أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - رمضان متولي - رأسمالية الزومبي – الفصل الأول: مفاهيم ماركس















المزيد.....



رأسمالية الزومبي – الفصل الأول: مفاهيم ماركس


رمضان متولي

الحوار المتمدن-العدد: 5227 - 2016 / 7 / 18 - 23:35
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


الجزء الأول
فهــم ودراســــــــة النظــــام:
ماركس وما بعد ماركس
الفصل الأول
مفاهيم ماركس
عالم من السلع
إن أبرز ملامح النظام الاقتصادي الذي نحيا في ظله أنه يتمركز حول شراء وبيع السلع من مختلف الأنواع. علينا أن ندفع لنحصل على الطعام، والمأوى، والملبس والطاقة لإضائة وتدفئة منازلنا، وندفع حتى ننتقل من مكان لآخر، وحتى نحصل على ما نحتاجه للحفاظ على حياتنا وحياة عائلاتنا.
وحتى نستطيع شراء هذه الأشياء، علينا أن نبيع، حتى لو كان كل ما نملك بيعه هو قدرتنا على العمل لدى آخرين. إن حياتنا نفسها تعتمد على حركة السلع. ومن هنا جاءت نقطة انطلاق ماركس في كتابه رأس المال: إن ثروة المجتمعات التي يهيمن فيها نمط الانتاج الرأسمالي تقدم نفسها كتراكم هائل للسلع. وكان ماركس يكتب في حقبة زمنية لم تكن خلالها علاقات السوق قد اخترقت بعد مناطق شاسعة من العالم. وكانت فيها آنذاك مجتمعات قائمة يتجه فيها كامل الانتاج إلى تلبية الحاجات المباشرة للناس، سواء مجتمعات "شيوعية بدائية" تقوم على الصيد وقطف الثمار، أو مجتمعات "زراعية بسيطة" يتفق الناس فيها على ما ينتجونه وكيف، أو مجتمعات فلاحية حيث يقوم سيد أو حاكم محلي بتوجيه الناس من أعلى. حتى في معظم المجتمعات التي كانت توجد بها أسواق، كانت غالبية السكان من الفلاحين الذين يعيشون على ما تنتجه أراضيهم، وينتجون معظم ما يحتاجون إليه للحفاظ على حياة عائلاتهم بالإضافة إلى نسبة صغيرة من الانتاج للشراء أو البيع.
نستطيع اليوم أن نعدل من كلمات ماركس لتصبح "إن ثروة العالم بأكمله، مع استثناءات قليلة، تقدم نفسها ككومة من السلع." كما أن هذه الاستثناءات – مثل توفير رعاية صحية وتعليم بالمجان في عدد من البلدان المتقدمة – تخضع لضغوط مستمرة من قوى تسعى إلى تسليعها. هذا الانتاج السلعي الذي يقرب من الشمول يسم مجتمعنا الحالي ويميزه عن أي حدث آخر في تاريخه. وحتى نفهم ما يحدث في هذا العالم، علينا أن نبدأ من فهم آليات الإنتاج السلعي. ولم يكن ماركس هو أول من حاول دراسة هذه الآليات. فقد سبقه إلى ذلك علماء الاقتصاد السياسي الكلاسيكي – وهم الداعمون الأوائل للرأسمالية الذين حاولوا تفسير دينامياتها الأساسية عندما كانت تكافح للانطلاق في أوروبا حين كانت تخضع لسيطرة طبقة ملاك الأرض. عالمان من هؤلاء كانت لهما أهمية خاصة: الأول هو آدم سميث الذي دون أفكاره في سبعينيات القرن الثامن عشر في وقت افتتاح أول مصنع حديث، وكان مصنعا للنسيج، في مدينة كرومفورد بدربيشاير، والثاني هو ديفيد ريكاردو الذي دافع عن مصالح الصناعيين الأوائل ضد كبار ملاك الأرض بعد أربعين عاما عقب الحروب النابليونية.
القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية:
يعتبر آدم سميث غالبا القديس الراعي بالنسبة للرأسمالية المعاصرة ومنظري المدرسة النيوكلاسيكية في الاقتصاد. غير أنه أشار إلى نقطة هامة، قام ريكاردو بعده بتطويرها، ويتجاهلها تماما جميع الاقتصاديين تقريبا ممن ينتمون إلى التيار السائد، والذين يزعمون أنهم يسيرون على دربه. فقد لاحظ أن كل سلعة يمكن النظر إليها من وجهتي نظر مختلفتين تماما بمجرد أن يتحول المجتمع إلى الاعتماد على الانتاج من أجل السوق.
"إن لكلمة القيمة …معنيين مختلفين عن بعضهما، فهي أحيانا تعبر عن قابلية شيء محدد للاستخدام، وأحيانا تعبر عن قدرة على شراء سلع أخرى يمتلكها حائز هذا الشيء. القيمة الأولى يمكن تسميتها "قيمة عند الاستعمال"، والثانية "قيمة عند التبادل". الأشياء التي تنطوي على قيمة عظمى عند الاستعمال عادة لا يكون لها قيمة عند التبادل؛ وعلى العكس، نجد الأشياء التي تنطوي على قيمة عظمى عند التبادل عادة لا يكون لها قيمة عند الاستعمال. لا يوجد ما هو أكثر فائدة في استعماله من الماء: ولكن الماء لن يشتري تقريبا أي شيء، فتقريبا لن نستطيع أن نبادل الماء بأي شيء. وعلى النقيض، لا قيمة تقريبا للماس عند الاستعمال؛ ومع ذلك عادة يمكن مبادلة الماس بكمية كبيرة من السلع الأخرى."
كتاب رأس المال لماركس تبنى هذه الفكرة وطورها، موضحا جوانب غموض معينة في كتاب آدم سيمث:
"إن إمكانية استخدام شيء ما تجعل له قيمة استعمالية. ولكون هذه القيمة محدودة بالخصائص المادية للسلعة، فلا وجود لها مستقلة عن تلك السلعة. وبالتالي، فإن أي سلعة مثل الحديد، أو الذرة أو الماس، وبقدر ما هي شيء مادي، هي قيمة استعمالية، شيء مفيد. وهذه الخاصية في أي سلعة مستقلة عن كمية العمل الضروري للحصول على خصائصها النافعة. "
ولكن السلع أيضا:
"مستودعات مادية للقيمة الاستعمالية (التي) تطرح نفسها كعلاقة كمية، كتسبة يجري بمقتضاها تبادل قيم استعمالية من نوع محدد بقيم استعمالية من نوع آخر، وهي علاقة تتغير باستمرار مع تغير الزمان والمكان."
هذا التمييز لا يقوم به اقتصاديو المدرسة النيوكلاسيكية المعاصرون. فلا يرون نوعا من القيمة إلا "المنفعة الحدية" التي تقوم على تقدير ذاتي للأفراد للقيم الاستعمالية. ولا يقوم بهذا التمييز كذلك بعض الاقتصاديين المنشقين الذين يزعمون انتماءهم لتراث ريكاردو (أي من يطلق عليهم السرافيون) – نسبة إلى العالم الاقتصادي الإيطالي بييرو سرافة (المترجم) – وتعتمد رؤيتهم على حساب المدخلات والمخرجات من الأشياء المادية، أي على القيم الاستعمالية بمعنى آخر. وأخيرا، هناك بعض الماركسيين المعاصرين ممن يرون أن هذا التمييز لا أهمية له، لأن الفكرة الهامة التي كان ماركس يوضحها كانت تتعلق بالاستغلال، لا القيمة.
في استبعادها لهذا التمييز الذي وضعه سميث وريكاردو وماركس، تفتقد كل هذه النظريات لأمر جوهري في نظام يقوم على الانتاج السلعي: هو أن كل شيء يجري في هذا النظام يخضع لمجموعة مختلفة من القوانين العلمية.
فمن ناحية نجد قوانين العالم الفيزيائي – قوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا وهكذا، وهي القوانين التي تحدد الطرق الضرورية في التركيب والجمع بين الأشياء المختلفة من أجل انتاج السلع (أي مختلف مكونات الآلة، أو التكوين المادي للمصنع، أو التقنيات المستخدمة في العمليات الجراحية الخ)، وكذلك تحدد فائدة تلك السلع للمستهلك النهائي (القيمة الغذائية للأطعمة، والدفء الذي يوفره الوقود والكهرباء، عدد الأطفال الذين يمكن رعايتهم في مدرسة، أو عدد المرضى لمستشفى، الخ).
وفي الناحية الأخرى هناك الطريقة التي تقابل بها الأشياء أشياء أخرى كقيم تبادلية. وهي غالبا ما تواجه بعضها بعضا بصورة مختلفة تماما عن القيم الاستعمالية. فالقيمة التبادلية لشيء ما يمكن أن تنخفض بينما تظل قيمته الاستعمالية دون تغيير. وقد حدث ذلك بالنسبة لأسعار الكمبيوتر خلال الأعوام الأخيرة – فقد كان سعر الكمبيوتر الذي استخدمته في كتابة آخر كتبي ضعف سعر الكمبيوتر الأقوى كثيرا الذي استخدمه الآن. وعلاوة على ذلك، يمكن تقسيم القيم التبادلية إلا مالانهاية، ولا ينطبق ذلك عادة على القيم الاستعمالية: فيمكن أن نقول إن الدراجة تساوي 1/20 من السيارة، لكن إذا قمنا بتفكيك السيارة إلى 20 جزءا لن تكون لها أي قيمة استعمالية لأحد. وهذه مسألة بالغة الضرورة عندما يتعلق الأمر بأشياء هامة بالنسبة للرأسمالية الحديثة مثل المصانع، وآبار البترول، الطائرات، والمدارس والمستشفيات. فالسوق تتعامل مع هذه الأشياء كقيم تبادلية يمكن تجزئتها إلى أجزاء لانهائية (تساوي عددا كبيرا من الجنيهات والبنسات الخ)؛ ولكن لهذه الأشياء وجود مادي لا يمكن عادة تجزئته بهذه الطريقة.
القيم التبادلية للسلع تتسم أيضا بسيولة لانهائية، بحيث يمكنها الانتقال من جزء من الاقتصاد إلى جزء آخر في شكل نقود، كما يمكنها الانتقال من جزء من العالم إلى آخر، أو انفاقها على سلعة محددة أو أي سلعة أخرى بنفس السعر. لكن سيولة القيم الاستعمالية مثل قابليتها للتجزئة محدودة بتكوينها الفيزيائي. نستطيع أن ننقل 100 مليون جنيه استرليني نقدا من بريطانيا إلى الهند بين ليلة وضحاها، ولكننا لا نستطيع نقل مصنع يساوي 100 مليون جنيه استرليني بسرعة تقترب بأي شكل من سرعة نقل النقود. إن القيم الاستعمالية والقيم التبادلية غالبا تتبع منطقين مختلفين، وغالبا متناقضين، في حركتها، ويؤدي عدم إدراكنا لذلك إلى عدم القدرة على فهم أبسط الأمور الأساسية عن اقتصاد يقوم على انتاج السلع. فهذا الاقتصاد لا يعمل بسلاسة عبر مجرد تدفق القيم التبادلية، بل إنه عرضة دائما للعراقيل وحالات التوقف والبداية، بسبب تجسيد القيم التبادلية في قيم استعمالية لها خصائص مادية تحد من سيولتها.
العمل والنقود
لم يكتف كل من سميث وريكاردو بمجرد إدراك الطبيعة المزدوجة للسلع، بل أضافا إلى ذلك رأيهما بأن الأشياء التي تتباين في خصائصها الفيزيائية تماما لا يمكن أن تكتسب قيما تبادلية إلا لاحتوائها على شيء واحد مشترك – أنها جميعا منتجات للعمل الإنساني.
كتب آدم سميث:
"إن السعر الحقيقي لكل شيء، أي الكلفة الحقيقية لكل شيء بالنسبة لشخص يريد امتلاكه، هو الكد والعناء اللازم للحصول عليه. والقيمة الحقيقية لكل شيء بالنسبة لشخص يمتلكه ويرغب في التصرف فيه أو مبادلته بشيء آخر تساوي مقدار الكد والعناء الذي يوفره على نفسه، والذي يمكنه أن يفرض على الآخرين بذله في المقابل. إن ما نشتريه بالنقود أو السلع إنما نشتريه بواسطة العمل، وبنفس مقدار ما نحصل عليه بواسطة الجهد الذي نبذله بأنفسنا... هذه السلع تحتوي على قيمة كمية محددة من العمل التي نبادلها بشيء نفترض في حينه أنه يحتوي على قيمة كمية مساوية من العمل.
كان العمل هو السعر الأول، هو نقود الشراء الأصلية التي ندفعها مقابل كل الأشياء. إن كل ثروة العالم لم تكن تُشترى في الأصل بواسطة الذهب أو الفضة، وإنما بواسطة العمل؛ وكانت قيمتها بالنسبة لمن يمتلكونها وبالنسبة لمن يرغبون في مبادلتها بمنتجات أخرى جديدة مساوية تماما لكمية العمل التي تمنحهم القدرة على شرائها أو امتلاكها."
وقد ضمن ماركس هذا التفسير في تحليله الخاص قائلا:
"إن القيم التبادلية للسلع يجب أن تشتمل على إمكانية التعبير عنها عبر عنصر مشترك فيها جميعا، تمثل الأشياء جميعها كمية منه تزيد أو تقل. ولا يمكن أن يكون هذا "العنصر" المشترك خاصية هندسية أو كيميائية ولا أي خاصية طبيعية في هذه السلع. ... ولو قمنا حينئذ باستبعاد القيمة الاستعمالية للسلع من اعتبارنا، تبقى خاصية واحدة فقط مشتركة فيما بينها، أنها جميعا منتجات للعمل."
لكن ماركس قام بتطوير تحليلات سميث وريكاردو في ناحية شديدة الأهمية. فالقيمة التبادلية لا يحددها بذل العمل الحقيقي المعين في ذاته، لأن مختلف الناس باختلاف مهاراتهم يستغرقون كميات مختلفة من الوقت ويبذلون مقادير مختلفة من الجهد في إنتاج سلع محددة:
" لو كانت قيمة أي سلعة تتحدد بكمية العمل المبذول فيها، بعض الناس قد يتصور أن قيمة السلعة سوف تزداد كلما كان العامل كسولا وضعيف المهارة لأن ذلك سوف يتطلب وقتا أطول في إنتاجها."
بمعنى أدق، إن القيمة التبادلية لأي سلعة تعتمد على "وقت العمل الضروري اجتماعيا":
"الضروري لإنتاج سلعة في ظروف الانتاج الطبيعية وبدرجة متوسطة من المهارة وشدة العمل السائدتين في ذلك العصر."
إن العمل الاجتماعي هو ما أجرى تحويلا على الطبيعة لإنتاج الوسائل التي يعتمد عليها البشر في العيش. لذا فإن كمية العمل الاجتماعي المتجسدة في هذه الوسائل هي ما تشكل أساس القيمة في أي سلعة. يتحول العمل الحقيقي الملموس الذي يبذله الأفراد من خلال التبادل في مجتمع قائم على إنتاج السلع إلى جزء نسبي من عمل "اجتماعي" "متجانس" – أو من "عمل مجرد". ويطلق ماركس على العمل المجرد عبارة "جوهر القيمة" الذي يجد تعبيرا عنه في القيمة التبادلية ويحدد المستوى الذي يتذبذب حوله سعر السلعة في الأسواق:
"يعرف كل طفل أن أي أمة تتوقف عن العمل لو لأسابيع قليلة، ولا نقول عاما كاملا، سوف تنقرض. كما أن كل طفل يعرف أن كمية المنتجات التي تقابل كمية مختلفة من الاحتياجات تتطلب مقدارا مختلفا ومحددا كميا من العمل الإجمالي للمجتمع… والشكل الذي يؤكد نفسه من خلاله هذا التوزيع النسبي للعمل، في حالة مجمتمع يعبر ترابط العمل الاجتماعي فيه عن نفسه باعتباره تبادلا خاصا لمنتجات العمل الفردي، هو تحديدا القيمة التبادلية لهذه المنتجات. كل الأشكال المختلفة نوعيا من العمل الخاص، التي يقوم بها الأفراد مستقلين عن بعضهم البعض … يجري اختزالها باستمرار إلى العلاقات الكمية النسبية بالمقادير التي يحتاجها المجتمع.(12)
حاول الاقتصاديون النيوكلاسيك تطوير مفهوم للقيمة نابع من التقدير الذاتي للأفراد، بل إن بعضهم حاول أن يشمل العمل باعتباره "بلا منفعة" Disutility. وعلى النقيض، كان ماركس يرى القيمة شيئا موضوعيا، يشير إلى نسبة من إجمالي العمل الاجتماعي "متضمنة" فيه (13). ولكن لا تظهر ماهية هذه القيمة تحت الضوء إلا كنتيجة لتفاعل عشوائي متواصل بين السلع في الأسواق.(14) ويجبر النظام بمجمله تكويناته المنفردة على الاهتمام بكيفية ارتباط العمل الفردي الذي يستخدمه إحداها مع العمل المستخدم في أماكن أخرى.(15) ويطلق ماركس على هذه العملية حركة "قانون القيمة".
غير أن القيم لا تظل ثابتة دون تغيير. بل يجري تطبيق تقنيات جديدة باستمرار أو إدخال طرق جديدة في بعض أجزاء النظام، ما ينتج عنه تغيير في كمية العمل الضرورية اجتماعيا لإنتاج سلع بعينها – مما يؤدي إلى تغيير في قيمتها التبادلية. وتبقى القيمة الاستعمالية للسلع ثابتة حتى تلفها أو فسادها بفعل العمليات الطبيعية. لكن القيم الاستعمالية للأشياء – وهي القيم ذات الأهمية بالنسبة للنظام ككل – تتدهور كلما أدى التطور التقني في بعض أجزاء النظام إلى تخفيض كمية العمل الضروري لإنتاجها. وهذا ما يدفع ماركس إلى استنتاج مضاد بداهة تميز رؤيته للنظام – وهو استنتاج حتى بعض الماركسيين يواجهون صعوبة في استيعابه. زيادة الانتاجية تؤدي إلى انخفاض قيمة البضائع عند التبادل. ويبدو هذا الاستنتاج ساذجا في ظاهره. غير أن أمثلة عديدة تثبت أن زيادة الانتاجية تتسبب في تخفيض أسعار بعض السلع مقارنة بسلع أخرى. وقد ذكر ماركس واحدا من هذه الأمثلة في عصره:
"إن استخدام الأنوال الآلية في انجلترا ربما أدى إلى تخفيض كمية العمل الضرورية لتحويل كمية من الخيوط إلى قماش بمقدار النصف. النساجون الذين يستخدمون الأنوال اليدوية في الواقع كانوا يحتاجون إلى نفس وقت العمل السابق على ذلك؛ ونتيجة لكل ذلك كان إنتاجهم خلال ساعة من العمل يمثل بعد استخدام الأنوال الآلية نصف ساعة فقط من العمل الاجتماعي، وعليه انخفض إلى نصف قيمته السابقة."
يمكننا أن نضرب آلاف الأمثلة على ذلك اليوم، لأننا نعيش في عصر يشهد تقدما تقنيا أسرع كثيرا من عصر ماركس في بعض الصناعات مقارنة بغيرها (خاصة تلك الصناعات المتعلقة بإنتاج المشغلات الدقيقة microprocessors)، وكذلك فإن أسعار سلع مثل اسطوانات الفيديو، والتلفيزيونات، وأجهزة الكمبيوتر التي تنتجها صناعات تستخدم أكثر المعدات التكنولوجية تقدما تتجه نحو الانخفاض بينما أسعار سلع أخرى في صناعات تستخدم تقينات قديمة تظل ثابتة أو ترتفع. لهذه المسألة أهمية مركزية كما سنرى فيما بعد عندما نناقش ديناميات رأسمالية القرن الحادي والعشرين.
ومع تعميم الانتاج السلعي في مجتمع من المجتمعات يبدأ استخدام سلعة واحدة محددة حتى تعبر عن قيمة جميع السلع الأخرى، وهي النقود (ويسميها ماركس المعادل العام للقيمة). وكانت هذه السلعة في عصر ماركس عادة تتخذ من الذهب (أو أحيانا الفضة)، وكانت كمية معينة من الذهب (مثلا أوقية واحدة) تستخدم في إنتاجها كمية معينة من متوسط وقت العمل الاجتماعي يمكن أن تلعب دور المعيار لقيمة جميع السلع الأخرى التي تشترى وتباع. ومع تطور الرأسمالية كنظام، اكتشفت البنوك والحكومات أنها يمكن أن تستخدم الأوراق النقدية محل الذهب في كثير من المعاملات حتى تتخلى في النهاية عن الاعتماد عليه بالكلية طالما اعتقد الناس أن الآخرين يقبلون هذه الأوراق مقابل السلع (وتسمى تقنيا بـ "النقود الورقية"). كما أن الائتمان الذي تقدمه البنوك يمكن أن يؤدي نفس المهمة بالطريقة ذاتها طالما استمرت ثقة الناس في البنوك.
وكان لتطور الانتاج السلعي أثر هام في أنه أدى إلى تشويه منظم لإدراك الناس للواقع عبر ما أطلق عليه ماركس "الصنمية السلعية": "العلاقة بين المنتجين ومجمل عملهم تطرح أمامهم كعلاقة اجتماعية، لا تقوم فيما بينهم كمنتجين، وإنما بين منتجات عملهم... علاقة اجتماعية محددة بين الناس تتخذ، في نظرهم، شكلا خياليا لعلاقة بين الأشياء. وحتى نعثر على شبيه بذلك، يجب علينا اللجوء إلى المناطق التي يكسوها الغموض والضبابية في عالم الدين. ففي ذلك العالم، تبدو منتجات العقل البشري ككائنات مستقلة تتمتع بالحياة وتدخل في علاقات فيما بينها وكذلك بينها وبين العنصر البشري. كذلك الحال في عالم السلع مع ما ينتجه الانسان بيديه."
يتحدث الناس عن "قوة النقود" كما لو أن قوتها لم تنتج عن العمل الإنساني الذي تعتبر النقود تعبيرا عنه؛ أو يتحدثون عن "متطلبات السوق"، كما لو أن السوق تمثل شيئا أكثر من مجموعة الترتيبات للربط بين المنتجات الملموسة لعمل مجموعات مختلفة من البشر. هذه الأفكار التي يلفها الغموض تدفع الناس إلى إرجاع الأمراض الاجتماعية لأسباب تتجاوز سيطرة البشر – وهي العملية التي أطلق عليها ماركس الشاب مصطلح "الاغتراب" والتي أطلق عليها بعض الماركسيين بعد ماركس مصطلح "التشيؤ". لكن مجرد فهم الحقيقة وراء هذه الضبابية في حد ذاته لا يعالج الأمراض الاجتماعية.
ويلاحظ ماركس أن مجرد الوصول إلى تفسير علمي لطبيعة المجتمع القائم لا يؤثر عليه تماما كما "استمر الغلاف الجوي نفسه بلا تغيير بعد اكتشاف الغازات التي يتكون منها الهواء." ولكن بدون النظر فيما وراء هذه الصوفية، لا يمكن القيام بتحرك واع لتغيير المجتمع. ومن هنا تنبع أهمية إدراك التمايز بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية وفهم القيمة على أساس العمل الضروري اجتماعيا.
الاستغلال وفائض القيمة:
إننا لا نعيش فقط في عالم يقوم على الانتاج السلعي. وإنما نعيش في عالم تتركز فيه السيطرة على معظم هذا الانتاج في أيادي قليلة نسبيا. ففي عام 2008، كانت مبيعات أكبر 2000 شركة في العالم تعادل حوالي نصف إجمالي الناتج العالمي. وإذا افترضنا أن مجلس إدارة كل شركة من الشركات متعددة الجنسية يضم عشرة أفراد، نجد أن مجرد 20 ألف شخص، من بين ما يزيد على ستة بلايين إنسان هم إجمالي سكان العالم، يمارسون سيطرة حاسمة على إنتاج الثروة؛ في الواقع، سيكون هذا الرقم أقل من ذلك بكثير لأن معظم هؤلاء الأشخاص أعضاء في مجلس إدارة أكثر من شركة واحدة.
وطبعا لا تقوم الشركات متعددة الجنسية وحدها بالإنتاج. فإلى جانبها يوجد عدد كبير من الشركات القومية متوسطة الحجم لم تبلغ بعد منزلة الشركات متعددة الجنسية، وبجانبها أيضا عدد أكبر من الشركات الصغيرة التي يزيد حجمها قليلا عن الشركات العائلية وتوظف لديها ربما اثنين من العمال. حتى مع أخذ كل ذلك في اعتبارنا، نجد أن نسبة صغيرة فقط من بين سكان العالم يسيطرون على وسائل الانتاج المستخدمة في إنتاج جزء كبير من ثروة العالم.
أما من لا يملكون ولا يسيطرون على وسائل الانتاج هذه، فلا خيار أمامهم، إذا أرادوا أن يتكسبوا عيشهم بما يتجاوز الحدود الدنيا التي تمنحها برامج الرعاية الاجتماعية، إلا أن يحاولوا بيع قدرتهم على العمل إلى من يسيطرون عليها. ويحصلون مقابل ذلك على أجر، بينما ينتجون سلعا تصبح ملكا خالصا لهؤلاء الذين يسيطرون على وسائل الانتاج. جانب من قيمة هذه السلع يستخدم لتغطية تكاليف أجور العمال، ويستخدم جانب آخر لتغطية تكاليف المواد الخام المستخدمة في الإنتاج، وجانب ثالث يستخدم في تغطية تكاليف استهلاك وسائل الانتاج. لكن جزءا آخر يمثل فائضا وهو أساس الأرباح التي يحصل عليها الملاك – والذي أطلق عليه ماركس "فائض القيمة"، ويطلق عليه بعض الاقتصاديين غير الماركسين مصطلح "الفائض".
وقد أوضح آدم سميث فعلا من أين يأتي هذا الفائض (لكنه لم يبق متماسكا على هذا الموقف) قائلا:
"في الحالة الأصلية، التي تسبق امتلاك الأرض ومراكمة المخزون، كان العامل يملك كل ما ينتجه عمله... ولكن بمجرد أن تصبح الأرض ملكية خاصة، يطالب مالك الأرض بحصة من الانتاج… ويخضع ناتج كل أشكال العمل الأخرى تقريبا لاستخلاص مماثل للربح. وفي جميع الصناعات والحرف، يقف الجانب الأكبر من العمال في حاجة إلى سيد يقدم لهم المواد الخام اللازمة للقيام بعملهم، وكذلك أجورهم ووسائل عيشهم حتى يكتمل العمل. ويحصل على حصة من منتجات العمل، أو في القيمة التي يضيفها عملهم إلى المواد الأولية التي قاموا باستخدامها؛ وفي هذه الحصة تتمثل أرباحه."
ينتج الربح إذن عندما تصبح الأراضي والأدوات والمواد اللازمة للإنتاج ملكية خاصة لقطاع من قطاعات المجتمع. ويكون هذا القطاع عندذاك قادرا على السيطرة على عمل الآخرين.
تبنى ريكاردو أفكار سميث وعمل على تطويرها. وفي سياق ذلك أشار إلى نقطة غموض محورية في كتابات سميث نفسه. فسميث يخلط فكرة أن العمل وحده هو ما ينتج القيمة بفكرة أخرى ترى أن الأرباح والريع وكذلك العمل تساهم في القيمة النهائية للسلعة. ولكن هذه الفكرة الأخيرة أصبحت بعد موته في عشرينيات القرن التاسع عشر العقيدة السائدة بين الاقتصاديين الداعمين للرأسمالية. فقد كان ذلك أيسر كثيرا في قبوله لدى المدافعين عن النظام القائم مقارنة بتبني فكرة أن الأرباح تتطفل على العمل.
غير أن ماركس كان يرى أن تطوير ريكاردو لآراء سميث هو وحده الذي يوفر الأساس لأي دراسة علمية لطريقة عمل الراسمالية. وقد أدرك مثل ريكاردو أن الزعم بأن الأرباح تنتج قيمة بشكل أو آخر قول سخيف في ضوء كون هذه الأرباح نفسها جزءا من القيمة التي جرى إنتاجها فعليا. ولكنه ذهب أبعد من ريكاردو كثيرا في توضيح وشرح المسألة وفي صياغة مضامين هذه النظرية. وكان أول تطوير قام به ماركس هو التفرقة بوضوح بين معان مختلفة طرحها سميث لمفهوم "قيمة العمل". فمن ناحية، يعني هذا المفهوم كمية العمل المطلوبة للحفاظ على العامل خلال الفترة التي يقوم فيها بعمله. يقول آدم سميث: "هناك مستوى محدد يبدو مستحيلا أن تنخفض عنه لفترة معتبرة الأجور العادية حتى لأدنى أنواع العمل. فضروري أن يعيش الإنسان من عمله، وضروري أن يكون أجره على الأقل كافيا لإبقائه حيا. بل إن أجره في معظم الأحوال يجب أن يكون أكثر من ذلك نوعا ما، وإلا سيكون مستحيلا عليه أن يعول أسرة، وسيستحيل أن يستمر جنس هؤلاء العمال أكثر من الجيل الأول."
ومن هذا المنطلق، فإن "قيمة العمل" هي قيمة الأجر الذي يحصل عليه العامل. لكن سميث يستخدم أيضا مصطلح "العمل" للإشارة إلى كمية العمل التي يؤديها العامل فعلا. وقد شدد ماركس على أن كميتي العمل هنا لا تتطابقان بأي وسيلة كانت. وأوضح أن العمل مثله مثل جميع السلع الأخرى من حيث أنه سلعة تشترى وتباع. ولكنه يختلف عنها جميعا لأن به خاصية مميزة عند استخدامه بأنه يؤدي عملا أكثر من الكمية الضرورية لإنتاجه. وفي الخمسينيات من القرن التاسع عشر، وضع ماركس مصطلحا جديدا صمم لتوضيح الفارق بين طريقتي استخدام مفهوم العمل عند سميث وريكاردو (وفي كتاباته الأولى) وضوحا تاما. وقال إن ما يدفع الرأسمالي ثمنه عندما يستخدم شخصا ما هو "قوة العمل" وليس العمل ذاته – أي أنه يدفع ثمن قدرة هذا الشخص على العمل لفترة معينة من الزمن. وتعتمد قيمة قوة العمل، مثل أي سلعة أخرى، على كمية العمل الضرورية لإنتاجها. ولا يستطيع العمال تقديم قوة عملهم إلا إذا حصلوا على طعام كاف، وكساء وسكن ووقت محدد للراحة إلخ الخ. وهي احتياجاتهم حتى يكونوا قادرين ومستعدين للعمل. وأجورهم يجب أن تغطي تكاليف هذه الاحتياجات – أي تكون مطابقة لكمية العمل الضرورية اجتماعيا لإنتاجها. وهذا ما يحدد قيمة قوة العمل.
وينبغي هنا ملاحظة أن ماركس لا يرى أن حد الكفاف وحده هو ما يحدد قيمة قوة العمل. وإنما كذلك ضرورة توفير حد أدنى من أجل تربية أطفال العمال لأنهم يمثلون الجيل الثاني من قوة العمل. وهناك أيضا عنصر "تاريخي ومعنوي" يعتمد على "العادات ومستوى الراحة" الذي اعتاد عليه العمال، وبدونه لن يستخدم العمال كل طاقاتهم ومهاراتهم في تنفيذ العمل وربما أيضا يتمردون ضد ذلك. وبهذه الطريقة يمكن للأثر التراكمي لنضالات العمال أن يؤثر على قيمة قوة العمل. فلم يكن ماركس، كما يزعم البعض أحيانا، مؤمنا بفكرة "القانون الحديدي للأجور"، الذي بمقتضاه لا يمكن أن يحصل العمال إلا على حصة محددة من الناتج القومي.
وأيا ما كان الأمر، فإن ما يستطيع العمال إنتاجه يزيد على كمية العمل الضرورية لتوفير الحد الأدنى لمعاشهم على الأقل – أي لإعادة إنتاج قوة العمل. وربما على سبيل المثال، نحتاج في المتوسط إلى أربع ساعات عمل يوميا لتوفير مستوى الاستهلاك الضروري لشخص ما حتى يكون قادرا على العمل ليوم كامل. ولكنه سوف يكون قادرا على العمل يوما من ثمان أو تسع أو حتى عشر ساعات. ويحصل صاحب العمل على كمية العمل الإضافية حتى تكون قيمة البضائع التي أنتجت في مصنعه دائما أكبر من استثماراته. وهذا ما يجعله قادرا باستمرار على تحصيل فائض القيمة، الذي يستطيع أن يحتفظ به لنفسه أو يمرره إلى أعضاء آخرين في الطبقة الرأسمالية في صورة فائدة أو ريع.
تتخذ العلاقة بين العامل وصاحب العمل مظهر العلاقة بين اثنين على قدم المساواة. فصاحب العمل يوافق على دفع الأجر، والعامل أو العاملة يقدم عمله في المقابل دون قسر أو إجبار. هذا الموقف في ظاهره مختلف تماما عن الوضع بين مالك العبيد والعبد، أو بين السيد الإقطاعي والقن. بل يتوافق مع نظام قانوني يقوم على "حقوق الإنسان"، وعلى مساواة جميع المواطنين أمام القانون. حتى ولو كانت المجتمعات البرجوازية القائمة فعلا تتباطأ في ترسيخ هذا النظام القانوني، فيبدو أنه محفور في بنيتها. ورغم ذلك، يخفي هذا المظهر السطحي من المساواة حقيقة من عدم المساواة أكثر عمقا. فصاحب العمل يستحوذ على المتطلبات الأولى لاشتراك العمال في عملية الانتاج الاجتماعي وحصولهم على وسائل المعيشة. والعمال "أحرار" بمعنى أنهم لا يضطرون إلى العمل لدى شركة بعينها أو رأسمالي فرد بعينه. ولكنهم لا يستطيعون الإفلات من اضطرارهم لمحاولة العمل لدى شخص ما. وكما يقول ماركس:
"يستطيع العامل أن يترك رأسمالي فرد قام بتأجير نفسه له في أي وقت يشاء....لكن هذا العامل، الذي يعد بيع العمل مصدره الوحيد لكسب معاشه، لا يستطيع أن يترك طبقة المشترين بأكملها، وهي الطبقة الرأسمالية، دون أن يتخلى عن وجوده. إنه لا يخص هذا أو ذاك من البراجوازيين الفرادى، وإنما يخص الطبقة البرجوازية."
إن مصدر فائق القيمة هو الفرق بين قيمة قوة عمل العامل والقيمة التي أنتجها العمل المبذول. وما أن يحصل صاحب العمل على هذا الفائض، حتى يمكنه الاحتفاظ به مباشرة كأرباح، أو يستخدمه في سداد الفائدة على أموال اقترضها لبناء المصنع، أو يدفع بها ريعا لمالك الأرض التي يقوم عليها المصنع. وسواء جرى تقسيم فائض القيمة إلى أرباح أو فائدة أو ريع فإن مصدره يظل العمل الإضافي الذي قام به العمال – أي استغلال أولئك الذين يملكون وسائل الانتاج لأولئك الذين لا يملكون. وما أن يحصل المالك على الأرباح، فإنه يستطيع استخدامه في بناء وسائل إنتاج جديدة، مما يزيد من قدرته أكثر على ابتزاز العمال ليعملوا لصالحه وبشروطه حتى يحصلوا على وسائل معاشهم. وهذه هي العملية التي تجعل صاحب العمل رأسماليا، كما أنها تمنح معنى خاصا لكلمة "رأس المال". فهذه الكلمة يستخدمها اقتصاديو التيار الرسمي السائد كما تستخدم في الحياة اليومية فقط بمعنى الاستثمار طويل الأجل في مقابل الاستهلاك الفوري. ولكن عندما تكون وسائل الإنتاج تحت سيطرة مجموعة واحدة في المجتمع تجبر المجموعات الأخرى التي تريد كسب معاشها على العمل لصالحها يكون له معنى أعمق. فقد أصبح رأس المال ناتجا عن العمل السابق وقادرا على التوسع عبر استغلال العمل الحالي. إنه كما يقول ماركس ليس شيئا، وإنما علاقة:
"إن العامل لا يملك عملية خلق القيمة وقوة تعزيز القيمة، وإنما يملكها الرأسمالي…فكل تطور للقوى الإنتاجية للعمل هو تطور لقوى إنتاج رأس المال. وعبر احتواء هذه القوة في ذاته، يصبح رأس المال حيا ويبدأ في العمل، كما لو أن الحب امتلك كيانه. ويصبح العمل الحي مجرد وسيلة للحفاظ على العمل المتجسد وزيادته."
الصوفية السلعية أصبحت الآن تتخذ شكلا يجعل الإبداع يبدو كامنا في منتجات عمل البشر وليس في الكائن البشري الحي نفسه، وهكذا يتحدث الناس عن أن رأس المال يخلق الثروة، وأن أصحاب العمل "يوفرون للناس فرص العمل"، بينما العمل في الواقع هو الذي يضيف إلى قيمة رأس المال والعامل هو الذي يقدم عملا إلى صاحب العمل.
فائض القيمة المطلق وفائض القيمة النسبي:
يميز ماركس بين طريقتين تستطيع من خلالها الشركات زيادة معدل فائض القيمة بالنسبة للأجور. إحداهما هي الطريقة الفجة بإطالة يوم العمل. وأطلق عليها مصطلح "فائق القيمة المطلق". وكانت هذه الطريقة في زيادة الأرباح واسعة الانتشار في السنوات الأولى للرأسمالية الصناعية، وقام ماركس بسرد أمثلة عديدة لها في كتابه رأس المال. لكن ماركس أيضا لاحظ في نفس الكتاب أن إطالة يوم العمل كثيرا ربما يأتي بنتيجة عكسية بالنسبة للرأسمالي:
"لابد حتما من الوصول إلى نقطة تبلغ فيها عمليتا إطالة يوم العمل وزيادة شدة العمل حد استبعاد إحديهما الأخرى، بطريقة تصبح عندها إطالة يوم العمل لا تتوافق إلا مع تخفيض شدة العمل. "
وهكذا، بعد أن مارست المصالح الرأسمالية الكبرى معارضة هائلة للمساعي المتتالية من أجل إقرار حد قانوني ليوم العمل بالنسبة للأطفال، استجابت هذه المصالح لضغوط الطبقة العاملة، واكتشفت أحيانا زيادة فعلية في الانتاج مع انخفاض ساعات العمل. وخلال معظم القرن العشرين، بدا أسلوب إطالة يوم العمل أسلوبا ينتمي إلى الماضي. وفي البلدان المتقدمة على الأقل أجبرت مقاومة العمال الرأسماليين على قبول تخفيض أسبوع العمل مع إجازات مدفوعة الأجر. وتراجع أسبوع العمل من 72 ساعة في العهد الفيكتوري إلى 48 ساعة ثم إلى 44 ساعة أسبوعيا.
غير أن عددا آخر من الطرق توافر لزيادة كمية فائض القيمة التي تؤخذ من كل عامل والتي أطلق عليها ماركس "فائض القيمة النسبي". وقد اعتمدت على تخفيض نسبة وقت العمل التي تستهلك في تغطية تكلفة إعادة انتاج قدرة العامل على العمل، أي إعادة إنتاج قوة العمل. وتتخذ هذه الطرق ثلاثة أشكال. الأول إدخال آلات جديدة في موقع العمل من أجل زيادة الإنتاجية وتخفيض كمية الوقت التي يستغرقها العمال في إنتاج السلع التي تستخدم حصيلة بيعها في تغطية أجورهم. ويترتب على ذلك أن تغطي ساعتان من العمل تكلفة قوة العمل بدلا من أربع ساعات مثلا، مما يعني إضافة ساعتي عمل إلى الوقت الخاص بإنتاج فائض القيمة. وقد اعتبر ماركس ذلك طريقة لزيادة الاستغلال لجأ إليها الرأسماليون عند مواجهة صعوبات إطالة أسبوع العمل في منتصف القرن التاسع عشر. وأصبحت إنتاجية العمال في الساعة ذات أهمية محورية بدلا من زيادة عدد ساعات العمل. غير أنها كانت مجرد وسيلة قصيرة الأجل بالنسبة للرأسماليين. فأول الرأسماليين الذين يدخلون الآلات الجديدة يكون قادرا على إنتاج نفس القدر من القيمة بعدد أقل من ساعات العمل. ومع قيام الرأسماليين الآخرين كذلك باستخدام آلات جديدة، ينخفض وقت العمل الضروري اجتماعيا للإنتاج ومع قيمة السلع التي يبيعها والزيادة في فائض القيمة التي يحصل عليها.
الشكل الثاني لزيادة فائض القيمة هو زيادة الإنتاجية في الصناعات والزراعة المنتجة للسلع الاستهلاكية. وفيه تنخفض كمية وقت العمل الضرورية لإنتاج هذه السلع وتنخفض الأسعار التي يضطر العمال لدفعها في شراء وسائل المعيشة. ومعنى ذلك أن التكلفة التي يتحملها الرأسماليون في أي مجال لتوفير مستوى المعيشة المعتاد للعمال (أي دفع ثمن قوة العمل) قد انخفضت، ويمكن زيادة كمية فائض القيمة التي يحصلون عليها دون تخفيض الأجور الحقيقية أو إطالة يوم العمل.
الطريقة الثالثة، هي تكثيف الضغوط على العمال لزيادة شدة العمل. وكما يوضح ماركس، فإن الطريقة الوحيدة "لتغيير الحجم النسبي" في وقت العمل الذي يحصل عليه الرأسمالي على حساب العمال دون تخفيض الأجور الحقيقية هي "إما تغيير إنتاجية العمل أو شدته". وكان هناك اندفاع لأن يفرضوا على العامل زيادة ما يبذله من عمل في وقت محدد وتعزيز توتر قوة العمل وأن يملأوا الثغرات في يوم العمل"، أو – مرة أخرى – "ما فقده الرأسماليون جراء تخفيض المدة يستردونه عبر زيادة توتر قوة العمل."
أصبح الاندفاع إلى زيادة الإنتاجية هوسا بالنسبة للشركات الكبيرة كما اتضح في حركة "الإدارة العلمية" التي أسسها الأمريكي ف.و. تايلور في تسعينيات القرن التاسع عشر. كان تايلور يرى إن كل مهمة في الصناعة يمكن تجزئتها وتقسيمها إلى مهام أصغر وتأقيتها من أجل تحديد أقصى ما يمكن للعمال إنجازه. وبهذه الطريقة يمكن القضاء على أي فراغات في إيقاع العمل، مع زعم تايلور بأنه يستطيع زيادة كمية العمل خلال يوم واحد بنسبة تصل إلى 200 بالمئة.
وجدت "التايلورية" التعبير الوافي عنها مع إدخال نظام خط التجميع في مصانع سيارات هنري فورد. فقد أصبحت سرعة العمال في القيام بعملهم تعتمد الآن على سرعة حركة خط التجميع بدلا من الاعتماد على دوافعهم الفردية. وفي صناعات أخرى تحقق تطبيق نفس الضغوط على الناس للعمل بأقصى سرعة عبر زيادة الرقابة من قبل المشرفين، على سبيل المثال، مع تركيب عدادات ميكانيكية على الآلات تؤشر إلى حجم العمل الذي تم انجازه. واليوم توجد محاولات لتطبيق نفس المنهج في عدد من وظائف العمال ذوي الياقات البيضاء مع زيادة استخدام الحساب والتقييم، ومحاولات ربط الأجر بالنتائج، واستخدام عدادات ضربات المفاتيح على أجهزة الكمبيوتر، وهكذا.
التراكم والمنافسة:
إن عالم الانتاج السلعي هو عالم المنافسة بين المنتجين. إن عنصر المنافسة هذا هو ما يميز مجتمعا قائما على الانتاج السلعي والقيمة التبادلية عن مجتمع يقرر فيه الأفراد أو الجماعات ما هي القيم الاستعمالية الواجب إنتاجها لتلبية استهلاكهم الخاص. فعبر التبادل، ترتبط الجهود التي يبذلها من يعملون في وحدة إنتاجية ما بجهود ملايين أو أفراد آخرين يعملون في وحدات أخرى، لكن هذا الارتباط لا يتم إلا عبر المنافسة بين من يتخذون القرارات المتعلقة بالإنتاج في كل وحدة منفصلة. وبعبارة إنجلز يوجد "إنتاج اجتماعي ولكن بملكية رأسمالية". ولذلك، فإن الشركة الرأسمالية التي تستغل العامل تنخرط بالضرورة في المنافسة مع شركات رأسمالية أخرى. وإذا لم تستطع التفوق عليها في المنافسة فسوف تجبر على الخروج من السوق. ومعنى أن تتفوق في المنافسة أن تحتل الصدارة في تطوير مزيد من التقنيات الإنتاجية الجديدة – وبهذه الطريقة فقط يمكنها أن تتأكد أنها لن تدفع خارج النشاط من قبل منافسين ينتجون ويبيعون سلعا أرخص مما تستطيع. وهي لا تستطيع أن تضمن القدرة على تحمل تكلفة المعدات الجديدة التي تستخدم هذه التقنيات إلا إذا بلغت أرباحها أعلى مستوى ممكن. ولكنها لو رفعت أرباحها حتى تصبح قادرة على إعادة استثمارها، فإن منافسوها مضطرون لذلك أيضا.
إن حقيقة أن كل شركة تنغمس في استغلال العمل المأجور تعني أن أيا منها لا تجرؤ على أن تركن إلى الراحة رضا بما تم إنجازه. فمهما بلغ نجاح الشركة في الماضي، فإنها تعيش في ذعر من قيام شركة منافسة في استثمار أرباحها في بناء مصانع جديدة وآلات أحدث. فلا يجرؤ أي رأسمالي على التوقف لفترة من الزمن لأن معنى ذلك أنه سيتخلف وراء منافسيه. والتخلف عن المنافسين سوف ينتهي به إلى الإفلاس. وهذا هو ما يفسر دينامية الرأسمالية. الضغوط التي يتعرض لها كل رأسمالي حتى يظل متقدما على الآخرين تؤدي إلى التحديث المستمر للمصانع والآلات. وهكذا، لا تصبح الرأسمالية مجرد نظام لاستغلال عمال مأجورين "أحرار"، وإنما أيضا نظام التراكم الإجباري.
يوضح البيان الشيوعي الذي كتبه ماركس وإنجلز في أوائل عام 1848 أن: "البرجوازية خلال سيطرتها التي لم تتجاوز المائة عام خلقت قوى إنتاجية تفوق في ضخامتها وعددها ما أوجدته كل الأجيال السابقة مجتمعة." وقد شدد البيان على التحول المتواصل في الصناعة في ظل الرأسمالية: "إن البرجوازية لا تستطيع البقاء دون تثوير مستمر لوسائل الإنتاج ... إن التثوير المستمر للإنتاج يميز عصر البرجوازية عن كل العصور السابقة."
وفي رأس المال، يكشف ماركس أن هذا الاندفاع المستمر نحو بناء صناعة أكبر فأكبر هو الطابع المميز للرأسمالية: "إن الرأسمالي، منهمكا في هوس بجعل القيمة تتوسع ذاتيا، يدفع الجنس البشري بوحشية إلى الانتاج من أجل الانتاج ... إلى التراكم من أجل التراكم، والانتاج من أجل الانتاج." ويبدأ المجلد الأول من رأس المال بتحليل الانتاج من أجل السوق (أي الانتاج السلعي)، ثم يبحث فيما يحدث عندما يظهر العمل المأجور وتصبح قوة العمل سلعة، وينتهي أخيرا إلى بيان كيف ينشأ عن الانتاج باستخدام العمل المأجور عملية تراكم إجباري تتجاهل احتياجات الإنسان والرغبات الفردية.
رأس المال إذن لا يعرف فقط بالاستغلال (الذي حدث في كثير من المجتمعات السابقة على الرأسمالية)، وإنما أيضا باندفاعه الضروري نحو التوسع الذاتي. إن هذا الاندفاع نحو الانتاج والتبادل يؤدي إلى زيادة حجم القيمة التي تمتلكها الشركة الرأسمالية – وهي عملية استخدم بعض الماركسيين في وصفها مصطلحا جديدا هو "Valorization" (أو خلق القيمة – وهو في رأيي مصطلح ملتبس).
ولذلك فإن النظام ليس مجرد نظام للإنتاج السلعي، وإنما أيضا نظام للتراكم التنافسي. وهذا ما يضع حدودا ليس فقط لما يمكن أن يفعله العمال وإنما أيضا لما يمكن أن يفعله الرأسماليون. لأنهم إذا لم يحاولوا باستمرار استغلال عمالهم بأقصى ما يمكن عمليا، لن يستطيعوا امتلاك فائض القيمة الضروري وإنفاقه لتحقيق تراكم بنفس السرعة لدى منافسيهم. يستطيع الرأسماليون الاختيار بين طريقة أو أخرى في استغلال عمالهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يقرروا عدم استغلال عمالهم إطلاقا، أو حتى أن يستغلوهم بدرجة أقل مما يفعله رأسماليون آخرون – إلا إذا أرادوا الإفلاس. فهم أنفسهم يخضعون لنظام يمضي في مساره العنيد مهما كانت مشاعر فرادى البشر.
فائض القيمة، التراكم، ومعدل الربح
إن الآلات والمواد الأولية نفسها لا تنتج القيمة. واستخدام العمل البشري فقط هو ما يضيف إلى الثروة الطبيعية التي كانت موجودة في حالتها الطبيعية، واستمرار العمل البشري فقط هو ما يستطيع زيادة هذه الثروة أكثر فأكثر. فاستخدام العمل البشري في الماضي هو ما أوجد الآلات والمواد الأولية ولا يمكن لهذه الآلات والمواد أن تحل محله في إنتاج قيمة جديدة. ولكنها ضرورية حتى يتمكن العمل البشري من تحقيق متوسط مستوى الإنتاجية السائد في مجتمع محدد وفي زمن محدد. ويجب أن تتضمن القيمة النهائية للسلع المنتجة جزءا يغطي تكلفة الآلات والمواد المستخدمة في إنتاجها. وعندما تنتج إحدى الشركات قماشا باستخدام عمال للعمل على الأنوال الكهربائية التي تنسج الصوف، يجب أن يغطي سعر المنتج النهائي ليس فقط تكلفة قوة عمل العمال (أي أجورهم) ولا فقط أرباح الشركة، وإنما أيضا تكلفة الصوف وتكلفة إهلاك الأنوال الكهربائية. فإذا أمكن أن تستمر هذه الأنوال في العمل لمدة عشرة أعوام، فلابد أن تغطي المبيعات السنوية للقماش عشر تكلفتها كل عام – وهذا ما يطلق عليه المحاسبون تكلفة إهلاك رأس المال. أو، بتعبير آخر، إن العمل الذي يتجسد في قيمة هذا القماش لا يشمل فقط العمل الضروري اجتماعيا الذي بذله العمال مجددا، وإنما أيضا يشمل "العمل الميت" الذي استخدم في إنتاج الصوف وعشر قيمة الأنوال الكهربائية.
لهذه الأسباب، يرى ماركس إن الاستثمار الذي قام به الرأسمالي يمكن تقسيمه إلى جزئين، أحدهما يمثل الإنفاق على سداد أجور العمال، وهو ما أطلق عليه "رأس المال المتغير" – لأنه رأس المال الذي زاد قيمته باستخدام قوة العمل في العمل لخلق فائض القيمة خلال عملية الانتاج. والجزء الثاني يمثل الإنفاق على وسائل الإنتاج، وقد أطلق عليه ماركس "رأس المال الثابت" لأن قيمته الحالية انتقلت إلى قيمة السلع التي أنتجت دون زيادة – أي أن قيمته انتقلت فقط إلى المنتج النهائي. وفي حالة رأس المال الثابت المتجسد في أصول ثابتة (مباني المصنع والآلات الخ) يحدث انتقال القيمة على مدى عدة دورات للإنتاج، أما في حالة رأس المال الثابت المتجسد في أصول متداولة (مواد خام، وطاقة ومكونات) تنتقل القيمة في دورة إنتاج واحدة. يستخدم الماركسيون عادة حرف (م) للإشارة إلى رأس المال المتغير (رصيد الأجور المخصص لشراء قوة عمل العمال) وحرف (ث) للإشارة إلى رأس المال الثابت (المصنع، والمعدات والمواد الخام) وحرف (ف) للإشارة إلى فائض القيمة.
نسبة فائض القيمة إلى رأس المال المتغير (أي الأجور) هي النسبة بين الوقت الذي يعطيه العمال من يوم العمل لرأس المال مقارنة بالوقت الذي يعملون فيه لتغطية أجورهم – وهي تسمى أحيانا معدل الاستغلال. ويمكن تمثيل هذه النسبة بالمعادلة ف/م (فائض القيمة / رأس المال المتغير). ولكن بالنسبة للرأسمالي، فإنه لا يهتم فقط بنسبة فائض القيمة إلى الأجور، لأن استثماره ببساطة أكبر من مجرد الأموال التي ينفقها على الأجور. وهو يهتم بزيادة رأس المال ككل، وليس فقط رأس المال الذي ينفق على الأجور. ولذلك فإن ما يعنيه هو نسبة فائض القيمة إلى إجمالي الاستثمار – أي جملة الإنفاق على الآلات وخامات الإنتاج وعلى الأجور أيضا. وهذه النسبة هي "معدل الربح" التي وضع لها ماركس المعادلة "ف/(ث + م)" – فائض القيمة/(رأس المال الثابت + رأس المال المتغير). ومعدل الربح لا يتأثر فقط بنسبة فائض القيمة إلى الأجور، وإنما أيضا بنسبة الإنفاق على الآلات وخامات الإنتاج (رأس المال الثابت) إلى الأجور (رأس المال المتغير). وقد أطلق ماركس على هذه النسبة الأخيرة (ث/م) مصطلح "التركيب العضوي لرأس المال". ويختلف هذه التركيب من صناعة إلى صناعة ومن فترة إلى أخرى. فعمليات الإنتاج المختلفة يمكن أن تستخدم نفس كمية العمل ولكن تستخدم كميات مختلفة من المعدات والمصانع، تكلفة المعدات في مصنع يستخدم ألف عامل لصناعة الملابس من القماش تقل عن تكلفة المعدات لمصنع يستخدم نفس عدد العمال لصهر خام الحديد وتحويله إلى صلب. ولهذه الحقيقة آثار هامة على دينامية الرأسمالية. فما يدفع عجلتها لا يقتصر على الاهتمام بنسبة فائض القيمة إلى الأجور، وإنما أيضا الاندفاع نحو زيادة والحفاظ على نسبة فائض القيمة إلى إجمالي الاستثمار بمختلف مستوياته. وهذه النقطة سوف نحتاج إلى الرجوع إليها مرارا.
التراكم البدائي
نحن نتعامل حاليا مع واقع شراء وبيع قوة العمل كأمر بديهي، يبدو "طبيعيا" مثل شروق الشمس وغروبها. لكن ذلك لم يكن في أي مكان في العالم أكثر من ملمح هامشي ضئيل في أي مجتمع قبل بضعة قرون. هكذا كان لدى معظم الناس في أوروبا أواخر العصور الوسطى، أو في إفريقيا وآسيا في عهد الاستعمار الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، على الأقل فرصة الحصول على وسائل كسب معاشهم – حتى وإن كانوا يضطرون إلى تقديم حصة من إنتاجهم إلى ملاك الأراضي الطفيليين. كان بإمكان الفلاحين زراعة الغذاء على أراضيهم الخاصة وبإمكان الحرفيين صناعة المنتجات في ورشهم الصغيرة الخاصة. هذه الأوضاع غيرها وفقا لماركس عملية نهب وسلب ابتدائية - أي استخدام القوة في نزع جماهير الناس عن أي سيطرة على وسائل الإنتاج. جرى ذلك في أغلب الأحوال بقوة الدولة وبتوجيه من بعض أكثر الجماعات تميزا في المجتمع. في انجلترا وفي ويلز مثلا تواكب صعود الرأسمالية مع عملية "التسييج" – أي طرد الفلاحين بالقوة من الأراضي المشاعية التي كانوا يزرعونها منذ قرون. ثم أجبرت القوانين ضد "التشرد" الفلاحين الذين نزعت حيازاتهم على البحث عن عمل بأي أجر يمكنهم الحصول عليه. وفي اسكتلندا كان لعمليات "التطهير" نفس الأثر، حيث قام كبار ملاك الأراضي بطرد صغار الفلاحين من الأرض حتى يستبدلوهم أولا بقطعان الأغنام ثم بالغزلان. ومع انتزاع الحكام البريطانيين إمبراطورية لأنفسهم تمتد في مختلف أرجاء العالم، اتخذوا اجراءات لإحداث نفس الانفصال بين جمهرة الناس وبين السيطرة على وسائل كسب معاشهم. ومثال ذلك، أنهم في الهند منحوا ملكية كاملة للأرض لطبقة الزامندار (جباة الضرائب) التي كانت تحظى فعلا بامتيازات عالية. وفي شرق وجنوب أفريقيا، قام البريطانيون عادة بإجبار كل عائلة على دفع مبلغ محدد من المال، ضريبة رأس، والتي لم تكن العائلات تستطيع سدادها إلا عبر إرسال بعض أفرادها للبحث عن عمل لدى الأوروبيين من كبار أصحاب المزارع أو رجال الأعمال.
أطلق ماركس على هذه العملية من تهيئة الظروف لنمو الانتاج الرأسمالي "عملية التراكم البدائي لرأس المال". ويشرح لنا ماركس كيف:
"أن اكتشاف الذهب والفضة في أمريكا، واستعباد وإبادة السكان الأصليين ودفنهم في المناجم، وبداية غزو ونهب الهند الشرقية، وتحويل إفريقيا إلي ساحة لاصطياد أصحاب البشرة السوداء والاتجار بهم، كل ذلك ميز الفجر الوردي لعصر الانتاج الرأسمالي.... "
لكن هذه الأعمال في ذاتها لا يمكن أن تؤدي إلى نظام الانتاج الرأسمالي. فعلى أي حال، كان النهب والسلب بطريقة أو بأخرى موجودا على مدار تاريخ المجتمع الطبقي، ممتدا في الزمن حتى العصور البابلية، دون أن يؤدي إلى التراكم السريع الذي يميز الرأسمالية. وكان ضروريا فصل جماهير الناس بالقوة عن أي سيطرة على وسائل الانتاج – وبالتالي عن أي إمكانية لكسب معاشهم دون بيع قوة عملهم: "إن حرمان المنتج الزراعي، الفلاح، من حيازة الأرض هو أساس هذه العملية برمتها." ولهذا السبب، يمكن أن تكون الإشارة إلى أي استيلاء على الثروة بالقوة من قبل الرأسماليين "كتراكم بدائي" إشارة مضللة.
فلهذه العملية في كتابات ماركس بعدان: فهي من ناحية تمثل "تحريرا" لجمهرة السكان من أي استحواذ مباشر على وسائل إنتاج معاشهم؛ ومن ناحية أخرى مراكمة الثروة من قبل طبقة معينة يمكنها أن تستخدم الضرورة الاقتصادية حتى تجعل هؤلاء "العمال الأحرار" يكدحون لصالحها.
ومع ترسيخ الرأسمالية لأقدامها، دفعت آلياتها الاقتصادية الخاصة عملية فصل الناس عن السيطرة على وسائل الإنتاج أكثر فأكثر، دون الحاجة إلى تدخل الدولة أو استخدام القوة لتحقيق هذا الانفصال. هكذا، كان في بريطانيا أواخر القرن الثامن عشر مئات الآلاف من النساجين الذين يستخدمون الأنوال اليدوية ويعملون لحسابهم الخاص في نسج الأقمشة وبيعها. وقد أخرجت الشركات الرأسمالية التي تستخدم الأنوال الآلية كل هؤلاء من النشاط في غضون خمسين عاما. وفي أيرلندا في أربعينيات القرن التاسع عشر، حدثت مجاعة فظيعة بسبب إلزام الفلاحين الجوعي بدفع ريع إلى ملاك الأرض (وأغلبهم بريطانيون)، وأدت إلى موت مليون إنسان جوعا فيما أجبرت مليونا آخر إلى التخلي عن حيازاتهم والبحث عن عمل في بريطانيا وفي الولايات المتحدة. وتمكنت آليات السوق من تحقيق هذه الفظائع دون مساعدة مباشرة من الدولة (فيما عدا طبعا قيامها بحماية ملكية الاقطاعيين). وأصبحت الرأسمالية نظاما يقوم ويتوسع ذاتيا وقدرها أن تبتلع العالم كله داخل آلياتها.



#رمضان_متولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوجه الآخر لتركيا أردوغان … فقر وسلطوية وتوزيع ظالم للثروة
- الديمقراطية بين الوهم والواقع
- ارتفاع الدولار: مؤامرة الثورة المضادة
- الإسلاميون والفلول – صراع الأخوة الأعداء على كعكة السلطة
- في انتظار أن يسقط النظام
- جماهير تنتصر للثورة، وثوريون يهزمون أنفسهم!
- ترشيح الشاطر: مناورة أم صفقة أم محاولة بائسة لغسيل اليدين وت ...
- قطار الثورة يفضح أعداءها تحت القبة
- الثورة المصرية وخطر الفاشية
- الثورة المصرية مستمرة والتنظيم ضرورة لمواجهة أعدائها
- لا شيء تغير في بر مصر
- -أكان لابد يا لي لي أن تضيئي النور؟- شكرا يوسف إدريس!
- هل الماركسية فلسفة حتمية؟
- لعبة السياسة وإهدار الحقوق في معركة القضاة والمحامين
- حتى وإن كان -نجيبا-
- سفاحون ومنافقون وسماسرة
- معضلة التغيير في مصر أكبر من غرور النخبة وأحلامها
- الضحايا المجرمون وسلطان الزمان
- وطن الدكتور نظيف
- مؤسسة الفساد: -كل ناسها بياعين-


المزيد.....




- اخترقت غازاته طبقة الغلاف الجوي.. علماء يراقبون مدى تأثير بر ...
- البنتاغون.. بناء رصيف مؤقت سينفذ قريبا جدا في غزة
- نائب وزير الخارجية الروسي يبحث مع وفد سوري التسوية في البلاد ...
- تونس وليبيا والجزائر في قمة ثلاثية.. لماذا غاب كل من المغرب ...
- بالفيديو.. حصانان طليقان في وسط لندن
- الجيش الإسرائيلي يعلن استعداد لواءي احتياط جديدين للعمل في غ ...
- الخارجية الإيرانية تعلق على أحداث جامعة كولومبيا الأمريكية
- روسيا تخطط لبناء منشآت لإطلاق صواريخ -كورونا- في مطار -فوستو ...
- ما علاقة ضعف البصر بالميول الانتحارية؟
- -صاروخ سري روسي- يدمّر برج التلفزيون في خاركوف الأوكرانية (ف ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - رمضان متولي - رأسمالية الزومبي – الفصل الأول: مفاهيم ماركس