مريم نجمه
الحوار المتمدن-العدد: 1404 - 2005 / 12 / 19 - 09:35
المحور:
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
هولندا : محطّة , تجربة , مواطنة , وتقييم - 3
قبل متابعة الموضوع عن تجربتي في هولندا .. لابدّ من الردّ على بعض الأصوات التي لم ترد أن تصدّق الحقائق , إمّا عن جهل وعنصريّة مطبقة , أو لإختلاط الألوان في رؤيتها في عدم التمييز بين المستعمرين , والشعوب صانعة الحضارات , ومنها الشعب الهولندي الذي خلق هولندا كما يقول المثل عندهم : " خلق الله الهولندييّن , وخلق الهولنديّين هولندا " - وهو مثل يطلق على شعب من الشعوب , أو أمّة من الأمم تنشأ في ظروف جغرافيّة غير ملائمة , فلا تزال تكدح وتعمل وتتعب حتى تتغلّب على العقبات , فتذلّل الظروف الطبيعيّة , وتهئ لنفسها أحوالا معاشيّة طيّبة وتشقّ طريقها في الحياة محافظة على كيانها ذائدة عن حدودها وسائرة في ركب القوّة والنجاح والقيادة داتئما –
هذا الشعب .. الذي بنى بلده بعرقه وكدّه وتصميمه وعلمه .. وثقته بنفسه . أنا لم أتكلّم عن ماضي هولندا الإمراطوري الإستعماري – أنا أتكلّم عن هولندا الشعب اليوم , وتجربة الاجئين والمقيمين الأجانب فيه .
كذلك .. إنّ تجربة الشعب الهولندي ليست بحاجة لدعاية من أحد , هذه التجربة التي حوّلت أرض المستنقعات القديمة , إلى جنّات لشعبها .
أماّ ما قيل .. من تطاول , وافتراء جاهل , عن ثورة الصين العملاقة التي حرّرت مليار ونصف إنسان من العبوديّة والإحتلال الياباني والغربي , ونجاحاتها الرائعة التي رفعتها إلى مصاف الدول العظمى ( الثانية في العالم ) . والصين هي أيضا ليست بحاجة لدعاية .. فمنجزاتها وثورتها تتكلّم عنها – رغم ملاحظاتنا وانتقاداتنا – للخطّ بعد وفاة ماوتسيتونغ , إنما ينمّ عن حقد دفين معروف المصادر والمقاصد , ولا يستحقّ الردّ , وأكتفي بهذه العجالة , وقد اعتدت ألا أردّ على الإفتراءات منذ أمد بعيد ..
وأما الاّخرون فما زالوا يرفعون سيوف الخشب يبيعون وطنيّة , وقوميّة حول طواحين الهواء على ضفاف الأنهار , ويحقّقون الإنتصارات في الأحاجي والشعارات الساقطة
أنا أكتب الحقيقة التي شاهدتها على الأرض بعد رحلة عذاب وتشريد عن وطني , وهذه جزء من سيرة حياتنا وليست دعاية لأحد – إنها وصف حيّ لواقع معاش وليس من حقّ أحد أن يلغي الرأي الاّخر ويقصيه دون دليل . أما قول أحدهم : أنه يكذب , والكلّ يكذبون " .. إنما هو إفتراء على الكلّ , أما هو فهذه مشكلته .. واختياره .
وأنا لاأطلب من كلّ قرّائي أن يكونوا مسرورين من كتاباتي , أو متطابقين مع فكري , لأن الإختلاف في الرأي حقّ وظاهرة صحيّة , وليست مرضيّة , لكن تجاوز حدود أدب الحوار والرأي , دليل العصبيّة العمياء , وعدم الإعتراف بأمراضنا الإجتماعيّة والسياسية وأسباب إنهزامنا وتخلّفنا , ولكي نتعلّم من تجارب الاّخرين الجيّدة والإيجابيّة ونبذ السلبيّات .. هذا ليس بالعيب والخطأ , بل العيب أن نبقي " مكاننا راوح " .. تحت كابوس الإستبداد والتمزّق الطائفي والعشائري قرونا طويلة ..
إنّ اعتزازي بعروبتي وهويّتي وانتمائي .. ليس بحاجة أيضا لشهادة من أحد , وهي لا تمنعني أن أكتب وأنقل جزء من تجاربي , وتجارب الشعوب الأخرى , الجيّدة والإيجابية, خدمة للأجيال الجديدة ( لأنها تعيش في السجن الكبير الذي فرضته الأنظمة الإستبداديّة ولا تعرف إلا الرأي الواحد ) بل بالعكس إني أعتبر هذه الكتابات من صميم واجبي المبدئي .. والوطني , وإلاّ نكون خونة لثقافتنا , وعلمنا , ومعرفتنا .. " فمن وهب العلم فليعلّم " .. أليس كذلك أيّها القارئ الكريم ..؟
إن ما كتبته حتى الاّن .. يخصّ الشعب الهولندي الطيّب الذي أنتج القوانين والمؤسّسات التي تحترم الإنسان , والذي لايعرف العنصريّة , والتي حملها ( الظلاميّون والمتعصّبون المشوّة أدمغتهم بكره الاّخر ومعتقدات الاّخر ) ليقتلوا الناس في الشوارع بمجرّد إختلاف في الرأي ..!؟
يشرّفني أنّني أصدرت في ستّينات القرن الماضي مع رفيقاتي نشرة " اليعربية " السريّة قبل أن يولد الاّخرون , أو رؤوس النظام ..
وأخيرا .. إنني أعتزّ بكلّ الإيميلات والرسائل اليوميّة من القرّاء الشرفاء , مع الشكر الكبير والتحيّة لهم جميعا , وهي التي تحفّزني للمضي قدما في الكتابة .. و هي أيضا تطالبني بالمزيد .. وتدعوني للمشاركة في الندوات والمنابر الأخرى .
*
المحطّة الرابعة :
هذه المحطّة تبدأ في مركز " بياتركس " على إسم ملكة هولندا – بترا - oc أوسي
محطّة غنيّة جدّا بالملاحظات والتجارب والتعليم والتقييم .. والقيم
أربعون يوما .. لم أتوقّف فيه عن الركض والمتابعات والمراجعات اليوميّة , ولكن الدروس فيه كانت أعمق في التعرّف على المجتمع والشعب الهولندي ومبادئه وقوانينه وتربيته .
بدأت أفهم وأستوعب عن كثب مبدأ تطبيق المواطنة الحقيقية .. واحترام الإنسان وحقوقه في كلّ جوانب الحياة ..
وصلنا المركز ظهرا ..
أدخلونا قاعة المطعم فورا , لأن الوقت وقت طعام الغداء .
دخلنا الإدارة .. اسقبلتنا مديرة المركز , والموظّفون بعد التحيّة وتقديم أسمائهم لنا , جلسنا حول طاولة دائرية كبيرة , ترحيب بالقادمين الجدد – زوّدوا كلّ واحد منا بمخطّط وكتاب وملفّ عن النظام هنا , مع بعض التعليمات الشفهية , حدّدوا أين نحن الاّن بالنسبة للمركز , وكل خطوة نقوم بها يوميّا من الثامنة صباحا .. وبقية الأسبوع , بعد ذلك رافقت كل شخص منا موظّفة حاملة معها , كيس كبير من الحاجات الضروريّة للسرير , وأوصلت كل منا إلى غرفته التي سيقيم فيها .
كان الوقت مساء.. الغرفة كانت كبيرة , طابق ثاني مشرفة ومطلّة على المساحات الخضراء , تحوي 6 – أسرّة و6 – خزائن وبراد ( ثلاّجة ) وتلفاز . حييّت الأخوات , تعرّفت عليهن من ( الصومال , العراق , الهند , ألبانيا , رومانيا , إيران )
رتّبت السرير , وحقيبتي وأشيائي الخاصة .. لا بدّ من أخذ الدوش لأزيل تعب النهار ..
في الثامنة صباحا .. كنت في الإدارة , سلّموني البطاقة الجديدة الخاصة بالمركز .. وكرت فيزا لسحب النقود أوتوماتيكيا , بعد أن عيّنوا لنا البنك الذي نستطيع أن نسحب منه الراتب , كمصروف شخصي أسبوعيّا .
كا لا بد لي أن أتعرف وأستطلع بنفسي على المركز ومحتوياته .. وهذا العالم الجديد الذي دخلت إليه :
المركز بناؤه قديم , ومنه جديد , لكنّه نظيف مرتّب , ومنظّم
في واجهة المركز يقع بناء ( البوليس ) الشرطة, وفي باب المدخل وجوب إبراز الهويّة , أثناء الدخول والخروج منه .
على كل مقيم هنا عليه أن يثبّت حضوره يوميّا صباحا .
ساحة ومراّب للسيارات والدرّاجات مقابله , تليه عيادة طبّية بكل الإختصاصات الأوّلية , تفتح يوميّا . بعدها تأتي المدرسة على طابقين صفوف متنوّعة ومجهّزة باّلات الكمبيوتر _ المعلّم الجديد – للبشريّة , طبعا هذه المدرسة لتعليم الساكنين اللغة الهولنديّة .
مقابلها تقع إدارة المركز عدّة أبنية , بصفّها تقع المكتبة , تفتح في أوقات محدّدة يوميا تحوي كتبا بجميع اللغات , وصحف يوميّة بكل لغات الاّجئين , وكاسيتات , مع شاي وقهوة وحليب تقدّمها موظّفة المكتبة للموجودين .
فوق بناء المكتبة يقع المشغل : فيه ممارسة الأشغال اليدوية .. كالخياطة وغيرها عدة ماكينات للخياطة لكي تتّعلّم أو تخيّط لنفسها , حيث توزّع الموظّفة هنا بعض الأقمشة الرخيصة لذلك , وكوافيرة لقص الشعر أيضا .
يلي المكتبة .. قاعة كبيرة جدّا , تحوي كلّ أدوات الرياضة الحديثة الفرديّة .وغيرها من الفعّاليات والهوايات .
قبل إنهاء هذا الموضوع .. أحببت أن أنقل شئا من تعليمات المركز :
يرحّب إدارة المركز والموظّفون بكم في مركز الإستقبال والبحث ( o c ) . بعد إقامة قصيرة في مركز الإستقبال نقلت إلى مركز اللاجئين الحالي التابع إلى الهيئة المركزيّة لإستقبال اللاجئين ( ) التي وكّلتها الحكومة الهولندية بالإهتمام بأمور إستقبال اللاجئين C O A .
تقيم مع لاجئين اّخرين في مراكز الإستقبال . أفراد لهم خلفيّات عرقيّة وسياسيّة ودينيّة مختلفة عمّا تعوّدت عليه وهم جميعا يعيشون في قلق بالنسبة إلى مستقبلهم المجهول . ولذا فيجب عليك أن تسعى سويّا مع الموظّفين والمتطوّعين واللاجئين الاّخرين إلى أن تجعل إقامتك في المركز إقامة سعيدة ومرضية . يتبع ..
#مريم_نجمه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟