أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد أيوب - الكوابيس تأتي في حزيران 13 / 14















المزيد.....



الكوابيس تأتي في حزيران 13 / 14


محمد أيوب

الحوار المتمدن-العدد: 1401 - 2005 / 12 / 16 - 04:30
المحور: الادب والفن
    


الفصل الثالث عشر
ـ 13 ـ

الميكرفون يعوي.. يتكرر العواء .. التقطته أذناه .. على جميع الرجال التجمع عند مستشفى ناصر ، على جميع الرجال التجمع عند مستشفى ناصر وكل من يبقى في البيت يعرض نفسه للخطر.. على جميع ار ر.. جال .. جال أن يتجم.. م م م عوا.. عوا .. عوا.. عند . إد إد إد .. مستشفى .. فى فى فى.. ناصر.. إر إر..إر.. كان شعره منفوشاً وعيونه ورّمها طول السهر ، فهل أطال النوم عمراً وهل قصر في الأعمار طول السهر.. لبس ملابس عادية من ملابسه القديمة ، حاول أن يبدو طبيعياً قدر الإمكان ، تمالك أعصابه وخرج بهدوء ، كان مقتنعاً أن الجنود لا يملكون من الأدلة سوى الشبهات ولن يعطيهم فرصة الاشتباه به ، سار بهدوء متجهاً إلى مستشفى ناصر في الناحية الغربية.. الجنود يملئون الشوارع على الجانبين يتفحصون الناس بعيون مستريبة ، تندفع الريبة والشك من عيونهم سهاما غادرة ، لا بد أنهم يعتقدون أننا جميعاً من الجنود استنادا إلى أقوال الإذاعات العربية ، وعند الزاوية الشمالية الشرقية لمستشفى ناصر كانت تربض دبابة من طراز ليوبارد.. كانت واطئة وماسورة مدفعها تتجه نحو الأرض التي يجلس فوقها الجمهور القرفصاء بينما كان رشاشها يتململ في مكانه ، يتحرك في قلق وتوجس ، والناس يتدفقون إلى المحشر فرادى وجماعات، يتكومون على بعضهم والجنود يتراطنون بلغات مختلفة ، الشفاه تتململ في صمت، آية الكرسي تتدفق على ألسنة الجميع دون استثناء ، همس رجل عجوز يجلس بجوار أحمد الفايز : " وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون " .. يا لطيف . يا لطيف ..يا لطيف.. اللهم حوالينا لا علينا ، ابتسم أحمد الفايز ، طاف بذهنه خاطر .. نحن كالمراكبي الذي لا يعرف الله إلا ساعة العاصفة ثم ينسى كل شيء بعد أن تهدأ ، وبعد ساعات من الصمت القاتل بدأت عملية فرز الموجودين وانتقاء بعض الأشخاص وأخذهم إلى مكان ما ، لابد أنهم سيقتلون من يأخذونهم كما فعلوا سنة ست وخمسين ، قال أحد المقرفصين في همس ، خشي أحمد الفايز أن يأخذوهم إلى المواقع العسكرية لجمع العتاد المتبقي بعد الهزيمة أو إلى حقول الألغام ليتفجروا بها، وفجأة لفت انتباهه جندي بنظارات طبية تجاوز الأربعين من عمره ، يسأل بعض الأشخاص أمامه عن اسم بلداتهم ، تابعه أحمد الفايز بعينيه وأذنيه ، وجده يطلب من كل من يعرف أن أصله من يافا أن يذهب إلى بيته ، قال الجندي لرجل عجوز عرف من لهجته أنه يافي : أنا من يافا وأحب يافا وأهل يافا ، لكنها الحرب فرضت علينا وعليكم ، نهض أحمد الفايز يحدوه أمل بالعودة إلى البيت ، لابد أن يعود إلى البيت للإعداد للمرحلة القادمة ، فالأسلحة موجودة ولا بد من انتظار اللحظة المناسبة للبدء بالكفاح المسلح ، لئن هزمت الحكومات فإن الشعوب لم تنهزم ، سأله الجندي عن اسم بلدته ، فقال له بصوت منخفض : يافا.
أمسك الجندي هويته ليتأكد من صدقه ، قرأ اسم يافا أمام كلمتي البلدة الأصلية ، أخبره الجندي أن يذهب إلى البيت ، فكر أحمد الفايز بسرعة البرق، لو عدت إلى البيت من الجهة الشرقية فإن الجنود الذين يجمعون من يأخذونهم من الشباب سيأخذوني معهم إلى المجهول ، وهو لا يريد الذهاب إلى المجهول ، لا بد أن يتجه غرباً نحو مدرسة مصطفى حافظ، ومن الشارع الموجود إلى الشرق منها ، بينها وبين مدرسة البنات الابتدائية ، يتجه إلى الشمال ، وعندما يصل إلى الشارع الذي يتوسط بلوك جي(g) يتجه إلى الشرق نفذ أفكاره بسرعة ، اتجه غرباً ، نادى عليه جندي آخر : تعال هون.
استمر في السير وكأنه لم يسمع، ناداه مرة أخرى : تعال هون يا خمار ، ولكنه لم يستجب للنداء ، سمع صوت الجندي اليافي يطلب منه أن يذهب ولم يعرف ماذا حدث بعد ذلك، وجد نفسه في البيت ، وعندما سأله الجيران عما يجري أخبرهم أنهم يطلقون سراح المعلمين وأنهم يأخذون من يشكون أنه جندي .
***
بعد ذلك ببضعة أيام عاد الغراب إلى النعيق من جديد .. على جميع الرجال أن يتوجهوا إلى شارع السينما.. على جميع الرجال أن يخرجوا من البيوت وأن يتوجهوا إلى السينما .. على جميع الرجال الخروج إلى الشارع وأن يضعوا أيديهم فوق رءوسهم وكل من يخالف يعرض نفسه للخطر، سمع أحمد الفايز صوت النعيق ولكنه بدلا من التوجه إلى السينما قرر التوجه إلى مكان آخر، لن أقع في المصيدة مرتين ، لقد أفلتّ مرة ومش كل مرة بتسلم الجرة ، والسينما أشبه بالقلعة .. آه يا محمد على ، هل تتكرر مذبحة القلعة ثانية في خان يونس ؟ وهل يمكن للإنسان أن يفلت من بين جدران هذه السينما .. سينما الحرية .. كيف يفكرون في تحويلها إلى سجن أو مقبرة جماعية ؟ حتى كلماتنا يريدون إفراغها من محتواها ، أن تصبح سينما الحرية سجنا أو مسلخاً يذبح فيه البشر ! هذا شيء لا يطاق.. لن أذهب إلى الموت بقدمي ، سأبتعد عن هذه المدينة اللعينة التي أصبحت مصيدة للرجال ، سأنام داخل خط الهدنة فهو أكثر المناطق أماناً ، أن تنام في بيت الوحش أو بالقرب منه يعني أن تشعر بالأمان فالوحش يبحث عن فريسته بعيداً عن بيته ، ولكن لابد من اصطحاب بعض الرفاق فذلك أدعى للأمان ، أرسل أخاه الصغير إلى عمه وابن عمه ليخبرهما بما قرره ولكنه وجد أن عمه وابن عمه قد توجها إلى السينما فقرر أن يأخذ معه ابن عمه الذي تنبأ بالهزيمة قبل وقوعها كما أخذ معه قريباً آخر، قرر أن يخرج من الجهة الشمالية للمعسكر ، توجه إلى جورة العقاد حيث يربض بلوك " إف" ، ولما اقترب من مدرسة عبد القادر الابتدائية من الناحية الغربية وجد بعض الزملاء يقفون على جانبي الممر الذي يتوسط المخيم فسألوه محاولين استطلاع الأخبار، قال لهم أحمد الفايز : اليهود ينوون عرض فيلم من أفلام الرعب في سينما الحرية ، سأله أحدهم :
ـ وهل يعقل أن يعرض اليهود فيلما في هذه الأيام ؟
رد أحمد الفايز باقتضاب : إذن خبرني لماذا يجمعون الناس في منطقة السينما يا فالح ؟
وتابع سيره دون أن يلتفت وراءه ، وبعد لحظات قطع الشارع المحاذي لمدرسة عبد القادر الابتدائية ومدرسة عز الدين القسام من الشمال وعبر مع مرافقيه أرض الوفية ، كانت طائرات الاستكشاف تحوم دون توقف ، تصوروها غرباناً تسعى إلى نهش لحومهم، في الطريق اعترضهم سياج بيارة يزيد ارتفاعه عن مترين ، تسلقوه بسرعة ، كانوا يحاذرون أن تراهم الطائرات المحلقة في الجو، لكن ثياب أحدهم علقت في السلك الشائك مما أضاع بعض الوقت في محاولة تخليصه من السلك ، توترت أعصابهم .. ماذا لو رأتهم طائرة الاستكشاف ؟ هل تطلق النار عليهم أم أنها توجه إحدى الدوريات إلى منطقة تواجدهم ، حاولوا الابتعاد عن المنطقة، دخلوا أحد المنازل عن طريق باب خلفي يفتح على البيارة التي كانوا يسيرون فيها ، وجدوا امرأة تقف في حوش المنزل ، تنحنح أحمد الفايز وهتف بصوت حاول أن يجعله هادئاً : دستور يا أهل الدار ، ردت المرأة : دستورك معك يا خوي ، تشجع أحمد الفايز: اعملي معروف ياختي شوفي لنا إن كان هناك يهود في الشارع ، استجابت المرأة لطلبه ، فتحت الباب المطل على الشارع ، ألقت نظرة فاحصة ، وعادت بعد لحظات تقول : لا يوجد أحد في الشارع .. بإمكانكم الخروج .. اطمئنوا ، أطل أحمد الفايز بحذر ، ألقى نظرة فاحصة على الشارع ، في مواجهته مباشرة شارع يؤدي إلى محطة السكة الحديد وإلى الشمال منه تربض الكتيبة مثل أسد جريح تنبعث منها رائحة الهزيمة ، قطعوا الشارع بسرعة متجهين إلى الشرق ، لم يكن أحمد الفايز يعلم أين يكمن الخطر ولكنه قرر المغامرة .. أن يموت وهو يتحرك أفضل من أن يموت بين أربعة جدران ، وبعد بضع عشرات من الأمتار انفتح باب إحدى البيارات فجأة ، أطل منه وجه شاب عرفه أحمد الفايز فورا .. إنه وليد أحد طلابه في مدرسة عبد القادر الإعدادية ، ناداه وليد : تفضل يا أستاذ .. ادخل بسرعة قبل أن تمر إحدى الدوريات فتراكم، دلفوا إلى البيارة بسرعة ، قال أحمد الفايز : لا نريد البقاء هنا ، أخشى أن يقوموا بحملة تفتيش أثناء الليل ، سأنام داخل خط الهدنة فهو أكثر المناطق أماناً في مثل هذه الظروف ، قادهم وليد بين أشجار البيارة ، كانت الشمس توشك على السقوط في بحر الظلمات من جديد ، الظلال تمتد بتراخٍ على الأرض وكأن النور أصابه نعاس فجائي ، من ثغرة في سياج البيارة خرجوا ليجدوا أنفسهم وقد تمدد خط السكة الحديد كجريح حرب يحتضر، تجاوزوا خط السكة الحديد بمحاذاة أرض أبي جميزة ، وصلوا إلى الأسفلت الشرقي، انبطح الوادي الصغير أمامهم، قطعوا الأسفلت الشرقي متجهين إلى الوادي، مجموعة من الدبابات والمجنزرات تهدر بتبجح وتتجه من الشمال إلى الجنوب ، اقتربت العربات منهم ، انبطحوا فوق أرض الوادي، مرت المجموعة وهي تثير عاصفة من الغبار ساعدت على التمويه عليهم.
***
رافقه " أبو علي " وهو أحد الفدائيين الذين عملوا مع الشهيد مصطفى حافظ ، كان يقف عند باب منزله عندما رآهم يهمون بمغادرة المعسكر، نادى على أحمد الفايز : خذني معك يا خوي .. الموت مع الناس رحمة .
كان طويلاَ بشكل لافت للنظر ، لوحت بشرته الشمس ، فأكسبتها صرامة وحدة، أما جسده فكان نحيفا يساعده على الحركة السريعة، بينما ترهل جسد ابن عمه فأفقده لياقته التي اكتسبها أثناء خدمته في الجيش ، وافق أحمد الفايز على طلب الفدائي بإيماءة من رأسه ، شعر أنه غارق في بحر من الحيرة ، ولعله أدرك سر حيرته، إنها الصدمة التي أصيب بها الجميع بعد الهزيمة ، كان أبو علي يهيئ نفسه للعمل خلف خطوط العدو ، فإذا به يجد نفسه محصوراً بين جدران المخيم ، يخشى أن تكتشفه الغربان فتنهش لحمه انتقاما وحقداَ، كانت الغربان تحقد على الشهيد مصطفى حافظ وكل من عملوا معه ، كان أبو علي يبحث عن قشة يتعلق بها ، وها هي القشة تأتيه ، أحمد الفايز ابن مدينته يافا يمر أمام باب منزله ، لم يكن منزل أحمد الفايز يبعد كثيراً عن منزل أبي علي، كانوا جيراناً كما كانوا أصدقاء ، كم أشعر بالراحة عندما أرى أحمد الفايز ، أجد عنده الرأي عندما يعز الرأي، والعون عندما يشتد الضيق ، والآن عندما يحاصرني القلق والخوف أجده أمامي وكأننا على موعد ، لعله القدر يريد لنا أن نموت معاً أو أن نعيش معاً ، لم أشعر بالخوف والرهبة مثلما أشعر الآن ، لم أكن أتصور أن الفدائي يمكن أن يشعر بالخوف ، ومع ذلك أرتجف من أعماقي ، تكاد تخنقني عزلتي وخوفي ، قمت بعمليات كثيرة وراء خط الهدنة، واجهت الموت بابتسامة ساخرة ، لم أكن أكترث بهذا الشيء الذي يسمونه موتاً ، فقد كنت أحمل سلاحاً وأثق بهذا السلاح ، وأنا الآن أعزل ، أقف مجرداً من كل شيء إلا من إيماني بالله ، " يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " .. لم أخش الموت يوم حوصرت ضمن مجموعات الفدائيين التي أقضت مضاجعهم فحاولوا أن يقطعوا علينا الطريق ، ولكنا خرجنا رغماً عن أنوفهم ولم نخسر أي مقاتل ، استطعنا أن نكسر الطوق وأن نخرج سالمين، كانت كلمة فدائي تزرع الرعب في قلوبهم وتهز نفوسهم من الأعماق.
***
كانت المنطقة التي يسيرون فيها هادئة ، وكأن الناس يعيشون على سطح كوكب آخر، لا يسمعون نعيق الغربان ، ولا يدركون ما يجري في خان يونس.. سينما الحرية .. الناس يجرون في الشارع وأيديهم فوق رؤوسهم ، أمواج بشرية تتدفق باتجاه سينما الحرية من جميع أنحاء المدينة ، والجنود يصطفون بأسلحتهم المشرعة ، أصابعهم على الزناد وفوهات بنادقهم تنظر بغباء إلى صدور أولئك الذين يضعون أيديهم فوق رؤوسهم ولا يدرون ما يخبئه لهم القدر .. مذبحة .. أسر.. أو أن يطلبوا منهم أن يجمعوا الأسلحة التي خلفتها الهزيمة ، وقد يدفعون بهم إلى حقول الألغام فيضربون عصفورين بحجر واحد.. الهدوء هنا قاتل ، ربما لا نحتاج إلى قضاء ليلتنا وراء خط الهدنة ، وفي طريق ترابي يفصل جنوب غرب بني سهيلا عن منطقة القرارة التقى مع أحد أصدقائه ، صافحه بحرارة : الحمد لله على السلامة يا أحمد .. كيف الأحوال في البلد ؟ وهل جميع الأصدقاء بخير ؟ .. وكأنه تذكر شيئاً : على فكرة.. ما الذي جاء بك إلى هنا وإلى أين تتجه ؟ اغتصب أحمد الفايز ابتسامة ذابلة : لقد طلبوا من جميع الرجال أن يتوجهوا إلى سينما الحرية ، والحقيقة أنني قررت ألا ألدغ من نفس الجحر مرتين ، فقد جمعونا عند مستشفى ناصر .. أخذوا بعض الشباب بعد أن قتلوا شابا لأنه رفع رأسه خلافاً للأوامر التي كانت تطالبهم بأن يطأطئوا رؤوسهم، أطلق عليه أحد الجنود رصاصة ، تدفق الدم نافورة من رأسه وأصاب رشاش الدم الذين جمدهم الخوف فازدادوا التصاقا بالأرض ، وبعد ذلك تم نقلهم إلى معسكر للأسرى في بئر السبع ، لم أشأ أن أتعرض لنفس الموقف مرتين ولا أريد أن أصبح قرباناً على مذبح مزاج جندي سادي ، إن كان لا مفر من الموت فلأمت واقفا رافع الرأس ، لذلك قررت أن أقضي ليلتي أنا والزملاء خلف خط الهدنة حتى تستقر الأمور فنقرر الخطوة التالية .. المقاومة .
عرض عليه الصديق أن يستضيفه عنده:
ـ ما رأيك أن تقضي هذه الفترة معنا في البيارة ؟ نعيش معاً أو نموت معاً ، والدنيا صيف فلن تثقلوا علينا .
تردد أحمد الفايز في قبول الطلب ، لكن إلحاح صديقه ونظرات مرافقيه دفعته إلى قبول العرض ، لتكن القرارة محطتنا المؤقتة حتى تتضح الأمور.
بدأت الشمس رحلة الإياب إلى خدرها وكأنها لم تعد تستطيع رؤية ما يجري على الأرض فانسلت من أصابع النهار لتتلفع بعباءة الليل البهيم عله يحجب عنها ما تشاهده من مآسٍ ، اندلق الليل سائلا أسود أغرق الكون بطوفان من بحر الظلمات ، وفي البيارة لم يسمعوا سوى نقيق الضفادع، كانوا يخشون السوابح من الأفاعي والثعابين ، ظلوا متيقظين حذر المفاجئات ، وفي حوالي منتصف الليل سمعوا جلبة على الطريق الرئيسية غرب القرارة ، أصاخوا السمع .. رطن غريب يمزق أحشاء الليل ، كان الرطن أشبه بالعواء ، حاول الفدائي أبو علي التقاط بعض الكلمات التي تتنثر في الهواء، كانوا يخشون أن يكونوا قد اكتشفوا أمرهم ، وأنهم ذهبوا إلى حتفهم بظلفهم ، طمأنهم أبو علي: يبدو أن إحدى سياراتهم قد أصابها العطب وهم يقومون بإصلاحها ، استمرت الأصوات الغريبة أكثر من ساعتين والبعض يبسمل ويحوقل ويقرأ الآيات التي يعتقد أنها ستدرأ شرهم.. " وجعلنــا من بين أيديهم ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصـرون.. "
" بسم الله الرحمن الرحيم .. الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ، له ما في السموات وما في الأرض ، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلا بما شاء ، وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم .." وجاءهم صوت أبي علي واثقا : لقد انتهوا من إصلاح آليتهم وقد طلب منهم قائدهم أن يتحركوا ، هل تسمعون.. إنه يقول لهم ساع (تحرك بالسيارة) ومع ذلك لم يعرف النوم طريقاً إلى عيونهم ، ظلوا ساهرين يتجاذبون أطراف الحديث همساً خشية الآذان المتلصصة.
وبعد ثلاثة أيام قضوها في القرارة قرروا العودة إلى المدينة بينما قرر أبو علي أن يتجه إلى الأردن ، فلم يعد له مكان هنا، قد يكتشفون أمره ويقتلونه ، ومغامرة البقاء هنا غير محمودة العواقب.. أنتم تستطيعون أن تخدموا بوجودكم هنا أكثر مني.. الجميع هنا يعرفون أنني كنت فدائياً ، وقد يتفوه أحدهم بذلك عن غير قصد ، ونحن محتاجون إلى من يتحرك ضدهم في الخارج ، افترقوا عنه ودعاؤهم له بالسلامة والتوفيق يلاحقه .
المدينة تبدو شاحبة والمخيم ما زال يلعق جراحاته ، شعر أحمد الفايز بعظم المسئولية الملقاة على كاهله وكواهل الأخوة والرفاق.. آه يا هذا الجرح الغائر .. أما لك من شفاء ؟ ألا تلتئم فتريح وتستريح ؟ أما من سلام على هذه الأرض ؟ المجد لله في الأعالي وللناس المسرة وعلى الأرض السلام.. وعلى الأرض السلام ، لا بد أن يأتي السلام يوما على هذه الأرض ، لابد لشلال الدم أن يتوقف ، ولكي يتوقف هذا النزيف القاتل لابد لنا أن نقاوم رغبتهم في ذبحنا ، لابد أن نقتل الحقد في نفوسهم ، لا بد أن نقتلع عقدة الشك والخوف من أعماقهم ، لابد أن نحطم أسوار الغيتو النفسي .. تلك الدرقة الهشة التي يعتقدون أنهم يحتمون بها ، لقد سقطت عقلية الغيتو وسيجدون أنفسهم وجها لوجه مع بحر البشرية المتلاطم الأمواج .

الفصل الرابع عشر

ـ 14 ـ

بعد العودة من المواصي، كان شبح الحرب ما يزال مخيماً على المنطقة ، سكان المخيم ينقلون جثث القتلى الذين حصدتهم شظايا دانات المورتر ، كانوا ينقلون الجثث فوق العربات التي تجرها الحمير ، الروائح النتنة تملأ الهواء ، الجميع يودون أن يتخلصوا من أولئك الذين كانوا أعزاء عليهم قبل بضعة أيام ، يسدون أنوفهم اتقاءً للرائحة المنبعثة منهم، المعدة تجتاحها رغبة متسلطة في القيء ، عربة يجرها حمار يحث الخطى وكأنه يود التخلص بسرعة من الجثث الملقاة بعفوية فوق العربة التي يجرها ، كانت ثلاث جثث، تتدلى أرجلهم عند مؤخرة العربة ، ربما كانوا ثلاثة أخوة ، دارت الرؤوس مبتعدة عن هذا المشهد بينما امتدت الأصابع بحركة لا إرادية إلى الأنوف تغلقها ، رجل يسير متثاقلاً إلى جانب العربة ممسكاً بيده اليمنى رسن الحمار ، بينما يهوب بعصا بيده اليسرى نحو الحمار حاثاً إياه على سرعة التخلص من هذا الحمل الكريه .
رائحة النتن تمتزج بالحكايات التي ولدت في رحم بيوت المخيم لتحلق في فضاءاته ، تتطاير الحكايات هنا وهناك ، هناك شهداء مجهولون ، ربما كانوا من أخوتنا المصريين، لقد دفنوا سبعة منهم في قبر جماعي في الساحة الموجودة جنوب شرق مستشفى ناصر ، تضاء الشموع فوق القبر كل ليلة ، يضيئها مجهولون تكريما لهؤلاء الشهداء الذين قضوا بعيدا عن أهلهم ووطنهم، الوطن والناس والأرض ، قبل أقل من خمسين عاماً لم تكن هناك حواجز ، كان جدي ينتقل من مكان إلى آخر في هذا الوطن دون عقبات، والآن تمزق الوطن إلى أوطان، أصبح لهم وطن يختلف عن وطننا المستباح، مات ثلاثة من الأساتذة المصريين في ملجأ مغطى قرب جامع المخيم ( مسجد بلال)، نفس المكان الذي مكثنا فيه للحظات وخشيت أن تطلق علينا إحدى دباباتهم النار، خرجت بسرعة ، لاحقني الهاجس المرعب ، أن يختار الإنسان قبره بمشيئته ، جاء الأخوة المصريون بعد خروجنا بلحظات ، وكأن الدبابة كانت تترصدهم ، " يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة.." لا إله إلا أنت يا رب ، يا من تفرق بين الحي والميت فلا يلتقيان، كل الأمكنة تنفث رائحة الموت والدمار، المهانة تسير في الشوارع دوريات راجلة ومنقولة .. كله بليرة يا خواجة .. بليرة يا جيفيريت (سيدة) .. أناشيد الدوريات المنتصرة ونباحهم يزكم الآذان .. محمد مات ، خلف بنات .. محمد مات خلف بنات.. خبيبي .. عندك كولونيا مصري ، عطور باريس ، السياح الإسرائيليون يملئون الشوارع ويشترون كل شيء ، بدأت المحلات تقفر من بضائعها، أصبحت الأرفف خالية من معظم البضائع .. الزيوت النباتية ، السمن والسكر والأرز والأقمشة المصرية ، بدأ التجار يدركون أبعاد اللعبة ، اليهود سدنة المال في العالم، يحلبون النملة ، استنزفوا البضائع من محلاتنا التي أصبحت خاوية على عروشها لتبدأ عربات بضائعهم جوب الشوارع عارضة ما لديهم ، تردد التجار في شراء البضائع الإسرائيلية فقام الإسرائيليون بتزوير البضائع كي يخدعوا المستهلك العربي ، زورا سمنة نصف القمر وغيرها من البضائع، وأمام الشح في بضائعهم اضطر التجار والمستهلكون إلى التعامل مع البضائع المزورة متغاضين عن اكتشافهم هذا التزوير ، وشيئاً فشيئا كان تعاملهم بهذه البضائع يزداد والضجيج يزداد في الشوارع .. محمد مات.. خلف بنات .. محمد مات .. خلف بنات .. بنات يا أولاد ال...... سترون إن كنا بناتاً.
***
كان أحمد الفايز قد احتاط لمثل هذا اليوم بحفظ بعض الأسلحة وإن لم تكن كافية ، كان الغضب نيراناً تتقد في النفوس ، أصبحنا بناتاً في نظركم ، سترون أننا لسنا كذلك وستندمون على اليوم الذي دخلتم فيه قطاع غزة ، كان الناس يحاولون التخلص مما لديهم من الأسلحة بأبخس الأثمان ، وهذه فرصتنا ، نشتري السلاح الآن ونخزنه إلى أن تحين ساعة العمل، كلاشنات ، ( آر. بي . جي)، نصف آلي، ديكتريوف ، جرينوف ، ألغام ، قنابل يدوية ، كارل جوستاف، لا تضعوا بيضكم في سلة واحدة ، قال أحمد الفايز ، احفظوا الأسلحة في أكثر من مكان احتياطا من المفاجئات ، الآن يمكننا أن نلقنهم درساً ، أولاد الميتة هؤلاء ، رحمك الله يا أبي كنت تكره رؤيتهم ولعل هذا هو سبب موتك قبل مجيئهم بفترة قصيرة ، كأنك كنت تدرك ما سيحدث ففضلت الموت على أن تراهم وتسمع هتافاتهم .. محمد مات .. خلف بنات .. محمد مات .. خلف بنات ، يا إلهي ما أبشع الهوان، الأسلحة موجودة بوفرة ولابد لنا من فرز جهاز عسكري من رحم التنظيم السياسي، ولا بد من مد هذا الجهاز بدم جديد من العسكريين الذين لم يكتشف أمرهم ولم يقعوا في الأسر، تحرك أحمد الفايز بسرعة ، لملم التنظيم السياسي ، لم يحدث الأعضاء عن العمل العسكري، لا يعدو الأمر إعادة تجميع العناصر والكوادر لمواجهة ما حدث وتحليل المعطيات والظروف الجديدة ، وافق عدد كبير من الأعضاء على استئناف النشاط السياسي في ظل الظروف الجديدة على الرغم من القناعة التي توصلوا إليها ومؤداها أن الاحتلال قد يطول في هذه المرة ولن يغادرنا بسرعة كما حدث في عام 1956، فقد تغيرت الظروف، أمريكا اليوم هي التي تدعم العدوان خلافا لأمريكا أيزنهاور، ليبرتي وسلب حريات الشعوب ، دوريات الجيش الإسرائيلي تلصق البيانات على الجدران مطالبة السكان بتسليم ما لديهم من أسلحة وتهدد كل من يضبط لديه سلاح بالسجن مدة خمس سنوات ، كما تهدد هذه البيانات كل من ينتمي إلى تنظيم محظور ومعادٍ بالسجن مدة خمس سنوات أيضاً، وفي نفس الوقت وزعوا منشوراً يطالبون فيه السكان بالتزام الهدوء والسكينة ويعدهم بالخير العميم إن استجابوا وخنعوا ، واختتموا بيانهم بعبارة ترغيبية تقول :
" إيش أحلى من الحلاوة .. صحبة بعد العداوة " ، وقد انطلق المخاتير بعد ذلك يجمعون الأسلحة من الناس ويتوعدون من يعرفون أن لديه سلاحا ولم يسلمه ، ويبررون موقفهم بالادعاء أنهم عبيد مأمورون وأن كل من لا يسلم سلاحه عليه أن يتحمل تبعة ذلك .
***
أرسل إليه المختار أكثر من مرسال يطالبه بتسليم بندقيته ، حاول إقناعه أن البندقية فقدت في المواصي أثناء تواجده هناك، لم يقتنع المختار بذلك بل ازداد إلحاحه وكثر رسله ، اضطر أحمد الفايز إلى إرسال تهديد مبطن للمختار، قال لآخر رسول جاءه: قل للمختار أنه توجد لدي قنبلة أخشى أن تنفجر في بيت المختار فيصيبه أذى أو يموت لا سمح الله، فهم المختار الرسالة وأصيب بالرعب إلى درجة أنه لم يجرؤ بعد ذلك على شطب أسماء بعض الموتى من بطاقات تموين الوكالة وقام بتوقيع شهادات تثبت أن هؤلاء الموتى أحياء عند ربهم يرزقون ، أصبحت توصيات أحمد الفايز أوامر ينفذها المختار صاغراً، فقد حاولت الوكالة استغلال الظروف الجديدة للتخلص من مسئولياتها تجاه اللاجئين ، أصرت الوكالة على شطب كل لاجئ غير موجود في القطاع ولا يحمل بطاقة هوية بحجة أنه قد لا يكون حياً، بدأ الناس يعانون من عنت الوكالة وتواطؤ بعض المخاتير وكبار الموظفين العرب معها ، لابد من التحرك في أكثر من اتجاه ، لابد من توجيه بعض التحذيرات والإنذارات للموظفين المتواطئين ، ولا بد من مساعدة الناس على التخلص من هذا المأزق ، فكر أحمد الفايز في تزوير بعض بطاقات الهوية للمفقودين والغائبين بعد وضع صور أشخاص من المتواجدين في المنطقة وبذلك أصبح العديدون يحملون أكثر من بطاقة هوية ، لم يكتف أحمد الفايز بذلك بل فكر في التوجه الفعلي نحو شل حركة كبار الموظفين المتواطئين مع الوكالة ، حربي الدفيان كان من أبرز هؤلاء ، توالت شكاوى العمال وسكان المخيم منه ، صاغ إنذاراً مختصراً وحاداً لا غموض فيه ، يحذر حربي الدفيان من مغبة التواطؤ مع الوكالة وينذره بأنه سيدفع حياته ثمنا إن لم يتوقف عن الإساءة إلى اللاجئين والعمال ، قرر أحمد الفايز أن يشرف بنفسه على عملية توصيل الإنذار ، لم يشأ الانتقال من خان يونس إلى غزة وهو يحمل سلاحاً نارياً ، اكتفى بحمل موس كباس ، كما طلب من مرافقه أن يحمل نفس السلاح ، حمل في يده مجلة (هعولام هزه) (هذا العالم )الإسرائيلية للتمويه ، رسم خريطة للمكان في ذاكرته ، طلب من السائق أن يمر بهما من شارع الثلاثيني ، نزلا عند ناصية شارع السرايا الواصل بين شارع الثلاثيني وشارع عمر المختار إلى الغرب من السرايا ، كان الهدف قريباً من السرايا، وقف أحمد الفايز على الناصية الشمالية الغربية للشارع ، رفع المجلة ليداري بها وجهه متظاهراً بأنه يتقي أشعة الشمس تقدم زميله نحو باب المنزل الهدف ، دق جرس الباب ، خرج الرجل ، كان أحمد الفايز يعرفه جيداً، ناوله خليل الرسالة واختفى في أول عطفة، فتح الرجل الرسالة بلهفة ، بان الاضطراب على ملامح وجهه الذي علته صفرة الموت، ولكنه خرج مسرعاً وتوجه إلى مركز الشرطة ، لم يتوقع أحمد الفايز أن يكون الرجل أحمق إلى هذا الحد ، قرر أن يغادر المنطقة بسرعة قبل أن تطوق عربات الشرطة المكان، وما إن ابتعد بضع مئات من الأمتار حتى ملأت أصوات صفارات عربات الشرطة الشوارع ، كانت العربات والأصوات كلاباً مسعورة تجوب المكان بحثاً عن فريستها ، مرت إحدى عربات الشرطة تعوي بالقرب منه ، أشاح بوجهه بعيدا وكأن الأمر لا يعنيه، ساوره قلق على زميله الذي انزلق إلى شارع عمر المختار، كان يخشى أن ينجح حربي الدفيان في التعرف عليه فتنكسر عصاتهما في أول غزواتهما ، ولكن الله سلم ، فقد وصل إلى خان يونس بسلام كما وصل صديقه بسلام أيضاً ، ولكنه فوجئ بعد بضعة أيام بأن الرجل قدم للشرطة ثلاثة أسماء يشك في أن أحدهم وراء التهديد المرسل إليه ، كان اسم أحمد الفايز بين هذه الأسماء لكنه لم يكن أولها ، كان اسم صديقه أبو عطا أول الأسماء في القائمة ، استدعته الشرطة وطلبت منه أن يكتب بعض الكلمات التي وردت في التهديد، كتب الكلمات اكثر من مرة ، ثم أرسلت مع التهديد إلى خبير الخطوط في تل أبيب، ظلوا ينتظرون تقرير الخبير على أحر من الجمر ، وبعد حوالي أسبوع جاء التقرير مخيباً للآمال ، فقد قرر الخبير أن التهديد كتب بخط أبي عطا ، استدعته الشرطة أكثر من مرة للمثول أمامها للتحقيق ، ولما لم يعترف أبو عطا بصحة التهمة الموجهة إليه ، ولم تكن حياة الدفيان تهم الشرطة فقد قررت الشرطة إغلاق ملف القضية .
***
كانت المنظمة القيادية في المنطقة الجنوبية تتكون من خمسة أفراد ، وقد تسببت الحرب في تشتتهم ، سافر اثنان منهم إلى مصر للتقدم للامتحانات قبل الحرب بقليل ، ثم تقطعت بهم السبل فلم يستطيعوا العودة إلى القطاع ، بينما أبعد آخران إلى مصر بعد أن تم احتجازهما في إستاد خان يونس بعد أن جمعوا الرجال أمام مستشفى ناصر ، بقي أحمد الفايز في خان يونس بينما بقي أبو الرائد في الشمال ، كان يوما أشبه بيوم الحشر ، تم انتقاء الشباب وحشرهم في ساحة الإستاد الرياضي الواسعة ، أمروا الجميع بطأطأة الرءوس ، هددوا كل من يرفع رأسه بإطلاق النار عليه ، ولكي يؤكدوا مصداقية التهديد، أطلق أحد الضباط النار على أول رأس تململ صاحبها من التعب، تفجر الدماغ فتناثر المخ أبيض لزجاً على الأجساد التي سكنت سكون الأموات بينما ارتجف الجسد برعشة الموت ، تدفق الدم ساخنا حاراً ليشكل بقعة مرعبة امتدت تحت الأجساد المجاورة ، سكنت حركة الجسد وساد صمت مرعب، وفي المساء امتلأ شارع المستشفى بالحافلات المحروسة بالجنود المدججين بالأسلحة ، بدأ الجنود بتوجيه الأوامر إلى المنبطحين أرضاً بالنهوض في صفوف والتوجه إلى الحافلات وأيديهم على رءوسهم ، بدءوا يصعدون إلى الحافلات في آلية صماء ، أمرهم الجنود بخفض رءوسهم وعدم رفعها عن الكراسي ، هددوا كل من يخالف بالموت وحركوا أجزاء بنادقهم ليؤكدوا جديتهم ، ساد المكان صمت القبور بعد أن أنزلت ستائر شبابيك الحافلات ، تسللت الحافلات في الظلام متجهة إلى الشرق نحو بئر السبع حيث تجمع الألوف من مناطق القطاع المختلفة ، وبعد بضعة أيام أقلتهم الحافلات متجهة إلى الجنوب فالغرب حيث تتمدد قناة السويس في لا مبالاة عجيبة ، أذهلتها الصدمة فتبلدت أحاسيسها ، أمر الجنود ركاب الحافلات بالنزول إلى الأرض ، رصوهم في صفوف منتظمة ثم نصبوا الرشاشات أمامهم ، كان أفراد الصليب الأحمر يروحون ويجيئون بين ضفتي القناة ، سحب الجنود أجزاء رشاشاتهم استعداداً لإطلاق النار، توتر الوضع ، وأخيراً عاد أفراد الصليب الأحمر تعلو وجوههم ابتسامة ارتياح ، وافق المصريون على استقبال المحتجزين الذين ادعى الإسرائيليون أنهم أسرى أسروا في ميدان القتال ، وعلى الجانب الغربي لقناة السويس قام الجنود المصريون بتوزيع الأطعمة على الجميع ، تناولوا الطعام بعد أربعة أيام من الجوع لم يقدم لهم خلالها سوى الماء والتهديد بالموت ، تجمعت عدة حافلات لنقل المبعدين عن الوطن بعيداً عن القناة ، وفي طريقهم إلى مديرية التحرير ظن الأهالي أنهم أسرى إسرائيليون ، نظروا إليهم نظرات كلها شماتة وحقد وتدفقت من الأفواه سيول من الشتائم والبصاق ، لم يتمكن المبعدون من توضيح الأمر ، الحافلات تسابق الريح كأنها تخشى أن يكتشف الأهالي حقيقة الأمر فتتعقد الأمور، ظل الأهالي يعيشون وهمهم الجميل، لديهم أسرى إسرائيليون ولا أحد أحسن من أحد ، مديرية التحرير غير مسكونة ، الخروج منها مهلكة والعيش فيها مهلكة ، ما أصعب أن يعيش الإنسان في عزلة تامة عن العالم ، الموت أرحم من حياة كهذه ، ليتهم أطلقوا علينا النار، ليتنا متنا قبل أن يحدث لنا هذا، لقد استراح ذلك الشاب ، أراحه من أطلق عليه النار، لقد تألم للحظات ، وربما لم يتألم ، ربما كان الموت سهلا ، ربما كان أشبه بإغفاءة لذيذة ، لكن حياتنا معاناة متواصلة ، نموت في كل لحظة ، التعب والإرهاق يأكلان الأجساد دون رحمة، افترشوا أرض الغرف المهجورة في مديرية التحرير، وحين وصلت عربات الطعام تدفق الجياع نحوها، تخاطفوا الخبز وما وقع في أيديهم من الغموس ، تلفت الأستاذ ربيع حوله ، لم يستطع أن يزاحم طلابه على الطعام ، كبله الخجل ، كان محترما في نظر طلابه ولا يمكن له أن يمتهن كرامته حتى ولو مات جوعاً ، وأخيراً جاءه الفرج، تقدم شاب في حوالي العشرين من عمره نحو الأستاذ ربيع وقدم له كمية من الطعام ، ادعى الأستاذ ربيع أنه لا يشعر بالجوع وأنه لو كان يشعر بالجوع لفعل مثلما فعلوا ونال حظاً من الطعام ، ابتسم الشاب قائلاً : أنت صاحب فضل علينا ولن نسمح لك أن تهين كرامتك من اجل الحصول على ما يسد الرمق ويحفظ الحياة ، سنحضر لك كل ما تحتاج إليه وأنت جالس في مكانك ، سنعيش في غرفة واحدة ، وستكون لنا كعهدك دائما ً الأب والمعلم البار بأبنائه ، تنهد الأستاذ ربيع بارتياح، أحمد الله الذي لم يضيع تعبي سدى ، لقد أبعدوني عن أبنائي وحرموني منهم ، ولكن الله من علي بأبناء مخلصين في أشد لحظات الحياة ظلاما وضياعاً، مد يده وتناول نصيبه من الطعام ، ابتسم الشاب في حنان بينما أخذ الأستاذ يزدرد اللقيمات على عجل ، فقد أضناه الجوع بعد تلك الرحلة الطويلة ، استلقى على الأرض وذهب في نوم عميق ، تناثرت الأجساد المنهكة في عفوية غريبة وتناثر شخير بعضهم في الهواء .



#محمد_أيوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكوابيس تأتي في حزيران 11 / 12
- التلفزيون الفلسطيني والمصداقية العالية
- حول الديمقراطية والإصلاح السياسي في الوطن العربي
- الكوابيس تاتي في حزيران الفصل التاسع والعاشر
- ظاهرة التسول في المجتمع الفلسطيني
- الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل الثامن
- الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل السابع
- من المسئول عن إطلاق الرصاص على العمال في محافظة خان يونس
- حين يعطش البحر ويظمأ الغيم
- الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل السادس
- العريس
- أشتاق إليك - خاطرة ،
- 5-الكوابيس تاتي في حزيران
- الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل الرابع
- الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل الثالث
- الانسحاب والمستوطنات بين الواقع والطموح
- الكوابيس تأتي في حزيران
- الكوابيس تاتي في حزيران
- صور وحكايات
- المؤسسات غير الحكومية بين التجني والجناية


المزيد.....




- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد أيوب - الكوابيس تأتي في حزيران 13 / 14