أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الحادي والعشرون















المزيد.....

بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الحادي والعشرون


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 5264 - 2016 / 8 / 24 - 14:05
المحور: الادب والفن
    


أرسل عبد السلام في طلب فريدة كي تأتي لمعالجته، لكنها رفضت هي كذلك. كان يحس باقتراب أجله. كان على وشك الموت، ونحن الذين لم نكن بعد موتى، كنا نقاتل في الخارج. أعاد إلى إيلي حريته، وسأله العمل على أن يكون استسلام المخيم بأقل عدد من الضحايا.
- لم تعد لدينا الوسائل للصمود، برر نفسه، ولن نصل أبدًا إلى حل.
- لو كنت قد سمعتني، عاتبه إيلي، لما كنا فيما نحن عليه.
- كنت أراهن على صمودنا، كنت أقول لنفسي إذا ما صمدنا يومًا أكثر، تغير الوضع.
- من سيء إلى أسوأ، من سيء إلى أسوأ، قال بصوته الثاقب ضِعفين.
- من سيء إلى أسوأ، أعاد عبد السلام آليًا.
- أبو أرز وحده المستفيد، أضاف الآخر بنفس الصوت المزعج.
- لهذا ليس من السهل ضبطه، لا الآن ولا في المستقبل.
- سأعمل على أن يكلفنا استسلام المخيم أقل ثمن ممكن.
- راعي شهامة رجالي، دعهم يقاتلون حتى يقبل أبو أرز استسلامهم.
- سأدعهم يقاتلون حتى يقبلوا، هم أنفسهم، استسلامهم.
تركه عبد السلام يذهب، وتخندق، بدوره، في صمت طويل. نحن الذين لم نكن بعد موتى، أيقظناه، وقلنا له إننا وجدنا فاتنة في الدغل قرب مواقعنا. كانت على وشك المخاض، وكانت أمها قد نقلتها معنا، في قلب النار المدمرة، إلى المستشفى. كان الطبيب السويدي قد فحصها أمام الجميع، بينما كانت تصرخ من الوجع، وكنا قد رأينا اليد التي كانت تطرق اللحم فيها، وهي عازمة بشراسة على ألا تأتي إلى العالم. كانت نادين قد حاولت بلا جدوى تغطيتها، وكان الطبيب قد عبر بلا أمل عن ارتيابه: "فاتنة في وضع حرج، قالَ، البي بي في وضع سيء." كنا قد لاحظنا هذا الوضع غير العادي عندما تفجر الدم من بين فخذيها، ملوثنا كلنا، موسخًا أوجهنا، أيادينا، صدورنا. كان يوسخ ماضينا، حاضرنا، مستقبلنا. كان يَكْمِدُ أمجادنا، أحلامنا، آمالنا. كان الدم قد دمغ كل شيء، كل شيء، كل شيء على الإطلاق، وكانت فاتنة قد غاصت في الدم، ونحن نفكر أنها ستلفظ نفسها الأخير.
- لا بد من إجراء عملية قيصرية، صاح الطبيب السويدي.
طلب من زوجته أغنيتا أن تأتي بشكل عاجل، غير أن أم فريد وقفت في طريقها، وهي في نوبة عُتْه وصلت أقصاها، فلن يُوَلِّدَها أحدٌ غيرها. حملت ابنتها عند الكتائب، ودفعت يدها فيها، فرفض الطفل الخروج. عند ذلك، ربطت ساقي ابنتها بدبابتين، وفسختها. سقط شيء، لا هو بالحيوان، ولا هو بالإنسان، وأول حركة قام بها كانت عَضَّهُ لجدته، فحطمت له الأسنان، ثم الجمجمة، ثم الأضلاع. رمته للكلاب التي لم ننجح في إمساكها، وَعَيَّنَها أبو أرز فيما بعد برتبة جنرال.
كان الوضع في بيروت يسوء يومًا عن يوم، مثلما هو عليه في تل الزعتر، وكان المنفيون يجيئون أم فريد بصفتها الميليشية العالية الرتبة من كل المناطق، خاصة من منطقة الفنادق التي تم تدمير معظمها. كانت تفرض عليهم عقوبات مختلفة، وكان ضوء الليل من بينهم. عرفها على عكسها، وقالت لم تسمع به طوال حياتها. قدم لها تِبغًا رفضته، فاقترح عليها اقتسام صفقة حشيش، إلا أن لا شيء كان ينفع معها. رغم توسلاته، واستعداداته ليدافع عن مصالحها، طوال حياته، نطقت بحكم الفسخ ضده.
مضت أسابيع طويلة والمخيم يقاتل، وواصلت جيوش الجحيم إفناء الملاجئ. كان أبو أرز يرى في ذلك الشرط الأول لإقامة دولته المسيحية، غير أن الملاجئ كانت تقاوم. بصعوبة. لكنها كانت تقاوم. صارت كل قطرة ماء الآن تعادل عشرة موتى، كل حبة عدس مليون صرخة.
صار تل الزعتر جزيرة تتفجر في أرجائها البراكين، وفي جنوننا، نحن الذين لم نكن بعد موتى، قتلنا إيلي، وقررنا البقاء وقوفًا في خنادقنا: "لن تغرق جزيرتنا في قلب البحر العميق! صحنا. لن نقدمها على طبق من فضة للفوهرر الماروني وأصدقائه التماسيح! لن نتخلى عنها لمد الدم وجزره، طالما بقي حارسها هذا العملاق الصغير! سنبقى في تل الزعتر، وسيبقى تل الزعتر، وسيبقى تل الزعتر، تل النار والنور، تل النهار الكبير!"
لم يكن أحد إلى جانب عبد السلام، لا للتخفيف من أوجاعه، ولا لطرد وحش الموت الأصحر، الجاثم على صدره. كلما كان واحد منا يسقط صريعًا، كان يرى مصيره يقترب منه قليلاً. كان يتمنى أن نموت كلنا دفعة واحدة ليخلص من احتضاره البطيء، ولأجل هذا كانت المعجزة ما يلزم. بسبب عنادنا. والمعجزة كانت أن ترى التحام الليل بالنهار، بينا كنا نتفتح في الخنادق والمتاريس. والمعجزة كانت أن ترى الأطفال يقطعون حقول النار، لأجل قطرة ماء، غير مبالين بوقوع المعجزة. والمعجزة كانت أن تطلق على العدو طلقة، طلقة واحدة، لتحيا ألف كابوس دون أن ترفع إصبعك عن الزناد لحظة واحدة. حتى ولو ضيقوا علينا الخناق، سنستمر في إبقاء إصبعنا على الزناد، في الإطلاق، في الرقص عرايا. توافدت فلول الكتائب من كل ناحية، من فرن الشباك وسن الفيل، من حرش ثابت والقلعة وتل المير، ومن السبتية، ومن الدكوانة، لكننا، نحن الذين لم يقرعنا الموت بعد، كنا نصارع ضد النار والحديد، بعد أن عزمنا على فل الحديد.
كانت إرادتنا تُوجَز بوثوب حيوي من الجنون ضد القهر، الفتك، النهد، أكبر جريمة في تاريخ الإنسانية. لهذا كنا نعيش لحظة لا-استسلامنا بكل عنفها، وكنا نتخيل أننا نقاتل من أجل فلسطين، كنا نتخيل أن لبنان سيغدو كالثلج أبيض، وأن أجراس برناديت ستقرع من جديد، فالوهم أن نقاتل من أجله. كنا نقاتل بدافع الوهم، وبتحريض الخيبة، ولم تكن إرادتنا تقتات من الخوف من المصير الذي ينتظرنا، عندما نسلم أسلحتنا. كانت تقتات من خيبة الذين ماتوا تحت القنابل، من الخيبة من العالم. لهذا السبب كنا نريد القتال حتى المنتهى: كان قرارنا مدمرًا.
حتى المستشفى أحاله الكتائب إلى أنقاض، ولم يعودوا بعيدين جدًا. كانوا كلما يشددون الحصار أكثر، ترتفع حرارة عبد السلام أكثر، وكانوا كلما يبتعدون عن الحياة أكثر، يدنو الموت منه أكثر. أخيرًا استجاب الصليب الأحمر لنداء أغنيتا، فمنعه أبناء الأَحْبِة الميليشياويون من نجدتنا أقل نجدة. قتلوا الصليب الأحمر، والأخضر، والأزرق، ومسمروا واجهات دباباتهم بصلبان من كل الألوان وكل الأشكال. كان صليب عبد السلام الحقيقي ممسمرًا بجسده، مع ذلك الموت البطيء الزاحف فوقه، وكانت عصافير النار تحترق خافقة أجنحتها بقوة في سمائه. كان يحلم باقتلاع صليبه الحقيقي، ليزرعه في حقل من جهنم... حتى جهنم كانت تحترق!
سَمِعْنا آمرنا، نحن الذين لم نكن بعد موتى، يصرخ في وجه القتلة الأكثر فتكًا في تاريخ البربرية: "لن تأخذوا منا خنادقنا أبدًا!" ضحك الموت منا، وصفعه، لأنه لم يصنعنا على صورته. سَمِعَنا نصيح من جديد: "نتحداكم، أيها الجهنميون، فتعالوا!" اشتعل دمنا، غير أنه لم يتحول إلى رماد. كان الحريق قويًا جدًا، ولم يكن لون معركتنا، نحن الذين لم نكن بعد موتى، رماديًا، لون الموت. لهذا كنا نقاتل كالأطفال، كنا نموت عدة مرات. كانت رائحة الزعتر تَنْتشر، وكان الموت يُغْلق أنفه. كان لا يمكنه البقاء في الحياة، وهو يتنسم الرائحة الزكية للزعتر.

* * *

وصلت العمة مريم للاعتناء بعبد السلام، مع رجال الأعمال الإسرائيليين، وهي تتباهى بنجمة داوود على صدرها الرحب. كانت حالة قائدنا قد ازدادت سوءًا، وكانت الحمى والهزيمة قد صارتا من ورائنا. أوكلت العمة مريم به إلى هؤلاء الناس، المتحضرين مظهرًا، وغادرت، والبسمة على شفتيها. أخذ رجال الأعمال الإسرائيليون عبد السلام إلى تل أبيب لمعالجته... وهو في سيارتهم، نظر إلى بحر بيروت، بلونه الرمادي، وسمع المدافع تدوي في قلب المدينة. رأى أطفالاً يتسلون، بأسلحة حقيقية، وهم يلعبون لعبة الحرب. كانوا يتمترسون خلف براميل النفايات النووية، بينما نحن، الفدائيون والمقاتلون من كل المِلل، كنا قد سلمنا كلاشينكوفاتنا، ونحن نطلق "آه!" الندم والاستسلام. كنا قد كدسناها هرمًا، وكان ذلك أكثر ما أوهى عزيمته. وليتعزى قليلاً، قال عبد السلام لنفسه إن الحرب لم تزل دائرة في مكان ما، هناك، لما برزت من الرماد فجأة عشرات بل مئات الحوريات. كن يأتين ليذقن طعم الحرب وخَرَقَها للمرة الأخيرة قبل أن يُمِتن أنفسهن. زرعت كل منهن أنبوبة بندقية تحت ذقنها، وأطلقت، فامتلأ الساحل بجثثهن. كانت آخر صورة حملها عبد السلام قبل أن يترك بيروت بعيدًا من ورائه.

انتهى القسم الأول بيروت وسيبدأ القسم الثاني تل أبيب في الحلقة القادمة...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل العشرون
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل التاسع عشر
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الثامن عشر
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل السابع عشر
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل السادس عشر
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الخامس عشر
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الرابع عشر
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الثالث عشر
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الثاني عشر
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الحادي عشر
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل العاشر2
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل العاشر1
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل التاسع
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الثامن2
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الثامن1
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل السابع3
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل السابع2
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل السابع1
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل السادس
- بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الخامس2


المزيد.....




- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الحادي والعشرون