أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد فيصل يغان - مفهوم العدالة















المزيد.....


مفهوم العدالة


محمد فيصل يغان

الحوار المتمدن-العدد: 5276 - 2016 / 9 / 5 - 19:50
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


مفهوم العدالة
مفهوم العدالة كقيمة لا يغيب أبدا عن مخيلة الإنسان عند مطالعته للعلاقات الإنسانية، وأكثر ما يتجلى بوضوح هو عند مطالعة الجوانب المادية لهذه العلاقة، فإذا كانت الذاتية تطغى على تشكيل مفهوم العدالة عند تعاملنا مع الجوانب العاطفية الرمزية لهذه العلاقات، فإنَّ الجوانب المادية قابلة للمحاكمة العقلية الواعية بحكم طبيعتها. فيما يلي نستعرض الإطار التاريخي المحيط بمراحل تشكل مفهوم العدالة كقيمة والتحولات التي طرأت على النماذج الاجتماعية المجسدة لها.
تبدو العدالة وكأنها درة التاج بين كافة القيم الأخرى، كما وتبدو بأنها تختزل هه القيم كافة وتحددها. والعدالة هي قيمة اجتماعية بامتياز كونها تحدد علاقة أفراد المجتمع مع بعضهم البعض وعلاقة الفرد الواحد مع الجماعة وتحدّد مكانته. كما أنَّ العدالة وبعد التحليل، تظهر جذورها الطبيعية وكونها أحد شروط استمرارية الجماعات حتى الحيوانية منها، هذه العدالة الطبيعية والتي وجدت دائما من يروج لها في المجتمعات الإنسانية رافضا تجاوزها وتطويرها بما يتلاءم وإنسانية الإنسان، لا تزال ماثلة بأشكال مختلفة ضمن المنظومة القيمية للمجتمعات الرأسمالية.
على أدنى مستوى اجتماعي، أي في المجتمع الحيواني ، نرى أن أشكال تجسد العدالة في هذا المجتمع الغريزي بامتياز تتمثل في تحديد أولوية الحيوانات بالحياة. فالمفترس له أولوية الحياة على الفريسة، وقوانين الطبيعة الهادفة لحفظ الحياة ككل على وجه البسيطة تفرض مفهوما للعدالة يخدم هذه المهمة الا وهو أولوية المفترس على الفريسة في الحياة، ومن خلال تحقيق هذا الهدف يتحقق بشكل غير مباشر هدف أكثر من فئة فرعية في حفظ النوع، والمبدأ نفسه ينطبق داخل الفئة الحيوانية الواحدة، فتراتبية الحصول على الغذاء من الفريسة تعكس أولوية الفرد الأقوى في الحياة على الفرد الأضعف وبهدف سامٍ هو حفظ النوع. أي أن هذه العدالة التناغمية تتمثل في التزام كل كائن حي بما يمليه عليه تصنيفه (الطبقي) في سلسلة الغذاء الطبيعية، وبحكم الغريزة يلتزم أفراد المجموعة طوعا في هذا التراتب الطبقي الطبيعي دون توتر ناتج عن تناقض تصور الفرد الخاص للعدالة مع القاعدة السائدة.
والعدالة التناغمية هي الشكل الأبسط لمفاهيم العدالة التي سادت في المجتمعات البشرية الطبقية البدائية منها والحديثة. فعدالة أفلاطون التناغمية مثلا تقوم على تصوره لمجتمع المدينة الإغريقية الطبقي على أنه الشكل الطبيعي للحياة الاجتماعية البشرية، وبقاء هذا المجتمع يقتضي التزام أفراده بما يمليه عليهم قانون الطبيعة من واجبات ضمن طبقاتهم، فالحكماء عليهم الحكم والتشريع، والجنود عليهم حفظ الأمن والدفاع عن المدينة والعبيد عليهم العمل بما يتقنه كل منهم. ولتبرير النظام القائم، يتم إنتاج منظومة فكرية تبريرية تتبناها الطبقة السائدة وتفرضها على المجتمع كما سبق وبينا.
ما زالت المجتمعات الرأسمالية متمسكة بهذا المفهوم البدائي للعدالة في مواجهة الآخر، وتبني تعاملاتها مع العالم الثالث على أساس هذا المفهوم بشكل صريح دونما الحاجة إلى جهد للتبرير، أمّا داخليا وضمن المجتمع الراسمالي الطبقي، فهناك منظومات فكرية سنتعرض لها لاحقا ضمن هذا البحث.
أما عدالة المساواة بين أفراد المجموعة الحيوانية الواحدة فلا تتحقق إلا في ظلّ الوفرة (أحد شروط تحقق المجتمع الشيوعي)، حيث تنتفي دوافع المنافسة والحاجة إلى تحديد أولويات الأفراد في الحياة. وهنا أيضًا نجد أنَّ القدر الضئيل من المساواة الذي توفره الدول الرأسمالية لمواطنيها، عادة ما يكون على حساب الوفرة المتحققة من سلب خيرات الدول الأخرى سواء مباشرة أو من خلال التعاملات غير المتكافئة. مقابل هذه الرشوة، ومع إضعاف المنظومة القيمية في هذه المجتمعات، تغض الطبقات الدنيا النظر عن السياسات الخارجية لدولها وتتلهى في شؤو ن حياتها اليومية وسعيها وراء المال.
و تنشأ في المجتمعات الحيوانية أيضا عدالة الرد والانتقام والتي تتلخص باسترجاع مكانة الحيوان الفرد في سلم أولوية الحياة والتي سلبها أو حاول أنْ يسلبها المعتدي، فالانتقام ليس اجتماعيا بحتا، وإنّما موجه بالأصل بدوافع غريزية، بدافع الحفاظ على أولوية الحيوان الفرد في الحياة وبالتالي البقاء حيًا ضمن المجموعة، و ينتهي بذلك الصراع بعودة الامور إلى نصابها. وهذا يفسر ظاهرة أن معظم أشكال الصراع ما بين أفراد المجموعة الحيوانية الواحدة (في الطبيعة الحرة) لا تنتهي بموت أحد المتصارعين، بل بإقرار الأضعف بالهزيمة والتراجع في التراتب خلف المنتصر.
أما في المجتمعات الإنسانية، نجد أن حق الرد والانتقام نادرا ما يكون متاحا للجميع بالدرجة نفسها، فممارسة هذا الحق هو امتياز يحدده الانتماء الطبقي للفرد، فكما رأينا في قانون حمورابي، تم تمييز الطبقة الأعلى بهذا الحق (العاميلو) بكونها الوحيدة التي يحق لها الرد على الأذى الجسدي بمثله (العين بالعين) في حين يقتصر حق الطبقات الاخرى بالتعويض المادي. والمنطق خلف هذه المعادلة واضح، إذ إنّ إيذاء أحد أفراد الطبقة العليا في المجتمع يهدد كيان وهيبة هذه الطبقة ولا بد من عقوبة رادعة بحق المعتدي حتى لا تتجرأ الطبقات الدنيا على الأسياد، أمّا أبناء الطبقات الأدنى فلا أهمية لهيبة وحصانة طبقاتهم، وبالتالي فإنّ تعطيل فرد منتج وإنْ كان معتديا هو ثمن لا يقبل المجتمع تحمله إرضاء لرغبات أبناء الطبقات الأدنى.
وفي العصر الحديث اقتصرت العقيدة العسكرية على تبني مفهوم الانتقام والرد للعدالة، وقد قبلت المجتمعات المتمدنة تطبيق هذا المفهوم على صراعها مع المجتمعات الأخرى الخارجية في حين تجاوزته (نسبيا) في الداخل. وقد تجاوزت المؤسسات العسكرية للدول الكبرى في زمننا هذا قانون حمورابي بالرد المتوازن إلى المفهوم العبري لعدالة الانتقام المضاعف والجماعي كما رأينا في فلسطين والعراق وكل الحروب في العصور الحديثة. وهذه الازدواجية في مفهوم العدالة لدى هذه الدول ليس سوى انعكاس للواقع الدولي، حيث تشكل الدول النامية والدول الصغيرة طبقة أدنى من الدول الكبرى في المجتمع الدولي.
ومن هذا المنطلق نجد أن حسّ الإنسان بالعدالة له أصول طبيعية لكونه شرط طبيعي لبقاء المشاعة البشرية، كما يعكس رغبته في الحياة كمًّا ونوعا ضمن الجماعة البشرية التي ينتمي إليها.
إن التنافس ما بين أفراد وطبقات الجماعة البشرية وتوازن القوى في ما بينها، يحدد النموذج الاجتماعي المجسد للعدالة والذي بكونه محصلة لرغبات وتصورات مختلفة للعدالة، لا يحقق بشكل مثالي تطلعات أيٍّ من الفئات المتنافسة ولا يشبع بالتالي حسّ العدالة تماما عند أفراد المجتمع. فحتى الطبقة السائدة والأوفر حظا في ترتيب الأولوية للحياة، تظل لديها الرغبة في أخذ المزيد من الحقوق، فنجدها كلما ازداد نفوذها في المجتمع فرضت تعديلات لصالحها على النموذج الاجتماعي الممثل للعدالة، وحين تسوء الأحوال المعيشية للمجتمع تكون هي آخر من يتأثر بهذا التغير.
وهكذا فإنَّ تعدد الأشكال النظرية في معالجة موضوعة العدالة، والنماذج التطبيقية لها والاختلافات العميقة في ما بينها تعكس الطبيعة المعقدة لمفهوم العدالة، كما تعكس حقيقة أنَّ الإنسانية لم تطور بعد نموذجا تطبيقيا للعدالة يرضي إحساس الجميع الحدسي بها وذلك بسبب الطبقية الكامنة في تركيبة المجتمعات الإنسانية. فكل ظهور لنظرية جديدة للعدالة أو اقتراح نموذج جديد لتحقيقها ما هو سوى ردة فعل رافضة لمفهوم للعدالة سائد والنموذج القائم عليه، وتمثيلا لطموحات ولمصالح فئة مهيمنة صاعدة جديدة.
أحد أوجه الخلاف الرئيسة بين نظريات العدالة هو مصدر العدالة، والعدالة المقصودة هنا طبعا هي المفهوم المفروض على المجتمع بنموذج محدد، وهدف إسناد هذا المفهوم إلى مصدر مفارق هو للتعمية على حقيقة كونه يمثل توازن القوى الاجتماعية وميله لصالح الطبقة المهيمنة، وبالتالي أعطائه شرعية ميتافيزيقية تصعب معارضتها.
الأصل الديني للعدالة
شكل الدين المرجعية الأولى للعدالة في المجتمعات الإنسانية، فمن المشاعة المقدسة والآلهة التي تجسدت منها استمدت الطبقة المهيمنة مرجعية مقدسة مساندة لنموذجها المفضل. والنظرية الدينية في أصل العدالة تقوم على فرضية أن الأحكام لا تكون مجبرة وملزمة للجميع ما لم تكن صادرة عن الإله، والتبرير الضمني لهذا الشرط هو كون المشرّع غير ذي مصلحة في هذه الحالة وبالتالي فإنّ النموذج المفروض قائم على عدالة عدم التحيز.
عادة ما تكون التبريرات التي تساق لصالح عدالة إجراءٍ أو موقفٍ ما في هذه الحالة مبنية على تأويل لنصوص ذات صبغة دينية مقدسة، وكون النصوص الدينية نادرا ما تعالج كافة الحالات التي تطرأ في المجتمع بدقة وإنّما هي نصوص عامة و(حمالة أوجه)، تُختزل المسالة في احتكار سلطة التأويل في المدرسة التابعة للطبقة المهيمنة وإضفاء القدسية على تأويلات هذه المدرسة فيختلط التاريخ بالعقيدة و البشري بالإلهي.
فإن كانت مرونة النصوص وقابليتها للتطويع فيما يخدم الطبقة المهيمنة نقطة قوة، فإنها بذات الوقت نقطة ضعف تستغلها الطبقات المنافسة تحت غطاء حركات الإصلاح. وهذه الحركات الإصلاحية تلجأ إلى الطعن في التأويلات السائدة واستبدالها بتأويلات جديدة للنصوص المقدسة تخدم قضية الطبقة الجديدة الناهضة.
أما حين تستنفذ هذه النصوص مرونتها ولا تستطيع بعد أن تتحمل التأويلات المطلوبة، تلجأ الطبقات الصاعدة إلى أصول ومرجعيات جديدة في مقدمتها العقل (مثال حركات الإصلاح الديني في العصور الوسطى في أوروبا من أمثال لوثر وكالفن وحركات الإصلاح الديني في الشرق الأسلامي في بدايات القرن العشرين، من أمثال محمد عبده وجمال الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي).
الأصل الطبيعي للعدالة
يقوم هذا التصور على أساس المبدأ الأولي القائل بأن التوازن خير وأن اضطراب هذا التوازن شر. وأن الطبيعة بكل أشكالها لا تستقيم خارج التوازن وأنها تعمل تلقائيا لاستعادته، وهذا ينطبق على المجتمع وعلى النفس الإنسانية من خلال آلية مشابهه لقانون نيوتن الثالث والقائل بأن كل فعل له رد فعل مساوِ له بالقيمة ومعاكس له بالاتجاه. فالفلسفة الرواقية مثلا تقوم على أن الفضيلة وهي أم القيم تتطلب تناغم الإنسان مع الطبيعة، وكذلك عدالة أفلاطون التناغمية تجد لها في هذا المبدأ الطبيعي سندا ومرجعية على أساس أن المجتمع الطبقي الثلاثي هو الشكل الطبيعي للمجتمع البشري، في حين أن الثورات البورجوازية (الثورة الفرنسية والثورة الأميريكية ودستورها العتيد) تدعو لحقوق طبيعية متساوية عند الخلق، أما الوضع الاجتماعي الذي يحققه الفرد فيتحقق من خلال فعل قوانين الطبيعة المسيرة لكل شيء والمنافسة بين الأفراد ضمن هذه القوانين. وكان أن ظهرت العديد من المحاولات لمواءمة الطبيعي مع الديني وبالأخص في سياق الحركات الإصلاحية الدينية كأن يٍُِِشار إلى ضرورة الوحي لاستيعاب قوانين الطبيعة بالكامل ومعرفة الحق كما أراده الخالق نظرا لعجز العقل وحده عن معرفة الحقيقة المطلقة.
ومع استنفاذ مرونة النصوص الدينية والوصول إلى نقطة عدم الملاءمة التامة للمؤسسة الدينية المسيحية لطموحات البورجوازية الصاعدة، أًعيد النظر في الأصل الطبيعي مرة أخرى ولكن على أساس الثقة المطلقة في قدرة العقل على استيعاب القوانين الطبيعية، وبالتالي على قدرة المجتمع المكون من (أفراد) عاقلين إلى التوصل لعقد اجتماعي مبني على القوانين الطبيعية يحمي الحقوق الطبيعية للأفراد.
الأصل العقدي للعدالة
يقوم الأصل العقدي للعدالة على مبدأ وجود حقوق طبيعية للأفراد تشملها العدالة الطبيعية، وعلى أن الأفراد قادرون بالعقل على التوصل إلى هذه الحقوق وتحديدها. ولكن الانتظام في مؤسسة اجتماعية تحمي الفرد وتؤمن له رغد الحياة تتطلب منه أن يتنازل طوعا أي بدون إكراه من أفراد آخرين أو ظروف الجهل والفقر، عن بعض هذه الحقوق للجهه ذات السيادة في المؤسسة الاجتماعية (فنظرية أفلاطون في العدالة مثلا ليست عقدية بالمعنى الصحيح كون على الأقل أحد أطراف هذا العقد لا يمتلك الحرية)، فيصبح كل ما ينص عليه هذا العقد عدلاً وكل ما يخرج عنه ظلما ويلزم المتعاقدين على تنفيذ حصتهم منه تحت طائلة العقاب، وفي هذا المنحى يكون العقد عمليا ما بين الأفراد وبين هذه الجهة ذات السيادة (و ذات قداسة)، وبذلك تهمش الفروقات الطبقية بداية ويتم مصادرة النتيجة المطلوبة، فالعدالة العقدية تفترض نظريا تكافؤ الأفراد أطراف العقد، بمعنى أنَّ حاجتهم لدخول هذا العقد متساوية وكذلك قدرتهم على تحديد بنوده ولاحقا مخرجاته، وبالتالي تكافؤهم لاحقا أمام الجهة ذات السيادة التي تتشكل بناء على هذا العقد.
من جهة أخرى، يفترض الفكر العقدي أن الحالة الطبيعية للأفراد (بدون مؤسسة اجتماعية) محكومة بدوافع أنانية تماما بحيث يصبح وضع أي مجموعة من الأفراد (حرب الجميع ضد الجميع)، ونتيجة هذا الفرض، نجد في هذا الفكر تجذر فكرة أن الحرية والفردية صنوان وأن المجتمع هو نقيض الحرية وهو سبب ظهور التيارات الليبيرالية دفاعا عن الحرية الفردية في وجه ضرورة التنازل عن بعض منها للجهه ذات السيادة على أساس أن الحالة الطبيعية للإنسان الفرد ليست شرا بالكامل، وبالتالي يصبح تنازله عن بعض حقوقه قمعا لا مبرر له. وهو موضوع تم طرقه عند بحثنا لمفهوم الحرية كقيمة في مقال منفصل.
نجد في مختلف الصياغات لهذا الأصل بذور القمعية التي يمارسها المجتمع (من خلال الجهة ذات السيادة) على الأفراد، كما جاء على لسان روسو بأن الفرد (يجب أن يجبر على أن يكون حرا)، فحرية الفرد حسب العقد تحدد حرية الكل، أي أن خروجه عن العقد يقلل من حرية الآخرين وبالتالي من حريته هو كونه جزءا من كل. أما في الشكل الروماني للعقد الاجتماعي، فقد تنازل المواطنون للإمبراطور عن حقوقهم (فجميع حقوق الشعب الروماني وجميع سلطاته انتقلت إلى الإمبراطور. وله وحده حق وضع القوانين وحق تفسيرها) "تكوين العقل الحديث، جون هرمان راندال، دار الثقافة، بيروت” . ويمكن أن نقول بتحفظ، أن مبدأ مبايعة الخليفة في العصر الراشدي كان شكلا من أشكال العقد الاجتماعي كما جاء في خطبة أبي بكر بعد توليه الخلافة (أما بعد، أيها الناس فإني قد وليت عليكم، ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم) “حياة محمد، د. محمد حسين هيكل، المكتبة العصرية صيدا – بيروت” إلى أن اتخذ (مبدأ المبايعة) مرجعية دينية في العهود اللاحقة كما نرى في خطاب المنصور العباسي (أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته، وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلا، إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم، وإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني..) "المرجع السابق".
تنتج تشعبات الفكر في الأصل التعاقدي نتيجة الاختلافات في تحديد الحقوق الطبيعية أولا، وتحديد شكل الجهة ذات السيادة ثانيا، حيث تلجأ الطبقات المهيمنة إلى تحديد الحقوق الطبيعية بصيغ عامة تسمح بالتأويل لاحقا حسب مصلحتها، ومن ناحية أخرى فإن شكل الدولة أو الجهة ذات السيادة فهي حمالة أوجه بحيث يمكن تبرير كافة أشكال الحكم المعروفة من الشمولية وحتى الديموقراطية النيابية.
من هذا الاستعراض السريع نرى كيف أن كل النظريات قد عملت على تجاهل حقيقة أن النظام الاجتماعي ومؤسساته المحققة للعدالة تعكس ميزان القوى بين فئات هذا المجتمع وتميل تماما لصالح الطبقة المهيمنة.
من ناحية النماذج التطبيقية، نرى أنها تنقسم بشكل عام إلى قسمين رئيسين: الأول عدالة المساواة (Egalitarian) والثاني عدالة التناغم (Harmony) والتي يمثلها مفهوم أفلاطون عن المدينة الفاضلة والذي سبق وتطرقنا له، ونستعرض في ما يلي نموذج عدالة المساواة.
نموذج عدالة المساواة
المبدأ الأساس المؤسس للنظرة المساواتية هو أن البشر خُلقوا أصلا متساوين، وأن لهم حقوقًا طبيعية واحدة. وهذه الحقوق بشكل عام تدخل تحت ثلاثة مسميات رئيسة وهي: الحقوق المادية (الاقتصادية)، الحقوق الأخلاقية (المعنوية) والحقوق الاجتماعية (سياسية وقانونية).
فنجد مثلا أن الأنظمة الرأسمالية تتبنى أشكال الحقوق الأخلاقية والاجتماعية في دساتيرها (الدستور الأميريكي ينص على البشر خلقوا متساوين وبالتالي فالجميع لهم حق الحياة وحق الحرية وحق الملكية وأنّ النظام الانتخابي التمثيلي يحقق المساواة السياسية وأن الجميع متساوون أمام القانون) وتتغاضى عن المساواة في الحقوق المادية باللجوء إلى المساواة في الفرص بغض النظر عما إذا كان تساوي الشروط المادية شرطا لازما كي تؤدي مساواة الفرص إلى مساواة في النتائج.
وهكذا نجد أن المجتمعات الرأسمالية الحديثة تركز جلَّ نشاطها السياسي والاجتماعي على تعديل الأنظمة والقوانين بما يحقق المساواة في الحقوق الأخلاقية (التمييز العنصري والجندري والتمييز ضد مجموعات الأقليات في نظرة المجتمع الأخلاقية والقيمية) وعلى الحقوق الاجتماعية لضمان حصول هذه الفئات على تمثيل سياسي متناسب مع حجمها وعلى المساواة أمام المؤسسات القانونية.
ومن هنا عقم هذا النضال وعجزه عن تحقيق مجتمع إنساني حقيقي دون التطرق إلى المساواة المادية وانتزاعها كشرط أساس لتحقيق أشكال المساواة الأخرى. فالمجتمع الرأسمالي لا يزال يتبنى المبادئ السائدة في المجتمعات الحيوانية والتي ترضى في عدالة المساواة فقط في الأشياء التي يتحقق فيها شرط الوفرة، فالفرص مثلا وفرة طالما أن نتيجة الفرصة محتومة بالشروط المادية المسبقة وغير المتكافئة، والحرية كذلك هي وفرة طالما أن العقد الاجتماعي أو الدستور والقوانين تحمي الملكية الخاصة المطلقة وتعتبر التعرض لها جريمة، مما يختزل مفهوم الحرية بالتصرفات الشخصية الهادفة لإشباع الغرائز والمتمحورة على الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك.
تدعي الأنظمة الرأسمالية أنها تطبق نموذج عدالة الكفاءة في توزيع عوائد العمل الاجتماعي والذي لا يصح أن يكون شكلا للعدالة إذا لم تتحقق شروط المساواة المادية كما سنرى لاحقا. الاشتراكية كانت هي الشكل الوحيد من التنظيم الاجتماعي الذي حاول أن يحقق المساواة المادية من خلال معالجة مواضيع الملكية وتـوزيع فائض الإنتاج، والهدف كان الوصول للمجتمع الشيوعي المثالي حيث تتحقق عدالة المساواة تماما كنتيجة مباشرة لتحقق شروط هذا المجتمع (تصفية الطبقات المعارضة، تحقيق عالمية التغيير، تحقيق الوفرة وأخيرا مستوى الثقافة المتقدم). وفي المرحلة الانتقالية، حيث لم تتحقق بعد شروط المجتمع الشيوعي، اعتمدت الأنظمة الاشتراكية شكل عدالة الكفاءة حيث كان توزيع عوائد الإنتاج الاجتماعي يتم على أساس حجم العمل الذي قدمه الفرد " خالفينا، حق الملكية الشخصية في الاتحاد السوفيتي، دار التقدم فرع طشقند"، وهذا الشكل لتطبيق عدالة التوزيع المادي ممكن في إطار الدولة الاشتراكية ويحقق المبتغى كون شرط المساواة المادية متحققًا في هذه المجتمعات، على عكس الدول الرأسمالية حيث لا يستطيع الفرد أن يحقق حده الأقصى من الكفاءة لعدم تكافؤ الفرص والذي هو بدوره نتيجة لعدم تكافؤ الظروف المادية. أما وقد أصيبت هذه التجربة الاشتراكية بنكسة منذ بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، فقد انتعشت حركة حقوق الإنسان التي ظهرت أصلا في الغرب، والتي تمثل الشعور الحدسي لدى البشر هناك بعقم النظام الاجتماعي السائد وضرورة تحقيق المزيد من أنسنة هذه المجتمعات. ونظرا للقصور الفكري لدى القائمين على هذه الحركات وعجزهم عن اكتشاف الشرط التاريخي المتمثل في المساواة المادية لتحقيق أشكال المساواة الأخرى، وفي بعض الأحيان نتيجة الانتماء الطبقي لهؤلاء الأشخاص والذي يحصنهم غريزيا ضد المساواة المادية، اقتصرت دعواتهم على التعامل الخجول مع شرط المساواة المادية من خلال محاولات (تهذيب) معاملة الطبقات المهيمنة للطبقات الأخرى وبالأخص في دول العالم الثالث حيث يأخذ الاستغلال والبؤس الناجم عنه أشكالا مأساوية. وضمن هذا الواقع ومع غياب القوى التقدمية عن الساحة السياسية في الدول الاشتراكية سابقا وفي دول العالم الثالث، راهنت الجماهير ذات الحس التقدمي على هذه الحركات (حركات حقوق الإنسان) في محاولة يائسة لتحقيق أحلامها والتحق العديد من الناشطين بها، وكم من مرة صُدمت هذه الجماهير من مواقف حركات حقوق الإنسان من قضايا إنسانية عادلة مثل قضية فلسطين وقضية العراق وكَيْل هذه الحركات بمكيالين، وكم من مرة ثبت لها أن الكثير من هذه الحركات هي واجهات للاستعمار الجديد وأدوات لتغلغله في مجتمعات الدول التابعة لمراكز الرأسمالية العالمية، إلا أنَّ هذه الحركات تبقى في الظروف الحالية المنبر الوحيد المتاح للجماهير المسحوقة في هذه الدول لعرض قضاياها بدرجة أو أخرى والأداة الوحيدة المتاحة لتحقيق شيء من التغيير.
بالنتيجة نستطيع القول بأن الشرط الضروري لتحقق العدالة هو المساواة المادية، وأنَّ الشرط الكافي هو تكافؤ الفرص.



#محمد_فيصل_يغان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دولة التراث و الدولة الحديثة
- أسطورة التراث
- الإسلام البدوي و العقل التراثي
- آلية المماثلة و انتاج النصوص
- الثلج الصامت، الثلج السري قصة مترجمة
- خاطرة في اللغة
- مفهوم الحرية
- صراع الهوية في رواية موسم الهجرة الى الشمال
- لمحة عن فكر ابن خلدون
- حول موقف سارتر من العلم و المادية الجدلية
- وحدة العقل و الوحي و جدلية المعقول و اللامعقول
- الانماط الاساسية للمعرفة (ضد الجابري) الأخيرة
- الأنماط الأساسية للمعرفة (ضد الجابري) 4
- الأنماط الأساسية للمعرفة (ضد الجابري) 3
- الأنماط الاساسية للمعرفة (ضد الجابري) 2
- أنماط المعرفة الأساسية (ضد الجابري)-1
- محاولة لتعريف العقل
- في العقل
- ملاحظات حول نظرية النسبية الخاصة
- القيم ما بين العقل و الدين 2


المزيد.....




- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى في ثاني أيام الفصح اليهودي
- المقاومة الإسلامية في لبنان .. 200 يوم من الصمود والبطولة إس ...
- الأرجنتين تطالب الإنتربول بتوقيف وزير إيراني بتهمة ضلوعه بتف ...
- الأرجنتين تطلب توقيف وزير الداخلية الإيراني بتهمة ضلوعه بتفج ...
- هل أصبحت أميركا أكثر علمانية؟
- اتفرج الآن على حزورة مع الأمورة…استقبل تردد قناة طيور الجنة ...
- خلال اتصال مع نائبة بايدن.. الرئيس الإسرائيلي يشدد على معارض ...
- تونس.. وزير الشؤون الدينية يقرر إطلاق اسم -غزة- على جامع بكل ...
- “toyor al janah” استقبل الآن التردد الجديد لقناة طيور الجنة ...
- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد فيصل يغان - مفهوم العدالة