أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد خالص الشعلان - الحقيقة والوهم.. محنة العقل العلمي















المزيد.....



الحقيقة والوهم.. محنة العقل العلمي


أحمد خالص الشعلان

الحوار المتمدن-العدد: 5261 - 2016 / 8 / 21 - 15:01
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



الخرافة . . بوصفها مصطلحاً، لها معان عدة، و أحياناً بتفصيلات إضافية لهذه المعاني.
و الخرافة . . قد تعني الإعتقاد أن الكثير مما يقوم به البشر، أو مما يقوله الناس، أو أعداد معينة أو أرقام معينة، أو بعض ما يُدرك حسياً، بإمكانه أن يجلب للإنسان سعادةً أو شقاءً.
و قد تطلق مفردة . . الخرافة . . مثلما يقول د. جميل صليبا في "المعجم الفلسفي"، على أي إعتقادٍ باطلٍ أو ضعيف.
و قد ينعت بـ . . الخرافة . . أي مبدأ أو مذهب يبالغ في تمجيد مسلماته، بحيث تخرج عن نطاق المعقول دون إعتبار لأي نظر أو قياس . . و هنا لا بد أن نذكـِّر بأن أي شعور ديني ينأى بنفسه عن الغاية التي سعى اليها الدين، منذ أن فاض من نبعه الأول المجرد من أية غاية نفعية بوصفه خوفا من المجهول، بإنقلابه الى مجرد تكرار لعبادة يؤديها المرء بأفعال أو حركات أو شعائر أو طقوس يعتقد المرء، على الرغم من إقترافه لشرور كثيرة لا تُغتفر، بأن تؤدي به الى عالم تـُغفر له فيه تلك الشرور، هو خرافة. و يميل العديد من الفلاسفة الى الإعتقاد بأن العقيدة الدينية بوصفها تصور خاص للمطلق، إن لم تنبني على العقل تصير حديث خرافة. و بذا، يكون . . العقل الخرافي . . من الناحية الفلسفية، هو النقيض للعقل العلمي، مع أن العقل الخرافي ظلَّ يستفيد من فتوحات العقل العلمي على مرّ حقب التاريخ مجددا نفسه بأهداب العلم.
* * * * * * * * * * * * * * *
و أية حضارة كانت تريد أن تسلك الطريق الذي تظنه صواباً، كان لا بد لها أن تتحول الى حضارة نقدية، بأن تضع تاريخها بأدق تفصيلاته تحت مجهر النقد، لفضح كل ما يخالف العقل و الطبيعة في هذا التاريخ. و من هنا . . لم يكن الفيلسوف إيمانويل كانت بعيداً عن الصواب، و لا مجافياً له، بوصفه أب الحداثة في حضارة الغرب، حين كرَّس جُل جهده الفلسفي للتفريق بين الخرافة و الدين بوصفه إيمانا بالمطلق و سعياً لبلوغ ذاك المطلق. و أول ما شرع الفيلسوف كانت في تبيانه هو الحدود التي تتوقف عندها قدرات العقل البشري. و حصل ذلك في حقبة كان الجدال فيها ما يزال على أشده، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، بين طرفين هما:
- العقلانيون و هم أنصار المذهب العقلاني ممثلاً بالفيلسوف كانت و مهد له من قبل رينيه ديكارت و باروخ إسبينوزا و آخرين، وهو مذهب و إن كان في صف الفلسفة المثالية لا المادية، لكنه لا يقرّ بالحتميات الميتافيزيقية، و إنما يتبنى، في حل معضلات الإنسان العقلية، منهجاً يستند على الرجوع الى منطق العقل وإحكامه.
- و في الطرف الآخر نجد أنصار اللاهوت، الذين كانوا يدعون الى تقديس كل ما أتت به الكنيسة (و بالتالي يصح على الظاهرة الدينية عموماً) من تفسيرات، وتصوير تلك التفسيرات على أنها مسلمات نهائية، وخواتيم لا يجوز تجاوزها أو نقضها، أو نقدها، أو تفنيد حججها، أو تسفيهها، مهما بلغت تلك التفسيرات في موقفها من الانسان والكون من ضحالة، أو جهالة و تجهيل، أو سطحية، تتدنى أحيانا إلى حد السماجة، بحيث نرى أن بعض الحيوانات أكثر نبلاً من غالبية المتدينين.

وحين أظهر إيمانويل كانت محدودية العقل البشري وقصوره، صفق له رجال الدين آنذاك نشوة، ظانين أن ما أظهره كانت الفيلسوف في جداله من إستنتاجات يعد نصراً مظفراً للكنيسة، لأنهم حسبوا أن ذاك الجدال و نتائجه ما هو إلا شهادة على سقوط العقل من أحد أنصار التفكير العقلاني. و ذلك، حسبما توهمه اللاهوتيون، بأن شهد شاهدٌ من أهل النزعة العقلية (يقصدون كانت) على الحدود التي يتوقف عندها العقل، و لا يستطيع تجاوزها، و هي بالتالي شاهد على قصور ذاك العقل. ولكن الفيلسوف كانت، بعد فرصة الحبور الزائف المخدوع الذي تكرَّم به أرباب الكنيسة على أنفسهم، عاد من أجل أن يرتقي بسجاله المعرفي مرتبةً أعلى، ليوضح بأن العقل هو جزء من نشاط و وجود كلي هو المطلق. و كأننا به أراد أن يقول لهم، إذا كنتم تعلمون إذن أن العقل هو . . جزء من كل . . و هو أيضا محدود القدرات، فـ . . كيف تريدوننا يا ترى أن ندرك كلاً بجزء! . . و هذه المقولة كانت إحدى مقولاته الشهيرة و المعروفة بالمسألة الكبرى للفلسفة. وكأننا به أراد أيضا أن يقول لرجال الكنيسة آنذاك، كيف إذن تريدوننا أن ندرك . . كلاً . . كاملاً مكتملاً لا نقص فيه مثل فكرة . . الإله . . مثلما تصفونه و تعني عندكم المطلق . . تريدوننا أن ندرك المطلق الكلي الكمال بجزء ناقص ومحدود مثل . . العقل البشري . . الذي يتصف لا بالقصور والمحدودية فحسب، بل وبالتفاهة أحيانا؟ . .
قامت دنيا الكنيسة آنذاك ضد إيمانويل كانت، ولم تقعد، إلا بعد ان آمنت المجتمعات الأوروبية بأن موضوع الإيمان بإله ما هو أصلا علاقة شخصية بين كائن أرضي و كائن إفتراضي متعال من خلق الكائن الأرضي، و لا تحتاج إلى وساطات من أي نوع ، سواء أكانت الكنيسة أو أي مدع آخر من أي نوع كان . . نبياً أو قديساً! . . و مع ذلك، فقد أثارت نتائج الفيلسوف كانت المنطقية تلك حفيظة رجال الكنيسة ورموزها العليا فيما عدوه تحديا لسلطتهم و تهديداً لنفوذهم و مصالحهم، فأمر البابا آنذاك قساوسة ذاك الزمان بإطلاق إسم "كانت" على كلابهم نكاية بالفيلسوف، وإاحتقاراً للعقل الذي بيّن حدوده و إمكانياته هذا المفكر الفذ. و أمر البابا أيضا، إنتقاما من الفيلسوف، بحرمان إيمانويل كانت من جميع حقوقه الدينية والمدنية، ومقاطعته، وإنزال اللعنة عليه أينما حل، والتشهير به إينما وجد، وحيثما، و وقتما، يكون ذلك ممكناً. ولم يكن صدور مثل هذا الأمر من الكنيسة ضد الفيلسوف مستغربا حتى في ذلك الزمان من قبل قوى إجتماعية متنوعة طالعة. فدوغمائية خرافة رجال ألكنيسة (أو أية سلطة دينية معاصرة لها آنذاك في الأديان الأخرى) لا تتوقف إلا بعد ان تحيل الآخر المختلف عنها الى رماد، أو بالأحرى إلا بعد ان تحيل العقل نفسه الى خراب، ثم ترفع رايتها مزهوة بفعلتها على تلة ذاك الخراب. و لكننا، من ناحية ثانية، لا بد من أن نذكّر أن محاولة الفيلسوف كانت التوفيقية للخروج بالدين من فخ الخرافة، ما كانت لتتيسر للفيلسوف، لولا بذور ألإصلاح الديني التي نثرها، في القرن السادس عشر، داخل المؤسسة الدينية رجل دين ألماني إصلاحي كبير هو مارتن لوثر، و معاصره رجل الدين الآخر الفرنسي جون كالفن.
إذن، فبداية تحرير الشعور الديني المثالي مجردا من أية وساطة المؤمن بالمطلق من الخرافة لا بد أن تبدأ أولا من هناك من داخل المؤسسة الدينية!

لم يأبه إيمانويل كانت، من جانب آخر، بأية واحدة من تلك العقوبات والتحريمات، و إنما دفعه ذلك، من ناحية ثانية، إلى التمسك بمسعى فلسفي عماده إقامة . . دليل أخلاقي . . على وجود الإله، من نوع لا ميتافيزيقي، لا يعتمد على الحتمية الميتافيزيقية التي يتمسك بها رجال الدين، و لا يستقي دلائله من أكاذيب و إفتراءات اي نبي أو قديس. وأراد كانت لهذا الدليل أن ينبع دون قسر من ثنايا عقل الانسان وفطرته السليمة. و يقوم على القناعة التي تتطلب وجود مؤلف للكون، و العالم الذي نعيش فيه جزءاً منه. و أراد الفيلسوف لهذا الدليل أيضاً أن تقتضي وجوده ضرورة أخلاقية لا إملاءً ميتافيزيقية. و من هنا، فقد خصص كانت لهذا المسعى بحثه الطويل الموسوم . . الدليل الأخلاقي على وجود الإله . . وهو يعني بهذا، إن إعترافنا بوجود . . إله . . تمليه علينا ضرورة أخلاقية يدركها الإنسان ذو العقل السليم دون وساطة من أحد. وهذا يعني أيضا إن إقرارنا بوجود مثل هذا الإله لا يخضع لأيه حتمية ميتافيزيقية تفبركها أية جهة مثل الكنيسة (أو أي معبد أو جامع أو مؤسسة دينية مهما كان نوعها) و تحتمي بها متى ما أرادت هذه المؤسسة الدينية عند حاجتها لتسويق مصالحها الاقتصادية و الطبقية. فضلاً عن أن ضرورة أخلاقية من هذا النوع عادة ما تمليها الحاجات الأسمى للبشر و تطلعهم إلى التطهر من أبشع ما حملوه معهم و هم يخرجون من عالم الحيوان الذي كان يوماً ما جوهر وجود أسلافٍ بعيدين إخترعوا كائنات ميتافيزيقية لا يرونها بسبب جهلهم بنواميس الطبيعة.

كان مسعى الفيلسوف كانت، في إنشائه الفلسفي لما أسماه . . الدليل الأخلاقي . . على وجود الإله، ينصب بالأساس على تحرير الدين (و معناه هنا الإيمان بوجود قوة مطلقة في الكون و السعي الى بلوغها والاندماج بها) من الخرافة، والإرتقاء بموضوع الإيمان بوجود إله، من نوع ما، إلى مصاف يشغل فيها الإيمان أعلى مراتب الوعي الإنساني. ولقد أراد بذلك ضمناً ان يسفـِّه دور الوساطة التفعية المصطنعة (أشخاص أو شعائر) يدعيها البعض لنفسه بين الإنسان و الإله، الذي يسميه كانت بـ . . المؤلف الأخلاقي للعالم . . لأن تلك الوساطة هي من الخطورة على الوعي، برأيه، بحيث أنها قد تتحول عند العامة الى رموز مقدسة، تكون مصدراً لتكرار في ميل الإنسان الدائم لإستدامة إنتاج الخرافة و ما تتطلبه من تهويل و تضخيم في سيميائتها، بخاصة بما يضفيه عقل العامة على تلك الرموز من سجايا ليست موجودة في بنيتها، ويقوم ذلك العقل العامي أيضاً لا شعورياً بالمقابل بإسقاط كل ما موجود في بنية تلك الرموز، مما يعده منافياً لمنظومة السلوك التي يؤمن بها العامي، و التفسيرات المهيمنة على عقول العامة في زمن معين.

و الحقيقة، لا غيرها، كانت هي الشاغل الرئيس للفيلسوف كانت و غيره من الفلاسفة . . الحقيقة التي مفادها إن العقل يفرض أشكال الإحساس الخاصة به (في المكان و الزمان) على المعلومات الخاصة بالوعي، و ينظمها طبقا لمقولات الفكر التي يؤمن بها، ما يؤدي بالنتيجة إلى تسويق حقيقة أخرى لا يمكن إغفالها أو تجاهلها، و هي استحالة، أو صعوبة (إذا أردنا أن نكون متفائلين)، تحرير عقل الإنسان من الخرافة. و من هنا . . إرتبطت، على هذا النحو أو ذاك، بمراحل الوعي الإنساني المبكرة جداً، أو لنقل بأول دفقة من هذا الوعي، بحيث صارت تشكـِّلُ جانبا من الإحساس الذي يتكون منه العقل.

و من هنا . . صارت الخرافة جزءاً مكوناً في بنية الوعي الإنساني، يتوارثها الإنسان جيلاً بعد جيل، بسبب جهله بقوانين الطبيعة والكون عموماً. وما كان تقديس الإنسان في فجر تاريخه لهذه القوى الطبيعية، و لما نتج عنها من ظلال شبحية تراوده في منامه، إلا بسبب قوتها الغامرة وسطوتها، فكانت عند هذا الإنسان مبعثاً للخوف والقلق. و لم يكن في هذا ما يمثل خطورة على وعي الانسان ومصيره وقدره آنذاك، أي في مراحل وعيه المبكرة. ذلك، لأن الإنسان، وعلى الرغم من كل تصوراته الخرافية الساذجة، ظل يعيش بإنسجام شبه تام مع الطبيعة وموجوداتها، أي عندما كانت علاقته بالطبيعة مباشرة، بما تنتجه له مما يسميه هو خيرا أو شرا، و لم يكن قد دخل بعد حقبة إغترابه عن الطبيعة ليفكر فيها على أنها . . الآخر . . الذي يتعامل معه.
ولكن مخاطر الخرافة على عقل الانسان إبتدأت، من ناحية أخرى، في اللحظة التي شرع أحد ما، لغاية نفعية أو لا نفعية، عفوية أو لا عفوية، بالزعم إنه قادر على التوسط بين الإنسان و ما تصوره هذا الإنسان من قوة غامرة في الكون، أو الزعم بالتحدث بإسمها. فآنذاك، وآنذاك حسب شرعت الخرافة بالتدريج في التحول إلى بنية أفعوانية، دوغمائية، تسعى إلى تهشيم ما سواها. وأفلحت أيضا بان تغدو لا مجرد تصورات رومانسية فحسب، ينشغل بها الإنسان وقت فراغه للتسلية، أو لتطهير نفسه من مخاوفها حين يتحدث بها إلى من يجلس معه حول موقد النار في كهفه، و إنما أيضا إستطاعت إن تغدو عقيدة آمرة مانعة بالتدريج بعد أن تبناها أحدٌ له مصلحة بها، لكي تدر عليه ربحا و نفوذا، و تكون فيما بعد بيده سلطة و قوة قامعة. وهنا يكمن المغزى من سعي إيمانويل كانت الفلسفي الى تحرير الدين من الخرافة، ذاك المسعى المتمثل بالبحث عن إمكانية الرجوع بعقل الانسان الى حالة الصفر. و هي المرحلة التي لم يكن نشاط الانسان العقلي بها بعد قد إختلطت به تصوراته المشوشة الأولى عن القوى الكونية الغامضة، وهي ما يسميه كانت بـ . . العقل الخالص . . ويعني بذلك العقل المكتفي بآلياته وغير المتأثر بأية خبرة أو تجربة قبلية، تتدخل أو تشوب أحكامه عن الكون و الإنسان وقدره ومصيره ومسارات فكره. إلا أن بحث الفيلسوف كانت عن . . العقل الخالص . . تمخض آخر المطاف عن إستدلال ينفي إمكانية وجود مثل هذا . . العقل الخالص . . لا واقعياً ولا فلسفياً، و إنما على المستوى النظري الإفتراضي البحت حسب. وبهذا، تكلل مسعى كانت بإدراك حقيقة مهمة، هي أنه ليس في الإمكان وجود العقل الكامل غير المتأثر بأية خبرة، أو معرفة، أو تصور مسبق يشوب أحكامه. ومن هنا جاءت مقولاته عن القصور الذي يسم العقل الإنساني، بسبب مكوناته المعنوية القبلية. والخرافة هي دون ريب من هذه المكونات . . لكنه، من ناحية ثانية، أظهر أن بالإمكان التقليل من تأثير التصورات والمفاهيم القبلية، ومنها الخرافة، على أحكام العقل من طريق ما أسماه التدريب الأخلاقي.
* * * * * * * * * * * * * * *
لم تكن محاولات الفيلسوف كانت في عقلنة وجود الإنسان هي الأولى من نوعها، فقد حاول قبله فيلسوف آخر هو سبينوزا الذي أنتقد، في كتابه المعروف . . في اللاهوت والسياسة . . الأسس الخرافية لمعتقدات الكنيسة و الكنيس اليهودي (وهي لا تختلف بكثير عن أسس الأديان جميعاً دون إستثناء)، و إمتلأت بها صفحات العهدين القديم و الجديد، وعلاقة تلك المعتقدات بالسياسة، والكيفية التي يجري بها ربط تلك المعتقدات الخرافية اللامادية بشبكة المصالح المادية، التي تتخفى وراء تسويق تلك المعتقدات الخرافية، والغاية التي يسعى إليها ذاك التسويق، وهي الحفاظ على هيبة وغموض وقدسية الرموز الدينية (شخوصاً وشعائر وطقوساً) لدى العامة. والصورة هنا شديدة الوضوح، وهي أن ضياع هيبة وغموض وقدسية تلك الرموز يعني قطعاً ضياع وتفتت المصالح المادية للناس القائمين عليها . و هذا يفسر لنا سرَّ تخصيص مبالغ ضخمة هذه الأيام من لدن السعودية لإدامة شعائر الحج التي تدرَّ عليها ما يعادل عشرة أضعاف تلك التخصيصات سنوياً، و سرً تخصيص مبالغ طائلة في قم و مشهد و كربلاء و النجف لإقامة القباب المذهبة لإسحار العامة، لأنه يدرُّ أموالا لا عد لها لأصحاب الشأن من المعممين، في و قت يجلس تلامذة المدارس الصغار في المنطق المحيطة بأضرحة القديسين على تراب الرض يكتبون واجباتهم المدرسية! . . و بالتالي فهو يفسر أيضا سر شراسة الخرافة في سعيها لتدمير خصمها الفكري . . و يتجسد لنا بوضوح سعي أولئك المنتفعين من سيادة الخرافة للحفاظ على حدود وعي العامة في أسار ما تمثله تلك الرموز من قيم أحس العقل الإنساني أنه قادر، بوازع من دينامكيته الطبيعية المتمثلة بسعيه الى تجاوز عتبة الوعي الساذج للكون والإنسان، على الإرتقاء بوعيه الذاتي، بحكم الضرورة أو بحكم منطق الحياة، إلى مراتب أرقى و أجدى للإنسان ولضميره ومسؤوليته تجاه الجنس البشري الذي يمثل الحلقة الأعلى في تطور أنواع الطبيعة.
و سبينوزا الذي كشف لنا في كتابه المذكور أعلاه عن إبراهيم الذي يسمونه أبا الأنبياء كونه ليس أكثر من نخاس يبيع النساء، لدرجة أنه وهب زوجته سارة الى فرعون مصر على أنها أخته كي يتمتع بها الفرعون، لم يكن حظه مع سلطة اللاهوت بأفضل من حظ خلفه إيمانويل كانت، إذ عمدت تلك السلطة الى حرمان سبينوزا من كل ما تستطيع حرمانه منه من حقوق مدنية بما فيها نشر أفكاره و معتقداته. و هذه هي المحنة الأزلية للعقل الساعي إلى الإفلات من نير الخرافة، متمثلةً بقدره في إن يعيش غريبا، بخاصة حين كشف إسبينوزا بأن شخصية إبراهم أبي الإنبياء لم تكن أكثر من نخاس يبيع النساء و المتاجرة برقاب الناس.
من المدهش أن نعلم بأن المعتزلة (قبل سبينوزا بحوالي عشرة قرون) كان لهم الفضل في بذر بواكير التفكير الفلسفي العقلاني في فكر ما بعد ظهور الإسلام، متمثلة بإرهاصات أولى لصحوة من السكرة التي أغرقهم بها الدين الجديد أبان تحوله إلى قوة غازية إحتلالية إستغلالية تحت ذرائع شتى جميعها لا تمت الى الأخلاق بصلة. و ذلك، حين قام أولئك المفكرون المجددون الأفذاذ بخطوة أولى لتأسيس منهج في التفكير، لو كان تسنى له أن يبلغ غايته المنطقية على وفق تطور الوعي، لكان، و في وقت مبكر جدا من تاريخ البشرية، قد أعطى ثماراً لا تختلف كثيراً عن تلك الثمار التي أتت أكلها فيما بعد في منهجي الفيلسوفين، الهولندي سبينوزا و الألماني كانت، حين وضعوا (أعني المعتزلة) تسلسلاً للمسلمات يحظى به . . العقل . . بأسبقية على موضوع . . الإيمان بالله . . و كأننا بهم وضعوا . . العقل . . في مرتبة أرفع من مرتبة . . الإيمان.

و ما يكمن في سعي المعتزلة المضني والمتأني لتحرير موضوع . . الإيمان بالله . . من الخرافة والحتمية الميتافيزيقية، أنهم كانوا قد وضعوا بذلك أولى بذور الشك الفلسفي، الذي يسعى بدوره الى تحرير العقل من مسلمات كان هذا العقل قد وضعها لأسباب سايكولوجية و إجتماعية و إقتصادية وسياسية، فباتت تلك المسلمات تعيق تقدم العقل إلى الأمام. و ذلك، لأنها إذ تسمح للعقل بخطوة الى الامام، فهي تفعل ذلك لكي ترده فيما بعد خطوتين الى الخلف. ولقد كانت الغاية النهائية للمعتزلة هي الخروج بموضوع . . الإيمان بالله . . من الظاهرة الدينية وتفسيراتها النفعية الدوغمائية المحدودة الأفق إلى رحاب الحقيقة الفلسفية. و لكنهم سرعان ما أۥجبروا، للأسف، على الوقوف في منتصف الطريق، و ضاعت جهودهم في مسعاهم المعرفي ذاك و كأنها سراب، نتيجة الضربات المادية و المعنوية التي تلقوها، ناهيك عما لقيه العديدون منهم من قمع و قتل منذ نشأة منهجهم التجديدي في الفكر أبان العهد ألأموي و حتى حقب العصر العباسي الذي تلاهـ لأنظمة لا تكل من قراءة سورة "لا إكراه في الدين"!

و على الرغم من إن حظ المعتزلة في مسعاهم لم يكن بأفضل من مسعى مفكرين من طراز إسبينوزا و كانت. غير إن محاولات العقل للخروج بالظاهرة الدينية الى رحاب الحقيقة الفلسفية لم تتوقف بإضطهاد المعتزلة. فالمرء بإمكانه إن يتنفس أريج مثل تلك المحاولات في فضاء المنطقة المحكومة إسلامياً حين يقرأ . . إبن رشد . . الرازي . . فلاسفة آخرين مثل . . أخوان الصفا و خلان الوفا . . و حين يقرأ أيضاً المعري وعمر الخيام و عدد كبير من الصوفيين الذين ضاقوا ذرعا بالمبالغة السمجة لتقديس ما لا يستحق التقديس. و هم جميعا كانت غايتهم، دون شك، الخروج على أطر الدين المسيس، و بالنتيجة الخروج بالعقل من قيود وضعت عليه لا علاقة لها بموضوعة . . الإيمان بالله . . وإنما لها علاقة بالمشروع السياسي ونظام الحكم اللذين أرسى الاسلام السياسي أسسهما منذ بواكير الدعوة الإسلامية.

وما يزال الفضاء العربي الإسلامي يفرز عقولاً تحاول الإفلات من أسر الخرافة و التفكير الخرافي، ولكنها ما تزال مجرد محاولات فردية لم يقوَ عودها بعد، لتكون تياراً فكرياً. و من هنا، لم يكن أمام العقل إلا أن يعمل الكثير، ويتحمل الكثير قبل أن يبلغ مرحلة المعادل الموضوعي الستراتيجي لفكر الخرافة، لكي يقدر فيما بعد على تحويلها إلى مجرد حكاية، مثلما حصل في مناطق كثيرة من العالم. وسيبقى العقل في هذه البقعة من المعمورة يرسف تحت قسوة القوة القسرية للأصولية الدينية التي هي جحر الخرافة الفاغر فمه دوما لإنتاج خرافات وليدة، بخاصة بعد إن تسربلت هذه الخرافة بسربال السياسة، فصار أنصار الخرافة من الأصوليين على إختلاف طوائفهم، يختصون بمزيتين؛ دوغمائية رجل الخرافة، و ديموغاغية رجل السياسة. وفي ظل أجواء مثل هذه، يلاقي العقل في حمأة فعله للإفلات من الخرافة عواقب دراماتيكية. فهو إما مضطر للإستجابة للقسر فيستلين بـ . . الاعتزال . . و الأمثلة المتاحة على هذا كثيرة، منها تطليق الزوجات من ذوي العقول المتحررة من الخرافة (مثالها حالة عالم اللغة المصري المعاصر حامد أبو زيد)، وتكميم الأفواه، والإعتداء على النساء الحاسرات الرؤوس أو مضايقتهن، بل وحتى إغتصابهن و كأنهن سرائر، و أما أن يلاقي العقل المصير الذي لاقاه أصحاب مئات المحاولات المماثلة على كرّ القرون في دفعهم حياتهم ضريبة لما يفكرون به. فهل يجوز القول بان الخرافة تمكنت من عقل الإنسان في هذه البقعة من المعمورة لدرجة بات معها خروجه من وحلها نادراً، إن لم يكن مستحيلاً، دون فعل دراماتيكي مرعب في سياقه ومحتواه؟

دينامكية الحقيقة أم دينامكية الخرافة
صحيح إن العقل يتميز بالحيوية، من ناحية قدرته على خلق مبررات كافية للوصول الى غاياته، وبأنه قادرٌ أيضا على تسويق تلك الغايات على أنها حاجات ضرورية لديمومته وإدامة آلياته، و ذلك بان يحدث أثاراً مادية لنشاطه اللامادي. والخرافة (و لا أعني هنا بمفردة . . خرافة . . تلك الأسطورة التي تحاكي الواقع، فتزودنا بتمثلات جمالية لهذا الواقع، من نوع تلك الحكاية التي تؤلف موضوع رواية فلم . . سيد الخواتم Lord of the Rings . . مثلا، التي يسعى فيها الخير، بوصفه معادلا أسطوريا، إلى الحيلولة دون الشر و إكتسابه القوة المطلقة، و إنما أعني بـ . .الخرافة . . كل ما يشبه الخرافة الباطل الموجودة في الرواية ذاتها في سعيها الطحلبي لسد منافذ نور العقل لأنها حصيلة الظلام)، بوصفها الإبنة الكبرى للعقل، اذ تحاول أن تبقى في ديارنا الإبنة الكبرى ما شاءت، وشاء لها الزمان، دون أن تشيخ أو تذوي. فهي لا تتميز بالدوغمائية والصلافة لبلوغ غاياتها مهما كانت الوسائل فحسب، وإنما تتميز أيضاً بالحيوية الفائقة التي تمدها بها الديموغاغية السياسة، متمثلة بقدرتها على تفريخ بيض يُقدَّر له حين يفقس، يروح يبث آلاف من الخرافات الوليدة (مثلما يتوالد جند الشر في رواية . . سيد الخواتم . . بكل أشكالهم المشوهة)، لدرجة أن المرء قد يظن بان كلاً من أتباع الخرافة من البشر هو نفسه خرافة قائمة بذاتها، شكلا و مضمونا.
ويسعى سدنة الخرافة الى تبديل . . سنة الطبيعة في خلقها . . بما هي قائمة عليه من التنوع، بحيث صار لكل خرافة سيد يحمل عصاها، يتكئ عليها، ويهش بها على رعيته، وله فيها مآرب أخرى!
و حين تخطف الخرافة أكثر الأحداث دراماتيكية في تاريخ الإنسانية و تسعى الى تجييرها لصالحها، و تحيل بذلك رموز شخوص تلك الحادثة الى مجرد بطاقة للكسب اللامشروع، عند ذاك نستطيع أن نزعم أن للخرافة ديناميكية. و لنأخذ مثالا على ذلك مقتل الحسين (الخارج للمطالبة بإرث جده) و آل بيته في تلك المأساة المروعة التي كانت إحدى منعطفات تاريخ بقعة من بقع الشرق الأوسط و التي كانت واحدة من اللحظات التي يتجلى فيها الأخلاقي الخالد، متمثلاً بقرار . . أبي الحر الرياحي . . بإنتقاله لدواعي إنسانية من طرف منتصر مليون بالمائة (هذا بمنطق الحرب و ليس بمنطق العواطف التي تهيجها مصالح المنابر!) الى معسكر خاسر مليون بالمائة بوصفه مفارقا لازبا للسياسي العارض (الخارج للمطالبة بالسلطة و نفوذها و منافعها)، و كيف تحولت كل ذلك في بازار المتدينين المتسيسين الى مجرد آلية لإستنزاف جمهور واسع، بسيط و ساذج، يتشوف الحق و الخير. و لا بد من أن يعي المرء أن نوع الممارسة هذا من لدن سدنة الخرافة، في محاولتهم، الموفقة في أغلب الأحيان بسبب تجهيل الجمهور، لسلب حدث جلل من نوع مقتل الحسين و رهطه بكل ما يوعد به من تجربة تنطوي على إغناء روحي للانسان يتعلم منها تحبيب الحياة التي وهبته له الطبيعة و تمجيدها و السعي الى الخروج من كل ذلك بمثال عن الجمال الذي يطمح اليه البشر، بأن يرويج سدنة الخرافة بدلا عنه لممارسة شعائر تمجد العنف و تشجعه و ينضاف لذلك تحبيب البكاء و اللطم على من مات على أنه غاية.
يقول ميكافيلي، وهو ما أثبتته الأبحاث السايكولوجية فيما بعد:
"إن الناس حين يحبون فإنهم يحبون برغبتهم، ولكنهم حين يكرهون، فإنهم يفعلون ذلك برغبة من الأمير الحاكم!"
و ليس من أمير ديني أو دنيوي يحكم دون خرافة . . و الأمير، أمير الخرافة هذا، حامل العصا ذات المآرب هذا، يسوق الناس بمنطق الخرافة. وبذا، تغدو الخرافة أفيوناً للعقل، يستخدمه الأمير ليجعل الناس ألا يروا ما يرونه، ويجعلهم يكرهون ما يكره! و إلا، فكيف نفسرإنتشار زراعة الخشاش في مجتمعين يقودهما المتزمتون، في أفغانستان طالبان و في إيران الحرس الثوري. هذان البلدان اللذان تتبادل فيهما زراعة الخشاش وتوالد الخرافة الأدوار في الإجهاز على العقل. فما لم تحصده الخرافة من بذرات العقل و تلتهمه بنموها الطحلبي هناك، يتولى الخشخاش الإجهاز عليه هنا، مع تبادل للأدوار مع سبق الإصرار والترصد!

لم يسبق و أن جني . . العقل الموضوعي . . من الخرافة نفعا، بوصفها إبنته الكبرى، أو مكسبا على مستوى التجربة، من النوع الذي تحدث عنه الفلاسفة، غير تلك التي تنفع في تسويق التبريرات اللامنطقية للخرافة، في حين كانت الخرافة دائما تجني من العقل مكاسبا لتجدد نفسها. فالعقل كان (و هذه حقيقة تاريخية تخص بقعة الأرض التي نعيش عليها قبل غيرها) يتراجع مغلوباً على أمره، كلما فقس بيض الخرافة عن أباطيل جديدة، في حين كانت الخرافة تروح، مع كل إنجاز يحققه العقل تجاهد في محاولات التلون للإستفادة من أي انجاز حققه ذاك العقل، ولا تتردد ساعية في البحث عن أساس لهذا الانجاز في ما تحمله أدبياتها (الكتب الدينية عموما) من ظلال معاني، للإلتفاف على هذا الإنجاز، بأن تجهد في إيجاد أساس موهوم لهذا المنجز في أدبياتها. و بذا، تمكنت الخرافة، من ناحية أخرى، من أن تضخ في مفردات أدبها دماءً جديدة، ومعان مجازية جديدة، ما يضفي أحيانا غموضاً مرهباً، و مرعبا إضافيا، على ذاك الأدب يستسيغه جمهور جاهل، مستغلة في ذلك ألإمكانيات اللانهائية للغة. و ذلك، بالتلاعب بمفرداتها على نحو يثير حماسة هذا الجمهور، و يدفعه الى القيام بأمور تخالف منطق الطبيعة.
وإذا كانت الغاية من الإيمان بوجود إله هي السعي إلى إدراك العلة الأولى لهذا الكون، و البحث عن إجابات لأسئلة يفرضها قلق الإنسان الأصيل على مصيره. أعني إجابات من نوع يتسم بالشفافية والوضوح، ما يؤدي الى إغناء معرفة الانسان بالوجود، وتقربه خطوة فخطوة من المطلق، فإن الخرافة تظل دوما تضع أجوبة جاهزة لتلك الأسئلة بعيدا عن وسائل البحث العقلانية، وتغلفها بالغموض والطلاسم السرية و السحرية، ما يجعل الإنسان المؤمن بها أسير ذاك الغموض وسجين تلك الطلاسم المرعبة، و هو ما يبعده عن المطلق خطوات، و يقربه من عبودية نهائية سرمدية بمشيئته، تشبه عبودية مدمني ألأفيون للأفيون.

وعلى القدر الذي يكون فيه الإيمان الصافي بذاك المطلق بسيطا و منشغلاً بالحقائق التي لا تقبل التلوين أو التلون، تكون الخرافة بالقدر نفسه منشغله بأشباه الحقائق، أو بالأحرى، باللاحقائق. ولأن الحقيقة لا تعد بغير جوهرها و هو الحقيقة، فهي إذن مقتصدة بوعودها، لأنها لا تملك ما تهبه سوى روحها الأصيل و ما تحمله من معنى سام يتطابق فيه القول و الفعل في وعي ألإنسان للضرورة، و إستفادته من هذا الوعي بإقترابه من مملكة الحرية. أما الخرافة فتوعد وتُمعن في الوعد، وهي مسرفة في كيل الأوهام، إذ تروح تصوغها بمعادلات عددية؛ واحدية، و ثنائية، و ثلاثية، وسباعية، و إثني عشرية ، أو سبعينية، و ما إلى ذلك. و هي إضافة إلى الوعد الكاذب، تروح من ناحية ثانية، تتوعد من لا يصغي إليها بشيء أشبه بذاك الرعب الذي إعتادت أن تنتشر به الخرافة طيلة تاريخها.

وفي هذا الباب، فإن للخرافة قدرة عجيبة، ليس على إستغلال الحقائق الكبرى للكون فحسب، تلك الحقائق التي أتت بها الفلسفة و العلوم من نبعها الصافي بوصفها التعبيرات التقريبية عن المطلق، وإنما لها قدرة هائلة، أو لنقل . . خرافية . . (مثلما جرت العادة على القول عند المبالغة) أيضا على توظيف الإنعطافات المهمة في تاريخ البشر (برموزها وشخوصها ودلالاتها وأصالتها) لتستغلها لصالح شبكة المصالح التي تخدم الخرافة. و ذلك بإفراغ تلك الرموز من روحها الرومانسي ألأصيل، و تشويه مضامينها الإنسانية التي باتت ملكاً للإنسانية جمعاء، وتحويلها إلى مجرد دوغمات (مسلمات) خالية من أي روح!
وإذا كان معنى الدين، الذي لا يقبل اللبس، يتحدد في سعيه إلى إدراك العقل للقوة العظمى في الكون (أو العلة الأولى، مثلما تسميها الفلسفة) دون وساطات من قديسين و أدعياءٍ مُترِّهين، و الإعتراف بتلك القوة وهيمنتها، فان الدين بهذا المعنى . . ليس أفيونا للشعوب . . وإنما الخرافة التي ياتي بها القديسون و الأنبياء هي . . أفيون الشعوب . . لأنها لا تكف عن افراغ المطلق من محتواه الكوني السرمدي، وتحيله إلى إيقونات ذهبية و فضية و نحاسية، ببراعة إشتهرت بها أيضا في نهجها على خلق إنصاف آلهة، و أرباع آلهة، أو أرباب صغار تـنخس بهم، وقت ما أرادت، الناس الذين يعيشون في رقعة من جهل مستديم .
ولأن الحقيقة مطلقة الحيادية، مثلما هو المطلق ذاته، نجد أن مَثَلَ الذي يتعاطاها ويرتوي بها مَثَلُ شارب الماء يرتوي به دون أن يحس له لون أو رائحة أو طعم . . وهو ما يجعل من الحقيقة وجوداً دراماتيكياً. ذلك، لأن المرء قد لا يجد في . . بنية الحقيقة . . ما يغري، سوى واقع كونها حقيقة، أو شكلاً من اشكال التجريد الخالص للعدالة، في حين أنه قد يجد، دون ريب، أكثر من إغراء في الخرافة، لأنها تحفل بالألوان، و تجهد دائماً على أن تظهر بلون خاص، و رائحة مميزة، و طعم لا يختلف عن ذائقة جمهورها المتلقي. فتثير عنده إنفعاله السلبي تجاه الحياة و تغذيه، بحيث تسعى إلى تأصيل ميل هذا الجمهور الى الإنحياز، والتحزب للهوى، بشكل دوغما معينة، تتخلل بنيتها، ما يمكنها من تصوير عالم كامل من الوهم الواعد لمن يدخل بريته التي لا أبواب لها، والمتوعد لمن يشترط وضع باب لتلك البرية قبل دخوله اليها متلمسا خطاه.
و لربما كانت أحد أسباب دراماتيكية الحقيقة جوهراً هي شفافيتها المطلقة قلبا و قالبا. و هي بهذا على عكس الخرافة التي تعرض نفسها بأثواب، إذا ما أنتزع عنها سربلها الذي فوق، ظهر السربال الذي تحته، على الرغم مما يتوقعه فضول الرائي فيها من جاذبية، لينكشف عن حلكة اشد غموضاً، لا يشي بإي من تلك الأسرار الكونية البسيطة، ذات القيمة بخاصة للانسان الذي يؤمن أن تدينه لنفسه و ليس لأمير الخرافة. و فضلاً عن ذلك، فهو (أعني نضو الخرافة لقناعها الفوقاني) لن ينجلي إلا عن إعادة وتكرار زائف للتاريخ و أحداثه، تكرار من ذاك النوع الذي توهمه هيغل في مقولته:
". . إن التاريخ يعيد نفسه . . "
فرد كارل ماركس عليه قائلا :
"صحيح إن التاريخ يكرر نفسه، و لكن هيغل نسي أن يضيف، بأن التاريخ في الحدث الأول يكون أصيلاً وصادقاً، و عند الإعادة يكون زائفاً وكاريكاتيرياً".
وبسبب غلبة التكرار على الخرافة، في سعيها لإغلاق أكبر عدد ممكن من منافذ العقل المطلة على الحقيقة و العالم الواقعي، لإبقاء العقل في حدود مسلماتها الجامدة السقيمة، فإن النجاح في محاولة الإفلات من دوراناتها المغلقة لا يتحقق باليسر الذي نتصوره، ما لم يبدأ الإنسان بطرح أسئلة من طراز تلك الاسئلة الاولى التي طرحتها الفلسفة و محبي الحقيقة، أسئلة من قبيل:
- ما ذاك التكرار؟
- لم ذاك التكرار؟
- ماذا بعد ذاك التكرار؟
فمن غير المعقول ، ولربما يعد هذا سبباً آخر من أسباب دراماتيكية الحقيقة، أن يظل الإنسان، في أرض ما، يكرر على كر القرون شعائراً لا شئ يليها!
و تتميز الخرافة بمركزة الذات، و أعني بذلك . . أنها تجعل من طروحاتها حيثيات، يدور حولها كل ما في الكون، تنكسف الشمس، مثلاً، بإرادة الخرافة و لأسباب عاطفية، وكذا ينخسف القمر، و يعود وقت العصر بتضرعات ليكون في بحر لحظات وقت ظهرٍ من جديد، كيلا تفوت صلاة الظهر قديساً ما! . . و قد ينقلب النهار ليلا بإرادتها! . . و قد تثور السماء و تحمر الشمس و يغبرُّ الفضاء و تتجلل ال مجرة لموت قديس خرج يطالب بالسلطة! . . و بذا، تروح الخرافة لتقيس كل أحداث التاريخ بمعيار ينبع من زمانها الخاص، و بمقياس لا ترى العالم فيه مثلما هو، وإنما تراه مثلما يريد أمراؤها أن تراه، لأن أمراءها يرون العالم كما يريدونه هم، و ليس كما نومسته الطبيعة. و بهذا، لا تعبأ الخرافة بما مر على هذا الكون من دهور متتالية بسياق منطقي يتناسب و مجرى الزمان، كان فيه الدهر السابق يهيئ لما يطرأ في الدهر اللاحق على بنية الكون من تقلبات في صيرورة الطبيعة. أقول . . لا تعبأ تلك الخرافة بما مر من دهور على الإنسان، سوى بوصفها و توصيفها هي لتلك الدهور على انها عِبَرٌ تبرر و تسوق لما يصلح لتصديق منطق الخرافة.
و لأن الخرافة هي غالباً عماد السلطات الفاسدة، بل وحتى التدينات الفاسدة، بعد أن باتت أهم شريك في فلسفة المال، فهي نادرا ما تفكر بالسلم الاجتماعي المبني على أساس المصالحة مع الذات و مع ألآخر، إلا بذاك النوع من السلم المبني على إخصاء ألآخر و إقصائه و إستبعاده. و هي تنجح عموماً في مخاطبتها للعقول عامة، لتثير ما فيها من نزوع رومانسي، إلا أن اداتها للوصول الى غاياتها عمادها الطامحين من الناس الذين في القاع، من الجهالة، و السوقة، و الغوغاء، و معذبي الضمير الذين يكوون أنفسهم في مواسم معينة بـ (آلات تعذيب لا ندري مانسميها تطهرا من ذنوبهم)، والمضطربين روحياً، والمدمنين على البلادة، وناقصي الجاه.
و في زوايا الخرافة و دياجيرها الداكنة تسترسل كل أنواع الشرور. و تنمو في أقبيتها كل أنواع الطحالب لتخنق كل نفس نقي تريد الروح أن تستنشقه. لذا، فان أخبث ما في أمر الخرافة انها تستمتع، أيما إستمتاع، بتهشيم سواها، ولا ترعوي عن التهشيم حتى إن كان خصمها لاخرافة، أو خرافة صنوة . . فالسيف يشكل جزءاً من تركيبتها. والنزوع إلى القتال هو غريزتها التي لا ترتوي. لذا، فهي لا يهمها مقدار الدماء التي تسيل على مذبح تخريجاتها، سواء أكان في تدميرها لخصمها، أو في ممارستها لطقوسها، ما دام جمهورها هو ذاك الذي ذكرناه.
والصور والمشاهد الفظيعة والمرعبة التي يتجمد لها الدم في العروق، التي نراها حين تضع الخرافة قدر الإنسان على حافة الهاوية، كلها فيها ما يشير إلى أنها تنتشر كالنسيج في البنية السيكولوجيا للشخصية الخرافية. و ثمة أيضا ما يشير إلى أنها تحقق إرضاءً للأشخاص من ذوي الذائقة السوقية، وليس لحاملي الذائقة المهذبة. وقد يفسر لنا هذا، من ناحية ثانية، تشبع شعائر وطقوس الخرافة بثقافة جريان الدم، ما يؤول بها الى تحويل مشهد جريانه إلى بهجة مصدرها الوجدان النزوي الخرافي، بسبب تكرارها لصيغ الممارسة المبتذلة جمالياً. وكأننا بأمراء الخرافة، بسكوتهم عما يطمح جمهورهم الجاهل لإرضائه في نفسه، و يصب في مصلحة أولئك الأمراء، يدلسون هذا الجمهور، ويجازونه على إنخراطه في كل ما يمد الخرافة بعناصر البقاء و الديناميكية و الديمومة.
و إذا كان أحد أبرز رموز الحقيقة المطلقة في عصرنا الحاضر . . ألبرت اينشتاين . . قد قال مرة . . نضغط على العقل ليفسح مجالا للقلب! . . فإن أي أمير من أمراء الخرافة في ديارنا لا يرد في باله دائماً سوى أن يضغط على العقل حتى يسد كل نافذة أو أطلالة فيه على روافد الوعي المتجاوز للحاضر و المتعالي عند الإنسان، لكي يفسح المجال كاملاً للوجدان الرومانسي المنذهل بتراجيديا الماضي، التواق لسفك الدم لكي يدوس بوطأته الثقيلة أي توق للروح للتحليق . . و هكذا ينسحق القلب!

إن الخرافة تهرول، دون ريب، هذه ألأيام في شوارعنا، و قد إلتهمت بطريقها كل ما يمت للحضارة بصلة بما تنشره من روح تشاؤمية بكائية نادبة لحظ الإنسان، و مهرولة لنصرة الوهم بما تنشره من تحبيب لمشاهد البؤس على مبدئها القائل . . البؤساء هم أحباب الله، فكن بائسا يحبك الله!
و تدب الخرافة في مدارسنا بين مقاعد الدرس، و قد إفترست عقول صغارنا كي تحيلهم بعد حين إلى معذبين لأجسادهم، أو إلى أناسٍ يموتون من أجل شئ لا يعلمون كنهه، سوى وعد بفردوس ضائع يمنحهم مفتاحه دجال أو بائع أوهام!
و لم تتوانَ الخرافة عن تجوالها الحثيث في أروقة جامعاتنا، و قد تمادت في تسفيه العلم و الإستخفاف بعقول أكاديميينا و كل ما يمت إلى العقل بصلة، و لا غرابة في أن تحيل أحرام جامعاتنا إلى مجالس للندب و العويل و الكراهية، وهي ثقافة الناس الذين في قاع المجتمع من شرائح رثة، بما ينشرونه من أباطيل، و بما يعلقونه على جدران الكليات من أقاويل، بعد أن تلبَّس عدد غير قليل من التدريسيين لبوس عرّابي خرافات متعددة يبثون الشر في لبوس خير . . يحدثك أحدهم مثلا في أطاروحته بلغة علمية رصينة عن العالم العقلاني الفراهيدي و لكنه في اقبيته الخاصة يدعو لأشرً ما تأتي به الخرافة . . و يحدثك آخر في أطروحته بلغة علمية مدهشة علم دلالات الكلمات بوصفها إنعكاسا لواقع جاء محصلة لتطور تاريخي و لكنه هو الآخر لو إستمعت إليه في رواقه الخاص لصدمت بأحاديثه عن الجنة و النار!
إن الخرافة التي تسري في أزقة مدننا ليست من ذاك النوع الذي تردده ألأمهات عند الأمم ألأخرى على مسامع ألأطفال، حين يزِفُ موعد نومهم و إيوائهم الى الفراش، كي تأتيهم بالأحلام السعيدة المغذية للعقل في خزينه اللاشعوري، و إنما هي خرافة موت و موات لا تجلب للإنسان أثناء نومه سوى صور ألأكفان و الدم و التدليس و المدالسة، و أخبار السرقات و الجرائم و الدم و الزنا الذي مارسه المسلمون عبر تاريخهم . . و لا غرابة! . . فقد كان تاريخ الخرافة التي حلت في ديارنا لا تفارقه منذ قرون طويلة، و بالتحديد منذ أول لبوس سياسي لهاس، هو تاريخ الدم و الجريمة و القتل و السرقة . . فما العمل؟



#أحمد_خالص_الشعلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعقوبة... ما أبهاك أيام كنت مدينة الفردقال!.. قراءة في قصيدة ...
- وهل كان سعدي يوسف وحده؟!


المزيد.....




- رئيسي: تقاعس قادة بعض الدول الإسلامية تجاه فلسطين مؤسف
- ماذا نعرف عن قوات الفجر الإسلامية في لبنان؟
- استمتع بأغاني رمضان.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على ا ...
- -إصبع التوحيد رمز لوحدانية الله وتفرده-.. روديغر مدافع ريال ...
- لولو فاطرة في  رمضان.. نزل تردد قناة وناسة Wanasah TV واتفرج ...
- مصر.. الإفتاء تعلن موعد تحري هلال عيد الفطر
- أغلق باب بعد تحويل القبلة.. هكذا تطورت أبواب المسجد النبوي م ...
- -كان سهران عندي-.. نجوى كرم تثير الجدل بـ-رؤيتها- المسيح 13 ...
- موعد وقيمة زكاة الفطر لعام 2024 وفقًا لتصريحات دار الإفتاء ا ...
- أسئلة عن الدين اليهودي ودعم إسرائيل في اختبار الجنسية الألما ...


المزيد.....

- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود
- فصول من فصلات التاريخ : الدول العلمانية والدين والإرهاب. / يوسف هشام محمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد خالص الشعلان - الحقيقة والوهم.. محنة العقل العلمي