوك الجن والإنس وانصرافهم بالسرعة ذاتها فإنه يمكن القول إنه أسعد إنسان في الكون، وفي مقدوره أن ينام مطمئناً، لكنه يفضل استشعارالسعادة على النوم ، دون أن يغيب عن باله ما سيفعله في الأيام القادمة ، موقناً أن الله سيكون في عونه، مدركاً أن كل ما جرى ويجري لم يكن ليتم لولا الإرادة الإلهية التي شاءت أن تتضافر مع رغبته ورغبة الجن، وحتى بعض البشر . وظل طموحه في لقاء الله قائماً رغم قناعته بأن الألوهة طاقة سارية في الكون كله والكائنات كلها وأن تجليها يتمثل في الخلق كله ، لكن تظل مسائل كثيرة ينبغي عليه أن يحصل على إجابات قاطعة عنها ليجزم بصواب أفكاره وأنها لم تخطرله إلا بإلهام من الله نفسه .
مشكلة نزع سكاكين الفلسطينيين المقاتلين أقلقته بعض الشيء ، فكيف ينزع سلاحاً بسيطاً من يد شعب محتل؟ مع أنه يدرك أنه لم ينزع سكيناً إلا من شباب كانوا يسيرون في الطرقات متربصين بمحتل ما ، ولم ينزع سكيناً من بيت . وتقبل الأمرلقناعته أنه سيقيم في أقرب وقت دولة ديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني تحوي الجميع ، كما صرح الرئيس الفلسطيني قائلاً " إذا كان نزع سكاكين أبنائنا يجلب لنا الحريّة والسلام فلتنزع كل السكاكين " تنبه إلى أمر مهم نسيه وهو السجناء الفلسطينيين ، بل وسجناء الحرية في العالم كلّه ، كيف نسي إطلاق سراحهم ؟ والجرحى والمرضى في العالم ؟ في رحلته السابقة أولى الملكة بهم .. ووجد نفسه يطبع قبلة خفيفة على جبين الملكة وينهض بهدوء من السرير ويخرج إلى الصالون . يخاطب الملك شمنهور تخاطراً . يشعر الملك شمنهور أن (سيده ) يخاطبه . ينهض بسرعة . يرتدي ملابسه بكلمة سحرية . ويمثل أمام الملك لقمان بكلمة أخرى.
- أمر مولاي !
- متى تتوقف عن ترديد مولاي هذه أنت وقومك . أنت ملك وصديق وقائد عظيم !
- مولاي ! أنت بالتأكيد تدرك ما معنى أن تحررني وقومي من قماقم سليمان بعد ثلاثة آلاف عام . إنّ ما فعلته لم يفعله بشروحتى آلهة من قبل ولا نستطيع إلا أن نكون في إمرتك وتكون سيّدنا .
- حسن أيها الملك . تذكرت أننا لم نطلق سراح سجناء الحريّة والكلمة !
- سأفعل ذلك في الحال يامولاي .
- وحتى السجناء الجنائيين . أرغب بتبييض السجون في هذه المناسبة . وكذلك أرسل ملائكة رحمة من الحوريّات لإشفاء المرضى في العالم . ابدأ بالسجون الإسرائيلية والسورية وباقي السجون العربية ثم تحوّل إلى سجون العالم . لا تنس أن تحرر النساء من أسواق النخاسة والعبودية .
- أمر مولاي .
********
في سجن اسرائيلي للنساء . فوجئ أحد حراس السجن بالباب يفتح مع أنه كان مغلقاً بإحكام . وتقدمت النساء من الداخل بخطوات مرتابه .. حاولت فتاة فلسطينية أن تخرج . شعرت بيد تربت على ظهرها وتدفعها للخروج. خرجت . حاول الحارس أن يصدّها وإذا بوجهه يصطدم بحاجزغير مرئي .. شرعت الفتيات في الخروج . هرع الحراس لكنهم كانوا يصطدمون بحواجز غير مرئية كلما اقتربوا من الفتيات . وأطرف ما جرى أن أحد جنود الجن أخذ حارساً وقذف به إلى أعلى، وأخذ ثانياً وقذف به، وأخذ ثالثاً وقذف به أيضاً ، وعاد ليتلقف المقذوف الأول ويقذفه ثانية ويتلقف بيده الثانية المقذوف الثاني ويقذفه ثم يتلقف الثالث بيده الأخرى ويقذفه، ليلعب بالحراس لعبة الطابات الثلاث فيما السجينات يضحكن وينشدن للحرية ويخرجن إلى خارج السجن ..
سمع نتنياهو أنّ السجون في كافة أنحاء اسرائيل والأراضي المحتلة قد أخليت وأن السجناء قد هربوا ، فأصيب بجلطة دماغية أدت إلى نقله إلى المستشفى .
****
بعد ثلاثة أيام مثل الملك شمنهورأمام الملك لقمان ليعلمة أنه لم يبق سجين في العالم إلا وأطلق سراحه ولم يبق مريض أو جريح إلا وعولج من جراحه أو مرضه .
استؤنفت احتفالات البشرية في كافة مدن وعواصم العالم بإطلاق سراح سجناء الكلمة والرأي وحتى السّجناء الجنائيين الذين قرروا أن يتوبوا عن اقتراف الجرائم . كما احتفل أهالي المرضى بذويهم ، وسمعوا قصصاً لا يصدقها العقل من المرضى. فقد قال أحد مرضى السرطان أنه شعر بيد ناعمة تملس على جسده لتمنحه طاقة حيوية فريدة ، وفجأة ظهرت فتاة في غاية الجمال ترتدي الثياب البيض وقالت له " الحمد لله على سلامتك " فنهض وهو يشعر بحيوية ونشاط غيرعادي، وما كاد يشكر الفتاة حتى اختفت . وحين خرج من الغرفة شاهد مئات المرضى وقد عولجوا من أمراضهم وقد عادوا أصحاء على أكمل وجه . حتى من فقد ساقاً أو يداً في حرب فقد عادت له قدمه وساقه . ومن فقد عينه عادت له .
*****
طلب الملك لقمان أن يبقى وحده في خلوة . فانصرفت عنه الملكة ومن كان في حضرته . جثا على ركبتيه واضعا يديه عليهما وكأنه في طقس صلاة إسلامية . وراح يشكر الله من أعماق قلبه مردداً الكلمات إياها التي رددتها البشرية وراءه ومعه ، لكن بصيغة المفرد وليس بصيغة الجمع " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن الإنسانية حبية الله " وما لبث أن دخل في صمت وخشوع عميقين . وقد أغمض عينية ليذهب بعيداً في أغوار نفسه ويدخل في المطلق .
****
(6)
الملك لقمان يهبط على جنة لا جهنم فيها !
قرر الملك لقمان أن يتابع رحلته الكونيّة على المركبة الفضائية المسحورة مصطحباً الملكة نورالسماء ونسمة وأستير والملك شمنهورالذي اصطحب زوجته دليلة ومحبوبته ربة الجمال المخلوقة من مسك وعنبر وفل وقرنفل وزعفران وكافور، والتي يبدو الماء من روحها ، وتبدوعظامها من خلال مائة ثوب من الحرير !
أقلعت المركبة بسرعات فائقة لتجتازمسافات ضوئية وتحلق فوق مئات الكواكب ، ثم أمر الملك لقمان بتخفيف السرعة لعله يرى كوكباً مأهولاً يمكنه الهبوط عليه ، حافزه أمر واحد أن يعثرعلى دليل يؤكد له صحة فلسفته عن الوجود والغاية منه وأن الله ليس إلا القدرة الطاقوية المتجلية والمتمظهرة في الكون والكائنات وما ينجم عنها . وتمنى لوأن الله يظهرله في هيئة ما ويخاطبه وجها لوجه. متمنيا ألا يعود خصمه المجهول إلى محاربته بالشهب والنيازك والمذنبات كما سبق له وأن فعل في رحلته السابقة . فهو لا يرغب في خوض حروب حتى لو كانت دفاعاً عن النفس.
دخلت المركبة فضاء كوكب ملوّن في غاية الجمال . الأبنية فيه ملوّنة بألوان مختلفة . ليس هناك بناء من لون واحد وكأن رساماً قام بتلوينها بألوان متناسقة . هبطت المركبة إلى أقرب مسافة فوق الكوكب .. بدا جمال الطبيعة وتناغم ألوانها أكبرمما يمكن للعقل أن يتصوره . وفيما كانت المركبة تحلق بسرعة بطيئة شاهد بشراً يتنقلون بين الأبنية والأسواق والطبيعة الخلابة . بعضهم يسيرون على أرجلهم وبعضهم يتنقلون طائرين بأجنحة . وبعضهم يتجولون في حدائق ملوّنة وسط نوافير متعددة ترذ المياه في اتجاهات مختلفة وبألوان متعددة .. لم يجرأي تنبيه للمركبة أو إطلاق صواريخ أو نارفي اتجاهها ، كما لم تنطلق طائرات حربية لمواجهتها مما يدل على أن الكوكب لا يملك أسلحة ، رغم أن جمال الكوكب يشير إلى أنه متحضّر ومتطوّر جداً بدليل الناس الطائرين . وحين تجاوزت المركبة بعض المدن واقتربت من مناطق خالية شاهد الملك ومرافقوه ما لا يصدقه عقل ، فقد كانت مجموعة أنهار تنبع مندفعة في الفضاء بشكل قوسي من أماكن مختلفة بعيدة كما يبدو، دون أن يصطدم قوس نهري بقوس نهري آخر . أشارالملك إلى قائد المركبة بالتوقف في الفضاء وخرج الملك ومرافقوه إلى شرفة وراحوا يتأملون جمال الأنهار . كان نهران خمريان ينبعان من ناحية ولتكن الغرب ويندفعان بشكل قوسي في الفضاء إلى جانب بعضهما في اتجاه معاكس إلى مسافة بعيدة ليصبا في محيط ، ونهران يندفعان من الجنوب ليمرّا فوق النهرين الآخرين ليصبا في محيط يفترض أنه في الشمال .عرض كل نهر لا يقل عن مائة متر . ولاحظ الملك ومرافقوه مئات الشباب والشابات مرتديي ملابس السباحة وهم يمتطون مياه الأنهارأو يسبحون فيها لتقذفهم في المحيط .
وشاهدوا مئات آلاف البشر المتنزهين على الأرض أسفل هذه الأنهار وإلى جانب أنهارأرضية أخرى ملونة . ولم يعلم الملك لقمان ومرافقوه أن جميع هذه الأنهار المحلّقة في الفضاء والجارية على الأرض ليست إلا أنهار خمر مختلف الأنواع والألوان، إلا بعد أن هبط ومرافقوه إلى الأرض واشتم رائحة فواحة، فسأل مجموعة من الحوريات كن يتبادلن الأنخاب عمّا إذا كانت هذه الأنهارأنهارخمرفأجبن بالإيجاب ، ودعون الملك لقمان ومرافقيه إلى تناول خمرأنهارهن .
كان الملك قد أمر بإبقاء المركبة متوقفة في الفضاء ونزل طائراً مع مرافقيه وحط على مقربة من الفتيات اللواتي يتبادلن الأنخاب بغرف الخمربكؤوس كريستالية من نهر يجلسن إلى شاطئه ويقمن ببعض الشواء للحم طيورعلى جمرمتقد . وما أن حياهن الملك لقمان حتى رددن التحية بأجمل منها ورحبن به وبمرافقيه ودعونهم إلى مشاركتهن الخمروالشواء . شكرهن الملك وجلس ومرافقوه على بساط عشبي أعشابه تبدوكأنها من خيوط الحرير .
غرفت الفتيات بكؤوسهن خمراً من النهر وقدمنه لضيوفهن ثم رفعن كؤوسهن ليتبادلن معهم الأنخاب . وبدا الملك شمنهورفي غاية الدهشة وهو يرقب جمال الفتيات وأنهارالخمرالمحلّقة من فوقهم وإلى جانبهم ،ورغم أن خيال الملك شمنهوركان واسعاً إلا أنه لم يفكريوماً في أنهارخمرتجتازالفضاء أوتمخرالأرض . أما الملك لقمان فقد راحت مئات الأسئلة تطرق مخيّلته . فسارع إلى طرح الأسئلة على فتاة ذات جمال أخاذ تولّت محادثته بعد أن قدّم نفسه ومرافقيه باقتضاب مدعياً أنهم رواد فضاء:
- هل في مقدوري أن أطرح عليك بعض الأسئلة عن هذا الكوكب يا آنسة !
ورغم تردد الملك في لفظ "آنسة " إلا أنه بدا مصيباً كما يبدو فلم تعترض الحورية، وقالت تفضل :
- هل أنتن حوريّات ؟
- أجل نحن حوريّات .
- وما اسم هذا الكوكب واسم هذا المكان ؟
- اسمه كوكب الجنات وهذه إحدى جنّانه !
- هل هذا يعني أنه يوجد جنان كثيرة فيه ؟
- أجل .. آلاف الجنات .
- وهل فيه جهنم أوجهنمّات ؟
وبدا أن الحورية تسمع لأول مرة بالكلمة فتساءلت عن معناها فأجاب الملك :
- نار يحرق فيها المذنبون ويتعذبون !
- لا لا يوجد ولا أعرف إن كان هناك جنّات فيها أو إلى جوارها جهنمات مثل هذه التي تتحدث عنها .
- أليس لكم إله ؟
- بلى .
- ألا يحاسب ويعذب ؟
وبدت الحوريّة في غاية الدهشة لاعتقادها أن هذا الرجل متخلف بسؤاله عن إله يحاسب ويعذّب . فأجابت بدهشة :
- نعم؟ إله يحاسب ويعذب ؟ ألله يسمو فوق الشّر! ألله يا سيد محبة مطلقة وجمال مطلق وخير مطلق وعدل مطلق وخالق مطلق وخلق مطلق!
ولم تصدق الحوريّة ماذا جرى بعد إجابتها. فقد أغمض الملك لقمان عينيه واختلجت تقاسيم وجهه وتنهد من أعماقه والدموع تهطل من عينيه بغزارة وهو يردد باكيا " شكراً يا إلهي شكراً يا إلهي شكراً يا إلهي " ثم انحنى وقبل الأرض وهو يردد عبارته .
أدركت الحورية التي لم تكن سوى ملكة كوكب الجنات عينها ، أنّ إجابتها كانت منسجمة تماماً مع فكر الضيف ، فدنت من الملك وراحت تربت على ظهره فيما كانت الملكة نورالسماء تربت على كتفه أيضا .
هتفت ملكة الكوكب مخاطبة الملك لقمان الذي راح يمسح دموع الفرح :
- أهلا بك في كوكب الجنّات أيها الضيف . أنا الملكة "شمس الورود" ملكة الكوكب . وهؤلاء صديقاتي وقريباتي.
*********


(7)
أرواح القديسين والعلماء تصعد إلى السماء .
بدا الملك لقمان ومرافقوه في غاية الدهشة حين قادتهم الملكة الشابة إلى غابة تحوّلت إلى حديقة شاسعة تنتصب فيها تماثيل للأجداد الذين أمضوا أعمارهم في البحث عن الحقيقة . وكان الملك لقمان قد قدّم نفسه كملك وليس مجرد مرتاد للفضاء كما قدّم مرافقيه من الإنس والجن . وأكثر ما أدهش الملكة ومرافقاتها اعتقادهم بالجن والشياطين بل ووجودهم بينهم، وهذا الإعتقاد كان قد انقرض عندهم منذ عشرات آلاف السنين بعد أن تطورفهمهم لجوهرالألوهة الخالقة .
كان مئات الرجال المسنين المتحجّرين يسند بعضهم ظهورهم إلى جذوع أشجار ضخمة ويمدون أرجلهم في استقامة واضعين أيديهم فوقها فيما كان بعضهم يقرفصون إلى جانب الأشجار، وآخرون يثنون أرجلهم تحتهم ويستندون إلى جذوع الأشجار، وآخرون يجلسون في وضع صلاة إسلامية . وبدا كل واحد منهم وكأنه قد بقي على الوضع الذي تجمد عليه منذ آلاف السنين لتجف الشجرة وتتحجر بدورها مشكلة مع جسد الرجل بأغصانها الضخمة المتحجرة نصباً في غاية الجمال . أجّل الملك لقمان كل أسئلته الوجودية وراح يتأمل مئات النّصب التي شكل كل واحد منها تحفة فنية مذهلة . وما لبث أن سأل الملكة :
- ماذا تقصدين بالأجداد الباحثين عن الحقيقة أيتها الملكة وكيف تجمّدوا وتحجّروا دون أن يطالهم أو يطال ألأشجارالتي استندوا إليها الفناء .
- إنها الإرادة الإلهية التي شاءت ذلك . ولهذا الأمر قصة طويلة أيها الملك . إذا تحب سأرويها لجلالتكم . فهؤلاء الذين ترى أنصابهم أحياء في الأبدية المطلقة الخالدة ، التي لا تفنى ولا تموت .
وبدا الكلام صعباً بعض الشيء على الملك .
- أكون شاكرا لجلالتك فأنا لم أجب الكون إلا بحثاً عن الحقيقة .
- كان عدد سكان كوكبنا أكثرمن خمسة عشر ملياراً يعتنقون أكثرمن عشرة آلاف دين ويعبدون أكثر من عشرة آلاف إله حسب فهم كل دين للألوهة . فكثرت النزاعات الطائفية والمذهبية ونشبت حروب طاحنة أودت بحياة الملايين . فقررالمئات من القدّيسين والعلماء والفلاسفة البحث عن الحقيقة والتعمّق فيها . في البداية بدأت المسألة بقديس واحد . جلس إلى جذع شجرة وراح يتأمل في الوجود ملغيا من عقله كل ما عرفه ويعرفه عنه ، مضرباً عن الطعام والشراب ما لم يصل إلى الحقيقة. حقيقة الوجود. حقيقة الخالق . الغاية التي وجد الخلق ووجد البشرمن أجلها . ( وأشارت الملكة إلى أحد الأنصاب قالت أنه نصبه ) كانت غايته معرفة الحقيقة ليوحد أبناء الكوكب حولها وينقذ الكوكب من النّزاعات المدمّرة . كان ذاك القديس هو أكبرعلماء كوكبنا . مرعليه ثلاثة أيام دون أن يتناول شيئا ، وطلب إلى الناس أن لا يأتوه بشيئ. وبدأ العلماء والقديسون والفلاسفة يتضامنون معه فرادى ثم جماعات . بحيث لم يبق في هذه الغابة شجرة كما ترى إلا وجلس إلى جذعها رجل أو حتى أكثرمن رجل . فارق القديس الأول الحياة بعد ثلاثة أسابيع دون أن يطرأ أي حركة على جلسته . فارقها مساء في الوقت الذي كان فيه عشرات الآلاف من الناس يجثون في الغابة ويتضرعون إلى الله أن يرأف بعلمائهم وفلاسفتهم وقد يسيهم . وحينئذ حدثت المعجزة الإلهية . فما أن فاضت روحه حتى خرج من جسده نورراح يتصاعد ببطء في الفضاء. ولم تمر سوى لحظات حتى فاضت أرواح جميع العلماء كما كانوا جالسين، لينبعث من أجسادهم نور ويصعد إلى السماء خلف النورالأول . نورأضفى على الجو هالة جمالية في غاية الروعة والإدهاش. لم يكن النور يتصاعد بشكل عمودي أو في كتلة أوكتل، بل كان يتصاعد في هالات نورانية مشعة متموّجة بألوان مختلفة مبهره صبغت الغابة والناس بألوانها . وشرع الآلاف في إحضارالشموع وإشعالها أمام الجثامين دون أن يبدوعلى الناس أي حزن لرحيل العلماء لإدراكهم أن إرادة إلهية هي التي شاءت ذلك . وجاء الناس بباقات ورود ووضعوها أمامهم أيضا. زادت إنارة الشموع الجوسحراً وجمالا وتضوعت رائحة الزهور لتملأ الغابة . وشرع الناس على اختلاف مذاهبهم يرددون اسم الله بخشوع . وفجأة راحت الهالات النورانية ترسم بتموجاتها كلمات بلون أخضر تعبرعن جوهرالألوهة . بحيث راحت الجمل تظهر جملة خلف جملة إلى أن ظهر أكثرمن مائة ألف جملة . وحين رأى الناس أن الجمل كثيرة جداً راح بعضهم يحفظ ما يريد منها وبعضهم يأخذ لها صوراً لتنشر فيما بعد في مجلد شكل ناموس أمتنا التي توحدت خلفه وتبعته. فنحن الآن نعبد إلهاً واحداً يملأ وجوده الكون كله ويسري في قلوبنا وأجسادنا ولا نستطيع دون وجوده في ذواتنا أن نفعل ولو مجرد حركة ! وهو كما عبّرت لك محبة مطلقة وخيرمطلق وجمال مطلق . ويسرنا أن ندعو جلالتكم للإحتفال معنا بعيد النور بعد يومين وهو اليوم الذي فاض فيه علينا النورالإلهي وصعدت فيه أرواح أجدادنا إلى السماء لتنضم إلى الروح الإلهية .
بدا الملك لقمان في غاية السعادة وهو يستمع إلى فكر أقرب ما يكون إلى فكره . وشعر أنّه في حاجة إلى معرفة المزيد والمزيد عن هذا الفكر لعله يستطيع تطبيقه على كوكب الأرض البائس .
شكر الملكة على الدعوة بل وأبدى رغبته في أن يستمع إلى حديثها الممتع أكثر. وشعرت الملكة نور السماء بالقليل من الغيرة لأن الملك لقمان بدا مأخوذاً بجمال وفكرملكة كوكب الجنات ! ولم يعد يهتم بها !
*****









(8)
أسعد بشر في الكون خالدون في دنياهم وخالدون في الألوهة !
تنبه الملك لقمان وهو يتجول مع ملكة الجنات في حديقة النورأو حديقة الأجداد إلى أن جمال الشباب يضاهي جمال الفتيات أو يفوقهن جمالا عند بعضهم، فخطرله أن يسألها وصورة الولدان المخلدين في الفكرالإسلامي تمرفي مخيلته :
- من يتمتع بجمال هؤلاء الشباب جلالتك ؟
أدركت الملكة أن سؤال الملك ينطوي على أبعاد اجتماعية وأخلاقية عميقة فقالت ببساطة:
- بناتنا !
- كيف ؟
- كيفما يريدون إما حباً أو زواجاً أو مجرد رغبة مشتركة في صدفة ما . كل أشكال الحب مسموحة عندنا . المهم هو عدم الإساءة إلى أحد واحترام الآخر ورغبته .
ولاحظ الملك عدم وجود مسنّين ومسنّات فسأل :
- لماذا لا يوجد مسنون ومسنات بين المتجولين في الحديقة ؟
ابتسمت الملكة وأبدت بعض الدهشة وكأنّ السؤال فاجأها :
- لقد قضينا على الشيخوخة منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام .
فوجئ الملك بدوره .
- ولا تموتون ؟
- الموت عندنا اختياري وبمعنى أدق لا موت عندنا !
لم يعد الملك يستوعب شيئا !
- كيف اختياري ؟ هل يختارالإنسان عندكم أن يموت ؟
- بل يختارالإنتقال إلى الحياة الأبدية بالإنضمام بطاقة جسده الحيوية الباعثة على الحياة إلى طاقة الألوهة الخالدة ليساهم معها في عملية الخلق! ويتحول باقي جسده إلى نصب خالد بعد أن تذهب خلاصة طاقته المادية لإغناء تربة الأرض .
لم يعد الملك لقمان يفهم شيئا وتمنّى لوأنه لم يضرب عرض الحائط بخالق شخصيته محمود شاهين فهو الوحيد القادرعلى أن يفهم ما تتحدث به الملكة .
- أرجو جلالتك أن تأخذيني على قدرعقلي فأنا قادم من كوكب متخلّف له مفاهيم مختلفة عن الخلق والخالق.
- االألوهة الخالقة في مفهومنا هي القدرة المطلقة التي تسري بطاقتها العظيمة في الكون كله ، يتم بواسطتها الخلق وكل شيء ولا يمكن أن يتم دونها كما سبق وأن أسلفت. وحين يمل الإنسان أو يشبع من الحياة الدنيوية ويرغب من أعماق نفسه بالتوحد مع الألوهة ، يقوم بالسعي إلى ذلك بأن يختار طريقة للرحيل في المطلق الأزلي ( أي الألوهة ) كأن يجلس مثل أحد هؤلاء القديسين إلى جذع شجرة أو في أي مكان يختاره حتى لو كان على قمة جبل أو داخل بيته ، ممتنعا عن الطعام والشراب غارقاً في أعماق نفسه، إلى أن يبدأ بالتوحد بالمطلق والتفاني فيه شيئاً فشيئاً ، فاقداً إحساسه بجسده، إلى أن يصل إلى ذروة التوحد بصعود الطاقة الحيوية من جسده إلى السماء في شكل هالة نورانية، لتندمج بالطاقة المطلقة العظمى طاقة الألوهة الخالدة السارية في الكون والكائنات!. وليصبح بذلك شريكاً في الألوهة متوحداً معها. يحس بما تحس ويشعر بما تشعر ويرى ما ترى ويسمع ما تسمع ويتمتع بما تتمتع ويخلق ما تخلق .
بدا الملك لقمان في غاية الدهشة وهو يسمع ما لم يخطر بباله ولو بهذا التصور، فقرر أن يسأل سؤالا رغم ادراكه أن السؤال لا يخلو من سذاجة :
- هل هذا يعني أن الألوهة تحس وترى وتتمتع بكل ما تحس وترى وتسمع وتتمتع به الكائنات ؟!
وأجابت الملكة بتأكيد مطلق :
- نعم نعم نعم !
تساءل الملك :
- كيف ؟
ترى بعيون كائناتها وتحس بإحساسها وتسمع بآذانها وتتكلم بألسنها وتفكربعقلها وتتمتع بكل ما تتمتع به على الإطلاق بما في ذلك رعشة الجسد والقبلة ! فكل شيء يتم بطاقتها فكيف لا تعيشه ؟ وأسوأ ما تعيشه الألوهة هوالألم، لأن كل نقطة دم تنزف من إنسان وكل ألم يواجهه تشعربه الألوهة . لذلك نحن في كوكبنا ومن أسمائه كوكب المحبة ، نحاول أن نحيا دائما بمحبّة كي لا نجرح شعورالألوهة لأننا ندرك أن الألوهة تسري في أجسادنا وتحس ما نحسه وتتمتع بما نتمتع به وتشمئزمما نشمئز منه . الفرق أنه لا يمكن مقارنة ما نراه ونحسه بما تراه وتحسه الألوهة . فأنا وأنت ومن معنا لا نتمتع الآن إلا بما نراه أمامنا أما الألوهة فهي تتمتع برؤية كل ما يجري في مليارات الأكوان .
أصر الملك لقمان على طرح سؤال آخر قد لا يخلو من سذاجة وحتى وقاحة :
- لنأخذ الحب مثلاً ، فهل رعشة الجسد أو بلوغ الذروة في ممارسة الحب لدى البشر والكائنات الأخرى تشعرالألوهة بها وتتمتع كذلك ؟
أجابت الملكة بإصراركما في السابق :
- نعم نعم نعم !!
غير أنها استدركت قائلة :
- هذا ما توصل إليه علماؤنا وفلاسفتنا استناداً إلى العلم والمنطق وهو ليس حقائق مطلقة ، لكننا لم نتوصل إلى ما ينقضه حتى الآن .
وراح الملك يشكر الملكة ويتابع :
- أشكر جلالتك وآمل ألا أزعجك بكثرة أسئلتي فما يزال لدي الكثير .
- أبدا جلالتك فأنا سعيدة بزيارتكم خاصة وأننا لم نلتق ببشرمن كواكب أخرى . الآن سأنتقل بك إلى أماكن أخرى أريك فيها أجسام بشر تحجّرت كأجسام القديسين والعلماء وتحولت إلى أنصاب خالدة بعد أن خرجت طاقة الألوهة الحيوية منها وانضمت إلى الطاقة الكلية المطلقة السارية في الكون . بعضها في الحدائق العامة وبعضها على قمم الجبال وسفوحها وبعضها في الأودية وبعضها على ينابيع المياه أو إلى جانبها وبعضها في حدائق البيوت أوداخلها .
وهنا سأل الملك :
- هل هذا يعني أنه ليس لديكم قبور ؟
- أجل ليس لدينا قبور . كل من يغادر الحياة الدنيوية يتحول إلى نصب خالد .
- هذا يعني أن لديكم خلودين ، خلود دنيوي في نصب وخلود إلهي في الألوهة !
- أجل جلالتك . ونحن على الأغلب أسعد بشرفي الكون كلّه ! هيا بنا .
وضغطت الملكة على زرفي جناحيها الصناعيين لتنبعث طاقة تحركهما وطارت مع مرافقيها ليطيرالملك لقمان ومرافقوه على طريقتهم وينتقلوا إلى الأماكن الأخرى .




(9)
الحب في كوكب المحبة والجنّات !
وهو يتأمل بعض الأنصاب للخالدين في الألوهة وقد انتصبت تماثيلهم إلى جانب صخورأو جذوع أشجارعلى سفح جبل تنبع منه ينابيع متعددة وقد كتب اسم كل خالد على جزء من جسده ، خطر ببال الملك لقمان سؤال حين كان يتأمل أحد هذه الأنصاب لفتاة جميلة اختارت أن ترحل عن الدنيا وتتوحد مع الألوهة وهي جالسة على صخرة كبيرة . ألقى نظرة نحوالملكة وتساءل :
- هل ينجح كل إنسان في الرحيل والإتحاد بالألوهة ؟
- لا ! ثمة من يفشلون لعمل سيء عملوه، أو لعدم صدق نية في الخلاص والتوحد مع الألوهة. فيبقون في الحياة الدنيا ويحاولون تحسين سلوكهم أو تلافي ما يظنون أنه خطأ ارتكبوه فيعودون إلى تكرارالمحاولة إلى أن ينجحوا .. أي أن الجميع ينجحون في النهاية .
- لدينا مذهب في كوكبنا يتبعه كثيرون من البشر يدعى مذهب وحدة الوجود ، يبدو لي أن مذهبكم هو المذهب نفسه لكن بمفاهيم وسلوكيات مختلفة . فعندنا يوجد موت ودفن. والطاقة الحيوية تخرج من الجسد وتنضم إلى الطاقة الخالقة بينما تتحلل الطاقة المادية في التربة لتغذيها ، حسب هذا المذهب دون غيره من مئات المذاهب بل آلافها على كوكبنا!
والحق أنّ الملك لقمان أضاف الفقرة الأخيرة المتعلقة بالمادة والطاقة إلى المذهب دون أن تكون فيه ، في محاولة منه للإشارة إلى عمق فلسفته . هتفت الملكة :
- هذا صحيح فالوجود واحد طاقوي مادي . الطاقة الخالقة وتجلياتها في المادة الحية . الوجودان خالدان . لكن الطاقة الخالقة يشمل وجودها الكل الكوني بينما المادة المتجلية في الكائن بذاته جزئية . فالكائن المادي وليكن الإنسان مستقل بذاته عن المواد المتجلية الأخرى مهما كانت من بشرأوغيرهم كما أنه مستقل بماديته عن الألوهة رغم سريان الألوهة بطاقتها في جسده ، لذلك يكون مسؤولاً عما يفعله فقط ، أما بعد اتحاده بالطاقة الخالقة الكلية أي الذات الإلهية أوالألوهة فهو يفقد استقلاليته ويتحد بالألوهة ولا يغدو مستقلاً عن كل كائن في الكون وعن كل ما يجري فيه .
اقترب الحشد الملكي من شاب يجلس إلى جانب صخرة بدا وكأنه في اللحظات الأخيرة قبل فيض النور من جسده . وكان ثمة شباب وفتيات يقفون على مسافة أمتار منه. بدا الشاب وكأنه تخلّص من عبء جسده والإحساس به وأشرق وجهه بصفاء أخاذ. ولم يبد عليه أنه يشعر بوجود أحد على مقربة منه . أشارت الملكة بيدها بالتوقف وعدم المرور من أمامه احتراماً له وللألوهة التي ينشدها. ولم تمر سوى لحظات حتى انبعث من كافة أنحاء جسده شعاع شكل هالة بدت وكأنها غيمة صغيرة راحت تصعد إلى السماء . جلس الجميع خاشعين على ركبهم إلى أن تلاشت الهالة في الفضاء البعيد . فيما كان جسد الشاب يتحوّل إلى منحوتة حجرية في غاية الجمال .
لاحظ الملك لقمان ومرافقوه أن الوحوش والطيور والحيوانات المختلفة لا تخافهم ولا تفزع أو تهرب حين تراهم فتساءل عن ذلك . قالت الملكة:
- كوكبنا كوكب محبة والصيد ممنوع عندنا كما أنه ليس لدينا بنادق مهما كان نوعها للصيد أوغيره وكل شيء عندنا محبوب ..
وبينما كان الحشد يقترب من أسد ولبؤة راحت الملكة تملس على رأسيهما وهما يقبلان يدها كل بدوره ، وكي تزيد ضيوفها دهشة دنت من شجرة أينعت ثمارها وتفتحت زهورها وراحت تملس على أوراقها فأخذت الشجرة تهزأغصانها وتتراقص!
بدا الملك ومرافقوه في غاية الدهشة . وخطر للملك أن يسأل الملكة عن الطاقة الحيوية في الحيوانات والنباتات :
- جلالتك ! هل يحدث للطاقة الحيوية في الحيوانات والنباتات ما يحدث للطاقة الحيوية في الإنسان ، أي أنها تصعد إلى السماء وتنضم لطاقة الألوهة !
- أجل جلالتك حين ينتهي أجلها .
أيقن الملك لقمان أن أفكار ومعتقدات هذا الكوكب منسجمة في كل شيء ومع كل شيء ولا يشذ عنها شيء . وبدا غير مصدّق لهذه الإرادة لهؤلاء الناس التي استطاعت أن تحقق كل هذا الرقي والتحضر . فقال جازماً بسؤال ينطوي على جواب :
- أدرك الآن أن الغاية من وجودكم هي تحقيق قيم الخيروالعدل والحق والجمال والمحبة ورفعة الحضارة الإنسانية. وأن عملية الخلق لديكم تكامليّة بين الخالق والمخلوق وأن لا غنى لطرف لديكم عن الآخر .
- بالتأكيد جلالتك . أنت الآن تعرفنا جيدا . فكلنا خالقون وكلنا مخلوقون . وكلنا واحد في الكل هو الخالق وكل في الواحد هو نحن والكون والكائنات .
شعر الملك لقمان أنه لم يبق أمام الملكة إلا أن تردد بعض كلماته " فنحن الواحد في الكلّ والكلّ في الواحد يتحد " وبدا في غاية السعادة بلقائه بأناس يعتنقون مذهبه ويتعمقون فيه وراح يتمنى في سريرته أن يسود هذا المعتقد العالم ، فيما كانت الملكة تدعوه ومرافقيه إلى القصرالملكي للإستراحة وتناول طعام العشاء على مائدة القصر .
أقبلت نسمة التي كانت قد أُخذت بجمال شاب من كوكب الجنات وهي في غاية الفرح والسعادة وراحت تطوق عنق الملك لقمان وتقبّله وهي تسرإليه بسر جميل :
- عمّو أنا حبيت !
فبدا الملك فرحاً وهو يهمس لها :
- مبروك حبيبتي أين الحبيب ؟
والتفتت وراءها حيث كان الشاب يدنو بخطى متئدة وقد اعتراه بعض الخجل . مد الملك يده مرحباً به . اقترب الشاب . ضمّه الملك ووقبّله ثم ضم جسده إلى جسد نسمه وقبّلهما معاً، ثم هتف :
- مبروك .. سنحتفل بحبكما هنا إذا سمحت لنا الملكة !
- سنكون سعداء بالإحتفال بهما في قصرنا !
( أجابت الملكة )
*****
(10)
رقصة الملك شمنهور في حفل زفاف نسمة !
غصت صالة الإستقبال في القصر الملكي في كوكب المحبة والجنات بمئات مستقبلي الملك لقمان ومرافقيه ، بينهم وزراء وعلماء وأدباء وفنانون .. وعزفت فرقة موسيقية مجموعة من الألحان الحالمة ثم قدمت فرقة باليه عرضاً صفق له الحضور طويلا .. واستأذن الملك لقمان الملكة شمس الورود في إقامة حفل زفاف نسمة في المناسبة نفسها فوافقت . أرسل الملك المركبة الفضائية لإحضار والدي نسمه وأختها وأستير وباقي فريق المركبة لحضور حفل زفاف نسمة . فذهب وأحضرهم . ودخلت نسمة وحبيبها ليجهزا نفسيهما لحفل الزفاف. وما هي إلا لحظات حتى ظهرا بثياب الزفاف وهما يدخلان القاعة ممسكين يديهما .. ضج الحضوربالتصفيق الحار، ورافقهما الملك لقمان والملكة شمس الورود ووالدا نسمة والشاب ( أنيس ) إلى منصة تتصدرالقاعة وبارك الملك لقمان والملكة شمس الورود زفافهما باسم الألوهة الخالدة في الكون والكائنات وتمنيا لهما السعادة ودعيا لهما باحترام وصون الألوهة في جسديهما وأن لا يقدما على ما يعكرصفاءها وأن يجعلا المحبة شعارهما الدائم . ورافقاهما بدعوتهما للجلوس إلى المائدة الملكية مع ذويهما.
فجأة ظهرت في فضاء القاعة فقاعات من أنوار ملوّنة راحت ترسم أشكالا هندسية بديعة أو تتجمع وتتفرق بحركات جمالية راقصة مشكلة نجوماً بزوايا متعددة متشابهة أومختلفة الأحجام والأشكال على وقع موسيقى كونيّة ساحرة رافقها أصوات كورالية لم يعرف أحد مصدرها ، وظهرت على مسرح القاعة فرقة من الفتيات الراقصات حاسرات السيقان والأفخاذ والأيدي والأكتاف والصدورشرعن يهززن خصورهن ويرقصن أرجلهن على إيقاع الألحان. وكانت الألوان تتراقص بدورها هي الأخرى . شعر الجميع بحاجتهم إلى الرقص فنهضوا، وقد طلبت الملكة شمس الورود يد الملك لقمان للرقص فنهض معها فيما طلب أحد وزراء الكوكب يد الملكة نورالسماء فنهضت معه . شعرالملك شمنهور ببعض الغيرة حين طلب أحد الشباب يد ربة الجمال للرقص فنهضت معه لتسحربرقصها العقول ، فيما كانت دليلة تتلوى مع الأنغام لتغوي أكثرمن شمشون سماوي برقصها وجمالها وقد رافقها شاب في غاية الوسامة والجمال. أما أستير فبدت وكأنها حورية من حواري كوكب الجنان وهي تموّج حركات جسدها لتبدوكثعبان يمتطي أمواج البحر! وانتهز الملك شمنهورالفرصة ليقتل غيرته على مراقصة زوجته (دليلة ) ومحبوبته ( ربة الجمال ) بأن جال بعينيه بين الفتيات والنساء ليختارالأكثر جمالاً ويطلبها للرقص دون أن تعرف أنه جني وقد ظهر في شكل إنساني متقمصاً شخصية شاب في منتهى الوسامة والجمال . ذهلت الفتاة حين راح يقلّبها كيفما يشاء وكأنها ريشة بين يدية ، ينقلها من يد إلى يد ويجلسها على أحد كفيه ثم يشلفها على كتفه الأيمن ثم يمددها على كتفيه الإثنين ليعيدها إلى الكتف الأيسر . يقلبها رأساً على عقب ليغدو رأسها بالقرب من قدميه وقدماها على كتفه وتنورتها القصيرة تنحسرإلى أسفل حتى تغطي كتفيها ، يفتلها ليعيدها إلى وضعها الطبيعي ضاماً قامتها إلى طول جسده واضعاً فمه بالقرب من فمها ليأخذ من شفتيها قبلة عميقة ، وما يلبث أن يطوق خصرها بيديه ويقذفها في استقامة إلى أعلى ويتلقفها من خصرها ثانية ثم يقذفها ثانية في الفراغ ليجعلها تسقط واقفة على كف يده اليمنى ويقذفها أعلى ليسقطها على كف يده اليسرى ثم يقذفها عرضياً ليتلقفها بيديه الإثنتين من تحت ظهرها ثم يحركها بشكل دائري وأصابع يديه تتسارع في تدويرها بحيث لم يعد أحد قادراً على رؤية تفاصيل جسدها لسرعة دورانها . أدرك الملك شمنهور أن الفتاة لا شك داخت ولن تستطيع الوقوف إذا ما أنزلها إلى الأرض وتركها .. فراح يبطئ من حركة أصابعه ليتباطأ دورانها على أصابعه شيئاً فشيئاً إلى أن أوشكت أن تتوقف فأدارها إلى أن أصبح طول قامتها في استقامة مواجهته فقلبها ليضمها إلى طول جسده ويحتضنها حتى لا تسقط ضاماً رأسها إلى عنقه. وحين فتحت الفتاة عينيها أدرك أنها استعادت توازنها فأخذ يدها اليسرى وجعلها تدور حول نفسها مرتين ثم احتضنها من الخلف تاركاً وجهها في مواجهة الجمهور. وتوقف عن الرقص ليفاجأ بتصفيق حاد من كافة الحضورالذين أدهشهم الملك شمنهوربترقيص الفتاة بهذا الجمال الذي لم يروا مثله . ولأول مرة في حياته انحنى الملك شمنهور محيياً الجمهور حين وجد االفتاة تدفعه للإنحناء مثلها . أما مفاجأة الملك شمنهورغيرالمتوقعة فكانت أن الفتاة شرعت في تقبيله ما أن انتهى الحضور من التصفيق وطرحت عليه فكرة أن تكون محبوبته . شكرها الملك وأخبرها أنه ملك جني وأن زوجاته ومحبوباته كثيرات . أبدت دهشتها معلنة أن ذلك يسرّها إن قبل، فقبل، وهل يعقل أن لا يقبل الملك شمنهورالمولع بالنساء بعد أن حرم منهن ثلاثة آلاف عام في قمقم الملك سليمان كأسوأ سجن في الكون يمكن أن يسجن فيه كائن ما !
عاد الحضورإلى الرقص الرومانسي.
شعر الملك لقمان بروح الشباب تعود إليه وهو يحاضن ويخادد الملكة الشابة شمس الورود التي بدأت تفكرفي إمكانية عودة الشباب إليه فيما الملكة نورالسماء تتمنى أن لا يقعا في الحب فهي ما تزال تغار من أستيرالتي يبدوعلى الملك أنه يحاول إخفاء رغبته فيها ولا يواقعها حتى لا يزعج الملكة !
جلس الجميع إلى مائدة العشاء بعد أن تمتعوا لبعض الوقت برقصة العروسين . عشاء من اللحوم والخضاروالفواكه المنوعة لكنه ليس باذخا كموائد الجن . وخمور منوعة أيضاً وضعت في جرار كريستالية . والخدمة عادية وليست جنية فليس هناك أطباق تتحرك وتطيروحدها . بل يحملها شباب وشابات يرتدون أزياء جميلة ، وإن كان هناك رجال آليون يقومون بتقطيع اللحوم والقيام ببعض الأعمال .
****


(11)
كوكب المحبة والجنات يحتفل بعيد النور !
غصت سماء كوكب المحبة والجنات بملايين الأنوارالمحلقة في الفضاء في عيد النور . اليوم الذي فاضت فيه أجساد الأجداد من العلماء والقديسين والفلاسفة بالطاقة الحيوية أوالروح كما يسميها بعضهم وصعدت إلى السماء لتتحد بطاقة الألوهة الخالدة وتساهم في عملية الخلق . اليوم الذي اهتدت فيه أمم الكوكب إلى طريق النوروالخلاص وعرفت الغاية من وجودها بتحقيق قيم الخيروالحق والعدل والجمال والمحبة وصنع الحضارة الإنسانية الإلهية وتوحدت خلف دين واحد ونبذت الحروب والإقتتال والتحزب والطائفية ورفعت شعار المحبة والخلق والتعاون لتغدو بعد بضع سنين أسعد الأمم على كواكب الكون قاطبة . كما غصت أرض الكوكب بملايين الشموع المشتعلة أمام أنصاب الأجداد والخالدين في الألوهة في الحدائق والغابات والمتنزهات وصالونات البيوت والأرصفة والطرق والسهول والوديان وسفوح الجبال وقممها . وضج الكوكب بملايين الأسهم المضيئة الملونة غيرالنارية التي راحت تتناثر في الفضاء لتحلق برفقة الأنوار الراقصة في فضاء الكوكب . كما انطلقت من أربع جهات الكوكب أسهم أشعة ليزرية تقاطعت في سمائه وراحت تدورحول مركزها في مشاهد أخاذة لتجوب فضاء الكوكب ، لتتداخل مع الأنوارالمحلقة والأسهم اللونية المتناثرة في الفضاء وتتقاطع معها وكأنها تصارعها ليبدوالمشهد في غاية الروعة والجمال بحيث يعجزالكلام عن التعبيرعنه .
وانتصبت حلقات الرقص والغناء وفرق الموسيقى في معظم أحياء مدن الكوكب وقراه . في الحدائق والساحات والمسارح والملاعب والمتنزهات والمطاعم والطرقات وحتى على ارتفاع بضعة أمتار من الأرض حيث حلق بعض الشباب والفتيات وراحوا يرسمون بأجنحتهم الصناعية حلقات مشهدية وألعاباً بهلوانية رائعة الجمال .
بدا الملك لقمان ومرافقوه في غاية الدهشة وهم يرقبون الجمال القائم على الأرض يشكل وحدة متكاملة مع الجمال الذي تشكله السماء . هتف إلى الملكة شمس الورود متسائلا :
- كيف حققتم كل هذه المحبة بين شعوبكم وأصبحتم كأسرة واحدة ؟
صمتت الملكة لبرهة متفكرة وما لبثت أن قالت :
- لو لم يقتنع الإنسان لدينا بأنه يحمل إلهاً في دخيلته وأنه جزء من الذات الإلهية لما استطعنا أن نحقق شيئاً . أن يشعر الإنسان أنه جزء من كل كوني هو في الحقيقة واحد ، لا بد وأن يسلك سلوكاً مهذباً راقياً وحضارياً لكي يشعرأنه بمستوى وجوده . أي يحقق الألوهة في ذاته .
فلا يسعى إلّا إلى المحبة وعمل الخير، ودون ذلك سيشعر أنه انسان ناقص !
- ألا تحدث مشاجرات أو جرائم جنائية كالقتل مثلاً في مجتمعاتكم ؟
- جرائم لا لم يشهد كوكبنا ولوجريمة قتل واحدة منذ أكثرمن ثلاثة أجيال . ثمة مشاجرات بسيطة تحدث أحياناً .. لقد اضطررنا إلى بحث عن عمل للقضاة والمحامين غير القضاء ولم يعد لدينا أكثرمن عدد قليل جدا من القضاة والمحامين في الكوكب كله . يروى في كتبنا التاريخية أن المحاكم في الأزمان السالفة كانت مثل خلايا النحل لكثرة الجرائم . الآن تدخل إلى أي محكمة ويندرأن تجد أحداً فيها . وإن وجدت فعلى مشكلة بسيطة . قد تكون استغلالاً من صاحب عمل لعامل أو مشاجرة بين زوجين أو شخصين .
راح الملك لقمان يضحك وهو يتذكر قصورالعدل في بعض البلدان العربية التي تزدحم بالناس أكثر مما تزدحم الأسواق بحيث يشعرالمرء أنه لا يوجد إنسان واحد في مدينة ليس لديه مشكلة ما مع آخر . المشكلة أن العدالة تضيع في زحمة القضايا أمام القضاة . والرابح الوحيد هم المحامون الذين لا يرحمون أحداً مقابل دفاع بائس !
خطر للملك أن يتساءل عن العدالة الإجتماعية :
- هل ترين جلالتك أنكم حققتم عدالة أجتماعية كاملة ؟
وكالعادة تفكر الملكة ولو قليلا قبل أن تجيب:
- العدالة المطلقة شبه مستحيلة . لكن في مقدوري القول إننا حدينا من الثراء وقضينا نهائياً على الفقر . فلا يوجد لدينا أثرياء بالمعنى الفاحش ولا يوجد لدينا فقراء ، والدولة مسؤولة عن كل إنسان من حيث ضمانه الإجتماعي والصحي وتوفيرالعمل . العمل عندنا معظمه في الزراعة وتطويرالعلوم التي تخدم أدوات الإنتاج الزراعي والحيواني والصحة والحضارة الإنسانية . ألغينا العلوم التي كانت مكرسة لصناعة الأسلحة . وصلنا إلى مراحل متقدمة جداً في علوم الطاقة والفيزياء والصناعات الألكترونية والفضائية من حيث استكشاف الفضاء.
- كيف حديتم من الثراء الفاحش ؟
- بمنع الإستغلال وزيادة الضرائب والأهم هو قناعة الإنسان بمعتقده . وهذا ما يدفعه إلى التفاني في محبة الآخرين ومحبة الوجود نفسه بكائناته وكينونته .
وخطر للملك أن يسأل عن عدم صناعة الأسلحة :
- ألم تفكروا في أنكم يمكن أن تغزوا من كوكب آخر لديه أسلحة متطورة حين تخليتم عن صناعة الأسلحة ؟
- الكواكب المحيطة بكوكبنا لا يوجد فيها حياة . أقرب كوكب إلينا يحتوي على حياة هو كوكب الأرض . ويحتاج إلى وقت طويل ليتمكن من الوصول إلينا .
كانت الملكة تتحدث العربية بطلاقة فخطر للملك أن يسألها :
- أنا لم أسألك أين تعلمت اللغة العربية التي يبدو أنك تجيدينها بطلاقة !
ابتسمت الملكة وهي تقول :
- في الحقيقة لم أتعلمها . دماغي ملحق بشريحة ألكترونية تحتوي على ثقافات متعددة وعشر لغات منها العربية .
لم يصدق الملك لقمان ما سمعه وتمنى لوأن لديه مثل هذه الشريحة لتغنيه عن الإستعانة بالقوى الجنية لمعرفة لغة ما ! تساءل :
- كم لغة في كوكبكم ؟
- كان فيه أكثر من خمسمائة لغة لكنّا قصرناها على عشر لغات أكثر شيوعاً في الكوكب ونعمل على إلغاء كل لغة يقل استخدامها إلى أن تسود لدينا لغة واحدة فقط للكوكب كله خلال عقود ، حتى لا نهدر وقت أبنائنا في تعلم اللغات .
- هذا يعني أنكم تقومون بإلغاء التعصب القومي أيضا لدى شعوبكم ؟
- لقد نجحنا في إلغاء التعصب الديني وهو أخطرأنواع التعصب فكيف لن ننجح في إلغاء التعصب القومي والعرقي والقطري والقبلي . التعصب لدينا حالياً هو للإنسان والإنسانية ولا شيء غير ذلك . تجمعنا الإنسانية الواحدة في الألوهة الواحدة في الكون الواحد والكائنات الواحدة .
أدرك الملك لقمان أن كوكب الأرض سيحتاج إلى آلاف السنين للتخلص من مصائبه فقرر أن يشكر الملكة على حسن الضيافة ويتابع رحلته الفضائية على أمل لقاء الله بطريقة مختلفة غير التي يلجأ إليها أبناء كوكب المحبة والجنات بالتنسك والتأمل والإمتناع عن الطعام والشراب ..
****








(12)
كوكب الدكتاتور وزبانيته !
بدا للملك لقمان أن الأقدارتسوقه إلى حيث لا يريد فهو الهارب من القتل والدمار وموت العدالة على كوكب الأرض يفاجأ بوجود القتل والإضطهاد والتسلط حتى في بعض كواكب السماء .. وشعر للحظات أنه لن يلتقي الله يوما كما يطمح ، فبينما كان يحلّق في مركبته الفضائية على ارتفاع آلاف الأميال فوق محيط متلاطم الأمواج شاهد ومرافقوه ما لا يصدقه عقل : آلاف الطائرات المروحية والسفن والبواخرتلقي آلاف البشرفي المحيط وآلاف الشاحنات والمركبات على شواطئ مختلفة للمحيط نفسه تقذف بشراً ضعفاء من الأطفال والنساء والرجال إلى لجة المحيط نفسه وكأنهم أكياس نفايات لتبتلعهم الأمواج . كان أكثر المشاهد فظاعة هو مشهد الأطفال والبشرالذين يلقون من علوشاهق من الطائرات ، ليبدو الفضاء مزدحماً بأجسادهم وهي تهوي رأساً على عقب فيما يحاول بعضهم الإستقامة ليسقطوا في المحيط على أقدامهم فينجحون فيما يحاول بعضهم عبثاً .. صرخ الملك لقمان صرخة هائلة أيقظت قوى الجن والشياطين في الأكوان كلّها فهبوا لنجدته بسرعة الضوء ! وصراخ الملك لقمان يتردد من أرجاء الكون "
" أوقفوا هذا الجحيم وأنقذوا البشر.. أوقفوا هذا الجحيم وأنقذوا البشر "
وسارع الملك بدوره إلى الطيران من المركبة ليتلقى طفلة تهوي من طائرة وكذلك فعل كل من على المركبة وتلقى أحداً . فقد تلقت الملكة نورالسماء طفلاً وكذلك فعلت دليلة وأستير والآخرون . وكانت نسمة قد عرضت على عريسها أن يرافقها لأنها لا تستطيع مفارقة ( عمّو ) الملك لقمان بعد أن عاد إليهم بعد طول غياب . وكان قد أنقذها وأنقذ أهلها وجميع المعذبين والموتى من جحيم (الإله ) داجون في رحلته السماوية الأولى ، فسارعت هي وعريسها إلى الطيران بمساعدة الجن وأنقذا طفلين من السقوط في المحيط. وما هي إلا لحظات حتى كان عشرات آلاف المقذوفين جوا يلتقطون من السماء بأيدي خفية والمتخبطون في الأمواج ينقذون والقذف يتوقف براً وبحراً وجواً . ليجلس الجن جميع الذين أنقذوا على الشاطئ . وجميع الذين كانوا يقومون بفظائعهم في ناحية أخرى على الشاطئ نفسه. وأمر الملك لقمان بجمع جثث الذين ماتوا ووضعها في ناحية أخرى على الشاطئ أيضا حيث كانت الأمواج تتقاذفها إما في لجتها وإما على رمال الشواطئ . جمع الجن قرابة مليون جثة ومددوها على الرمال .
تقدم الملك لقمان ناحية حشود المنقذين ، ضاماً الطفلة إلى صدره وهو يربت على ظهرها في محاولة لتهدئتها وقد وضع في يدها موزة وقشرجزءاً منها لها . طلب إلى الحشد أن ينتخب من يمثله لمحادثته فانتخبوا سيدة .
تقدمت السيدة وصافحت الملك لقمان وراحت تشكره من أعماقها على ما قام به جنده من إنقاذ معجز للبشر .
- ما هي قصتكم أيتها السيدة ؟
- قصتنا يا سيدي أننا ابتلينا بطاغية سيطرعلى كوكبنا من أقصاه إلى أقصاه بملياراته التسعة مستعينا ببضعة ملايين من الزعماء والأعوان والأتباع والعملاء والمستفيدين .. فسخّرخيرات الكوكب وأمواله ومؤسساته لمصالحه ومصالح تابعيه . وقضى على الحياة السياسية في البلاد بأن زج بالملايين في السجون والمعتقلات ليموتوا تحت التعذيب أو بطول البقاء في السجون . لم تعد الشعوب تحتمل كل هذا الظلم فقامت بأول ثورة مسلحة ضده . غيرأنه محقها بقوة زبانيته ومحق المدن التي انطلقت منها . وبعد سنين قامت ثورة سلمية عمت أقطار ومدن الكوكب كله . راح زبانيته يبيدون المتظاهرين بالمئات والآلاف .. فاضطر الناس إلى حمل السلاح فواجههم بالمدافع والطائرات ودمرالمدن على رؤوسهم وشرّد الملايين . وبعد بضعة أعوام اضطر الناس إلى الإستسلام لشدة البطش الذي واجهوه . لكن الطاغية لم يقبل بالإستسلام فقرر تطهير الكوكب من الإرهابيين حسب زعمه . فانتشر ملايين أعوانه في مدن الكوكب وقراه وراحوا يعتقلون الناس ويلقون بهم في المحيط . هذه قصتنا باختصار يا سيدي .
شكر الملك لقمان السيدة على حسن الإختصار ووعد بتخليص الكوكب من هذا الطاغية . وأمر الجن بإنزال طعام وشراب على كل من أنقذ . أما زبانية الطاغية فقد أنزل الملك آلاف طيورالرخ الضخمة وأمرها بحملهم بمخالبها وأن تطوف بهم فضاء الكوكب وتلقي بهم في جزيرة نائية مهجورة .
وما هي إلا لحظات حتى كانت السماء تعج بطيورالرخ التي راحت تنقض وتحمل الزبانية بمخالبها وتحلق بهم .
اقترب الملك لقمان من مئات آلاف الجثث المطروحة على الشاطئ . توقف إلى جانبها وهو ما يزال يضم الطفلة إلى حضنه . سألها:
- ما اسمك يا حبيبتي ؟
أجابت وهي ما تزال تنشغ من أثر البكاء :
- عناة !
فوجئ الملك لقمان بالإسم !
- يا ألله أنت ربة صغيرة يا حبيبتي . هل تعرفين أين بابا وماما ؟
- رأيتهم يلقونهم من الطائرة في البحر !
- لا بد أن جثثهم هنا مع الجثث . تعالي لندعو الله معاّ أن يحيي كل الموتى لنا !
وجلس على ركبتيه وهو يضم الطفلة .
- هيا يا حبيبتي رددي بعدي :
- إلهي وأنت القدير !
-( إلهي وأنت القدير )
وراح ملايين البشر والجن والشياطين يرددون خلف الملك لقمان مع الطفلة .

- إلهي وأنت الرحيم !
-( إلهي وأنت الرحيم )
- إلهي وأنت الكريم !
- (إلهي وأنت الكريم)
- إلهي وأنت المحيي والمميت !
-( إلهي وأنت المحيي والمميت )
- نطمع في كرمك !
-( نطمع في كرمك )
- فأكرمنا يا ألله بإحياء موتانا !
-( أكرمنا يا ألله بإحياء موتانا )
- فأنت السميع المجيب !
- (أنت السميع المجيب )
ولم تمرسوى لحظات حتى راحت الجثث تستيقظ وكأنها تنهض من النوم ، لتتلفت هنا وهناك . نهض الملك لقمان قائلا للطفلة :
- هيا يا حبيبتي لنبحث عن ماما وبابا .
وسار بين الآلاف وهو يدعو الطفلة لأن تنظر جيداً بين الناس . وما لبثت أن رأت أمّها فصرخت منادية " ماما ماما " وسمع الأب نداء الطفلة بدورة فرآها ورأى الأم تهرع نحوها فهرع بدوره .. أسلم الملك لقمان الطفلة إلى أحضان الأم فيما كانت ملايين الأصوات تبحث مرددة منادية " ماما بابا "
****


(13)
حين يرتعب الجنرالات !
حين سمع الطاغية أن قوى خارقة ربما تكون مدعومة من الله نفسه أنقذت كل سكان الكوكب من التطهير العرقي والديني والطائفي والسياسي وقامت بإنقاذ الغرقى وإحياء الموتى منهم ، أدرك أن نهايته أزفت ، ما لا يصدقه عقله هو مشاهدته لهذه الطيورالعملاقة التي حلقت في فضاء الكوكب بالآلاف حاملة بمخالبها أتباعه من الجنود والضباط والشرطة والجلّادين . أدرك أن نهايته قد تكون كذلك وقد يلقي به الطائرمن أعالي السماء. تخيل المشهد فتبول على نفسه . كان حريصاً في الأوقات كلّها على أن يضع على كتفيه ثمانية سيوف متقاطعة في أربعة أشكال وأربعة تيجان وست نجوم في مثلثين وأربعة مجسمات صغيرة لبنادق متقاطعة شاقولياّ في تشكيلين ، ليبدو حاملا لأعلى رتبة عسكرية لم تعرفها البشرية بعد ، فقد كان يطلق على نفسه ملك ملوك الملوك وجنرال جنرال الجنرالات ، مع أنه لم يدخل دورة عسكرية في حياته إلا دجلاً وتلفيقاً . أما عن النياشين والأوسمة فكان صدره يغص بها على الجانبين بحيث بدا وأن كتفيه وصدره ينوءان تحت ثقلها . حاول الهرب إلى أي مكان فوجد أن الطائرات لا تطير والسيارات لا تسير ، وحين حاول الهرب على دراجة هوائية وجد أنّها لا تسير أيضا . لم تعد دنيا الكوكب كلها تتسع له ، ولم يجد هو وبعض أتباعه إلا الهرب من القصور والبحث عن كهوف يختبئون فيها لعل وعسى أن تطول أعمارهم لبضع دقائق وربما ساعات ، فهم موقنون أن القوى الخارقة هذه تستطيع أن تجدهم أينما اختبأوا. تخلى جنرال الجنرالات عن زوجته ومحظياته وكل شيء وكذلك فعل أتباعه . كما طرد جميع مرافقيه حتى لا يتيح لهم معرفة المكان الذي سيختبئ فيه ، ولم يبق إلا على جنرال صغير كان يعتقد أنه أكثر الجنرالات الصغار إخلاصاً له . لم يجد كهفاً آمناً فكل الكهوف التي وجدها في سفح الهضبة التي تعلوها القصور بدت له غير آمنة وسيتم كشفه بسهولة ، إلى أن عثرله الجنرال الصغيرعلى جحر ضبع ، فوجد أنه الأكثر مناسبة . وحين أبدى الجنرال الصغيرمخاوفه قائلا " وإذا كان الضبع في الجحر يامولاي " رد جنرال الجنرالات " الضبع أرحم من هؤلاء الأوباش ، هيا انبطح وازحف أمامي في الجحر ! "
وحاول الجنرال الصغير التخلّص من الأمر :
- لكن يا مولاي قد لا يتسع عمق الجحر لنا !
- هيا أدخل واستطلع الأمر!
انبطح الجنرال الصغيرأمام الجحر . نظر في عمق الجحرالمظلم بدا له أنه طويل . مد يديه أمامه، زحف ، أدخل رأسه ثم كتفيه بصعوبة . جاءته زمجرة مرعبة من أعماق الجحر . هتف بأعلى صوته:
- مولاي الضبع في الداخل وقد يفترسني وأنا لا أستطيع أن أتحرك ، لوأننا أحضرنا معنا شيئا ما ندافع به عن أنفسنا !
- إزحف يا كلب إ ألا تعرف أن الضبع في الداخل ؟ أين سيذهب في النهار ؟
تابع الجنرال الصغير الزحف بصعوبة والزمجرة تزداد حدة وشراسة . وصراخ جنرال الجنرالات يتلاحق : أسرع أسرع ! ورائحة نتنة تزكم أنف الجنرال الصغير .
اختفى الجنرال الصغير في أعماق الجحر . تبعه الجنرال الكبير ، ليمسك بقدميه ويزحف خلفه . بدت له الرائحة غير محتملة غير أنها تظل أقل وطأة من القتل أوالإفتراس . إذا ما هاجم الضبع فقد يكفيه نصف أو ثلث جسد الجنرال الصغير ليشبع ، وبالتالي سيسلم هو، وتكون هذه القوى الغاشمة قد غادرت الكوكب !( هكذا فكر جنرال الجنرالات )
توقف الجنرال الصغير تخوفاً من هجوم الضبع المزمجر في الداخل . صرخ به الجنرال الكبير :
- هيا ازحف يا كلب لماذا توقفت ؟
- قد يهاجمني الضبع يا مولاي .
- تقاومه بيديك !
- وكيف سأقاوم وأنا محشورفي الجحر ؟!
- يا خسارة الرتب التي منحتها لك ، ألا تقاوم ضبعا دفاعا عن سيدك ؟ هيّا ازحف !
كان الجحرعميقا ويتصل بوكرمتسع بعض الشيء في آخره ، حيث تلتجئ أنثى الضبع مع ثلاثة من صغارها وضعتهم منذ أسابيع ، وكانت زمجرتها تزداد حدة تخوفا على أبنائها ، وبدا أنها على استعداد لأن تقاوم حتى الموت دفاعا عنهم .
كان الجنرال الصغير يتابع زحفه ويداه تتلمسان أعماق الجحر، وقد اعتادت عيناه الرؤية قليلاً
كما ألف أنفه الرائحة المقززة ، غير أنه تبول على نفسه أكثر من مرة كسيده تماماً ، فكلما حاولا حصر مثانتيهما انفلتتا أكثر وكأن فيهما نبعاً من البول .
اقترب الجنرال الصغير من وكر الضبعة . كان خيط من شعاع الشّمس يتسلل عبر ثقب في سقف الوكر مما أتاح للجنرال رؤية الضبعة وأبنائها بحدود . أدرك أنه سينتهي فريسة لهذا الحشد فتبرز في بدلة الجنرالية، وحين حاول أن يتقدم قليلاً تحت إلحاح سيده لوت الضبعة عنقها وفتحت فمها على وسعه كاشفة عن أنياب مرعبة .
- ثمة ضبعة وأولادها يا مولاي في الوكر وأي شبرآخر من الزحف يعني الموت ، فلن تكتفي الضبعة بالزمجرة !
- هيا هاجم الضبعة ولا تخف من أبنائها ما يزالون صغاراً !
- هل جننت يا مولاي ؟
- هيا هذا أمرعسكري أيها الوغد !
وكان الجنرال الكبير يتمنى في سريرته أن يستطيع جنراله قتل الضبعة وأبنائها ، لينال شيئاً من الجلوس في الوكر بدلاً من البقاء ممداً على بطنه!
ما أن حاول الجنرال الصغيرالتقدم قرابة اصبع حتى انقضت الضبعة على يده اليمنى والتهمتها! صرخ بأعلى صوته ! أطلقتها الضبعة بعد ثلاث عضات متتالية لتنقض على اليد اليسرى وتلتهم جميع أصابعها.
أغمي على الجنرال الصغيروفقد الوعي والدماء تنزف من يديه ، فيما اكتفت الضبعة بإدماء اليدين وتعطيل حركة اليدين ، وبدا أن أبناءها يتحفزون للإنقضاض على جسد الجنرال حين تتيح لهم الأم ذلك .
جنرال الجنرالات فقد السيطرة على مثانته ودبره أيضاً . فبدا في حال لم يبلغها جنرال قط !
******
(14)
الله يمثل في قلوب الناس !
حين حط الملك لقمان على أرض القصر الملكي الأكبر بين القصور وطلب إلى معاونيه أن يجلبوا كل المقيمين في القصور ، لم يعثروا إلا على الأطفال والنساء والفتيات فقد هرب الرجال جميعهم . جمعوهم في ساحات القصر مئات الفتيات والنساء والأطفال .. كانت زوجة الجنرال (الملكة غير المتوجة ) من بينهم . استدعاها الملك لقمان إلى بهوالقصر حيث يجلس . مثلت أمامه . بدا أنها جميلة إلى حد ما . لم يبد عليها أنها خائفة . طلب الملك إليها الجلوس . جلست في مواجهته . أوحى لها وجه الملك لقمان الطافح بالهدوء والإشراق بالنبل والود.
- أين زوجك أيتها السيدة ؟
- لا أعرف يا سيدي .
- وباقي الحاشية الجنراليّة ؟
- أيضا لا أعرف يا سيدي ، ما أعرفه أن جميع الضباط والجنود ورجالات القصروالعاملين فيه قد هربوا.
نظر الملك لقمان نحو الملك شمنهور :
- أرسل من يبحث عن الجنرال وكبارالضباط وكبارالعاملين ويحضرهم .
قام الملك شمنهورعلى الفور وراح يصدر أوامره إلى جنود الجن .
ألقى الملك لقمان نظرة نحو السيدة .
- ماذا تظنين أني فاعل بكم أيتها السيدة ؟
- أظن أن من هم في وضعنا لن ينتظروا ما يسرهم !
- اذهبوا فأنتم أحرار ! لكن لا تقيموا في القصور . أقيموا في بيوت العاملين . القصورقد تحول إلى متاحف أو منشآت مختلفة للدولة القادمة .
فوجئت السيدة بعدالة الملك لقمان . نهضت وانحنت احتراماً له:
- عاجزة عن الشكرأمام كرمك وتسامحك يا سيدي .
ابتسم الملك لقمان وأومأ برأسه وبسط يده أن " تفضلي " دون أن يتكلم .
تراجعت خطوتين وانحنت ثانية ثم استدارت لتخرج نحوالساحة حيت تجمع المئات .
أخبرتهم أنهم أحرار وفي مقدورهم الإنصراف، فيما رافقت هي إحدى زوجات الوزراء لتذهب معها إلى بيتها .
اندفعت مجموعة من الفتيات محظيات الجنرال اللواتي أرغمن على معاشرته ، اندفعن نحو البهو ليشكرن هذا القائد العظيم الذي جاءت حريتهن على يديه . وما أن مثلن أمام الملك لقمان حتى شرعن في الإنحناء والشكر بكل ما جادت به مخيلاتهن من كلمات الشكر والإمتنان .
أشار إليهن الملك لقمان بالإعتدال في وقوفهن وعدم الإنحناء أوالرّكوع والخضوع لأحد بعد اليوم .
تراجعن بضع خطوات ثم استدرن وانصرفن ومعظمهن في غاية السعادة .
******
كان الجنرال الصغيرقد لفظ أنفاسه من جرّاء النزيف الحاد لدمه ، فانقضت عليه الضبعة لتشحط جسده إلى الوكروتنقض عليه هي وأولادها.. لم يبق منه غيرالعظام والملابس الممزقة والأوسمة والسيوف والتيجان والنجوم . وكان ملك الملوك وجنرال الجنرالات يموت رعباً كل ثانية إلى أن فوجئ بمن يشحطه من قدميه ويخرجه من الجحر .
هتف الملك شمنهوربعد أن خاطبه الجندي الذي شحط الملك من الجحر تخاطراً :
- مولاي . تم العثور على الجنرال في جحرللضباع وثمة جنرال آخركان يرافقه افترسته الضباع . رائحة الجنرال لا تطاق يا مولاي ، وملابسه ملوثه بالبراز والبول وفضلات جحرالضباع .
- دعهم يغسّلونه ويلبسونه ملابس نظيفه ، وليجمعوا عظام وملابس ورتب الجنرال الثاني ويسلموها إلى أهله .
ولم يمر سوى دقائق حتى راح الجنرالات والضباط والوزراء يتوافدون وقد حملهم جن مخفيون . كانوا أكثر من ألف . وقف (الملك) الجنرال أمام الملك لقمان . طلب إليهم الملك شمنهورأن يقدّموا أنفسهم للملك لقمان واحداً واحداً .
قدم الجنرال نفسه وهو ينحني ، تبعه رئيس وزرائه ثم وزيرالدفاع وقائد الجيش فوزير الداخلية وغيره إلى أن قدّم أهمهم أنفسهم ، فطلب الملك لقمان التوقف عن التقديم وهتف :
- ما العقاب الذي تقترحونه لأنفسكم بعد كل الجرائم الفظيعة التي أوقعتموها بحق شعوبكم ؟
لم يجب أي منهم . أقل ما يمكن فعله هوالسجن المؤبد إن لم يكن الإعدام ، ومشكلة الملك لقمان أنّه يكرههما ، كرسول محبة وسلام ويفضل النفي في الجزر النائية . أطرق للحظات وهو يشير بيده إليهم أن يجلسوا .. وضع يده على رأسه وأغمض عينيه وراح يفكر . وسوس الملك شمنهور للناس بأن يحتشدوا ويطالبوا الملك لقمان بإعدام السّفاحين ، فهو يحب الإنتقام الفظيع بعد أن أمضى ثلاثة آلاف عام في قمقم سليمان الرهيب !
بدا الملك لقمان وقد شرع في الدخول في حالة وجدانية يسائل فيها الله عما يمكن أن يفعله ليرضي سكان الكوكب ويرضي ضميره . تعالت أصوات الملايين من الخارج " الإعدام الإعدام " وراح رجع االأصوات يتردد من أرجاء القصر" الإعدام للقتلة بالإلقاء من السماء كما كانوا يلقون بنا "
راح رأس الملك لقمان يدور يميناً وشمالاً ثم يستقرمحنياً على صدره وقد اختلج وجهه بتعابير مؤسية . اقتربت الملكة نورالسماء منه لتضم رأسه إلى حضنها وقد أدركت أن النوبة التي كانت تأتيه حين كان يواجه المحن قد أتته .. لا شك أنه ينشد وحياً إلهياً يشيرإليه بالحكم الذي يمكن أن ينفذه في المئات وربما الآلاف من هؤلاء السّفاحين . راح صوت هادئ يهتف في دخيلته " لن ترقى بسلوكك إلى المحبة المطلقة يا لقمان . المحبة المطلقة لا يحملها إلا الله ، والرحمة المطلقة لا يحملها إلا الله . أنت لست الله يا لقمان وإن كانت طاقة الألوهية تسري في جسدك كما تسري في جسد الذين ستعاقبهم .. أنت إن قتلتهم قتلت شيئا مني . وإن عفوت عنهم خنت العدالة الإنسانية . فاعمل بضميرك وإنسانيتك أيها الحبيب ، إلى أن يأتي يوم يدرك فيه كل إنسان أن ألوهيتي تسري في جسده ، وأنه يتوجب عليه أن يرقى بسلوكه إلى قدر ألوهيتي فيه ، ويحمل للبشرية والوجود المحبة التي تحملها أنت ، والرحمة التي تحملها أنت "
شرع الملك لقمان في البكاء والملكة تضمه إلى صدرها بكل ما تحمله من حنان ومحبة ، وتربت على رأسه ، وهو يهتف في دخيلته "ساعدني يا إلهي ، ساعدني يا إلهي "
تعالت الأصوات حادة حول القصر" الإعدام الإعدام الإعدام"
راحت الملكة نور تمسح دموع الملك لقمان بمنديل من الحرير . شرع يهدأ شيئا فشيئا ، وما لبث أن استعاد هدوءه .
مسد براحة يده على شعر الملكة وطبع قبلة على خدها ، ثم نهض . أشار إلى الملك شمنهور أن يخرج القتلة إلى الخارج .
خرج الملك والملكة ومرافقوهم ووقفوا على شرفة في القصر .. ولوح بيديه لملايين البشرالذين ملأوا كل مكان حول القصور كلها . شرعوا في التصفيق الحاد إلى أن أشار إليهم الملك بالتوقف . أقبلت طيورالرخ بالآلاف وراح بعضها ينقض على القتلة ويحملهم بمخالبه فيما راحت أخرى تتفرق وتحط في أماكن مختلفة وما تلبث أن تصعد حاملة بمخالبها أحداً ما وكأنها تعرف أماكن تواجدهم . علا تصفيق الناس فرحاً ..
لم تمر سوى دقائق حتى ازدحمت السماء بأكثر من ألف طيرحاملة القتلة بمخالبها ، وراحت تحلق بانتظام في أسراب متعددة فوق الناس وفي فضاء المدينة ، وكلما دارت دورة ارتفعت أكثر فأكثر إلى أن غدت على علو شاهق . رفع الملك لقمان يده فألقت الطيورحمولتها على دفعات حسب الأسراب . راح القتلة يهوون من أعالي السماء ، فيما راح صوت الملك يهتف متردداً من كافة الأرجاء وكأنه يهتف بعشرات مكبرات الصوت :
" أيها الناس : باسم الله وباسم طاقة الألوهة السارية في أجسادكم ، وفي أجساد أعدائكم ، وفي الكون كلّه ، والكائنات كلها ، أناشدكم أن ترحموا أعداءكم ، لتنالوا بذلك محبة الله وترتقوا إليها "
وراح الملك لقمان يكررنداءه . سمع الناس كلاما لم يسمعوه في حياتهم ، راح يؤثر في نفوسهم ، فيما كانت جميع أسراب الطيورتلقي بكل القتلة من أعالي السماء لتتهاوى أجسادهم نحو الأرض .
تعالت آلاف الأصوات من بين الناس صارخة : الرحمة الرحمة ! وما لبثت الأصوات أن ازدادت وصوت الملك لقمان يتردد من كافة أرجاء المدينة .. وحين أصبحت أجسام القتلة على مسافة مئات الأمتار من الأرض ، راحت جميع الأصوات تردد "الرحمة الرحمة " وإذا بجميع الأجساد الملقاة تتوقف في السماء وتشرع طيورالرخ في الإنقضاض عليها وتحملها ثانية محلقة بها، لتذهب بها إلى الجزيرة النائية ، لتعيش مع باقي المبعدين إليها .. تابع الناس الطيوروهي توغل مبتعدة بأجسام القتلة .
هتف الملك لقمان بأعلى صوته :
" أيها الأحبة . لقد ارتقيتم هذا اليوم برحمتكم ومحبتكم إلى رحمة ومحبة الألوهة السارية بطاقتها في اجسادكم . فأنتم منذ اليوم أبناء الله . وأنتم منذ اليوم أحبة الله . وأنتم منذ اليوم أنبياء الله . وأنتم منذ اليوم رسل الله ، فاعملوا على نشرالمحبة بينكم وجعلها شعاركم تحبكم الألوهة السارية بطاقتها في أجسادكم ، واعملوا منذ اليوم على تحقيق قيم الخيروالعدل والحق والجمال بين شعوبكم ، ترتقون بذلك إلى الألوهة فيكم ، وتكونون دوما مع الله وفي رحاب الله . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
وشرع الناس في تصفيق حاد جداً لم يسبق له مثيل بين بشر .
******




(15)
تعاليم لقمانية واغتصاب جماعي !
غص بهو الإستقبال في قصر الطاغية بالمئات من قادة الأحزاب بناء على دعوة موجهة من الملك لقمان وراحوا يقدّمون أنفسهم له ، كان الملك يضم الطفلة عناة التي أنقذها من الموت وهي تلقى من الطائرة. فقد أرسل في طلبها حين شعر بحاجته إلى طفل كعادته . كانت السيدة التي تحدثت إلى الملك لقمان على شاطئ المحيط من بين الحضور وقدمت نفسها باسم "زهرة الخلود " وأنها زعيمة أكبر الأحزاب العلمانية في الكوكب .
طلب إليهم الملك لقمان أن يبدوا آراءهم في نوع النظام الذي سيقيمونه على كوكبهم . رفعت السيدة يدها طالبة الكلام .
" تفضلي " هتف الملك لقمان .
- لقد أنقذنا جلالتكم من الموت وعادت الحياة على يدي جلالتكم حتى إلى من غرقوا في البحار، وخلصتمونا من حكم الطغاة جميعاً ، فهل هناك من هوأفضل من جلالتكم نتمنى عليه أن يحكم بلادنا ويقودها إلى رحاب الحرية والأمان والسلام والرقي ؟
- أشكر سيادتك لهذا الود وهذا الطرح، لكن أمامي مسائل كثيرة تحتاج إلى انجاز وليس في مقدوري تلبية طلبكم .
- إذن بإمكان جلالتكم أن ترشدونا إلى ما يمكننا فعله .
- رغم أنني أدرك أنكم قادرون على اختيارما يناسبكم ، إلا أنني سأبدي القليل من التوجيهات ولكم أن تأخذوا بها أو ترفضوها . ما يهمني هو المساواة بين البشر واحترام حقوقهم في الحياة الحرة الكريمة رجالاً كانوا أو نساء . واحترام حق الإنسان في جسده . وحقه في ابداء رأيه . وحقه في اختيار نوع حياته دون أن يسيء إلى أحد . لا يهمني نوع الحكم إن كان ملكياً أو جمهورياً، ما يهمني هوالعدالة . وإن شئتم رأيي في التحزّب ، فهو وإن كان شكلاً متقدماً نوعاً ما في الديمقراطية ، إلا أنه ليس الديمقراطية الأفضل . فالتحزب أقرب إلى التديّن . فهو يقود إلى التعصب للحزب . فالإنسان المنتمي إلى حزب سينتخب أبناء حزبه في الإنتخابات . وهكذا تدخل البلاد في تصارع الأحزاب وكسب الأصوات . إن التعصب الأفضل هو للإنسان وبناء الحضارة وتحقيق قيم الخيروالعدل والجمال . التعصب للمعرفة والعلم والمحبّة . إن نشر المحبة بين الناس أهم من كل الأحزاب مجتمعة . حين لا يكون هناك أحزاب يشعرالإنسان بحريته فيختار الإنسان الأنسب ليقوده . لذلك أيها السادة يفضل إلغاء التحزب . وأتمنى لو يكون معظم القادة من النساء . حين كانت النساء إلاهات في تاريخ كوكب الأرض القديم كانت حالنا أفضل مما هي عليه اليوم .
الأمر نفسه ينطبق على الدين والتدين . رغم احترامنا لما فكرفيه الأجداد واتبعه الأحفاد ، إلا أنهم لم يبلغوا الحقيقة المطلقة ، الحقيقة التي ليس بعدها حقيقة أخرى . وفي الإمكان القول إن العقل البشري برمته ما يزال بعيداً، وبعيداً جداً عن الحقيقة . حقيقة الوجود، حقيقتنا . الغاية من وجودنا . إلا أنه في الإمكان باللجوء إلى العقل النابغ المتحضّر، واتباع المنطق السليم اختيار الفهم الأرقى والأجمل والأشمل والأكثر إنسانية واتباعه ، لكن دون تقديسه .
لقد تحدثت باختصار شديد متمنياص لكم كوكباً مزدهراً بالحضارة والمحبة والرفعة والسمو واحترام الإنسان . والسلام عليكم .
نهض الجميع وشرعوا في التصفيق لكلمة الملك لقمان . وما أن توقفوا وجلسوا حتى رفعت السيدة يدها فأذن لها الملك لقمان . قالت :
- يسعدني أن أعلن أمام جلالتكم حل حزبي وهو أكبرالأحزاب في البلاد وآمل أن يوافقني أعضاء الحزب على ذلك . كما يسعدني أن أعلن أمامكم ترك ديني ! وأتمنى على جلالتكم أن تتركوا لدينا تعاليمكم مكتوبة لنتبعها .
ولم تكد السيدة زهرة الخلود تنهي كلامها إلا وجميع رؤساء الأحزاب ينهضون ويعلنون حل أحزابهم والتخلي عن دياناتهم التي كانت تتناقض مع مفاهيم الملك لقمان .
دعا الملك لقمان الجميع إلى مائدة الغداء . وأشار لأول مرة إلى الملكة نورالسماء بتحضيرها . ولم تمر سوى دقائق حتى كانت مائدة فاخرة لم يشهدها أحد في حياته تمثل في حدائق القصر ، تحوي كل ما يمكن أن يتمناه المرء من طعام وشراب.
*******
ما أن انتهى طعام الغداء حتى ودع الملك لقمان زعماء الكوكب وصعد إلى المركبة مع مرافقيه ، غير أنه فوجئ ببكاء الطفلة عناة ألتي راحت تتفلت من أحضان أبويها تريد أن تلحق بالملك . وكما حدث مع نسمة في رحلته السابقة حدث مع عناة . طار الملك من المركبة نازلاً نحوها فاتحاً ذراعيه ، وطيّرها وأبويها نحوه ليتلقاها بأحضانه ، فيما حط أبواها على المركبة .
هتفت الطفلة :
- هل ستتركني يا عمّو؟
- لا يا حبيبتي لن أتركك .
وشرع في تقبيلها . ثم نادى على نسمة وقدمها لها :
- هذه أختك نسمة كانت بعمرك حين أنقذتها وأبويها من الموت قبل عشرين عاما .
أخذتها نسمة وضمتها إلى حضنها وشرعت في تقبيلها .
*******
وهو يحلّق فوق كوكب مأهول خاطر الملك شمنهور الملك لقمان قائلا :
- طاب النكاح يا مولاي !
- لم يصدّق الملك ما فهمه فهل يعقل أن يخبره شمنهورإذا يريد أن يضاجع دليلة أو معشوقته ربة الجمال ؟ خاطره قائلا :
- ماذا تقصد أيها الملك ؟
- نحن نحلق فوق سهول وجبال فيها جيش من مئات آلاف الجنود يقومون بنكاح وربما اغتصاب مئات آلاف النساء في وقت واحد !
لم يصدّق الملك لقمان رغم إدراكه أن شمنهور لن يمزح معه هكذا مزحة !
- نعم ؟ هل تمزح أيها الملك ؟
- لا يا مولاي ! بإمكانك أن تلقي نظرة .
أمر الملك لقمان بإبطاء تحليق المركبة وأطلّ من نافذة ليرى الهول :
آلاف مؤلفة من الجنود يقومون باغتصاب آلاف مؤلفة من الفتيات والنساء اللواتي علا صراخ بعضهن وهن يقاومن المغتصبين فيما استسلم بعضهن للأمرالواقع فبدون وكأنهن راضيات عما يجري . كانوا يملأون السهول وسفوح الجبال والأودية .
سخر الملك لقمان قواه الخارقة فأبطل انتصاب أعضاء جنود الجيش جميعاً وشل حركة أيديهم وأرجلهم ، فثبتوا في أماكنهم حسب الأوضاع التي كانوا فيها، فبدوا وكأنهم أصنام في أوضاع مختلفة . تركهم الملك لقمان على هذه الحال وراح يدور بمركبته فوق الكوكب مستطلعاً أجواءه .
*******








(16)
ثورة النساء على ظلم الرجال والحكام !
قهقه الملك شمنهور بملء صوته وهو يرى آلاف المغتصبين يثبتون في أماكنهم كالتماثيل فيما بدت الفتيات والنسوة في غاية الدهشة وهن يرين إلى مغتصبيهن وقد شلت حركتهم حتى أن الدهشة أخرست ألسنهم وأصواتهم فلم يعودوا قادرين حتى على الكلام . شرعت الفتيات والنسوة في سحب أجسادهن والنهوض من تحت أجساد المغتصبين وسترأجسادهن، وحين أدركن أن ما جرى لم يكن إلا بفعل من في هذه المركبة الضخمة المحلقة في الفضاء - التي يبدو أن الله نفسه أو رجلاً صالحاً فيها وإلا لما حدث ما حدث - رحن يضممن أصابع أيديهن ويقبّلنها ثم يرسلن قبلهن في الفضاء نحوالمركبة التي ما زالت تحلّق في سمائهن.
خاطر الملك شمنهورالملك لقمان معجباً ولأول مرة بردة فعله التي بدت أقرب إلى النقمة منها إلى الرحمة المعتادة لدى الملك :
- آه يا مولاي . أحسنت الإنتقام ، لو أنك تشفي غليلي دائما هكذا . لكن بالله عليك كيف خطرت لك هذه الفكرة ؟ لو أنك طلبت إلي التصرف لأسقطت حجراً على رأس كل واحد منهم !
ولم يجب الملك لقمان وتابع التحليق في المنطقة وراح يلوح بيديه لآلاف النسوة والفتيات متلقياً القبل المتطايرة في الفضاء . وبدا آلاف البشروهم يهرعون من أماكن مختلفة لاصطحاب بناتهم ونسائهم حين رأوا أنهن نجون .
- مولاي هل تسمح لي بأن أشفي غليلي وأبترأعضاءهم التناسلية على الآخر ؟
رد الملك لقمان تخاطراً :
- لا ! إياك أن تفعل !
وتابع الملك لقمان تحليقه في المركبة طالباً إلى الملك شمنهور أن يبقي جناً يحرسون الجيش الغازي حتى لا يقوم سكان الدولة المغزوة بضربهم وهم ثابتين. فقد اكتشف الملك لقمان أنه يحلق فوق كوكب تقام عليه عشرات الدول المتصارعة ، بينها المتقدم وبينها المتخلّف . وبدا له أن الدولة الغازية هي دولة متخلفة لكنها حصلت على أسلحة متطورة وقامت بغزو دولاً أخرى متطورة وانتصرت عليها وأخضعتها لسيطرتها . عرف ذلك من مشاهدة الحدود واختلاف الأعلام من إقليم إلى إقليم وقد منح نفسه رؤية خارقة وكأنه ينظرعبرأكثرالمناظير رؤية .
مر فوق دولة تتظاهر في شوارع مدنها آلاف النساء المحجّبات، مرتديات اللباس الأسود، فيما يقوم رجال الشرطة بمحاولة قمع التظاهرات في كافة الشوراع ، بدا له من حجم المدينة ونسق أبنيتها وفخامتها وعرض شوارعها أنها العاصمة ، وعلى الأغلب أنها الدولة التي غزت الدول المحيطة بها . وحين عرف الملك لقمان أن النسوة يقمن بالتظاهر مطالبات بنزع الحجاب والحرية رافعات شعارات مثل " وجوهنا وشعورنا وأعناقنا وأكتافنا وصدورنا وأيدينا وأرجلنا وسيقاننا ليست عورات " " لا للزواج من مغتصبينا " " لا لجرائم الشرف " " الإغتصاب جريمة عظمى ينبغي أن تخضع لأشد العقوبات " " حريتنا في أجسادنا حق لنا " " المساواة مع الرجال في كافة الحقوق حق لنا " " لا لغزو الأمم ولا لسبي بناتهم ونسائهم وأموالهم " " ضرب المرأة جريمة يجب أن تخضع للعقاب " وغيرذلك من الشعارات المطالبة بالحقوق الإجتماعية والسياسية . أدرك الملك لقمان أنه أمام ثورة اجتماعية سياسية تقوم بها النساء فأقدم على ما أقدم عليه في أمرالمغتصبين : ثبت رجال الشرطة بعصيهم وهراواتهم في الأوضاع التي هم عليها، وجعل النسوة يتظاهرن بمنتهى الحرية . وما أن خرجت المتظاهرات في مئات شوارع المدن من حالة الدهشة لهول ما جرى حتى شرعن في نزع أحجبتهن وأنقبتهن وعباءاتهن وملاياتهن السود ليتجلين سافرات، بعضهن يلبسن بناطيل وبعضهن تنانيروبعضهن حاسرات الأكتاف والصدوروبعضهن يلبسن شورتات وبعضهن تنانيرقصيرة ، وشرعن في الزغاريد والفرح ورحن يرسلن قبلهن عبرالأثير للرجل الواقف على شرفة المركبة المحلّقة في الفضاء يلوح بيديه لهن وقد أدركن أن ما جرى ليس إلا بفعله .
صرخ الملك شمنهوربأعلى صوته "مولاي مولاي مئات الصواريخ تنطلق نحونا من كافة الإتجاهات ساعدوني بقواكم " سخر الملك لقمان كل قواه مستنجداً بكل ملوك الجن الذين عرفهم وسخرت الملكة نور السماء قواها وسخر الملك حامينار ( أبوها ) قواه من كوكب آخر ولم تمر سوى لحظات حتى انطلقت آلاف النيازك والشهب والمذنبات المضادة من كافة أنحاء السماء وراحت تعترض الصواريخ المهاجمة وتفجرها . التهب الفضاء بالشهب والنيازك المنطلقة والمتفجرة التي راحت شظاياها تتساقط على المدن . أوجس الملك لقمان مخافة أن تسقط بعض الشظايا على الناس فسخرقواه لإخراس وتعطيل كل أنواع الأسلحة في هذه الدولة التي بدا أنها امبراطورية حديثة لدولة متخلّفة فكرياً ومتقدمة تقنياً !! وخلال لحظات لم يعد حتى حامل مسدس قادراً على إطلاق طلقة منه .
حلق الملك فوق منطقة قصور يحيط بها آلاف الخيام الكبيرة لفتيات . ومئات الخيام لعسكر.أدرك أن حاكم هذا البلد لا بد وأن يكون مقيماً هنا . ترك المركبة واقفة في الفضاء وهبط محلّقاً بصحبة الملكة نور السماء والملك شمنهور . حط أمام خيمة قريبة من القصرالكبير كان يقف أمامها بعض الضباط الكبار الذين لم يعرفوا ماذا يفعلون أمام هؤلاء الناس الخارقين بأفعالهم .
حياهم الملك لقمان بعد أن أكسبهم اللغة العربية ليحدثهم ، فردوا التحية ودعوا الملك ومن معه إلى الجلوس . جلس ضابط في مواجهة الملك لقمان وبدا من رتبته أنه صاحب أعلى رتبة هنا . خاطبه الملك لقمان :
- هل تعرفني بنفسك ؟
- أنا الفريق قائد حرس الخليفة أميرالمؤمنين!
بدا على الملك لقمان أنه لم يفاجأ ، لكنه تابع أسئلته :
- أي خليفة وأي مؤمنين ؟
- الخليفة المنذر بن سرحان !
- والمؤمنين ؟
- المؤمنون بديننا !
- ما هو دينكم ؟
- الدين القويم . دين حكيمان العظيم !
- ومن هو حكيمان هذا ؟
- وكيل الله على الأرض !
- وهل هو موجود على أرضكم !
- لا بل في السماء يقيم في العرش الإلهي !
- هل إلهكم لديه جنة ونار ؟
- بل أكثرمن جنة وأكثرمن نار . كل حسب درجة ايمانه وكل حسب ذنوبه !
ابتسم الملك لقمان لحكمة هذا الإله الذي يضع تصنيفا للمؤمنين والمذنبين فيخصص لهم نوعاً محدداً من الجنّات والجهنمات !
- وما الذي تفعله دولتكم الآن في العالم ؟
- نحارب الكفار والمشركين والمرتدين وغيرالمتقيدين بأصول الشريعة لإقامة الدين الحكيماني القويم في العالم !
- ومن هم هؤلاء ؟
-الكفار الذين ليس لديهم أي دين ، والمشركون الذين جعلوا مع الله إلها آخر ، والمرتدون الذين ارتدوا عن الدين القويم أوأوجدوا فهما مختلفا للدين وأنشأوا طوائف وجماعات ، وفي النتيجة كلهم كفار ويعاملون معاملة الكفار، وغير المتقيدين بأصول الشريعة!
- وأين هو الخليفة الآن ؟
- في القصرعلى كرسي العرش .
- أيوه ! وما هذه الخيام الكثيرة حول القصور، كأن فيها فتيات صغيرات ؟
- هؤلاء أجمل السبايا العذراوات التي أرسلن لأميرالمؤمنين من قبل قادة الجيوش الفاتحة من معظم الدول التي فتحوها ليتمتع أميرالمؤمنين بجمالهن !
- وكم عددهن ؟
- قرابة مائة وعشرين ألف عذراء من سن التاسعة حتى التاسعة عشرة !
تأفف الملك لقمان دهشة ! ومخيلته تستحضرأرقام سبايا فتوحات أمم أخرى ربما لم تبلغ هذا الرقم وإن ازدحمت قصورالفاتحين بعشرات الآلاف منهن .
- ومتى في مقدورالأميرأن ينكحهن جميعا ؟
- قد لا يضطرإلى نكحهن كلهن ، يتمتع بهن بأشكال مختلفة .
- وأنتم ألا تتمتعون ؟
- بلى نتمتع بكل من يتخلّى عنها الأميروهن كثر !
وأشارالملك لقمان إلى الملكة نورالسماء أن تذهب إلى خيم الفتيات وأن تطلق سبيلهن ولتخبرهن أنهن حرّات وكل من يعترض طريقهن ستشل يده .
نهضت الملكة على الفور وما أن أخبرت أول مجموعة من الفتيات حتى انقضضن عليها يقبلنها ويشرعن في الفرح والزغاريد.
تابع الملك لقمان حواره .
أرسل من يخبر خليفتك ليمثل أمامي . أخبره إن لم يحضر طوعاً فسيحضركرهاً !
" أمرك سيدي " أجاب الفريق وقد عرف تماماً مع من يتكلم . وأرسل من يأمرالخليفة أميرالمؤمنين بالمثول أمام الملك لقمان .
****





(17)
غلمان الخليفة وحلم الملك لقمان بدولة تحكمها النساء فقط !
لم يتمالك الملك لقمان والملك شمنهوروالملكة نورالسماء أنفسهم من القهقهة حين ظهر ( الملك الخليفة أميرالمؤمنين!) جالسا على كرسي متحرك ذي عجلات واضعاً على رأسه تاجاً مرصعا بالجواهرالثمينة مطلقاً ذقناً بطول حوالي ثلاثة أمتاريحملها غلامان على أكتافهم ، بأن قسمت إلى قسمين مرّا فوق كتفي الغلام الأول ثم الغلام الذي يسيرأمامه لتتدلى على صدره ، فيما كان غلام آخريدفع العربة التي تقل الخليفة ! كان الغلمان يرتدون ملابس فتيات ويتزينون بالجواهر. لم يستطع الملك لقمان التوقف عن الضحك حتى بعد أن وصل الخليفة ورد التحية التي رد عليها الملك بهزة من رأسه فيما أدى كبارالضباط التحية العسكرية لخليفتهم . مثل الخليفة على كرسيه في مواجهة الملك لقمان فيما جلس الغلامان واحداً خلف الآخروذقن الخليفة ممدة على أكتافهم ليتدلى جزء منها على صدرالأول ، بحيث أصبحت على مقربة من الملك لقمان. كان الغلمان الثلاثة من أجمل الغلمان الذين شاهدهم الملك لقمان في حياته . كانوا في حدود الثانية عشرة من أعمارهم وكانوا مزينيين بقلائد ذهبية وثمة حلق في آذانهم وأساورفي أيديهم ، وقد انسدل شعرهم الطويل على ظهورهم .
أشار لسائق العربة بالجلوس فجلس إلى جانب الخليفة وأشارإلى حاملي الذقن أن يتركاها ويجلسا . تردد الغلامان فلا يمكن أن يدعا ذقن الخليفة تسقط على الأرض .
" سيعاقبنا الخليفة إن تركنا ذقنه يا مولاي"
( هتف أحدهم )
" لا تخافا يا عمّو لن أدعه يمسكم "
ترك الطفلان الذقن بتوجس وجلسا إلى جانب الطفل الآخر . أصبحت ذقن الخليفة ممدة أمام الملك لقمان على الأرض وعلى مقربة من قدميه. مدّ الملك قدميه قليلاً وأراحهما عليها. خاطره الملك شمنهور قائلا :
- يعجبني هذا التغيرفي سلوكك يامولاي ! هذا الوحش لا يستحق إلا الإحتقار !
سأل الملك أحد الأطفال :
- لماذا ترتدون زي (طفلات) وتتزينون يا عمو ؟
تردد الطفل في الإجابة ثم قال :
- هكذا يريد سيدنا الخليفة !
- لماذا ؟
وأحنى الطفل رأسه خجلا وهو يهتف بصوت خافت.
- ليتمتع بنا يا عمّو!
انتفض جسد الملك لقمان وشعر بالإشمئزاز ولم يجد نفسه إلا وهو يأخذ شمعدانا من أمامه ويضرب به الخليفه وهو يهتف بانفعال ( قذر متوحش )!
ارتد الشمعان من صدرالخليفة ليسقط على السجاد دون أن ينكسر فيما راح الخليفة يرتجف من الرعب من رأسه حتى قدمية .
هدأ الملك قليلا وتابع حواره مع الأطفال :
- هل أنتما سبايا حرب ياعمّو ؟
- نعم نحن أطفال من دولة مجاورة .
- وهل هناك أطفال كثرداخل القصر ؟
- كثير يا عمّو، ذكوروإناث!
وأشارإلى الملكة أن تدخل القصر وتنقذ الجميع وتوصلهم إلى ذويهم أينما كانوا.. ولم تمرسوى لحظات حتى خرج من باب القصرمئات الأطفال والفتيات الطائرين وهم يضحكون وفي غاية الفرح . وكانت الملكة قد أنزلت جناً حملوا عشرات الآلاف من قبل إلى ذويهم .
- ماذا أفعل بك أيها السّفاح ؟!
- كان الخليفة يرتجف وأسنانه تصطك على بعضها ! حاول أن يلفظ أقل الكلمات :
- سيعاقبك إلهي !
ابتسم الملك :
- أبول عليك وعلى إلهك هذا إذا كان يقبل بكل هذا الظلم! يبدوأنّه أكثر وحشية وفتكاً منك !
هتف أحد الأطفال :
- هل يمكننا ان ننصرف ياعمّو!
- طبعا عمّو . سيحملكم جنودي المخفيين إلى أن يوصلوكم إلى أهلكم ، ويمكنكم أن تطلبوا كل ما تريدونه منهم وستجدون كل طلباتكم تلبى .
نهض الأطفال ليصافحوا الملك لقمان وينصرفوا. سأل أحدهم وهو يصافح الملك لقمان :
- عمّوماذا سنقول لأهلنا عمّن حررنا من العبودية ؟
- قولوا حررنا إله الملك لقمان !
فوجىء الطفل حين عرف أن هناك إلهاً آخرغيرإله الخليفة السفاح :
- هل يحب إلهك الأطفال إلى هذا الحد يا عمّو ؟
- إلهي لا يحمل إلا المحبة يا حبيبي فهو يحب الأطفال كثيرا ويحب كل الناس .
- يله حبيبي الآن سيحملكم جنودي ويطيرون بكم .
ضم الملك لقمان الأطفال واحداً واحداً وقبّلهم وأسلمهم لجنود الجن المخفيين . ابتعدوا وهم يلوّحون بأيديهم ويضحكون ويرددون " شكراً يا عموالملك لقمان سنحبك ونحب إلهك ما حيينا "
أبت دمعتان إلا أن تنزلقا من عيني الملك لقمان فرحاً .
" أبعدوا هذا الحيوان من أمامي قبل أن أعلّقه من ذقنه ليموت "
هتف الملك لقمان وتابع :
- هل أنت مقعد حتى تجلس على كرسي متحرك ؟
- لا ! هذا من أجل مهابتي !
- يا سلام! والذقن من أجل مهابتك أيضا ؟
- لا من أجل إيماني !
- كيف ؟ هل يقاس الإيمان عندك بطول الذقن ؟
- طبعا كلما طالت ذقن المرء كلما كانت دليلاّ على إيمانه !
راح الملك لقمان يقهقه وهو يردد ( غير معقول) وخلال لحظة رأى الحاضرون مقصاً يقص الذقن من جذورها ويلقيها أرضاً ليأمرالملك لقمان ضباط الخليفة أن يدوسوها بأقدامهم ففعلوا ، فيما كان الخليفة يفر جارياً نحوالقصر .
*****
أرسل الملك الملكة نورالسماء لتدعوألفاً من قائدات النساء في الدولة إلى حفل عشاء واجتماع معه . وكان قصد الملك لقمان من هذا الكم أن لا يترك فئة من النساء في دولة الخلافة دون تمثيل في الإجتماع . وأشار بحركة دائرية من يده وإذا بجميع جنود وضباط الجيش الغزاة الذين ثبت حركاتهم وهم يقومون باغتصاب النساء يعودون إلى طبيعتهم ما عدا أعضاؤهم التناسلية التي لن تعود إلى الإنتصاب قبل خمسة أعوام! فشرعوا في العودة إلى مدنهم وقراهم. وبحركة ثانية حررجميع رجال الشرطة في الدولة الغازية التي هو على أرضها من ثبوتهم .
أقبلت النساء محمولات على محفات جنّية وثيرة بمقاعد مريحة للغاية . استقبلهن الملك لقمان في روض أقامه مكان الخيام التي كانت منصوبة للسبايا .
انتخبت النساء عشر سيدات للتحدث إلى الملك ، انتخبن بدورهن سيدة من بينهن تدعى ( يقظة العقول ) كانت رئيسة لتجمع أحزاب نسائية تحررية لتنوب عنهن في إدارة الحوار . قدم الملك لقمان نفسه لهن كرسول للسلام يتمتع بقوى خارقة ومساندة إلهية ! وقدم الملكة نورالسماء والملك شمنهور وباقي أعضاء المركبة من إنس وجن . وقامت النساء العشر بتقديم أنفسهن . وما أن جلس الجميع حتى عرفت يقظة العقول الملك لقمان بنوعيّة النساء الألف . فكان بعضهن رئيسات لتنظيمات نسائية سرية وبعضهن رئيسات جمعيات تعاونية وبعضهن عالمات وأديبات وفنانات وبعضهن رئيسات جمعيات مهنية . وختمت كلامها بالقول :
"في الإمكان القول أننا أحضرنا نخبة تمثل معظم نساء المجتمع بناء على طلب جلالتك حسب ما أخبرتنا الملكة ".
قال الملك :
" في الحقيقة دعوتكن أولاً لمعرفة العقاب الذي تفضّلن أن أنزله بهؤلاء الطغاة الذين كانوا يحكمون البلد . وثانياً لمعرفة رأيكن في نوع الحكم الذي تفضلنه وقد قرأت معظم شعاراتكن التي كنتن ترفعنها في التظاهرات وقد أعجبتني كثيراً ، وثالثاً لاستشارتكن في دولة تقودها وتحكمها النساء ، وهذا حلم كان يراودني لاعتقادي أن النساء عادلات ورحيمات أكثر من الرجال خاصة وأنني حين قرأت عن إلاهاتنا القديمات في كوكب الأرض تبين لي أن زمنهن كان زمن محبة وتعاون وخلق إلى حد كبير. وحين استلب الذكرالألوهة منهن وحولّها إليه بدأ القتل الفظيع واضطهاد الشعوب والعداوة والبغضاء تنتشر بين البشر، حتى الآلهة التي أوجدها العقل الذكوري آلهة شديدة العقاب بحيث طغى طغيانها على رحمتها ، فضاعت حقيقة الألوهة وجوهرها بين الرحمة والعذاب الشديد المستحيل وغيرالممكن أن ينفّذه إله !
***





(18)
دولة النساء الديمقراطية العلمانية !
بدت كلمة الملك لقمان مفاجئة للنساء الألف بقدرما كانت أفعاله ونصرته لهن مفاجأة لم تخطرعلى بال أحد . فما أن أنهى كلمته المقتضبة حتى وقفن وشرعن في التصفيق الحاد وهن في غاية الفرح والسعادة، فيما كانت السيدة يقظة العقول تستنهض ذاكرتها لترد على كلمة الملك بأفضل ما تجود به مخيلتها . وما أن جلست جميع النساء حتى شرعت في الكلام :
" إنه لمن دواعي سرورنا وعمق مشاعرنا أن نتقدم لمقام جلالكم السامي بجزيل الشكر والإمتنان لكل ما أقدمتم عليه من أعمال خيرانية أنقذتم بها ملايين النساء والفتيات والأطفال من الظلم والتعسف، وحررتم االبلدان المجاورة من طغيان الإحتلال، وأخرستم أسلحة الفتك والدمار. لقد ابتلينا ياسيدي بقوم عميت بصائرهم فأعادونا إلى عصورالظلام المنقرضة بدلا من أن يسيروا بركب الحضارة المعاصرة . فكبّلوا الحريّات بدءاً من حرية الرأي وانتهاء بحرية الإنسان في جسده ، ليصبح كل سلوك للإنسان مهما كان ، خاضعاً لقيم بائدة ، وأخرى متخلفة لم يوجدها العقل البشري يوماً . لقد غدا الإنسان في بلدنا أسيراً لما يملى عليه ، من تمجيد للطاغية وزبانيته، وتنفيذ لأوامرهم ، وتحقيق لرغباتهم ، والسير في ركب الحماقة والجهل والتخلف ولوأدى ذلك إلى معاداة الشعوب والأمم "
"سيدي جلالة الملك :
لقد أمضينا أكثرمن عام للتحضير لتظاهرتنا اليوم لتكون ثورة شاملة في كل مدن بلدنا ، ولذلك لم تتعرض للقمع العنيف الذي كانت تتعرض له التظاهرات السابقة من ضرب وقتل واعتقال وتعسّف ، ولم تكن الأمور لتنتهي إلى ما انتهت إليه لولا نجدتكم المعجزة لنا ، التي أدركنا جميعاً أنها لم تتم إلا بوحي إلهي ومساندة إلهية لكم ، فأثبتم بسلوككم العادل وأفعالكم النبيلة أنكم خير من يمثل الألوهة العظيمة في الكون . ( نهضت النساء جميعهن وشرعن في التصفيق.. وما أن توقفن وجلسن حتى تابعت السيدة يقظة العقول ) :
" فاسمح لنا ياسيدي أن نحيي ونمجد الألوهة العظيمة وقد تجلت أفعالها الخيرانيّة والإنسانيّة على يديكم ..
( نهوض وتصفيق من كافة النساء )
" تبتغون يا سيدي رأينا في عقاب من ظلمونا ، وفي نوع الحكم الذي نفضله، والأهم أن يكون الحكم بأيدينا، وهذا ما لم نحلم به يوماّ في ظل الهيمنة الذكورية ، ليس على الحكم وحده بل على العقول أيضاً ، بحيث أصبح الناس شبيهين بالببغاوات لا يرددون إلا ما يتفوه به الطاغية ! لن ترقى عدالتنا إلى عدالتكم يا سيدي وأنتم الكريم الرحيم العادل المحب . فشُرعلينا أواقترح أو أؤمر يا سيدي وسننفذ بإذن الله. وفيما يتعلق بنوع الحكم ، أظن أن معظمنا متفقات على أن يكون جمهورياً علمانياً ديمقراطياً يتساوى فيه الجميع أمام قانون ودستور حضاريين . أما أن نحكم نحن كنساء فيا ليت لو يتحقق هذا الحلم ..أكرر عميق شكرنا وامتناننا لجلالتكم . دمتم ودام تمثيلكم للألوهة ومساندتها لكم "
نهضت النساء وشرعن في التصفيق . وما أن جلسن حتى نهض الملك لقمان وشرع في إلقاء كلمة رد فيها على كلمة السيدة يقظة العقول وقدم بعض الإقتراحات :
" أشكر السيدة يقظة العقول على كلمتها الجميلة والمعبرة . وآمل إعفائي مما اعتبرته في شخصي تمثيلاً للألوهة في الكون وإن كنت أدرك أن الألوهة تساندني وتقف معي ، لكني أدرك تماماً أن الألوهة تسري بقدرتها وطاقتها في الكون كلّه والكائنات كلّها وأن خير ممثل ومجسّد لها في الكون هو الإنسان بالمطلق ، أي البشرية جمعاء . ومشكلة البشرية حتى اليوم أنها لا تعي أن طاقة الألوهة تسري فيها وأن الألوهة تتمثل فيها كلها ، وأن أفعالها من خير وشرلا تتم إلا بقدرتها العظيمة ، وقد منحت الإنسان حريّة الإختيار بين الخيروالشردون أن يعني ذلك أن الألوهة ترضى عن فعل الشر . كون الألوهة بالمطلق هي محبة وخيروعدل وجمال . لهذا الحديث في الخلق والخالق والإله والألوهة بقية، أفضل تركها إلى أن أجزم بيقينها، وإن كان لدي ما أقوله حولها ، لكنه يظل ضمن دائرة الإجتهاد الذي لم يرق إلى يقين . يقين أحتاج إلى الألوهة نفسها أو الله نفسه أن يحسم لي هذا الأمر . خاصة وأن كثيرات بينكن قد يتساءلن الآن لماذا أبقت الألوهة على الشر وجعلت الإنسان مخيّراً رغم تمثيله لها ؟
فيما يتعلق بالعقاب الذي سننزله بهؤلاء . أدرك وأنتن تدركن الآن على ضوء كلمتي وفهمي أن طاقة الألوهة التي تسري فينا تسري في أجساد هؤلاء الطغاة ، الذين لم يمارسوا طغيانهم إلا لجهلهم ، وعدم فهم أنفسهم ، وعدم فهم الألوهة ، وعدم فهم الغاية من وجودهم ، فإذا كانت الألوهة تسري بطاقتها وقدرتها في أجسامنا بل وتتجسد فيها ، فإن الغاية من وجودنا ليست إلا أن نكون خالقين وصانعي حضارة ،وليس قتلة وسفاحين أو مستغلين ومضطهدين للشعوب، وهذا ما لم يدركه هؤلاء القتلة . لذلك اعتدت أن أكون رحيماً معهم بأن أكتفي بإبعادهم إلى جزر نائية ليعتمدوا على أنفسهم في الحياة وإعادة تأهيل ذواتهم. وآمل أنني كنت عادلاً فيما قمت به . وبما أن السيدة يقظة العقول أوكلت الأمرإلي، فإنني أقترح أن نقوم بالحكم عليهم بالإبعاد خاصة وأن لهؤلاء أخوة وأخوات وأمهات وآباء وأبناء وبنات قد لا يكون لهم ذنب فيما اقترفته أيديهم ، وقد يضطرون إلى اللحاق بهم والعيش معهم . على أن لا تتجاوز مدة الإبعاد عشر سنوات قابلة للعفوعن الجميع أوعمن يثبت أن جرائمه أقل . سأطرح الأمر للتصويت . هل توافقن على الإبعاد ؟
رفعت جميع النساء أيديهن . إذن موافقة بالإجماع . اتخذ القرار .
فيما يتعلّق بحكم النساء . أنتن قمتن بثورة عمّت البلاد كلها . ومن حقكن أن تشكلن مجلس قيادة ثورة منكن، ومجلساً استشارياً يقود البلاد فترة محددة إلى أن يتم الإتفاق على نظام حكم ودستور جديد، وإجراء انتخابات .. أليس كذلك ؟ سأقترح أن يكون مجلس قيادة الثورة من الأخوات العشراللواتي انتخبتنهن هنا . هل توافقن ؟ ( إجماع ) ! تابع الملك :
وأقترح أن تكون السيدة يقظة العقول رئيسة لمجلس قيادة الثورة . هل توافقن ؟ ( إجماع )
- كم تقترحن عدد عضوات المجلس الإستشاري؟
قالت السيدة يقظة العقول : خمسمائة !
- هل توافقن ؟
( موافقة بالإجماع )
- من تجد أنها مؤهلة لشغل المنصب لترفع يدها .
لم يرفع إلا أربعمائة أيديهن فتمت الموافقة عليهن بالإجماع على أن يتم انتخاب مائة أخريات فيما بعد من قبل الشعب !
*****
(19)
فرحة الأمم بالمحبة والسلام !
بلّغ الملك لقمان السيدة يقظة العقول أنه يرغب في تطهيرالسجون وإشفاء المرضى وسحب الجيوش الغازية من كافة الدول المحتلة . وافقته دون تردد، فكلف الملك شمنهوربالمهمة فنهض على الفور. وأشارالملك على السيدة أن تلقي كلمة تتحدث فيها عن قيام الثورة النسائية البيضاء في بلد كوكب السماء دون أن تراق نقطة دم واحدة على أمل أن تعم الثورات النسائية كافة أنحاء الكوكب بل والعالم كله. وفيما كان يتحدث إليها وقد حل الظلام أشرقت السماء بمئات آلاف النجوم المضيئة ليتحول الليل إلى ما يشبه النهار. وظهرت آلاف طيورالعنقاء والرخ محلقة في الفضاء وراحت تنقض على أماكن مختلفة حتى إلى داخل القصرالذي يختبئ فيه الطاغية وبعض أعوانه ، وتخرج حاملة أجسادهم بمخالبها لتدور بهم في فضاء مدن البلاد والبلدان المجاورة لتلقي بهم فيما بعد في جزيرة نائية خصبة اختارها الملك لقمان .
راح الجميع ينظرون بدهشة فائقة إلى ما يجري من انقضاض وصعود وتحليق للطيور في أسراب منتظمة ! وأشار الملك لقمان إلى ربة الجمال فائقة الفتنة كأجمل فتاة أبدعها خياله حتى حينه ، أن تقوم بتقديم السيدة يقظة العقول إلى أبناء وبنات الدولة منبها السيدة يقظة العقول إلى أن كلمتها ستكون مسموعة ومرئية في كافة أجهزة التلفزة والإتصالات في الكون كله ، مؤكدا لها أنه سيكون في عونها وييسرلها سبل الكلام . ولم يكد ينه كلامة إلى وشاشة ضخمة تنتصب في مواجهتهم في الهواء الطلق . انتحت ربة الجمال في فسحة محاطة بالزهور. أشار الملك لقمان بحركة من يده وإذا بربة الجمال تظهرعلى الشاشة منتصبة خلف منصة خشبية يعلوها مايجرفون . ظلت صامتة للحظات مطلقة ابتسامة بدت كأنها إشراقة فجر، تاركة البشرية جمعاء في دهشة وحيرة مطلقة مليارات التأوهات إعجاباً بهذا الجمال منقطع النظير والذي عطّل كل أجهزة التلفزة في الكون ليظهرعليها . وما أن أدركت ان البشرية استوعبت هول المفاجأة حتى هتفت بصوت عذب ساحر :
" أحبتنا أبناء وبنات الأمم البشرية والجنية ( علق ملايين: واوهذه جنيّة ) أمهاتنا العزيزات آباءنا الأعزاء ، أخواتنا إخوتنا ، من الكوكب الذي أصبح اسمه منذ اليوم " كوكب المحبة والسلام " نحيييكم ، ومن بلد السماء ، بلد السلام ، الذي أشرق على أرضه هذا اليوم فجرالحرية والمحبة والسلام ، حين قامت ملايين النساء العظيمات بثورة سلمية بقيادة السيدة يقظة العقول رئيسة الإتحادات والجمعيات والأحزاب النسائية المتحدة، جابت شوارع مدن البلاد كلّها، وحققت النصر للأمم بمساندة ودعم رسول المحبة والسلام الملك لقمان العظيم الذي صادف مروره في سماء الكوكب . فأوقف اغتصاب الفتيات والأطفال وشل حركة المغتصبين ، وحركة رجال الشرطة الذين كانوا يضربون المتظاهرات . واعتقل القادة الطغاة . وسحب الجيوش الغازية من البلدان المحتلة وحررالسّجناء . ( راح مليارات البشر يصفقون وبعضهم يردد مؤكدا قولا سابقا له ، ما قلنالكم إنّ الملك لقمان سيعود مهما غاب ) !
تابعت ربة الجمال :
والآن أيها الأحبة في الكون وفي كوكب المحبة والسلام ومن بلد السماء، أقدم لكم قائدة الثورة العظيمة ورئيسة مجلس قيادتها السيدة يقظة العقول، حفظها الله ورعاها ! في كلمة موجهة إلى أبناء شعبها "
انتحت ربة الجمال لتختفي عن الشاشة فيما ظهرت السيدة يقظة العقول ثابتة وبدت واثقة من نفسها وهي ترتجل كلمة ارتجالا :
" أيها الأخوة المواطنون ، أيتها الأخوات المواطنات ، أيها الأحبة من الأبناء والبنات في بلدنا الحبيب وفي العالم. حين فجرنا ثورتنا صباح هذا اليوم كان الأمل بالنصر يملأ قلوبنا ، وثقتنا بالله تقوّي عزائمنا ، ورغم اشتداد الحصار والشروع بالضرب بالعصي والهراوات إلا أننا صمدنا إلى أن هبت الألوهة لنجدتنا والوقوف معنا في شخص الملك لقمان العظيم .
لن أطيل عليكم أيها الأحبة وسأقدم لكم موجزاً لما فعلناه وما سنفعله :
لقد اخترنا ألف سيدة ليمثلن نساء البلد في لقاء مع جلالة الملك لقمان . انتخبنا عشر نساء لمجلس قيادة الثورة برئاستي . وانتخبنا أربعمائة سيدة من خمسمائة لمجلس استشاري ، وسيجري انتخاب المائة الأخريات من قبل الشعب. المجلسان مؤقتان إلى أن يتم كتابة دستور جديد للبلاد، دستور يعتمد مبدأ المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة ، انطلاقا من مفهوم انساني علماني يجمع بين الناس ولا يفرق ، ويحترم حرية الرأي والمعتقد وحقوق الإنسان كلّها. المرأة نصف المجتمع ويجب أن يكون لها النصف في الدولة والمجتمع . ولا مانع على الإطلاق إن فازت في أي انتخابات بأغلبية في أي مجلس أو في رئاسة البلاد. طّهّرنا السجون من المعتقلين كافة ، السياسيين والجنائيين، وقمنا كذلك بمساعدة جند الملك لقمان بإشفاء المرضى في البلاد كلها ، وأبعدنا كل من أساء وأجرم بحق الشعب إلى جزيرة نائية لمدة لا تزيد على عشر سنوات قابلة للتخفيض ، وسيتم ارسال طعام لهم وإقامة مأوى إن لم يتدبروا أمورهم لعلهم يذوقوا القليل جدا مما أذاقوه لشعبنا وللشعوب التي احتلوا بلدانها . نعلم أن هذا العقاب لن يرضي الملايين منكم وقد يطالبون بإعدامهم أو بالسجن المؤبد لهم . لكن أيها الأخوة والأخوات يمكن القول إنه لا يمكن لمن لا يعرف الرحمة والمحبة الإنسانية والعدالة والخيروالجمال أن يقود شعبا في طرق الخير والمحبة والسلام ، وهي الصفات التي تتمتع بها الألوهة بالمطلق ، حسبما علمنا المعلم الكبيرالملك لقمان .
( تعالت أصوات من بين النساء ومن بين المتجمهرين في الكون أمام التلفزة وراحت تهتف : لقمان لقمان لقمان، مرددة اسمه بملء حناجرها )
" المحبة والسلام أيها الأخوة والأخوات يعنيان أن لا جيش بعد اليوم ولا أجهزة مخابرات تقمع الشعوب ولا حتى لشرطة لا تعرف الرحمة .. سنحوّل كافة الأسلحة إلى محاريث وأدوات انتاج يفيد منها البشر . وسيضمن جلالة الملك لقمان أمن بلدنا من أي معتد .
سنعمل على ازدهارالعلم والمعرفة ونكثر من معاهد الأبحاث والدراسات وبناء المدارس والجامعات . سنحد من الثراء الفاحش ونقضي على الفقر . وأمامنا الكثير والكثير لنعمله .
ولأبناء الشعوب في دول الكون كله، نقول لهم آن للبشرية أن تنبذ الحروب وتدمرالأسلحة لتفيد منها في صنع الحضارة لا تدميرها ، ولتساهم في صنع المحبة والسلام بين البشرعلى اختلاف مذاهبهم وأديانهم وأفكارهم . فالحقيقة المطلقة لا يعرفها أحد حتى اليوم . وإذا كان هناك ألوهة فلن تكون إلا المحبة المطلقة والخير المطلق والجمال المطلق، حسبما علمنا الملك لقمان العظيم . تحيتي ومحبتي لكل فرد منكم، والسلام عليكم ورحمة الله."
عادت السيدة إلى الجلوس فيما التصفيق لكلمتها يتواصل . وما أن هدأ التصفيق حتى شرعت النساء في التصفيق الإيقاعي والهتاف لقمان لقمان ! لم تمر سوى لحظات حتى بدا وأن كاميرا تتحرك ناقلة صور النساء ومرافقي الملك لقمان، وليدهش الناس أمام الجمال شبه المستحيل للملكة نورالسماء وربة الجمال.. لتستقرأخيراً على شخص الملك لقمان الذي كان يجلس الطفلة عناة في حضنه وهي تعبث بشعر ذقنه . حين رأى الملك صورته تظهرعلى الشاشة. أسلم الطفلة إلى حضن الملكة ونهض ملوّحاً بيديه ثم ضم كفيه إلى بعضهما وقبلهما مرسلا قبلاته إلى البشرية. كرر ذلك ثلاث مرات متتالية ، وهالة من نور تنبثق حول جسده وهي تومض وتشع إلى أن رفع يده موقفا النقل الكوني . وليبدأ حفل العشاء الكوني أيضا، الذي أقامه الملك لقمان للمرة الاولى ليس لضيفاته من النساء فحسب بل للبشرية والجن جميعا.






(20)
البشر والجن على موائد الله !!
أطرق الملك لقمان للحظات باسطا يديه على وجهه مخاطراً الله والجن والملائكة بإقامة موائد وليمية للبشرية والجن في كل مكان في الكون ، أطلق عليها موائد المحبة الإلهية احتفالاً بدولة النساء التي أقيمت في بلد السماء. ولم تمر سوى لحظات حتى كانت عشرات مليارات الموائد لم يشهد لها البشر مثيلا تقام في كافة ساحات وحدائق المدن والقرى والمعابد وفي المستشفيات والمنتجعات والمطاعم وعلى شواطئ البحار والأنهار وقمم الجبال وأعماق المحيطات في كافة أرجاء الكون ، ودون أي تمييز على الإطلاق بين من يعتبره البشرمؤمناً بدين أو مذهب ما أو كافراً أو ملحداً أوعلمانياً أوحتى مجرماً أو طاغية أو جنياً أو شيطان . كما لم تخل السجون والجزرالتي تحوي مبعدين من الموائد ، التي حوت لحوماً منوعة لخراف وجداء وظباء وأرانب وعجول صغيرة وإوز ودجاج وحمام وحجل وأسماك منوعة ومقبلات وسلطات مختلفة وفواكه طازجة وخمورمنوعة وحتى سجاير متعددة . وقرّب الله بقدرته بين المجرات والكواكب وأنارالكون بنجوم تشع بألوان مختلفة وسخّر طقساً عليلاً للأكوان كلها رافقه نسيم منعش وحرارة معتدلة رافقها هالات من أنوار أخاذة كانت تجوب الفضاء في أشكال تجريدية. وصدحت في أرجاء الكون موسيقى كونية تراقصت لها ألوان في خطوط متعرجة وأسراب من قطوف العنب الأحمر والأصفر والأسود ، وأسراب من التفاح والبرتقال والتين والزيتون التي كانت تحلق في أسراب هندسية أخاذة متناغمة مع الألحان . وعمّت الفضاء فرق من الحوريات الملائكيات وشرعن يرقصن في الفضاء ، وانتصبت في كافة الأماكن شاشات تلفزة ضخمة ثلاثية الأبعاد راحت تجوب الكون من أعماق المحيطات إلى أبعد كوكب ومجرة في الكون، ناقلة كل ما يجري من احتفالات في كل مكان في الكون . ونظراً لضخامة الشاشات وطريقة بثها عالية التقنية فكان الناس يشعرون أنهم موجودون في كل مكان يتم نقل ما يجري فيه ، حتى أن بعضهم كان يهم ليصافح أو يقبّل أو يضم إنسانا آخر يبعد عنه مليارات السنين الضوئية . وظهرت في فضاء الكون فرق من الخيول والظباء والزرافات والإبل وهي تحلق فرحة كما ظهرت فرق من الطيورعلى كافة أشكالها: طواويس رخوخ، عنقاءات ، نوارس .. وكائنات من أعماق البحار والمحيطات : حيتان ، دلافين ، أسماك منوعة بعضها كان يحلق في الفضاء على وقع الألحان الكونية وبعضها في أعماق البحاروالمحيطات . وحين ظهرت الصحاري والجبال والصخور والحجارة محلقة في أسراب منتظمة تبعها شهب ونيازك ومذنبات راحت ترسم أشكالاً أخاذة ، نسي الناس الطعام والشراب وقد طارت منهم العقول . وحين ظهرت أنهار تنحدرمنصبة من السماء ما تلبث أن تعود إلى الصعود في أشكال لولبية أومنحنية قوسياً حين تصبح على بعد آلاف الأمتارمن الأرض ، وقد أطلقت بروقاً من داخلها راحت تحيل المياه إلى كتل ضوئية وأقواس قزحية ترسم أشكالاً مذهلة في الفضاء، ذهل الناس لقدرة الخالق العظيمة.
صمتت الموسيقى الكونية للحظات ليظهرالملك لقمان محلقاً في هالة نورانية تجوب الفضاء هاتفاً بصوت دوّى في كافة أرجاء الكون وبأكثر من ألف لغة :
" باسم الله الواحد . الله المحبة والخيروالحق والخلق والجمال. أرحب بأحبة الله جميعا ، الذين تسري في أجسادهم وتتجلى فيهم طاقة الألوهة العظيمة . وأعلن هذا اليوم الذي حكمت به حبيبات الله : النساء ! دولة في العالم . أعلنه عيداًّ للمحبة الإلهية تتجلى فيه الألوهة في خلقها الكوني من كون وكائنات . وإذا كان لا بد من كلمة تبتغون أن يوجهها الله لكم في هذه المناسبة ، فإنني أدعوه من أعماق قلبي وباسمكم جميعاً أن يقولها هو لكم ، لأنني أخاف دائماً من الخطأ حين اتحدث باسمه أو حتى بوحي منه ".
اختفى الملك لقمان من الفضاء لتختفي معه الهالة النورانية. ولم تمرسوى لحظات حتى توقف كل شيء عن الحركة لتظهرهالة نورانية عظيمة بحجم نجم هائل، ظهرفيها آلاف الألوان الشفافة المدهشة ، انبثق منها صوت هادئ بكل لغات البشرية، حيث سمعه كل بشر بلغتهم . قال:
" أحبتي ! كونوا على قدرألوهيتي السارية في أجسادكم . أحبّوا بعضكم . واعملوا على بناء الحضارة الإنسانية . وتعاونوا على تحقيق قيم الحق والخير والعدل والجمال ، ترتقون إليّ . وتدخلون عالمي . وتذكّروا دائماً أن ألوهيتي السارية في كل كائن منكم هي من يوحّدكم ، وليس اجتهادات مفاهيمكم للألوهة أو أي اجتهادات أخرى ما لم ترق إلى مفاهيم إنسانية خيرانية كتلك التي أتى بها الحبيب لقمان. تفضلوا على مائدتي وتناولوا طعامي وشرابي . هنيئاً مريئاً "
اختفت هالة الله العظيمة التي لم يرالبشرأجمل منها أو مثيلاً لها . وعادت الموسيقى الكونية لتصدح والكائنات تتابع تحليقها ورقصها ورسم تشكيلاتها في الفضاء ليأتي البث عبرالشاسات من أبعد نقطة في الكون وأعمق مكان في محيط.
قبّل الملك لقمان الطفلة عناة وأشار بحركة من يده لتظهر مليارات الحوريات على موائد الله ويقمن بخدمة الناس بما لم يعرفه البشرمن قبل ولم يتمتعوا به من قبل على الإطلاق . سواء من حيث لذة الطعام والشراب أو من حيث جمال الحوريات وطريقة الخدمة التي أذهلت العقول . فما أن يطلب إنسان ما شيئاً حتى تشير الحورية إليه فيطيرإليها لتسكب منه للضيف ومن ثم تتركه ليعود إلى مكانه . وإذا كان سفوداً لخروف يشوى فكان يعود إلى سفوده ليتقلب بهدوء على نار خفيفة . أمّا أكثر الموائد دهشة فكانت ما يبث من أعماق المحيطات لشواء يجري في أعماقها بين آلاف التشكيلات المرجانية المدهشة ، لجن وشياطين ، دون أن يؤثر الماء على النار ودون أن تؤثرالنارعلى الماء أوعلى المحتفلين الذين بدوا وكأنهم لا يجلسون في ماء. رغم وجود آلاف الدلافين والحيتان والأسماك وحوريات البحارالمحلقة من حولهم وفوقهم .
أوشك الفجر أن ينبثق ومليارات البشر والجن والشياطين يعلنون دخولهم في الدين الجديد دين الملك لقمان . دين الله الواحد الساري بطاقته في الكون والكائنات . كما أعلنت آلاف الدول في الكون اعتناق الدين الجديد وكتابة دساتير جديدة تكون فيها النساء مشاركات للرجال مناصفة في الحكم . وأعلنت مئات الدول في الكون توحيد بعضها في دول متحدة . حتى أن بعض الكواكب متعددة الدول أعلنت توحدها في دولة واحدة كما جرى في الكوكب الذي يحتفل فيه الملك لقمان مع النساء ومرافقيه وضيوفه . ونظراً لفرحة الله لما جرى فقد أخرطلوع النهار لمدة عام كامل . ليظل الناس محتفلين طوال هذه المدة دون أن ينعسوا ودون أن يشعروا بالحاجة إلى الراحة .. فقد أمضوا عاما كاملا وهم يرقصون ويأكلون ويشربون ويتحابون .. وكان أغرب وأهم ما جرى على كوكب الأرض أن حاخامات اليهود قاموا بالدخول في الدين الجديد وأعلنوا تخليهم عن دولة يهودية بل وأعلنوا اتحادهم مع الفلسطينيين في دولة علمانية ديمقراطية تحترم حقوق الجميع كمواطنين ، بغض النظرعن انتمائهم العرقي أو المذهبي . فعمت الأفراح سائر المدن والمخيمات وشوهد لأول مرة يهود يرقصون مع عرب فلسطينيين بشكل جماعي حول موائد الألوهة !
****
(21)
فصل الختام في رحلة الملك لقمان السماوية الأولى !
وهو يجلس صامتا متأملاً في ظل صخرة عملاقة في صحراء على كوكب مهجور حيث أمرالمركبة أن تهبط فيها ليخلو إلى نفسه بعض الوقت جاهداً قدرالإمكان الخروج من هموم البشرية ، راح الملك لقمان يتذكر بعض وقائع رحلته الأولى بدءاً من محاولة انتحاره في الصحراء الدمشقية وحفرقبر لنفسه ليعثر على القمقم الذي سجن فيه الملك شمنهورمن قبل الملك سليمان ، مروراً بكوكب الزهرة وتتويجه ملكاً على الجن وزواجه من الملكة نورالسماء ، وبجهنم الإله الطاغية داجون، وانتهاءً بكوكب الأساطير الذي كان الناس يلقون فيه بناتهم للإله النهر حتى لا يغضب ويفيض ليغرقهم . توقف للحظات عند حواره مع رجل المعرفة " شاهل بيل "على كوكب الزهرة، حول الحقيقة والخيال ، حين سأله عما إذا كان يرى أن وجوده والجن على الكوكب حقيقة أم أنه خيال ؟ ليجيبه الآخربما لم يتوقعه " نعم أنتم حقيقة لكن بقدر ما أنتم خيال " وهاهي هذه الأفكار تعود لتراوده ثانية محاولا قدرالإمكان أن يقنع نفسه بأنه حقيقة بقدرما هو خيال ، ليس انطلاقا من رأي رجل المعرفة وحده بل وانطلاقا من فكر صانع شخصيته "محمود شاهين " الذي يرى أن الوجود الحقيقي هو لله وحده ، وما الوجود المتجلّي إلا مجرد وهم أرادت لنا الألوهة أن نراه حقيقة ، وسيظل كذلك إلى أن يأتي يوم يعمّ فيه كمال ما يصبح فيه الوهم حقيقة .
ترى ما الذي ستكون عليه نهايته في هذه الرحلة ولماذا أعاد محمود شاهين خلقه بعد عشرين عاما في عمان وليس في دمشق ويضعه في الحال إياها : اليأس ومحاولة الإنتحار ! فهل انتحر فعلا وتحطم جسده على رصيف البناية التي ألقى نفسه من فوقها، أم أن الشيطان تلقفه وأنقذه فعلا وأن كل ما جرى ويجري معه هو حقيقة ؟ هل سيتحقق له لقاء الله ليسبرأغوارالحقيقة ، وهل مخاطبة الله له في كلمته الكونية بالحبيب حقيقة أم انها مجرد أحلام ؟! حين قررالعودة إلى الأرض ليحيا الشقاء لم يكن يعرف أنه يدخل في الحقيقة النسبية . لم يعد إلى بيته كما تخيل . كذلك لم يصعد إلى السماء ، لكنه دخل في الحقيقة المطلقة :
* ما جرى للأديب لقمان قبل عشرين عاما !
كان بعض الرعاة ينتشرون بقطعانهم على أطراف الصحراء الدمشقية ، حين شاهدوا أسراباً من الطيور المختلفة ، تقدم عبرالفضاء لتحلق على ارتفاع منخفض فوق موقع منبسط في الصحراء. ما أدهش الرعاة هو كثرة الطيور وتنوعها وتآلفها وتحليقها في أسراب منتظمة فوق هذه الرقعة الصحراوية .
كانت النسور تحتل مركز التحليق ، تلاها الصقور والعقبان ، ثم اللقالق فا لقطا والنوارس واليمام ، وقد رسمت في الفضاء مشهداً أخاذاً ..
أخذ الرعاة يتنادون منبهين بعضهم لما يجري ، وما لبثوا أن راحوا يهرعون نحو المكان لمعرفة السبب الذي دعا الطيور إلى التحليق فوق هذا المكان وبهذا الإنتظام الساحر.
حين راح الرعاة يقتربون كانت النسور تهبط لتحلق على ارتفاع منخفض فوق المكان وكأنها تريد أن توفر حماية له ، وهو ما تأكد الرعاة منه حين غدوا على مسافة أمتار من حفرة مستطيلة في المكان ، فقد راحت النسور تهبط أكثر فأكثر. واصل الرعاة تقدمهم ببطء دون أن يحاولوا الهوش على النسور ، لإحساسهم أن ما يجري أمر مهيب ، وأن النسور ربما تكون كائنات مسحورة ، أو مسيّرة من الله ، وأنها قد تؤذيهم إذا ما حاولوا ابعادها.
واصل الرعاة تقدمهم ببطء وتوجس إلى أن غدوا على مسافة أقرب من الحفرة ، لكنها لم تتح لهم رؤية ما بداخلها ، وتخوفوا من التقدم لأن النسور راحت تنقض نحوهم ، وكأنها تحذرهم من التقدم أكثر ، مما دفع الرعاة إلى الإعتقاد بأن الحفرة تحوي فراخ نسر ما ، وأن النسور تذود عنها ، كما يذود أي طائر عن فراخه.
تجرأ أحد الرعاة وتقدم ببطء ضاما يديه إلى صدره ليوحي للنسورأنه مسالم ولن يقوم بما هو مؤذ ، وفعلاً نجح الراعي في التقدم إلى أن وقف على مسافة تتيح له رؤية عمق الحفرة .
كان ثمة رجل ملتح بدا في الأربعينات من عمره يتمدد ميتا على أرض الحفرة ، شابكاً يديه على صدره ، وثمة طيف ابتسامة يرتسم على شفتيه ، ونور ما يشع من وجهه، مضفياً مهابة أخاذة وطمأنينة فريدة على محياه ، فبدا وكأنه ليس ميتاً على الإطلاق. كان يتمدد بكامل ملابسه التي لم تتعفر بالتراب ، رغم عوامل الطبيعة ووجوده داخل حفرة، يبدوأنه هو من حفرها ليموت فيها. ولم يكن قد نزع حذاءه أيضا . وكان هناك مسدس صغير ملقى على صدره إلى جانب يديه المشبوكتين. وثمة خنجرأيضا إلى جانبه. كانت أكوام التراب تحيط بالحفرة، وثمة جمجمة قديمة وقمقم نحاسي عتيق يندثران بين الأكوام .
حاول الراعي مد يده لأخذ القمقم ، فوجىء بالنسر ينقض عليه بشراسة وهو يزعق بصوت مخيف . توقف الراعي وأشار للرعاة أن يتقدموا ببطء وهدوء ليروا.
أحاط الرعاة بالحفرة القبر، وراحوا يتأملون وجه الرجل دون أن يأتوا بأية حركة ، وفيما هم يتأملون وجهه شاهدوا طيف الإبتسامة المرتسم على شفتيه ينفرج بين فينة وأخرى ، لتبدو ابتسامته أكثرانفراجاً ، وكأنه ليس ميتا ، مما جعلهم يوقنون أنهم في حضرة ولي من أولياء الله الصالحين.
لم يعرف الرعاة ماذا يفعلون ، فلا يعقل أن يتركوا الرجل ملقىً هكذا في هذه الحفرة في الصحراء ، وكلما حاولوا الإنحناء قليلا أوالإتيان بأية حركة كانت النسور تنقض عليهم بشراسة ، فلم يكن أمامهم إلا الإنصراف لإخبار سكان قراهم بما شاهدوا .
راح الرعاة يعتلون قمم الجبال والتلال المحيطة بالمكان وينادون الناس في القرى بأعلى أصواتهم ، أن يهرعوا لمشاهدة المعجزة الإلهية.
راح الناس يهرعون من كل صوب من القرى المختلفة ، وفيما كانوا يقتربون شاهدوا ضريحاً ينهض في المكان تعلوه قبة كبيرة ، فيما عادت الطيور تحلق على ارتفاع شاهق نسبيا ، وحين بلغوا الضريح وجدوا أنه أحيط بسور من القضبان الفضية ، وحين حاولوا ملامستها لتقبيلها والتبرك من صاحب الضريح ، فوجئوا بالنسور تنقض عليهم مانعة إياهم من لمسها ، فوقفوا على مسافة منها ، وكان في مقدورهم أن يقرأوا بعض الكتابات التي كتبت على جدران الضريح بخط ذهبي واضح:
"هنا يرقد جسد الرجل الذي عرف الله وقدرا من الحقيقة ، هنا يرقد جسد الأديب الملك لقمان عليه السلام" !!
كما قرأوا بعض العبارات الأخرى التي يبدو أنها من كلماته في الحياة :
" وحين التقينا يا إلهي بعد كل هذا العناء من البحث عنك وجدت نفسي أمام نفسي "
"لا يمكن لكل لغات العالم أن تعبر عن شعوري يا إلهي حين أخبرتني أن لا جهنم لديك ، وأنك
لا تحمل إلا المحبة لمخلوقاتك"
" ابحث عن الله في قلبك وفي نفسك فإن لم تعثرعليه لن تعثر عليه على الإطلاق"
"من شاء منكم أن يتعبد إلى الله فليحبه من كل قلبه ومن أعماق نفسه ، فلا عبادة عند الله أكبر من المحبة التي ينبض بها القلب وتختلج بها لواعج النفس"
"أنا روح الحق ، روح الله الذي لا إله غيره "
"ليس هناك امرأة تملأ حياة رجل ، وليس هناك رجل يملأ حياة امرأة ، فالنفس تواقة دوما إلى الجمال ، والجسد لا يسمو إلا بالمتعة والكمال ، فنوعوا النكاح ، ومارسوا الحب بالتراضي والقبول ولا تحرموا أنفسكم وأجسادكم متعة الحياة فإنكم بذلك تتقربون إلى الله" .
" إن مساءلة الله والتساؤل عنه واجب على البشر ، وإني أقول لك أيها الشاب :
إن فهمك بعض الناس فأنت عبقري ، وإن فهمك معظم الناس فأنت ذكي ، وإن فهمك الناس جميعا فأنت أحمق"
" لا يحصد المرء دائما ما يزرع "
" قد يدخل جمل من ثقب إبرة ، لكن لن يدخل تاجر جشع إلى قلوب الناس "
" الروح هي الحياة السارية في الكائنات ، والفصل بين الحياة والروح مسألة عبثية ، وقد وجدا معا في آن واحد "
إضافة إلى كتابات أخرى كثيرة من عبارات مأثورة قالها الملك لقمان .
*****
وكان الأديب لقمان بعد أن عثرعلى القمقم في القبر الذي حفره لنفسه لينتحر فيه ، راح يتخيل أن جنياً ما سيخرج له منه ، وهذا ما كان ، فاستلقى في القبروأطلق العنان لخياله ليتابع رحلته مع الجني في الكون.
دام تخيله تسعة أيام بلياليها دون أن يذوق أي طعام أو شراب ، ودون أن يشعر بحاجته إليهما ، ودون أن تتمكن وحوش الصحراء من الإقتراب منه ، إلى أن أتم تخيّله في اليوم التاسع ، فاصطفاه الله إلى رحابه . وأسلم الروح !
*****
كان هذا ما جرى للقمان في رحلته الأولى فما الذي سيجري له في رحلته الثانية ؟ وما الذي يريده محمود شاهين من إحيائه ثانية بعد عشرين عاما من انتحاره . هل يصبح ما تخيله لقمان حقيقة ؟ وهل سنتقبل ما جرى له في الرحلة الأولى وما سيجري له في الرحلة الثانية ليرقى إلى مصاف الحقيقة أم أنه سيظل وهما لا يرقى إلى الحد الأدنى من الحقيقة ؟
****
















(22)
الوجود تحقق خيال !
لا يستطيع أحد أن يقتحم خلوة الملك لقمان حين يخلد إلى نفسه إلا الملكة نورالسماء حين تتأكد أنه أمضى من الوقت ما يكفي للتأمل . خاطرته وهي تتمشى منفردة على مسافة أمتارمن المركبة الفضائية: " هل أحضر إليك يا حبيبي؟"
التقطت مخيلة لقمان السؤال التخاطري :
" أجل حبيبتي ، تعالي أظن أنني في حاجة إليك "
آقبلت الملكة منشرحة الصدر تعلو شفتيها ابتسامة ساحرة . طبعت قبلة على خد الملك ليبادلها القبلة بدوره . جلست على الرمل في مواجهة الملك .
- ما حاجتك إلي يا حبيبي ؟
أطرق الملك للحظات قبل أن يسأل :
- هل نحن حقيقة أم خيال ؟
ابتسمت الملكة وقد أدركت أن الأسئلة القديمة عادت لتراود الملك . أجابت بما لم يتوقعه الملك :
- نحن تحقق الخيال !
- لم أفهم !
- إذا كان الوجود نتاج خيال طاقة ما ولتكن إلها فنحن نرى ونلمس تحقق خيال ! حتى تخيّل
ما هو غير مجسد واقعياً، يغدومجسداً، كما أنا الآن مجسّدة مع أنني جنّية !
- لكنك نتاج خيال بشري!
- الخيال البشري لا ينفصل عن الخيال الكوني! كلانا نتاج تحقق خيال واحد !
- ما رأيك بفلسفة شمس الورود ملكة كوكب الجنات ؟
- فلسفة مدهشة رغم خلوّها من الجن والشياطين وحتى الملائكة !
- ما أدهشني فيها هو كون الخالق طاقة سارية في الخلق تحس وتتألم وترى وتسمع !
- تسرعنا في مغادرة هذا الكوكب الذي قطع شوطا مهما في الحضارة .
- لكن تحويل جميع البشر إلى تماثيل بعد الموت سيؤدي في المستقبل إلى ازدحام الكوكب بالتماثيل وفي النهاية لن يبقى هناك مكان لمزيد من التماثيل على مدارأحقاب زمنية . ومن ناحية ثانية ستصبح تربة الأرض فقيرة بالعناصرالغذا ئية لإنتاج مادة وطاقة ! وخلاصة المادة التي تذهب في التربة حسب ما قالت ، قد لا تكفي لإغناء التربة !
- إذا صح رأيك فثمة خطأ في هذه المسألة ينبغي إعادة النظر فيه ، فتربة الأرض تحتاج إلى عناصر تغذيها ، وحرمانها من أجساد الميتين أو من جزء منها ، يعني حرمانها من عناصرغذائية مهمة ، مما قد يؤثر مستقبلا على دورة الحياة وتجددها !
******
كانت حرارة الشمس معتدلة على هذا الكوكب ، ورغم قابليته للحياة عليه إلا أن أحدا لم يقم عليه حتى حينه ، مما أدهش الملك لقمان .
" الغداء يا مولاي " خاطر الملك شمنهورالملك لقمان .
" حسناً أيها الملك ، قادمون "
ونهض ليأخذ بيد الملكة ويعودا إلى المركبة .
*****










(23)
كوكب الحب والجنون والأحلام !
وهوجالس على كنبة محلّقاً في المركبة الفضائية ربما على بعد أكثر من مليارسنة ضوئية عن كوكب الأرض، تمنى الملك لقمان أن يجد كوكباً يشبه نظامه نظام كوكب الجنات أو يتفوق عليه علمياً فقد سئم من كواكب التخلف لكثرة ما شاهد منها وخاصة في رحلته الأولى ، ثم إن مسألة لقاء الخالق بدت له مسألة عبثية لن تتحقق ولا يعرف كيف يمكن أن تتحقق، فإذا كان الخالق حقيقة طاقة سارية في الكون والكائنات فكيف يمكن أن يقابله ؟ هل يجلس ليتحدث إلى هالة من الألوان كما ظهرت في حفل الولائم ؟ وحاول أن يتخيل صورة مغايرة للخالق كأن يكون في شكل إنسان ضخم يجلس على كرسي أكثر ضخامة في أعلى نقطة في الكون ، ويشرف من هناك على إدارة العالم . بدت الفكرة مضحكة له فهي أقرب إلى تصورلإله شرقي! افتقد الملكة التي كان يلجأ إليها في الحالات المعقدة . تمنى أن تكون قد استيقظت من نومها . خاطره الملك شمنهورمعلنا أنهم يحلقون فوق كوكب جميل. أطل الملك من شرفة ليرى كوكباً يزهوبألوان وردية وكأن الكوكب كله عبارة عن حقل ورد .
أشار الملك لقمان إلى قائد المركبة بالهبوط والتحليق فوق مدن الكوكب . جاءت الملكة فيما كانت المركبة تهبط وتحلق . تلقى قائد المركبة رسائل بأكثر من لغة تسأل عن هوية المركبة . أجابهم بأنهم رسل سلام وأن سيد المركبة هو الملك لقمان رسول السلام !
بعد لحظات وردت رسالة ترحب بالملك ومرافقيه وتعلن عن استقباله بشكل رسمي في عاصمة الكوكب وأن طائرات سترافق مركبته وتقودها إلى المطار الذي ستهبط فيه .
لم تمر سوى لحظات حتى وجد الملك لقمان مركبته محاطة بثماني طائرات . طائرتان أمام المركبة وطائرتان خلفها وطائرتان إلى كل جانب من جانبيها .
حلقت الطائرات فوق مدينة كبيرة بدت أبنيتها شاهقة ومنتظمة وفي غاية الجمال . ولاحظ الملك لقمان أن الطائرات تقصدت التحليق فوق المدينة لتجعل الملك ومرافقيه يرون المدينة وليعلم سكان المدينة بوجود ضيف مهم ، كما ليهيأ استقبال يليق بالضيوف الذين استطاعوا الوصول إلى هذا الكوكب ، بل والمجرة نفسها ، فهم لا شك يملكون طاقات غيرعادية .
أخيرا قادت الطائرات المركبة إلى مطار لتهبط مركبة الملك على مدرجه . لاحظ الملك وهويهبط أن سيدة تتقدم جماعة المستقبلين فاستبشر خيراً . كما وقفت على مسافة منهم فرقة موسيقية . ثم آلاف الشباب والشابات حاملي الرايات الملونة وقد وقفوا في صفين متقابلين .
هبطت المركبة الضخمة . نزل الملك لقمان يتبعه مرافقوه . تقدم بضع خطوات ليصافح السيدة الجميلة التي قدمت نفسها على أن اسمها " نسمة الغدير" وأنها رئيسة مجلس قيادة " كوكب الحب " وقدم الملك لقمان نفسه ثم قدم الملكة نورالسماء فيما كانت فرقة الموسيقى تعزف ألحانا فرحة !
قدمت الرئيسة مرافقيها في حفل الإستقبال وقدم الملك لقمان مرافقيه ثم ساروا جميعا بين صفي الشباب والفتيات الذين كانوا يلوحون برايات ملونة . ارتدت الفتيات تنانيرقصيرة زرقاء تكشف أفخاذهن وقمصاناً بيضاً وربطات كحلية. وارتدى الشباب الملابس التي تحوي الألوان نفسها. انتهى الموكب إلى قاعة استقبال ضخمة . جلست الرئيسة ونائبتها والملك والملكة على أرائك منفردة . بعد تبادل كلمات الترحيب للمرة الثانية قدم الملك نفسه بصورة غيرواقعية قائلا :
- أنا الملك لقمان ملك على الإنس والجن في سائرالأمصار والأكوان !
وقاطعته الرئيسة حين فوجئت بالتقديم :
- هذا يعني أنك ملك على كوكبنا أيضا يا جلالة الملك .
- يفترض أن يكون الأمر كذلك رغم أنني لن أتدخل في شؤونكم إلا إذا ما رأيت ضرورة لذلك .
- وماذا يمكن أن تكون الضرورة ؟
- كل ما يتناقض مع مفاهيمي للفكر الإنساني !
- لكن المفاهيم الإنسانية تختلف من أمة إلى أمة !
- ثمة مبادئ عامة أساسية تشترك فيها المفاهيم كلها ، المشكلة في الفهم والتطبيق . أنا في الحقيقة دكتاتورعادل، وحتى الآن لم ترفض أمة عدالة دكتاتوريتي ما عدا كوكب بعيد يدعى كوكب الأرض !
- نحن مثلا كوكب علماني . لا نؤمن بوجود إله وإن كنا نؤمن بوجود طاقة تقوم بعملية الخلق نطلق عليها مجازا اسم إله . فهل هذا الفكر يتناسب مع فكر جلالتك ؟
فوجئ الملك لقمان بأن أفكار سكان الكوكب قريبة من أفكاره إن لم تكن نفسها !
- أنت تتحدثين عمّا يشبه أفكاري سيادتك ، فما أنا إلا تحقق لخيال طاقوي !
فوجئت الرئيسة بإجابة الملك رغم إدراكها أنه لا يمكن أن تتفق الأفكار حول كل شيء وخاصة ما يتعلق منها بالخلق والخالق والغاية من الخلق والموت والحياة والنظم الإجتماعية والسياسية والإقتصادية .
- هل في مقدور جلالتك أن تلخص لي مفاهيمك حول الخلق والخالق والغاية من الخلق ؟
- أفضل أن أسمع مفاهيمكم وحين أرى أنها لا تتفق مع مفاهيمي سأخبرك !
- يمكنك أن تسألني وسأجيب باختصار :
- ما هو الخلق مثلا ؟
- الخلق تحوّلات وتجليات الطاقة والمادة .
- وأين توجد الطاقة والمادة ؟
- الطاقة تسري في الكون والكائنات وتتجلى كمادة في الكون والكائنات .
- ما نوع هذه الطاقة أقصد من حيث قدرتها ؟
- يمكن القول أنها طاقة الطاقات . أي طاقة الخلق التي لا يمكن أن يتم خلق دونها .
- هل هي أزلية ؟
- أجل !
-هل هي مكتملة ؟
- أبدا ليست مكتملة ولا تعرف ما هو الكمال المطلق ومتى تبلغه رغم قدراتها العظيمة !
- وعملية الخلق كيف تتم ؟
- عملية الخلق تكاملية بين الطاقة والمادة ، أي بين الخالق والمخلوق ، فالكائنات تخلق نفسها بنفسها بفعل الطاقة الناجمة عن العناصرالمادية التي توفرت لها وتفاعلها مع الطاقة الكلية السارية في الكون .
صعق الملك لقمان وهو يستمع إلى أفكاره . أضاف مكملا لأفكار الملكة :
- والغاية من الخلق أن يكون كل شيء خالقا بدوره ولذلك لا يمكن فصل الخالق عن المخلوق ، فليس هناك مخلوق لا وجود لدور له في الوجود الكوني . فالوجود بكل ما فيه خالق ومخلوق .
لم تكد الرئيسة تصدق ما تسمع فيما الملك لقمان يتابع :
-المادة والطاقة أزليتان ولا تفنيان . والموت ضرورة لتجديد المادة والطاقة واستمرار الحياة .
والوجود منذ أن كان أصغرجزيئ مادى طاقوي إلى أن أصبح الأكبر الذي يحتوي كل شيئ لا يستطيع أحد تحديد بداية أو نهاية له .
وفوجئ الملك لقمان بالرئيسة تعانقه مقبلة وهي تهتف :
- لا أصدق أنك تحمل فكرنا ! أين كنت مختفياً حتى الآن يا جلالة الملك ؟
- يا سيدتي الحق على من تخيلني فقد أماتني وأحياني بعد عقدين من الزمن حين شعر بحاجته إلي !
- أظن أن البشرية في حاجة إلى أمثال جلالتك لذلك أحياك من جديد !
-هل اكتشفتم عمر كوكبكم ؟
- حسب رأي علمائنا عمر كوكبنا حوالي عشرة مليارات عام . وعمر مجرتنا 35 مليار عام .
- هذه أرقام مذهلة . لا تتناسب وأرقام كوكب الأرض.
أدركت الرئيسة أن الملك وضيوفه في حاجة إلى الراحة وأن هناك الكثيرمما يحتاج إلى التحدث حوله ، خاصة ما يتعلق بالنظام الإجتماعي في الكوكب الذي ألغى المؤسسة الزوجية منذ قرابة ألف عام ، ولا تعرف إن كان الملك لقمان سيوافق على هذا النظام وغيره من النظم الإجتماعية على الكوكب .
- لا بد أنكم في حاجة إلى قسط من الراحة جلالتكم . سنصحبكم إلى قصر الضيافة وسنلتقي مساء على مائدة العشاء. ونتابع أحاديثنا .
- أشكر سيادتك على حسن الضيافة وأؤكد لك أن فرحتي بلقاء أمة مثل أمتكم أكبر من أن يعبر عنها كلام .
*****
(24)
حب بلا شروط وأمهات منجبات !
كانت مفاجأة كل واحد بالآخرلا تصدق . فالملك لقمان فوجئ بفهم " نسمة الغدير" وهي بدورها فوجئت بفهمه للوجود . دعت إلى حفل العشاء الذي أقيم في الهواء الطلق زعماء بلدان الكوكب مبدية فائق حرصها على أن يليق الحفل بمقام الملك لقمان ومرافقيه ، فاختارت أفضل أنواع الأطعمة والمشروبات على الكوكب وأفضل الفرق الموسيقية لتعزف خلال الحفل ، وأجمل فتيات المدينة لخدمة الضيوف . وحرصت أن تجلس إلى جانب الملك فيما جلست الملكة نورالسماء إلى جانبه الآخر. حين التقى الملكة شمس الورود ملكة كوكب الجنات اعتقد أنه لن يجد كوكبا بهذا المستوى من الرقي، وها هو يفاجأ بكوكب الحب والرئيسة نسمة الغدير .
- حدثيني سيادتك عن نظامكم الإجتماعي ؟
- ألغينا المؤسسة الزوجية من المجتمع لثبوت فشلها !
مفاجأة لم يتوقعها الملك لقمان وهو القائل :
" إني أقول لك أيتها المرأة : ليس هناك امرأة تملأ حياة رجل ، وليس هناك رجل يملأ حياة امرأة ، فالنفس تواقة دوما إلى الجمال ، والجسد لا يسمو إلا بالمتعة والكمال ، فنوعوا النكاح ، ومارسوا الحب بالتراضي والقبول ، ولا تحرموا أنفسكم وأجسادكم متعة الحياة ، فإنكم بذلك تتقربون إلى الله "
- لا أكاد أصدق كيف يمكن إلغاء المؤسسة الزوجية ؟
- لم يتطلب الأمرأكثرمن علاقة جنسية حرة !
- دون انجاب أبناء !؟
- من يريد أن ينجب من العلاقة الحرة يمكنه أن ينجب. ويمكنه الإحتفاظ بالمولود ليقوم بتربيته لفترة محددة . لكن معظم الناس يفضلون أن يبعثوا بالمواليد إلى دورالحضانة ليتربوا مع أطفال المجتمع .
- هل نجح هذا النظام لديكم ؟
- إلى الآن هو ناجح نسبياً ونمّى الشعورالجماعي بوحدة المجتمع وتكافله . فلا تستغرب إن وجدت أنّ كل إنسان ينظرإلى أي طفل في المجتمع على أنه ابنه . خاصة وأن لدينا نساء منتخبات في كل بلدة ومدينة وظيفتهن هي الإنجاب من رجال منتخبين ، لإنشاء أجيال متفوقة . نطلق عليهن الأمهات . وجميع الناس يجلّون هؤلاء الأمهات ويحترمونهن لأنهن نذرن أنفسهن للإنجاب وخدمة المجتمع . جرّبنا أشكالا أخرى للتكاثر لكنّا وجدنا أن هذه الطريقة هي الأنجع والأسلم لإنشاء أجيال متفوقة .
-هل هذا يعني أن ثمة نساء يعشن أعمارهن دون حمل وولادة وإنجاب؟
- أجل ! وقد يشكّلن أغلبية !
- أي أنهن يمارسن الجنس من أجل المتعة فقط ؟
- أجل المتعة والحب !
- وهذا الحب لا يدوم العمر كله ؟
- ثمة علاقات تدوم لكنها نادرة جداً . الحب يمر بأكثر من مرحلة في الغالب : مرحلة المراهقة حيث تتنوع علاقات غير مدروسة أو عفوية . مرحلة البلوغ والبحث عن الحبيب أو الصديق المناسب وهذه في العادة تمر بأكثر من شخص . ثم تأتي مرحلة الإستقرار على صديق أو حبيب ، التي قد تدوم لبضعة أعوام في الغالب ، أوالعمر كله . بالتأكيد هناك استثناءات لا تنطبق عليها هذه المراحل ، لكنها لا تشكل قاعدة .
- ماذا يمكن أن تكون هذه الإستثناءات ؟
- في الحقيقة هي كثيرة . ثمة من يرفض الحياة المشتركة بين رجل وأنثى . وثمة رجل يقيم علاقة مع أكثرمن أنثى والعكس أيضا ، أنثى تقيم علاقة مع أكثرمن رجل .
******
تبادل المدعوون الأنخاب وشرعوا في تناول طعام العشاء على وقع أنغام الموسيقى . وقدمت فرقة بالية عرضا راقصاً مدهشاً ، طال التصفيق له حين انتهت الفرقة منه . ثم أقيم حفل ألعاب نارية وألعاب بأشعة الليزرفي السفوح الجبلية المحيطة بالروض الذي أقيم فيه الحفل . فقدمت أشكالا في غاية الجمال مثيرة دهشة الحضور . واستأذن الملك شمنهورالرئيسة في أن يقدّم شيئا من ابداع الأمم الجنية بالمناسبة ، فأبدت سرورها لذلك . لم تمرسوى لحظات حتى أصبح الليل مزداناً بإضاءات مختلفة ساحرة . وشرعت سيول هائلة من المياه الملونة الشفافة في التدفق من أعالي الجبال لتتوقف في الأماكن المحيطة بالروض دون أن يكون هناك سدود لإيقافها. شكلت السيول بحراً معلقاً في السفوح أحاط الروض من كافة الجهات ، راحت حوريات الماء الجنيات يسبحن فيه في أشكال منتظمة ، إضافة إلى مجموعات كثيرة من الدلافين والحيتان والأسماك التي انتظمت في أفواج كثيرة وراحت تجوب الأعماق ، فيما اندفعت كتل مرجانية راحت تحلق في أسراب وتطلق سهاماً نارية ملونة . بدأ جميع الحضور يشعرون أنهم في قلب الأحداث وأنهم يحلقون في أعماق البحرمع الكائنات الأخرى ، ولم يصدقوا أنفسهم حين رأوا الروض كله يغوص بهم وبالموائد في لجة الأعماق ، فراح بعضهم يصرخون ! خاطر الملك لقمان الملك شمنهور صارخا :
- توقف عن هذا الجنون أيها الملك ولا ترعب الناس ، فهم بشروليسوا جناً !
ولا يعرف الناس كيف رأوا الروض ينسل من البحر ليستقرفي مكانه ولتتعالى الأنخاب بصحة الجميع !
*****
(25)
الرحيل إلى الخلود الأبدي في حفل بهيج !
وهو يتجول مع الرئيسة "نسمة الغدير" أصيل اليوم التالي في حدائق قصرالضيافة ، سألها عن نظامهم الإقتصادي على الكوكب فأجابت :
- في الحقيقة لدينا أكثر من نظام اقتصادي ، نحن نحاول أن نفيد من معظم النظم الإقتصادية التي مربها كوكبنا من رأسمالية وإشتراكية وما يتبعها من جمعيات خيرية ومؤسسات تعاونية ومؤسسات مشتركة بين القطاعين العام والخاص . النظام الرأسمالي محدود لأن العمال يأخذون حقهم من الأرباح ولا يكتفون بالأجرة . ثم إننا حدينا من انتشارالعمال الآليين . فلا يوجد مصنع واحد يدار كل العمل فيه من قبل عمال آليين . التطور الصناعي التكنولوجي نعمة ونقمة في الوقت نفسه . بالتأكيد الثراء الفاحش معدوم عندنا خاصة إذا ما ارتبط بشخص واحد . حق العلم والعمل والضمان الصحي والإجتماعي مكفول لكل إنسان من ولادته حتى مماته .
تذكر الملك لقمان الموت الإختياري في كوكب الجنات. سأل الرئيسة :
- مررت بكوكب متطور قضى على الشيخوخة واستطاع صنع كافة أعضاء الجسم بحيث أصبح الموت لدى سكانه اختياريا ، فهل الأمرعندكم كذلك ؟
- لا ! لقد وضعنا حدا أعلى لعمرالإنسان وهو 300 عام ! فتجدد الحياة في حاجة إلى الموت بقدر حاجته إلى الحياة نفسها !
- وماذا حين يصل الإنسان إلى هذا العمر ، كيف يختار طريقة موته ؟
- في الحقيقة يندرأن يرغب إنسان في العيش حتى إكمال أل 300 عام . وحين يقرر أن يرحل إلى العالم الآخريخبرأقرب الناس إليه فيقيمون له حفلاً وداعياً يتناولون فيه ما لذ وطاب من الطعام والشراب. وتعزف فيه الموسيقى وتصدح الأغاني ويقام الرقص بكافة أشكاله . وفي آخر الحفل يختارالإنسان طريقة رحيله كأن يجلس خاشعا أو يستلقي على سريرأو يشرع في الرقص مع محبوبته أو يغني أو يعزف لتعطى له حبة دواء نسميها ( حبة الرحيل الرحيم ) في الوقت الذي تصدح فيه الموسيقى بألحان خاصة يرافقها تراتيل وجودية تنشد الخلود الأبدي بانضمام طاقة جسد من سيرحل إلى طاقة الألوهة السارية في الكون ليكون جزءاً منها ومشاركاً في عملية الخلق بينما تنضم مادة جسده إلى مادة التربة بتحللها وعودتها إلى عناصرها الأولية لتقوم بتغذية التربة وتجديد إخصابها . معظم الناس يفضلون الخشوع وإحاطتهم بتراتيل وجودية يكون الرحيل فيها مؤثراً جداً . في اليوم التالي يقام له حفل تشييع مهيب . يوضع الجسد في كفن أبيض في تابوت يتم دفنه في التراب .
- ألا يشعر الناس بالحزن وهم يرون إلى إنسان يفارق الحياة أمامهم ؟
- ثمة لحظات يختلط فيها الحزن بالفرح يصعب وصفها . المسألة تتعلق بمدى إيمان الإنسان بالفكرالذي يحمله ، كلّما ازداد الإيمان كلما قل الحزن وعم الفرح. فهل هناك ما هو أجمل من أن ينضم الإنسان إلى الألوهة نفسها ويكون خالقا ؟ يكون في كل مكان وخارج حدود المكان ، فلا يحده مكان ولا يحسب عمره بزمان !
مرفي مخيّلة الملك لقمان بعض أبيات شعرالحلاج الصوفي. وتمنى من الرئيسة أن تدعوه إلى حفل وداع من هذا النوع ، فأبدت موافقتها وتابعت :
- كان أجدادنا القدماء يؤمنون بحياة أخروية مع الله نفسه في جنة في السموات أقامها لمن يؤمنون به . ومع ذلك كانوا يحزنون ويبكون بل ويقيمون الحداد على الراحلين ، رغم أنهم ذاهبون للحياة مع الله نفسه وفي نعيمه الذي لا حدود له . وكانوا يعتقدون أن معتقداتهم هي نتاج وحي إلهي وغير قابلة للشك .. ومع ذلك كانوا يتألمون ويبكون.. فإذا كانت هذه هي الحال مع الفكرالإلهي غير القابل للشك ، فما بالك مع الفكرالإنساني الذي أبدعه فلاسفتنا وعلماؤنا والذي لا يرقى إلى حقائق مطلقة ؟! الحياة عزيزة على الإنسان ويبدوأن أي معتقد لن يكون قادراً على جعل فراقها سعيدا .
- ما هي نظرة الناس إلى هذا الفكر ؟
- الإنسان لدينا أصبح مؤمنا بالعلم . وهذا الإعتقاد هو اعتقاد علمي فلسفي كونه يعتمد مبدأ المادة والطاقة . ولم يتوصل علماؤنا إلى ما هوغير ذلك . أي وجود خالق أو إله خارج المادة والطاقة أو قبلهما حسب فكرأجدادنا الذين أوجدوا الخالق أولا . والناس عندنا يعتقدون بصواب هذا الفكر بغض النظر عما إذا كانت عملية الخلق بحد ذاتها تعزى إلى خالق أو ألوهة ، حسب ما يعتقد كثيرون . على أية حال ليس هناك ما يمنع من أن تكون الألوهة في كل شيئ وكل شيء في الألوهة !
- إذا كان الوجود حسب العلم يقوم على قوى أربع في الكون هي : القوة الكهرومغناطيسية . وقوة الجاذبية ، والقوة النووية الشديدة ، والقوة النووية الضعيفة ، فهل طاقة الخلق تتألف من هذه القوى ، أو من غيرها حتى أصبح علماؤكم يطلقون عليها " طاقة الطاقات " أو" الطاقة الخالقة الكليّة "؟
- للأسف جلالتك هذا ما اصطدمت أمامه قوانين الفيزياء حتى الآن . وما هو شبه مؤكد أن هناك قوى كونية غير مكتشفة حتى الآن . كما أنه لا يمكن الجزم بأن القوى الأربع المكتشفة أو إحداها هي القائمة بعملية الخلق . فحسب نظريات حديثة أن هناك قوّة ذات جوهرغير مادي حسب تعريف المادة . وهذا يعني أن العلم لم يعرف المادة تمام المعرفة حتى الآن ، أو أن هناك مادة ذات جوهرغيرمادي فعلا يحتاج العلم إلى اكتشافها! على أية حال يظل اعتقادنا بأن الإنسان في حاجة إلى الإيمان الإنساني المنطقي الأقرب إلى العلم منه إلا الخرافات والأساطير . إيمان يعلّي من إنسانية الإنسان ويسمو بها إلى مقامات سامية عليا ، وهذا ما فعلناه ونفعله .
- هل هناك من يعتبرهذا الفكر إلحاداً ؟
- كان ذلك قبل دهورلكن ليس الآن . الجميع يؤمنون بأن الوجود واحد وليس وجودين وإن تعددت أشكال الموجودات . وأن الإعتقاد بوحدة الوجود هو إيمان وليس إلحاداً.
بدا الملك لقمان مرتاحاً لهذه الإجابة خاصة وأن كثيرين كانوا يعتبرونه ملحداً !
أشارت الرئيسة إلى مقعد تحت عريشة لتجلس هي والملك عليه . وما أن جلسا حتى راح يشكرها على هذا الحوار الممتع . وأعلن عن إقامة حفل عشاء على شرف الرئيسة وأعوانها في الكوكب . ويبدو أن الملك لن يغادرهذا الكوكب على عجل كما فعل في الكواكب الأخرى ، خاصة وأنه وجد فيه بعض ضالته .
***
(26)
روض شمنهوري يفوق الخيال!
أشارالملك لقمان إلى الملك شمنهورأن يقيم روضا فسيحا لإقامة حفل العشاء . فما كان منه إلا أن أقام روضاً شبيهاً بذاك الذي أقامه لحفل تتويج وزواج الملك لقمان في رحلته الأولى . اختار له مكاناً منعزلاً وأقامه على قواعد من أعمدة رخامية ثابتة وأصعد إليه العديد من الأدراج المتحركة ، وأفرد فيه ملايين الموائد التي حفلت بكافة أنواع المقبّلات والخضار والفواكه والخمورالمختلفة والشموع المضاءة والورود التي وضعت في مزهريات ، فيما كانت ملايين الخراف والظباء والأسماك والحجل والإوزتشوى على سفافيد انتشرت في كافة أنحاء الروض ، وقد أحاط الموائد مئات الآلاف من بنات الجن الفاتنات . وما أن بدأ المدعوون بالوفود حتى صدحت من كافة أرجاء الروض موسيقى كونية راح صداها يتردد من كل مكان.
وقف الملك لقمان والملكة نورالسماء في استقبال" نسمة الغدير" رئيسة كوكب الحب وأعضاء مجلس الرئاسة وزعماء بلدان الكوكب وصديقاتهم وزوجاتهم وملوك وملكات الجن. وقد استغرق الإستقبال أكثر من ساعة . وقد فتحت أبواب الروض لملايين من المواطنين من الإنس والجن لحضور حفل العشاء.
جلس الملك بين الملكة نورالسماء والرئيسة نسمة الغدير التي بدت مندهشة من هذا العالم، ولحجم الروض الذي أوجده الجن خلال دقائق معدودة ، فلم تعد تعرف ما إذا كانت في حلم أم في واقع . وحرص الملك لقمان أن يكون على مائدته جميع زعماء كوكب الحب !
رفعت الأنخاب وقرعت الكؤوس بالكؤوس وتلألأت أضواء أخاذة في فضاء الروض ، وصدحت الموسيقى بألحان فرحة راحت مئات فرق الفنون ترقص على أنغامها معتلية العديد من المسارح التي عمت الروض .
هتفت الرئيسة :
- أظن أنه مازال لدى جلالتك بعض الأسئلة عن كوكبنا .
- في الحقيقة لدي الكثير من الأسئلة ولا أريد أن أثقل عليك بها خاصة ونحن على مائدة عشاء .
- الليل طويل وفي مقدورنا أن نتحدث ونأكل وحتى نرقص .
- ما يحيّرني هو تمكنكم من توحيد دول الكوكب على فكرواحد .
- الصراعات الطائفية العمياء حول الأديان المختلفة أزهقت أرواح الملايين من البشر وكان لا بد من فكر منقذ. فكر يوحد ولا يفرق .
- هل كان لديكم عقائد كثيرة ؟
- بالآلاف !!
- وهل كانت كل طائفة ترى أن دينها هو الصحيح وأن على الآخرين أن يتبعوه وإلا اعتبروا كفاراً يجوز قتلهم ؟
- أجل معظمها كان كذلك .
- وكم استغرق الخروج من حالة التمزق هذه ؟
- قرابة ألفي عام . عانت الشعوب فيها من المصائب والويلات .
- كم مرعلى نظامكم الحالي ؟
- قرابة ألف وخمسمائة عام .
- كوكب الأرض الذي أنتمي إليه ما يزال يعيش تحت وطأة تعدد الديانات . وربما ليس هناك مشكلة كبيرة في التعدد . المشكلة تكمن في التعصب وكره الآخرالذي لا يتبع دينه ! وهذا الكوكب يعيش هذه الصراعات من آلاف السنين ، حتى بين أتباع الدين نفسه الذي تعددت مذاهبه. أظن أن مشكلتنا أعقد من المشاكل التي مررتم بها . الأسطورة الدينية عندنا أصبحت جزءاً من مقومات الشخصية لا تقبل أي فكر يخالف قناعاتها .
نهض مئات الآلاف إلى الرقص على أنغام موسيقى رومانسية . طلبت الرئيسة الملك لقمان إلى الرقص فوافق ، وبدت الملكة نورالسماء متكدرة بعض الشيء والملك يكاد أن لا يتحدث معها عن أي موضوع ،ويعطي الوقت كله للرئيسة . تنبّه الملك للأمرفأشار إليها بالنهوض . ضمّها مع الرئيسة إلى حضنه وراح يراقصهما معاً ...
وهم يعودون إلى الجلوس وتناول الطعام سأل الملك الرئيسة :
- لم تخبريني عن عمرك وآمل أن لا تكوني قد اقتربت من رقم الثلاثمائة ، الحد الأعلى للعمرعندكم !
- للأسف لم يبق لي إلا ثلاث سنين لأكمل الرقم ثلاثمائة .
لم يصدق الملك لقمان ما سمعه . فالرئيسة تبدو وكأنها في العقد الرابع من العمر.
- يا إلهي ! هذا يعني أنك سترحلين إلى السماء قريباً !
- أجل ! موعدي مع السماء قد يحين قريباً !
- هل ستصحبيننا غداً إلى حفل رحيل ؟ أريد أن أرى الحالة وأتعايش معها .
- سيكون لك ما تريد أيها الملك !
- هل من الممكن أن أسألك عن الحب في حياتك ؟
- أحببت ثمانية رجال خلال سني عمري . وأنجبت ابناً واحداً من أحدهم . حاليا ليس لدي صديق .
انطلقت أسهم نارية في كافة أرجاء الروض رافقها موسيقى كونية راحت الأسهم ترقص على انغامها .
هتفت الرئيسة :
- لا أكاد أصدق نفسي فلم أعد أعرف ما إذا كنت في عالم وهمي أم حقيقي.
- في عالم الجن يصبح الوهم حقيقة !
- يبدو أن الأمر كذلك .
****


(27)
" نسمة الغدير" ترحل إلى السماء!
دون أن يعلم الملك لقمان قامت الرئيسة نسمة الغدير بترتيب الروض بمساعدة الملك شمنهورفأخلت منتصف الروض من المقاعد والموائد وعملت منه ساحة كبيرة للرقص أحاطتها بموائد وضع خلفها صف واحد من الكراسي في اتجاه الساحة . وجعلت خلف المقاعد فسحة أخرى دائرية يمكن الرقص فيها ، ثم صف موائد ففسحة أخرى فموائد وهكذا إلا أن ملأت الروض بصالات دائرية وموائد في اتجاه واحد هو الساحة الرئيسة. وكان كل صف موائد يعلو ما سبقه مع مساحة للرقص أمامه ، ليتسنى لجميع الحضور المشاهدة الجيدة .
أشرفت الملكة نوالسماء على تهيئة موائد الطعام والخمورفلم تترك شيئا شهيا إلا وأحضرته ، بما في ذلك الجوزواللوزوالفستق الحلبي والكاجو .. وأحضرت أجمل الحوريّات الجنّيّات للخدمة. بدأت الوفود بالتوافد محتلّة كافة الصفوف ما عدا الصف الأول الذي ترك لكبارالمدعوين .
كان الجميع يعلمون أن الحفل حفل رحيل إلى الخلود دون أن يعرفوا من هوالراحل، وإن كانوا يعتقدون أنه شخصية مهمة لحجم المكان الذي سيقام فيه الحفل وطريقة إعداده.
حرصت الرئيسة على اصطحاب الملك لقمان من قصرالضيافة إلى الروض . و قد بات كل منهما يكن محبة كبيرة للآخر. كانت موسيقى روحانية هادئة يرافقها لحن ناي شجي تنبعث من كافة أرجاء الروض .. وظهرفي وسط الساحة والساحات الدائرية المحيطة بالموائد فرق رقص من الفتيات والشباب مرتديي الفساتين والقمصان البيض ، وشرعوا في رقص روحاني خفيف رافق الموسيقى.
كان الملك لقمان يجلس بين الملكة نورالسماء والرئيسة نسمة الغديركعادته منذ أن قدم إلى هذا الكوكب. هتف إلى الرئيسة :
- لم تخبريني سيادتك عن المحتفى به ومتى سيحضر ؟
ترددت الرئيسة في الإجابة . لم تشأ أن تصدم الملك . تود تسريب الخبر شيئا فشيئا ليتقبل وقعه على نفسه.
- هو أحد كبارالمسؤولين في الكوكب وسيأتي في وقت لا حق !
غير أن الملك لقمان أدرك بنباهته أن الرئيسة تخفي عنه الحقيقة ، فإذا كان هناك مسؤول كبيرسيرحل فهل يعقل أن لا يتم حجزمكان له . لقد امتلأت كافة الأماكن بالناس ولم يبق مكان له !
- يبدو أنك لا تقولين الحقيقة سيادتك !
- أؤكد لك أنه مسؤول كبير !
- وهو موجود بيننا لكنك تؤجلين الإفصاح عنه !
ولم تجد الرئيسة بداً من القول :
- وجود جلالتك في ضيافته أضفى سعادة كبيرة على نفسه ، بحيث لم يعش فرحاً أجمل من هذا الفرح في حياته ، فقرر أن يرحل عن الدنيا بحضورك ولتكون أول وآخر من يودّعه في عالم الدنيا !
بدأت الدهشة تعتري وجه الملك لقمان وهو يحدق وينصت إلى الرئيسة بكل جوارحه ، وما أن هتفت " إنه من يجلس إلى جانب جلالتك أيها الملك "حتى شعرأنه تجمّد للحظات وهو يحدق في وجه الرئيسة ،وما لبث أن ضم رأسها إلى عنقه ملقياً رأسه عليه ، دون أن يعرف ما يمكن أن يقوله لها . كان كثيرون ينظرون دون أن يعرفوا ماذا يجرى بين الملك والرئيسة . وترددت في مخيلة الملك لقمان فقرات من أشعاره الروحانية ، ما لبث أن راح يهمس بها للرئيسة:
..عشق الأحبة متبادل
بنبض القلوب
وآهات الروح
ورعشة الجسد
لا يكتمل الحبيب إلا بالحبيب
فلا اكتمال بحب منفرد
سعي الخلائق إلى الكمال
بسعي الخالق يتحد
فإما كمال يعم الخليقة
وإما انتهاء إلى الأبد
****
ثم وجد نفسه يردد المقطع الأخير في القصيدة دون أن يفلت رأس الرئيسة :
..فكلّ كائنٍ كان فيّ
وفي كلِّ كائنٍ كنتُ
فأنا الكينونةةُ دون حد
وآفاقي لا تحد
فليس للحدّ منّيّ حدٌ
ولا حد حيث كنت
أنا الله أل بلا حد
لا غنىً للخليقة عنّي
ولا غنىً لي عن الخليقة
فنحن الواحد في الكلّ
والكلُّ في الواحد يتحد
*****
رفع الملك رأس الرئيسة عن عنقه وحدق في وجهها وما لبث أن بادلها قبلة عميقة وعاد ليضم رأسها وهو يدعو الله في قرارة نفسه أن يعينه على مواجهة هذا الإختبار مع فكره ، حيث ولأول مرة يجد نفسه في قلب فكره الفلسفي الروحاني وقد تجسد في فعل دنيوي ينطوي على بعد أخروي ، إذ يفترض أن الرئيسة تقدم على فعل ما آمن ويؤمن هو به .
كان الروض قد ضج بالتصفيق الحاد والملك يقبّل الرئيسة . وما أن توقف التصفيق حتى استأذنت الرئيسة الملك لتلقي كلمة وداع لجماهيرالكوكب .
ما أن وقفت الرئيسة على المنصة حتى نهض الحضور جميعاً وشرعوا في التصفيق.
" أحبتي أبناء كوكب الحب ! أقف أمامكم في هذه اللحظات ، لا لأعدد المنجزات الحضارية التي حققها كوكبنا ، بل لأرسل لكل واحدة وواحد منكم قبلات الوداع ، حيث قررت أن أغادرالدنيا لأذهب بعيداً في الخالد المطلق الذي لا يموت . ولأتحد معه إلى الأبد. فلا خلود إلا للمطلق . وثقوا أيها الأحبة أنني سأكون معكم دائما وأبداً. وإني لأوصيكم أيها الأحبة بتعميق أواصرالمحبة التي حققها كوكبنا عبرقرون وقرون . لأنه لا سبيل أمامنا غيرها . كما وأدعوكم للعمل على استيعاب أبعاد فكرنا الروحاني وتعميقه بل وتجديده إن استطعتم . وثقوا أن أي فكر يقوم على المحبة كإحدى غايات الخلق سيكتب له البقاء إلى الأبد . وأدعوكم الآن إلى الفرح والإبتهاج وتناول الطعام والشراب .
شرع الحضورفي التصفيق . وما أن جلست الرئيسة حتى شرعوا في تناول الطعام والشراب فيما راحت موسيقى فرحة راقصة تصدح من كافة أرجاء الكون ، شرع مئات الآلاف في الرقص على ايقاعها .
أقدم الملك لقمان على خطوة كونية بأن جعل الحفل منقولاً في كافة أرجاء الكون ، وكان يبث عبر شاشات ضخمة انتشرت في كل بلد وفي أي مكان .
فوجئ الجميع بنهوض الملك لقمان ووقوفه في منتصف الساحة وهو يحرك يديه إيقاعياً وكأنه قائد اوركسترا لتنبعث موسيقى كونية روحانية ترافق وقع حركة يديه ، ولتظهر حوله فرقة رقص صوفي بلباس أبيض أخاذ ، ضمت مئات الفتيات ومئات الشباب من أبناء الجن . وراحت ترقص ببطء مرافقة أيقاع الموسيقى . وحين هتف الملك لقمان منشدا :
"يا إلهي يا حبيبي ويا سندي .. عليك يوم الحق معتمدي !"
حتى ضج الروض بالتصفيق وشرع الناس في الرقص الروحاني .
فيما شرع الملك لقمان في الغناء وهو يدورعلى نفسه قدرالإمكان ونهضت الملكة نورالسماء والرئيسة ( نسمة الغدير) وأستير ونسمة وشرعن يرقصن من حوله مع الفرقة . ردد الملك المقطع السابق عدة مرات كان يجدد في ترديده كل مرة إلى أن توقف للحظات ثم هتف مستذكرا صوفية الحلاج:
" رأيت ربي بعين قلبي .. فقلت من أنت ؟ قال أنت ! "
وراح الملك يترنّم بالكلمات فيما شرع الآلاف يرددون وراءه :
( را را رأيت )
ردد آلاف غناء( رارا رأيت )
( رأيت رب----ي بيعاين قلبي )
...............
( ف ف فقلت )
...........
( من أنت ؟)
.........
( قال أنت !)
التمعت بروق في الفضاء عابرة الكون من أقصاه إلى أقصاه راسمة خطوطا ملونة متعرجة تذهل الأبصار , فيما تردد من أرجاء الكون إيقاع طبول عملاقة وألحان صارخة راحت تصدح في أرجاء السماء .
......
" فليس للأين منك أينٌ
ولا أينٌ حيث أنتَ "
رددت جوقة مع الجمهور :
" ولا أين حيث أنت "
فيما الملك يتابع وقد أخذ يسارع من حركته ويدخل في الحالة الصوفية الروحانية والكون كل الكون يضج بالصخب فيما الناس يضجون بما يشبه الجنون وكأنهم جميعا يودون الدخول في المطلق والبقاء في الألوهة ! ولم يستطع الملك لقمان أن يداري دموعه وهو يهتف منشدا :
"أنت الذي حزتَ كل أينٍ
بنحو لا أينَ فأين أنتَ ؟"
تردد ت الأصوات من كافة الأرجاء :
( فأين أنت ؟)
وكأنها لحظة اختلاط للإيمان المطلق بالإلحاد المطلق ! ولتبدو السماء بدورها وقد اصطخبت بإيقاعات الطبول وما يشبه هزيم الرعود .
"وليس للوهم منك وهمٌ
فيعلم الوهم أين أنت"
"وجزت حدَّ الدّنوِ حتى
لم يعلم الأينُ أين أنتَ"
"ففي بقائي ولا بقائي
وفي فنائي وجدّتَ أنتَ "
عم الصخب والتوحد بالوجود كافة أرجاء الكون وليس الروض فحسب . وتقدمت فتاة من وسط ساحة الرقص تحمل طبقاً فرش عليه منديل أبيض وضعت عليه العلبة التي تحوي حبة الرحيل الرحيم وكأس ماء .
أشار الملك لقمان بيديه موحياً بحركات بطيئة لتتقدم الفتاة منه وليأخذ العلبة ويفتحها ويقدمها نحو الرئيسة لتأخذ الحبّة . مدت الرئيسة يدها وأخذت الحبة لتضعها في فمها وتتبعها بجرعة من كأس الماء ، ثم تلقي نفسها في أحضان الملك لقمان الذي راح يشير بيديه إلى الموسيقى لترتفع ولتصدح بأعلى ما في مقدورها .
"في محوِ اسمي ورسمِ جسمي
سألتُ عنّي فقلتَ: أنتَ"
"أشار سرّي إليك حتى
فنيتَ عنّي فقلتُ: أنتَ "
"وغاب عنّي حفيظُ قلبي
عرفتَ سري فأينَ أنت"
"أنت حياتي وسرُّ قلبي
فحيثما كنتُ كنتَ أنتَ "
"أحطتُ علماً بكلّ شيءٍ
فكلُّ شيء أراه أنت "
"فمُن بالعفو يا إلهي
فليس أرجو سواكَ أنتَ"
*******
اصطخبت السماء والكون والروض بألحان لم يسمع مثيل لها من قبل فيما كان الملك لقمان يحتوي الرئيسة إلى حضنه ويدوربها راقصا لتلفظ أنفاسها الأخيرة بين يديه .
مدد جسد الرئيسة على منصة مرتفعة ودام الإحتفال حتى الصباح ، حيث شيعت الرئيسة " نسمة الغدير" في موكب مهيب إلى مثوى جسدها الأخير، شارك فيه الإنس والجن بقيادة الملك لقمان والملكة نور السماء . وعشرات فرق الموسيقى وفرق الكشافة وفرق الفرسان . وبدت مشاركة السماء أيضاً في موكب التشييع حين ظهرت في فضاء الموكب غيوم في أشكال بشرية منتظمة كان يرافقها موسيقى جنائزية هادئة .
ما أن ووري الجثمان الثرى على أنغام الموسيقى حتى ودع الملك لقمان نائب الرئيسة الراحلة وأعضاء مجلس الرئاسة وتابع رحلته الكونية في الفضاء ..
*****




(28)
الملك لقمان في كوكب الملحدين !
لم يصدق الملك لقمان نفسه حين وجد أن مركبته تحلق في سماء كوكب للملحدين . لم تكن المشكلة في وجود ملحدين في السماء بل في وجود كوكب بأكمله جميع سكانه منهم . أمريكاد أن لا يصدق ، فأن يسود الإلحاد على كوكب ما ، قد يعني ذلك الذهاب في المطلق المجهول!
تلقّى رسالة ترحيب من سيدة تحكم البلاد ، حين أعلن عن هويته كرسول محبة وسلام . هبط في مطار المدينة العاصمة لتستقبله مجموعة من المسؤولين على رأسهم السيدة التي أطلقت على نفسها " أمنية العقل "
فتيات جميلات قمن بتقديم الورود للملك ومرافقيه ، وعزفت الموسيقى لحن الكوكب . وتم نقل الملك ومرافقيه إلى قصر للضيافة عبر مركبات تسير بالطاقة .
في صالة قصرالضيافة قدّم عصيرالفواكه للضيوف وسط ترحيب السيدة أمنية العقل التي أكدت أنها سمعت برسالة الملك لقمان وأنه سبق لها وأن رأته حين كانت تتم السيطرة على أجهزة الإتصالات المختلفة . وأنهم يدرسون هذه الظاهرة الخارقة لما هوعقل بشري. وهنا علق الملك لقمان قائلا :
- هل يعني هذا أنكم تفكّرون في أن تكون هذه القوة قوة فوق طبيعية ، كأن تكون قوة إلهية مثلا ؟
- ليس إلى هذا الحد فاعتقادنا بعدم وجود إله أوآلهة وراء الخلق مسألة ليست قابلة للشك !
- ألا يعني هذا توقف العقل على فكر محدد وانغلاقه أمام أي فكرآخر مختلف ، ليلتقي بذلك مع الفكر الديني الذي ينغلق على فهم محدد للدين ؟
- بالتأكيد لا إذ يمكن أن تكون قوى طبيعية وراء المسألة وليست قوى خارقة للطبيعة .
- وهذا ما قد يرقى إلى اعتبارهذه القوى الطبيعية قوى إلهية ؟!
- أبداً ! لن نعتبرها كذلك !
- ولو مجازاً ؟!
- المجاز يظل مجازاً لا يرقى إلى حقيقة مطلقة !
- وهل هناك حقيقة مطلقة حسب رأي سيادتك ؟
- إذا كان هناك حقيقة مطلقة فإن أحداً لم يعرفها بعد . والحقائق تظل نسبية في ما يتعلق بحقيقة الحقائق ، الوجود !
- يبدوأن الإختلاف بين مفهومينا بسيط جدا !
- كيف جلالتك ؟
- قد يتلخص الأمر في إمكانية مجازيّة الألوهة !
- لم أفهم جلالتك !
- نحن نفهم الألوهة مجازياً على أنها الطاقة السارية في الكون والتي لا يمكن للخلق أن يتم دونها. وأظن أنكم تحملون الفكر نفسه لكن دون إضفاء الألوهة عليها ولو بشكل مجازي .
- هذا صحيح . واضح جلالتك أنكم تفهموننا بشكل جيد ! فلا نعتقد بوجود شيء خارج المادة والطاقة .
- ما رأي سيادتك بمذهب وحدة الوجود الحديث !
- أعرف أنّه مذهب جلالتكم وقد سمعنا به بل وأعجبنا ، فالوجود واحد وليس وجودين ، خالق ومخلوق . فالجميع حسب رأي جلالتكم خالقون ومخلوقون، وليس في الإمكان فصل الخالق عن المخلوق أو العكس، تماما كما أنه لا يمكن فصل المادة عن الطاقة أوالطاقة عن المادة . المشكلة في طرح جلالتكم أنه يقبل التعبيرالمجازي أن يكون الكل آلهة أوالكل إله والإله هو الكل . وهذا ما عبرعنه الحلاج بقوله " أحطت علماّ بكل شيء / فكل شييءٍ أراه أنت " إن المسألة هنا تتجاوزالمجاز لتغدوالألوهة واقعا يجسده الوجود بشكليه المادي والطاقوي ! وهذا ما نختلف حوله . فلا وجود للألوهة أوالله في قاموسنا الفلسفي !
- أشكر سيادتك لهذا الفهم العميق للفارق البسيط بين مفهومينا . لكن ماذا لو قال ملحد : " أنا الله والله أنا أو نحن الله والله نحن "
- سيدخل في المجاز في هذه الحال ، أو الإيمان الوجودي إن شئت!
- هل في الإمكان القول سيادتك، إنّكم تعتقدون بوحدة الوجود إنما دون إضفاء الألوهة عليها .
- هذا صحيح !
- وماذا لو قلنا إنّ الوجود( الطبيعة ) هو الخالق !
- كلام سليم شريطة أن لا يأخذ معنىً دينياً، ففي هذه الحال قد يخرج أحدهم علينا بتشاريع دينية وعبادات قد لا يتقبلها العقل، مثل التي كانت سائدة لدينا من قبل . كان لدينا دين يتطلب الصلاة لإله دكتاتورعشر مرّات في اليوم . ومن لا يصلّي فمصيره الجحيم ! كنّا نهدر وقتنا في الصلاة والتحضير لها ، دون العمل !
- وكيف حققتم هذه المعجزة على الكوكب . هل لك أن تقدمي لي ملخصاً عما جرى؟
- كنا أكثر من مائتي دولة ولدينا آلاف الأديان والمذاهب ، لكن أكثر هذه الأديان وحشية كان الدين الذي يقتل الآخرين لعدم إيمانهم به . كثر القتل ونشبت عشرات الحروب . إلى أن بدأت تظهر ردود فعل على الأديان كلها . وكان لا بد من فكر فلسفي يحمل مفهوماً مختلفاً للوجود والغاية منه ، وخاصة مفهوم العبودية للآلهة حسب بعض المفاهيم الدينية التي كانت سائدة . فلم يعد كثيرون يتقبلون هذا الفكر، مما نتج عنه اتحاد دول غير دينية في مواجهة دول دينية .
الإنتصارات المتلاحقة التي حققتها الدول اللادينية على الدول الدينية أدت إلى انضمام المزيد من الدول إلى الدول اللادينية . إلى أن اضطرت جميع الأمم إلى تبني اللادينية أوالإلحاد أوالربوبية .
- ما المقصود بالربوبية ؟
- هي الإيمان بوجود رب لكن أحدأ لم يعرف طبيعته وجوهره بعد ! هذا المفهوم شبه منقرض حالياً.
لقد دفعت شعوبنا ثمنا باهظاً لتحررها من الدين ، أكثر من مائة مليون إنسان دفعوا حياتهم ثمنا للحرية !
لم يصدق الملك لقمان أن يكون الثمن باهظاً إلى هذا الحد. أطرق متأملاً في كلام الرئيسة التي كانت ما تزال شابة وجميلة ، وبدت سعيدة بلقائه . هتف بعد لحظات صمت :
- يسعدني التعرف إليك ويسعدني أن أحط على كوكب يحمل أفكاراً مختلفة غايتها الرقي بالحضارة الإنسانية ، التي رزحت آلاف الأعوام تحت نيرالتخلف والحقد الأعمى . يبدو أنه سيكون هناك حوارات كثيرة بيننا فأنا أطمح في أن أفيد من تجربتكم العظيمة .
أبدت الرئيسة اعجابها بوجهة نظر الملك وهتفت :
- أهلا بجلالتكم في كوكبنا ، وكم يسعدنا أن إنساناً على مستوى ثقافتكم الرفيعة يحط على كوكبنا .
ونهضت داعية الملك ومرافقيه إلى تناول طعام الغداء على مائدتها .
*****









(29)
الوجود بين منطق العقل ومنطق الأسطورة !
رغم أن الوقائع تجري في عالم متخيل يختلط فيه الواقع بالخيال إلا أن ذلك لا يعني أن الملكة نورالسماء لم تعد تكترث لكل ما يجري . فالملك لقمان يكاد أن يقع في غرام الزعيمات الإنسيات ، بل يبدو أنه وقع وانتهى الأمر، فلم يعد يغازلها كما في رحلته الأولى وإقدامه على ممارسة الحب أصبح نادراً، مرة في الأسبوع أو في العشرة أيام . ومن سوء حظها أن رحلته تقوده إلى كواكب يحكمها نساء جميلات . ألقت نظرة من شرفة الجناح الذي يقيمان فيه في قصرالضيافة في عاصمة كوكب الملحدين لترى الملك يتجوّل مع "أمنية العقل " وهو لا يتوقف عن الحديث مشيراً بيديه وكأنه يود إقناع أمنية العقل بألوهيّة الوجود !
والحق أن الملكة لم تقارب الحقيقة في بعض ما فكرت فيه . فالملك لقمان بعد أن غدا رجلاً مسنّاً لم تعد متع الدنيا تثيراهتمامه، كما أن طاقته الجنسية أصبحت محدودة وضعيفة ، وأصبح جلّ همه هو معرفة القدرالأكبرمن الحقيقة الوجودية وإصلاح العالم إلى ما هو أجمل وأرقى وأكثر عدالة .
بدت الرئيسة " أمنية العقل " متشددة في رأيها الحاسم بعدم وجود إله رغم إدراكها أن الملك لقمان وضع مفهوم الألوهة إن لم يكن في عمق الفكرالفلسفي المنطقي فعلى حافته على الأقل ، بحيث غدا الإيمان شبيهاً بالإلحاد إلى حد كبير . قالت مخاطبة الملك :
- هل تعتقد جلالتك وحسب مفهومك أن الطاقة السارية في الكون والمتجلية في المادة تعتبر نفسها إلهاً أو ألوهة أم أن البشرهم من ينظرون إليها كذلك ؟
- الإجابة الحاسمة ليست سهلة سيدتي فما يفكر فيه البشر يفترض أن يكون بفعل الطاقة نفسها ، فإذا كانت الطاقة ألوهة فإن ما ينتج عنها هوألوهي ، وإذا كانت طاقة خالقة لكنها غيرألوهية فإن ما ينتج عنها غير ألوهي ، وبالتالي هو نتاج عقل بشري بفعل طاقة خالقة سارية غير ألوهيّة . أي أن مفردة الله والألوهة تصبح في هذه الحال مفردة لغوية اخترعها البشر حسب لغاتهم للتعبيرعن الطاقة أوالقدرة القائمة بالخلق ، دون أن تعتبر الطاقة نفسها إلهاً. وكي أوضح ذلك أكثر لك ، يمكن طرح السؤال على ما نتكلم به الآن أنا وأنت ، فهل هو كلام إلهي كون وجودنا لا ينفصل عن الوجود إذا كان إلهياً أم أنه كلام غيرإلهي (أي بشري) كوننا لسنا آلهة وكون الوجود لا يعتبر نفسه إلهاً !
بدا الحوار للسيدة أمنية يأخذ منحى فلسفيا معقدا .هتفت متسائلة :
- في هذه الحال أنت تضع فهمك الفلسفي في دائرة الشك ، بين وجود ألوهة وعدم وجود.
- هذا صحيح . فليس هناك فكر خارج دائرة الشك حسب فهمي حتى الفكر الإلحادي ليس في الإمكان القول أنه جاءنا بالحقائق المطلقة . ويمكن النظر في المسألة من زاوية أخرى. فإذا كانت الألوهة تمثل في الوجود كلّه من مادة وطاقة ، فإنه لا يصح لكائن فيه أن يرى نفسه إلهاَ ، وحتى لا يصح لمجموعة كائنات أو أكوان أن ترى الألوهة في ذاتها . ما يصح أنها جزء يسير جداً من ذات ألوهية شاملة وكونية . وبناء على ذلك أنا وأنت لسنا آلهة وإن كانت الألوهة تسري بطاقتها في جسدينا .
- أصبحت المسألة أكثر وضوحاً الآن وكأن جلالتك تقول أنه لا يصح لعضوفي كائن أن يقول أنا الكائن ، كأن تقول يد إنسان أنا الإنسان ! الإنسان بكامل أعضائه هو ما يشكل الإنسان . والألوهة إذا كان ثمة ألوهة لا يمكن إلا أن تكون بوجودها كلّه وليس جزءاً منه .
- وحتى الإنسان بكامل أعضائه لا يمثل الإنسانية كلها فما بالك بالألوهة ؟
- ما أعرفه عن فكر جلالتك أنك تعتبرأن الخلق والخالق لم يكتملا بعد . هذه المسألة تشير إلى نظرية التطور وهي تلتقي مع فكرنا ، فهل توضحها لي لو سمحت !
- الكمال المطلق ( إن كان هناك كمال مطلق ) لا يعرف أحد ما هو ، العلم أثبت لنا أن الكون وجد من أكثر من أربعة عشر مليار سنة وهذا يشير إلى أن عملية الخلق أخذت زمناً مديداً حتى وصلت إلى ما وصلت إليه . وبالتأكيد لم تتم بفعل أمر إلهي ليكن كذا فكان ! حسب وجهة نظري، عملية الخلق تكاملية بين الخالق والمخلوق. ولو تأملنا في عملية خلق الإنسان لوجدنا أنه يحتاج إلى أعوام ليبلغ وأعوام ليعقل ويفهم ويتعلم ، وقد يموت جاهلاً . كما أن ما يرثه عند الولادة غير كاف لأن يجعل منه إنساناً ناضجاً. عملية الخلق لم تتوصل بعد إلى توريث ثقافة الأبوين على سبيل المثال، فما بالك بثقافة المجتمع؟ وهذه مسألة ضرورية في عملية الخلق التي اقتصرت حتى الآن على الأعضاء البيولوجية والقليل من السلوك الغريزي . وعمر الإنسان العاقل لا يتعدى بضع عشرات الآلاف من السنين مقارنة بعمر الكون . وثمة بشر حتى يومنا يشير فهمهم البدائي إلى أنهم غيرعاقلين . فهل هناك عاقل يعتقد أن الألوهة إن وجدت تعشق العبودية والعذاب الشديد وما إلى ذلك ؟ يفترض أن الألوهة محبة وسمو فوق العذاب والآلام وتنشد قيم الخيروالحق والجمال ، وأن الغاية من الخلق هي تحقيق قيم خيرانية وجمالية، فتأمل الخلق يشيرإلى أنه جميل . وخلق الإنسان بالذات ليس إلا ليشارك في تحقيق قيم الخيروالعدل والجمال وبناء الحضارة . أي ليكون خالقاً بدوره . فالله لا يبني مدناً ولا يقيم جسوراً ولم يخترع وسائل اتصال ، كما أنه لا يواقع نساء، ولا يحمل ولا يلد، ولا يدرس ويتعلم ويصنع ويخترع ، وأن آخر شيء يمكن أن يفكر فيه هو أن تكون البشرية عبيداً له . لقد أساء العقل البشري إلى الخلق والخالق ( إن وجد) بهذا العقل البدائي .
الخلاصة : إنّ عملية الخلق لم تكتمل بعد وأنها في تطوردائم إلى الأفضل وخاصة في ما يتعلق بخلق الإنسان .
بدت "أمنية العقل " مرتاحة بل وفرحة بفكر الملك لقمان وخاصة فيما يتعلق منه بما يمكن أن يعتبر حقائق مطلقة، فحتى الوجود الإلهي ما يزال لديه ضمن دائرة الشك ، مما يؤكد أنه لا يعتقد بوجود حقائق مطلقة كما أشارهو نفسه.
- أشكرتفهمك لنا جلالتك . وسنكمل حواراتنا فيما بعد . والآن لا بد من الذهاب لتناول الطعام .
فوجئت الرئيسة بإصرار الملك على أن يكون هوالداعي وأنه في مقدورها أن تدعو من تريد من أبناء قومها . وثمة مفاجأة مثالية تتناقض مع المنطق والعلم سيقدمها لأبناء وبنات كوكب الملحدين ! فوجودهم الآن في واقع متخيّل لا يمنع إطلاقا أن يأخذ الخيال مداه خاصة بوجود الجن على الكوكب وبرفقة الملك .
***
(30)
* حوارات فلسفية على موائد سماوية وراقصات حوريات !
لم يقصد الملك لقمان بعمله الأسطوري أن يدعو " أمنية العقل" رئيسة كوكب الملحدين إلى الإيمان ، فهو لا يعتبر الإلحاد ولو مجازاً خارج دائرة الإيمان ، فالإلحاد إيمان بالوجود ، ولذلك يمكن اعتباره ايماناً . كما لم يقصد إطلاقاً أن يجننها بما أقدم عليه، فقد قرر أن يقيم حفلاً للكوكب كله الذي يفوق سكانة المائتي مليون ، وأن تكون الخدمة على الطريقة الجنية الشيطانية ومن قبل أجمل الفتيات الجنيات . كل ما قصده هو محاولة لتحقق الخيال في الواقع وبقدرات خارقة غيرواقعية على الإطلاق مؤكداً لها أن كل ما يفعله هو محاولة تحقق لفكرالأجداد الحالمين بالجنان ! كان كل شيء هادئاً وعادياً وهو يتوغل مع الرئيسة في حدائق قصرالضيافة الشاسعة وسط شمس متلألئة بأشعتها في سماء الكوكب ، حين راحت موائد تنبثق في كل مكان حسب سعته ، وقد زخرت بكافة أنواع المأكولات والمشروبات عدا سفافيد الشواء المنوعة التي راحت تنتصب في كل مكان على مقربة من الموائد ، وقد وقفت إلى جانبها مئات الفتيات الجميلات مرتديات التنانير السود القصيرة المنحسرة عن السيقان والأفخاذ، والقمصان البيض المنحسرة عن الأيدي والأكتاف والصدر وبالكاد تخفي حلمات النهود ، فبدون كالأقمارالمنتصبة على سيقان وأفخاذ من المرمرالمصقول ، ونهود جامحة تكاد تطيرمحلقة في الفضاء ! ولم تخرج الرئيسة من دهشتها حين وجدت نفسها تجلس على أريكة في صالون طائرإلى جانب الملك وإلى مائدة تزخربكل شيئ مشتهى وقد وقفت فتاتان في غاية الجمال لخدمتهما . وما أن نظرت إلى زجاجة وسكي على طاولة زخرت بالخمور المنوعة حتى أشارت الفتاة إلى الزجاجة لتطيرإليها لتأخذها بيدها لتفتح وحدها ولتسكب الفتاة للرئيسة في كأسها ومن ثم تطلق الزجاجة لتعود محلّقة إلى مكانها والغطاء يستقرعلى عنقها ليغلقه .
شرب الملك نخب الرئيسة وهو يحلق بها فوق أكبر حدائق عاصمتها لترى أن الموائد نصبت فيها وأن الناس راحوا يهرعون من كل صوب إلى الموائد بعد أن سمعوا صوتا يهتف من السماء " أحبتنا أبناء كوكب الإلحاد ، الملك لقمان يدعوكم إلى مائدته ، فكلوا واشربوا من الطيبات .. هنيئاً مريئاً" وكانت الموائد قد انتصبت في كافة حدائق وساحات مدن وقرى الكوكب "
هتفت الرئيسة متسائلة :
- ما هذه المعجزات يا جلالة الملك ؟
ابتسم الملك وهو يقول :
- مجرد دخول في الخيال !
- لكنه دخول يتحقق بشكل واقعي ملموس !
- تتحقق واقعيته بقدرما هو متخيل!
- هل تريد أن تدخلنا في الإيمان ؟
- ومن قال أنكم خارج دائرة الإيمان ؟
- هل ترى أن الإيمان بالوجود إيماناً ؟
- أكيد ! إنه إيمان كأي إيمان آخر!
- لكنه إيمان بفكرغيرديني !
- وقد يكون هوالإيمان الصحيح !
- كيف ؟
-لأنه يرقى إلى المطلق في طاقة الإنسان !
- لم أفهم !
- تحرر العقل من القيود والإيغال في المطلق المجهول !
قطعت الحواررسالة تخاطرية من الملكة نورالسماء التي راحت الغيرة تنهش قلبها وهي ترى إلى الملك يحلّق مع رئيسة كوكب الإلحاد في صالون طائر :
- هل تحتاج جلالتك إلى مساعدة ؟
أدرك الملك لقمان من لهجة الملكة وخطابها الرسمي أنها منزعجة ، فقررأن يدعوها إلى الصالون الطائر :
- عفوا حبيبتي كنت أظن أنني أريحك من المشاركة في حواراتنا . تعالي !
ظهرت الملكة محلّقة في الفضاء لتحط على أرض الصالون المفروشة بالسجاد. عانقت الملك مقبلة ، ثم عانقت الرئيسة " أمنية العقل " وقد خمدت نارالغيرة بعض الشيء في دخيلتها .
هتفت أمنية العقل مخاطبة الملكة :
- ليتنا نعرف رأي الملكة في فهم الطاقة السارية في الكون ما إذا كانت تعتبر نفسها إلهاً أم لا ؟
أجابت بعض إطراقة :
- الملك نفسه رأى في تأملاته أكثرمن وجهة نظر . فبغض النظرعما إذا كانت الطاقة ألوهية أوغيرألوهية رأى أنه لا يمكن لعملية الخلق والتطورأن تتم دونها، وحين ضرب مثلا بالطاقة الكهربائية ذهب إلى ما هوخارج الألوهة ، حين قال إنّ الكهرباء لا تعرف الضوء لكن لا يمكن للضوء أن يتم دونها . ففي هذه الحال تكون الطاقة غيرألوهية وإلا لعرفت نفسها ، كما ضرب مثلا آخر بالطاقة في الحافلة ، فالطاقة لا تعرف الحافلة لكن لا يمكن للحافلة أن تنطلق دونها .
غير أن تأملاته اللاحقة قادته إلى العكس وهو، إمكانية أن تعرف الكهرباء الضوء وتعرف الطاقة الحافلة وبالتالي تعرف الطاقة الخالقة أن الألوهة تكمن فيها ، أي أنها تعرف أنها إله !
- لقد عدنا إلى ما كنا نتحاور حوله وهوعدم الجزم بالمسألة !
وهنا تدخل الملك :
- تظل إمكانية أن تكون الطاقة محايدة قائمة بغض النظرإن كانت ترى الألوهة في ذاتها أولا تراها . فيفترض في الألوهة أنها رحيمة وتكره قتل الإنسان للإنسان ومع ذلك يقوم الإنسان بتوظيف الطاقة السارية في جسده لقتل الإنسان الآخر، وهذه مسألة يمكن أن تعتبرخارج إرادة الألوهة وتوظيفا للطاقة في غيرمحلها . فالعقائد المعتبرة سماوية تقول لنا : لا تقتل : لا تزن . لا تسرق . على سبيل المثال ، وهذه إشارة إلى أن الألوهة غير قادرة على منع فعل القتل . ومن ناحية أخرى غيرقادرة على تحقيق أماني المؤمنين بنصرهم على الكفرة والملحدين !
وبدا هذا الرأي مفيدا لفكرة الإلحاد . هتفت الرئيسة وهي تبتسم :
- وهذا يشير أيضا إلى أن الطاقة ليست إلها وغير قادرة على كل شيء وبالتالي هي ليست إلهاً ! إنها طاقة سارية في الكون والكائنات يتم بواسطتها فعل ما هو خيروفعل ما هوشرأيضا في عملية الخلق .
ولم يجد الملك إلا أن يوافق الرئيسة مؤقتا أوإلى حين .
صدحت الموسيقى وراحت تتردد من كافة أرجاء الكون وظهرت في الفضاء آلاف الحوريات شبه العاريات اللواتي رحن يرقصن الباليه المدهشة في السماء .
تبادل الملك والملكة الأنخاب مع الرئيسة الفاتنة والمثقفة وهم يتمتعون بمشاهدة الرقص الخلاب والدخول في الخيال المطلق بل والتوحد معه ، وهذا ما فعله جميع أبناء الكوكب الذين راحوا يشربون أنخاب الحوريات الراقصات في السماء !
*****



(31)
تجليات الحب على الأرض وفي السماء!
كان يمكن للحوار أن ينتهي عند موافقة الملك لقمان على إمكانية أن تكون الطاقة السارية في الكون ليست إلها حسب ما رأت " أمنية العقل " رئيسة كوكب الإلحاد ، لكنه تدارك بعد لحظات من تأمل رقص الحوريات المدهش في الفضاء :
- وهذا الأمريقودنا أيضا إلى وجود خالق غيركامل وبالتالي غير قادرعلى كل شيء، وكذلك إلى خلق غير كامل يرتكب الإثم دون فعل الخير بالمطلق .. وأننا قد ننتظر مليار سنة أخرى إلى أن تكتمل قدرة الخلق والخالق فلا يقدمان إلا على فعل الخيروتحقيق قيم الحق والعدل والجمال وبناء الحضارة الإنسانية !
وعلقت الرئيسة " أمنية العقل " قائلة :
- لن تخرجنا جلالتك من دوامة الشك وعدم وجود حقيقة مطلقة !
- وإلا دخلنا في الإيمان التقليدي الأعمى ، وكذلك في الفكرالفلسفي التقليدي . الحقيقة المطلقة ، أي الحقيقة التي ليس بعدها حقيقة أخرى، لا يعرف أحد ما هي حتى الخالق نفسه إن وجد ! ولو كان هناك خالق كامل وعرف الحقيقة المطلقة لبلغها منذ زمن ولما ترك البشرية تتخبط في آلاف العقائد والمفاهيم ، ولما بقي العلم عاجزا عن سبرالحقيقة .
- هذا يعني جلالتك أن أفكارنا تظل ضمن دائرة المؤقت غيرالثابت سواء أكانت في اتجاه الإيمان أواتجاه الإلحاد .
- بل وفي اتجاه أي فكر مهما كان وفي اتجاه أي علم أيضا . هل رأيت علما توقف عند اكتشاف معين ، حتى ما هو شبه متوقف يتم تطويره والنظر إليه من زاوية مختلفة أو حسب فهم مختلف. هل كان هناك إنسان قبل بضعة عقود يحلم بأن يرى العالم في صور حيّة أمامه ؟ وهل كان هناك قرد يعرف أنه سيصبح إنسانا ذات يوم ، يقود حافلة أوطائرة ؟!
ضجت سماء الكوكب بآلاف فرق الرقص والغناء والموسيقى وضجت حدائقه بقرع الكؤوس وشرب الأنخاب والتهام الوجبات الشهية ، وقد دخل كثيرون وكثيرات في حالة سكرجماعية فريدة لم تحدث من قبل ، وراحوا يتبادلون القبل كما لم يتبادلوها من قبل ويرقصون بجنون كما لم يرقصوا من قبل ، ليختلط الواقع بالمتخيل والمتخيل بالواقع ، ولأول مرة في تاريخ الوجود تختلط إلى هذا الحد الأرض بالسماء وسكان هذه الأرض بسكان هذه السماء!
هتفت الرئيسة :
- سنجعل من هذا اليوم عيداً سنوياً نحتفل فيه بالحب !
ودون أن يتفوه الملك بكلمه رفع يدا مفتوحة وأنزلها وكأنه يصدرأمرا وإذا بالكون كله ينتفض راقصاً ، لتنهض البشرية في كل مكان وتشرع في الرقص ليغدواليوم يوماً للحب وتطهيرالنفوس من الآثام . وظهرت على مسرح السماء جماعات من الجن والشياطين وراحت تحتفل على طريقتها وتصعد بعض أبناء الإنس إلى موائدها المحلقة في الفضاء ، وأقام الملك شمنهور مائدة طائرة جلس إليها أعضاء المركبة الفضائية بصحبة بعض أبناء وبنات كوكب الإلحاد ، وبدوا وهم يرقصون بحركات عنيفة وكأنهم يودون قذف كل ما تعتلج به نفوسهم إلى الخارج . وظهرت على مسرح السماء أسراب من مخلوقات فائقة الجمال شبيهة بالبشر لا تعرف إناثهم من ذكورهم لشدة جمالهم ، بدت أجسادهم عبر ثياب حريرية شفافة وقد تألقت في جمال أخاذ لم يسبق أن شاهد بشر مثله ، وقد أدرك الجميع أنهم أمام أفواج من الملائكة راحت تجوب مسرح السماء متبخترة راقصة دون أن تقدم على تناول طعام أو شراب . وظهرت فجأة آلاف الخيول البيض التي راحت تحلًق في أسراب منتظمة ليطيرهؤلاء ويمتطونها لتحلق بهم في اتجاهات متعددة صعودا ونزولا ويمنة ويسرة في فراغ الفضاء !
كما ظهر الملك إبليس جالسا بوقارشديد مع مجموعة من أحفاده الشياطين محلقاً على مائدة سماوية وراح يلوح بيديه محييا الملك لقمان وضيوفه ، فنهض الملك ورد التحية ملوحإً راسماً ابتسامات جميلة على شفتيه وأشار بحركة من يديه وإذا بأفواج من الورود المختلفة تحلق في أسراب منتظمة على مسرح السماء ، تبعتها أسراب من البرتقال والتفاح والعنب . وأسراب من الألوان الأخاذة المتلألئة التي راحت ترسم أقواس قزح تجوب الفضاء.
"ضج الكونُ ، كلُّ الكونِ ، بالألوانِ الألوانِ ، وراح يلثم عيونَ الحبِّ ، فلثم الحبُّ عيونَ الألوانِ " !!
صرخ الملك شمنهور من على مسرحه وهو يرفع كأس الملك لقمان ليتردد صدى صوته من كافة أرجاء الكون " كأس مولاي العظيم لقمان محررالجن من سجون سليمان " فارتفعت الكؤوس وقرعت في الكون من أقصاه إلى أقصاه !
دخل البشر والجن والشياطين والملائكة والكون والكائنات المختلفة في حالة من الفناء في الوجود ليشعر كل كائن أنه جزء منه ومتوحد معه. وشرع الملك لقمان في مراقصة الملكة نورالسماء والرئيسة " أمنية العقل " معاً، وارتسمت على ملامح وجهه سعادة لم يستشعرها من قبل .
غمرت الملكة رأسها أسفل عنق الملك لقمان لتقتل الغيرة في دخيلتها ، ويبدو أنها نجحت في ذلك فقد مدت يدها وضمت رأس أمنية العقل إلى رأسها ، ليصبح الرأسان على صدرالملك الذي احتضنهما بحنان فائق .
دام الحفل ثلاثة أيام متتالية تجلى فيها الحب والمحبّة بأسمى معانيهما وبما لم تشهد البشرية مثيلا له من قبل .
****

(32)
الألوهة في الإنسان ، والإنسان في الألوهة !
وهي تجلس برفقة الملك لقمان والملكة نور السماء في أعلى برج في عاصمة كوكب الإلحاد هتفت " أمنية العقل " فيما الملك يجول بنظراته مختلف أنحاء المدينة الجميلة :
- كم يسعدنا أن يمكث جلالتكم لبضعة أيام في كوكبنا .
- أنتم محظوظون . ثم إن اختلافكم عن الآخرين أثار فضولي خاصة وأنني كنت ذات يوم أقرب في فهمي إلى الإلحاد مني إلى الإيمان .
- وهل ترون العكس الآن ؟
- آضع الأمرين الآن في كفتي ميزان غير متوازيتين ترجح فيهما قليلا كفة الإيمان المختلف على الإلحاد. الإيمان بوجود غاية للوجود، حتى وإن كانت البداية عبثية ومبهمة ، بغض النظرعن أزلية البداية أو عدمها ، وهي في الغالب أزلية .
- هل هذا يعني أن الغاية بدأت توجد فيما بعد وتتطور؟
- بالضبط وهذا ما عبّرت عنه في بعض أشعاري بالقول :
" أنا في الهيولى البدئية كنت
دون أن يكونني أحد
أوجدت نفسي بنفسي لنفسي
دون أن أدري ما الغاية وما القصد
وبقيت دهوراً كامناً
لا أدري إن كنت أدري ما أريد
وما لم أرد
كجنين في رحم أم غافل عما يستجد
إلى أن ضاق بي الكمون وضقت به فانفجرت
محطما جدران الهيولى التي عنها انبثقت
لأنتشر في كون شاسع
حدوده لا تحد
ولينبثق معي الخلق
كائنا من رحم المهد
فكل كائن كان فيّ
وفي كل كائن كنت
فأنا الكينونة دون حد
وآفاقي لا تحد
فليس للحد منّي حد
ولا حد حيث كنت
أنا الله ال بلا حد
لا غنى للخليقة عني
ولا غنى لي عن الخليقة
فنحن الواحد في الكل
والكل في الواحد يتحد !
******
وراحت أمنية العقل تصفق بحرارة وهي تهتف :
- لم أسمع شعراً من قبل على هذا المستوى من الفهم لوحدة الوجود. فلا شيء منعزل عن الآخر. فالوجود سلسلة مترابطة نشأت من وجود بدئي بدائي مادي روحي أو طاقوي واحد، أطلقت عليه جلالتك الهيولى البدئية ، التي كانت تجري تفاعلات داخلها شبهتها بالتفاعلات التي تجري للجنين في الرحم دون أن يدري بها . وما الإنفجارالكوني إلا ولادة الجنين .
- غير أن الجنين هنا هو الوجود الذي سيأتي منه كل شيء . والذي كان الخطوة المتقدمة الأولى لنشأة الكون والتي تطورت عبر مليارات السنين ، وحتى الآن لم تبلغ ذروة تطورها التي لا تعرف ما هي . إنها أشبه بالمولود الذي لا يعرف ماذا سيكون بعد سنوات من ولادته.
- أنت أخضعت الوجود لنظرية النشوء والإرتقاء دون أن تغفل الجانب الروحي وهو وجود ألوهة غفلة .
- هذا صحيح . لذلك أسمي فلسفتي "المادية الروحية" وأعتبرها صوفية حديثة كونها تؤكد على وحدة الوجود. الجديد في فلسفتي هو أنها لا ترى وجود ألوهة مطلقة سبقت الوجود المادي ، فإذا كان هناك ألوهة فهي نشأت فيما بعد ومن المادة نفسها كغاية لا غير . أي فكرة تتمثل في الطاقة وتتمظهر في المادة بكل تجلياتها الوجودية من إنسان وحيوان وجماد ونبات ومن عناصرمادية كونية أساسية تتمثل في الماء والهواء والتراب والنار . وتختلف عن الفكر المادي العلماني في أنها لم تتنكرللألوهة أوتلغيها ، أي أنها حاولت الإفادة من الفكرين المادي والمثالي لتخرج برؤيتها الفلسفية للوجود . ويمكن القول أنها الطريق الثالث في الفلسفة والدين معاً.
- هل ترى جلالتك ضرورة الحاجة الروحية للإنسان لكي يكون هناك معنى لحياته ، وأن هذا المعنى لا يمكن أن يتحقق إلا بإحساس الإنسان أن لوجوده غاية وضرورة وهي أن يساهم في تحقيق قيم الخير والعدل والحق والجمال وإقامة الحضارة الإنسانية ؟
- وليس هذا فحسب بل وأن وجوده وموته ضرورة لتجدد الحياة الإنسانية . وجوده لتحقيق القيم الإنسانية وإقامة الحضارة وموته لتجدد المادة والطاقة وإغنائهما . فكما الوجود أزلي أبدي . فإن وجود الإنسان أزلي وأبدي أيضا في شكلية الإنساني الوجودي في الحياة والمادي الطاقوي بعد الموت .
- هل يعني هذا أن الإنسان قد يرقى أو يعود إلى الحالة الألوهية بعد الموت . أي إلى أصل الحياة : المادة والطاقة .
- أجل !
- وهل يشعر بوجوده حينئذ كمادة وطاقة ؟
- لقد عدنا إلى ما تحاورنا حوله من أن الألوهة كطاقة تشعربوجودها الإلهي أم لا تشعر! أنا أتمنى بل وأكاد أقول أنها تشعر بوجودها الإلهي ، وإذا لم يكن الأمر كذلك ، فإنه الغاية التي ما تزال الألوهة تسعى إليها لتحقيقها ، لتكتمل سلسلة الخلق الوجودية الأزلية التي لا بداية لها ولانهاية أيضا . وآمل أن ألتقي الله يوما لنضع حدا للفهم البشري للغاية من الوجود. وبالتأكيد ليس هناك غاية أجمل من أن يكون الإنسان إلها ويكون الإله إنسانا ! فتصوري أن يرى الإنسان نفسه في الألوهة وأن موته ليس موتا بل هو أجمل وجود لحياته بالإنتقال من الحياة الدنيوية إلى الحياة الأزلية في الألوهة بشكليها أوشكلها الواحد المادي الطاقوي !!؟؟
هتفت أمنية العقل ضاحكة :
- فكرك يجنن يا جلالة الملك ! وما هي رؤيتك لفكرأسلافنا من الأنبياء والرسل والحكماء والفلاسفة ؟
- يكثر خيرهم . يكفي أنهم فكروا حسب ثقافة زمنهم . المؤسف أن فكرهم أصبح يشكل عبئاً ثقيلاً على حاضر بعض الأمم، كالتعصب الأعمى الذي يقتل العلماني والفتاة العاشقة ويرجم (الزانية) ويجلد البشر ويقطع رؤوسهم لأسباب واهية . حين أرى الآلاف راكعين لإله يعتقدون أنه يحب الركوع والعبودية والعذاب الشديد، أشعر بألم فظيع ، وأقول لنفسي كيف يمكن انقاذ هذه الأمم من جهلها !؟
- لقد دفعنا ثمنا باهظا جدا للخلاص من هذا العبء الثقيل ..
- وآمل أن لا يدفع كوكب الأرض الثمن نفسه !
- سعادتي بالتعرف إلى جلالتك ومجالستك ومحاورتك أكبر من أن توصف أو تعبرعنها كلمات . اسمح لي أن أقبلك !
" أشكر سيادتك " هتف الملك وهو يدني رأسه من الرئيسة لتقبله على خده فيما كانت الغيرة تعود لتنهش قلب الملكة نورالسماء ، التي راحت تتمنى في دخيلتها أن يغادرالملك هذا الكوكب قبل أن يغرق في عشق رئيسته الملحدة وربما يقيم فيه .. بل وتمنت أن يحط على كوكب قادم لا نساء فيه !
***
(33)
* بشر يتعبدون لأنفسهم دون أن يدروا !!
أمضت " أمنية العقل" ليلها تبحث على شبكة النت عن فكرالملك لقمان عبرشخصية موجده محمود شاهين وتوقفت كثيرا عند مقولات تطرقت إلى فيزياء الكم .. فاجأت الملك لقمان حين التقته على مائدة غداء في أعلى شرفة في برج العاصمة مبادرة إلى التساؤل :
- في الفقرة التي تحمل الرقم (143) من"أقوال ومقالات في الخلق والخالق والمعرفة " تقول جلالتك :
"المادة تنطوي على الوعي كونها تنتجه والوعي ينطوي على المادة لأنه يدركها"
حسب هذا الفهم الناجم عن قوانين فيزياء الكم فإن الوعي الكوني قد يدرك كل شيء يجري في الوجود وبالتالي يمكن أن يدرك ألوهيته إذا كان وجوده إلهيا.
- هذا صحيح ، لكن الأمر يظل تحت دائرة الإحتمال . والكلام يلتقي مع كلام علماء في الفيزياء وكذلك مفكرين أوغلوا في سبرمتاهات الوجود وأغوارالنفس الإنسانية . يقول أحد المفكرين " إن النفس لا يمكن لها أن تستقل تماماً عن المادة وإلا كيف تؤثر فيها ؟ والمادة ليست غريبة عن النفس فكيف تعمل على إنتاجها. إن المادة والنفس موجودتان في العالم نفسه . وكل واحدة منهما تتشارك في الأخرى ، وبدون هذا فإن أي تفاعل للفعل بينهما يغدو مستحيلا"
ويتطرق هذا المفكرإلى مستقبل الفيزياء بالقول " فإذا قيض للبحث الجاري أن يتطور بما يكفي فإننا ولا شك واصلون إلى لقاء تام بين المفاهيم الفيزيائية المادية والمفاهيم السيكولوجية "
جسم الإنسان مادة ينتج عنها وعي . وما الوعي إلا طاقة ناتجة عن مواد في جسم الإنسان المادي( الدماغ مثلا) فالدماغ ينطوي على الوعي لأنه ينتجه، والوعي ينطوي على الدماغ بإدراكه له . لذلك في قوانين الفيزياء لا يمكن فصل الطاقة عن المادة . فما المادة إلا طاقة مكثفة، وما الطاقة ( الوعي ) إلا مادة متحولة . و حسب هذا الطرح الفيزيائي ليس هناك إجابة قاطعة على أن الوجود يدرك ألوهية في ذاته ، هوربما يدرك فعلا ماديا طاقوياً مترابطا وغيرمنفصل يشير إلى وحدة وجود كونية قد تكون خارج مفهوم الألوهة . أنا أفضل الفكرالفلسفي على الفيزيائي لأنني لست فيزيائياً، وإن كنت أستعين بالفيزياء وألجأ إليها بين حين وآخر لأعرف إلى أين وصلت في اكتشاف قوانين الكون . لقد تعددت النظريات الفيزيائية حول الوجود وآخرها نظرية الأوتارالتي ترى أن الكون قائم على أوتار لونية دقيقة متعددة !
إن الأهم في فهم الوجود الواحد في الكون الواحد هو ضرورة العلاقة التكاملية بين الكائن والآخر . فوجود الإنسان ضرورة لوجود الكون ووجود الكون ضرورة لوجود الإنسان ، وإذا انتفى أحدهما انتفى الآخر، أو أصبح لا معنى لوجوده ، وهو ما عبرت عن وحدته في أكثر من مقال ومقولة ، حتى لو كان الوجود يدرك ألوهة في وجوده . فالألوهة في هذه الحال لا يمكن أن تتم بمعزل عن تمظهرها في الوجود المادي، فإذا انتفى تمظهرها في الوجود المادي انتفى وجودها. من هنا تأتي ضرورة وجود الإنسان للألوهة . وإذا ما عدنا إلى منطق العلم نجد أن وجود الإنسان تم خلال بضعة ملايين أخيرة معدودة من مليارات الأعوام في تطور الوجود . وهذا يشير إلى وجود غاية تمخضت بعد مليارات السنين من التطورالمادي عن خلق الإنسان الذي لم يكتمل وجوده بعد . وبالتأكيد لن يكتمل ما لم يدرك الإنسان الغاية من وجوده ، وهي أنه مشارك أساس في عملية الخلق . وعملية الخلق لا تعني الوجود المادي فحسب ، بل صنع الحضارة وتحقيق قيم الخير والحق والعدل والجمال. وكل هذا لا يمكن أن يتم دون الوعي السليم شبه المعدوم عند معظم البشر، وخاصة ما يتعلق منه بوجود خالق ينشد العبادة ويحتاج إلى أن نصلّي له كل يوم لكي ينقذنا من عذاب جحيمه ويتصدق علينا بنعيم سمائه والخلود في جنانه بعد الموت. إنه أسوأ اجتهاد تمخّض عنه العقل البشري حتى اليوم ، وإن كان تطوراً حسب زمنه ! ولا بد من العودة إلى الوعي السليم ليدرك الإنسان الغاية من وجوده وضرورة وجوده لهذا الوجود. لهذا أشك في أن يكون الوعي الكوني قد دون شيئاً من هذا الوعي السلبي للإفادة منه في تطوير الوجود .
وصمت الملك لقمان لتضيف أمنية العقل قائلة :
- هذا يعني أن الإنسان يصلي ويتعبد لنفسه دون أن يدري !
- بالضبط ، وبغض النظرعن ألوهية الوجود أو عدمها.
- تصورالعقل البشري لخالق جبار ينفصل وجوده عن الوجود يحتاج إلى عبادة ويعذب وينتقم ويحيي ويميت ويحلل ويحرم ، هو فعلا أسوأ اجتهاد أنتجه العقل البشري. ولا أعرف كيف لم يفكر العقل في أنّه لا يمكن تصوروجود إله في الوقت الذي لم يكن هناك وجود ، فلا مكان ولا زمان ولا فراغ . لم يكن هناك إلا العدم واللاشيء ؟
- لقد وضع الخالق خارج الوجود أي في العدم والنتيجة أن الخالق في هذه الحال هو العدم !
أعجبني قول لمفكرعربي يتحدث في كتابه عن الدين حيث يتساءل " إذا كان الخالق هو يسوع المسيح ، فمن كان يديرالكون خلال أيام موته الثلاثة ؟" وفي الإمكان أن أتساءل بدوري : هل كان المسيح إلها منذ ولادته؟ وهل كان يدير العالم وهو طفل ؟ وإذا كانت هذه هي الحال ، فمن خلق الخلق وأداره قبل ولادته ، حتى لو كان هو الآب والإبن والروح القدس ؟ رغم أن هذا التعريف لم يأت إلا بعد المسيح بكثير، ولم يكن معروفا من قبل ! وهو مستوحى من ولادة حورس من إيزيس وأوزوريس في الميثلوجيا المصرية .
رفعت أمنية العقل كأسها وشربت نخب الملك لقمان وتساءلت :
- ألا تريد جلالتك أن تعرف شيئا أكثر عن كوكبنا ؟
- بل أريد أن أعرف الكثير، فلا أظن أنني سأصادف كوكبا آخر لملحدين في الكون .
- أنا جاهزة لإطلاعك على كل شيئ. لكن قبل ذلك أود أن أعرف شيئا عن الوعي الكوني الذي تطرقت إليه .
- بالتأكيد إن مليارات السنين من التطور أوجدت وعيا أنتج معادلات وقوانين في الخلق ، فكان لا بد من تدوين هذه القوانين في أرشيف كوني تكون جاهزة للإستخدام عند الحاجة إليها في عملية الخلق . فتشكل الجنين في رحم الأم يتم عبر قوانين فيزيائية مدونة في المورثات . يقول العلماء أن عدد الخلايا في جسم الإنسان حوالي ستين تريليون خلية ، وأن نواة كل خلية تحمل في داخلها خمسة آلاف مليون معلومة ، وأن العلم لم يكتشف منها حتى اليوم إلا ثمانمئة معلومة . هذا ما يقوله لنا أرشيف الوعي الكوني . إنه نتاج ما توصل إليه العقل الكوني . إن كل ما نفعله ويصدرعنا يدون إن كان فيه ما يفيد الوعي الكوني . فوجودنا غير العبثي ينتج عنه ما قد يكون غير عبثي أيضا ويفيد عملية الخلق في تطورها الدائم .
- الحديث مع جلالتك ممتع . أدعوك الآن لإكمال غدائك . وقد نعمل استراحة نقوم خلالها بالتجول في كوكبنا إذا تشاء .
- سأكون ممتناً لك .
********

(34)
مستقبل كوكب الأرض لا يبشر بالخير !
وهما يتجولان في حدائق قصر الضيافة سأل الملك لقمان الرئيسة أمنية العقل عما إذا مرت دول الكوكب بفترات حكم ديمقراطية أتاحت شكلا من التسامح الديني يتيح لكل طائفة دينية أن تمارس معتقدها بحرية بعيدا عن السياسة وأنظمة الحكم المدنية ؟
تساءلت الرئيسة بعد لحظات من التفكير :
- لماذا تسأل عن هذه الفترة جلالتك ؟
- أريد أن أعرف عن ماذا تمخضت هذه الحقبة الزمنية لديكم ولماذا ارتد العالم إلى محاربة المعتقدات لتسود مفاهيم العلم بدلا من مفاهيم الدين ؟
- في الحقيقة لم يكن الدين ديمقراطياً ذات يوم في تاريخ أمم كوكبنا . حتى المعتقدات التي كانت تبدأ رسالاتها بخطاب سلمي ، ما تلبث أن تلجأ إلى العنف حين تقوى ليسود دينها بإخضاع أمم أخرى إليه . شمل هذا السلوك أهم الديانات الرئيسة ، وثمة بعض المعتقدات التي كانت تشيرإلى غضب الآلهة نتيجة لسلوك خاطئ لدى معتنقي الدين ، فتنزل العقاب بمعتنقي الدين ، أي أن الآلهة بحد ذاتها لم تكن يوما ديمقراطية حتى مع شعوبها . كانت الشعوب تتخبط في مفاهيمها ، فهي من ناحية تشن الحروب لإخضاع أمم أخرى إلى دينها ومن ناحية أخرى تفتك بمن يعترض على المفهوم السائد في الدين نفسه !
- وكأنك تتحدثين عن كوكب الأرض . فلدينا دين تمخض عن ثلاثة مذاهب رئيسة اتبعته . وكل مذهب تمخض عن عشرات الطوائف ضمن المذهب نفسه ، وجميع هذه المذاهب وخاصة الرئيسة خاضت حروبا منوعة أزهقت أرواح الملايين من الشعوب .
- كان لا بد من الثورة على الدين لكن ليس لإلغائه بل لعزله عن الدولة وإقامة المجتمع المدني الديمقراطي .
- لماذا عزله وليس القضاء عليه ؟
- لم يكن في الإمكان القضاء عليه . كان ذلك يعني قتل ملايين أخرى في الحروب.
- سادت الأنظمة المدنية الديمقراطية بعض دول العالم مما أدى إلى ازدهار معظم الدول التي نهجت نهجاً ديمقراطياً . وأصبح الإنسان يشعر بوجوده الإنساني إن تدين أو لم يتدين . لكن في المقابل كان ينشأ جماعات دينية لم تكن راضية عمّا يجري، وخاصة فيما يتعلق بالتحرر،الذي شكلت حرية المرأة فيه فجوراً، حسب رأي هذه الجماعات التي راحت تنمو داخل المجتمعات الديمقراطية، وتنظر إلى الآخرين ككفرة وملحدين . وشرعت في شن أعمال ارهابية أزهقت أرواح الآلاف . بل وبلغت من القوة حداً أدى إلى اسقاط بعض الدول العلمانية وإقامة أنظمة دينية بدلا منها . فكان لا بد من أن يتحرك العالم لمواجهة هذه الجماعات التي شكّلت دولاً همجية بكل معنى الكلمة، أصبح فيها جزالرؤوس بالسكاكين أسهل من قضم البسكويت ، وعلى أيدي أطفال صغار أحياناً، لا يفقهون شيئا لا في الدين ولا في الحياة . اتحدت مجموعة من الدول لمحاربتها . لم يتم القضاء عليها بسهولة إلا أنه تم في النهاية .
هذا الأمر تعلّق بالجماعات المتعصبة الأكثر تطرفا وهمجية . والديانات الوسطية أوالمعتدلة والتي لم تلجأ إلى الإرهاب ظلت قائمة . فكان هناك تخوّف من أن تنحو هذه الديانات منحى تلك التي تم القضاء عليها . فظهر من ينادي في أكثر من مجتمع بالثورة على العقائد بكل أشكالها وخاصة ما يرتبط منها بالسماء والألوهة . وكان لا بد من إيجاد بديل روحي أقرب إلى العلم منه إلى الدين ليسد الفراغ الذي سينجم عن القضاء على العقائد التقليدية . فكان مذهب وحدة الوجود . لكن هذا المذهب ظل يراوح في فلك العقائد القديمة . فلم يلغ الأسس التي قامت عليها الديانات القديمة ، وخاصة ما يتعلق منها بالحساب والعقاب واليوم الآخر والتحليل والتحريم . أي أن التشريع (الإلهي) ظل قائما . فكان لا بد من انتصار العقل . أخذ الأمر قروناً إلى أن اتحدت دول الكوكب لتقيم نظاماً علمانياً ديمقراطياً تتبعه أمم الكوكب .
- ألم يبق هناك جماعات تعتقد بفكر ما ؟
- هناك جماعات تعتقد بفكر فلسفي يعيد العالم إلى مبادئ اجتهادية في خلق الكون ، لا تتبع مفهوما لإله ما، بقدر ما تتبع منهجا فلسفيا يقوم على محرك أول للوجود . إن معظمها إن لم يكن جميعها تتبع نهجاً طبيعياً في فلسفة الوجود.
- إن تحليلك للتطور التاريخي على كوكبكم يشيرإلى أن شعوب كوكب الأرض ستدفع ثمناً باهظاً للتخلص من العقائد التي يشن أتباعها الآن حروبااً همجية في الكوكب تحت شعارات دينية بالية . وثمة دول استعمارية ورأسمالية ودكتاتورية وغيرها تغذي هذا الصراع حسب ما تقتضيه مصالحها . والضحية هي الشعوب المغلوب على أمرها والتي غدت إما مشرّدة وإما خانعة وإما وقودا لهذه الصراعات !
أود لو نعود إلى تاريخ كوكبكم الأقدم وبداية ظهورالعقائد ، إذا مررتم بعقائد تحكم فيها إلاهات من النساء كُنّ أكثرعدلاً من حكم آلهة رجال ؟
- إنها الفترة الأكثراشراقا في التاريخ القديم لكوكبنا. حين كانت الربّات والحاكمات من الإناث كان ثمة عدالة أفضل وحروب شبه معدومة . لكن الذكر راح يستلب الألوهة من الأنثى ويحيلها إلى نفسه إلى أن غدت الألوهة بالمطلق ذكورية ، والمجتمعات بالمطلق تسير وفق منهج فكري ذكوري .وأصبح دورالأنثى هامشياً .
كان الملك والرئيسة يتجولان سيراً على الأقدام في حدائق قصرالضيافة دون أن يتحرش بهما أو يعترض طريقهما أحد ولو من باب الفضول ، مع أنهما معروفان لكافة من يجلسون في الحدائق التي كانت مفتوحة لأبناء المدينة . ولم يكن هناك حرس خاص يرافق الملك والرئيسة . ولولم يكونا يحييان بعض الجالسين حين يمران بهم لينهضوا احتراماً لهما ، لما صدق أحد أن من يتجولان هما رئيسة الكوكب وضيفها الملك لقمان .
تساءل الملك وهما يمرّان من جانب شباب وفتيات نهضوا احتراماً لهما :
- لا أكاد أصدق هذا التهذيب لدى أبناء كوكبكم . كيف استطعتم خلق أجيال على هذا المستوى من الأخلاق الرفيعة . لوكنا في دولة على كوكب الأرض لأخليت الحديقة من الناس جميعاً، ولكان الحراس والمرافقون ورجال الأمن ينتشرون في كل مكان في الحدائق والشوارع المحيطة بها .
ضحكت الرئيسة ثم هتفت :
- لقد دفعنا ثمناً باهظاً لخلق هذه الأجيال . وإذا كان مذهب وحدة الوجود حسب مفهوم جلالتك يوحد البشر بأنفسهم وبالوجود فإنه عندنا لا يختلف عن ذلك فكل إنسان في كوكبنا يتوحد بالآخر في وحدة لا تنفصم ،وليس هناك انسان يفضل نفسه على الآخر .
- وهذا يقودنا إلى الحديث عن نظامكم الإجتماعي .
- لك أن تسأل ما شئت .
- ليكن في لقاء قادم .
*****
(35)
الوجود مادة وطاقة لا تنفصلان !
في حفل عشاء هادئ على متن المركبة الفضائية وبحضورالملكة نورالسماء سأل الملك لقمان أمنية العقل :
- ماذا عن التكاثر لديكم هل أبقيتم على المؤسسة الزوجية ؟
- طرحت بعض الجماعات الثقافية فكرة الغاء المؤسسة الزوجيّة ، غيرأنها لم تنجح في التصويت حين تم طرحها على أمم الكوكب ، فبقيت إلى جانب أشكال أخرى من العلاقات الإجتماعية. فالإنجاب دون زواج معترف به . ويمكن القول إننا لا نتدخل في حرية الإنسان في جسده ، فهي حق له ، لدينا علاقات مثلية مثلا ، ولدينا صديقتان لرجل واحد خلال فترة ما قد تطول أو تقصر !
- معقول ؟
- حالات شبه نادرة . لا يمكن منع امرأة من أن تحب رجلا لديه زوجة أو صديقة ، شريطة موافقة الزوجة أو الصديقة !
- وماذا عن العكس ، رجلان معا في حياة امرأة ؟
- غير ممنوع أيضا لكني لم أسمع عن علاقة من هذا النوع. لكن يوجد نساء يحببن تغييرالرجال بين فترة وأخرى ، فثمة نساء قد يعرفن في حياتهن عشرات الرجال ، كما هي الحال مع الرجال ، الذين يغيرون نساءهم دائما .
- وماذا عن سهرات إباحية مثلا ؟
- قد تحدث لكن بشكل نادر وخاصة في بداية الشباب .
توقف الملك للحظات عن طرح الأسئلة ثم طلب إلى أمنية العقل أن تتحدث عن الكوكب كما تشاء . قالت :
- التعليم عندنا مجاني في كافة مراحلة . نخصص موازنة جيدة للأبحاث العلمية . لا يوجد عندنا فقر . نظامنا الإقتصادي يحض على التعاون الجماعي والحد من الثراء بزيادة الضرائب على الأثرياء . الدولة تتولى أهم المشاريع الإقتصادية . الضمان الصحي من المهد إلى اللحد مجاني لكل إنسان . قطعنا شوطاً جيدا في التقدم العلمي . الثقافة عندنا مزدهرة في كافة أنواع الفنون والآداب . النظام الصحي الجيد أدى إلى رفع معدل عمرالإنسان إلى 120 سنة . ليس لدينا جيش . وليس لدينا أجهزة مخابرات تلاحق الناس. لدينا جهاز شرطة . المواصلات لدينا رخيصة جداً . الملكية الخاصة محدودة . ليس هناك من لديه قصر مثلا ، أو مجموعة شركات . ثمة اكتفاء ذاتي لدينا في كل شيئ ، ولدينا احتياطي في مواد كثيرة فائضة عن الحاجة .
- لماذا ألغيتم وجود جيش مثلا ؟
- وما حاجتنا إلى جيش ودول الكوكب متّحدة ؟
- ماذا لو غزا كوكبكم كوكب آخر ؟
- المسألة لن تكون سهلة على الغازي فالوصول إلى كوكبنا يحتاج إلى قدرا ت خارقة كتلك التي تملكونها جلالتكم .
صمت الملك . رفعت الملكة نورالسماء كأسها لتشرب نخب الملك والرئيسة منبهة بذلك إلى وجودها السلبي في الحوارات الدائرة بين الملك والرئيسة . لكن يبدو أنها قررت المشاركة ، فما أن قرعت الكؤوس حتى هتفت :
- تظل مسألة الموت تشكل قلقاً لدى الإنسان ، فأن يكون الموت نهاية المطاف دون أن يكون له دورفي تجدد الحياة واستمرارها، يزيد من قلق الإنسان . فكيف عالجتم هذه المسألة الروحية ، إذا جاز التعبير ؟
أطرقت الرئيسة قليلا وما لبثت أن هتفت :
- الروح حسب مفهومنا هي الحياة . وموت الإنسان يعني توقف الطاقة الحيوية عن السريان
في مختلف أعضاء الجسم ، وبالتالي توقف الأعضاء عن العمل. والعكس صحيح أيضا أي أن توقف الأعضاء توقف لسريان الطاقة في الجسم المادى والأعضاء المادية ، دون أن يعني هذا نهاية الطاقة في الوجود ، فهي موجودة في كل مكان . وفي الوقت نفسه لا يعني الموت نهاية المادة فهي موجودة في الجسد الميت وفي كل مكان أيضا، لكن دون فعل أدواتها الممثلة في أعضاء الجسم . وبتحلل مادة الجسد في التربة وإعادتها إلى عناصرها الأولية يغني التربة دون شك كما تغني الطاقة الخارجة من الجسم الطاقة الكونية السارية في الكون . وهذا يعني أن الإنسان لدينا يدرك أن موته هو مشاركة ضرورية في تجدد الحياة واستمرارها . والمشكلة إذا كان هناك مشكلة تكمن في الإجابة عن التساؤل : هل يشعر المرء بوجوده المادي الطاقوي بعد الموت ، وهل هذا الوجود هو وجود طبيعي ( نتاج الطبيعة ) أم أنه وجود إلهي خارق للطبيعة ؟ وهذا مايشغل عقل الملك لقمان الذي يحبذ أن تكون المسألة متعلقة بألوهة ما تجسدها المادة بشكليها المادي والطاقوي. أما نحن فعلمنا تجاوزهذه النقطة بانتفاء الألوهة والإبقاء على فعل الطبيعة . وقد أثبت علماء فيزياء الكم عندنا أنه لا يوجد جزيء في الطبيعة منفصل عن آخر، فانطلاق جسيم محدد بعد انقسامه في اتجاهين متعاكسين وحدوث تغيرفي وضع أحدهما يؤدي إلى تغير فوري في وضع الآخر. إنه اكتشاف مذهل في عالم الفيزياء الكمومية . الإنسان عندنا بات يدرك تماما أن لوجوده غاية وهي بناء الحضارة وتحقيق قيم الخير والجمال . ويدرك أن خلوده الحقيقي يكمن في عمله . ويدرك أنه ينبغي أن يعيش الحياة بأجمل ما يمكن أن تعاش ، ولا تقلقه مسألة الشعور بوجوده بعد الموت ، غيرأنه لن يمانع في ذلك إذا ما تم . المشكلة أنه لم يعد أحد من الموت ليقول لنا ماذا حدث معه أو ماذا شعر، وهل كان يحس بوجوده مهما كان ؟ وهل عاد هو نفسه إلى الحياة وذهب إلى جنة عاشر فيها حوريات يقمن تحت عرش الإله ؟! وحتى الملك لقمان يضع مسألة الألوهة ضمن دائرة الإحتمال دون أن يجزم بوجودها . وإذا كنا قد جزمنا وحسمنا المسألة لعدم وجود أي دليل علمي أو حتى منطقي يثبت وجودها ، فإننا لم نغلق باب البحث، بغض النظرإن وجدت قبل كل ما هو مادي، أو وجدت فيما بعد من المادة حسب وجهة نظرالملك لقمان الإحتمالية .
كانت إجابة الرئيسة أمنية العقل مقنعة إلى حد كبير للملكة نورالسماء . فشكرتها وأثنت على طرحها ، دون أن تتخلص تماما من الشعور بالغيرة رغم إدراكها أن أي نوع من الغرام لم ينشأ بين الملك والرئيسة .
أراد الملك لقمان أن يضفي بعض الجمال على الجلسة ، فغير الموسيقى المنبعثة إلى موسيقى راقصة وظهرت ثلاث فتيات خارقات الجمال شرعن في الرقص على إيقاعها .
هتفت الرئيسة :
- تعجبني قدرات جلالتك الخارقة حين تنقلنا خلال لحظة من الواقع إلى الخيال !
- يا عزيزتي إذا كان هناك إله قبل أو بعد الوجود المادي فإن الخلق كله قد لا يكون إلا نتاج خياله ، ونأمل أن لا يتوقف يوما عن التخيل حتى لا ينتفي بذلك وجودنا .
ضحكت الرئيسة وأضافت :
- بعض متصوفتنا في الزمن القديم أدلو بمثل هذا الفكر . واعتبروا أن الوجود افتراضي ، وأن الوجود الحقيقي هو لله وحده ، وحين يتوقف الله عن خياله الإفتراضي سينتفي وجودنا كما تفضلت .
- وهناك من ذهب عندنا إلى أن الله أراد أن يظهر وجوده من الخفاء إلى العلن ليرى نفسه ويتمتع بوجوده فأظهرالوجود . ولهذا يعتبربعض المتصوفة أن الله هوالوجود والوجود هوالله . ولا شك أن هذا الفكرجميل كونه يصب في مفهوم وحدة الوجود .
- لكن ما المقصود بالخفاء أو الوجود الخفي ؟
- ما يبدو لي أنه الصورة المتخيلة للوجود في الخيال الإلهي ! غير أن بعض الكتب الدينية لدينا في كوكب الأرض تشير إلى أن الله لم يرحسن خلقه إلا بعد أن خلقه ، مما يشير إلى أنه لم يكن هناك تصورمسبق للنورأو للظلام أو لشكل الإنسان والكائنات في المخيّلة الإلهية . غيرأن هذا الدين كان اجتهاد عقل بدائي ، والمؤسف أن أكثرمن مليارمن البشر يتبعون هذا الدين في كوكبنا !
- يفترض أنه لا يمكن إيجاد شيء دون أن يكون هناك تصورمسبق له في المخيلة ، حتى لو كان تصوراً غير مكتمل .
اصطخبت الموسيقى . ودخل الملك شمنهوربرفقة ربة الجمال وأستيرونسمة وزوجها وشرعوا في الرقص، ما دفع الملك والرئيسة والملكة إلى النهوض والمشاركة في الرقص.
*****

( 36)
وحدة الوجود ومذهب الملك لقمان!
وهما يحلقان بين قمتي هضبتين شاهقتين في حافلة معلّقة تعمل بالطاقة ، فوق واد تخلله نهروانتشرت على جانبيه وعلى السفوح أشجارمثمرة وغيرمثمرة ومتنزهات ومطاعم ، سألت أمنية العقل رئيسة كوكب الإلحاد الملك لقمان :
- هل لك أن تطلعني على مذهب وحدة الوجود بشكل أعمق كما تفهمه جلالتك ؟
أجاب الملك وهو يتأمل مبتسماً انسياب النهرفي الوادي على بعد حوالي ألف مترأسفلهما :
- لماذا هل تريدين أن تؤمني به ؟
- كما تعلم نحن نؤمن بالمذهب إنما دون ألوهة . إنها وحدة الكون والطبيعة .
- وماذا لو كانت الطبيعة بحد ذاتها بكائناتها الحية وغيرالحية هي ما يمثل أو يشكل الألوهة ؟ هل ستؤمنون بها ؟
- ولماذا لا ، إذا كانت في حاجة إلى إيماننا ، مع أننا في هذه الحال سنكون جزءاً من الألوهة نفسها ، أي أننا سنؤمن بأنفسنا وبوجودنا ، وهوما نؤمن به الآن إنما دون ألوهة .
- في الحقيقة يا عزيزتي أن المذهب قديم ولا يخلو من تأثيرات خارجية أثرت في تمثله في بعض الأشعار الصوفية الأولى .. إلى أن جاء رجل اعتبر من أهم مفكري دين لدينا أطلق عليه الدين الإسلامي ، وهذا الدين بدوره هو نتاج أديان وأساطير سابقة عليه . الرجل يدعى ابن عربي . وتكمن أهمية هذا الرجل في أنه وضع أسساً وقواعد لهذا المذهب . دون أن يخرج بالمطلق على المبادئ الأساسية للدين ، إلا أنه أوغل إلى أبعد الحدود في فهمه . فهو أول إنسان يضع أي دين وأي فكر بل وأي كائن ضمن الإيمان وليس خارجه ، حتى الإلحاد حسب فهمه هو إيمان ، كونه إيماناً بفكر، وكل فكر هو نتاج مصدرإلهي أو طاقة إلهية سارية في الكون، عبرعنها بمفردة "الحقيقة ". فهو القائل :
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
هذا الكلام يعتبر ثورة بكل معنى الكلمة في زمنه، كما كان الإسلام نفسه في زمنه ، فهو يؤمن بكل ما سبقه من أديان وأفكارليس انطلاقاً من أنها نتاج طاقة أوإلهام إلهي فحسب ، بل وانطلاقا من أنها فكراجتهادي يسعى إلى معرفة الوجود والغاية منه . لذلك هو يحترمه لأنه فكر، ولينتهي إلى الحب في النهاية ، لأن غاية أي دين أو أي فكرهي المحبة أخيراً وتحقيق قيم الخير والجمال . هذا الفكراحتوى كل ما سبقه وأضاف إليه مبدأ المحبة التي هي غاية الغايات الإنسانية .
وإذا كان ثمة سلبيات في هذا الفكر فهي عدم خروجه على معظم أسس الدين ومبادئه ، أي الإيمان بكل ما جاء به الدين . وهذه المسألة تتعلق كما أرى بخوف ابن عربي من القتل كونه في نظرالمتعصبين تحوّل إلى الإلحاد ، ولا شك أن ابن عربي كان يعرف ماذا جرى لمن فكّروا في وحدة الوجود من قبل . فقد قتل وصلب معظمهم . حتى أن بعضهم دفنوا أحياء .
قدم ابن عربي مفهوماً لمراتب الألوهة والإيمان أيضاً ، فليس كل مؤمن يفهم الدين بالمستوى نفسه من الفهم . ففهم الإنسان العادي ليس كفهم العالم المتدين . وفهم العالم ليس كفهم العارف أوالفيلسوف المتحرر ولو بقدرمن المفاهيم الدينية وهكذا .
- أريد فهمك أنت !
- حسناً يا عزيزتي . سأنتقل إلى فهمي الذي آمل أن يكون صحيحاً وأن يسود ذات يوم . وأنا لن أتأكد من صحة فكري إلا بلقاء الله نفسه ، وإن لم ألتقه سيظل فهمي اجتهاداً كغيره قابلاً للخطأ والصواب ، إنطلاقا من أن كل فكرهو نتاج عقل بشري بما في ذلك الدين حتى لو كان ناجماً بفعل طاقة إلهية سارية فينا . فالطاقة الإلهية تمنحنا القدرة على التفكير لكنها لا تتحكم في فكرنا ، بغض النظرعن الأسباب التي تحول دون هذا التحكم ، فهل هو لعجز في الألوهة نفسها ، أم أنه غاية لحاجة الألوهة إلى فكرالإنسان كونه جزءا من وجودها . أي أن تفكيرالإنسان هو تفكير للألوهة ذاتها.
لذلك يا عزيزتي ألغيت معظم المبادئ التي قامت عليها الألوهة بدءاً من العبادة التقليدية - التي هي عندي عبودية مرفوضة - مروراً بالحساب والعقاب ، وانتهاءً باليوم الآخر، غيرالموجود. وقدمت مفاهيم جديدة للخلق ولجوهرالخالق الذي ظل عصياً على العقل البشري حتى اليوم، تتلخص في :
1- الخالق : طاقة سارية في الخلق كله . لم ينزل تشريعات ولم يرسل أنبياء .
( يفهم الأنبياء على أنهم عرفوا دورهم في المجتمعات بأن يكونوا أنبياء ، فكانوا ، أي هم من قرروا أن يكونوا أنبياء وليس الطاقة الخالقة أوالخالق، أي كما يختارإنسان أن يسلك طريق الفلسفة والحكمة .)
2- الطاقة طورت نفسها بنفسها عبرمليارات السنين من المادة التي وجدت فيها ، وما زالت تتطور لتصل إلى كمال ما غير معروف بالضبط . ولهذا فالخلق غير كامل بالمطلق حتى الآن .
3- الطاقة وجدت مع المادة الأولى منذ أن وجدت ( الهيولى البدئية ) لا قبل ولا بعد ، أي لم تأت من عدم ، إذ لم يكن هناك عدم ولن يكون .
4- الطاقة لا تنفصل عن المادة والمادة لا تنفصل عن الطاقة ، فكل مادة تتحول إلى طاقة إذا ما تحركت أو انطلقت أو تفاعلت بسرعة معينة ، والطاقة تتحول إلى مادة كلما أبطأت من سرعتها .
5- الوجود مكون من مادة وطاقة ولا شيء غير ذلك .
6- المادة أبدية لا تفنى .
7- الوجود واحد وليس وجودين ( خالق ومخلوق ) طاقة ومادة ولا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى .فالوجود المادي تمظهر للطاقة ولا شيء غير ذلك .
8- الكائنات تخلق نفسها بنفسها بفعل الطاقة الناجمة عن العناصر المادية الأولية التي توفرت لها ، وتفاعلها مع الطاقة الكلية الخالقة السارية في الكون.
9- الطاقة الناجمة لا تنجم إلا بفعل الطاقة الكلية السارية في الكون .
10 – عملية الخلق بحد ذاتها هي غاية وكل ما ينجم عنها له غاية أيضا هي أن يكون خالقاً بدوره.( أي أن الغاية من خلق البشرهي أن يكونوا خالقين )
11- عملية الخلق تكاملية بين الخالق والمخلوق ، ( أي بين الطاقة والمادة ) فلا خالق دون خلق ولا خلق دون خالق فهما كل واحد لا يتجزأ .
12- الطاقة الخالقة هي الذات الكلية السارية في الكون والكائنات .
13- كل كائن يحمل بحد ذاته طاقته الخاصة ( ذاته) غير المنفصلة عن الذات الكلية ، دون أن يكون هو الذات الكلية . وليس من حق أي كائن أن يقول : أنا الذات الكلية ، أو أنا الطاقة الخالقة ، أو أنا الله . حسب ما كان يقول بعض المتصوفه . قد يجوز ذلك للوجود كله !!
14- مفردة الله مفردة لغوية أوجدها البشرباختراعهم اللغة في زمن قريب جداً من عمرالخلق المديد. وليس هناك أي مانع من إطلاقها على الطاقة الخالقة ، أو الذات الكلية ، كونها مفردة شمولية تعبرعن القدرة الطاقوية القائمة بالخلق والسارية فيه .

15- كل ما تفكر فيه الكائنات وفي مقدمتها الإنسان لا ينفصل عن العقل الكلي (الكوني) للذات الكلية ( الطاقة الخالقة ) الله إن شئت . ولذلك لا يذهب كل فكرسدى بموت الإنسان . فهو مخزّن في العقل الكلي للإفادة منه وتوظيفه في الخلق القادم . لتحافظ عملية الخلق على تطورها ولا تعود إلى الصفر في حال حدوث كوارث طبيعية أوغير طبيعية قد تدمرالحياة على الكواكب .
16- كل ما يصدرعن الكائنات مهما كان صغيراً لا يتم دون وجود الطاقة الكلية ( الحيوية) السارية في الكائن والمحيطة به .
17- الطاقة الخالقة الكلية ليس لديها جنة ونار ولا تحاسب ولا تعاقب ولم تنزل تشريعات وقوانين ولم تحلل ولم تحرم ، فالحساب والعقاب والتشريعات مسائل تخص المجتمعات وهي من ينفذها ولا علاقة للطاقة الخالقة بها . وليس من حق المشرعين وضع قوانين ينسبونها إلى الله ويطبقونها على المجتمعات. وكذلك ليس من حقهم اصدارفتاوى على الإطلاق مهما كانت . إن كل ما يتعلق بالعلاقة بين الإنسان والله مسألة تخص الله وحده وليس من حق أي سلطة مهما كانت أن تتدخل فيها، حتى لو كانت زندقة وكفراً وإلحاداً. فثمة ملحد قد يكون عند الله أفضل من مليون مؤمن ، لرقي عمله وسلوكه وسمو أخلاقه .
18- بما أن الخلق جميل فغايات الخلق ودون أي شك تنشد قيم الحق والخير والجمال والمحبة وبناء الحضارة الإنسانية، ولا يمكن أن يكتمل الخلق دون أن تتحقق هذه القيم على وجهها الأكمل .
19- جهنم والحساب والعقاب ليست قيماً ولا تتناسب مع أية قيم رحمانية خيرانية جمالية تتمثل في الألوهة .
20- الجنة هي الكوكب الذي نعيش عليه إما أن نحيله إلى قيم خير وحق وجمال أو نحيله إلى جحيم كما يحدث اليوم على كوكب الأرض.
21- العبادة . مسألة تخص الإنسان بينه وبين نفسه وبينه وبين خالقه ولا يمكن تكريسها إلا بالعمل الصالح وسموالأخلاق وتهذيب النفس وتحقيق المحبة الإنسانية والتأمل العميق في الوجود .
22- الفكر الإنساني كله فكراجتهادي لم يصل إلى حقيقة مطلقة بما فيه فكرالملك لقمان ( أنا الباحث عن الحقيقة ) !
******
بدت الرئيسة أمنية العقل مندهشة بعض الشيء لفكر الملك لقمان ولقرب فكره من الفكرالإلحادي لولا تمسكه بالألوهة . سألت : وماذا عن الحياة والموت ؟ أجاب الملك :
- أظن أننا تطرقنا إلى هذا الأمر . يمكن القول :
إنه لا حياة دون موت ، ولا موت دون حياة ، فكما لا خلق دون خالق ، لا خالق دون خلق ، ولا وجود دون غاية ، ولا غاية دون وجود .. لا أحد يمكنه أن يتصورخالقا دون خلق ، فلن يكون هناك إلا العدم ، والعدم ليس خالقاً. فالخالق يتجلى بخلقه ، والخلق يتجلون بخالقهم . فإذا كان الوجود مكون من مادة وطاقة فإن الخالق يكمن في المادة والطاقة ، وقد يكون هوالمادة والطاقة ولا شيء غير ذلك . إن تجلي الوجود بما فيه تجلي الكائنات الحيّة والبشر في مقدمتها هو تجل للمادة والطاقة أو تجل للألوهة . فوجودنا مادي وفعلنا طاقة .
- ما المقصود هنا بالفعل الطاقوي؟
- إنه الحياة ، الطاقة الحيوية السارية في أجسادنا والفاعلة فيها ، والعمل الناتج عنا ، وكل ما نقوم به .
- هل ترى جلالتكم أن الحياة هي نفسها الروح أم أنها النفس أو شيء غير ذلك ؟
- النفس هي باطن الإنسان ، سريرته وضميره وما يعتمل في دخيلته من انفعالات ومشاعر وأحاسيس ومكتسبات معرفية وردود أفعال على ما يواجهه في كافة مناحي الحياة . أما الروح فهي الطاقة الحيوية أي الحياة السارية في الجسد ، وما النفس إلا نتاج عمل هذه الطاقة . حين يموت إنسان نقول : طلعت روحه ! فاضت روحه ! مات ! ماذا يعني فاضت روحه أو طلعت روحه أو مات . يعني ببساطة أنه لم يعد فيه حياة . فالروح هي الحياة ، الطاقة الحيوية ، القدرة على الفعل ، ولا شيء غير ذلك . الطاقة توقفت عن الفعل . توقفت الحياة في جسد الإنسان بالموت ، لكن الحياة موجودة في الكائنات الأخرى كلها، وفي الكون والفضاء المحيط بنا كطاقة . إن موت الحياة في الإنسان مقارنة بالحياة في الوجود هي كمن يأخذ قطرة ماء من محيطات وأنهار الأرض ويرشها على الشاطىء.
- وماذا عن الموت ؟
- الموت ضرورة لاستمرار الحياة وديمومتها . ماذا لو لم يكن هناك موت ؟ أين ستعيش مليارات الكائنات بما فيهم البشر، هل سيحيون فوق بعضهم بعضا ، ثم هل سيوجد غذاء يكفيهم ؟ ثم هل تظل الأرض خصبة وقادرة على انتاج غذاء للجميع . مستحيل ! إذن الموت ضرورة حتمية لكل الكائنات الحية . ضرورة لتستمرالحياة في توازنها ، فدون هذا التوازن ستدمرالحياة . ضرورة للكائن الحي الأكبر، مبعث الحياة كلها : الأرض !! من الأرض جئنا ، وإلى الأرض نعود ، نعود إلى التراب المقدس ، نعود إلى المنشأ الذي جئنا منه . والأرض في حاجة إلى غذاء دائم لتظل قادرة على العطاء ، والغذاء هو أجسادنا وأجساد الكائنات . فكما تحافظ الأرض على بقائها وتوازنها بأن تتنفس بالبراكين والينابيع والزلازل ، حتى لا تتفجر وتدمرالحياة ، فإنها تحتاج إلى غذاء لتستمرفي العطاء . وليس لها غذاء مادي يمنحها طاقة جديدة إلا أجساد الكائنات ، لتستمر دورة الحياة . ويفترض أن الطاقة في الكائن الميت تذهب في الألوهة كما تذهب مادة جسده في المادة . وآمل أن يكون الإنسان حينذاك يحس ويشعر بوجوده الطاقوي ويتمتع بالحياة . وهذا الإفتراض لن يجيبني عنه إلا الله نفسه إن وجد ! ومن الأفضل أن يوضع جسد الإنسان على التراب مباشرة لكي يتحلل في التربة ويختلط معها .. فالدود الذي ينشأ بعد فترة وجيزة في الجسد بتأثيرالطاقة الناجمة عن تفاعل مادة الجسد بمادة الأرض ، يساعد على نقل وتسرب المادة والطاقة في التربة . ولا يتخيلن أحد أن الطاقة السارية في الأرض منفصلة عن الطاقة السارية في الكون . المادة الكونية متصلة ، والطاقة الكونية متصلة ، حتى وإن تشكلت المادة من ذرات متناهية في الصغر.
وماذا عن هذا الإنسان الذي مات وتحول جسده إلى مجرد غذاء للتربة . فهل إذا كان عالماً أو مفكراً يذهب فكره أدراج الرياح ؟! أبدا ، فإضافة إلى التوثيق البشري الذي يقوم به الناس هناك التوثيق الكوني الذي يقوم به الخالق ، أو الطاقة الخالقة. فإذا كان الإنسان عظيما فإن فكره سيخلد للإفادة منه في تطوير الخلق. وإذا كان حماراً فعوضه على الخالق ، يكفيه أنه عاش الحياة وربما كان ثرياً وتنعم بها ، وسيكون في موته فائدة لتغذية المادة وإنتاج الطاقة .
وراحت الرئيسة تضحك ! فيما الملك يتابع :
أظن أنني أطلت .. وهناك مسائل كثيرة لم نتحدث عنها .. أهم شيء ينبغي أن يدركه الإنسان أن الإنسان الكامل والخلق الكامل لم يوجدا بعد ، وأن عملية الخلق وتطويره مستمرة إلى ما لا نهاية ، وقد يأتي إنسان في عصر ما له ثلاثة عيون ، وعقل أكبرمن مليون عقل في زمننا !!
وحدقت الرئيسة في وجه الملك للحظات وابتسامة فرحة تطوف على شفتيها ، وما لبثت أن ألقت رأسها على صدر الملك لقمان ، ليحتضنها بدوره ويقبل شعرها، وفي هذه اللحظة بالذات ظهرت الملكة الجنية نور السماء محلقة في الفضاء قادمة نحوهما ، وقد عادت الغيرة تنهش قلبها خاصة وأن الملك والرئيسة يبدوان في غاية الإنسجام وربما الغرام .
****








(37)
غيرة ملكية وحديقة محلقة في الفضاء ! تنبه الملك لقمان وهو يحتضن أمنية العقل رئيسة كوكب الإلحاد للملكة نورالسماء محلّقة في الفضاء قادمة نحوهما .. لكنها عدلت عن القدوم حين رأت الملك يحتض الرئيسة ويقبل شعرها ، فقد توقفت للحظات ثم استدارت في الفضاء وأقفلت راجعة . ربت الملك على ظهر أمنية العقل وهو يردد " انزعجت الملكة " !
رفعت أمنية العقل رأسها عن صدرالملك ونظرت إلى وجهه وهي تتساءل " ماذا " ؟!
أشار الملك نحو الفضاء حيث كانت الملكة تبتعد محلّقة وراحت ترتفع أعلى فأعلى راسمة دوائر منتظمة وكأنها تقوم باستعراض فضائي.
نظرت أمنية العقل لترى :
- هل انزعجت منا ؟
- أجل ! كانت قادمة نحونا ثم عدلت عن الأمر حين شاهدتنا في هذا الوضع .
أبعدت أمنية رأسها عن صدرالملك وتساءلت :
- هل تغار ؟
- أجل هي تغار وقد سبق لها أن تقمصت شخصية أستيرفي رحلتي السابقة وتمددت عارية في سريري لتثيرني !
- وهل واقعتها ؟
- لا ! عرفت أنها هي وليست أستير .
- قدرتها على التقمص والتحوّل عجيبة .
- إنها جنية !
- لكننا لم نفعل شيئا مجرد عاطفة إنسانية اجتاحتني نحوك !
- أدرك ذلك يا عزيزتي .
- هل تتوقع أن تدفعها الغيرة لتتخذ اجراء ما ضدي ؟ ، خاصة وأنها جنية تستطيع أن تفعل المعجزات !
- لا أظن فهي تتخوف من غضبي .
وفجاة ظهر في الفضاء عشرات الشباب وراحوا يحفون بالملكة من كل جانب . بدوا جميلين جدا وفي غاية الوسامة وهم يرسمون حول الملكة حلقات كرنفالية .
- ياي ! ما هذا ؟
- يبدو أنها جنّت !
- ماذا سنفعل .
- لا عليك سأخاطرها.
وشرع الملك في التحدث إلى الملكة تخاطراً ، مسخراً قدراته ليجعل أمنية العقل تدرك هذا التخاطر:
- ما هذا يا حبيبتي ؟
- مجرد لهو كما تفعل أنت مع زعيمة دولة الإلحاد !
- لك أن تفعلي ما تشائين . ليس هناك أي شيئ بيني وبين الرئيسة، مجرد تبادل مشاعرإنسانية . إنها مثل ابنتي . ولا تنسي أنني رجل عجوز ولا أظن أن الرئيسة ستغرم برجل عجوز مثلي . ومن ناحيتي ليس لدي مانع أن تعيشي حياتك وتتمتعي بجمال عنفوان الشباب .
وبدا أن الملكة فوجئت بما يقوله الملك فراحت تعتذر :
- معذرة يا حبيبي ، أغفرلي غيرتي ، خاصة وأنك تمضي الكثير من الوقت مع الرئيسة .
- نحن في حاجة إلى هذا الحوار كوننا نشكّل أعلى مرحلتين في الفكر الإنساني . الإيمان المختلف الذي أمثله أنا والإلحاد الذي تمثله الرئيسة . وأكاد أجزم أن مستقبل العقل البشري يكمن في هذين المستويين من الفكر، إما الإيمان المختلف وإما الإلحاد .
- هل تسمح لي بأن أنضم إليكما ؟
- لست في حاجة إلى اذن مني يا حبيبتي!
اختفى عشرات الشباب وكأنهم لم يكونوا . وهبطت الملكة محلّقة لتحط على المحفة . قبلت الملك والرئيسة .
لم تصدق الرئيسة أن المسألة انتهت بهذه البساطة . والحق إنها في قرارة نفسها لم تكن متأكدة تماماً من أن مشاعرها تجاه الملك مجرد عواطف إنسانية ، خاصة وأن ممارسة الغرام حسب مفهومها ، أرقى المشاعر الإنسانية ولا تتناقض معها إطلاقاً . وهذا ما قد لا تدركه الملكة الجنيّة ، بينما يدركه الملك لقمان .
- هل ستتناولان الغداء هنا ؟ سألت الملكة .
- لماذا لا ، وليكن غداء من تحت يديك !
( هتف الملك )
- ماذا ترغبان ؟
- أنا في بالي اقريدس وحجل مشوي وسلطة فطر ! وكأس وسكي !
(هتفت الرئيسة )
- وأنت حبيبي !
- مثل ما طلبت سيادتها !
- وأنا كذلك !
كانت المحفة معلقة بمجموعة أسلاك تقطع الوادي بين الهضبتين أو تعبر منتصفه لتحلق فوق النهر . أطرقت الملكة للحظات تستحث قواها الخارقة وإذا بالمحفة تتحول إلى حديقة ساحرة تعج بأجمل الورود وقد انتصبت في منتصفها مائدة فاخرة أحاط بها أربع فتيات خارقات الجمال يرتدين فساتين قصيرة وقمصاناً تنحسرعن الأكتاف والصدور فيما تقاطعت نوافير مياه ملونة في اتجاهين متعاكسين على ارتفاع مترين فوق المائدة ، وانطلقت من سفوح الهضبتين نوافيرأخرى راحت تقطع فضاء الوادي في اتجاهين متعاكسين أيضا لتمر من فوقهم على ارتفاع حوالي عشرة أمتار!
- ياي ياي !
هتفت الرئيسة وهي تجد نفسها جالسة إلى المائدة وتنظربدهشة خالجتها الإبتسامات والفرح إلى عالم أقرب إلى السحرمنه إلى الواقع . وما لبثت أن هتفت محيية الجن !
- يعيش الجن الذين أنجبوك أيتها الملكة !
- تشكري عزيزتي لم أفعل إلا ما يليق بمقامك ومقام الملك !
لم يبد على الملك لقمان انه تفاجأ بالأمر وإن بدا مسرورا لما أقدمت عليه الملكة . رفع كأسه ليشرب نخب الرئيسة والملكة .
هتفت أمنية العقل بعد أن أخذت جرعة من كأس وسكي وأعادته إلى مكانه :
- لا أصدق أن ما يتخيله الجن يتحقق بهذه السرعة الخارقة ، إلى حد أنني لم أعد أعرف هل نحن في عالم متخيل أم في عالم من السّحرأم في واقع !
أجاب الملك :
- الأمر بسيط ويتعلق بكلمة ( كن ) التي بدأ بها الخلق حسب معتقداتنا الأرضية ! كل ما في الأمر أن الملكة قالت في سريرتها ليكن كذا فكان !
- وهل الملكة إلهة حتى يلبى طلبها ؟
- لا ! الألوهة منحت بعض قدراتها للجن دون الإنس !
- ولماذا الجن دون الإنس !
- هذا السؤال لن يجيب عنه إلا الله نفسه !
- وهل نحن الآن في واقع أم في خيال ؟
- نحن في واقع متخيل ومتخيل غيرواقعي !
هتف الملك وتابع :
- تفضلي سيادتك إلى الطعام !
مدت الرئيسة يدها بشوكة وتناولت قطعة اقريدس راحت تتلذذ بطعمها وتعلق :
- ياه! كم هو لذيذ هذا، رغم أنه متخيّل غير واقعي !
*****
(38)
انقلاب تكنولوجي ينتج إلها تكنولوجيا !!
وهم يتناولون القهوة بعد الغداء في الحديقة المعلقة حدث ما لم يكن في الحسبان ، فقد خاطر الملك شمنهورالملك لقمان صارخاً " مولاي ثمة عشرات الصورايخ العابرة للكون تتجه إلى الكوكب لتدمره "
انتفض الملك لقمان في جلسته وطلب إلى الملك شمنهورأن يتصدى للصواريخ بكل قواه .
هتفت الرئيسة أمنية العقل رئيسة كوكب الإلحاد :
- هل هناك شيء جلالتك ؟
- أجل ! ثمة صواريخ تتجه نحو كوكبكم . هل لكم أعداء ؟
- صورايخ ؟ لو نعرف لنا أعداء لما ألغينا الجيوش . بل وكنا نعتقد أنه لا يمكن لسكان كوكب آخر أن يغزوا كوكبنا . هل فعلت شيئا جلالتك ؟
- أكيد ! لن أسمح بتدمير كوكب يقيم عليه بشر ! فكيف بكوكب أنا في ضيافته ؟
وظهرت شاشة ضخمة منتصبة في الفضاء لتبدوعشرات الصواريخ هائلة الحجم تنطلق في الفضاء نحو الكوكب ، فيما انطلقت لمواجهتها عشرات الأجرام والنيازك والشهب الضخمة المشتعلة ، وما لبثت أن اصطدمت بالصواريخ لينتج عنها انفجارات ضخمة ، بدا واضحا للملك لقمان أنها انفجارات نووية .
صرخت الرئيسة هلعة وهي ترقب صراع الخيال الديني مع الخيال التكنولوجي العلمي، لم تصدق ما تراه عيناها ، كان الفضاء يلتهب بالنار والإشعاعات المنطلقة في اتجاهات مختلفة التي راحت تصهر ما يعترضها لتحيلة إلى غازات ملتهبة .
- هل هذا الجحيم بعيد عن كوكبنا أيها الملك ؟
- لا تخافي عزيزتي إنه بعيد ولن يؤثرعلى كوكبكم !
- هل أنت متأكد ؟
- أجل لا تخافي ، ولن نخبر سكان الكوكب بما يجري حتى لا يصابوا بالرعب .
- لكني خائفة !
- أرجوك لا تخافي . أظن أنه ليس هناك قوة تقدرعلى مواجهتي إلا قوة الله !
وظهرعلى الشاشة مئات الصواريخ هذه المرة التي بدت أكبرمن سابقتها وحين اصطدمت بالنيازك والشهب والمذنبات والأجرام التي يطلقها الملك شمنهورانفجرت مطلقة طاقة شعاعية بيضاء راحت تتمدد بسرعات هائلة لتغطي كوناً بأكمله مدمرة عشرات الكواكب والنجوم .
بدت رئيسة كوكب الإلحاد في حالة من الرعب الفظيع رغم أن الملك لقمان طمأنها بل وضمها إلى جنبه وراح يربت على كتفها وهي تحدق هلعة في الشاشة الفضائية ، فيما بدت الملكة نورالسماء في غاية الدهشة إنما دون أن يبدوعليها أي رعب . تساءلت الرئيسة:
- ما هذه الطاقة الرهيبة ، شيء لا يصدقه العقل . كواكب بأكملها تنصهر !
- إنها صورايخ محملة برؤؤس نووية وهيدرجونية .
- أي مجنون هو من يفعل هذا ؟
- سأرى يا عزيزتي .
شرع الملك لقمان في مخاطبة الملك شمنهور جهرا :
- هيا أيها الملك أرسل جيشا يقتحم كل القواعد العسكرية على هذا الكوكب ويسيطرعليها . حاول قدر الإمكان أن لا تؤذي أحدا . لقد توقفوا عن إطلاق الصواريخ وهذا يعني أنهم أدركوا أن ليس في إمكانهم مواجهتنا .
لم تمر سوى لحظات حين خاطب الملك شمنهورالملك لقمان بما لم يتوقعه على الإطلاق :
- مولاي نحن نحارب جيوشا آلية وليست بشرية!
- هل أنت متأكد أيها الملك ؟
- أجل يا مولاي الجيوش التي نراها هي من الجنود الآليين الذين يقودون طائرات ودبابات وسفناً وغواصات ويقفون خلف مدافع وقاذفات صواريخ عملاقه .
- سيطر عليهم بأي وسيلة أودمرهم . وانظر لي في أحوال هذا الكوكب ما هو ؟
سخر الملك شمنهور جيشا من مليون جني شرعوا في الإنقضاض على الكوكب وراحوا يسيطرون على كل القوى العسكرية بأن يحملوا الجنود الآليين ويقذفوا بهم بعيداً عن دباباتهم وطائراتهم وسفنهم وصواريخهم ومدافعهم . جابوا أنحاء الكوكب كله . وتقمص بعضهم أشكالاً إنسانية وتحدثوا إلى بشرعاديين في بعض الدول . وأرسلوا تقاريرهم إلى الملك شمنهور . الذي شرع في إخبارالملك لقمان :
- مولاي هذا الكوكب يحوي مجموعة دول تحت سيطرة الدولة الآلية التي يحكمها إنسان آلي جعل من نفسه إلهاً !! الدولة الآلية كانت أكثرالدول في الكوكب تطوراً ، فصنعت جيشا آليّاً .. غير أن قائد هذا الجيش الآلي لتفوقه العقلي التكنولوجي أصبح مع مرورالزمن يطوّرقدراته بنفسه إلى أن أصبح يملك قدرات تفوق قدرات الدماغ البشري من حيث المحاكمة والتعقل والتبصروالطموح والغاية والتميز والسيطرة . فقام بانقلاب آلي وأسقط زعيم البلد وفتك به وبالملايين من سكان الكوكب واستولى على السلطة ، ثم راح يغزوالدول المجاورة ليبسط سيطرته عليها . فاستطاع بجيوشه الآلية أن يهزم جميع الجيوش البشرية ويسيطرعلى كافة الدول ويضعها تحت نفوذه . وهو الآن الحاكم المطلق للكوكب وقد توج نفسه إلها وشرع في مد نفوذه إلى كواكب أخرى . وما الصورايخ التي واجهناها بقوانا إلا بداية الغزو لكوكب الإلحاد .
بدا الملك لقمان والملكة والرئيسة في غاية الدهشة وهم يستمعون إلى تقريرالملك شمنهور .
هتفت الرئيسة :
- هل يعقل هذا ؟ كيف يمكن لإنسان آلي أن يتفوق على البرمجة التي صمم عليها ويمتلك وعياً ذاتياً خارج البرمجة ؟! إنه انقلاب تكنولوجي على صانعيه !
- ما يبدو لي أن برمجته أصبحت تؤثرفي الإنتخاب الطبيعي لتؤثرهذه الأخيرة في برمجته ، ونظرا لأن برمجته متطورة ، فقد اكتسبت قدرات الإنتخاب الطبيعي خلال فترة وجيزة ووظفتها في تطوير نفسها !
- هذا شيء يفوق التصوّر !
- وأن يصبح إنسان آلي جنرالاً غازياً ومهيمناً وإلهاً مسألة تفوق التصور أيضاً.
هتف الملك شمنهور :
- هل أحضره يا مولاي ليمثل أمام جلالتك !؟
- أحسنت أيها الملك كنت أفكرفي الذهاب إليه !
- سيكون بين يديك خلال لحظات يا مولاي !
انتزع جني مخفي الإله من عرش الألوهة في القصرالإلهي وانطلق به بسرعات هائلة . كان بحجم ثلاثة رجال على الأقل .
مرت لحظات صمت وتوجس وترقب قبل أن يظهر في شكل إنساني يقدم عبرالفضاء ، وبدا وهو يحاول الإفلات ممن يحمله ويطير به دون جدوى . توقف في الفضاء على مسافة أمتارمن مجلس الملك لقمان . أشارالملك إلى الجني أن يجلسه على كرسي .
لم يبد عليه أنه إنسان آلي ، فجسده الخارجي بدا كجسد إنسان ، غير أنه كان عملاقاً يرتدي زياً عسكرياً جنرالياً . وهذا ما جعل الملك لقمان يشك في أن البرمجة جرت لإنسان مطورإنسانياً وتكنولوجياً بأعضاء صناعية متطورة جداً .
هتف بصوت إنساني متجهم مخاطباً الملك لقمان :
- من أنت حتى تجرؤ على محاربة الله وأسره بقواك ؟!
- أنا الذي يسأل هنا جل جلالك ! !
ضحكت الملكة نورالسماء حين وجدت الملك لقمان يخاطب هذا الكائن كإله فيما كانت الرئيسة تحدّق بدهشة إلى هذا الكائن الضخم .
- ها أنت تعترف بمقامي الإلهي السامي فلماذا تحاربني ؟
- لأنك تسعى إلى الهيمنة بوسائل فتّاكة !
- ماذا تريد ؟
- أريد أن أخلّص البشرية من الآلهة القتلة الذين أمثالك !
صمت الإله وكأنه لم يجد ما يرد به على الملك ، فيما كان الملك يتساءل في نفسه عمّا إذا كان هذا الكائن يعمل بطاقة ذاتية أم طاقة تحتاج إلى شحن من الخارج بين فترة وأخرى ، بل وفكر في ما هو أبعد من ذلك كأن يحصل على الطاقة بتناول الطعام والشراب ، لكنه لا يعرف ما إذا كان يأكل ويشرب ، رغم وجود فم له. سأله :
- هل تأكل وتشرب جل جلالك ؟
- لا ! أنا الله فكيف آكل !
- وكيف تحصل على الطاقة لتستمر في الحياة والعمل .
- لن أقول لك إلا إذا أعطيتني وعدا بعدم تدميري !
فكر الملك لقمان للحظات " هل يعقل أن يعد هذا السفاح بعدم تدميره ، لو كان انساناً عادياً لسهل الأمر . لكن كيف يحصل على الطاقة ؟" وخطر في باله ما هو فوق التصور: هل يمكن أن يستمد طاقته من الطاقة الكلية السارية في الكون دون أي وسيط كالطعام والشراب ؟! مستحيل ! هذا يعني أنه إله أو شبه إله أو أن لديه قدرات خارقة للطبيعة ، أو أن الطاقة التي تنتجها أجهزته الصناعية كافية لتتفاعل مع الطاقة الكلية فتسيّرحركته. أو لعله يستمد طاقته من الشمس ؟ هتف الملك :
- هيا انزع ملابسك ؟
- لماذا أنزعها ؟
- لا تسأل نفذ أوامري وإلا سأدمرك !
- دمّرني إذن !
- أف ! ألا تهمك ألوهيتك ؟
- بل تهمّني جداً !
- إذن اشلح !
- الإله لا يشلح أمام أحد !!
- هكذا إذن !
أشار الملك بحركة من يده وإذا بأزرار ملابسه تفك نفسها والملابس تنتزع دون أن يقدر الإله على وقف العملية .
- انهض !
أدرك الإله الآلي أنه إن لم ينهض بخاطره نهض بالقوة . نهض . لم يكن لديه أعضاء تناسلية . وبدا جسده من أمام خالياً من أي مأخذ يمكن أن تدخل منه طاقة .
- استدر .
استدار .
- انحن !
انحنى . لم يكن له شرج . ولم ير الملك أي مأخذ في جسده يمكن أن تدخل منه طاقة . لعل المأخذ في أخمصي قدميه .
- ارفع قدميك لأرى أسفلهما .
أدرك الكائن الإله ان الملك يبحث عن مأخذ للطاقة في جسده . هتف :
- ليس هناك مأخذ للطاقة في قدمي ولا في أي موضع في جسدي.
- لكن قد تكذب علي أرني .
رفع رجليه في مواجهة الملك . لم يكن فيهما مأخذ فعلاً . لم يبق أمام الملك لقمان إلا ما توقعه : إنه يستمد طاقته من الشمس أو من الطاقة الكلية السارية في الكون ! أطبق الملك لقمان بيديه على رأسه وهو يهتف " يا إلهي يا إلهي ، هل يعقل هذا؟! "
استوعبت الملكة والرئيسة ما توصل إليه الملك لقمان عبرأسئلته وبحثه في جسد الكائن الآلي .. نهض واقترب من جسده . بدا له أن الجسد مصنوع من البلاستك والسيلكون .
كان الملك يدرك أن شعوراً مثل المحبّة والخوف شبه معدومين عند هذا الكائن . ومع ذلك قررأن يفاجئه ليرى :
- سأدمرك أيها الإله !
- دمّرني !
- ألا تخاف؟!
- لم أعرف أبعاد الخوف بعد !
أشارالملك بحركة من يده وإذا بجسد الإله الآلي ينشق إلى نصفين لتبدو الأجهزة الصناعية في جسده وقد تشابكت عبر مئات الأسلاك الدقيقة .
أشار الملك إلى رئيسة كوكب الإلحاد قائلا :
- قد يفيد علماؤكم من البحث في كيفية عمل هذه الأعضاء الصناعية والأهم كيف طورت نفسها بنفسها لتبدو وكأنها نتاج انتخاب طبيعي .
هتفت الرئيسة :
- أشكر جلالتك .
أشار الملك لقمان إلى جنّي أن يحمل نصفي الإله إلى أقرب مركز بحوث علمي على الكوكب .
وأخبرالرئيسة أنه سيضطرأن يذهاب إلى كوكب الإله ليلتقي البشروليس الجيوش الآلية . ورحب بالرئيسة إذا أحبت أن ترافقه . فأشارت إلى أن الأمر يسرها .
******
(39)
قوانين خارقة وإعجازية !
وهو يمثل أمام الملك لقمان بملابسه الرثّة القذرة وشعره الطويل المشعث وقدميه العاريتين الوسختين هتف العالم المجنون مخترع الإنسان الآلي المطورالذي تمرد عليه وجعل من نفسه إلهاً أزهق أرواح ملايين البشروأخضع دول الكوكب لسيطرته . هتف متسائلا مخاطباً الملك :
- من أنت وماذا تريد مني ؟
قيل للملك لقمان إن العالم جن حين هاله ما رأى من أفعال الإنسان الآلي الذي صنعه . فقد راح يفعل ما يتناقض مع البرمجة التي صمم عليها . وبطرحه هذا السؤال على الملك لقمان جعل الملك يشعر أن الرجل غير مجنون إلى الحد الذي قيل له عنه . فقد بدا له أنه لم يحتمل الصدمة التي تلقاها من مصنوعه فحدث له ردة فعل إرادية سلبية .
- أريد أن أعرف على ماذا برمجت إنسانك وهل انقلب فعلا على ما برمجته عليه أم أن حب السيطرة والهيمنة والتسلط وحتى فكرة الألوهة كانت من أصل البرمجة ؟ لكن قبل أن تجيبني أريدك نظيفاً وبملابس نظيفة .
وكان الملك لقمان قد سخر قواه لجعل العالم يتقبل ما يطرحه عليه بل ويستعيد ما يمكن أن يكون قد فقده من قواه العقلية .
لم يقاوم العالم حين وجد نفسه يحمل إلى حمام بخاري وتنزع ملابسه ليجلس وسط حوض من البلاط يتصاعد منه بخارساخن ..
*****
عاد العالم بعد أن أصبح إنساناً آخريليق به العلم ليمثل في حضرة الملك لقمان ، وقد ارتدى زياً عصرياً أسود وشذب شعررأسه وذقنه اللذين غزاهما الشيب ليغلب بياضهما على سمارهما ، وقد تضوّع منه رائحة عطرأخاذ ضمخه به الخدم الجن . وبدا الرجل لا يخلو من وسامة يخالجها وقار العلماء .
- هه ! الآن أنت الإنسان العالم كما أريدك أن تكون !
هتف الملك لقمان .
- أشكر حضرتك . لو أن بني قومي اهتموا بي كما اهتممت أنت لما جننت !
- لماذا لم يهتموا بك ؟
- لأنهم رأوا أنّ علمي قادهم إلى الخراب ، فهم لا يعرفون حقيقة الإنسان الذي صنعته وخاصة حين لم يروا منه إلا ما رأوه .
هذا هو الموضوع الذي سنتناقش حوله . لكن الآن أنت جائع ، تفضل لتناول بعض الطعام والشراب . وسيكون بيننا حديث قد يطول . لم تخبرني ما اسمك ؟
- اسمي عالم ! وربما هنا يكمن سر تعلقي بالعلم !
- أنا اسمي لقمان . يقال أنني ملك على الجن بالدرجة الأولى وربما على الإنس بالدرجة الثانية . رغم أن أحدا لم يتوجني على الإنس كما أنني لم أتوج نفسي على أحد . وهذه زوجتي الملكة نورالسماء . وهذه السيدة هي أمنية العقل رئيسة كوكب الإلحاد الذي قررمخلوقك أن يغزوه !
- وأين هو الآن !
- للأسف دمرته ! لأنقذ كوكبكم من شره .
- فعلت خيراً ! لو تمكنت من الوصول إليه لدمرته بنفسي . كان يحيط نفسه بالآلاف من الحراس الآليين .
- أعرف ذلك .
*****
بعد تناول طعام الغداء على مائدة زخرت بالمأكولات المختلفة والمشروبات المنوعة . هتف الملك لقمان :
- سنعود الآن إلى السؤال الذي طرحته عليك في البداية ،وقبل أن تدخل الحمّام ." أريد أن أعرف على ماذا برمجت إنسانك وهل انقلب فعلا على ما برمجته عليه أم أن حب السيطرة والهيمنة والتسلط وحتى فكرة الألوهة كانت من أصل البرمجة ؟"
- سؤال جلالتك صعب للغاية وليس في الإمكان الإجابة عنه إجابة قاطعة !
- لماذا ؟
- لأن البرمجة لا تستند إلى مفردة لغوية فحسب بل إلى قصص وتعاليم تترجم أو تشرح المفردة ، فإذا ما أردنا أن نبرمج المحبة مثلا في إنسان آلي لا يكفي أن نضع في البرمجة مفردة " محبة " أو ما يرمز إليها ، لكي يمارس الإنسان الآلي المحبة ، فهو لن يعرف معنى المفردة إلا إذا وجدت شرحاً وافياً لمعناها . وإذا ما أردنا برمجة أشمل ، فلا بد من مئات القصص المتنوعة عن الحب ، وإذا ما أردنا موسوعة عن الحب والمحبة فقد نحتاج إلى ملايين القصص والتعابيرولن تكون البرمجة مكتملة بالمطلق لمعاني الكلمة ، فالمعاني ليست معان فقط بل حالات إنسانية . ولنفترض أن إنساناً ما سأل إنساناً آلياً ، قائلا " هل تحبّني ؟"
فإن الإنسان الآلي لن يجيب ب ( أحبّك ) أو ( أنا أحب كل الناس ) أو أية إجابة محتملة أخرى ما لم تكن موجودة ضمن البرمجة .
- وهل برمجت المحبة في إنسانك أم أنك أهملتها ؟
- للأسف لم يخطر في بالي أن إنساني سيسعى إلى المحبة أوأنّ أحداً سيسأله عنها ، ولهذا أهملتها وربما هنا يكمن خطأي الفادح . فإنساني كان مبرمجاً على التنفيذ فقط بالدرجة الأولى وعلى محاولة الحد الأدنى من الإبداع بالدرجة الثانية ، كأن يكون قادرا على المحاكمة العقلية إذا ما واجه موقفاً لم يكن مبرمجاً عليه . ولم يخطرببالي أنه سيبدع أكثرمما توقعت في هذا المجال .
- هل برمجته على معاني التفوّق والتميّز والتسلّط والألوهة مثلا ؟
- بحدود وخاصة في التفوّق . لكني لم أعرف أنه سيكون قابلا للتأثير في الكائنات والتأثر بها بحيث اكتسب منها وخاصة من الإنسان غريزة البقاء، بل والبقاء للأقوى، فنما في برمجته الخارجة عن إرادتي عشق الألوهة كونه وجد أنها الأقوى والأبقى . وهذا ما لا أستطيع معرفة الآلية التي تم بها . فهي مسألة تتجاوز قوانين العلم لتدخل في قوانين الطبيعة التي تشكلت وتطورت عبر مليارات السنين . وما تشكل عبر مليارات السنين وأصبح في الإمكان اختزاله في نواة متناهية في الصغر ، لا يمكن معرفة آليته خلال بضع مئات أوآلاف من السنين .
ما أعرفه توقعاً أن الكائنات تتأثر بسلوك وأفعال وأشكال الكائنات الأخرى فينتج لديها طموح في أن يكون لها سلوكها وأفعالها وأشكالها وجمالها. يختزن هذا الطموح في وعي الكائنات ويتفاعل إلى أن يصار إلى انتاجه في الكائنات اللاحقة عبرصيرورة معقدة وخارقة وإعجازية من تفاعلات المادة والطاقة .
- هذا ما نسميه الإنتخاب الطبيعي عندنا . لكن ألا ترى أن هناك طاقة كونيّة وعقلاً كونيّاً لهما دورأساس في المسألة .
- أكيد . الطاقة معروفة ومكتشفه وهي موجودة في كل مكان ، ولا يمكن لشيئ أن يتم دونها ، لكن السؤال هل يتم بعقل أم بدون عقل . وهل العقل كوني أم أنه ذاتي . على الأغلب أنه كوني .
- هل تعترف بالألوهة ووجود إله ؟
- لا أستطيع أن أجزم بوجود إله ، كما لا أستطيع أن أجزم بعدم وجود إله ، فهذه مسألة لم يحلّها العلم بعد ، ما أجزم به ، هو أن المفاهيم التي قدمها أسلافنا عن الألوهة هي مفاهيم بشرية خاطئة بالمطلق ! قد نستثني المسؤولية عن الخلق إنما بمنطق خطأ.
- هل يمكن أن تكون الطاقة السارية في الكون هي الألوهة أو ما يمثلها ؟
- احتمال ممكن .
- وهل تعرف وجودها كألوهة أو لا تعرف ؟
- هذا يحتاج إلى الألوهة نفسها للإجابة عنه . أي إلى الله !
- هل في مقدورك تحديد الثغرات التي استغلها إنسانك لينقلب عليك وعلى المجتمعات ويحمل فكراً عدوانياً ؟
- للأسف ليس بالضبط . إنساني مبرمج على أكثر من خمسين مليار معلومة فلا أستطيع تحديد المعلومات المستغلة . لكن في الإمكان القول إنها المعلومات المتعلقة بالتفوق والتميزوالمحاكمة والإبداع وما إلى ذلك .
- أشكرك أيها العالم . سنكمل حوارنا . إنما حول ما تراه لمستقبل دول كوكبكم بعد أن قضيت لكم على الطاغية . وآمل أن لا أكون قد أثّرت على المعلومات التي يحتويها.
- المعلومات مخزّنة في أرشيفنا فلا مشكلة .
- في مقدورك الآن أن تأخذ بعض الراحة .
******

(40)
العشاء في بحر معلق في السماء !
لقاء حميم جمع الملك لقمان بزعماء كوكب الإله الآلي الذي اتفق على أن يسمى "كوكب الحضارة الإنسانية " وأن يكون الإنسان ورقيّه وسعادته هو الغاية التي يسعى الجميع إليها، عبر نظام ديمقراطي علماني يحترم الإنسان ويضعه في مكانة سامية أقرب إلى القداسة ، فأصبح بذلك أول كوكب في الوجود كله يؤمن بالإنسان بالمعنى القداسي ، أي أنه حلّ محل الألوهة والإلحاد أيضا ، ليصبح الكوكب وكأنه خارج الإلحاد وخارج الإيمان بإله . الإيمان بالإنسان وحده صانع الحضارة والمعجزات . خاصة وأن الكوكب أصبح على درجة من العلم تمكنّه من التحكم بالطقس ، وإنزال الأمطار وتوقفها ، وصنع كافة الأجهزة والآلات التي يحتاجها المجتمع بما فيها أعضاء الجسم الإنساني . واتفق على إعادة صهر الآلات العسكرية والأسلحة لإنتاج آلات تخدم الزراعة والصناعة ومختلف الأعمال . وإعادة برمجة العسكرالآليين للقيام بأعمال وخدمات إنسانية . وتوظيف الطاقة في كافة مجالات الحياة البشرية .
وإقامة نظام اجتماعي اقتصادي يحقق قدراً رفيعاً من المستوى المعيشي لسكان الكوكب كافة .
وانتخب الحضور مجلساً مؤقتا من خمسة عشرعضواً برئاسة العالم يتولى إدارة شؤون البلاد إلى أن تجري انتخابات حرة .
وما إن انتهى الإجتماع حتى دعا الملك لقمان زعماء وزعيمات الكوكب إلى حفل عشاء حضره قرابة عشرة آلاف مدعو ومدعوة .
أقام الملك لقمان الحفل في بحر معلق في السماء غير أنه لم يدع المدعوين يقيمون في الماء بل على موائد أقيمت في روض ضمن تجويف بيضوي الشكل بدا ككهف واسع نزلت وتصاعدت من جدرانه صخور مرجانية وتخللت ممراته شعب مرجانية حية وورود مختلفة الألوان والأحجام وتم الدخول إليه عبر ممر تخلل الشعب المرجانية. صعد المدعوون إليه بمحفات طائرة. وكانت مياه البحر تبدو من شقوق وكوى كبيرة في الممروفي جدران الكهف تطل منها حوريات عاريات أوأسماك برؤوس حوريات ، يرمقن الحضور بنظرات ساحرة ويوزعن عليهم ابتسامات أخاذة ، ودون أن يندفع الماء إلى الكهف وكأن حاجزاً غيرمرئي يوقفه .
وقد انتصبت كوانين الشّواء في كافة ممرات الكهف ووقف إلى جانبها أجمل الحوريّات الجنّيات مرتديات ما يشبه البكيني إنما من قطعة واحدة فقط تستر الفروج ، فيما ظلت النهود حرة وطليقة تزهو بجمالها الفريد لتمتع أنظارالمدعوين وتزيدهم إحساسا بالمتعة والجمال. وكن يشرفن على تقليب العجول الصغيرة والخراف والجداء والإوزعلى الجمرالمتوهج في الكوانين .
وفي مقصورات مرجانيّة في الجدران جلست عازفات فاتنات خلف آلاتهن الموسيقية وشرعن في عزف موسيقى وجودية حالمة حلقت بالمدعوين إلى آفاق غير محدودة .
وبدت الموائد عامرة بكافة المقبلات المنوعة والخمور والكؤوس الجميلة . وبدا جميع المدعوين والمدعوات في غاية الدهشة وهم يرقبون جمال المكان الذي وجدو أنفسهم يجلسون فيه على موائد لم يحفلوا بمثلها من قبل . وراحوا يتعجبون لقدرات الملك لقمان وقدرات الجن الخارقة لكل ما هو واقعي وعلمي ، ولم يعودوا يعرفون أنفسهم ما إذا كانوا يجلسون في عالم واقعي أم في عالم متخيل .
لم يلجأ الملك لقمان إلى خدمة خارقة في تناول المشروبات الروحية ، فجعل الحوريات يقمن بملء كؤوس الضيوف احتراماً وتكريماً لهم . وقد جلس إلى مائدته الملكة نورالسماء وأمنية العقل رئيسة كوكب الإلحاد والعالم وعشرة زعماء وعشر زعيمات من زعماء الكوكب . نهض الملك رافعاً كأسه ليشرب نخب ضيوفه فنهض الجميع وشربوا الأنخاب وتبادلوا قرع الكؤوس وصدحت حورية من مقصورة مرجانية في جدارالكهف بصوت عذب :
يا ميجنا ويا ميجنا وياميجنا / حب الأحبة ملح زادنا وعشقنا !
ردد كورس الحوريات الذي كان يقف في مقصورة تعلو مقصورة المغنية الكلمات، ولم يلبث الحضور أن رددوا الكلمات بعد أن سخر الملك لقمان قواه لأن يفهم جميع الحضوراللغة العربية ويتذوقوها .
إلكم نفرد أحضان السما / والنجوم زفة عرس لفرحنا
والكون يهبط من سابع سما / وكواكب عشق لصدرا اتضمنا !
ياميجنا ويا ميجنا ويا ميجنا / حب الأحبة ملح زادنا وعشقنا !
نهض الألاف وشرعوا يرقصون متمايلين بأجسادهم مترنمين بالكلمات التي نقلتهم إلى عالم الحب والأكوان والأحلام غيرالواقعية ، كما هي الأحلام في معظم الحالات .
وظهرت على مسرح انبثق ضمن مقصورة واسعة في جدارالكهف فرقة راقصات شرقيات بأزياء رقص عربية وشرعن في الرقص بأن رحن يهززن نهودهن وخصورهن ويرقّصن أرجلهن ويهززن أردافهن في حركات سريعة مدهشة .
تمايلت أجساد المدعوين والمدعوات ودارأثرالخمرة في الرؤوس فترنحت الأجساد ، واحتكت الأفخاذ بالأفخاذ ، وتبودل الضم والعناق ، وصدحت الأصوات بما يعتلج النفوس من أشواق ، وحلّقت في فضاء الكهف نجوم فسفورية راحت تتراقص على أنغام الموسيقى . وطال الهيام بالحضورفاصطخب الروض بالأصوات المغنية والأجساد المتراقصة ، ولم يعد الناس إلى الجلوس إلا بعد أن دعا الملك لقمان الحضور إلى تناول الطعام .
أقدم الملك لقمان على عكس ما فعله في تقديم المشروبات فقد أحب أن يري ضيوفه أرقى أشكال الخدمة الجنية التي تتم بالطاقة البصرية ، أي ما أن يشتهي المرء شيئا حتى ينظر إليه ليأتي إليه ويضع في صحنه ما يريد موظفا قدرات خارقة غير معقولة دون استخدام شوكا وسكاكين أوأنها غير مرئية .
صدح صوت حورية في كافة أرجاء الروض مرشداً المدعوين إلى طريقة الخدمة البصرية منوهاً ، أنه في الإمكان الإستعانة بالحوريات لمن يواجه أية مشكلة . راحت السفافيد المحملة بالعجول والخراف والجداء والإوز تحلق في فضاء الروض قاصدة الموائد المختلفة وكذلك أطباق المقبلات والسلطات ، دون أن يصطدم سفود بسفود أو طبق بطبق وكأن كل شيء يتحرك وفق منظومة دقيقة يستحيل أن تخطئ!
أشار الملك لقمان إلى أربعة سفافيد مختلفة ( عجل وخروف وجدي وإوزة ) طارت من أماكنها لتقف على ارتفاع يقارب المترعن المائدة . هتف إلى أمنية العقل :
- ماذا تفضلين عزيزتي ؟
- أشارت إلى جزء من فخذ العجل .
وإذا به ينقطع من مكانه ليحط في طبقها !
( اوه ) هتفت متعجبة ! فيما كانت قطع اللحوم تنفصل عن المشويات المختلفة حسب الطلب وتحط في الأطباق لتعلو تأوهات المدعوين من هذه القدرات الخارقة في الخدمة .
*****

(41)
* الأنوناكي والطوبى التي لا يعرف الكهنة ما هي !
ودع الملك لقمان كوكب الإلحاد ممثلا برئيسته " أمنية العقل " التي رجت الملك أن لا يحرم الكوكب من زيارة ثانية تطول أكثرمن هذه. وفيما كان يحلّق موغلا في الكون غيرالمتناهي دون أن يصل إلى حدود ما، خطرت في باله فكرة ، فسأل الملكة التي كانت تجلس إلى جانبه :
- هل يمكن أن يتمدد الكون بسرعات فائقة تفوق أقصى سرعة لمركبتنا بحيث لن نستطيع بلوغ حد له ؟
هتفت الملكة بعد إطراقة :
- هذا ممكن جدا خاصة إذا كان الكون يتوسع بسنين ضوئية .
- يبدو أنني لن أتوصل إلى حقيقة أي شيئ وسأظل أراوح في مكاني . كم بودي أن أعثرعلى كوكب الأنوناكي الذين يقال إنهم كائنات فضائية متطورة هبطت على الأرض وساهمت في خلق الإنسان وأوجدت الحضارة السومرية .
ضحكت الملكة وهي تتساءل :
- يا إلهي إذا عثرت على الأنوناكي وتبين لك أنهم من خلَقَ الإنسان فسيصبح خلقنا موضع شك وتساؤل !
- أنتم نتاج خيال بشري بدائي كالمعتقدات يا حبيبتي ولم توجدوا يوماً !!!
قهقهت الملكة هذه المرة وهي تحاول إدراك وجودها المتخيل بضم رأس الملك إلى حضنها !
- خسارة إذا لم نكن موجودين !
- وأنا من أكبر الخاسرين يا حبيبتي .
وصدح صوت قائد المركبة معلنا دخول مجرة جديدة وأن ثقباً أسود تحيط به هالة سوداء يعترض طريقهم . أشار الملك إليه بالإبتعاد عن الثقوب والهالات السود لأنه ليس مهيئاً للدخول في ما يمكن أن يكون جحيما ! ولم تمر سوى دقائق حين خابره ثانية مؤكداً أنهم دخلوا سماء كوكب مأهول وأنهم الآن يحلّقون فوق جبال وهضاب تعلوها مئات المعابد كما يبدو من شكلها .
بدا الملك متردداً وهو يفكر في شأن المعابد فيما كانت الملكة متحمّسة للنزول متوقعة وجود إله مختلف هنا !
- تقصدين مفهوماً مختلفا للإله !
- ما أدراك يا حبيبي قد نجد الإله نفسه هنا ؟
أعجبت الملك الفكرة :
- هيا أيها القائد أهبط على مقربة من أكبر هذه المعابد .
أطلق بعض الصواريخ على المركبة وهي تقترب من الأرض . تصدى لها الملك شمنهور ببعض االنيازك ، فيما أعلن قائد المركبة أنهم رسل سلام.
****
توقفت المركبة على ارتفاع بضعة أمتار من الأرض وعلى مقربة من المعبد الذي يغطي مساحة كبيرة من الهضبة . كان بعض القاطنين في المعبد يرقبون المركبة من الشرفات . بدوّا كالرهبان بعضهم بزي أبيض يغطّي كامل أجسادهم وبعضهم بزي أسود . نزل الملك والملكة من المركبة وسارا على الأرض في انتظار أن يأتي أحد من المعبد يرحب بهم . فتح باب ضخم خرج منه اثنان قدما في اتجاه الملك والملكة . كان الملك والملكة يلبسان زياً عصرياً لا علاقة له بالملكية ، ولا يضعان شيئاً على رأسيهما، فلا يشير مظهرهما إلى أنهما ملكان .
أدى الرجلان التحية بحركة من يديهما وهما يقتربان من الملك والملكة ويتوقفان . رد الملك على التحية بحركة من يده أيضا . تساءل أحد الرجلين :
- من أنتم وماذا تريدون ؟
- نحن رسل سلام ومحبة ونرغب في ضيافتكم ! أجاب الملك !
انصرف الرجلان عائدين ليظهر بعد لحظات رجل يرتدي الزي الكهنوتي يتبعه رجل وامرأة وبضعة أطفال يحملون كل واحد وردة . توقفوا في فسحة صغيرة أمام المعبد .
تقدم الملك والملكة .. قدم الرجل نفسه كرئيس للمعبد يحمل أعلى مرتبة كهنوتية ، وقدم الرجل والمرأة كمساعدين له . تقدم طفلان بوردتين للملك والملكة فقبّلاهما .
استقبل رئيس الديرالملك والملكة في صالون واسع بعض الشيء لم يخل مظهره من بذخ .
- هل ترغبان حضرتكم في شيء ؟ قال رئيس المعبد !
- يا ليت لو تعرّفنا سيادتك على هذا الكوكب فهبوطنا عندكم كان أول هبوط لنا عليه ؟
- هذا كوكب تقام عليه دول كثيرة مختلفة ، له مجلس أمن وأمم متحدة يرعيان شؤون العالم .
- وماذا عن دياناته ؟
- هناك ديانات كثيرة .
- وهل هي متصالحة مع بعضها ؟
- بعضها أجل لكن بعضها لا .
- ماذا عن ديانتكم أنتم .
- ديانتنا تنسب إلى مؤسسها ما قبل التاريخ وتدعى الزودية نسبة إلى مؤسسها زودي !
- هل هو إله ؟
- لا ليس إلهاً لكنه مقدس ! ثمة من يؤلّهونه بين طوائفنا!
- ومن الإله ؟
- لا يوجد إله !
- لا تعبدون إلهاً معيناً !
- لا لا نعبد !
- هل هذا يعني أنكم لا تعترفون بوجود إله ؟
- لا نعرف إن كان هناك إله لكي نعترف به !
- ماذا تعبدون إذن ؟
- نحن لا نعبد شيئاً ! نحن نسعى للتخلص من الآلام بالتغلب على الشهوات ، والخلود في الطوبى !
- ماذا تقصد بالطوبى ؟
- يمكن القول السعادة الأزلية لصعوبة تعريفها.
- وما هي الشهوات التي ينبغي التخلص منها ؟
- كثيرة بدءاً بالطعام والشراب مروراً بحب التملك وانتهاءً بالجنس !
- لكن ليس في الإمكان الإستغناء عن الطعام والشراب !
- يمكن تناول الطعام البسيط مرة واحدة في اليوم !
- وهل تفعلون ذلك هنا في معبدكم ؟
- لا . لا نستطيع ! بعضنا يكتفون بوجبتين .
- وماذا عن شهوة الجنس ؟
- الجنس شهوة ملعونة ينبغي تطهيرالنفس من شرورها !
- لكن هذه الشهوة ضرورية لبقاء البشرية أم أنكم تريدون لها أن تنقرض .
- لذلك أتحنا الزواج لمن يريد .
- وهل الرهبنة عندكم للذكور والإناث ؟
- أجل ! وللأطفال فوق سن الثانية عشرة .
- هل لديكم مدارس هنا في المعبد ؟
- لدينا مدارس لتعليم الأطفال الإستقامة والنشء السّليم!
- والرهبنة ؟
- طبعا الإستقامة تعني الرهبنة ، أي الترفع عن ملذات الحياة ومحاولة العيش من أجل الوصول إلى الطوبى !
- هل الطوبى هي المسؤولة عن الخلق ؟
- الخلق موجود ليس له بداية وليس له نهاية .
- الطوبى نتاج الخلق إذن وليس العكس .
- لا أعرف !
- إذا كنت أنت لا تعرف فمن يعرف إذن ؟
- لا أحد يعرف . لم يعد أحد من آخر موت له ليخبرنا عن الطوبى ؟
- ماذا تقصد بآخر موت .
- الأرواح عندنا تتناسخ في خلق متجدد إلى أن تحظى بموت أخير يخرجها من دورة التناسخ ويحيلها إلى الطوبى !
- طيب هل الطوبى حالة ؟
- لا أعرف .
- طيب هل هي طاقة أم مادة ؟
- أيضا لا أعرف!
- طيب هل لديكم فكرة عن الحال التي يكون عليها المرء بعد دخوله أوحلوله في الطوبى !
- الدخول المطلق في الطوبى لا يتم إلا بعد الموت الذي لا رجعة منه . لذلك لا يعرف أحد ما هي الحال التي يكون عليها !
صمت الملك لقمان للحظة وهو يستمع إلى تخاطر من الملك شمنهور يخبره أنهم رأوا من شرفات المركبة أطفالاً يبدون مذعورين يستنجدون من خلف زجاج النوافذ . فأرسل جنياً مخفياً تقمص شكل رجل عادي وظهر بين الأطفال ليتوسلوا إليه وهم في غاية الرعب ، أن ننقذهم ، لأنهم يتعرضون للإغتصاب بشكل دائم من قبل الرهبان !
" اللعنة " هتف الملك لقمان في نفسه وهو ينظر إلى وجه الكاهن الرئيس الذي يتحدث عن التطهر من لعنة الجنس والتغلب على الشهوات والإنتصارعلى مبعث الآلام !
- حسنا أيها الرئيس . أشكرك على كل ما أطلعتني عليه . قد نستكمل حوارنا .
********
(42)
قوانين طبيعية وطموحات لقمانية !!
بدا الملك لقمان في حيرة من أمرهذا الكوكب الذي بدا أنه يتشابه مع كوكب الأرض حتى بعقائده ودياناته . كان يجلس أرضا في مواجهة الملكة ويعبث بعود في قشرة الأرض التي كانت جافة . تساءل وهو يرنو إلى وجه الملكة الذي بدا متألقاً تحت أشعة شمس دافئة:
- يحيرني أمرهذا الكوكب يا حبيبتي لا أعرف ماذا في مقدوري أن أفعل مع آلاف المعتقدات ؟ وماذا سأفعل بهؤلاء الكهنة مغتصبي الأطفال .
- أشك في أن يصعب هذا الأمرعليك يا حبيبي !
- ما يحيرني في هذه المعتقدات أن كل معتقد يظن أنه المعتقد الصحيح وباقي المعتقدات خطأ وأن أتباعها كفرة . والمشكلة التي لا تقل أهمية في المعتقد نفسه ، الذي يبدو أنه إيمان في ظاهره ، بينما الفسق والفجور ينخران باطنه ! تأملي هذا المعتقد الذي نحن أمامه الآن إيمان في الظاهر واغتصاب أطفال في الباطن ، رغم أن الدين يقوم على كبح الشهوات واحتقار الملذّات !
- لكن ماذا يفعل مجلس الأمن الذي يرعى دول الكوكب ، لماذا لا يضع حدا لهذه المصائب ؟
- يبدو لي أنه مثل الامم المتحدة ومجلس الأمن على كوكب الأرض، عاجزان عن الفعل !
فاجأ الملك والملكة سرب من الجرذان البيض يقدم نحوهما . توقفا للحظات عن الحوار وراحا يتأملان السرب القادم . توقف السرب على مقربة منهما وشرعت بعض الجرذان في الوقوف على قوائمها الخلفية وكأنها تؤدي تحية للملك والملكة. هتفت الملكة :
- ماذا تريد هذه الجرذان ولماذا لا يبدو أنها خائفة منا ؟!
بدا الملك مطرقاً متفكراً ويبدو أنه ذهب بعيدا في طرح التساؤلات وعثرعلى الإجابات :
- يبدو أنها جائعة !
وأشار الملك بحركة من يده وإذا ببركة كبيرة من الحليب تنبثق على بعد خطوات منهما. شرعت الجرذان في الهروع نحوالبركة واحتساء الحليب لتشكل بأجسادها دائرة بيضوية حول بركة الحليب .
- ولماذا لم تخف وبدا أنها متآلفة معنا كما هي متآلفة مع الناس ؟
- لأنها اعتادت التآلف معها من قبل الناس خلال آلاف الأعوام !
- وهل الأمر نفسه يحدث مع الجرذان في دولة أخرى قد تبعد عن هذه مئات أو آلاف الكيلو مترات ؟
- بالتأكيد لا . فربما يقتلونها هناك . أو يأكلون لحمها . فينتفي التآلف !
- هل ستدخلنا في الإنتخاب الطبيعي يا حبيبي ؟
- ممكن !
- كيف ؟
- يبدو لي أن معظم العقائد في هذه الدولة وربما في بعض الدول الأخرى وليس جميع دول الكوكب ذات منشأ واحد ، وكلّها أو معظمها تتفق على احترام الحيوان ، بغض النظر إن كان الحيوان نتاجاً روحياً لدورة تناسخية بشرية أدت إلى أن تحل الروح الإنسانية بعد الموت فيه ، أو عدم ذلك .
هذا الإحترام الذي نشأ من آلاف الأعوام كون المعتقدات قديمة جداً ، راح يؤثر في الكائنات الحيوانية ويصبح جزءاً من طبيعتها ، بل ويدون في المورثات ، لتنشأ الحيوانات اللاحقة على طبيعة عدم الخوف من الإنسان . وبالمقابل نشأ الإنسان الذي يحترم الحيوان . انظري إلى الحمام في بعض دول الأرض يحط على أكتاف الناس في بعض الدول ويهرب منهم في أخرى . لذلك يكون صيدا سهلا لمن يضطر من الدول التي تأكل الحمام إلى الإقامة في دول لا تأكل لحمه ، فما عليه إلا أن يجلس في حديقة مصطحباً بعض الحبوب ليفردها على كف يده!
شعرت الملكة أن الملك أدخلها في دوامة من الأسئلة التي لا تنتهي. هتفت بعد لحظة صمت :
- هذا يعني أن المعتقد أو بعض ما يأتي فيه وخاصة الأسس التي يقوم عليها يمكن أن يؤثر بيولوجيا في الإنسان ويصبح جزءاً من طبيعته بغض النظرعن سلبيته أوإيجابيته !
- هذا صحيح يا حبيبتي .
- كيف تفسر إذن وجود معتقد كالذي نحن أمامه الآن يرى أن الجنس دنس وينبغي تطهيرالنفس منه ، ومع ذلك يحدث العكس فيتم اغتصاب الأطفال ؟!
- سؤالك رهيب يا حبيبتي ، تصعب الإجابة عنه، يمكن القول : لأن المعتقد من أساسه خطأ ، لأنه يتناقض مع قوانين الطبيعة !! وكل معتقد خطأ لن تكتب له الديمومة ، وإلا لكنا الآن نعبد عشتاربكل تجلياتها ، مع أن عبادتها كانت تعبرعن عصورتجلًي الأمومة ، واحترام المرأة ، بل وتقديسها ، عكس العصورالبذيئة التي رأت المرأة دنساً وكائدة وناقصة عقل ، وما زالت تمتد فينا !! الجنس والتلاقح بشكل عام أساس غريزة البقاء والتكاثر، وهو حق للإنسان والحيوان والنبات أوجدته وأقرته قوانين الطبيعة ، ولا يحق لأي دين اعتباره دنساً!
وهنا قررت الملكة أن تذهب بعيداً في الخيال . سألت :
- وهل تظن يا حبيبي أنه سيأتي يوم يشهد فيه ولو فئة من البشر، مثلا : أن لا إله إلا الله وأن لقمان حبيب الله "
ضحك الملك وهتف :
- آه منك يا عفريتة أنت !! قد يحدث هذا يا حبيبتي ، وهذا لا يعني أن المعتقد سيكون بالضرورة صحيحاً، وإذا كان صحيحا أو شبه صحيح قد يحتاج إلى آلاف الأعوام ليؤثرفي المورثات والتكوين البيولوجي للبشرية ، وإلى آلاف الأعوام ليصبح قانوناً طبيعياً !
- يا إلهي يا حبيبي أنت تنسف كل شيء في المفاهيم البشرية !
- أبدا يا حبيبتي أنا لم أنسف كل شيئ . فكل ما لم ولن يتناقض مع قوانين الطبيعة سيبقى . وحين أقول قوانين الطبيعة، لا أستبعد أي كائن من الطبيعة نفسها ، وعلى البشرية أن تدرك أن فكراً اجتهادياً دينياً أو فلسفياً مرعليه بضعة آلاف أو بضع مئات من الأعوام ، ليس أكثرمن نقطة في محيط فهم الوجود وهو ليس الحقيقة المطلقة وإن كان في بعض جوانبه يحمل شيئاً منها .
- حسنا يا حبيبي . لنعود إلى ما سألتني حوله من البداية . ماذا ستفعل بالكهنة مغتصبي الأطفال هنا ؟
- سألتك لتساعديني يا حبيبتي !
- أقترح أن نتحقق من الأمرأولاً لكي يكون في يديك ما تواجه به رئيس الكهنة .
- كيف ؟
- سندخل بشكل سري إلى غرف الأطفال والراهبات .
- أحسنت ! هيا إلى العمل يا حبيبتي .
أشار الملك بحركة من يده . وإذا بهما يختفيان هو والملكة ليظهرا في غرفة يقيم فيها بعض الأطفال .
*****
(43)
اعترافات رهبانية وفظائع عقائدية !
ثلاثة أطفال ذكور وطفلان إناث يقيمون في غرفة واحدة على خمسة أسرة ، ثلاثة منها متجاورة للذكور وإثنان في مواجهتها للأنثيين. بدا الأطفال جميعاً في حدود الثانية عشرة من أعمارهم ، كما بدا أن الأطفال الذكورلا يقلون جمالاً عن الأنثيين .
ارتابوا قليلا حين ظهرالملك لقمان والملكة نورالسماء فجأة في الغرفة . فتجمعوا إلى جوارسرير، وراحوا يحدّقون إلى الملك والملكة.
- لا تخافوا يا عمّو .
هتف الملك لقمان . وراح يتقدم من الأطفال مالساً بيده على رؤوسهم .
- هل طلبتم نجدتنا يا عمّو؟
ترددوا في الإجابة وهم يتفوهون متلعثمين ببعض الكلمات .
- لا تخافوا يا عمو نحن جئنا لمساعدتكم إن كنتم تشكون من شيء.
تجرأ أحدهم وتحدث دون تلكؤ:
- أجل يا عمو إنهم يغتصبوننا !
- من يغتصبكم ؟
- معظم الرهبان في الدير!
- وما أدراكم أنتم هل اغتصبكم كثيرون منهم !
- نحن نخص رئيس المعبد، لكنا نعرف من الأطفال الآخرين حين يتاح لنا أن نلتقي بهم.
- انتم تخصون رئيس المعبد وحده ؟
- أجل يا عمو!
- كيف عرفتم ؟
- لأنه يستدعينا فرادى أو مجتمعين لمواقعتنا !
- كيف مجتمعين ؟ هل يواقع الخمسة معا ؟
- في الغالب نعم وأحياناً يختاراثنين أو ثلاثة ونادراً ما يختارواحداً وحده . ربما يكون مزاجه مختلفاً حين يفعل ذلك .
- وماذا يفعل مع خمسة ؟
- يوزع أفعالنا حسب رغباته ونحن نمتثل حسب ما علّمتنا المعلّمة !
- هل هناك معلمة لكم ؟
- أجل هناك راهبة تعلمنا فنون الحب !
لم يتوقع الملك وجود معلمين للجنس في المعبد " لا شك أن المعلمة تعرف معظم أسرارالرهبان والأطفال .
أطرق الملك للحظات متأملاً وجوه الأطفال . بدا له أن البراءة أوشكت على مغادرة سحنهم .
- وماذا يعلمونكم غير الحب يا عمو؟
- يعلموننا أصول العقيدة !
- وهل الحب من أصول العقيدة ؟
- أجل . لكنها ليست الأصول التي ينبغي أن يعرفها العامة !
لم يصدق الملك ما يسمع :
- وهل تقتنعون بذلك يا عمو؟
- نحن يجب أن نستمع ونخنع وننفذ ، وقناعتنا لا تهم أحدا!
- إذن كيف أحسستم أن وضعكم غير طبيعي وفكرتم بالإستنجاد بنا ؟
- لشك في أنفسنا أن ما يجري قد يكون أمراً منافياً للعقيدة !
ولم يجد الملك إلا أن يقول :
- أجل يا عمو ، إن ما يجري معكم ليس أمراً منافيا للعقيدة فحسب ، بل من أكبر الجرائم الفاحشة ! سنعمل على خلاصكم من هذا الجحيم يا عمو لتعيشوا طفولتكم كما ينبغي أن تعاش.
نظر إلى الملكة متسائلا . هتفت :
- يفضل أن نذهب لنقابل الراهبة المعلمة !
- ممكن !
وراح يملس على رؤوس الأطفال مودعاً .
******
كانت مقابلة الراهبة تتطلب إذناً مسبقاً لتهيء نفسها للقاء سري مع الملك الهابط من الفضاء. وهذا ما تم عبر رسول جني .
بدت الراهبة في سني الشباب بعد فلا يبدوعليها أنها تجاوزت الثلاثين من عمرها مع أنها تجاوزت ذلك ببضعة أعوام . نهضت مرحبة بالملك والملكة في صالون جناحها الذي زين بتماثيل للحكيم المقدس منشئ الديانة .
- نأمل أن لا تسبب زيارتنا المفاجئة إزعاجا لك .
هتف الملك .
- أهلا بكما . ماذا تشربان ؟
- شكرا، لا نريد إلا أن نستمع منك كمسؤولة في هذا المعبد عن بعض نشاطاته وما يقوم به في سبيل عقيدتكم .
- كأي معبد آخر يدرس أصول العقيدة وكيفية آداء الطقوس . وكيف يمكن للإنسان أن يرقى بمراتب السلوك لبلوغ حالة أرقى في حياته الدنيوية .
شعر الملك أن الراهبة ستقود الحوارإلى غير ما جاء من أجله ، فقرر مقاربة الموضوع :
- لكن ألا يمكن أن يحدث في المعبد ما قد يخدش أصول العقيدة أو يسيء إليها.
ترددت الراهبة في الإجابة قبل أن تقول :
- يمكن أن تحدث أعمال فردية نعالجها .
- تعالجونها حسب أصول العقيدة ؟
- أجل !
أدرك الملك أن الراهبة تتهرب من الإجابة ، فقررالمواجهة :
- وإذا تبين لنا أنكم لم تعالجوها ؟
ارتبكت الراهبة وقد أدركت أن الملك جاء ليحقق ويحاسب أيضا :
- عفوا جلالتك (إذا كنت ملكا فعلا ) فهل جئت لتحقق معنا وتحاسبنا أم لتعرف أصول عقيدتنا ؟
- بل جئت لأنقذ الأطفال الذين تختارينهم حضرتك لأسيادك الرهبان وتعلمينهم فنون الجنس ليمتعوهم على أكمل وجه !
شهقت الراهبة وهي تفتح فمها على وسعه وتضع يدها على صدرها في محاولة لمنع إغماءة قد تداهمها، وقد أدركت أن الملك عرف بعض الحقائق قبل قدومه إليها . لم تعرف ماذا تقول ، ولم تعد قادرة على النظرإلى وجه الملك . وبدا أنها ستنهارخلال لحظات وقد أدركت أن هذا الملك يتمتع بقدرات خارقة ويستطيع أن يفعل كل ما يريد . انطرحت فجأة على قدمي الملكة وراحت تتوسل إليها باكية :
- أتوسل إلى جلالتك أن تنقذيني . أنا عبدة مأمورة مغلوبة على أمري. اغتصبت وأنا لم أتجاوزالعاشرة من عمري و مورس علي كل أنواع الإضطهاد والعنف، إلى أن رضخت مرغمة لكل ما يريده هؤلاء وخاصة رئيس المعبد.
وانهارت الراهبة في نحيب مؤلم .
ربتت الملكة على ظهرها . وأنهضتها لتضمها إلى حضنها وتملس على شعرها وتمسح دموعها ..
- لا تخافي . اهدأي لن يطالك أذى ، وسننقذك مع الآخرين .
راحت الراهبة تهدأ شيئا فشيئا دون أن تتوقف عن النشغ ! ولم يعد الملك يطرح أسئلة وترك الأمر للملكة .
- حدثينا بصراحة وباختصار ولا تخافي من شيئ.
هتفت الملكة .
شرعت الراهبة في الإعتراف دون أن ترفع رأسها عن حضن الملكة :
- مولاتي ! بداية لا بد لي من القول إن ما يجري في هذا المعبد يستحيل أن يجري في أي معبد آخر من معابدنا . ربما تحدث تجاوزات أوأفعال فردية لكن ليس بشكل شبه جماعي كما في هذا المعبد. رئيس هذا المعبد زنديق شوه مفهوم العقيدة حسب مشيئته ، نظرا لتمتعه بشخصية قوية قادرة على إقناع الآخرين وإخضاعهم لإرادتها . فحوّل المعبد إلى وكر للملذات والشهوات راح يمارسها معظم القاطنين فيه .
اختارني رغما عني لهذه الوظيفة الحقيرة لاختيارالأطفال الأجمل له أولاً ولأعوانه ثانياً ولعامة الرهبان ثالثاً ، وتعليمهم بل وتدريبهم على فنون الجنس .
هناك بعض الرهبان المعدودين الذين يمارسون الجنس مع راهبات بالغات برضاهن ، بعد أن مارسنه في طفولتهن رغما عنهن . وهناك بعض الرهبان والراهبات المثليين .. معظم الأطفال يتعرضون للعنف الجنسي وتمارس عليهم سادية فظيعة وخاصة الذين يبدون ممانعة ما .
توقفت الراهبة للحظات وهي تنشغ بين فترة وأخرى . هتفت مختتمة اعترافاتها:
- هذا ما أعرفه يا مولاتي . وقد قلته لكما .
- حسنا يا عزيزتي . عودي إلى مكانك وكوني مطمئنة إلى أنّ أحداً لن يمسك بسوء بعد اليوم .
*****
(44)
منطق الظاهرومنطق الباطن في فلسفة عقيدة الكاهن الطوبي !!
وهما يقفان ظاهرين أمام غرفة الراهبة المعلمة تساءلت الملكة نورالسماء موجهة كلامها إلى الملك لقمان :
- لا بد أن هذا الراهب يحمل منطقاً فلسفياً ولو من وجهة نظره ، أدى إلى إقناع طاقم معبد - قد يتجاوز عدد رهبانه وراهباته المئات - بهذا الفكر الإنقلابي . لقد تحدثت الراهبة عن زنديق يبطن عكس ما يظهر في فهم معتقده ، حين يتطلب الأمرأن يواجه الناس خارج معبده .
- لا شك أن لديه منطقه . سنرى ذلك خلال لقائه .
سار الملك والملكة بشكل مكشوف في ردهات المعبد. ظهورهم المفاجئ في الردهات بعث الخوف لكل من رآهم ، فراحوا يهرولون إلى غرفهم ليلوذوا بها . وقد طلب الملك لقمان من الملك شمنهور وضع حراسة جنية خفية على غرف الأطفال فلم يعد أحد قادراً على الدخول إلى غرفهم ، فما أن يقدم أحدهم للدخول إلى غرفة حتى يشعر بيدين خفيتين تصدانه عن الباب، وإذا ما حاول المقاومة فإن قوة الدفعة تزداد حسب ردة الفعل ، وقد تؤدي إلى سقوط القادم . بدا الأطفال في غاية الفرح وهم يرقبون بعض ما يجري على مرآهم ليشعروا بأمان لم يستشعروه من قبل .
******
فاجأ الملك والملكة رئيس المعبد وهو يجلس مطرقا في مكتبه متفكراً كما يبدو في هؤلاء القوم الذين حطّوا بمركبتهم على مقربة من المعبد ، وبدا أنه يتوقع حدوث ما لا تحمد عقباه .
نهض مرتبكاً حين رأى الملك والملكة يقفان في مواجهته دون أن يتفوها بكلمة . هتف متلكئا :
- ككككك كيف دخلتم ولِم لمْ تستأذنوا للدخول ومقابلتي ؟
تجاهل الملك تساؤله وجلس على أريكة في مواجهته فيما جلست الملكة على أريكة إلى جانبها . وبدا أنه قررالمواجهة من البداية فقد راح يحدج الكاهن باحتقار ويهتف :
- أمثالك لا يستحقون الإحترام لكي يُستأذنوا !
ارتعد جسد الكاهن وكأن صعقة كهربائية مسته ، وحاول أن يتمالك أعصابه ويستعيد رباطة
جأشه ، بأن هتف متلعثما :
- لا لا لا أسمح لك !
هتف الملك بهدوء :
- اجلس أمامي وأجب عن أسئلتي حتى لا ترى ما لا يسرّك !
كان الكاهن ما يزال واقفاً خلف منضدة مكتبه ، تردد في الإستجابة لطلب الملك ، بل وتشجع لأن يهتف وهو يضغط على زر أمامه طالباً نجدة من رهبان الدير :
- ومن أنت حتى تحقق معي !
ولم يكد ينهي عبارته حتى وجد نفسه يحمل بعنف ليخبط جسده على أريكة في مواجهة الملك ، فيما كان بعض الرهبان يهرعون متدافعين خلف الباب وايدي خفية تصدهم عن الدخول .
هتف الملك :
- هل عرفت من أنا أيها الكاهن ؟
- ماذا تريد مني ، وبأي حق تستجوبني ؟
- أريد الحقيقة ؟ وأستجوبك باسم العدالة !
دُفع الرهبان بعيداً من أمام المكتب دون أن يعرفوا من يدفعهم !
- أيّ حقيقة وأيّة عدالة ؟
- حقيقة معتقدك واللاعدالة التي جعلتك تحول معبداً إلى مبغى !
ارتجف الكاهن وقد أدرك أن هذا الرجل عرف كل شيئ ! حاول أن يتهرب وينكر قدرالإمكان :
- هذا غير صحيح يا سيّد !
- وهل يكذب الأطفال الخمسة الذين تغتصبهم ، أم لعل المعلمة المدربة تكذب ؟
صعقت المفاجأة الكاهن " كيف استطاع هذا (الشيطان ) الوصول إلى أطفاله وإلى المعلمة "؟
- ليست الحقيقة كما عرفت يا سيّد ؟
- كيف ؟
- إن ما أفعله هو من أصول معتقدنا !
- وهل تدريب الأطفال على فنون الجنس ومن ثم اغتصابهم هو من أصول المعتقد ؟
- نعم !
- وأين ذهب الدنس والترفّع عن المتع والرغبات ورغد العيش والسعي إلى الطوبى ؟
- معتقدنا يا سيد يفهم من كل فئة اجتماعية حسب مرتبتها الإجتماعية ووعيها وثقافتها . فالدين له وجهان : ظاهر وباطن ! فالعامة لهم ظاهرالدين وكل ما يمكن فهمه ببساطة وعليهم أن يتقيدوا بشرائعه وقوانينه ! والفئة الأرقى في المجتمع عليها التقيد بمعظم الفهم الظاهر والقليل من فهم الباطن ! والفئة الأرقى منها تتقيد بما يمكن القول إنه نصف الظاهر ونصف الباطن . أما الفئة السامية التي بلغت من مراتب الرفعة والسمّو والثقافة والتبصّرفي المعتقد أعلاها وأرفعها ، وهي فئة كبارالرهبان والكهنة ، فهي لا تمارس المعتقد إلا حسب فهمه الباطني ، الذي هو أقرب إلى الطوبى التي تنطفئ أو تذوب أرواحنا فيها وتتحد معها بعد الموت الأخير ولا تعود إطلاقاً إلى دورات التناسخ المديدة . فنحن كما عرفت نمارس المعتقد على وجهه الأكمل ! ونحن لم نصل إلى هذه المرتبة الرفيعة من المكانة والسلوك والتمتع بملذات الحياة الدنيوية إلا بعد دورات تناسخية ربما دامت لعصور !
وتوقف الكاهن عن شرح منطقه الفلسفي ! فيما نظر الملك لقمان إلى الملكة مبتسماً وهو يهز رأسه وكأنه يقول لها " أرأيت ما هو منطق الكاهن الفلسفي "؟
- لكنك لم تخبرني بهذا الفهم في لقائنا الأول ، ولم تطلعني إلا على الفهم الظاهرأو الدارج الذي يتبعه عامة الناس !
- وهل تريدني أن أطلعك على ما يمكن ألا تفهمه كما يحدث الآن ؟
- طيب لنأخذ مسألة واحدة فقط وهي مسألة الجنس . كيف عرفتم أن حكيمكم مؤسس المعتقد قصد عكس ما أظهره وقاله للناس !
- لأنه ببساطة شديدة لم يتخذ موقفاً مضاداً من المرأة والجنس إلا لأنه لم يكن قادراً على تحقيق رغباته الدنيوية منهما ، فالنفس تواقة دوماً إلى الجمال ، وبما أنه لم يكن قادراً على تحقيق رغباتها كانت ردة الفعل هذه ، وليحيل الأمر إلى الطوبى التي فيها السعادة الأبدية المطلقة !
- هل هذا يعني أنه يمكن أن يوجد جنس في الطوبى ؟
- لا نعرف ! ما نعرفه أن المتعة في الإنطفاء في الطوبى هي المتعة التي لا تضاهيها أية متعة على الإطلاق . يمكن القول أنها متعة المتع .
- طيب ولماذا اخترتم الأطفال تحديداً لممارسة متعكم ؟ كان يمكن أن تختاروا نساء بالغات ؟
- وهل البالغات أجمل وأمتع من الصغار الجميلين ؟
- ألا ترون أنكم ترتكبون أكثر الفواحش إجراماً ؟
- أبدا هؤلاء الأطفال سيفتخرون ذات يوم بأنهم كانوا محظوظين بعلاقتهم مع النخبة الأرقى في المجتمع ، نخبة كبار الكهنة ! وهؤلاء لن تحل أرواحهم بعد الموت في بشرأو حتى كائنات أقل شأنا ، ستحل حتماّ في بشرأرقى وأرفع متجاوزين أكثر من دورة تناسخية !
- يعني ممكن إلى المرتبة التي أنتم فيها ! مرتبة ما قبل الطوبى !
- هذا صحيح !
- قل لي ؟ هل المعابد الأخرى من المعتقد نفسه تفعل ما تفعلونه أنتم ؟
- بالـتأكيد لا ،لأنهم لم يبلغوا مرتبتنا لا الإجتماعية ولا الدينية !
- حسنا أيها السيد الكاهن بما أنني لم أقتنع بفلسفتك ولا بمنطقك ، رغم احترامي للمعتقد وللعامة من معتقديه حسب أصوله . فقد قررت أن أبقيك سجيناً في مكتبك هذا إلى أن أنظر في أمرك وأمر رهبانك وراهباتك ! أما الأطفال فسأعيدهم إلى ذويهم ليخبروا بما جرى لهم وليعيشوا طفولة سوية بعيداً عنك وعن أمثالك .
اختفى الملك والملكة . ليغلق الباب على الكاهن .
******
(45)
نسور لقمانية تنفذ أحكام القضاء!
في اليوم التالي أقام الملك لقمان حفل إفطارإلى ما يقرب من خمسمائة طفل من أطفال المعبد. أقامه في الهواء الطلق وسط أشعة شمس سطعت على عشرات الموائد الحافلة بالعسل والزبدة والجبن وحليب الظباء والمعز، وعصيرالفواكه وبيض الحجل والدجاج وشرائح اللحم المقدد المختلفة، وعشرة أنواع من الخبز،إضافة إلى الشاي والقهوة والكاكاو وقطع الشوكلاتة والبسكويت. وقد ألبس الملك الأطفال أجمل الملابس، وأهدى كل واحد وواحدة منهم فرساً جنية، وجدوها في انتظارهم حين خرجوا من المعبد ، فامتطوا أفراسهم لتطيربهم وتحلّق في الفضاء في أسراب منتظمة بديعة ، فعلت قهقهاتهم وصخب مرحهم، فبدوا في سعادة لم يبلغها طفل من قبل . دعاهم الملك للتوقف لتناول الإفطارمعلناً لهم أن الخيول ستبقى لهم ومعهم مدى الحياة. هبطت الخيول على الأرض لتحيط بالروض الذي أقامه الملك ولينزل الأطفال عن ظهورها ويجلسوا لتناول الطعام الذي لم يأكلوا مثله من قبل ، وقد أشرف على خدمتهم عشرات الحوريات الجنيات .
******
حين فرغ الأطفال من تناول الطعام أمرالملك لقمان بإخراج جميع الرهبان والكهنة والراهبات من المعبد . خرج قرابة ثلاثمائة راهب وقرابة مائتي راهبة . وقفوا في صفوف منتظمة كل على حده .
بدا الملك محتاراً وهو يفكر في فرزالمغتصبين من الذين لم يغتصبوا أطفالا واكتفوا بإقامة علاقات مقبولة مع راهبات بالغات . سأل الملكة التي كانت تجلس إلى جانبه . قالت :
- اسأل الراهبات أولا يا حبيبي من قبلت منهن بعلاقة ومن اغتصبت اغتصاباً !
فكر الملك للحظات .
- لكنهن اغتصبن جميعاً أو معظمهن في طفولتهن !
- ماذا ستعمل إذن ؟
- مسألة محيرة . سأجعل الرهبان والكهنة يتقدمون أمام الأطفال والراهبات واحدا واحدا، وكل من اغتصب من قبل أحدهم عليه أن يرفع يده . هكذا سنعرف المغتصبين من غيرالمغتصبين !
- فكرة معقولة !
أشار الملك إلى جنود الجن أن يبدأوا بتقديم الرهبان . كان الكاهن رئيس المعبد أول المتقدمين بضع خطوات أمام الصف .
سأل الملك الأطفال :
- من اغتصبه منكم ومنكن هذا الوحش ليرفع يده !
ولم يكن في مقدور أي كائن على الإطلاق أن يدرك مدى دهشة الملك لقمان حين رأى عشرات الأيدي ترتفع ،فهتف :
- يخرب بيتك ! أي وحش أنت ؟
أحصى الملك شمنهورالأطفال ذكوراً وإناثاً فكانوا تسعة وسبعين ! وجميعهم بين سن التاسعة والثالثة عشرة !
اتجه الملك إلى الراهبات طارحاً السؤال نفسه .
رفعت تسع عشرة راهبة أيديهن !
كرر الملك لقمان شتيمته معتذراً من الوحوش التي لا يمكنها أن تمارس هذا القدر من الوحشية مهما بلغت وحشيتها ! وأشارإلى أن يقف الكاهن جانباً .
تقدم كاهن ثان . لم يرفع أي من الأطفال يده . وحين نظرالملك إلى الراهبات وجد الأمر نفسه . أعجب الملك بهذا الكاهن الذي استطاع الحفاظ على نبله وسط هذا الفسق الفظيع . تساءل وهو ينظرإلى الراهبات :
- أليس ولو حب في حياة هذا الكاهن النبيل ؟
رفعت إحدى الراهبات يدها وهي تهتف " إنه صديقي يا سيدي "
تقدم الملك لقمان من الكاهن وربت على كتفه وقلّده وساما أسماه" وسام الملك لقمان للنبل وحسن الأخلاق " وسط تصفيق الأطفال والراهبات وبعض الرهبان . وطلب إليه أن يجلس إلى مائدة الأطفال ويأخذ ما يرغب فيه ؟
تقدم كاهن ثالث . لم يرفع طفل يده أيضاً ، لكن اثنتين من الراهبات رفعن أيديهن .
فكر الملك . " هل سيكون عقاب هذا كعقاب مغتصب الأطفال ؟ " وألقى نظرة نحو الملكة مستشيراً .
- كله اغتصاب جلالتك !
- حسنا !
وأشارإلى الكاهن أن يقف مع الكاهن الأكبر.
خطرت للملك فكرة أسرع مما اتبعه . بأن يجعل كل من لم يغتصب طفلاً أو راهبة يخرج من الصفوف ويقف إلى ناحية ، ليعرضهم واحدا واحدا على الأطفال والراهبات .
ما أن بلّغ الملك شمنهورالرهبان بالأمر حتى راحوا ينسلون واحداً واحداً من بين الصفوف ويقفون جانباً . خرج قرابة ثلاثين من بينهم . أدرك الملك أن بينهم من اغتصب ويطمح أن يغض الأطفال والراهبات الطرف عنه ليتجنب عقاب الملك لقمان الذي سيكون قاسياً دون شك .
تقدم أحدهم ووقف . كان هناك " طفلة " مترددة في حدود الحادية عشرة من عمرها. رفعت يدها ثم أنزلتها. ولم ترفع أي راهبة يدها . أشار الملك إلى الطفلة أن تحضرإليه . ضمها الملك إلى حضنه وسألها :
- لماذا أنت مترددة يا حبيبتي ؟
همست الطفلة في أذن الملك لقمان قائلة أن الراهب لم يغتصبها ، فاخذها فقط . وأنها تريد أن تصفح عنه .
- حبيبتي عمو . شو اسمك حبيبتي :
- حوراء!
- يا ! هذا اسم ولا قصيدة شعر ؟!
هتف الملك وهو يعانق الطفلة . ثم قلدها وسام "الطفولة المحبة " وأشار إلى الراهب أن يقترب ويسجد أمام قدميها .
سجد الراهب وظل ساجداً إلى أن أمرته الطفلة أن ينهض.
هتف الملك :
- لقد سامحتك حوراء أما أنا فلم أسامحك باسم الحق العام !
- عفوك مولاي !
- اذهب كرمى لعيني الطفلة التي سامحتك !
تقدم راهب آخر . رفع ثلاثة أطفال وراهبة أيديهم .
هتف الملك :
- يخرب بيتك هل كنت تتوقع أن يغض كل هؤلاء الطرف عنك ؟ عد إلى صفوف المجرمين .
تقدم واحد . تبين أنه اغتصب راهبة ، وهي تريد أن تسامحه على أن يقبل صداقتها . وافق . عفا عنه الملك .
كان هناك سبعة عشر راهباً فقط بين هؤلاء لم يغتصبوا أطفالاً وراهبات . وتبين أن الآخرين كذابون.
*******
انتهى فرزالمجرمين من غيرالمجرمين . لم يكن هناك مجرمات من بين الراهبات جميعاً، ما عدا الراهبة التي كانت مرغمة على التدريب والتعليم وهي بدورها تعرضت للإغتصاب .
بدا الملك لقمان متردداً وهو يفكر في العقوبة التي سينزلها بهؤلاء . سأل الملكة رأيها:
- كم بودي أن أراك تطبق الإعدام مرة !
- سأل الراهبات فأشار بعضهن بالإعدام وبعضهن بالسجن المؤبد.
سأل الأطفال ،فكان رأيهم متفقا مع رأي الراهبات.
سأل الكاهن والرهبان النبلاء . أجاب معظمهم بالإعدام .
أطرق الملك للحظات متفكراً.. أحس باضطراب في ضميره بين رغبة تدفعه نحو قرارالإعدام ورغبة اعتاد أن ينفذها بالإبعاد ، أي ما يشبه السجن. وفجأة شعر بصوت يهتف في دخيلته :
- حذاري يا لقمان ! إياك أن تصدرأحكاماً بالإعدام !!
تساءل الملك :
- من أنت ؟
- أنا محمود شاهين يا لقمان ! أنا من أحياك ثانية لتنفذ شريعتي التي أطمح أن تكون شريعة الله وشريعتك .
- لكن جرائم هؤلاء فظيعة !
- هناك جرائم أكثر فظاعة منها ولم تحكم على مرتكبيها بالإعدام !
بدأ الملك لقمان في دخيلته يمتعض من تدخلات هذا المحمود شاهين في حياته ، بل وبدأ يضيق ذرعاً به ! وتمنى لو في الإمكان أن يتجاهل أحدهما الآخر!
شعرت الملكة أن الملك ذهب في حوار داخلي مع نفسه . ضمت رأسه إليها وراحت تربت عليه متمنية أن يتخذ قراراً يريح نفسه . لم تمر سوى لحظات حين بدأت النسورالعملاقة تقدم في أسراب عبر الفضاء. شكرت الملكة الله وأتاحت للملك أن يعدّل جلسته ويخاطب الراهبات والرهبان والأطفال :
- حكمت أنا الملك لقمان رسول المحبة والسلام ، واستناداً إلى رحمة الله ، وطاقته السارية في الكون والكائنات أن أحكم على هؤلاء المجرمين بالإبعاد إلى جزيرة نائية لا نساء ولا بشر فيها ، ليعيشوا شظف العيش إلى الأبد.
وما أن أنهى اصدار حكمه حتى شرعت النسور في الإنقضاض ثلاثة ثلاثة لتحمل المجرمين بمخالبها وتحلق بهم في فضاء المكان على ارتفاع مئات الأمتار، فيما كان صراخهم يعلو، وسط دهشة الراهبات والرهبان والأطفال .
حلقت النسور بالمجرمين دورتين كاملتين إلى أن أشار إليها الملك لقمان بإكمال مهمتها .
أشار الملك لقمان إلى الأطفال أن يمتطوا خيولهم ويعودوا إلى ذويهم أينما كانوا. وإلى الراهبات ومن تبقى من الرهبان أن يختاروا بين العودة إلى ديارهم أوالعيش أحراراً في الدير.
شرع الأطفال في عناق الملك لقمان ، وامتطاء خيولهم ملوّحين بأيديهم للملك والراهبات والرهبان .. انطلقت الخيول في أسراب عبر الفضاء وسط فرح الأطفال وأيديهم الملوحة .




( 46)
الله على المسرح السماوي!
وهما يجلسان في شرفة المركبة الفضائية ويتأملان الجبال والأودية مرّا فوق نهرعريض يستحم فيه الملايين من البشر ، فيما كانت مئات المواكب تنحدرمن الهضاب والجبال عبر طرق متعرجة نحو النهر. هتفت الملكة متسائلة " ما ذا يفعل هؤلاء الناس ؟"
أجاب الملك وهويرقب أفواج الجماهير بدهشة:
" يبدوأن ثمة أقارب للهندوس على الكوكب ! إنهم يحجون إلى النهرالذي استحم فيه الإله !"
" يحجّون ؟!"
" ولماذا لا ؟"
" وهل يستحم الآلهة ؟"
" لماذا لا ؟ "
" هل هم مثل البشر ؟"
" ممكن.. حسب معتقدهم "
" لدي فضول لأن أتعرف على آلهتهم"
"سنحاول. لكن لدي الآن فكرة"
" ما هي ؟"
" سأرسل لهم إلها لأرى ردة الفعل عندهم"
" هل تريد أن تجننهم يا حبيبي"
" لا اطمئني " !
خاطر الملك الملك شمنهور قائلا:
" أريدك أن تكون إلها لبعض الوقت أيها الملك "
أخافت الفكرة الملك شمنهورفتساءل:
" إله مرة واحدة يا مولاي ! ماذا سأقول للإله الذي خلقني؟"
" لن تكون الذي خلقك أيها الملك "
" من سأكون إذن ؟"
" أحد آلهة هؤلاء الناس "
" وهل لهم أكثر من إله ؟"
" هذا ما أعتقده"
" ستظهر بحجم هائل .. جالساً على كرسي العرش فوق محفة إلهية كبيرة وعظيمة يحف بها مجموعة من الجن العمالقة ، تحلق بك في سماء النهر وأنت تلوح بيدك محيياً عبادك الكرام "
" أية فكرة جنونية هذه يا مولاي؟ "
" ألا تريد أن ترى نفسك إلها أيها الملك ؟"
" الفكرة تخيفني ! لا أرغب في الإعتداء على حقوق الآلهة "
" لن تعتدي على أية حقوق ، أنت تمثل فقط ! أم أنك ظننت أنك ستصير إلهاً بجد ؟ "
" ماذا سألبس يا مولاي ؟"
" البس زيّا ملكيّا فاخراً محلّى بالجواهر . وضع على رأسك تاجاً كبيراً من الذهب الخالص المرصع بالألماس .. أريدك أن تمثل الدور بشكل جيد "
" حسناً يا مولاي"
كانت الملكة تضحك للفكرة الطريفة دون أن تسأل الملك عمّا ينوي فعله لاحقاً، منتظرة بشغف بدء العرض المسرحي وما سينجم عنه وما سيؤول إليه. وبدا أن الملك شمنهورتحمس للفكرة وقررأن ينفذها كما تخيلها هو وليس كما أوحى له الملك لقمان في محاولة منه لإرضاء الملك. وكان الناس قد توقفوا عن ممارسة طقوسهم وراحوا ينظرون إلى المركبة المحلّقة في الفضاء بدهشة وحيرة ، دون أن يعرفوا أن القادم أعظم.
ظهر الملك شمنهور في أبهة إلهية كما تخيلها عقله. فقد ظهر بحجم جبل شاهق بطول يقارب ألف متر جالسا على كرسي العرش الضخم فوق محفة هائلة خضراء مرتديا ملابس بيضاء ، وقد أحاط به ثماني حوريات عملاقات وقفن في مختلف أركان المحفّة. ورافق الموكب ستمائة فارس من العمالقة ممتطيي الخيول العملاقة . فكان هناك مئة فارس يحلقون فوق العرش ومئة أسفله ومئة عن يمينه ومئة عن شماله ومئة أمامه ومئة خلفه، وقد انتظموا في مجموعات وأسراب مختلفة رباعية وخماسية وسداسية لتشكل موكباً مهيباً يحف بالعرش الإلهي.
هتف الملك لقمان مخاطراً الملك شمنهور" أحسنت أيها الملك " فيما شخص ملايين البشر بعيونهم رافعين رؤوسهم متطاولين بأعنا قهم مدركين أن من ظهرلهم في السماء هو أحد آلهتهم إن لم يكن كبيرالآلهة شخصياً . وقد ساد هذا الإقتناع الجميع حين راح الله يلوح بيده محييا عباده الذين راحوا يلوحون بأيديهم بدورهم فيما شرع كثيرون بنضح الماء بحفنات أيديهم ورشه في الفضاء نحو موكب الإله ، وبعضهم وقف صامتاً بخشوع أوانحنى احتراماً للإله أو جلس في الماء على مقربة من الشاطئ مطبقا يديه وضاممهما إلى منتصف وجهه مقدماً احترامه وولاءه المطلق للإله متضرعاً إليه أن يعيده إلى مرتبة أرقى في دورة الحياة القادمة، وأن لا يجعل روحه تحل في جرذ أو كلب أو خنزيرأو بعوضة أو حتى إنسانا من درجة أدنى، وخاصة من هؤلاء الذين قدّرلهم أن يمضوا حياتهم مشردين على الأرصفة أو هائمين في الغابات مع زوجاتهم وأولادهم . أدرك الجميع أن هذه فرصتهم للتضرع إلى الإله ليحقق رغباتهم في حياة أفضل، فراح الجميع يتضرّعون مطالبين بما لم يتحقق لهم في الحياة الدنيا ، كأن يهبهم الله زوجات جميلات وأبناءً صالحين وثروات تنقذهم من حياة الفقروالعوز . فما كان من الإله شمنهور إلا أن أمطر عليهم ذهباً وماساً وأنزل عليهم آلاف الحوريات خارقات الجمال وهوما زال يحلق في الفضاء بموكبه المهيب متمتعا بتمثيل دورالله ، متضرعاً في دخيلته إلى الله أن لا يغضب منه لتمثيل هذا الدور الذي فرضه عليه الملك لقمان . وكان الملك لقمان يرقب المشهد الملحمي بدهشة وذهول متخوفا من العواقب التي ستنتج عن هذا التصرف ، فيما الملك شمنهور يخاطره متسائلا عما إذا كان يتوجب عليه أن يوجه كلمة لملايين البشر، فلم يعرف بماذا يجيب ، فقد شعر أن التمادي في تمثيل الدور قد يسبب صدمة قوية للناس إذا ما عرفوا الحقيقة ، ولم يعرف كيف ينهي العرض الذي أراد منه أن يعلمهم أن آلهتهم التي يتعبدون لها ليست الخالق الحق وأنها مجرد تصوراجتهادي لعقول حكمائهم عبرالعصور لم تبلغ حقيقة مطلقة. نظر إلى الملكة مستشيراً فلم تعرف ماذا تقول غيرأنها استدركت قائلة " أعتقد أن شرحاً موجزاً لفلسفتك قد يكون مقنعاً لهم يا حبيبي "
" وماذا تفيد فلسفتي أمام الحوريات والجواهر التي أنزلها الملك ؟ "
" أجزم أنك قادرعلى الإقناع"
" للأسف. أشعر أنني لن أنجح ،ولن يفهم الناس أو حتى يتقبلوا فكراً فلسفياً ليس حقيقة مطلقة "
أوغل الملك شمنهور في الخيال بأن جعل حيتاناً ودلافين في النهرالذي لم يكن فيه لا دلافين ولا حيتان ،كما أنه راح يضاعف مياهه شيئاً فشيئاً لتغدو قابلة لوجود الحيتان والدلافين والأسماك الكبيرة والكائنات البحرية الأخرى التي راح يغرق النهر بها . راح الناس يسبحون أو يعدون نحوالشواطئ مبتعدين عن أعماق النهرالذي بدأ يتحول إلى بحركما يبدو. الكهنة المقيمون في مئات المعابد على قمم الجبال والهضاب والسفوح هالهم ما يجري وقد أيقنوا أنهم أمام كبيرالآلهة دون أي جدال ! المشكلة أن الجواهر التي أمطرت بها السماء لم تنزل عليهم دون الناس وكأن الملك شمنهورأدرك أن الملك لقمان الذي كان دائما ضد الكهنة والرهبان والشيوخ سيغضب إذا أمطرعليهم . وهذا الأمرأقلق الكهنة إلى حد كبير فهاهم العوام والغوغاء والسّوقة يصبحون أثرياء ومن علية القوم متجاوزين جميع المراتب الطبقية ! وأبدو قلقهم من المشيئة الإلهية التي تخلت عن المجتمع الطبقي كما يبدو، وهذا يعني إمكانية أن تحل أرواح هؤلاء الغوغاء في أعلى مرتبة كهنوتية بعد الموت ، ولن يعودوا جرذاناً أو حتى غزلان ! يا للمصيبة ! والأسوأ أن كبير الآلهة سيبتلعهم عند انتهاء الدورة الكونية الحالية ليصبحوا جزءاً من ذاته الإلهية ! وإذا ما صح هذا الرأي فإن المصائب ستحل بدولة العقائد المتعددة على الكوكب !
زاد الملك شمنهورالطين بلة بأن أوجد حوريات في البحرالذي أنشأه ليحوّل المنطقة إلى جنة حقيقية وشرع في جعل الكائنات البحرية الجديدة تصعد إلى السماء في مواكب منتظمة وتمرأمام عرشه الذي توقف في السماء ، فيما انتحى موكب الفرسان المحلقين في الأمام إلى جانبي محفة العرش ، ليبدو العرش مفتوحاً أمام ملايين البشر وقد انتصب الإله في أبهى طلعة ربّانية والمواكب تمرمن أمامه ملوحاً لها بيده . فكان أول المواكب المارة موكب آلاف الحوريات الفاتنات اللواتي سلب جمالهن العقول ، ثم موكب ألاف الحيتان فموكب آلاف الدلافين فموكب آلاف أسماك القرش فموكب آلاف الشعب المرجانيّة ، لتبدو السماء وقد ازدانت بجمال وأبهة ومهابة الألوهة وقدراتها العظيمة . وكانت المفاجأة الأخيرة بأن أظهر الملك شمنهورمئات الآلهة القدامى الذين راحوا يمرون على محفات أمام عرشه. فكان منهم آلهة لكل شيء :آلهة للنور . وآلهة للظلام . وآلهة للريح . وآلهة للمطر. وآلهة للخصب . وآلهة للخير. وآلهة للشر . وآلهة للحب . وآلهة للجمال . وآلهة للأنهار . وآلهة للبحار . وآلهة للمحيطات . وآلهة للموت . وآلهة للخمر. وآلهة للهو .
كان الملك لقمان والملكة نورالسماء وأسرة المركبة يحدقون مشدوهين بألوهية الملك شمنهورمتوقعين
أن يبقى إلهاً إلى الأبد بعد أن تبين أنه تمثل الدوروهام به ، غير أنه فاجأ الملك لقمان حين خاطره هاتفاً :
" ماذا يتوجب علي أن أفعل أيضا يامولاي " ؟
فكر الملك للحظات وما لبث أن خاطره :
" يتوجب عليك أن تعلن الآن للناس أنك لست الإله المنشود وأنك لست إلهاً على الإطلاق ، وإذا كنت قد استوعبت عقيدتي فعليك أن تبشر بها وتقول للناس ما هو الله "
" ولماذا تلقي بهذا الحمل الثقيل على كاهلي يا مولاي "؟
" ألم تتعهد بأن تخدمني مدى الحياة حين أخرجتك من قمقم سليمان الذي سجنت فيه طوال ثلاثة آلاف عام ؟"
" أجل يا مولاي وما زلت على عهدي "
" أرى أنك أفضل من يحمل رسالتي إلى الإنسانية ويبشربها ، فأنا حياتي قصيرة كما تعلم أما أنت فلا تموت "
" سأفعل يا مولاي وسأظل مخلصاً لك مدى الدهر، في حياتك وبعد رحيلك عن الدنيا "
" أشكرك أيها الملك . هيا نفّذ "
وقف الملك شمنهور بقامته العملاقة أمام كرسي العرش ، ليتوقف كل شيئ في السماء، وشرع في الكلام ، فيما تجمد ملايين البشرفي مواقعهم وقد تحولوا إلى آذان مصغية مدركين أن كبيرالآلهة سيلقي كلمة عليهم :
" أحبتي أبناء الدولة متعددة العقائد والمذاهب والديانات كما هوالعالم كذلك .. اسمحوا لي أن أفاجئكم آسفاً بأن أقول لكم وقد آمنتم بألوهيتي ، إنني لست إلهاً بل جنّي! ( تعالت همهمات وتأوهات وأصوات مختلفة من الجماهير وما لبثت أن هدأت ليتابع الملك ) وما أنا إلا مخلوق مثلكم لخالق عظيم لم يدرك العقل البشري طبيعته بعد ، في بحثه عمّا وراء الخلق، وإذا كنتم مخلوقين بفعل قدرة هذا الخالق فثمة احتمال أن أكون أنا مخلوقاً بفعل خيالكم ، أقصد الخيال البشري، الذي خلق آلاف الآلهة وآلاف العقائد والديانات والمذاهب ، حسب ما يرى سيدي ومعلمي الملك لقمان العظيم "!
( أطرق جميع الناس وهم يسمعون كلاماً لم يسمعوه من قبل ، مدركين أن ما يتوجب عليهم في موقف كالذي وجدوا أنفسهم أمامه ، هوالصمت والإصغاء )
" إن الخالق أيها الأحبة هو القدرة على الفعل السارية في أجسادكم وفي الكون والكائنات كطاقة. فابحثوا عن الله في أنفسكم وفي قلوبكم وفي كل خلية في أجسادكم فأنتم التجلي الأكمل للذات الإلهية ، أنتم الله . أجل أيها الأحبة أنتم الله، ومن لم يجد الله في نفسه وفي قلبه وفي عمله ، فلن يجده على الإطلاق ، حتى لو تنسك أو تعبد أو صلَى كل يوم ألف مرة" !
( كان الناس يبدون شهقات الدهشة وهم يستمعون متعجبين )
" الله محبة أيها الأحبة ولن يحيل الناس إلى جراذين ! فكونوا محبين يحبكم الله . والله في حاجة إليكم بقدر حاجتكم إليه . وقد خلقكم لتحققوا قيم الخير والحق والعدل والجمال ، وتقيموا الحضارة الإنسانية . فعملية الخلق تكاملية بينكم وبين الله " هذه هي الغاية من وجودكم أيها الأحبة ، ولا غاية غيرها. وقد جاء في كتاب يتبعه بعض أهل كوكب الأرض " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" أجل أيها الأحبة. اعملوا لإزالة الفوارق الطبقية قدر الإمكا ن ، واعملوا لتحقيق العدالة وإنشاء الحضارة الإنسانية ، حضارة المحبة ، قدرالإمكان أيضاً ، ليتخلص الكون والكواكب من ويلات النزاعات والحروب . النزاعات بكل أنواعها العقائدية وغيرالعقائدية ، والحروب بكل أنواعها أيضا "
" قد يخطر في بالكم أن تسألوني عن الموت ومصيركم بعده ! أقول لكم : إن الموت ضرورة لاستمرار الحياة ، فلن يكون هناك مكان يتسع للبشرية إذا لم يكن هناك موت . أما عمّا بعد الموت ، فإني أقول لكم إن الخالق في حاجة إلى مادة اجسادكم ليغني بها تربة الارض كي لا تنضب وكي تعطي أكلا وخلقا حسنا ، وفي حاجة إلى القدرة الطاقوية التي كانت تسري في أجسادكم لتتحد مع طاقته الأبدية التي لا تفنى . وآمل يا أحبتي أنكم ستشعرون بوجودكم الطاقوي في الألوهة حينئذ لتتمتعوا بوجودكم الإلهي ! هذا باختصار ما وددت قوله لكم . وأود أن أعلمكم أن كلّ ما قلته لكم هو فكرمولاي رسول المحبة والسلام الملك لقمان العظيم، الجالس هناك في شرفة المركبة الفضائية ، وهو الذي أدين له بالإفراج عني من سجن دام لثلاثة آلاف عام في قمقم لعين ، كوني جنياً ولست إنسياً "!
( وقف الملك لقمان وراح يلوّح بيديه لملايين البشر، الذين ردّوا التلويحة بمثلها )
"في الختام ، لايسعني إلا أن أودعكم أيها الأحبة ، وأقول لكم السلام عليكم ، ومحبة الله ورحمته وبركاته "
وخلال لحظة اختفى كل شيئ من السماء وكأنه لم يكن ، ما عدا المركبة الفضائية ومن عليها .
******



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحطيم العقل والدخول في الجنون !
- * الغاية من الوجود !
- لواعج النفس الإنسانية بين قدرين !
- تحطيم العقل ! إشكالية النص الروائي بين اللغة والفكر!
- شاهينيات: في الزندقة والأحلام والمحبة والعار .
- وحين التقينا يا إلهي ..!!
- البطل الروائي والحلول في الألوهة !
- ابتسامة يخالجها الحزن على بصيص شمعة في الظلام !
- أبحاث وأشعار!
- * لن تخرسوا أصواتنا مهما فعلتم !
- حملة التضامن مع الشاعرة والكاتبة التنويرية الأردنية زليخة أب ...
- أديب في الجنة . ملحمة أدبية فلسفية . الجزء الثاني.
- أديب في الجنة (93) ( الفصل الأخير) * الملك لقمان يذهب في الم ...
- أديب في الجنة (92) * ألآلهة بلا ألوهة !
- أديب في الجنة (91) * حرب الآلهة الكونية !
- * ترقبوا - حرب الآلهة الكونية -!
- أديب في الجنة (90) * المحبة المطلقة في إله مطلق المحبة !
- أديب في الجنة (89) * حرب الآلهة على الأبواب !
- أديب في الجنة (88) * صرخة الربة عشتار في ذروة الوصال !!
- أديب في الجنة (87) * ثمة أمل في نجاة سحب السماوات من براثن ا ...


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - أديية في الجنة . ملحمة روائية فلسفية . النص المعدل. الجزء الأول