أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - تامر البطراوي - الأصول النظرية لمفهوم العلم















المزيد.....


الأصول النظرية لمفهوم العلم


تامر البطراوي

الحوار المتمدن-العدد: 5278 - 2016 / 9 / 7 - 03:10
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يختلف المفهوم اللغوي للعلم عن الإصطلاحي دلالياً ، فالمفهوم الإصطلاحي هو ما اصطلح عليه أو اتفق (اصطلح مادة صلح بمعنى اتفق) أهل تخصص من مفهوم تجاه اللفظ ، والمصطلح إما ذو لفظ قديم أو محدث ، فإن كان اللفظ قديماً أخرج من معناه اللغوي إلى آخر لمناسبة بينهما أو دلالة لغوية وإلا كان إصطلاح بالرمز ، وإن كان اللفظ محدث مشتق أضيف إليه المعنى الإصطلاحي ، ولذلك يستشهد أحياناً بالمعنى اللغوي للإشارة إلى التدرج التاريخي لتطور مفهوم المصطلح وبيان الأصل المشترك المنبثق عنه المفهوم الإصطلاحي ، ويكون التمييز بين المفهوم اللغوي والمفهوم الإصطلاي للفظ القديم من خلال فهم الدور الوظيفي للفظ بسياق النص وموضوعه والموظِف له ، وباللغة يشير لفظ (عِلْم) إلى إدراك الشيء على ما هو عليه ، أي على حقيقته ، وهو نفسه المعرفة من الناحية اللغوية ( ) ، وهو مشتق من مادة عَلَم أي العلامة الظاهرة أو العلم المنصوب والذي يهتدي به العالم ، فالشئ الظاهر هو العلم لغويا بفتح العين وكسرها ، أما في القواميس الإنجليزية فقد تم تعريفه وفقا لما تشير إليه بعض التعاريف الإصطلاحية ففي قاموس أكسفورد لعام 1974 بأنه: "ذلك الفرع من الدراسة, الذي يتعلق بجسد مترابط من الحقائق الثابتة المصنفة ، والتي تحكمها قوانين عامة, تستخدم طرق ومناهج موثوق بها لاكتشاف الحقائق الجديدة في نطاق الدراسة."( ) وفي قاموس وبستر ـ: "المعرفة المنسقة التي تنشأ عن الملاحظة والدراسة والتجريب, والتي تقوم بغرض تحديد طبيعة وأصول وأسس ما تتم دراسته( ).
أما إصطلاحا فلفظ (عَلَمْ) مصطلحاً دالاً على مفهوماً معينا مغايراً للمفهوم اللغوي بين جماعة معينة ، وذلك المفهوم ليس موحداً بل يتباين بتباين الرؤية الإبستمولوجيه لماهية القوام والشرط (الإبستمولوجيا هي نظرية المعرفة العلمية والتي تُعنى بصوغها فلسفة المعرفة العلمية لضبط مصطلح العلم وأسس بحثه) ، فأما المُقوِم وجمعه (المُقومات) فهو ما يقوم عليه الشئ من عناصر أساسية (وقد يرد بمعنى الضبط ليفيد عناصر ومعايير التقويم) ، وأما الشرط فهو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود مشروطه ، والشرط مثل المقوم لا وجود للشئ بدونه ولكن الشرط يقع خارج ماهية الشئ (المشروط) أم المقوم فهو داخل في ماهيته (مثال من مقومات السياحة.. وجود عنصر جذب وطلب ومن شروطها الامان والاستقرار) ، والمعرفة بشكل عام نسق ينال بسلوك منهج في موضوع معين موضوع لغاية ما ، فعناصرها النسق والمنهج والموضوع والغاية ، أما النسق فهو بنية معرفية أي علاقات تكوينية للكل المعرفي ذات حراك وثبات نسبي ، ويمكننا التمييز ما بين بعدين من العلاقات وهما العمق (التراكم الكمي) والمصداقية (الوصف الكيفي) ، فالعمق يشير إلى الطور التركيبي للوحدة المعرفية من بيان ثم معلومة ثم معرفة بسيطه فمركبة فمعقدة ، أما المصداقية فهي تشير إلى الصفة التي إكتسبتها تلك الوحدة المعرفية من حجية بدأ بفرضية فإذا ثبتت صحتها صارت نظرية تفصيلية ، وإذا ثبتت العلاقة بتواتر النظريات الجزئية المؤكدة صحتها تحت ظروف معينة صارت قانوناً (معنى ذلك أن القوانين ليست مطلقة ، وإنَّما هي محدودة بالظروف المكانيَّة أو الزمانيَّة أو غير ذلك) ، فإذا تأكد القانون صار قاعدة ثم مبدأ ثم تعميم ثم مفهوم ثم حقيقة (انظر الشكل رقم 23).
وأما المنهج وهو ما تبحثه الميثدولوجيا فهو منطق موضوعي لإستقاء المعرفة ، وهو إما إستنباطي أو إستقرائي (ولذلك فالأبستمولوجيا تضم الميثدولوجيا ، فالأولى أعم والثانية فرع عنها) ، وبإعمال المنهج في الموضوع تنتج المعرفة ، والموضوع هو كل موجود قابل للمعرفة ، أي الظاهرة محل البحث سواء أكانت ظاهرة مادية (عضوية أو غير عضوية) أو غير مادية (فوق عضوية) ، ويكون إنفعال التدفق المعلوماتي الداخل لطور معرفي وفقا لدرجة دافع رغبة أو بغير أو عكس رغبة ، وغاية المنفعل المرغوب (ما لأجله يقدم الفاعل على فعله) ، إما قاصرة على المعرفية ، أو متعدية لسلوك حسي (أي فائدة تطبيقية) مقترن بعيني (طبيعي أو مختلط) أو مجرد وهي الفائدة البرجماتية ، ولذلك فالغايات المعرفية إما وصفية فهم وتفسير وتنبأ وإما تطبيقية ضبط وتحكم.
وللوصول إلى المعرفة العلمية لغايات النظر أو التطبيق فإن الأبستمولوجيا عنت بوضع الأسس الضابطة والمميزة لما هو علم وفقا لعناصر المنهج والموضوع والنسق والغاية ، ويمكن التمييز ما بين أربع إتجاهات أبستمولوجية تمثل مدارس رئيسية في التعريف بمفهوم مصطلح العلم إعتمدت على منطق شرطية إثبات علمية معرفة إذا كانت تمتع بدرجة عالية من المصداقية ، وقد اتخذت عدة اتجاهات لضمان منطق ثبوت المصداقية.
الإتجاه الأول ويعرف بالمدرسة الديناميكية إعتبر أن قوام العلم فقط منهج وطريقة في التحصيل أما النسق المعرفي فلا يدخل في ماهية قوام العلم ، منطقه أن المنهج ثابت بينما نتاج العلم متغير فما كان ثابتا في الماضي اليوم يُعد خرافة ما ثبت اليوم قد يعد غداً خرافة ، وقد عرفه جوليان هكسلي في كتابه " الإنسان في العالم الحديث " بأنه: "هو النشاط الذي يحصل به الإنسان على قدر كبير من المعرفة لحقائق الطبيعة وكيفية السيطرة عليها ، ومن ذلك الإتجاه تعريف العلم بأنه نشاط إنساني يمارس من خلال مجموعة من الأفعال بهدف فهم الطبيعة فهما علميا أي التوصل إلى مجموعة العلاقات والقوانين التي تحكم الطبيعة ولتحقيق هذا الهدف يستخدم العالم العديد من الطرق والوسائل والتقنيات (بطرس 113:2004) .
الإتجاه الثاني إستاتيكي الرؤية ، فقد إعتبر أن العلم نسق معرفي فقط وأن المنهج ليس العلم نفسه وإنما هو أداة تحصيل ، واعتبر أن الإتجاه الديناميكي في رفض نسبية النسق لقوام العلم بناءً على نسبية المصداقية وعدم ثباتها مبالغة مرفوضة ، فكل نسق منظم ثبت وفق منهج موضوعه فهو علم ، ويعرف "العلم" بأنه نسق المعارف المتراكمة أو هو مجموعة المبادئ والقواعد التي تشرح بعض الظواهر والعلاقات القائمة بينها ، وهو مجموعة المعارف المؤيدة بالأدلة الحسية, وجملة القوانين التي اكتشفت لتعليل حوادث الطبيعة تعليلا مؤسسا على تلك القوانين الثابتة.( ) ، ويواجه هذا الإتجاه بعدة إنتقادات حيث أن تعريف العلم كهيكل معرفي يشير ضمنيا إلى كون المعرفة العلمية ثابتة المصداقية ، كما أن ذلك المفهوم سيترتب عليه أن يشير تحصيل العلم إلى تلقين المتعلم بأكبر قدر من المعلومات على أنها قطعية الحقيقة وهو غير سليم فالمعرفة ذات تغيير تطوري (زيتون 2001:23 ).
الإتجاه الثالث الديناميك إستاتيك ، وقد جمع بين المنهج والنسق واعتبر الإثنان وجهان لعملة واحدة وهي قوام العلم وأن ما ادعاه الإتجاه الديناميكي في عدم ثبات النسق ينطبق نفسه على عدم ثبات المنهج فهو متغير كما النسق ، فإن أخرج النسق فعليه إخراج المنهج أيضاً ، ولكن يمكن إعتبار النسق المثبت تجريبيا علميا على أساس إمكانية التحقق من درجة عالية من المصداقية لنسق المعرفة ، وذلك لاينفي عنه بشكل أو بآخر القابلية للنقد والتغير ، كما أن الإتجاه الإستاتيكي فقط غفل عن كون المنهج لا يمكن فصله عن النسق المعرفي ، وبالتالي فإن قوام العلم هو المنهج والنسق معاً وهذا الإتجاه يمثله هارولد تيتوس وجيمس كونانت ، ويمثل ذلك الإتجاه تمثيلا قويا كارل بوبر الذي يتمسك بالنواة الصلبة المثبته للنشاط العلمي بعيدا الأيديولوجيا والفلسفة ، ويعتبر أن النسق المعرفي كأحد مقومات العلم مشروط بالصرامة المنجية والموضوعية والتعميم ، وأنه يقبل التحقق والدحض ، فكل نتيجة مبرهنة وإن كانت ذات مصداقية عالية فلها أيضا درجة إحتمالية بالرفض وهي جديرة بالمراقبة والنقد المبرهن ، فالخطأ يكمن في قلب المنهج العلمي ، وفي لب الروح العلمية ومن الصعب تفاديه دائما.
المدرسة الديناميك استاتيك انبثق عنها نظريات فرعية وضعت شروطاً إضافية لكي يصبح النسق ذات درجة مصداقية تؤهله علماً ، كاشتراط موضوعات معينة يصلح معها ثبات المعرفة ، كنظرية إشتراط البحث في موضوعات ذات طبيعة إمبريقية لإكساب المعرفة صفة العلمية ، فالظواهر التي تخرج عن دائرة المحسوس لايمكن إدخالها في مجال التجربة ، كمفهوم ثيوبالد للعلم على أن موضوعه هو ما انصب على المادة فقط (عبد القادر ، 1999:41) ، ولكنه قوبل بعدة إعتراضات حيث أن ذلك يفضي إلى استبعاد البيولوجيا من مفهوم العلم باعتبارها مادة حية والرياضيات البحتة وهي وثيقة الصلة بالعلوم الفيزيائية ، ورؤية نظرية أخرى عن نفس المدرسة أضافة برمجاتية الهدف كشرطاً لعِلْمِية النسق المعرفي ، واعتبرت أن النسق المعرفي الممكن ذو المصداقيه هو النسق الذي يُمَكِن من التدليل عليه تطبيقيا ، ومن هذا الإتجاه هنري بوانكاريه وكامبل وثيوبالد ، بينما يعترض أدنجتون وكوبي واينشتاين على ذلك التحديد ويعتبرون أن العلم غاية في ذاته وليس مجرد أداة نفعية برجماتية (عبد القادر ، 1999:37) ، وقد نتج كرد فعل عن هذا الإتجاه إتجاه آخر نادى بأهمية القيم في مفهوم قوام العلم واعتبر أن العلم منهج ونسق وقيم ، واعتبر أن العلم هو هرم معرفي متدرج قاعدته الحقائق العلمية وقمته الأفكار الأساسية تم بناؤه نتيجة البحث والتفكير وتحكمه قيم ويسعى لتحقيق أربعة أهداف هي الوصف والتفسير والتنبؤ والضبط أو التحكم ، وهو جملة الحقائق والوقائع والنظريات ومناهج البحث ( ).
هذه المدارس الثلاثة السابقة بنظرياتها الفرعية المشروطة منطقها أن العلم ما كان مثبت صدقه من المعرفة مختلفة حول ضامن المصداقية ، فالديناميك استبعد النسق لأنه غير ثابت المصداقية فشرط مصداقية النسق بشكل عام شرط لا يمكن تحققه ، فما كان مثبت بالماضي غير مثبت الآن وما هو مثبت الآن غير مثبت بالماضي ولا المستقبل ، أما الإستاتيك فتغاضى عن ثبات مصداقيته ، كما أن شرط الموضوعية شرط يصعب إثباته بدرجة كبيرة (والموضوعية هي دراسة ماهو كائن مع استبعاد الميول و الأهواء و الآراء المسبقة فالتفكير العلمي هو تفكير نقدي لمعرفة الأشياء كما هي موجودة في الواقع لا كما نشتهي و التجّرد من الذاتية وهي مختلف الميولات والرغبات والأهواء والانفعالات ومختلف الاعتقادات والآراء الشخصية التي يميل لها الإنسان) ، فالصرامة التي يبديها الباحثون والاهتمام بالموضوعية تختفي وراءه بشعور أو بدونه مسلمات لا برهان عليها وأيديولوجيات وأهواء مضمرة وممنوعات أيضا ، وغالبا ما تحييد نتائج أبحاثهم لتتسق مع معتقداتهم ومرجعياتهم ، وأن عمليات البرهنة لا تخلو هي الأخرى من شوائب التدليس ، فجماعات المتخصصين جماعات إنسانية لها أهواء واعتقادات وسلطة ، فإن تاريخ الوقائع العلمية وما يكتنفها من عوامل سوسيولوجية إنما تصف لنا عملا إنسانيا ذا صلة بتاريخه وضغوطه الاجتماعية ومرتبطا بالعقليات السائدة في المجتمع أو النخبة ، ولهذا يعرف هذا الإتجاه بالإتجاه الإجتماعي التاريخي ، ومن هذا الإتجاه بول فرايرابند والذي اعتبر أن كل شيء في العلم جائز ، وصاغ نظرية الفوضى في نظرية المعرفة ، وأعلن إنكاره لما يسمى بالمنهج في العلم بكتابه "ضد المنهج" ، واعتقد بأنه لا يمكن القول بأن العقل يصل في العلم إلى ما هو كلي ، كما لا يمكن أن يستبعد اللامعقول من العلم ، ودعا إلى إعادة الاعتبار للسحر والتنجيم والكهانة والأساطير التي عزم العقليون على محوها من الأرض.
تعقيبا على ما سبق فإن الإتجاه الأخير إختلف مع منطق المدارس الثلاثة كون مفهوم العلم يجب أن يشير إلى بعد كيفي بنسق المعرفة وهو المصداقية ، واعتبر أن هذا المنطق الشرطي سيفضي إلى تفريغ مصطلح العلم من أي مفهوم لأنه غير متحقق ولن يتحقق معه ضبط مفهوم مصطلح العلم فلا المنهج ثابت ولا النسق ثابت ، ثم منح المصطلح مفهوم المعرفة نفسه فاعتبر أن مفهوم العلم يشمل أي نسق معرفي منظم وفق منهج يضبطه منطق موضوعه ، وهو بذلك لم يحقق هدف ضبط مفهوم المصطلح وهو تمييز المعرفة الصادقة من الزائفة ، بل جعله مرادفا غير ذي دلالة ، حيث أدخل الأيديولوجيات والمسلمات التي لا برهان عليها ضمن مفهوم العلم ، وقد أدت هذه النزعة ببعض الفلاسفة كثيوبالد لفكرة شرطية مواضيع الطبيعة لصفة العلمية كون نتائجها تتمتع بدرجة ثبات عالية مقارنة بالإجتماعية إلا أنها شرطية مؤداها الدخول في حلقة مفرغه لن تفيد المفهوم ، فالمعارف الطبيعية غير ثابته كما أن كثير من المواضيع غير الطبيعية قابلة للبرهنة قياسياً ، كما أن ادعائهم عدم تحقق الموضوعية أيضاً دعا الإتجاه القائل بشرطية شمول قُوام العلم للقيم (قيم العلم) وهو شرط مقبول ويضمن موضوعية نسبية لنتاج العلم ، وبناء عليه فإننا نعتبر أن العلم هو نسق معرفي مثبت صدقه متغير نسبياً زمانياً لا مكانيا لموضوع محدد مشروط بمنهج يضبطه منطق موضوعه (انظر الشكل رقم 24) ، فإذا كان المنطق المنهجي لمعرفة موضوع النظر الحسي ، فإن أي معرفة مثبته بذلك الحس فهي علم ، وإذا كان المنطق المنهجي لمعرفة موضوع صحة النقل (كالدين) ، فإن أي معرفة يثبت نقلها فهي علم الموضوع ، ويصبح العلم وفقا لذلك المفهوم ملزم فقط لمن قبل منهج موضوعه.
أما تمييز المعرفة إلى ما هو علم (science) وغير علم (Non science) ولاعلم (Anti-science) ، على اعتبار أن العلم نسق معرفي مثبت بمنهج لهدف التفسير والضبط والتنبؤ ، وأن الغير علم معارف ودراسات لا تتفق مع العلم في منهجه أو هدفه كالفنون والفلسفة والأيديولوجيا ، واللاعلم معارف تتفق مع العلم في هدفه من فهم قوانين الطبيعة والتحكم بها ولكنها تختلف معه من حيث المنهج كمعارف السحر والأسطورة والفراسة والتنجيم ، فإن هذا التمييز في الحقيقة غير مبرر لأن تلك المعارف تفيد الرؤية والتحكم ، وهو تمييز لا يفضي في الحقيقة إلى تحقيق أهدافه ، فلا يزال ما تم استبعاده من العلمية علم مُصدَق بوقت ما لدى جماعة ما ، وأن ما تم وصفه بالعلمية فهو وصف إحتمالي الخطأ بوقت ما ، كما أن المعارف الغير قياسية أيضاً إحتمالية الحقيقة ، ويرى الباحث أن التمييز قد يتسق مع أهدافه بإضفاء صفة العلمية كونه نسق موضوعي منظم مضبوط بمنهج لدى مختصيه ، وأن مصداقيته تتضح بنسب الموضوع ، (راجع النجدي وآخرون 1999م ، ص 35 – 36 ) ، أما المعارف غير المثبته والمنبثقه عن مناهج مغايره عن مناهج موضوعها فهي لاعلم ، أما العلم الزائف (Pseudoscience) فهي كل معرفة إنبثقت عن غير موضوعيه لتضاهي المصداقية.
وإذا كان المبحث الأول للأبستمولوجيا هو تمييز جملة العلم بالمعرفة عما دونها ، فإن المبحث الأبستمولوجي التالي هو تصنيف العلم نفسه ، وفقا لغايات متباينة يتغاير لتباينها أسس التصنيف ونتائجه ، فالعقلية اليونانية القديمة نزعت للتجريد ما بين المادة والمطلق واجب الوجود ، ولذا فنجد أن أرسطو صنف العلوم إلى علوم نظرية تفيد المعرفة المجردة وعلوم عملية (تطبيقية) تفيد تدبير الأفعال الإنسانية ، أما النزعة الفلسفية لغاية التمييز لدى الفلاسفة المسلمين كانت شرفية ذات أساس عقائدي مما دعاهم إلى تنصنيف العلوم ما بين علوم محمودة وعلوم مذمومة (كابن حزم) ، بينما اتجه بعض الأبستمولوجيين المتقديمين إلى غاية تمييزية مفادها إيجاد القواعد المنهجية المشتركة بين العلوم ، والتصنيف على أساس المنهجية ، فنتج على ذلك إتجاه إلى تصنيف العلوم ما بين علوم إستقرائية (تجريبي) وعلوم إستنباطية (عقلي) ، أو تصنيفها إلى علوم وضعية وعلوم لاهوتية وميتافيزيقة ، أما إذا هدف التمييز للإشارة إلى الغاية الوظائفية للعلم فيمكن تقسيم العلوم على أساس منهج التساؤل إلى علوم نظرية وهي المعنية بالجواب على "لماذا" وعلوم عملية وهي التي تجيب على "كيف" فلماذا يتم بناء السكن هو جانب نظري ، بينما كيف يتم البناء هو جانب عملي وكما يشير المثال السابق فإن الموضوع الواحد يضم شطري العلم ، مع الإلتفات أنه من الصعوبة بمكان الفصل التام بين ما هو نظري وتنفيذي لارتباطهما ببعض ، بينما يرى البعض أن الغاية التمييزية الأكثر أهمية هي رسم حدود المواضيع داخل الحقل المعرفي الكلي لتحديد خصوصية وتخصص كل موضوع وتمييز مواضع العلاقة والقرابة فيما بينها البعض ، الأمر الذي يسمح بتخصص البحث وتعميقه ، وتمكين المتخصصين في علوم متقاربة المجال بأن يتناولوا بالدراسة موضوع واحد من أكثر من زاوية وتكوين نظرة تكاملية ، وفي هذه الحالة يكون أساس التمييز هو النسب الموضوعي ، والتقسيم الموضوعي إما تقسيم موضوعي عام قائم على أساس النسب الأنطولوجي مع الرؤية الفلسفية الأبستمولوجية لكينونة العلم ، فالإتجاهات الفلسفية التي اشترطت مواضيع الطبيعة لعلمية المعارف تعتمد تصنيف المعارف الطبيعية إلى علوم طبيعية ، أما المعارف الإجتماعية والإنسانية فدراسات إجتماعية وانسانية لاتكتسب صفة العلمية ، وبالمثل بالنسبة للمعارف الصورية كالرياضيات ، فالظواهر الإجتماعية سريعة التغير نسبيا إلى الظواهر الطبيعية ، أما العلوم الطبيعية فهي علوم أكثر إنضباطاً وتخضع لقوانين جامدة ولا تتأثر بشكل كبير بأيديولوجيا المجتمع ، بينما الإتجاهات الأبستمولوجية التي لم تشترط موضوع الطبيعة لعلمية المعرفة أدخلتها ضمن المجموعات العلمية ، كتقسيم كيدروف للعلوم إلى العلوم الطبيعية والعلوم الإجتماعية والعلوم الفلسفية ، وبعض التصانيف الموضوعية جمعت بين مواضيع دراسة سلوك الإنسان منفرداً او جماعياً تحت مسمى واحد العلوم الإجتماعية أو العلوم الإنسانية ، وبعضها فرقت بيت العلوم الإجتماعية باعتبارها تختص بدراسة مواضيع السلوك الجماعي ، وبين العلوم الإنسانية والتي تختص بدراسة مواضيع السلوك الفردي والتراث الإنساني كاللغة والأديان والفلسفة ، أما التصنيف الموضوعي الفرعي ، فهو المعني بالتصنيف داخل المجموعات العلمية المشتركة ، وهذا التصنيف الأخير قائم على إعتبار أبستمولوجي وهو أن العلم نسق معرفي منظم ومكتمل النظرية ، فكلما اكتملت نظرية موضوع تشعبت الفروع العلمية ، وقد ترتب على ذلك ظاهرة علوم التخوم أي نشوء علوم مستقلة لتبحث في الظواهر الواقعة في نطاق دوائر التماس بين مجالات علمين مستقلين آخرين ومجالات التفاعل المتبادل بينهما‏ ، كالكيمياء الحيوية والفيزياء الحيوية والكيمياء الجيولوجية وغير ذلك ، ويطلق على تلك الفلسفة فلسفة التصور الجوازي (Permissive) أو الفضفاض للعلم ، والذي يشترط نسق منظم من المعرفة المترابطة فيما بينها تمثل نظرية مكتملة لموضوع له منهج بحث يتفق مع طبيعته ويؤدي إلى سمو هذا النسق وتطوره ، في حين أن التصور الكلاسيكي المحافظ (Conservative) اشترط بالنسق المعرفي تعميمات كبرى موحده وأن يكون منهج البحث قوامه الأساسي الملاحظة والتجربة (حسن زيتون 2004) ، والإشارة إلى التعميمات الكبرى الموحدة إشارة إلى اكتمال النظرية العامة للموضوع ونضج العلم إلا أن الشرط التجربي وإن كان ضامن لصدق الناتج إلا أنه يستبعد المعارف الصورية البحته والإنسانية ، بينما بعض الإتجاهات الأخرى استساغت شرطية وجود طائفة من القوانين العلمية ، وهو شرط تفضي دلالته المعنوية أيضا إلى إكتمال النظرية العامة للموضوع ، فالقوانين تصاغ إلى تعميمات والتعميمات تفضي إلى النظرية الكلية للموضوع ، في حين أن باحثين آخرين لم يشترطوا اكتمال نظرية الموضوع واقتصرت شرطيتهم في النسق المعرفي وجود أساس علمي قائم سواء كان ذلك الأساس مكتملاً أو في سبيل الاكتمال كتافكو سراسفك وريس (TEFKO SARACEVIC & A.M.Rees 1968) في حين أنهم خلطوا ما بين المظاهر والشرطية فاعتبر أن من شروط العلم وجود مجتمع من المهتمين والمتخصصين المنتميين إلى مؤسسات أكاديمية وبحثية نظامية ووجود جمعية مهنية ومجلة علمية متخصصة لكي يستحق أن يطلق عليه تسمية علم (Science) ، وهذه المسائل من الممكن اعتبارها مظاهر معاصرة لنضج العلم لإحتمالية قيام علم بدونها ، ولا يعني التصنيف الفرعي للعلم إستقلال تام للعلوم وقطع الأنساب بل إستقلال نسبي ، فالظواهر في البيئة الكلية متباينة أو متقاربة لا متطابقة ، تنتظم في نظام تشابكي يصل الأقرب بالأقرب ، ولذلك فالتمييز الموضوعي والعلائقي يعني تأطير المرجعية التفسيرية موضوعيا أي إستقلال موضوعي في مرجعيته التفسيرية ، فالإرتباط الغير موضوعي يحيد بمخرجات البحث إلى الموضوع محل الإرتباط.


البطراوي، تامر (2016). فلسفة علم السياحة، مطبعة دار السلام: الطبعة الأولى، دار المعارف للنشر والتوزيع، الأسكندرية، مصر.



#تامر_البطراوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النظرية الإقتصادية الكلية مُقاربة تأصيلية
- المدرسة الإقتصادية للإسلاميون الجُدد
- مناقشة لبعض مواد الدستور المصري
- دستورية موضوع الهوية (دراسة مقارنة)
- الحُقبة الماركنتيلية الجذور السياسية والثقافية وانعكاساتها ع ...
- البكيني والحرب المُقدسة
- مقاربة أنطولوجية
- متى ظهر مصطلح الإقتصاد ومتى ظهر مصطلح الإقتصاد الإسلامي؟
- ثورة على أصنام المعبد
- الإقتصاد المصري منذ عصر الفراعنة وحتى حكم محمد علي
- النُظم الهيكلية بالنظام الإقتصادي العالمي الجديد
- النظام الاقتصادي العالمي الجديد
- رسائل إلى الرئيس - الرسالة الرابعة إستراتيجيات الوصول للتمثي ...
- رسائل إلى الرئيس - الرسالة الثالثة الدولة ما بين فلسفة الرؤي ...
- رسائل إلى الرئيس - الرسالة الثانية حدد طبيعة مجتمعك وتوافق م ...
- رسائل إلى الرئيس - الرسالة الأولى جدلية المجتمع والدولة


المزيد.....




- السعودية.. أحدث صور -الأمير النائم- بعد غيبوبة 20 عاما
- الإمارات.. فيديو أسلوب استماع محمد بن زايد لفتاة تونسية خلال ...
- السعودية.. فيديو لشخصين يعتديان على سائق سيارة.. والداخلية ت ...
- سليل عائلة نابليون يحذر من خطر الانزلاق إلى نزاع مع روسيا
- عملية احتيال أوروبية
- الولايات المتحدة تنفي شن ضربات على قاعدة عسكرية في العراق
- -بلومبرغ-: إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المزيد من القذائ ...
- مسؤولون أمريكيون: الولايات المتحدة وافقت على سحب قواتها من ا ...
- عدد من الضحايا بقصف على قاعدة عسكرية في العراق
- إسرائيل- إيران.. المواجهة المباشرة علقت، فهل تستعر حرب الوكا ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - تامر البطراوي - الأصول النظرية لمفهوم العلم