أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الله النملي - الحرارة تُعيد الحياة لحرفة على حافة الانقراض بآسفي















المزيد.....

الحرارة تُعيد الحياة لحرفة على حافة الانقراض بآسفي


عبد الله النملي

الحوار المتمدن-العدد: 5268 - 2016 / 8 / 28 - 23:28
المحور: مقابلات و حوارات
    


حاجة الإنسان للماء كانت دافعا نحو اتجاه العديد من الناس إلى مزاولة حِرف بعينها، كان من بينها السقاء أو "الكراب" باللفظ المغربي الدارج، غير أن المصادر التاريخية، تكشف صعوبة كتابة تاريخ حِرفي اسمه " الكراب " هَمّشه المؤرخون في اختياراتهم، واهتم به الفرنسيون الذين جمعوا كل ما من شأنه تعريف الغرب بالمغرب. و"الكراب" تختلف أسماؤه، غير أن صفته واحدة، فهو الشخص الذي بقي مُتشبثا بحرفة أصبحت في خبر كان، يَسْقي العَطشى ويُبرد الحلوق الظّمأى، لا يفرض تسعيرة معينة، بل يقبل بما يجود به الناس عليه، وكأن عمله الصيفي تتمة للوحة صيفية لن تكتمل إلا بوجوده.
ومنذ عصور خلت، كانت مهنة "الكراب" من ضرورات الحياة المغربية، فقد كان صاحب هيبة في محيطه، فالكل يحترمه ويجل خدماته المائية، قبل أن تنافسه المياه المعدنية المُعَلّبة، ليستغني الزبون عن خدمة الكؤوس النحاسية، ويستبدلها بالكؤوس البلاستيكية، ويعوض خدمات "الكراب" بخدمة سريعة لآلة أو بائع متجول، مُستغنيا عن ناقوس إعلان "الكراب"، بلافتات الدكاكين المنتشرة على مد البصر. وبذلك فقد "الكراب" دورا أساسيا التصق به منذ القديم، وخاصة بعد ربط المنازل بشبكة توزيع الماء، وبات عمله مرادفا للفقر والتهميش، ومقصورا نسبيا على سقي الناس في الفضاءات العمومية، كما أمسى ماؤه غير مرغوب فيه من طرف الذين يتحرون جودة المياه التي يشربونها. وهو ما جعله مجرد كائن من التراث اللامادي بالمغرب، وحضوره اليوم، يقتصر فقط على الملصقات والإعلانات السياحية.
وعلى الرغم من أن الوسائل الحديثة أثرت على "الكراب"، وجعلت دوره في طريق الانقراض، لا يزال "الكراب" بمدينة آسفي، يتمسك بعاداته، رغم أنه يدرك أن غالبية الناس لم تعد في حاجة إلى خدماته، إلا أنه يفعل ذلك من أجل الحفاظ على هذا الموروث الشعبي من الاندثار، والذي لازالت له حظوة عند بعض الناس، بما يُحرك فيهم من نوستالجيا. وقديما وقبل أن توجد إدارة المكتب الوطني للماء والوكالة المستقلة لتوزيع الماء، وتعم الحنفيات البيوت بآسفي، كان الناس يجدون صعوبة كبيرة في جلب المياه. ونتيجة لذلك، كان طبيعيا أن تختص بالمدينة طائفة من الناس تحترف عملية جلب المياه، سميت بالسقائين أو "الكرابة" على حد تعبير ساكنة آسفي. كانوا يحملون المياه في أكياس من الجلد، على شكل خروف أو ماعز، تُخاط وتُعد وعاء للماء، وكانت المياه تُباع على أساس القِربة، ثم تطور الأمر إلى ظهور نوع آخر من "الكرابة" يملؤون بالماء براميل كبيرة الحجم متصلة فيما بينها، تسمى " البيتية"، يضعونها في عربات ذات عجلات يجرها حمار، يطوفون بها الحواري والأزقة، ليزودوا البيوت باحتياجاتهم من الماء.
وبعد سنوات من اختفاء "الكراب" من حواري آسفي، عاد "الكراب" مجددا في موجة الحرارة الأخيرة، بعد أن اعتقد الجميع أن حرفة "الكراب" قد ولّت إلى غير رجعة، لما أصاب المدينة من تطور غَيّر معالمها، وقضى باستبدال بعض الحِرف بأخرى، لكن حِرفة "الكراب" انبعثت من جديد، واحترفتها مؤخرا حتى النساء بآسفي، لارتباطها بعائلات معينة توارثتها أبا عن جد، نظرا لمحافظتها على وظيفتها الاجتماعية بالبوادي والأسواق والمواسم، و عدم إجادة أصحابها أي حرفة أخرى، مما أدى إلى تمسكهم بها رغم قلة ما تُدِرّه عليهم من أموال. وعلى طول شارع الرباط، وباب الشعبة، وشارع ادريس بناصر، وكورنيش أموني، وساحة مولاي يوسف، وشاطئ آسفي، انتشر مجموعة من باعة الماء الذين ينادون في الناس " أبرد أعطشان، اينوب اينوب"، في مواقع اختيرت بعناية. إنهم "الكرابة"، شخصيات محبوبة ومعروفة بلغتهم المميزة، وهندامهم المزركش، وسراويلهم الحمراء، ونواقيسهم الرنانة، والشكارة والترازة التي تقيهم حرارة الشمس، تجعلهم أشبه بالمكسيكيين، وقِرَبِهم المصنوعة من جلد الماعز، والمزينة أحيانا بالقطع النقدية القديمة، وقد علقت عليها زليفات أو طاسات نحاسية.
اقتربت من أحد "الكرابة" للحديث معه، بعد أن طلبت منه شُربة ماء، رجل ينحدر من إحدى الدواوير القريبة من مدينة آسفي، بلغ من الكِبَر عُتِيا، وتبدو عليه كل علامات الفقر والعَوز البَيّن، لا يعرف شيئا اسمه التقاعد والتأمين الصحي، حدثّني والابتسامة لا تُفارق مُحياه، مؤكدا أن " مهنة "الكراب" صارت جزءا من الماضي، وتعيش أيامها الأخيرة، بعدما داستها عجلات التطور، وانتهى عمرها الافتراضي. مضيفا أن " عهد القِرْبَة قد ولّى واستغني عن خدماتها مع ظهور المبردات العصرية للحفظ والحفاظ على درجات البرودة ". وتابع قائلا أن " زبناء "الكراب" في الماضي كانوا بآسفي من النساء الحوامل، لكنهن اليوم يتخوفن من الأمراض المنقولة، ويتوحمن على الحلويات والشوكولاته "، وذكر أن " بعض النساء المسنات، هن من لازلن يقبلن على ماء "الكراب"، وكذلك الأطفال الصغار الذين ما أن يسمعن جرس "الكراب" حتى يتسابقن مطالبين بشربة ماء تروي عطشهن وتبرد حلوقهن ". وعن سر النكهة الخاصة لشرب الماء من القِربة، أخبرنا "الكراب"، أن للقِرْبَة مكانة خاصة تَحوزها في النفوس في فصل الصيف، نتيجة الطعم المتميز للقطران وباقي المواد الأولية، التي تنساب ماء زلالا من القِربة المدبوغة بمادة القطران، والمصنوعة من جلد الماعز الذي تكسوه شعيرات فعالة في الحفاظ على تبريد الماء دون الحاجة إلى الطاقة ".
وفيما يشبه العتاب لعوادي الزمن، حدثنا "الكراب" والحسرة تعلو مُحياه، كيف أصبحت الحِرفة التقليدية الموغلة في القدم، تنحو نحو الزوال، لقلة الإقبال عليها، وتراجع نقط التزود بالماء، في إشارة للقرار الجماعي السابق القاضي بتقليص عدد كبير من السقايات العمومية المفتوحة في وجه العموم، حيث تحول أغلب "الكرابة" بآسفي إلى متسولين يمدون أيديهم طلبا للصدقة، كما أن بعضهم ما عادوا يحملون ماء في قِرَبِهم، ويكتفون بلباسهم التقليدي كنوع من الديكور اليومي، يتهافت عليهم أصحاب الصور التذكارية، ويؤتثون فضاءات الفنادق وأعراس كِبار القوم، بعد أن أصبح الماء يصل البيوت نظيفا، ويحمله الجميع مُعَبّأ في قوارير باردة ونظيفة، ودون مخاطر صحية. وفي الأخير، أبدى "الكراب" حسرة كبيرة، لما أصبح يتعرض له من سخرية، حينما يطلق بعض الناس لقب "الكراب" على بائعي الخمور. وفي ذلك ظلم كبير لهذه المهنة الشريفة، فشتان بين يروي العطشى بالماء البارد بالمقابل أو بدونه، و من يبيع الخمور المحرمة للمسلمين.



#عبد_الله_النملي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -المُشَرمَلون-.. السُّياب الجُدد بالمغرب
- الآيفون هزم الانقلاب في تركيا
- آسفي..المدينة الضّاربة في أعماق التاريخ (2)
- آسفي..المدينة الضّاربة في أعماق التاريخ (1)
- فرنسة التعليم تكريس للتبعية العمياء
- اعتقال فاضح الفساد لا يَتَوافَقُ مع شعارات المرحلة
- شركات أجنبية تُهدد السلم الاجتماعي
- قمع الأساتذة المتدربين.. عادت حليمة لعادتها القديمة
- إلغاء الريع السياسي.. من هنا يبدأ الإصلاح
- الأرض لمن يفترشها والرصيف لمن يحتله
- مذكرة بلمختار خطر يتهدد منظومتنا التربوية
- محاربة الفساد مسؤولية لا تقبل التأجيل
- التصويت السري والعلني بين دعاته ومعارضيه
- الوعود الانتخابية.. أسقف عالية على أعمدة من دخان
- الشائعات الإلكترونية.. من الكيبورد إلى العالم
- الموظفون بين مطرقة الاقتطاع و التقاعد وسندان إعادة الانتشار
- أضرحة أم مستشفيات؟
- تسريب الامتحانات.. خطر يتهدد المنظومة التعليمية
- يحدث هذا فقط في مصر..!
- هل أتاك حديث مقاطعة أشهر يوم عالمي للعمال !


المزيد.....




- مقتل فلسطينية برصاص الجيش الإسرائيلي بعد مزاعم محاولتها طعن ...
- الدفاع المدني في غزة: العثور على أكثر من 300 جثة في مقبرة جم ...
- الأردن: إرادة ملكية بإجراء الانتخابات النيابية هذا العام
- التقرير السنوي لـ-لعفو الدولية-: نشهد شبه انهيار للقانون الد ...
- حملة -شريط جاورجيوس- تشمل 35 دولة هذا العام
- الصين ترسل دفعة من الرواد إلى محطتها المدارية
- ما الذي يفعله السفر جوا برئتيك؟
- بالفيديو .. اندلاع 4 توهجات شمسية في حدث نادر للغاية
- هيئات بحرية: حادث بحري جنوب غربي عدن
- وزارة الصحة في غزة تكشف عن حصيلة جديدة للقتلى والجرحى نتيجة ...


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الله النملي - الحرارة تُعيد الحياة لحرفة على حافة الانقراض بآسفي