أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عياد عيد - نحن وخيارات العولمة















المزيد.....


نحن وخيارات العولمة


عياد عيد

الحوار المتمدن-العدد: 1407 - 2005 / 12 / 22 - 11:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تقديم لا بد منه:
دعونا نتفق منذ البداية: إن كلَّ نقدٍ موجه للعولمة سيرد لاحقاً ليس بالضرورة دفاعاً عما هو قائم, بل يمكننا أن ندرجه ضمن إطار البحث عن الأشكال الجديدة... فمن غير المعقول, ما دمنا نعترف بلزوم تغيير الواقع أن نقبل بكل ما يعرض علينا, وخصوصاً إذا كان يتعارض مع مصالحنا... وفي الحقيقة فإن الخيارات العولمية المعروضة أمامنا ليست خيارات... بل هي فروض عولمية, وهي ليست متعددة بل تنحصر في قبول الاستسلام لإرادة الزعيم العالمي الأوحد, وتنحصر في تطبيق شروطه وتعليماته وخدمة احتياجاته...
والملفت للنظر أن أصحاب العولمة في الخارج, وأنصارَها في الداخل يصرون على أن لا خيار آخر لنا... يقولون: هل تريدون بناء الاشتراكية؟ لقد أثبت الاشتراكية فشلها وأضحت في خبر كان... هل ما زلتم تفكرون في الوحدة العربية؟ هيهات.. فأنتم في (عز دين) مرحلة النهوض القومي لم تستطيعوا بناء دول بمعنى الدول على النطاق القطري, فكيف ستبنون الآن الدولة العربية الواحدة... هل لديكم مشروع إسلامي؟ انظروا إلى ما فعله الطالبان في أفغانستان.. ثم انظروا إلى هذا التشهير المذهل بالإسلام... يكفي أن تكون ذا بشرة سمراء, أو ذا لحية حتى تصنف في خانة الإرهابيين وتوضع موضع الشبهة.. ليس أمامكم, كما يقولون, إلا الرضوخ, والقبول بالعولمة...
وفي الواقع فإن الهدف الخفي من هذه البحث هو الكشف عن زيف هذه التأكيدات, وأول ما نواجه به أصحابها هو سؤال بسيط.. ما دامت العولمة هي الخيار الوحيد فلماذا هذا الإلحاح كله على فرضها من قبل أنصارها.. لماذا تسخّر وسائل الإعلام على نطاق الكوكب كله للترويج لها.. ولماذا يرسل زعيم العالم الأوحد جيوشه وأساطيله لفرضها... لماذا لا يدعوننا نسير نحوها من تلقاء ذاتنا ما دامت الخيار الأوحد...
يقول ألكسندر بانارين, الذي صدر مؤخراً عن اتحاد الكتاب العرب مؤلفه "الإغواء بالعولمة" والذي كان لي شرف ترجمته إلى اللغة العربية: "مهمتنا اليوم هي أن نجرد النوايا الشريرة للبربرية العولمية الجديدة من "أدلة براءتها" الموضوعية والقطعية, والكشف عن الهوائية الذاتية والنفعية هناك, حيث يدعوننا إلى أن نرى القدرية وحدها. للنظام العولمي, كما لكل شيء في العالم, أشكال وسيناريوهات بديلة؛ وتفرض هيبتنا الإنسانية علينا أن ندافع قدر المستطاع عن أكثرها إنسانية وأعدلها, وتفرض مواجهةَ حرص البربرية الجديدة, الساعية إلى امتلاك زمام العالم تحت شعار "لا قدر آخر".
كيف نفهم العولمة؟
وبالفعل كيف نفهم العولمة؟
منذ أطلقت لدينا في سوريا مرحلة الإصلاح والتحديث والتطوير بدا ملفتاً للانتباه من خلال النقاش الطويل الذي دار, والذي لا زال يدور, ذلك الفهم المتعدد والمتباين للإصلاح... الموظفون في الدولة يعتبرون أن الإصلاح هو زيادة الرواتب... التجار ينظرون إلى الإصلاح على أنه السماح لهم باستيراد السيارات وما يشاؤون, من غير عوائق أو موانع.. والمعارضة تفهم الإصلاح بأنه وجوب أن يسلم النظام مواقعه لها.. وبعض أصحاب الامتيازات في السلطة يرون في الإصلاح خطراً على امتيازاتهم, بينما يرغب الآخرون في أن يعزز هذا الإصلاح امتيازاتهم... والتباين لا يقف عند هذا الحد...
كذلك العولمة... بعضهم يرى فيها حرية التنقل .. وبعضهم يخلط بينها وبين الثورة العلمية التكنولوجية.. وبعضهم يرى فيها الديمقراطية.. وبعضهم يرى فيها سهولة الحصول على النقود وسهولة الحصول على أحدث التقنيات... بعضهم ينسب فكرة العولمة إلى الإسلام, وآخرون إلى ماركس... ويرى بعضهم أنها المرحلة الأرقى من التطور البشري.. يراها سادة العالم الجدد إزالة للعوائق والموانع التي كانت مفروضة عليهم ... بينما يرى فيها أعداؤها شراً مميتاً... ومهما سألت فلن تحظى بجواب أحادي المعنى, محدداً بدقة...
وإن كان لزاماً علينا أن نعرّف العولمة في هذا السياق, فهي كما نراها إزالة كافة الموانع والحدود والعوائق والمعايير والضوابط والقيم... إنها تعني الاقتصاد الحر والمجتمع المفتوح وتعني مبدأ الدارونية الاجتماعية أو البقاء للأقوى وتعني مفهوم مواطن العالم الذي لا يلتزم بشيء ولا يرتبط بوطن ويحدد حياته وعلاقاته وفاقاً لمصلحته الآنية, وتعني اعتماد مبدأ الربحية الاقتصادية في أي نشاط.. وتتجلى هذه المفاهيم بإلغاء كافة أشكال الدولة الأبوية, وإلغاء كافة البرامج التنموية أو برامج الدعم الاجتماعي بحجة عدم ربحيتها, وتتجلى بالانفتاح التام وعلى كافة الأصعدة...
وجوهرها كما يراه بانارين هو( الموارد العولمية من أجل مصالح الأقلية الأنانية الضيقة – هذه هي العقيدة الحقيقية لـ" العولمة")
وفي مكان آخر يقول: نستطيع أن نجري تصنيفاً لأنواع العولمة, التي تعطينا بتداخلها لوحة للعالم مبرقشةً ومتقلقلةً وخادعةً بعمومها.
تُنسب إلى النوع الأول عولمة التنوير – التي أرسيت فكرتها منذ نبعت الحداثة الأوربية, والتي تقود إلى تكوين فضاء عالمي واحد مؤسس على عموميات التقدم الموضوعة في متناول الكل بالتساوي.
وتنسب إلى النوع الثاني العولمة الباطنية للنخب الحاكمة, التي تواطأت في ما بينها من وراء ظهر الشعوب. إن الأخلاق الخاصة بمثل هكذا عولمة تقضي بأن لا يضلل الشركاء بعضهم بعض, وأن يشكلوا إتحاد الأقلية العالمية الحاكمة مبتعدين بالتساوي عن "الأنانية القومية" وعن المصالح المحلية. يعمل الممثلون القوميون المنتدبون, على هذا النحو, إلى النخبة العالمية العولمية على تشكيل النظام العالمي, الذي, وإن كان بعيداً عن آمال الشعوب الجاهلة, إلا أنه شفاف من أجل المشاركين جميعاً في نادي الامتيازات هذا.
أخيراً, نوع العولمة الثالث هو العولمة المرتكزة على الإجراءات التقليدية لتحول دولة عظمى, بمحدوديتها المحلية والقومية كلها إلى حامل احتكاري للسلطة العالمية – أي إلى حامل احتكاري لمنظومة العولمة أحادية القطب.
لقد استثمر كل نوع من أنواع العولمة الثلاثة هذه في أثناء الانتقال من العالم ثنائي القطب إلى العالم أحاديه, لكن بدرجات متفاوتة من الأصالة. فلخداع الرأي العام الواسع, الذي توجهه فئة المثقفين الديمقراطية, استخدم الشكل الدعائي للعولمة التنويرية, التي تؤمن بعموميات التقدم وبوحدة مصائر شعوب العالم. كلما كانت جهود الدعاة إلى النظام العالمي الجديد أشد إخلاصاً, فقدت اعتبارها وتحطمت بسرعة أكبر وسائل الحماية الذاتية القومية التقليدية, التي صاروا يتبرؤون منها كما يتبرؤون من شيء مقيت وشائخ.
ولخداع وعي النخبة ما بعد الشيوعية, التي كان عليها أن تسلم بلادها "للمنتصرين" في "الحرب الباردة", استخدم النوع الثاني من العولمة – العولمة الباطنية, المتميزة بتحول النخب القومية المتنازعة سابقاً في ما بينها إلى وسط عالمي واحد يضم أسياد العالم المختارين, الذين يقررون مصائره "ديمقراطياً" في ما بينهم.
أما في الواقع فقد "سارت العملية" باتجاه الشكل الثالث, وحينذاك حكم على المرشحين غير المحظوظين إلى عضوية النخبة العالمية الحاكمة, والذين وَهبوا من أجل الحصول عليها كل ما وسعهم أن يهبوه, بأن يعرفوا في نهاية الأمر أنهم استغفلوا ببساطة. طبعاً, هذا لا يعني أنهم لم يحصلوا على شيء. فأهم ما حصلوا عليه كان الضمانات المتعلقة بملكيتهم الجديدة.
هل العولمة مرحلة جديدة من التطور أم نكوص نحو السلفية؟
لا أجد مبرراً لانجذاب بعضهم إلى العولمة, ونقصد أولئك الذين ليس لهم مصلحة حقيقية في العولمة لكنهم يروجون لها, إلا في التعب الذي أصاب مجتمعاتنا من مرحلة التعبئة القصوى التي كنا نعيشها.. يقولون لك: نريد أن نعيش حياتنا يا أخي... ولكن المطروح كبديل للتعبئة هو التسيب والانحلال... والمطروح عوضاً عن التماثل القومي أو حتى القطري إن شئتم هو التفكك و الشرذمة...
في الواقع لا يكفي فقط أن نصبغ أمنياتنا, ورغباتنا على شيء حتى يصبح ملبياً لتلك الأمنيات والتوقعات...
إن كافة المؤشرات الحالية تدل على أن العالم أجمع يشهد نكوصاً شديداً نحو مرحلة ما قبل الحداثة في ما يسمى مرحلة ما بعد الحداثة... فلنأخذ مثلاً روسيا... في مقدورنا أن نعدد إلى ما لا نهاية السلبيات التي اعترت التجربة الاشتراكية, وهذه السلبيات شكلت المقدمة لضرورة الانتقال إلى مرحلة جديدة يتم فيها تجاوز السلبيات ويسير المجتمع إلى طور أرقى. فما الذي حدث؟ عادت الأمية إلى الظهور بعد أن تم القضاء عليها نهائياً.. انخفض عدد السكان.. إذا كان مرض الطاعون والسفلس منتشرين في مرحلة ما قبل الاشتراكية ففي المرحلة ما بعد السوفييتية انتشر الإيدز والجريمة المنظمة والمخدرات. إذا كانت موارد روسيا القيصرية تهدر على إخضاع القوميات والشعوب الداخلة في نسيج روسيا الاتحادية فإن الصراعات العرقية عادت من جديد في المرحلة ما بعد الحداثوية, وهي تهدد روسيا بالتفكيك.. وإذا كانت روسيا القيصرية تعاني من ضعف الصناعة لديها وكانت تصنف بأنها دولة زراعية متخلفة فإن ما دمر من مؤسسات صناعية في روسيا ما بعد الاشتراكية قد فاق الـ12000 مؤسسة.. ولازال القطاع الزراعي فيها يعاني من صعوبات كبيرة تجعله غير قادر حتى على تبوء المكانة التي كان عليها في روسيا القيصرية.
لنأخذ العراق .. كان العراق رازحاً تحت حكم دموي ديكتاتوري... وكان يحتاج إلى نقلة حقيقية نحو الديمقراطية والعيش الكريم .. فما الذي حدث؟ كلنا نرى ما حدث ويحدث اليوم... دمر العراق, ونهب, وأقحم في دوامة الصراعات الطائفية والإثنية.. علماؤه يقتلون.. بنيته التحتية مدمرة, أبناؤه مشردون - ليس بفعل الاضطهاد السياسي هذه المرة بل بحثاً عن الأمان والاستقرار..
يقولون لك: إن هذا ضريبة لا بد منها. وإنها مرحلة انتقالية تتطلب التضحيات..
وهنا لا نستطيع إلا أن نوافق, فأي مرحلة انتقالية تحتاج إلى ضريبة, ومع أن الشعوب عادة هي التي تدفع ضرائب مثل هذه المراحل, وليس النخب.. فإن من حقنا أن نعلق على كلمة انتقالية, ونسأل: انتقالية إلى أين؟ ما المؤشرات أو الدلائل التي تشير إلى المستقبل الأفضل الموعود.. إننا لا نرى في العراق سوى ملامح التفكيك والدخول في صراعات تعيد إلى الأذهان صراعات الدولة العباسية, فإذا كانت هذه المرحلة انتقالية فإنها ستنتقل بنا إلى العصور الوسطى, وليس إلى مستقبل مشرق. لقد سارت مصر في هذه الطريق منذ السبعينيات (على الصعيد الاقتصادي على الأقل), فما الذي نراه اليوم: إننا نشهد تبعية سياسية لا حدود لها.. وحتى على الصعيد الاقتصادي فإن مصر تعيش اليوم على حساب بيع المواقف السياسية... ويسأل رؤساؤها في مذبحة مثل مذبحة جنين حين انتفض الشارع المصري احتجاجاً على الذل والهوان: من سيدفع فاتورة الحرب إذا ما أعلنت مصر الحرب على إسرائيل؟... إذن فالمسألة هي مسألة فواتير.. ويبدو حينئذ تصرف العولميين انطلاقاً من هذا المنطق نابعاً من حكمة متناهية... فقد فوتوا فرصة الانجرار إلى الحرب.. أما دافع الفواتير الحقيقي فيبقى الشعب الفلسطيني. ونرى مؤخراً بشائر النزاعات الطائفية بين الأقباط والمسلمين...
إن الشعب الروسي لا يزال يدفع الضريبة منذ عشرين عاماً, ولم تتحدد بعد ملامح المستقبل الموعود... إذا كانوا قد دمروا في السنوات العشر التي تلت المرحلة السوفييتية 12000 مؤسسة فإنهم في المرحلة الانتقالية إلى الاشتراكية بنوا 9000 مصنع... وإذا كانوا في المرحلة الأخيرة قد حققوا بعض الإنجازات في مرحلة الرئيس بوتين فلأنهم ارتدوا في بعض المجالات عن السير في ركاب الأطروحات الليبرالية الجديدة التي تميز مرحلة العولمة, فبدأوا مثلاً يدعمون القطاع العسكري, ويعززون فكرة المواطن الروسي عوضاً عن مفهوم "مواطن العالم"...
وعلى الصعيد العولمي فإننا نشهد انقسام العالم إلى فئة المختارين "المليار الذهبي" وفئة المنبوذين المتخلفين وهم بقية سكان العالم.. نشهد انقسامه إلى أقلية تتحكم في موارده ومصائره وأغلبية مرمية خارج التاريخ ما عليها إلا أن تلعب دور الخادم للفئة الأولى.
هل ثمة بدائل؟
نظرياً: إن أكثر ما ينافي الطبيعة الإنسانية هو أن تنعدم الخيارات أمام البشر, الحياة نفسها قائمة على التعدد والتنوع.. كما أن التاريخ يشهد على إمبراطوريات قامت ودامت مئات السنين, وظنت أن قوتها ستكفل لها البقاء إلى الأبد, لكنها انهارت وتداعت مثل بيوت من ورق...وهذا بخلاف ما يروج له أصحاب مقولة نهاية التاريخ....
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذا السياق: هو ما تقويمنا للحضارة الغربية.. هل نكرهها أم نشعر بالحسد تجاهها أم نحن مسحورون بها... لا أظن أن أي عاقل يمكن أن يقلل من شأن ما أنجزه الغرب, لكن ما يثير الكراهية في نفوسنا هو معاييره المزدوجة, وعلاقاته متعددة المعايير بالوقائع المتشابهة... إن أبرز ما يميز مرحلة العولمة في الغرب هي خيانتها لمثل التنوير التي كان لها الفضل في قيام حضارة هذا الغرب... وأول ما تخلى عنه الغرب هو مبدأ العمومية "الأونيفرساليزم". كان رجالات التنوير العظام لا يطيقون صبراً حتى يشركوا شعوبهم وشعوب العالم في منجزات الحضارة.. أما الآن فاتفاقات شنغن, وقرارات الحظر والمنع التي يفرضها الغرب على العالم الثالث والثاني سابقاً فتشهد على تلك الخيانة... وما الأحداث الأخيرة التي تشهدها فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية إلا أكبر دليل على سياسة المعايير المزدوجة التي يتبعها الغرب.
لا يمكن لعاقل أن يقلل من شأن حضارة الغرب, ولا يمكن لعاقل أن يدعي أن معايير حياة القرون الوسطى أفضل من معايير الحياة المعاصرة.. لكن ماذا يفعل شخص يعيّرونه بقدم ثيابه ويحرّمون عليه الحصول على ثياب جديدة... بعضهم قد يتسرع ويتخلى عن ثيابه كما يقنعنا أنصار العولمة بأن نفعل فنظل عراة في هذا العالم... وبعضهم يتمسك بثيابه القديمة...
نعم إننا في حاجة ماسة إلى حضارة الغرب, لكن إلى ماذا يحتاج الغرب... وهل لدينا ما نقدمه له؟.. إن نقد الحضارة الغربية الحالية يظهر معضلات حقيقية تعترض الحضارة الغربية بمجملها... وأولها هي المعضلات البيئية... التلوث- الانفجار السكاني - نقص الموارد... الخ... كما يدل نقد الحضارة هذا على أن الحضارة الغربية تتصف بالدقة المتناهية في المستويات القريبة لكنها على المدى الطويل تنذر بكوارث حقيقية... والواضح أن العولميين يحاولون اليوم حل هذه المشاكل العولمية على حساب الآخرين وبالتعارض مع مصالحهم, وحتى بالتعارض مع حقهم في الحياة...
لقد سميت المشكلات العولمية عولمية لأنها تمس العالم بأكمله, وهي لن تحل إلا باشتراك العالم كله في حلها.. وهذه الفكرة تقودنا إلى بحث مسألة بغاية الأهمية, وهي مسألة التكامل بين الغرب والشرق... لقد عالج بانارين هذه المسألة بمزيد من التفصيل, وتلخصت الفكرة الهامة التي طرحها في أن الأفكار الخلاقة دائماً ما تأتي من الخارج.. من المجالات التي لم توضع بعد اليد عليها...وبالتالي فقد يجد الغرب الحلول الإبداعية في الثقافة الشرقية... التي تتميز بانطلاقها من الواحد الكلي الشامل باتجاه التفاصيل والجزئيات, على العكس من الثقافة الغربية التي تنطلق من الجزئي والتفصيلي والخصوصي...
ماذا بشأننا؟
وها نحن في سوريا.. هل نقاوم تأثيرات العولمة من داخلها.. أي أن نقبل بما هو مطروح علينا فنستفيد من الفوائد وندفع الأثمان المترتبة علينا؟ أم نرفض الدخول ونسلك طريقاً خاصة تحمينا من سلبيات العولمة لكنها في الوقت نفسه تعزلنا في جزيرة إلى أن تعبر الموجة وتنقلب حال العالم؟ ومؤشرات هذا التبدل العالمي باتت تتبلور عبر تيارات عالمية واضحة المعالم..
الخيار الأول ينبغي أن يعتمد على ركن أساسي هو أننا مادمنا سنتخلى عن الكثير من الأشكال السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية القائمة حالياً والتي اعتدنا عليها, والتي تكونت تاريخياً, فإن الرهان ينبغي أن يكون على الشعب باعتباره ذاتاً كبرى عمرها مديد وأطول من أي أشكال سياسية أو اجتماعية.... وسيكون الرهان على أن هذه الذات لن تفقد تلك الجينات الخاصة بنا, التي ستجعلنا لا ننقرض, باعتبارنا أمة لها حضورها الممتد عبر آلاف السنين, أو لا نذوب في التيار العولمي الجارف, أو لا ننجرف فنصير خدماً لسادة العالم الجدد. هذا الخيار سيدفعنا إلى البحث عن بدايات جديدة... وعلى الرغم من أن تجربة عدد من الدول الأخرى التي سارت في هذه الطريق لم تتكلل بالنجاح, ففقدت ما أنجزته تاريخياً, ولم تستطع في الوقت نفسه أن تنتج ذاتها من جديد على المسرح العالمي, فإن التاريخ والحياة ذاتها يقبلان البدايات الجديدة والولادات الجديدة ويشهدان عليها كما يقبلان الاندثار والانقراض ويشهدان عليه...
أما الخيار الثاني فيفترض استنهاضاً للموروث, واستنفاراً للطاقات الوطنية, واعتماداً مطلقاً على النفس- والرهان أيضاً هذه المرة على الشعب. لكن هذا يفترض الإجابة أولاً عن سؤالين على قدر كبير من الأهمية: الأول: ما الشكل الذي سنبني عليه ذاتنا؟... والثاني: هل نثق أصلاً بهذا الشعب؟ والمقصد ليس ثقة تلغي الشك بالخيانة, بل هل هو قادر على تحمل عبء هذا الخيار؟
لن أخوض في هذه العجالة في مجاهل الإجابة عن هذين السؤالين, فهما يحتاجان إلى أبحاث لا يتسع لها الوقت حالياً.. وأقول مباشرة إنني على ثقة تامة بأن شعبنا يمتلك من الأصالة ومن المقدرات الكامنة التي تؤهله عن جدارة لخوض أي نوع من أنواع التحديات على خلاف ما يروج له أولئك المازوخيون الذين لا يرون العيوب إلا في ذاتنا, ولا يرون الأخطاء إلا فينا...والذين يؤكدون تأكيداً مطلقاً على فسادنا الجيني...
يقولون مثلاً: إننا نحن المسؤولون عن انتقال السياسة الفرنسية من سياسة حليفة لنا إلى سياسة معادية لنا...
إن صورة فرنسا في ذاكرتنا مرتبطة بالثورة الفرنسية وبالأدب الرفيع وبمفهوم الحرية والعدالة والمساواة وبمفهوم الرقي- إننا دائماً نعتبر فرنسا وغيرها من الدول المتقدمة مثالاً نسعى إلى التشبه به.. وبالتالي وانطلاقا من مبدأ المساواة وحده الذي نادت به فرنسا يمكننا أن نفترض أنها ستقِّدر حريتنا في اتخاذ قراراتنا بما يتناسب مع مصالحنا, وهذا يدعونا إلى أن نفترض أن دولة عظمى كفرنسا لا يمكن أن تبدل سياستها 180 درجة لمجرد عدم فوزها كما يشاع بمشروع نفطي في سوريا... لكن مازوخيينا يرفضون المنطق الحداثوي هذا ويصرون على إتباع معايير ما بعد الحداثة, ويقولون إن المصالح هي التي تحكم العلاقات, وأن المواقف السياسية ينبغي أن تشترى بالمواقف الاقتصادية... ولنوافق على الفور على هذا المبدأ مع الاحتفاظ بحقنا في أن نسأل: ماذا بعد شراء موقف فرنسا السياسي بصفقة غاز.. بماذا سنشتري موقف ألمانيا وبريطانيا لاحقاً وماذا سيبقى لدينا أصلاً كي نشتري به؟ لن نلح على الإجابة عن هذا السؤال وسنوافق فوراً على أن ما يحكم الدنيا اليوم هو المصالح.. وليس مبادئ التنوير السامية التي قامت عليها الحضارة الغربية.. لقد سعى العراق في الفترة التي سبقت العدوان عليه, و بكافة الوسائل إلى شراء المواقف السياسية من فرنسا وروسيا وغيرهما.. فهل حاربتا إلى جانبه؟.. انطلاقاً من هذه الحقيقة ومن منطق المصلحة السائد نستنتج أن الأجدى منطقياً هو استرضاء الولايات المتحدة الدولة المعتدية, وليس دولاً ندرك حتماً أنها ستتراجع في اللحظة الأخيرة وتتخلى عنا. إن مازوخيينا لا يرحموننا وينسون دوماً أن في الذاكرة أيضاً صورة فرنسا المستعمِرة...
لا يستطيع أي عاقل أن ينكر أننا نعاني من عيوب نحن المسؤولون عنها, وليس الآخرون, ولا يستطيع أي عاقل أن ينكر أننا تخلفنا كثيراً عن ركب الحضارة العالمية, وأن حل مشاكلنا يسير ببطء شديد أو يراوح في مكانه, ولا يستطيع أحد أن ينكر أن أغلب مفاهيمنا بحاجة إلى إعادة بناء.. لكن أن نعتبر التخلف والتأخر الذي نحن فيه نابعاً من خصائصنا الجينية شيء, وأن نعتبر أنفسنا قابلين للتطور بفعل التنوير والتثقيف وامتلاك ناصية العلوم شيء آخر.. ومن هنا ينبغي التمييز حقاً بين إشارة إلى الأخطاء تهدف إلى الإشارة إلى الأخطاء, وبين إشارة إلى الأخطاء تهدف إلى التشهير وإلى ترسيخ الإحساس بالدونية, وبأننا مهما فعلنا فلن ينتج معنا شيء.
لنأخذ قضية الإعلام في سوريا على سبيل المثال.. إن الغالبية الساحقة لدينا تجمع على أن الإعلام لدينا متخلف... بعضهم لا شك لديه مبرراته الموضوعية, والبعض الآخر يقول هذا بفعل مرض المازوخية السائد الذي يجعلنا نشعر باللذة العظمى ونحن ننتقد أنفسنا ونصفها بأقذع الصفات... لا شك أنني أيضاً ممن يأخذون مآخذ كثيرة على إعلامنا, وأطالب أيضاً بتوسيع هامش الديمقراطية في الإعلام, وأن يكون هذا الإعلام معبراً حقيقياً عن نبض الشارع, وأن يلعب رجال الإعلام دورهم في صياغة الفكر القومي والإنساني السامي.. لكنني لا أرى في حملات التشهير التي يتعرض لها والتي تجري في أثنائها مقارنته على سبيل المثال بالإعلام اللبناني إلا محاولة لدفعه كي يكون إعلاماً مأجوراً يهتم بالشكليات والمظهر على حساب الحقيقة...
يقول ألكسندر بانارين في كتابه الإغواء بالعولمة:
(تقوم وسائل الإعلام انطلاقاً من موقع العقل السليم والتوقعات السليمة بوظيفة إطلاع الجمهور بشكل فعال على الأحداث الجارية في العالم. أما في الواقع فإن خصوصية وسائل الإعلام هذه مقارنة بأنواع المعلومة السابقة تكمن في أنتاج المعرفة غير المدحوضة بالجملة.
أولاً, إن لها الحق في إكساب هذه الظاهرة أو تلك صفة الحدث: يصير ما تتحدث عنه بإلحاح وسائل الإعلام حدثاً هاماً بغض النظر عن الأبعاد الحقيقية لما حصل؛ أما ما تصمت عنه لسبب من الأسباب فلا يصير حدثاً قط – ويبدو الأمر وكأن ما حدث لم يحدث فنحن لا نعرف عنه شيئاً.
ثانياً, تمتلك وسائل الإعلام إمكان إضفاء العلامات التقويمية "زائد" أو "ناقص" على الأحداث والسلوكات– ومرة أخرى بغض النظر عن المعنى الحقيقي لما حدث والنتائج الحقيقية المترتبة عليه. يعتبر الصحافيون والمعلقون العاملون في وسائل الإعلام المفسرين لمغزى ما حدث والمفككين لشيفرته مسترشدين باعتبارات مختلفة – أوامر السلطة, إرادة الزبائن الأغنياء أو مالكي وسائل الإعلام أو صانعي الدعاية فيها, المصالح الداخلية في الشركة. ومهما كان الأمر فإن الخاسر هو القارئ والمشاهد العادي, فهو, بخلاف المرجعيات المذكورة أعلاه, محروم من إمكان صياغة طلبه للمفسِّرين من وسائل الإعلام. لذلك فإن مخيلتهم التفسيرية لا تحصل على النبض الملائم وتتجه في وجهة مختلفة تماماً.
وعلى هذا النحو أو ذاك فإننا لا نتعامل في حال وسائل الإعلام مع صوت الواقع نفسه بل مع تحويل هذه الأشكال أو تلك إلى لوبيات – مما يتعارض مع مبدأ التمثيلية.)
ومن هنا يخيل أن المنتقدين في غالبيتهم لا يهمهم إن كان هذا الإعلام ينقل الواقع أو يعبر عنه بل ثمة قسم منهم ينظر إليه على أنه وسيلة للربح فقط, وآخرون لا يرجون سوى أن يزوق لهم عالماً افتراضياً لا يهم إن كان يمت إلى واقعهم بصلة, أو لا يمت.
إن للتشهير بالذات عواقب وخيمة خفية على المسرحين الداخلي والخارجي... إنه داخلياً يؤدي إلى الإحباط وانعدام الثقة بالذات في الوقت الذي نحن بأمس الحاجة فيه إلى استنهاض الهمم.. وهو على المسرح الخارجي يؤدي إلى بخس وطننا قيمته...فمن سيتحالف مع وطن أبناؤه كارهون له...
ليس من المنطق طبعاً تزويق الواقع, ولا كم الأفواه المنتقدة, لكن يبدو غريباً اختفاء تلك الأصوات المؤمنة عن حق بشعبها, أو إخفاؤها وفاقاً لوظائف الإعلام الشائعة, أو إظهارها بمظهر المغفلة البائسة.. إن أبرز ما أنجزه رجال النهضة في أواخر الحكم العثماني هو أنهم استنبطوا من التاريخ العربي نصوصاً تثبت للعرب المذلولين والغارقين في تلك الفترة في الجهل والتخلف أنهم أمة عظيمة, وأنهم شعب لا يقل عن غيره من الشعوب.. فكم نحن في حاجة الآن إلى رموز تستنهضنا, وتعيد الثقة إلى أنفسنا. لا أن تشتمنا وتظهر العيوب فينا فقط...



#عياد_عيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما الذي بقي من ماركس


المزيد.....




- إزالة واتساب وثريدز من متجر التطبيقات في الصين.. وأبل توضح ل ...
- -التصعيد الإسرائيلي الإيراني يُظهر أن البلدين لا يقرآن بعضهم ...
- أسطول الحرية يستعد لاختراق الحصار الإسرائيلي على غزة
- ما مصير الحج السنوي لكنيس الغريبة في تونس في ظل حرب غزة؟
- -حزب الله- يكشف تفاصيل جديدة حول العملية المزدوجة في عرب الع ...
- زاخاروفا: عسكرة الاتحاد الأوروبي ستضعف موقعه في عالم متعدد ا ...
- تفكيك شبكة إجرامية ومصادرة كميات من المخدرات غرب الجزائر
- ماكرون يؤكد سعيه -لتجنب التصعيد بين لبنان واسرائيل-
- زيلينسكي يلوم أعضاء حلف -الناتو- ويوجز تذمره بخمس نقاط
- -بلومبيرغ-: برلين تقدم شكوى بعد تسريب تقرير الخلاف بين رئيس ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عياد عيد - نحن وخيارات العولمة