أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد مزيد - رواية ( سرير الاستاذ )















المزيد.....



رواية ( سرير الاستاذ )


محمد مزيد

الحوار المتمدن-العدد: 5221 - 2016 / 7 / 12 - 02:32
المحور: الادب والفن
    



رواية
سرير الأستاذ
محمد مزيد
اشكر صديقي الناقد والكاتب جمال كريم على جهده النبيل الذي بذله في تصويب الهفوات ، والاخطاء المطبعية ، التي رافقت الطبعة الأولى ..
الطبعة الأولى- 2009
ر.أ: 2783/6/2009
المؤلف: محمد مزيد -العراق
iSBN 978-9957-30-097-5
دار فضاءات للنشر والتوزيع
عمان- شارع الملك حسين-مقابل سينما زهران
تلفاكس: 4650885 (6 -962+) هاتف جوال: 911431/0777
ص.ب 925846 عمان 11190 الأردن
[email protected]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تصميم الغلاف: نضال جمهور
الصف الضوئي والإخراج الداخلي: فضاءات للنشر والتوزيع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضاءات للنشر والتوزيع.

سرير الأستاذ
روايـــة

1

عندما ربطوا فخذيها إلى السرير والدولاب، ويديها إلى ضلفتي النافذة، باتجاهين متعاكسين، لم تكن فائزة تتصور، ولو لحظة واحدة، أن تصبح طريحة الفراش، وهي لا تقوى على مواجهة الصدمة القاسية ، في وقت باءت كل محاولاتها من النهوض بالفشل، وقعت أرضًا على جنبها الأيسر، حين لوى ذراعها اليمنى، مطوحًا بها ، فتهاوت بسرعة، ورأت فمه وهي طريحة الارض ، يتحدث إلى شخص ، في زاوية معتمة من الغرفة، لم تستطع أن تلمح الآخر، كانت الكلمات تضطرب بين شفتيه، رأت بصاقا متطايراً من تحت شاربيه الكثين، وثمة أصوات نافرة، قريبة، تطن في رأسها، وعيون تقذف شرراً، حاولت الافلات بكل ما تملك من قوة ، إلا أنّ قواها خانتها، جذبت اليدين الى صدرها ، متصورة أنَّها ستقطع الحبل القطني المتين الذي ربطت به ، ولكن من غير فائدة، أحسّت أنّه أحكم بشده، سحبت ساقيها من عقدتي السرير والدولاب، بما بقى لها من القوة، كانت تريد ألاّ تنهار بسرعة، وأنَّ محاولاتها يجب أن تجدي نفعا، ولكنها فشلت أيضًا، كان لهاثها يتصاعد، حتى أوشكت تفقد الهواء في رئتيها، وأيقنت انه لم يكن لها غير اليأس والاستسلام، فيما يراقبها الأستاذ في الجانب المعتم من الغرفة ، بتينك العينين البارقتين بالشرر، كاد يغمى عليها من فرط دهشتها، في أن يقوم الأستاذ بنفسه الإشراف على ما يجري لها، في وقت أعتقدت أنها جاءت إليه تستنجده في مصابها، وهي في آخر لحظات شعورها بالإدراك ، شاهدت عليان يمد يده إلى وسطها، وقام بتمزيق ثيابها الداخلية بجرة سريعة واحدة، ولاحظت ببقايا ما تملك من الوعي ، أنّه أخذ خرقة لباسها الممزقة، ليشّمها، ثم غادر الغرفة بنظرة ذات معنى، ألقاها إلى أستاذه وهو يومئ إليه القيام بما يجب.
لم تنس فائزة تلك الصورة المرعبة ، وهي تصعد حافلة أقلتها إلى بغداد، وشعرت بالغيظ والقهر لما قرأت عبارة "البصرة تودعكم" على جانب الطريق، في وقت وجدت فيه نفسها بلا معيل يؤويها في هذا الزمن سوى خالتها أم كريم الساكنة في بغداد منذ زمن بعيد.
2
عَلِمَ كريم أن فتاةً ستأتي إلى البيت، فأيقن تماماً أنه سيقع في مشكلةٍ كبيرةٍ، ليس مع أمهِ وأختهِ فحسبْ بل مع نفسهِ. وقبل مجيئها حذّرته أمه من الانجرار وراء مجونه، ذلك لأن الضيفة ستعيش معهم بعد فقدانِها أمها، ماتت قبل ستة شهور حزناً وكمداً على ابنها القتيل في الحرب العراقية الإيرانية.
قالت له أمه:
- لم يبق لها أحدٌ سواي، يجب أن تداريها، لأنها يتيمة..
في البدء تمازح كريم من تحذير أمه، وكاد يقع على قفاه من فرط نوبة ضحك استمرت دقائق، فقد تجاوز عمره الثلاثين وليس قادراً على زج نفسه في مآزق جديدة، ليس أولها، هروبه من الحرب ولا آخرها سكن ضابط المخابرات مقابل بيتهم مترصداً حركاته.
عاتب أمّه: لماذا تحذرينني منها؟
بغير ارتياح، قالت: أنت مجنون، ولا أريد السوء لابنة أختي.
امتعض كريم لتهربها من الإجابة المباشرة. ثم أضافت بيأس: لأني أعرفك، لا محرمات لديك، وهارب من العسكرية، وعندك حكايات
عرجاء مع "النسوان".
بعدها نهضت تطرق الحوش بنعالها فيما وجد أخته حليمة تراقبه عن بعدٍ تختبر رد فعله، فزعق بها كريم:
- ماذا؟
صعد إلى غرفته، وساء له استهداف أمّه بهذه التحذيرات، غير أنّ حالته تغيرت فجأة لأنه تذكّر أنّ الفتاة ستكون ضيفة البيت، فاضطرب، راوده إحساس مفعم بالأريحية ، لأنه لو لم يُحذر لتجاوز الأمر بسهولة ، لكن أمّه أججت في نفسه شغفاً بالفتاة ، وفضولاً نارياً لم يكن إخماده يسيراً، فتجاذبته الأسئلة، كيف سيكون شكلها، طويلة أم قصيرة، بيضاء أم سمراء، عادية أم جميلة، هل هي حقًا ابنة خالته؟ لماذا لم تتحدث أمّه عن أختها قبل هذا اليوم؟ أهناك قطيعة بين الأختين؟
أستلقي على سريره ، في غرفته المكتظة باللوحات ، ينظر إلى بعضها غير المكتملة، والأخرى المهملة، تتنقل عيناه بين السقف والجدران ، ثمة رسومات لصديقه "جبار مهلهل" الخاصة بالمستشرقين، ارضية الغرفة عبارة عن فوضى عارمة، تتناثر فيها قشور الباقلاء وقناني العرق الفارغة، واسكيشات مبعثرة وأوراق متناثرة، وكتب مرمية باتجاهات شتى.
وهو ينتظر إطلالة ابنة خالته في هذه اللحظات ، تذكر خـوفه من جاره ضابط المخابرات الذي يبعث نساء من قريباته بزعم السؤال عن صحة والدته، كانت تنذره بالخطر أية طرقة على الباب، وقبل الإجابة على الطارق تتسابق إليه إشارات أخته بالإسراع في الصعود إلى كهف غيابه المستمر، غرفته العلوية، تفضي كوتها الصغيرة إلى ممر بيت الأرملة الغامضة لا يمكنه رؤيتها.
كان هلع أخته يثير سخريته وهي تصدر الإشارات، فيطمئنها بالقول "لست فريسة سهلة للحرب".. وبعد زوال الخطر، تخاطبه أمه "إلى متى ستظل مختفياً؟ فيجيب بالعبارة نفسها "حتى تنتهي الحرب"..
يافطات الموتى تزداد كلما ظهر "القائد " على شاشة التلفاز يتوعد الخاسئين، ولا يستطيع كريم إيجاد رابطٍ بين ظهوره الممل ، وبين قوافل الموتى القادمة من جبهات القتال، لذلك غالباً ما كان يطل على الكوة الصغيرة ليداعب فضوله خطف جسد امرأة لا يظهر وجهها إلا إذا أقبلت، خلال ثوان معدودات ليعيش حلماً دافئا ببضاضة الجسد الغامض المكتظ بالتكورات.
بعد الظهر، دخلت الضيفة إلى البيت فعلاً، فقالت أمه في المطبخ "استعد لاستقبال فائزة، ولا تنسَ ما أوصيتك به". فشعر عندئذ، بالفرح، وبات على مقربة من انطفاء فضوله برؤية وجهها ،وبدلاً من الانتظار في غرفة المعيشة، صعد السلم بسرعة تجنباً من ملاقاتها بمشاركة أمه وأخته، يعلل تصرفه هذا، بأنه ناجم عن إيمانه بقاعدة تقول "إنَّ اللقاءات الأولى قد لا تكون بريئة بمعية الآخرين "ولأنه ينظر إلى الناس بمنظار مختلف، فقد وجد مقتاً في طريقة التعريف، بمصادفات تقتل البراءة، وما فيها من تصنع ومبالغة ، لذلك هرع إلى غرفته مسرعاً وانزوى خلف الباب الموارب.
كان يستمع إلى صوت أمه وأخته وهما ترحبان بها، فاشتعل الفضول في نفسه إلى حدود قصوى، تسارعت ضربات قلبه، وابتسم ساخراً من صبيانيته، هيمن صوت الأم على مساحة الأصوات، ولم يعد بمقدوره الاستماع إلى صوت الضيفة "فائزة"، ما أجّج النيران فيه، حتى كاد يمزق وقاره المزعوم، كان يحاول أن يصغي كالمراهق إلى صوت الضيفة، بعد افشاله خطط أمّه وأخته بالبقاء معهما، كانت الثواني بطيئة ولاتكف أمه من تلفيق عبارات تصف بها محبتها لأم فائزة، هي أختها كما يرجح .
يمضي الوقت بطيئاً، وما زال صوت الفتاة غائباً عن مسامعه، فتفاقم الاضطراب في نفسه، وباءت كل محاولاته سماع صوتها بالفشل، بسبب ركون الفتاة الى الصمت .
نادت أمه عليه، "تعال كريم لترى ابنة خالتك"!
وضع أمام الأمر الواقع، إذ لا بد من النزول ، ولكن كيف؟ هو يرفض الامتثال للأسلوب الذي اختارته للتعرف بالفتاة؟
ترك الباب مفتوحا واتجه إلى سريره ناظرا الى السقف بقلق ثم إلى اللوحات على الجدران، لم يكن يرى أي شيء ، بل يبحر في عالم تزداد حجبه وألغازُه، كيف سيرد على نداءات أمه؟ جلس على حافة السرير، ثم عاد ليتمدد ثانية، أحرجته النداءات، تقدم إلى الباب الموارب، كاد يخرج، ثم تذكر "صلابته" فعاد إلى الوراء، رجع إلى منتصف الغرفة، الاضطراب ينهش به ، يهرس بأعصابه، كيف يمكنه تجاهل نداءات أمه؟ ليس أمامه غير التظاهر بالنوم، لا يريد رؤية ابنة خالته فائزة الآن ، سيراها في وقت آخر، لكنه كيف سينام؟ ثمة أصوات بدأت تعلو في الأسفل، وقع أقدام تقترب من غرفته، طُرق الباب ، علم أنها حليمة، دخلت ، رفعت الشرشف عن وجهه ، قالت "أعرف أنّك لم تنم ! ولا تستطيع النوم، جاءت الضيفة وعيب عليك ، أحرجتنا أمام الفتاة، ستتصور أنّك لا ترحب بمجيئها وتظن أنّ الأمر يعنيها".
يراقب شفتي أخته كيف تضغط بهما ،لم تبتسم حليمة طوال حياتها، ويعتقد أن سبب كساد سوق زواجها يتعلق بوجهها المتجهم.
- سآتي حالاً، اسبقيني أنت.
عندما خرجت ، نهض من سريره وشعر بوجوب مواجهة الضيفة بشجاعة، ولا بدّ من الإذعان إلى مشيئة أمه.
رتب شعره، وارتدى ملابس نظيفة، وتأبط كتاباً، ثم أخذ ينزل السلم ببطء ، ضوء النهار يتسرب إلى باحة البيت من نوافذ غرفة المعيشة، شعور بالانكسار يرافقه لإذعانه إلى مخططات أمه، لاحت الرؤوس أولاً، وهو يصل الى منتصف السلم، ثم رأى الوجوه، نظر إلى أمه وأخته، تبتسمان بغير ارتياح وتصنع مفضوح، يعرف دلالة هاتين الابتسامتين، ثم وقع نظره على وجه الفتاة، بسرعة اغمض عينيه ، ثم فتحهما ، غير مصدق بما رأى ، يا للهول، قلبه بدأ يغني ، عيناه فرحتان ، تمعن فيها ، وجه بيضوي وعينان عسليتان، وشعر أسود، وابتسامة غامضة، تعثر في الدرجة الاخيرة وكاد يقع ارضا ، تصور أن هناك درجة آخرى ، سأل نفسه "أين صلابتك المزعومة يا مطي ؟ تقف الفتاة بين أمه وأخته كمنارة في ليل البحر، كيف يقاوم زحف هذا الجمال، هكذا فجأة، وبدون تمهيد؟ اقترب منها، مد يداً مرتعشة ، محاولاً مسك ألوان الضوء في عينيها، قال مرتبكاً:
- أهلاً فائزة.
ردت بصوت خافت لم يكد يسمعه:
- أهلاً كريم.
أومأت له أمه بإشارة أن يتجه إلى السلم قائلة ً:
- يمكنك الانصراف الآن.
جملتها باردة لا معنى لها، مكشوفة وغير متناسقة مع موسيقى الصمت الذي تعزفه عينا الضيفة.
قالت الفتاة:
- لماذا ينصرف؟
خفوت صوتها ذوّب كريم ، جعله يعيش ، اعظم لحظات البلاهة و الغفلةِ ، حاول أن يسترشد من إيقاعات صوتها إلى المنابع الأصلية للموسيقى.
ثم بادرت أخته بعبارة أسخف:
- ينصرف لأنه "فرار" ونخشى عليه من جنود الأمن العسكري.
شعر أن قلبه وقع بين يديه، تمنى لحظتئذ سحق أخته البليدة، لكنه واصل الاعتصام تحت "صلابة" فارغة فقال:
- إنّها تمزح، لا تصدقيها، أنا في إجازة من العسكرية، في الحقيقة منحت نفسي إجازة مفتوحة!
ضحك الجميع، لا يتذكر قرقرات أمه وأخته، لكن صوت فائزة هو الذي شده إلى عالم الموسيقى، هل يمكن أن تتحول ضحكة إلى سمفونية؟ تصور نفسه يطير في فضاءات تمرح بها الأقمار والنجوم، تتحدث أمه بغير انقطاع عن الموتى والشهداء والمفقودين والهاربين من الحرب ، فيما يصغي كريم إلى صوت الموسيقى في عيني فائزة.
جلسوا في غرفة المعيشة، ترتدي الضيفة ثيابا سودًا، تنورة تصل إلى مستوى ركبتيها وقميصًا أسود، ووضعت بجانب الباب حقيبتها الكبيرة.
سألها كريم:
- لماذا الثياب السود؟
نظرت إلى سقف الغرفة ثم حنت رأسها إلى الأرض ملتزمة بصمت عميق فتداركت أمُّه حرجاً وقعوا فيه جميعاً، فقالت:
- سنرحل كلنا، الموت فوق بني البشر، لا يبقى إلا وجهه الكريم.
استحضرت كلمات كثيرة لإيقاف نزيف الصمت، دون فائدة، ما شجع كريم للنهوض والهروب إلى غرفته.
شعر بضمور عزيمته، وخذلان إرادته، أمام حضور فرضته الفتاة ورسخت بعدئذ احتراما وتقديرا في نفوس الجميع، لام نفسه رغم عدم إساءته لها، استلقى على السرير متأملاً بياض الوجه والعسل الناضح من عينيها، وعندما جن الليل رفض النزول للعشاء وطلب من حليمة جلبه له.
تناول طعامه بمفرده مصغياً إلى صوت أمه، فيما بدت فائزة في حالة إصغاء لكل ما تفرغه من الكلام، أنهى طعامه بسرعة، و لا بدّ من الاغتسال في الأسفل، تناول درجات السلم بهدوء وبطء ثم وصل إلى المغسلة متصوراً أنه ابتعد عن ملاحظة فائزة، وهي الأخرى، تريد الاغتسال، فانتهى بسرعة ٍ، ثم التفت نحوها، ليجد تلك الابتسامة المشعة ، لا يدري لِمَ يُقرِن ابتسامتها بالموسيقى، يشعر أنّها تحاول تجريده فتجعله عاريًا، مكشوفًا، مفرغًا من وقاره "المزعوم"، فنظر إلى باحة الحوش، اختفت حليمة في المطبخ، وانشغلت أمه في غرفتها، وها هو يقف لوحده أمامها، أمام الجمال.
قالت له فائزة:
- ما كان يجدر بك الانزعاج.
لم يدر ماذا يمكن أن يقول لها، رأى شفتيها تتناغمان بحنان لم تبلغ به المقدرة لاحصاء قطرات الندى المتساقط منهما، بحث عن الكلمات، أين هربت ، هل فرغت مساحات مخيلته منها ؟
فقال مبهوتاً:
- ليس صحيحاً أن أسألكِ سؤالاً ساذجاً كما فعلت ، قبل ساعات
ابتسمت، وهي تستدير برشاقة نحو المغسلة، راقبها كيف تمد يديها تحت الماء، منحنية نصف انحناءة تجاه الصنبور، وهي تقول له:
- توقعت أنك ستدافع عن نفسك ضد تهمة هروبك من الحرب، لكنك هربت من خجلك كما يبدو لي.
صوتها يعزف برنين لم يستمع إلى مثيله من قبل، أراد أن يقول لها، إنّه يخشى الوقوع في حبائل الكلام عن الحرب، يؤرقه ذلك، يثير فيه الشعور بالغثيان، غير أنّه لم يجد مسوغاً أن يثقل عليها بالأفكار المركبة، جعلت منه، في آخر الأمر ، منعزلاً ، تحاصره جدران غرفته طوال ثلاث سنوات مضت.
فقال:
- لا أود الدفاع عن تهمة غير حقيقية، لأنّ الحرب أكذوبة نعيشها ليلاً ونهاراً، برغم قوافل الموتى .
عندما أنهت غسل يديها، نظرت إليه فوجدته مستغرقا ، جعلته نظرتها ، يسبح في بحرٍ من الالوان ، راقب إحدى خصلات شعرها تداعب رمش عينها اليسرى، فلاحظت هي حساسية رصده، التقطت الخصلة ورفعتها، ثم اتجهت إلى غرفة المعيشة، فلحق بها، وتمنى أن تستمر حليمة في غسل الأطباق، وتبقى أمّه منزوية في غرفتها، جلست فائزة على الأريكة ، وبقي واقفاً في مكانه ينظر إلى قوس الفخذ، وكيف ازاح هذا المنظر من قلبه كل موجات الكراهية ضد الحرب و"القائد الضرورة"، بعد صمت ، قالت له "أيضايقك وجودي في البيت؟ " ذعر من السؤال وفطن إلى أنها فهمت خطأ إصراره بعدم النزول أول دقائق مجيئها، فقال بسرعة "كلا، أنت قريبتي، ابنة خالتي، ولا يجوز أن نتضايق منك أبداً" فقالت بألم وتنهيده " لم يبق لي في البصرة أحدٌ، خالتي الآن هي أقرب إليَّ من كل معارفي الذين يمكنني اللجوء إليهم، ولكن.. أرجوك تحمل وجودي قليلاً.. ربما الليلة أو أسبوعًا على أبعد احتمال".
أطربه صوتها، ثمة حروف تخرج صافية النغم ، كأنها اغتسلت بمياه الموسيقى ، شده صوتها إلى الآفاق الغامضة، شعرها المنسدل على كتفيها يرسم بوضوح إلى اعتداد بالنفس غير مبالغ به، تمنى أن يدفن وجهه في طيات شعرها ويذهب إلى ذلك الأفق الغامض.
سألته: "أين سرحت بخيالك؟ " صمتت قليلاً، ثم قالت "لماذا لا تستريح؟ " أجابت حليمة" أنا أقول لك لماذا لا يستريح"، صوت حليمة، منشار الخشب الكهربائي، لا يعرف من أية كوة جاء إليه، فهرب بسرعة إلى غرفته وهو يرتعد من الشغف والشوق، تهدمت للحظات كل اعشاش الهم والغم في صدره ، صحيح أن حليمة افزعته ، بسبب انقطاع وصل الحوار بينه وبين الفاتنة، غير أنه سرعان ما غمره الارتياح، لشعوره بأنها ما زالت موجودة في البيت ، فتمدد على السرير يحلم بنظراتها، صوتها، وجهها الأبيض المدور، انسدال الشعر على كتفيها، كل ذلك يكفي ليصرعه، شعر أن غموضاً جميلا اقتحم عزلته، ورأى، أنّه بوجود الفتاة سيدخل في معارك جديدة لا عهد له بها، وسيخسرها حتماً، تداخلت الرغبات في رأسه بالمحرمات، رغباته المحطمة غالبا ما تنتهي عند صخور صلدة ، ما زال يتقلب في غرفته، سجنه الأبدي ، بالأمس أرملة لا يرى وجهها، واليوم فائزة، لم يعد اهتمامه بعزلته يثيره بقدر ما فيه الآن من إثارة وجنون بهذه الفتاة .
جاء الليل، وفي الليل تسرح قطعان الشهوة ، يخيم الهدوء على أرجاء البيت، إلا من صوت التلفاز، لا بدَّ أنَّ فائزة جالسة الآن مع أخته، ردّد مع نفسه، لا يمكن لأخته المتجهمة أن تجاري بحر الجمال والهدوء، ذلك لأنَّ ثقافتها محدودة ومسطحة، وسيمنع ذلك من التواصل بينهما، يتصورهما جالستين من غير كلام، أما أمّه فقد دخلت بعد العاشرة إلى غرفتها، قال في نفسه، لا بدَّ من إيجاد مبرر للنزول أقنع به نفسي على الأقل، لكي أرى فائزة، حتى لو اضطررت إلى تحمل وجود حليمة ، ثم تساءل، ولكن كيف سأنزل، لا أريد فضح جنوني وأهوائي ، منذ الليلة الأولى، هناك ليالٍ كثيرة، ونهارات، فلماذا التسرع؟ صفن قليلاً، قبل إقدامه على أية خطوة، كعادته دائما، ليكتشف أن البقاء في فراشه أفضل الحلول، بقي يتقلب، يصارع فراشه ، يطفئ الضوء ثم يوقده، وعندما يقع بصره على لوحاته يطفئه، ولما يهفو قلبه إلى فائزة يوقده، وفي الساعة الثالثة فجراً، بينما غرفته تسبح في الظلام، اخترق كوته خيطٌ من الضوء، فأدرك أن أرملته الغامضة مستيقظة، لم يمعن في تحليل سهم الضوء المخترق غرفته، بسبب عدم استعداده تفكيك إشارات أصبح في غنى عنها الآن، فتجاوزها، لأنه يسبح الآن في بحر من الاضطراب لا يسعه المجال الالتفات إلى امرأة لا يعرف عنها أي شيء.
يتناهى إلى سمعه، دبيب صوت يتسرب إليه من الأسفل، صوتٍ هامسٍ، ما شجعه ليستطلع نازلاً السلم محاولاً إبصار الظلمة بقلبه ويديه، صوت أخته ينبعث من غرفتها حيث تنام معها فائزة، مقترباً من الباب، مسترقاً السمع، حليمة المتحدثة، فيما اختفى صوت فائزة، سمعها تتحدث عن عزلته وهروبه من العسكرية، فتسارعت نبضات قلبه، توقع أن تسأل فائزة عنه، حدثتها عن لوحاته، كيف أنها لم تفهمها، وأتت بالحديث عن لوحة لفتاة في الجامعة ، اضطرب وجيب قلبه، وتمنى ألا تسترسل، غير أنَّ أخته، واصلت ، أن لوحة نوال هي حبه الناقص، غير المكتمل، انتهى ذلك الحب، بعد تخرجهما في الكلية، لم ينسها كريم، ظلَّ يرسمها بأوضاع شتى. غير أنَّ فائزة بقيت صامته، يبدو، حسب ظنه، أنَّها متعبة، وربما نامت، فادار جذعه وصعد السلم ليدخل غرفته المظلمة ، بعد انطفاء ضوء الكوة ، الأرملة نامت أيضاً, تلمس سريره وهجع إليه، بعد إطلاق زفرة حارة.
أطلَّ الصباح، وجاء الفطور إلى غرفته بين يدي المتجهمة، تناوله كريم بسرعة وبشهية غير مسبوقة، الضيفة ما تزال نائمة، وبعد انتهائه من الطعام، رفعت حليمة الصينية وبادلته نظرة وجد أنها لا تحمل معنى، ثم بعد ساعة استيقظت الضيفة، سمع صوت أمّه ترحب بها، نظر إلى الأسفل، متوارياً عن الأنظار، وجدها تقف وسط الحوش، لم يكن شعرها منفوشاً كما تصوره ، غير أنَ منامتها المائلة للزرقة جسدت تفاصيل يبحث عنها، غير أنّه، رأى أنّ تلصصه على فتاة تعود بقرابتها له، غير جائز، ويفترض منع نفسه من الانجرار وراء رغباته المحطمة، مر هذا الخاطر بذهنه، ما جعله ينزوي في غرفته، شعر بأنّ صباحه هذا يختلف عن صباحات عاشها، يتدفق الدم في عروقه على نحو مختلف، والحياة ابتداء من اليوم ما عادت حروبًا وهروبًا "ربما وجود فائزة نوعاً من الحل".
عاد يراقب من الأعلى ما يجري في البيت، تأخر انبثاق صوت فائزة الموسيقي، وتوقع أنها الآن تتناول الفطور، تمنى، أن يكون قطعة خبز تمضغها، أو نثار جبن متفتت بين شفتيها، غير أنّه سخر من نفسه بعدئذ لترك خواطره تنحدر إلى هذا الجنون.
بعد قليل صاحت عليه أمّه "كريم" ثم قالت "ألا تسمعني؟ " كررت أمّه النداء، إلا أنّ حليمة من جهتها قالت " يسمعك جيداً وسيأتي حالاً " صوت المنشار الكهربائي يشعل الحرائق في نفسه.
نزل السلم بخفقات قلب متسارعة، طالع وجه أخته المتجهم، لم يأت الربيع إليه يوما، نظر إلى وجه أمه، هي الأخرى لا تبتسم، بينما فائزة كنجمة الصباح، جالسة على الأريكة، تحوم ابتسامتها في أجواء الهول، وهي ترتدي المنامة الزرقاء وبيدها قدح الشاي ترتشف منه قليلا قليلا، عيناها معلقتان باتجاه كريم الذي كاد يتعثر وهو ينظر إلى أصابعها الممسكة بعروة القدح، قال بصوت بدا رخواً "صباح الخير"، ردت فائزة بصوت يرتشف الصباح منه الهدوء والسكينة "صباح الخير"، وقف عند الباب تبحلق به عيون ثلاث نساء، قالت له أمّه "اجلس"، ذاهلاً، متوتراً، مرتبكاً "ها.. نعم. سأجلس"، بعيداً عن فائزة جلس وشعر بلسانه ثقيلاً وتحولت الكلمات في رأسه إلى وشوشة وطنين، فقالت الأم "فائزة تقول إنّها تريد استئجار غرفة لتسكن بعيداً عنا، فهل تقبل بذلك؟ " لم يستوعب ما قصدته أمّه، يبدو مشتتاً، لكنه التقط استئجار في آخر المطاف، ذهب ذهنه إلى الفتيات اللواتي لا يجدن أحداً في العاصمة فيستأجرن غرفاً عند العوائل، قال كريم مستوضحاً "لم أسمع جيداً، فائزة تستأجر ماذا؟ " قالت أخته بارتياح "فائزة لا يعجبها السكن عندنا، تقول إنَّ لديها مهمة حالما تنتهي منها ستعود إلى البصرة". التفت إلى فائزة المبتسمة مستفهماً، فقالت فائزة " لم أقل لا يعجبني السكن عندكم، لدي مراجعة لإحدى دوائر الدولة قد تستغرق بضعة أيام أو أسابيع حالما أنتهي منها سأعود أدراجي إلى البصرة "، رد كريم بغضب "ولكن ماذا جرى؟ " ثم التفت إلى أمه فوجد في نظراتها دفاعاً عن حماقة لم ترتكبها ووجه شراراته إلى أخته فرآها ، خائفة مذعورة منه، محاولة إفهامه بعدم حصول أي خطأ معها، اختفت ابتسامة فائزة وظهر سيماء الجد على محياها فقالت "لدي قضية معقدة، ولا أريد توريط أحدٍ معي، ربما وجودي عندكم يسبب لكم مشاكل أنتم في غنى عنها".
قال كريم بما يشبه التوسل، بعد شعوره بتصميمها: "هذا بيتك، وأنت لا تسببين أيَّ إزعاج لنا وأي كلام عن استئجارك غرفة بعيدا عنا سيكون معيبا لنا ". نظرت إليه فائزة بجد وثبات، ثم قالت "أنا أعرف ما لا تعرفونه، دعوني أخوض في مشكلتي لوحدي أرجوكم". ثم نهضت إلى غرفة حليمة وثمة دموع ترقرقت في عينيها، حاولت كتمان حزنها وألمها بالهروب من نظراتهم وتساؤلاتهم فبقي الثلاثة ذاهلين، أمّا كريم، فبدا له أنَّ فتاته تشوق لرؤيتها وسماع صوتها كأنها ستضيع منه، وبعد دقائق، خرجت فائزة من الغرفة تحف بها الورود ، ترتدي تنورة سوداء وقميصاً أسود وتحت ذراعها حقيبة يد صغيرة توحي هيئتها بالخروج، فتوقف كريم أمامها دون حراك، حواسه تتصارع لالتقاط حضورها الاحتفالي، لا يعرف كيف يكتم مشاعره المتأججة، وتمنياته ازدادت احتراقاً وهي تقفُ تنثرُ ورود ابتسامتِها فوق رأسه، قالت "سأعود بعد حينٍ لجلب حقيبتي الكبيرة".. لم يكن يصغي إلى صوتها الذي يحتاجُ منه معرفة موسيقية بشفراته العذبة، لم يكن يركّز على معاني الكلمات بل على هالة الحضور الأخاذ الذي هيمن عليه، سرب من العصافير يحاول إنشاد معزوفةٍ لم يعزِفها أحدٌ، لم تمنحه وقتاً كافياً لكي يقول لها ما يريد، غادرت فائزة، وحل الظلامُ في البيت، رغم الشمس.
3
تُلاطف الشمسُ وجه فائزة وهي تسير في الشارع متجهةً إلى المكان المقصود، حيث يوجد عنوانه في حقيبتها الصغيرة، لا تريد إشغال ذهنها بأحاديث بيت خالتها وقد أمضت الليل قلقةً وهي تصغي إلى ترهاته، لكنها عندما تتوقف عند صورة كريم ، فضحت الشهوة عينيه، تشعر بالسخرية منه، بل أخذت تضحك في سرها وهي تبحث عن حافلة تقلها إلى مركز العاصمة.
تداعب نسائم آذار خصلات شعرها المنسدل على كتفيها، تنظر بغير اكتراث إلى الناس، صعدت الحافلة ولم تأبه إلى عيون تطالعها بشغف وفضول، بعض العيون تريد أن تأكلها، وتلك تبتسم لها، وأخرى تمتعض منها، جلست بجانب شاب تتصور أنه قد لا يبدو مسببا للإزعاج، وما أن انطلقت الحافلة حتى شعرت خطل تصوراتها، نصف ساعة مرت ثم وصلت إلى مركز العاصمة، بعدها استقلت حافلة أخرى وهي تجلس بجانب رجل عجوز أقل إزعاجاً من ذلك الشاب، فأهملته مثل الأول، حتى وصلت إلى المكان المقصود.
نظرت إلى البناية المقصودة ، ولم تجهد كثيراً في البحث عن اسمها، فاتجهت صوبها، صاعدة السلالم الثلاثة التي تفصلها عن رصيف الشارع، وعندما دخلت من الباب الرئيسي، وجدت الاستعلامات خالية، قارنت العنوان مع اللوحة المثبتة في مدخل المبنى، فتأكدت من صحته، الإضاءة خافته في الداخل، ولا أحد يجلس في غرفة الاستعلامات، فبقيت في مكانها تصوب نظرها إلى الممر الذي يقع على يمينها حيث الغرف العديدة المغلقة على الجانبين.
تعلم أنّها ليست في المكان الخطأ، ما جلب ذلك بعض الهدوء إلى نفسها، تذكرت تحذير صديقتها رجاء من عواقب الخوض في تفاصيل هذه المغامرة، "سأحاول الوصول إليه، حتماً سأصل إليه.. قال إنه يتواجد دائماً عند فاتن".
جلست فائزة مقابل منضدة كتب فوقها "الاستعلامات"، الجو داخل مبنى رمادي ما بعث في نفسها القلق. بعد لحظات جاءت شابة، لا تبدو جميلة المظهر، ترتدي تنورة زرقاء وقيمصًا سماويًا، لاحظت الستان من وراء القميص فسرته بضعف في ذوقها، فبادرتها "نعم" أجابت فائزة "أسأل عن الرفيقة فاتن؟"، "من نقول لها؟"، "فائزة ".
اختفت الفتاة بعد دخولها باباً في الممر المعتم، الباب الأوّل على اليمين، القلق يستبد بها، أحسسها اللون الرمادي بالضعف والخوف، لكنها حين تذكرت ما جرى، شعرت بالتصميم والثقة.
جاءت الفتاة بعد دقائق من الانتظار، فأومأت لها بالنهوض والسير معها، تمشي فائزة خلفها فاكتشفت أنّ لصاحبة الابتسامة الصفراء مؤخرة كبيرة لا تتناسق ونحول جسدها.
الممر طويل، والأضواء لا تشغل حيزاً في المجال الرمادي، ثم وصلت الفتاة إلى باب مغلق فطرقته ودخلت، ثم تبعتها فائزة، رأت فتاة أخرى أكبر عمراً من صاحبة الابتسامة، تجلس خلف منضدة طويلة وعريضة ويحيط بها أثاث فاخر، ثمة صورة كبيرة معلقة خلفها، كتب تحتها "القائد الضرورة"، انصرفت فتاة المؤخرة الكبيرة، وبقيت فائزة أمام آخرى لم ترفع رأسها إليها، إذ تقرأ في الأوراق أمامها، "اجلسي"، قالت ذلك دون أن ترفع بصرها، جلست وشعور بعدم الارتياح بدأ يضايقها، نظرت إلى الأشياء وضعت على منضدة قريبة، مجموعة من شهادات التقدير موجهة إلى اتحاد نساء فرع (..) وثمة صور عديدة لنساء يقفن صفاً واحداً أمام "الضرورة"، وضعت في مكان بارز، فيما تبدو ابتسامة الرفيقة الجالسة أمامها الآن، في الصورة متوهجة وهي تحني رأسها وتمد يداً للمصافحةِ.
رفعت الرفيقة رأسها إلى فائزة، وقالت "نعم، تفضلي"، حاولت إضفاء نوعٍ من الوقار على جلستها ، وفائزة رابطة الجأش، ثابتة الجنان، فقالت "سمعت أن فرعكم يوفر أعمالاً للنساء، فجئت لهذا الغرض " ، قالتها كأن حملاً ثقيلاً أزاحته ، وأرادت ان تطلق زفرة حارقة لولا خشيتها إزاء مقابلات من هذا النوع، فيما ظهر أنّ الرفيقة فاتن ما زالت تداري ارتباكاً بادياً عليها، فسألتها "من أي محافظة جئت؟"، "من البصرة"، "أمتزوجة؟"، "غير متزوجة"، "ماذا تجيدين من الأعمال؟"، "الاختزال بالطابعة".
قلبت فاتن بين الأضابير بجانبها فوجدت فايلاً، فتحته واستلت منه ورقة ثم سلمتها لها "أجيبي على كل الاسئلة في ورقة المعــلومات
وسنرى فيما بعد كيف يمكننا مساعدتك".
بعد ملء الاستمارة بالإجابة عن عشرين سؤالاً، سلمت فائزة الورقة، وأخذت فاتن تقرأ وهي تهز برأسها، وبين حين وآخر، تطلّ بعينيها من أعلى حافة الورقة تسترق نظرة فاحصة، شديدة الفضول، على ضيفتها، ما جعل فائزة تبقي رأسها محنياً إلى الأسفل، تجنباً لفضول الرفيقة المتعاظم، وبعد قراءة الأجوبة، رفعت رأسها وقالت لها ضاحكة "هل تسمحين لي بجلب علبة الشوكولاته؟ " وُضِعت علبة على دولاب أمام الرفيقة بجانب الباب ، نهضت وسارت بخطوات بطيئة، وحذرة، ولم تدرك فائزة مغزى هذا الطلب، فجلبت العلبة ووضعتها أمامها، فتحتها فاتن وقدمت لها العلبة بالشوكلاته تكريماً بها، فاستلت واحدة ووضعتها في راحتها، يبدو على الرفيقة الانشراح "هذه الأيام كاتبة الطابعة غير مطلوبة كثيراً"، ثم تضاحكت بلا سبب، وتوقفت عن الكلام، خطر في ذهنها طريقة مشيتها وهي تجلب الشوكولاته ، ثم نهضت وأخذت توضح لها أسباب عدم رغبة الدوائر بكتّاب الطابعة، بدأت تسرع بكلامها، وبدا لفائزة أنّ إيقاعاً آخر يَسِم حركاتها، على عكس ما بدت عليه أوّل مرة، ثم جلست الرفيقة، وقالت "المعلومات المتوفرة عندي تشير إلى أنّك تستحقين العمل، يبدو عليك حزينة بسبب فقدانك أخاك الشهيد، ووالداك متوفَيان، غير متزوجة، تسكنين الآن في بيت خالتك في بغداد"،ثم توقفت، نهضت مرة ثانية واستدارت حول منضدتها ووقفت بالقرب من فاتن، لامست ذراعها بحنو بالغ "انهضي أرجوك"، طاوعتها فائزة كاتمة اندهاشاً وعجباً، ثم همست بأذنها "ما رأيك بالعمل مدبرة منزل"، استغربت فائزة أسلوب الرفيقة في تمييع كلامها فأخذت بمجاراتها، "سيكون مرتبك عشرة أضعاف راتب كاتبة الطابعة، وسيوفرون لك، إضافة إلى المأوى في بيت فاخر، لوازم أخرى كالسفر معهم إلى الخارج وشراء ملابس وأحذية مجانية آخر موديل.. وغيرها".
فكرت فائزة بعبارة "عشرة أضعاف" وعلى الفور تذكرت صديقتها رجاء في البصرة حين قالت لها "لا تصدقي كل ما يقال لك"، مسكتها فاتن من ذراعها بالحنو نفسه "اجلسي عزيزتي، وسأساعدك في التفكير بدلاً من انشغالك بالفكرة لوحدك، الحياة عزيزتي، عبارة عن مال ومتعة، فاذا توفرت الأموال تأتي المتعة والسفر، البيت الجميل، والسيارة، أما الزواج فهو أكذوبة الأكاذيب، معظم النساء اللواتي تزوجن أصبحن خيوطاً في أحذية أزواجهن، يتلظين بالعسف والاستياء، وفي آخر النهار مطلوب منها أن تكون على الدوام محظية"، بلعت فاتن ريقها وشاركتها فائزة، ولم تسألها عن علاقة اتحاد النساء بتوفير مدبرات المنازل، لم يشغل ذهنها انقلاب هذه المؤسسة النسائية لتتحول إلى تنظيم شؤون الخدمة المنزلية، فهي قد جاءت بدافع محدد ستمضي به إلى نهاية المطاف، قالت فائزة ببطء وهي تضغط على مخارج الحروف "يا رفيقة، لدي دبلوم فنون تطبيقية، ولا تسمح شهادتي العمل مدبرة منزل أو.. خادمة، كرامتي لا تسمح بذلك".
شعرت فاتن بالغضب، فجلست بجانبها، لصقت بفخذها الدافئ، "أيّة كرامة ستبقى إذا ما فقدت راتباً سيجعلك ملكة، وبعد سنة أو سنتين ستملكين السيارة والذهب وربما تتمكنين من شراء شقة في شارع حيفا؟" توقفت قليلاً، ثم استرسلت، "هل تتوقعين سيكتفون بالراتب؟ كلا طبعا، إنّهم سيغدقون عليك بالهدايا فيما إذا وجدوا فيك حرصاً وأمانة، هيّا دعيني أستطلع ما يدور في عقلك لأحلّ لك العقد المستعصية"، توقفت ثانية وهي تسحب نفساً عميقا تعبت بها رئتاها، ثم أكملت " أريني أين وصلت، بيت خالتك، أعتقد أنّهم لن يمانعوا وهم ليسوا أوصياء عليك، أخبريني ممن يتكون بيت الخالة؟" نظرت إليها فائزة باهتمام، وأجابت، "خالتي وابنتها وابن.." ثم تذكرت هروب كريم من العسكرية فأدركت بأن ليس من الذكاء الإتيان بسيرته في مكان كهذا، فقالت مستدركة، "خالتي وابنتها فقط"، قالت الرفيقة ضاحكة "فقط"، سؤالها خبيث، وفطنت فائزة إلى أنّها قد تكون اكتشفت كذبها بشأن ابن خالتها، فقالت لها الرفيقة متخابثة "أعتقد أنّك أردت القول وابن خالتك، لكنك تمنعت في الكلام خشية من شيء ما، ربما هو هارب من العسكرية.. أليس كذلك؟
شعرت بالاختناق من دخول الرفيقة اللعينة إلى أسرارها بسهولة غير متوقعة، فاحمرت من الخجل وأحسّت ثمة بضعف في صوتها وعدم قابليتها فهم ما يحيط بها، شعرت بمياه دافئة تسيل بين فخذيها، ربما بدأت الدورة الشهرية، ولم تستعد لها بعد، فقالت مرتبكة، ومذعورة، "هل لديكم حمام هنا؟" سألت ذلك وهي تلوذ بحثاً في غرفة الرفيقة عن مهرب بسبب الحرج الذي وقعت فيه، إحساسها أخذ يفقد جدواه بمرور اللحظات إزاء مهمة جاءت من أجلها ، وتفاقمت لديها رغبة شديدة في أن تصفع الرفيقة وترحل هاربة ، غير أنها أدركت صعوبة ذلك فقالت الرفيقة " من هنا الحمام" وأشارت إلى باب داخل الغرفة فنهضت مسرعة وولجته ثم تأكدت من إغلاقه بإحكام، نظرت إلى نفسها في المرآة فوجدت تغيراً في ملامحها، تعتريها المشاعر نفسها حين تسقط عليها العادة، خلعت تنورتها وعلقتها على المشجب، هناك مكان شرقي، وآخر غربي، مع حوض صغير وآخر كبير "بانيو" وثمة ستارة من البلاستيك تفصل الحمامين عن المغاسل، ثمة شامبو مختلف الأنواع وصابون أجنبي، خلعت كل ما ترتدي من الملابس، ثم سمعت صوت الرفيقة "لا تحتاري بتجفيف شعرك إذا رغبت بالاستحمام، لدينا غرفة لتجفيف الشعر وتصفيفه من جديد" شعرت فائزة بالاحتقار نحو الرفيقة لإيغالها بكشف أسرارها ، فتحت الستارة وتدحرجت في البانيو الكبير وأغرقت جسدها بالمياه الدافئة منبطحة على ظهرها بعد تأكدها أنّ الوقت لم يحن للعادة الشهرية، ولكنها إزاء إغراء الحمام لم تجد ممانعة من الخوض فيه، وقد توصلت إلى نتيجة مفادها أنّ الرفيقة في شوق لمعرفة استعدادها للعمل بـ "عشرة أضعاف" ولذلك أخذت راحتها بتمضية الوقت كي تعبث بمشاعرها ما دامت الكرة في ملعبها الآن.
وبعد ساعة، خرجت من الحمام، وسألت الرفيقة "أين غرفة السشوار؟"، فأجابت بسرعة "تفضلي معي"، سارتا إلى الغرفة المقصودة، خارج مبنى الاتحاد، في بيت يعود بملكيته إلى المؤسسة وقد فُتح له بابٌ جانبيٌ ملاصقٌ، بحيث يمكن الدخول والخروج منه دون حاجة إلى الالتفاف عبر بوابة الشارع الرئيسة، تسير خلفهما سندس، صاحبة الابتسامة الصفراء، وصلن جميعاً إلى الغرفة المقصودة، عبارة عن صالة حلاقة مصغرة للسيدات، ثمة فتاة تجلس على كرسي أمام المرآة تقلم حاجبيها "رفيقتنا فائزة" قالت ذلك فاتن ثم انصرفت، بينما بقيت سندس واقفة خلفها، بادرت الحلاقة، "أنا عفاف" قالت ذلك وهي تترجل عن الكرسي مرحبة بها، يبدو وجه الفتاة ضاحكاً، صافحتها، فقالت سندس "إعادة صياغة"، التفتت فائزة إليها ولم تفهم معنى ما قالت، فنظرت فائزة إلى عفاف الحلاقة لتستفهم المعنى منها، غير أنّها تجاهلت نظرة فائزة وسألت سندس ثانية "إعادة صياغة كاملة،أم نص ونص" ازدادت فائزة حيرة وتشتتاً، ووجدت الفتاتين تدفعانها إلى مغادرة الغرفة بسبب لغة التشفير والألغاز، كادت تعبر عن تحقيرها لهما لولا أنّها تذكرت ما جاءت من أجله، فكتمت غيظاً مستعراً واستسلمت لأصابع عفاف وهي تقص لها خصلات من شعرها الذي يبدو نافراً، بمرور الوقت اقتنعت بحرفية أصابع عفاف "سأجعله كتسريحة الأسد، فهي قد تتلاءم مع بياض وجهك المدور الجميل "ردت فائزة بغضب كظيم "افعلي ما شئت".. ضغطت عفاف على زر مسجلة بجانبها فصدحت موسيقى كلاسيكية فتسربت الى فائزة لحظات من الدفء، سرح خيالها إلى تلك الأماكن البعيدة، وفجأة توقف صوت الموسيقى، وخيم صمت عميق، حتى مقص عفاف توقف عن رنينه، فتحت فائزة عينيها فوجدت الحلاقة تنظر إلى جهة الباب مقطوعة الأنفاس، التفتت فائزة إلى جهة الباب، فرأت شاباً يقف مبتسماً يرتدي الملابس الزيتونية، وأحسّت أنَّ ابتسامته فيها ثقة وصلافة ، فقالت في نفسها "لم يتغير ابن الكلب، الابتسامة نفسها والثقة اللامحدودة" يتلاعب الشاب بمسدس ذي قبضة فضية فاشمأزت منه ، منذ أوّل نظرة وقعت عيناها عليه، كأنّه ينظر إليها تلك النظرة الدبقة التي لا يمكن نسيانها، النظرة نفسها، الوقفة نفسها، فارداً ساقيه كأنَّما هناك خللٌ ما بين فخذيه، تعاظم اشمئزازها منه وهي تحدق به، متمعنةً بصلافة يتمتع بها بحيث ينظر إليها من دون أن يطرف له جفن، وهي بالمقابل لم تشعر إزاءه بالخوف، مثلما حصل في تلك الأيام، قبل سنوات مضت، حين جاء إلى البصرة مع أستاذه يتفقد المعهد، وهو في حقيقة الأمر، يحاول اصطياد الحسناوات، فوقع نظره عليها، ثم ناولها رقم تلفون الأستاذ وهمس في أذنها "اتّصلي به وقت ما تشائين" ضغطت على الورقة الصغيرة، بين راحتيها، في وقت هي بأشد لحظاتها النفسية تأزما، في أشدّ أوقاتها بحثاً عمن ينقذها من حزنها ، ووجدت حضور الأستاذ إلى المعهد فرصة نادرة لا يمكن تكرارها في السعي للانتقام من الرائد عماد، وعندما جن الليل اتصلت بالرقم وجاء الجواب أنّ سيارة الأستاذ ستأخذها إلى مقر إقامته لتشرح له مشكلتها، غير أنّ الأستاذ لم يصغ إلى المشكلة، بل يضحك ويتندر ويزمجر وهو يشرب الخمر، ويمارس العبث والمجون، وحين اقترب منها لكي يخلع عنها ملابسها، لم تسمح له بذلك، يقترب منها فتهرب ولم يستطع إمساكها إلا بمساعدة عليان القذر، الذي وقف خلف الباب الموصد بإحكام، فربط يديها إلى الخلف وساقيها باتجاهين متعاكسين إلى دولاب كبير مصنوع من الصاج، تركها وحدها معه بعد أن انتزع آخر قطعة من ملابسها ورماها إلى سلة المهملات قبل أن يشم رائحة فرجها مطلِقاً ذلك الصوت القبيح الذي يعبر عن الانتصار الزائف "كأنها المسك أستاذ".. هاهو عليان يقف أمامها، لا يتذكرها كما يبدو ، ذلك لأنّه كان مخموراً مثل الأستاذ، فقال "من هذه الجميلة عفاف؟" لهجته تدل على وقاحة ، "هذه الرفيقة فائزة"، ألقى نظرة فاحصة، طويلة، سال فيها لعابه، ثم غادر مبهوراً، يبحث في ذهنه فيما إذا التقى بها من قبل أم لا، عقله يقول له إنّه لم يلتق بها، فقالت عفاف بعد مغادرته "هذا من حماية الأستاذ"، فأجابت فائزة باضطراب "معقولة" اشتعل الغضب في رأسها، حاولت كتمانه، فبادرت عفاف "يمكنك الذهاب الآن، لقد غادر الرفيق "فضحكت فائزة بتشنج" ولماذا كنت خائفة منه يا رفيقة؟". غادرت صالة الحلاقة ووجدت سندس بانتظارها "اتبعيني" مشت خلفها تنظر إلى مؤخرة غير متناسقة مع إيقاع الجسد.
دخلت غرفة فاتن فبادرت "يا للجمال.. كأنك عروس" كتمت فائزة سخرية مريرة ، كادت تطلقها على شكل ضحكة قوية ، لولا أنّها ما زالت تضع تحت منظارها مايوجب الترقب والاختبار والبحث عن الطريق الصحيح "أين وصلنا يا فائزة؟" سؤال ساذج، هكذا خطر ببالها، فلم تجبها.
وبقيت فاتن تحدق بعيني فائزة "تكلمنا إن كنت موافقة على أن تعملي في مكان راق براتب محترم؟" ، فأجابت فائزة مكملة كلامها "عشرة أضعاف راتب كاتبة الطابعة.. أليس كذلك؟" أسرّت فاتن، وجلست قبالتها وظهر عليها المرح "أنا أحب صنفك، لأنّه صنف محبوب لدى الجميع، صدقيني سترتاحين كثيراً في العمل كمدبرة منزل، "، ردت فائزة بمرارة وألم "وأنت.. ماذا تستفيدين من كل ذلك؟" السؤال مفاجئ ، مثل رش الماء الساخن على رأس الرفيقة ، كادت تفقد توازنها، لولا المرونة والأريحية التي تتمتع بها والخبرة الطويلة في مواجهة أمور كهذه "هذا السؤال سأنساه منذ الآن ، سأعتبر نفسي لم أسمعه، لأعيد عليك سؤالي السابق.. هل تقبلين بالعمل أم لا؟". لم تجب فائزة بسرعة كما توقعتها فاتن، ران صمت ثقيل بينهما، شعرت فاتن خلاله بضعفها أمام هذه الفتاة الصلفة، تحاول استنطاقها، لكن فائزة أغلقت الأبواب بوجهها، وفي الآخر وجدت أن منحها فرصة ضئيلة أفضل من الهروب بشكل مفاجئ، وبالتالي قد تضيع عليها أول خيوط بحثها، بعد أن وصلت إليها بكل اليسر والسهولة، قالت فائزة "أعطيني العنوان وسأفكر في الأمر".
نهضت فاتن مسرورة، اتجهت صوب مكتبها لتكتب العنوان وكل المعلومات اللازمة للعثور على البيت الذي ستعمل فيه فائزة.
4
شعرت بالراحة عندما غادرت المبنى وغمرها الفرح المؤقت، الذي سرعان ما ينسى، شاعرة حيناً بالخفة بعد ذلك الحمام البخاري الساخن، وحيناً بالألم لأنها بدأت تمسك خيوط لعبة نارية تخوض بها الآن، نزلت السلالم وواجهت الشارع ثانية، وحينما أرادت إغماض عينيها، كعادتها، لتفكر في الخطوة التالية، وجدت سيارة تاكسي تقف على بعد أمتار اتجهت نحوها قبل وصولها إلى حافة الرصيف، ابتسمت في سرّها، وأنبأتها حاستها بغموض وخطورة صعود هذه السيارة، لا بد أن جهة ما تقف وراءها، غير أنها بدلاً من تجاوز السيارة، قبلت التحدي، وأيقنت أنّ أموراً كثيرة في ذهنها ليس الصعود في سيارة أجرة معدة لها سلفاً يمكن أن تعيق تقدمها، فقالت لنفسها "سأصعد السيارة، ولتذهب بي إلى أيّ مكان"، حنى السائق جذعه ومد رقبته بعد أن أوقف عجلته بالقرب منها، وخاطبها متودداً بابتسامة مفضوحة النوايا "تكسي أختي"، في الثلاثين، وجدت فيه ثباتاً وثقة بالنفس، شارباه الكثيفان علامة لا تخطئها العين من علامات انخراطه بمراقبة الناس وكتابة التقارير الأمنية ، فابتسمت له "هل كنت تنتظرني؟". ارتبك السائق، ولم يُجب، تعرف هذا المكر في العينين، "لا والله.. لماذا أنتظرك، وهل أعرفك، أنا بانتظار أي زبون!" قاطعته بفتح الباب الخلفي والصعود بسرعة لتريح رأسها على متكأ المقعد" أكمل كلامك، لماذا توقفت؟" ما زال الشاب محرجاً،" إلى أين؟" فتحت الحقيبة وأخرجت ورقة العنوان فقرأت، ثم قالت "الجادرية".
انطلقت السيارة تخوض في شوارع العاصمة ولم يفارق السائق مرآته الأمامية محدقاً فيها، فطلبت منه رفع نظره عن المرآة كي لا يصطدم بسيارة تسير أمامه "أعتذر.. ولكن يجب مراقبة سيارات تسير خلفي". التفتت فائزة إلى الخلف فوجدت عجلة حديثة الشكل تسير خلف التاكسي، لا تفارقها، فتأكد حدسها وابتسمت ثانية وقالت في نفسها "مكشوفين"، ثم طلبت منه: "توقّفْ هنا"، ثم قالت "أردت التأكد من محل يمكن تجاوزناه يبيع حاجيات نسائية"، لاحظت فائزة عجلة تسير خلفها توقفت على مبعدة مئتي متر تقريباً فقالت للسائق: "انتظرني هنا"، بُهت السائق وقال: "أرجوك بسرعة، قد أغرم من شرطة المرور لوقوفي في مكان ممنوع الوقوف فيه" فردت "لن أتأخر، دقيقتين لا أكثر".
نزلت بسرعة واتجهت صوب محل تجاري لبيع الملابس، توقفت عند واجهته الزجاجية ورأت عبر الزجاج سيارة أخرى تراقبها، فدخلت المحل، ثم ألقت نظرة على المعروضات وفي الوقت نفسه تنظر إلى سيارتي الأجرة وآخرى تتبعها، اقتنعت أخيراً أن عبورها إلى الجهة المعاكسة سيمنحها حريّة الحركة وربما الإفلات. وبالفعل ما إن خرجت من المحل، حتى عبرت الشارع المزدحم بالسيارات، وقد ابتعدت عن سيارة الأجرة ومثلها السيارة المطاردة وصارت في الجانب الآخر من الشارع، وأدركت أنّ سائق سيارة المطاردة يراقبها عبر مرآة السيارة وعلمت أنّها اختفت عن أنظار سائق الأجرة، ولما وصلت إلى محال هذه الجهة من الشارع، دلفت بسرعة إلى أقربها لبيع الملابس النسائية، أعجبها فستان وردي فسألت عن سعره وطلبت ارتدائه لترى ملاءمته على جسدها، خلعت تنورتها وقميصها ذات اللون الأسود، إذ قررت منذ هذه اللحظة إلغاء حدادها، مؤقتاً، وجعلت شعرها كذيل الحصان تاركة تسريحة الأسد خلفها، وأصبح شكلها مختلفاً الآن عما كان قبل قليل، وضعت ملابسها القديمة في كيس ونقدت البائع ثم غادرت المحل تسير عكس اتجاه السيارتين الواقفتين، ابتعدت كثيراً عنهما ولما شعرت بمأمن، أومأت لسيارة أجرة أخرى ثم صعدت فيها دون محادثة سائقها، التفتت إلى الوراء، فوجدت السيارتين في مكانهما وقالت "أغبياء" قال لها السائق "إلى أين؟" فأجابت: "إلى مدينة الحرية"، السيارة مسرعة "أسير بها هكذا لخاطرك" لا تريد فتح حوارٍ معه هي في غنى عنه "أردت الابتعاد بك عن ذاك المكان، أفترض أنّ سخيفاً يطاردك"، فقالت بثقة: "كلا أنت غلطان، لم أكن مطاردة"، فقال: "عندما صعدت، التفتِّ مرات عديدة إلى الخلف، فعرفت حاجتك لمن ينتشلك من ذئاب النهار، أعرفهم جيداً، لا يتركون فتاة محترمة تسير بقامتها في بغداد". غمرها الأمان معه، فابتسمت، وتركته يتحدث "يأتون بالإجازات الشهرية من الجبهات، ويتصورون أنّ كل الفتيات ساقطات، هذا غير صحيح، هناك الكثير منهن شريفات وبنات عوائل، صحيح الحرب طالت أكثر مما يجب، ولكن بعضهن للأسف، اسمحي قول ذلك، تجاوزن الخطوط الحمر، غير أن الكثير منهن ما زلن يحافظن على عفتهن". عندما ذكرها بالحرب، تذكرت تلك اللحظات العاصفة حين جاءوا بأخيها ملفوفاً بالعلم، وكيف مزقت والدتها ثيابها وكيف رمت هي نفسها على التابوت، لم تتذكر ماذا قال لها المأمور بجلب الجثة إلا بعد انتهاء مجلس العزاء بأربعين يوماً، قال لها: "أخوك بطل، لم يرفض الأوامر العسكرية" لا تود الإصغاء، فهي غير قادرة على التحامل على حزنها، غير أنّه قال: "آمر الفوج يقصده دون غيره"، فانتبهت إليه أخيراً" عماذا تتحدث أخي؟" تلعثم الجندي وقال: "لم يرفض الأوامر، وقد كان بإمكانه رفض الأمر أو تسويفه، غير أنّ الرائد عماد، أصرّ على أن يذهب إلى تلك السرية الساقطة"، ما تزال تستمع إلى الألغاز، وكلمات غير مفهومة، فاستوضحت "أرجوك، أخبرني بالقصة على قدر فهمي، فأنا لا أعرف ما تقصد! ".
عندما انتبه سائق سيارة الأجرة العجوز أنّها لا تعير كلماته اهتماماً، صمت، وظلَّ يراقبها من خلال المرآة الأمامية، رأى تدحرج قطرات دموعها من خلف النظارة.
توقفت سيارة الأجرة بالقرب من بيت أحلام صديقتها القديمة، ترجلت واتجهت فوراً إلى الباب، ضغطت على جرس الباب، ولم تمض لحظات حتى خرجت أحلام عانقتها بحرارة ما إن رأتها وصاحت: "معقولة، فائزة بلحمها ودمها!!".
5
صعد عليان سلالم بناية اتحاد النساء بسرعة، قافزاً، بخطوات واسعة، عابراً الممر وهو يخطو لاهثاً مقطوع الأنفاس، يتطاير الذعر والهلع من عينيه، فتح باب غرفة الرفيقة فاتن باندفاع شديد، فوجدها تمسك بالتلفون وتضع قدميها على طاولة صغيرة بجانبها ، وتبتسم أثناء حديثها الهامس،ولما صفق خلفه الباب، انتبهت إلى وضع قدميها فعدلت جلستها، قال عليان مذعوراً: "فلتت".. فاتن تصغي إلى الصوت في التلفون الذي وضعته دون إغلاقه "ألو.. ألو، أين أنتِ؟ " سمع عليان صوت الرجل في التلفون مما ضايقه ذلك فالتقط الحاكية ووضعها بعصبية في مكانها قاطعاً الصوت: "قلت لك فلتت من بين أيدينا" فاتن تعلم كيف تواجه مواقف كهذه، لذلك، فرحت في داخلها لأن عليان لم يحقق مآربه بالسرعة المطلوبة بعد تحذيره قبل ذهابه إلى غرفة الحلاقة بأنّ الفتاة ليست "خام" ولا يمكن ملاعبتها بسرعة" غير أنّه قال لها: "كل الفتيات يتشابهن بصفات واحدة وسأريك كيف تهفو إليَّ بسرعة".
فقالت له ساخرة: "إلا هذه عزيزي، تبدو من طراز آخر " وأرادت أن تقول له، إنّ جمالها بمستوى عقلها، لكنها أرجأت ذلك لمعرفتها عدم قدرته استبطان معنى مثل هذه الكلمات، غير أنّها قالت: "ليست سهلة فلا تتسرع معها، دعنا نأخذ عنوانها أو تلفونها ثم نجلبها بهدوء دون إثارة ضجة"، قال غاضباً: "معقولة تستعصي عليَّ فتاة"، فقالت "اذهبْ وجربْ"، ما زال الغضب يتطاير من عينيه "هات ما يتوفر لديك من المعلومات عنها"، ازدادت فرحاً لإيجادها طريقة ما لإذلاله" ليس لدي معلومات "، غضب، "ألم تملأ لديك استمارة المعلومات؟ ". سخرت منه "كدت أقنعها قبل ذهابك للصالون لتفركش بتسرعك كل مخططاتي" أحبط، جلس منهاراً: "ما الذي سأفعله، ساعديني، اتصلت بالأستاذ وأخبرته بالفتاة، ووعدته جلبها إليه ليلاً"، وضع يديه على وجهه: "ماذا أفعل؟ أنت طوق نجاتي، أرجوك ساعديني"، تعاظم شعورها بالانتصار، ورأت إذلاله،: "سأجعله يركع تحت قدمي".. قال نادماً: "آسف من غلق التلفون"، ردت ببرود: "اعتدت على تصرفات غير متوقعة منك، ليس غلق التلفون وحده"، سألها بحزن: " ما العمل الآن؟". رفعت كتفيها وقالت: "هذه مشكلتك وليست مشكلتي". قال بيأس: "سيمزقني،تعلمين أنت كم هو قاسٍ لايرحم أحداً". بقيت صامتة، متلذذة بتعذيبه، فأكمل: "خصوصاً إذا تعلق الأمر بفتاة، تصوري أصبحت فتاته قبل أن يراها، ما أن وصفتها له حتى قال هي التي انتظرها"،كاد يبكي: "لديه عصا كهربائية سيمزقني بها"، قالت في سرها: "تذوقها إذن". أشعل سيجارة وأخذ يذرع الغرفة، ثم قال: "أين سندس؟" ابتسمت فاتن: "غادرت سندس، انتهى الدوام الرسمي ". زعق بها: "هل لديكم دوام هنا؟ "، ثم تذكر أنَّه ما زال تحت قبضتها، ولربما ستنقل ما يدور بينهما إلى الأستاذ فيغضب عليه أشد الغضب، فقال: "آسف عزيزتي، لا أقوى على مقاومة انهياري، لا أستطيع فعل أي شيء، قلت ربما سندس تعرفت عليها جيداً وأخذت عنوانها أو تلفونها". ضحكت فاتن بأعلى صوتها: "سندس !! معقولة؟ أكيد أنت لا تعرف ذرة واحدة عن النساء، سندس لن تتجاوب معك وإلى الأبد، خصوصاً بعد الحادث اللعين، إنها تكرهك" قال مقهوراً ونادماً: "أرجو لا تذكريني"، فقالت: " الفتاة مثل الوردة، تحولت بسببك إلى مهبولة"، فقال مدافعاً: "رفضت الانصياع، ففعل بها ما فعل.. ما ذنبي أنا؟" قالت بعصبية: "وتكشف له عن مؤخرتها لتضع المكواة عليه، هل يعقل؟ بافتخار قال: "أوامر الأستاذ"، فقالت: "ألم أخبرك أنها تحتاج إلى المداراة ولا تأتي بسهولة؟"، فقال: "أعجبتني المؤخرة"، قالت: "ثلاثة أشهر تداوم وهي واقفة لا تجلس على مكان، تبول وتتغوط واقفة، تصور نفسك المكواة تحرق جلد مؤخرتك، كيف ستجلس أو تنام أو تتغوط؟ تحملت المسكينة عذاباً لم يتحمله بشر، ثم تركت أهلها بسبب ذلك"، فقال: "أعرف بقية القصة،أرجوك كفى، أخبريني الآن ماذا أفعل؟" اقتربت منه ببطء، وقد واتتها الفكرة، ولم تشعر الآن بالخوف من عواقبها، فقد زال الخوف من صدرها، خصوصاً بعد أن جربت دخول بيت الأستاذ وتمرغ أنفها بالإهانة، الفكرة تنضج على نار هادئة منذ أشهر وانتظرت اللحظة المناسبة لتنفيذها وأدركت أنّ الوقت قد حان للبدء بها ولامجال للتأجيل، فوصلت بالقرب منه، شم عطرها، كاد يلحس جيدها من فرط دنوها منه فسألها: "ماذا لديك؟". نظرت في عينيه نظرة نافذه، ثمَّ قالت ببرود: "لدي ّ الحل". فانفرجت أساريره وابتسم مترقباً: "هيا.. قولي بسرعة أرجوك". ابتعدت عنه باتجاه النافذة: "ولكن بشرط "، حدسه لم يخطئ بأنَّها ستضع شروطاً، فهو يعلم أنّها لاتضيّع فتاة جميلة بهذه السهولة، فقال متلهفاً: "اشرطي، شبيك لبيك عبدك بين يديك". التفتت إليه وهي عازمة جداً على تنفيذ فكرة نضجت الآن: "هل تذكر شريط الفديو؟". وقف متغابياً أمامها كأنه لا يعرف شيئاً عنه، وهو الذي أباح لها، ذات سكرة شديدة في بيتها، كيف يتم تشغيل جهاز فيديو في غرفة سرية تنقل إليه من كاميرا مخفية، وضعت مقابل سرير الأستاذ كل الأفعال الجنسية تقام على مسرح السرير، فأومأ لها بإشارات يفهم منها عدم معرفته بما تقصد، فقالت بغضب: "هل نسيت، أم كنت مخموراً عندما قلت صورناك على السرير والأستاذ يراقب "الطحن".. شعر بقلبه يقع بين يديه وتذكر أنّه غالباً ما يأتي إليها يبثُّ نجواه عندما يكون ثملاً، في ذلك اليوم الذي أفضى بهذا السرّ دون أن يدري! فتغابى أكثر: "أي شريط؟ لا أفهم قصدك" ما زال الغضب الهادئ يسيطر عليها: "الشريط الذي يخصني، شريط الفضيحة"، ضحك عليان متوتراً: "أتخشين الفضيحة حقاً؟". تضايقت من قرقرات ضحكته وقالت: "ليس عندي حلٌّ إذن، واذهب أخبره تضييعك لها". عاد إليه الخوف من العصا الكهربائية، والمكواة، والقفص التابوتي، والغرفة الحمراء، والفلقة، والكلاب المسعورة تأكل لحوم البشر، فقال مستذكراً: "آه.. تذكرت، شريطك وأنت على السرير مع عبيد، ماذا تريدين منه؟" فقالت بحزم: "أريد أن تجلبه لي، ولا أظنّ الأستاذ سيتذكره في زحمة انشغالاته ومغامراته وتجاراته العنكبوتية"، فقال مذعورا:ً "أنا أسرق شريطاً من مكتبة الأستاذ؟ هل أنت مجنونة؟ أكيد مجنونة، كيف يمكنني ذلك؟" قالت: "ألم تخبرني أنّك في ليالٍ تضعه على كتفيك إلى الفراش وتدثره لتبقى وحدك تصول وتجول في قصره؟"، قال: "صحيح، ولكن"، "ولكن ماذا، أيصعب عليك جلبه؟"، "واذا افتقده؟".. اقتربت منه كاد صدرها يلامس صدره وشمّ العطر ثانية: "لن يفتقده، ليس لديه الوقت الكافي ليقلب الأشرطة مادمت تأتي إليه كل ليلة بساقطة تنام تحت قدميه". شعرت أنّها أخذت منه كل زمامه، وأغلقت عليه الأبواب، فيما العطر يرخي انشداده وتوتره: "ماذا تفعلين به؟ زمّت شفتيها وابتعدت عنه خطوة: "لأرى نفسي كيف كنت في تلك الحالة"، قال غامزاً كقواد محترف: "ألا تعرفين كيف كنتِ؟" إنّه يعلم بلا جدوى مماطلتها، لذلك سايرها لإيجاد الخلاص من مأزقه، أمّا أن يفي بوعده فهذا متروك لقدرته في التملص والكذب: "طيب هاتِ الحل وسيكون الشريط عندك بعد أيام". ضحكت بانطلاق ومدت يدها إلى علبة سجائره في جيب بنطلونه وهي تمرّر ظاهر يدها على عصفوره، فاستلت العلبة وأخذت سيجارة: "اشعلها لي". ارتخت أعصابه، وثمة هسهسه شعر بها تدب في جسده، فأخرج قداحته مرتبكاً وأشعلها، فقالت: "هل تتصورني لا أعرف ما يدور في عقلك الآن؟" أطفأت السيجارة: "أحمق إذا تصورتني أعطيك الحل بدون وعد حقيقي بجلب الشريط"، وهو متوتر، قال: "أقسم بالمقدسات"، قاطعته ضاحكة: "أرجوك لا تقسم، أنا وأنت لا نعرف المقدسات". قال بعد نفاد صبره: "بشرفي"، ضحكت بقوة: "شرفك، أرجوك، أقسم لي بأشياء أثمن منه"، عاد الغضب إليه: "ماذا تريدينني أفعل، كيف أقطع وعداً حقيقياً، أخبريني وسأفعل، الوقت يداهمني".. اتجهت إلى منضدتها وأخرجت من الدرج الثالث مسجلة صغيرة يستعملها الصحفيون، تأكدت من سلامة البطارية ووجود الشريط، ثم قالت: "سأفتح هذه المسجلة لتقول ما أملي عليك من كلمات". ذُعر، تلفَّت بنزق باحثاً عن مخرج ما: "أكيد أنت مجنونة"، تحمل المسجلة بيدها اليسرى ثم قربتها من فمه: "سيبقى هذا سراً بيننا يؤكد التعاون بيننا ولن تخسر شيئاً ولن أبوح بسرك بشرفي". تذكر سخريتها منه فرد عليها: "بشرفك".. أعادت المسجلة إلى مكتبها: "اذهب إلى أستاذك وأخبره أنّك ضيّعت الفتاة". قال بسرعة وتوتر: "طيب.. طيب، هاتِ ما عندك، ولكن أعطيني أيَّ تلميح بالحل حتى يمكنني الوثوق بأنك فعلاً جادة بإنقاذي من المأزق"، قالت: "عنوانها، تلفونها، أهلها، أقرباؤها، كل ما يرد بالذهن". فرحاً سألها: " أخشى ألا تكون لعبة من ألاعيبك؟"، ضحكت ببرود: "ألاعيبي يا أحمق؟ أأجلب المسجلة". متأملاً، وهو ينظر إليها من دون أن يراها، فقد تداخلت الأمور الشائكة في عقله والعصا الكهربائية تلوح له في الأفق: " هات المسجلة".
فتحت الدرج الثالث، جلبت المسجلة ثم قربتها من فمه، وقبل أنْ تضغط على زر التشغيل، قالت له: "قل اسمك كاملاً، واليوم الذي نحن فيه وسبب تسجيلك، والوعد الذي قطعته لي بخصوص شريط الفديو"، ثم فتحت جهاز التسجيل.
6
يبدو أنّ كريماً ليست لديه القدرة على الاستمرار بالتحديق في الفراغ انتظاراً لمجيء فائزة، ولذلك تضجره غرفته المشبعة بدخان سجائره، سحق لحد الآن ثلاث علب: " ألا تأكل، الساعة تجاوزت الرابعة عصراً؟ "، قال لأخته ببرود: " لا أشتهي الطعام". يشتهي رؤية وجه فائزة وهي تحمل تلك النظرة الناعسة وبراءة الوجه الأبيض المدور والقوام الرشيق، وتفاصيل جسدها المغرية، تساءل مع نفسه: "ما الذي جرى لها؟ أين يمكن قد ذهبت؟ هل عادت إلى البصرة؟ من بقي لها هناك لكي تعود إليهم؟..
اليوم هو الثلاثاء، موعد مجيء صديقه سازوكي بائع اللوحات، مستثمر الفنانين الهاربين من الحرب، سأله كريم ذات يوم: "لماذا يرغبون في لوحات المستشرقين؟ رد سازوكي: "لا تسأل أسئلة لا شأن لك بها"، سأل "هل جلبت لي الأصباغ؟"، "ستجدها كلها في الكيس، أريدك أن تنجز كل شهر لوحة"، رد كريم: "أنت مجنون.. ماذا قالوا لك عني، بيكاسو؟ "، "ألم تنجز لوحة نوال خلال يوم واحد في الأكاديمية؟" ضغط كريم على زر المسجلة فصدحت أغنية فات الميعاد، اغرورقت عينا كريم: "ستموت من الهروب وفات الميعاد"، نظر كريم إلى لوحته غير المكتملة، القرد يمد يداً إلى نوال كي يأخذها إلى الغيوم، قال سازوكي ساخراً: "لا أرى أي دلالة من وجود القرد هنا"، ردَّ كريم: "هذه الأمور لا يستوعبها عقلك الصغير".
كريم منطرح على السرير بانتظار مجيء فائزة، يتوقع حضورها بين لحظة وأخرى، لا بدَّ أنّها ضلّت الطريق، ثم أكد لنفسه: "غير أنّها في نهاية المطاف ستأتي حتما".
وفي الأجواء الصامتة، والهدوء المضطرب الذي يعيشه، فجأة، حدثت جلبة مفزعة في الأسفل، نهض من رقاده مرعوباً ليستطلع ماذا جرى، نظر بخوف إلى باحة الحوش، شاهد عسكريا بملابسه الزيتونية بيده ورقة ويضع مسدساً بحزامه، فيما وقف خلفه عسكري آخر، زعق الأول: "أين هي؟ " قالت حليمة وهي في أشد حالاتها رعباً وخوفاً " من هي، من تقصد؟ العسكري يبحث في كل الجهات " فائزة، ابنة خالتك، أين هي؟ " اضطرب كريم بشدة، " لماذا يسأل عن فائزة وليس عني؟" أصيب عقله بالتشويش،والاضطراب، ولم يعد يستجمع الأمور ليضعها في نصابها الصحيح، فقالت حليمة "لم تأت فائزة بعد" زعق بها ثانية "أين هو أخوك الهارب من العسكرية.. أين؟ " حليمة وأمه ترتجفان من الخوف والهلع، لم يكن أمامه مجالٌ للهرب، بقي كريم جامداً في مكانه، قالت حليمة مرتجفة "لا أدري!" سألها: "أين أخوك الهارب.. أين هو؟" وبالتفاته منه إلى الأعلى رآه ، فقال آمراً بحزم شاهراً مسدسه " تأتي إلى هنا بسرعة، وإذا اختفيت عن أنظاري سأفتح عليك النار "، أجاب كريم خائفاً: "ها أنذا جاهز بين يديك، ولكن من أنتم؟ وماذا تريدون؟" قال الزاعق: "نحن من الاستخبارات العسكرية، هيا معنا". أمسكه مع زميله بقوة من ذراعيه ودفعاه إلى الباب، صاحت أمّه وأخته، وأخذتا تبكيان بجزع دون فائدة، خرج معهما بملابس النوم، وصعدوا به سيارة اللاندكروز المظللة الواقفة عند عتبة الباب ثم انطلقت بهم بسرعة، يجلس بين العسكريين وهناك من يجلس بجانب السائق يضع نظارة سوداء، ثم التفت كريم إلى الشارع فوجد الجيران قد خرجوا كلهم لمتابعة مشهد إلقاء القبض عليه، قال ذو النظارة دون أن يلتفت إليه" منذ متى وأنت هارب من العسكرية؟ شعر أنّ كلام المتحدث لا يحمل شحنات غضب، ما ساعده ليفكر ثم يقول بيأس: "ما زلت طالبا في كلية الفنون الجميلة". غضب ذو النظارة وقال بنبرة الهدوء نفسها "أنت كاذب!"، خيم الوجوم، بعدها قال ذو النظارة "أنت متخرج منذ ثلاث سنوات، وبدلاً من اللحاق بوحدتك العسكرية التحقت كالنساء بالبيت، ألا تستحي من نفسك؟ تجلس في البيت وإخوانك يقاتلون العدو المجوسي؟" تأكد كريم أنّهم فعلاً من الاستخبارات لمعرفتهم بزمن تخرجه، وقال: "سنرى هناك بأيّة جهة مرتبط".
عبرت العجلة شوارع العاصمة الرئيسة واتجهت إلى طريق زراعي، دخلت في شارع مكتظ بالأشجار من الجانبين ثم توقفت، أنزلوه بزجر وقوة ثم وضعوا خرقة سوداء على عينيه وسحبوه من ذراعيه، ثم مشوا به، وهو يتعثر، ساروا به مسافة نصف ساعة، يستمع فيها إلى أنفاس الشخصين المكلّفين باقتياده، بعدها، توقفوا، ثم صعدوا سلالم، تعثر بأول درجة، ثم ساروا به، في ممر طويل يستمع فيه نقر كعوب الأحذية على البلاط المرمري، وأحسّ بباب انفتح، ثم ألقي بدفعة قوية داخل حجرة ضيقة نحو جدار اصطدم به. بقي في مكانه جامداً، وعندما أغلق الباب، لم يجرؤ على رفع الخرقة السوداء إلا بعد مدة ظنها دهراً، فوجد الظلام نفسه يحيط به، ولا بصيص ضوء، إلا خيطاً رفيعاً متسرباً من كوة صغيرة يبدو أنها من أضواء شاحبة منتشرة في المزرعة.
فجلس القرفصاء بعيداً عنه في زاوية آخر الغرفة ملتصقاً بجدارين، مجبراً نفسه على ألا يفكر، متوقعاً حدوث أي شيء، بما فيه إعدامه، وبعد وقت طويل جاء ذو النظارة "عليان" وبيده مصباح سلط ضوءه على عينيه: "اسمك كريم " قال بخوف وتردد "نعم"، "اسمع، أنت متهم بارتباطك بحزب الدعوة العميل،ولدينا تقارير أمنية تؤكد ذلك، اعترف قبل أن ننزع عنك جلدك، وإذا ذكرت لنا أسماء جماعتك سنعفو عنك ونلحقك بوحدتك العسكرية فوراً". لم يدر ماذا عليه أن يقول الآن، توقفت قدرته على التفكير، اختفت الكلمات من ذهنه، ما إن ذكر له اسم هذا الحزب، وهو يعرف الآن، أنّ مجرد الاتهام بالانتماء لحزب الدعوة، مجرد الوشاية بذلك، دون دليل أو تصديق، تؤدي بصاحبها إلى الإعدام فوراً، بدون حتى محاكمات، لذلك حاول كريم أنْ يسيطر في الأقل الآن على ما في مثانته.
"سيدي أنا حقاً هارب، ولكن حزب الدعوة العميل لا علاقة لي به"، اقترب عليان منه وصفعه بشدة على خده الأيسر، فشعر بالدوار وأصوات الطنين ووشوشة البحر، ثم لطمه ثانية على خده الأيمن فعاد الطنين والدوار ووشوشة البحر،ثم غادر عليان الغرفة. غير أنّ مثانة كريم انتفخت بالمياه وليس أمامه غير تبديدها بسرعة، ففعل، ثم شعر بالارتياح، زكمته الرائحة وأيقن أنّه سيمكث زمناً طويلاً في مكانه، ربما إلى ما لا نهاية.
7
خرج عليان من مزرعة محاطة بالحمايات والأسلاك والحواجز الكونكريتية تقع في غرب بغداد، منطلقاً بسيارته الخاصة يسير بسرعة جنونية، متجاوزاً تفرعات مزدحمة بالأشجار، ثم استلم الطريق السريع ولم تمض سوى ثلث ساعة حتى وصل إلى بيت يقع في منطقة المنصور، أدخل السيارة في مرآب البيت، ثم ترجل، دخل البيت دون إشعار ساكنيه بحضوره، فوجد فاتن بانتظاره "هل وجدتها؟". جلس منهارا ً "ما الذي سأفعله؟"، "سألتك هل وجدتها؟"، "لو وجدتها هل كنت سأقدم إلى هنا؟" ثم أكمل "الفرار وضعته في السجن"، توقف قليلا ً، وبصعوبة قال: "إلى أين يمكن أن تكون قد ذهبت؟" جلبت فاتن كأسين وقنينة ويسكي "اشرب.. وستنسى". صبّ لنفسه وكرعه بسرعة: "أين سندس؟" قالت متبرمة: "دعها نائمة، عليان لا شأن لك بها، مفهوم"، صبّت الرفيقة لنفسها كأساً وتناولته بهدوء جالسة قبالته وهي ترتدي ملابس النوم الشفافة "متى ستأتين بالشريط؟" جرع كأساً آخر، ثم ألقى نظرة إلى الصور واللوحات، وتوقف عند صورة "الضرورة"، فشعر بالاشمئزاز، صورة كبيرة يعتمر فيها اليشماغ الأحمر وبيده قدح الشاي، يعلم عليان أنّ اتحاد النساء طبع عشرة ملايين نسخة من هذه الصورة بإيطاليا، التفت إليها: "لماذا أنت شغوفة بالشريط؟ ما هي فائدتك منه؟". ضحكت فاتن "الفضول"، قال لها: "أنقذيني من هذه الورطة؟". سندس تصغي لحديثهما وهي في غرفتها، تضطرم النار في قلبها، متمنية أن تضع المكواة الحامية على مؤخرة عليان، غير أنها، ككل مرة، فاقدة الحيلة فبقيت تصغي بغضب، قالت فاتن: "عملت ما عليَّ عمله، أعطيتك العنوان، أعطيتك الدلالات، ما الذي يمكنني فعله أكثر من ذلك؟" فكّ حزامه العسكري عن خاصرته "أترغب بسماع رأيي؟" لم يبال لها فقد كان شارداً وقد دب الكحول في رأسه، قالت "أخطأت بإبلاغ الأستاذ قبل أن تتأكد"، متضايقاً: "أريد حلاً، أعترف أنّي أخطأت، فما الحل؟ بعد قليل سيطلبني الأستاذ، فماذا سأقول له؟"، قالت: "نتصل بواحدة لا يعرفها لترافقك كأنها الفتاة المقصودة"، فرح عليان وعب ما تبقى من الكأس في جوفه: "هيا اتصلي بسرعة ماذا تنتظرين؟ " طلبت فاتن رقماً، ثم قالت "ألو تغريد، أين أنت الليلة؟ ماذا؟ عروض أزياء؟ متى؟ طيب، بعد ساعة سأنتظرك، مسألة ضرورية، نعم . معه، طيب حبيبتي، ماذا تقولين؟ مزعج، أعرفه مزعجاً، لكن من أجلي.. أرجوك"، ثم أغلقت التلفون، "متى ستأتي بالشريط؟"، فرحاً: "عندما تحين الفرصة، ألم أخبرك بذلك؟"، قالت بحزم: "الليلة". ارتبك وسأل: "وإذا لم تسنح الفرصة؟"، فقالت: "بعد أن يثمل بإمكانك أن تفعل أيّ شيء، أليس كذلك؟"، لم يجب، فقالت: "ماذا تنتظر هنا، هيا اذهب للفتاة كي تأخذها إلى أستاذك الـ.. فحل". دفعته باتجاه الباب وهو يحاول ربط حزامه:" اذهب إليها في فندق بابل، أنت تعرفها حق المعرفة، اسمها تغريد".
صعد سيارته وانطلق بها، فيما جلست فاتن أمام التلفاز تستمع إلى الأخبار، وبعد هنيهات دخلت سندس، ووقفت خلف فاتن فالتفّت إليها، وشملتها بنظرة حانية، محاولة تعويض ما افتقدته من حنان الأهل، مسكتها من أصابعها وسحبتها بهدوء إليها، وأجلستها بجانبها"، عندما يأتي بالشريط سيكون لي معه كلام آخر"، أطلقت سندس زفرة قوية كأنما لا تريد تذكر ما مر بها: "سنذهب بإيفاد أنا وأنت إلى إحدى العواصم ثم نبقى هناك". تتفهم سندس أنّ فاتن تسعى لإرضائها كي تنسى ما حدث لمؤخرتها من تشوهات فابتسمت ساخرة وقالت: "سيجلبوننا بأكياس القمامة من أيّة عاصمة نذهب إليها"، ثم أخذت تضحك من فاتن: "تحلمين كثيراً، هؤلاء خنازير بشرية، لا رحمة في قلوبهم". رن التلفون، فأجابت فاتن "أهلاً تغريد، سيأتي ليأخذك بسيارته، أرجوكِ تحمّليه من أجلي". نظرت إلى سندس ثم قالت: "تلك المسألة، لم أنسَها، مجرد معرفة ضابط الأمن المختص وسأوافيك ما سأعمل به، تعرفينني أنت جيداً.. باي". أغلقت التلفون وتأففت، بسبب كره فتياتها لعليان، تفكر بإيجاد الحلول المناسبة لأية معضلة، لكنها أبطأت في إيجاد الحل لعليان، ربما لأنها تعتقد أنّ الوقت لم يحن بعد، غير أنّها تيقنت بضرورة تلقينه الدرس الذي يستحق، بخاصة، بعد اكتشافها بفخ أشرطة يصورها الأستاذ لخليلاته، ساء مزاجها فتجرعت مشروبها بسرعة، وابتسمت لضحيتها سندس، لكن هذه تبحر في عالم آخر، ربما تفكر في تلك الساعة السوداء التي جاءت بها إلى الرفيقة فاتن، وأخذها القواد عليان على طبق من ذهب إلى أستاذه. قرأت فاتن ما ترسمه ملامح سندس والغضب يتطاير من عينيها، قالت سندس بحزن عميق: "أريد الموت.. أريد الخلاص من هذه الحياة القذرة". زعقت فاتن وقد تخلت عن الهدوء "أنا مثلك اريد الموت، أفضل لي من حياة أعيشها وسط هذا الركام من القذارة ، ولكننا يجب أنْ نسير في الطريق إلى نهايته، أنت تعلمين حبالهم طويلة وأذرعهم تمتد إلى نهاية الكون، فيجب مسايرتهم لأنهم إذا لم نفعل ذلك يقتلوننا.
شعرت فاتن بالندم لأنها كانت سبباً لكل آلامها وأحزانها، غير أنها خففت من غلوائها بالقول: "حبيبتي سندس، أنت رفضتِ، فما الذي عليّ فعله لأجلك، ألم آويك في بيت يحميك من غضب أهلك، ألم أجد لك وظيفة تحلم أية فتاة أنْ تتقاضى ربع راتبك؟". وضعت سندس يديها على وجهها تنتحب فيما خرج مخاطها فمسحته بكم ثوبها، فيما نهضت فاتن لتحضنها وتتباكى معها: "هيا اصمتي أرجوك، لن ينفع البكاء، الفأس وقع في الرأس، رفعت رأسها: "أريد شيئاً واحداً لأرتاح" أجابت فاتن "قولي.. ماذا تريدين؟". نظرت سندس إلى المكواة في الدولاب الزجاجي بالقرب من التلفاز، ثم ذهبت إليه، التقطته ورفعته بغضب: "أريد إحماء هذا لأضعه على مؤخرة القواد عليان كما فعلها معي". شاركتها بالغضب، وقالت بتحدٍ "انتظريني، وسترين ماذا سأفعل به؟". ما زالت سندس رافعة المكواة فوق رأس فاتن، والغضب يستعر في عروقها، اقتربت منها، فأخافها، وبدا لها أن شرراً تطاير قد يؤدي بضربها ما جعلها تحني رأسها خوفاً منها، وكأن لا مهرب لها من تلقي الضربة المميتة، إذ أن قدميها لا تقويان على حملها بسبب ما دبّ في جسدها من الخمرة: "سندس حبيبتي، ماذا تفعلين؟" اقتربت أكثر وأصبحت المكواة فوق رأس فاتن مباشرة، فارتجفت واستسلمت للضربة تماما ، فوضعت يديها فوق رأسها متوسلة، راجية، خانعة، غير أنْ سندس هوت بالكواة وهي تستدير إلى جهة التلفاز الذي يعرض صور "القائد الضرورة" وهو يبتسم أمام الكاميرا بين مجموعة من الضباط الذين يضع على صدورهم أنواط الشجاعة، ورمت به بكل ما لديها من القوة والعنف باتجاه الشاشة التي انفجرت وسرعان ما انطفأت الكهرباء في أرجاء البيت كله، وانبعثت رائحة الدخان والاحتراق.
في الظلام الذي خيم، شعرت سندس بالارتياح وسمعت فاتن تنشج بصوت خافت وهي تقول لها: "هل ارتحت الآن؟" ارتجفت سندس وقالت: "إنّي آسفة.."، ردت فاتن: " ولا يهمك، كل شيء سيتم تصليحه، غداً سنأتي بواحد جديد". أضاءت فاتن شمعة قريبة منها فوجدت سندس ترتجف خائرة القوى، احتضنتها ووضعتها على صدرها.
8
حينما دخلت فائزة إلى بيت صديقتها أحلام، لم تكن متأكدة ما يجب عليها قوله لتبرير زيارتها لها، عرفتها قبل سنتين عندما جاءت إلى البصرة برفقة والدتها تبحث عن مصير أخيها وأكتشفت فيما بعد أنّه أسير، المصادفة وحدها جعلت فائزة تتعرف إلى أحلام، حين سألتها في تلك الظهيرة القائظة "كيف يمكننا الذهاب إلى الفاو؟" استغربت فائزة السؤال ونظرت إلى أحلام وأمها يسيطر عليهما الهلع والتعب والخذلان، فقالت فائزة: "أتريدان الذهاب إلى الفاو حقاً؟" أجابت أحلام بلهفة: "نعم"، "ولكنها مدينة عسكرية لا يمكن الوصول إليها وهي محتلة الآن". بكت الأم وجلست على الرصيف منهارة، فقالت أحلام: "نعلم أنّها محتلة، مضت على ذلك ستة شهور"، ولكن أخي لم يعد إلى البيت.. لم نعرف له مصيراً". التفتت فائزة إلى أمّ أحلام خائرة القوى، مجروحة الفؤاد، ووجدت لدى أحلام منطقاً أثار إعجابها، ما شجعها على القول: "ما رأيك أن تأتيا معي الى البيت كي نفكر بإيجاد مخرج ما، لا أحد فيه سواي وأمي فقط، أخي استشهد في معارك مجنون، ووالدي لا نعرف مصيره منذ سنوات بعيدة".
انتظرت أحلام ما يمكن أن يشير إلى موافقة أمّها بعد اقتناعها هي بأقوال فائزة، ولكن الأم تبحث في وجوه المارة أغلبهم من العسكريين، تنسكب دموعها بهدوء على مقلتيها: "ماذا تقولين يمه؟" ردت الأم باستسلام ويأس": الأمر أمرك". سألت فائزة: "متى وصلتما إلى البصرة؟"، فأجابت أحلام: "قبل ساعة بالضبط"، وأضافت " ولا نعرف ماذا يجب أنْ نفعل! ". لم تكن الأم بحاجة إلى الكلمات الكثيرة لكي تقنع ابنتها بما تريد قوله، فهي مستسلمة إلى حزن سرمدي لفقدانها الابن الوحيد في هذه الحرب الطاحنة، قالت أحلام "أخشى أن نسبب لكم الإزعاج". فأجابت فائزة " بالعكس، نحن في المحنة سواء" .
مضى الليل والفتاتان تتحدثان في كل شيء تحت ضوء القمر، وهما مستلقيتان على فراشيهما على سطح الدار، حتى قالت أحلام: "كأني أعرفك يا فائزة منذ الصغر"، فردت فائزة: " تغلغلت باعماقي عزيزتي ً " .
وهكذا تعمقت بينهما الأواصر الروحية والزيارات. فائزة تمضغ الطعام بغير شهية ، فرأت أحلام في عينيها قلقاً، وهي تنظر إلى الباب على نحو مبالغ به، ما لفت انتباهها، ولكن لا تود أنْ تسألها عن السبب، فقالت في نفسها "لا بد هناك ما يشغلها حتماً، وزيارتها المباغته وراءها سبب ما"، وقالت أيضاً: "هناك متسع من الوقت لنعرف".. وفيما فائزة منطرحة على السرير تذكرت إجابتها عن العشرين سؤالاً، بعضها أجابت عنه بصدق، والبعض الآخر تجاهلته، لكنها شعرت بالخوف لأنّها لم تتجاهل عنوان بيت خالتها، وتعاظم لديها الخوف، إذ ربما يبحثون عنها ويكتشفون هروب ابن خالتها من العسكرية.. أرادت القفز إلى التلفون للاتصال بهاتف بيت الخالة، غير أنّها عندما تذكرت رقابتهم الشديدة على الاتصالات التلفونية أرجأت الفكرة.
لم تستطع مقاومة سلطان النوم فغلبها النعاس ونامت.
9
ها أنذا أقع في المصيدة، وباءت كل محاولاتي بالهروب من الحرب بالفشل، ولكن كيف وقعت؟ يجب أن أفكر بعمق ، فأسلوب إلقاء القبض عليّ لم يكن حرفياً، شبان يرتدون الزيتوني وليسوا جنود الانضباط العسكري، كما زعموا ، يسألون عن فائزة، ثم يبحثون عني، يجب أنْ أشحذ عقلي بحثاً عن خيوط تربط لي الأحداث ، لماذا سألوا عن فائزة أولاً؟ هل يعرفونها؟ منذ متى عرفوها؟ أين ذهبت هذا الصباح، ولماذا لم تأت قبل إلقاء القبض علي؟ ثم ما علاقة هروبي من الجيش بتهمة انتمائي إلى حزب الدعوة؟ منذ ثلاث سنوات لم يسأل عني أحد، حتى جاري ضابط المخابرات قد كف السؤال عني واعتبر غيابي الدائم عن إيقاع الشارع الاجتماعي بمثابة عقاب لا ينبغي أنْ يتطور إلى مستوى الإبلاغ، ستحقره وشايته في الشارع وتجعله منبوذاً وسيقول الناس عنه، هذا هو السبب في إعدام جاره، ولا أعتقد أنّه سيتحمل كثيراً الضغط النفسي من جراء مسألة هو في غنى عنها.
الليل طويل هنا، وأسود حالك السواد، لا بصيص ضوء، وما زالت الصفعتان تدويان في رأسي، فاستمع إلى وشوشة البحر تطن بأذني اليسرى، بالرغم من أنني لم أرَ البحر في حياتي، إلا في الأفلام، وشوشة البحر أسمعها حين تقف البطلة بملابس السباحة تصغي إلى أصوات البحر، ما زال عقلي يعمل على تقريب الخيوط والصور، إذن لم أمت بعد، يجب أنْ أنفي أيَّة صلة لي بهذا الحزب، ولكن كيف أنفي؟ ها أنذا أضحك على نفسي، بل أبكي عليها، لأنني وقعت بسهولة بين كماشة المفترس.
الباب يفتح، لا بد أنّهم سيأتون لي بحبل المشنقة، أو بأدوات التعذيب ومن خلالها سأعترف بذنوبي، يسلط حامل مصباح يدوي الضوء على عينيّ ولا أرى وجهه، ولكني أستطيع أنْ أدرك أنّه نفسه الذي صفعني قبل ساعتين، لا أتذكر كم بقيت هنا قبل أنْ أصفع، قال حامل المصباح:
- كيف ترى ضيافتنا يا أستاذ كريم؟
الصوت نفسه، ولكنه يبدو أكثر هدوءاً وحواسي تقول إنه ثمل لعدم تمكنه من الاستقرار في مكانه كما أنّه يحمل المصباح بارتخاء، كاد يسقط من يده، مرتين أو ثلاث، إذن جاء يعبث معي ويعربد، يجب مجاراته، فقال بالهدوء نفسه:
- هل تريد أن نلصق بك تهمة الانتماء إلى حزب الدعوة أم تقول لنا ما نريد معرفته؟
أردت أن أقول له، سأعطيك أيّ شيء تريد، كل المعلومات، إلا مسألة ارتباطي بالدعوة، فهي مخيفة ومرعبة ولا طاقة لي بتحملها. فقلت متوسلاً:
- ماذا تريدون مني، أنا حاضر، ولن أتردّد لحظة واحدة.. سأقول أي شيء:
- نريد منك معرفة أين يمكن العثور على فائزة؟
هذا ماتوقعته ، لم أكن مستعداً لكي أضلّله بأية معلومة، فأنا قطعاً لا أعرف عنها أي شيء، سوى أنّها ابنة خالتي، فقلت بصوت مرتعش:
- هل أخبرك بالحق؟ أقسم بكل المقدسات، أنّني لا أعرف شيئاً عنها، كل ما في الأمر، أنها جاءت إلينا من البصرة أمس صباحاً، واستقبلناها في البيت، وباتت ليلتها، وعند صباح هذا اليوم، قالت سأبحث عن وظيفة في بغداد، ثم خرجت، ولم نعرف عنها أي شيء بعد ذلك.
يصغي وهو يتمشى داخل زنزانتي المظلمة ولم يزحزح المصباح لحظة واحدة عن عينيّ، ولما أنهيت كلامي، ضحك، فكرت أنّ ضحكته فيها نوعٌ من المرارة والامتعاض، ضحكة داعرة لا أعرف أيّ حقدٍ بشري يطلقها.
قال ببرود، وهدوء:
- اسمع، يبدو لا فائدة منك، سنلصق بك هذه الجريمة ونتخلص منك بسهولة.
توسلت به، وأنا أحاول التقرب منه زحفاً:
- أرجوك إلا هذه التهمة، أنا سكير.. أنا فنان سكير، ما علاقتي بحزب إسلامي.
أخذ يضحك بانطلاق، ثم صمت.
- إذن أخبرنا كيف يمكن العثور عليها؟
أطلقت زفرة ساخنة وكنت أرغب بإطلاق صيحة قوية لأقول له، لو أعلم أين هي الآن لجلبتها إليك..
- أمهلني يوماً واحداً، وسأجلبها إليك، لابد أنها ستأتي عندنا، ليس لها أحدٌ سوى أهل بيتنا.. أين يمكنها أن تذهب.. سأجلبها.
قال متذمراً:
- أتحاول أنْ تهرب ثانية من بين يديّ؟ لا تفكر في الخروج من هنا على الإطلاق.. اسمع.. أنا تعبت، سأسألك سؤالاً أخيراً.. هل تعرف أحداً يؤويها؟
أجبت بسرعة، ودون تفكير..
- كلا.. لا أعرف، ولو عرفت لقلت لك، ما الذي يجعلني أتحمل كل هذا العذاب من أجل ابنة خالة لا أعرف شيئاً عنها.
قال الزيتوني بضجر:
- ألم تخبركم أنّها ذاهبة مثلاً إلى اتحاد النساء؟
استغربت:
- اتحاد النساء، كلا.. لم تخبرنا، هل هي هناك؟
أطفأ المصباح، ثم أغلق الباب، وحل الظلام ثانية.
أخذت أستنشق الهواء ثانية، اتكأت على الحائط وأخذ عقلي يحاول ربط الأشياء، لا بد أنّ فائزة لها علاقة باتحاد النساء، فذهبت إلى هناك ووشتْ بي، ولكن لماذا يطاردونها، ما دامت قد قدمت لهم خدمة مجانية؟ كلا لم تش بي، عقلي يخبرني أنّها وقعت في فخ اتحاد النساء، ولكن كيف وقعت؟ يجب فهم ذلك، كانت تبحث عن عمل، وإذا افترضنا لجؤها لهذا القصد، فما علاقته بهروبي من الجيش، أو بهروبها منهم؟ هل طلبوا منها شيئاً فرفضت؟ إذن كيف يمكنهم إذا رفضتهم أن يستدلوا على عنوان بيتنا ومعرفة هروبي من الجيش، عفلي يقول إنّ الخيوط اشتبكت عليّ، وما عدت قادراً على التحليل، يجب أن أنام، لأنّي أشعر بالتعب، والغثيان، الظلام يدور بي في أنحاء العالم ، استلقيت على البلاط البارد ونمت، ويبدو أنّني نمت نوما عميقاً، بحيث لم أدرك أنّ الصباح أيقظني، فوجدتني في غرفة ليس فيها سوى البلاط، وليس هناك نافذة سوى كوة صغيرة في الأعلى تتسرب خيوط الشمس الذهبية من خلالها، لاحظت نفسي وقد بللت ملابسي، منامتي ذات الخطوط، ونعالي "أبو الأصبع".. نهضت من مكاني فوجدت آثار البلل تحتي، فأدركت أنّني فقدت قدرتي على الاحتفاظ بالمياه في مثانتي، تذكرت أمي، كيف أمضت الليل أثناء غيابي، وتذكرت حليمة، كم اشتقت إلى صوت المنشار، صوت أختي العزيزة، لا أعتقد أنّهما بقيتا في البيت، وربما ذهبتا بحثا عني، أين يمكنهما البحث عني؟ يا لعقلي غير قادر على وضع الأمور في أماكنها الصحيحة.
فُتح الباب، وجاء عسكري بوجه متجهم، معه صمونة وقدح شاي وعلبة سجائر سومر مع قداحة
– تناول فطورك، صعبت حالك على الأستاذ.
كنت أنظر إليه مستغرباً، وعندما نظر إلى الرطوبة في البلاط، ضحك المتجهم بانطلاق..
- عملتها على نفسك !!
ترك الصمونة والشاي والسجائر والقداحة على الأرض وهو ما زال يكركر من الضحك، وبقي الباب مفتوحاً، فاعتقدت أنّه نسي ذلك، غير أنّه بعد لحظات جاء عسكري آخر معه ونظر إلى الأرضية المبللة فاستغرقا بالضحك أيضاً، ثم أغلقا الباب، صوت ضحكهما يصعق رأسي وينهش بأعصابي أكثر من صفعات الليل، أسمعتني وشوشة البحر.
كنت بحاجة إلى السجائر، لا يتلاءم الدخان مع مزاجي إلا بعد تناول الفطور، قضمت بصعوبة من الصمونة قليلاً وتناولت رشفة من الشاي، تلك اللحظات في بيتنا أسعد لحظاتي، أنْ أرى الشمس وأتناول الفطور ثم تأتي بعده سيجارة الصباح، ثم أمسك فرشاتي لأُكمل ما أنجزت في الليل مخططاتي على القماش الأبيض، بانتظار الثلاثاء الذي يأتي فيه سازوكي ويأخذ لوحة مكتملة من لوحات المستشرقين:
- لماذا تستغفلني سازوكي؟
- أستغفلك ! كيف؟
- أنت تبيع اللوحة في الأردن بخمسين دولاراً.
ضحك سازوكي فظهرت أسنانه الصفر.
- لو تباع بخمسين دولاراً لرسمت بدلاً عنك، صدقني هي عشرون دولاراً كل ما أتقاضاه عن لوحاتك "الجائفة" ولكن الذنب ليس ذنبك.. ذنبي أنا أساعد "فرار" و"يتفيك" عليّ.
وضعت يدي على أرنبة أنفه، وقلت:
- إذا لماذا تمنحني القليل من الدنانير؟
قال سازوكي ضاحكاً:
- المفروض أنت الآن في السجن، بسبب هروبك من العسكرية ولا تأكل سوى صمونة واحدة كل يوم.
ها أنذا يا صديقي أقضم صمونة واحدة، مثلما توقعت، أيا لعين يا سازوكي، كأنك كنت تعلم بنهايتي ، فقد وصل الأمر بي يا صديقي أن أتبوّل على نفسي، انظر كيف تدهورت حالتي ؟ أين أنت الآن، لترى ما حل بي من الضعف والهوان، ولكن مهلاً.. سنلتقي ذات يوم، وهذا الذي حصل ليلة أمس يبدو طبيعياً على إنسان مثلي يتمتع بمزاج شفاف ومرهف، كما كنت تقول لي دائماً
- دعنا من شفافيتك.. أريدك أن تنظر إلى الواقع كما هو.
- أيّ واقع؟.. واقع حرب مدمرة أكلت شبابنا.
- انسَ أحزانك، وارسم لي لوحات نسطيع بيعها لتجار الفن.
- أوكي، ولكني أرسم كما يحلو لي.
- لا أريد كما يحلو لك.. أريد لوحات تجمد الجمال، استشراقية.
- لوحات لا معنى لها.
- بالضبط، الآن بدأت "تفهم" يا فاهم، لوحات ليس فيها معنى، هم يريدون ذلك، وانا سأدفع لك بدلاً من الجلوس هنا تنتظر متى يأتي الانضباط العسكري ويلقون القبض عليك متلبساً بجريمة الهروب من الحرب.
أنهيت الصمونة، وشربت الشاي كله، ثم جاء دور السيجارة ، حيث كل يوم أقبلها وأمتص رحيقها الذي لا أعذب منه، مع عزف منفرد من السعال الجميل الذي لا يطرب أحداً سواي. أخذت نفساً عميقاً وأطلقت الدخان في فضاء زنزانتي، راقبت حلقات الدخان وهي تتصاعد إلى الأعلى حيثت الكوة، فاختلط الدخان بخيوط الشمس، الكوة، تمثل لي الاطلالة على الحياة ، أوشكت السيجارة على الانتهاء، فأخذت واحدة اخرى وأشعلتها بجمرة السابقة، وأيقنت أنني يجب أن أستسلم لمصيري الأسود، التهمة الملفقة الجاهزة بانتمائي إلى حزب الدعوة ومن ثم إلى المشنقة،هذا الشعور بدأ يسيطر على مزاجي وأفكاري، وما عاد عقلي يفتت الأشياء كي يجعل لي مخرجا من شراك الحبال الذي التفت حولي، فائزة؟ اتحاد النساء، هروبها، هروبي، إلقاء القبض علي، بحث الزيتوني عن فائزة، كلها ألغاز وغموض لا يمكنني الوصول إلى بداية الحكاية، دلني يا عقلي على الروابط، لا بد أنك ستعثر على خيط يجمع كل ما يحدث؟
انفح الباب ثانية، دخل الزيتوني صاحب الصوت الرخو، شاب في الثلاثين من عمره، يقف منتصباً مثل وقفته نفسها ليلة البارحة.. أطفأت السيجارة بسرعة:
- يقولون إنّك بللت فراشك !
نظرت معه إلى البلاط، البلل تبخر، لاحظت شبح ابتسامة ترتسم على وجهه، رغم أنه يبدو مجهداً.
- ألم تخبرنا بما لديك من المعلومات عنها؟
مددت يدي إلى السيجارة المطفأة وخبأتها خلفي
فقال:
- أشعل لنفسك سيجارة، أنا الذي بعث لك بهذه العلبة والشاي.
لم أنفذ أمره خوفاً منه، أخشى أن يضع جمرتها بمؤخرتي، كما كنت أسمع عن تعذيب معتقلين في الأمن العام حيث توضع جمرات السجائر على خدودهم أو في راحاتهم أو مؤخراتهم، ثم أطلق صوتاً جافاً آمراً:
- قلت لك اشعل سيجارة؟
بأصابع مرتعشة نفذت أمره ولكني لم أسحب الدخان إلى رئتي كما يجب..
جلبوا له كرسيًا من البلاستيك، جلس، يحدق بتركيز في عينيّ، كنت كلما انحنيت متجنباً الاصطدام بنظراته الحادة أجده، ثابتاً يغرز شرار نظراته في عينيّ..
أخرج علبة سجائره الأجنبية "كريفن" وأشعل لنفسه سيجارة بقداحة مذهبة، ثم وضع ساقاً فوق الأخرى
- قلت لي البارحة.. إنك فنان سكير..
أومأت برأسي موافقا من غير صوت
- تحدث.. هل خرست؟
أجبت بسرعة:
- نعم، نعم.. أنا فنان..
قال ساخراً
- هل تغني أم ترقص؟
أدركت بسرعة محدودية تفكيره، فالفن عنده إما غناء أو رقص وليس غير ذلك.
- كلا.. لا أغني ولا أرقص.. أنا فنان تشكيلي.
قال باستغراب:
- ماذا؟
ما زالت السيجارة بين أصابعي لم أستطع سحب نفسٍ واحدٍ منها..
- أنا أرسم.. الرسم نوع من الفنون التشكيلية.
مستغرباً، كأنه يستمع لأول مرة إلى هذه المفردات.. فقال:
- تعني ترسم وجوه الناس والخيول ومن هذا " التمضرط "؟
كما توقعت، أدركت أنه في وادٍ آخر من الحياة، فقلت وأنا أجاريه خوفا من التسبب في سوء الفهم.
- بالضبط.. مثلما تقول.
ظهر عليه الانفعال، والتفت إلى جهة الباب حيث يصغي أحدهم لأوامره..
- إذا جلبت لك الآن ورقة وقلماً هل ترسمني؟
بفرح أجبت، بالرغم من أني لا أستطيع تحديد أي تخوم من العذاب ستؤدي بي هذه الفقرة.
- بالتأكيد سأرسمك.
ضرب أصبعيه براحته، فجاء العسكري الذي يقف خلف الباب، وانحنى من الخلف بالقرب من فمه..
- اجلبوا لنا أوراقاً وقلماً، لنرى أخانا التشكيكي كيف سيصدق معنا.
غادر هذا بسرعة، وبقي صاحب الصوت الرخو ينتظر ولا يكف عن التحديق بي، كنت قد وجدت السيجارة قد انتهت بين أصابعي.
فقال:
- دخن.. أعرف أنك تحب التدخين.
كنت أقلب كلماته لأرى إلى أيّ مدى تحمل صدقها، فأشعلت سيجارة باستحياء وأخذت نفساً منها عميقاً، ونفثته ببطء .
جاء الجندي المراسل ومعه اوراقاً وأقلاماً، بينها الرصاص والجاف والماجك والسوفت، وضعها بين يديه وانصرف، وبدون كلام، مد يده دون أن يتعب نفسه، فأخذتها منه ، وضعت الأوراق البيض على البلاط ثم أخذت قلم الرصاص لمحبتي الاشتغال فيه ومنحه حرية حركة أحبّها..
- هل أرسمك وأنت جالس، أم تريد وجهك فقط؟
ابتسم، كأنه يبحث عن الكلمات رغم أني لم أقل له أحجية..
- الاثنان، ارسمني وأنا جالس هكذا، ثم وجهي لوحده، فهل تستطيع يا فنان تشكيكي؟
مداعبته أغرتني بالابتسام، رغم الألم الذي أعانيه، ركضت أصابعي في حقل البياض، لم أكن بحاجة للتحديق الى تفاصيل جلسته، فقد حفظتها ، ولكني افتقد موسيقى تعزفني وأنا أرسم صورتها، جلست أمامي نوال زهرتي، في مرسم الكلية، كنت أرغب بخروج زملائي من المشغل كي يمكنني التهام شفتيها، وحتى أستطيع أن استقطر منهما غيوم الجمال لأمطره على بياض اللوحة، فيروز في أقصى القاعة تغني عذاباتي، وسعاداتي المؤجلة، وأنا أخوض في وجه زهرتي، أحاور العينين العسليتين وشعرها الأسود الهاطل على كتفيها، قميصها الأبيض الذي جعلت زر فتحة أعلى صدرها مفتوحة لي، لي أنا وليس لغيري، رسمت صدرا أكبر من حجم صدرها، وجعلت فخذيها أكثر استدارة، وعندما جعلت اللون الأبيض خلفية لشعرها ازدانة حبيبتي سحراً، وكلما قالت هل تعبت من جنونك، دعني أرى ، فأقترب منها لاشم عطرها مطالبا ان تصبر بجلستها حتى وأن طالت ..
- عما قريب ستنتهي ايام الكلية ..
- اعرف ..؟
قالت نافدة الصبر:
- وهذه الحرب؟
وأنا أضع اللمسات الأخيرة على فضاء أبيض يحيط بخصلات شعرها..قلت :
- حتماً سأهرب ، لن أجعلها تدوسني .
قالت بيأس:
- ماذا تريد أن تفعل؟
قلت:
- نستمر بالحب، حتى تنتهي الحرب.
قالت:
- كيف نستمر إذا كنت قررت الهروب من العسكرية؟
قلت:
- سنتدبر حالنا، أرجوك صبراً عليّ.
كنت قد أنهيت اللوحة الأولى فنهض من مكانه، ونظر فيها، حاولت أن أقرأ عينيه، فوجدت فيهما الذهول، أطلق صافرة مزعجة معرباً عن دهشته،قائلاً:
- هذا أنا بالضبط.
رفع اللوحة بمستوى وجهه، تمعن فيها، داس عقب السيجارة تحت قدمه ، وبانفعال شديد أشعل أخرى، قدم لي واحدة من سجائره الفاخرة دون أن ينظر لي، كنت أتابع انفعالاته ، زهرتي أبدت الدهشة نفسها حين أكملت رسمها أول مرة ونحن نجلس في الكافتيريا، تتحدث بصوت خافت عن مشاريع الحياة وأنا أتحدث في الورقة عن مشاريع الجمال،
قال لي:
- أنت شيطان عجيب.. أنت أخي تشكيكي بصدق.
لأول مرة أشعر بالراحة، لاسيما ، حين سمعت كلمة "أخي".. لم أفرح كثيراً لهذه الانفعالات، أخشى المفاجأة، أو الأمر الآخر الذي ربما يحط من قدري، بقيت أراقب إيماءات وجهه، وحركات يديه وقدميه، وصفارات فمه، وطريقة إطلاقه دخان سيجارته، كنت هادئاً، شعوري بالكبرياء تصاعد، أكبرت من قدرة أصابعي على احتفاظها بجنوني كل هذاالوقت.. وبعد صمت .. قال:
- تعال اجلس هنا على هذا الكرسي.
بقيت جامداً في مكاني، إذ لا أريد لنفسي أن تأخذ "راحتها" بعد تعذيب كدت اعتاد عليه ، جربته ليلة البارحة وأنا أصغي إلى وشوشة البحر.
قال بهدوء :
- قلت لك اجلس هنا.. لأنك تعبت من البلاط.
أمتثلت إلى أمره وجلست كالأطفال المؤدبين لاصقاً ساقيّ وواضعاً يديّ عليهما.
قبل أن يغادر، قال لهم:
- دعوا الباب مفتوحاً.
والتفت إلي ملوحاً بالورقة .
- سأعود إليك.. عندي كلام آخر معك.
لم أفهم معنى ذلك، ولأن عقلي تحرر من الضغط ، فقد شعرت بالراحة، بالوقت نفسه أردت الارتواء، فقد أفرغني العطش من الهدوء، وشفتاي يابستان، م أشرب الماء منذ إلقاء القبض عليّ، فالتفتُّ إلى العسكري الذي يراقبني، وبنظرة ودودة أخبرته حاجتي إلى جرعة ماء، غير أنّ الغبي ينظر إليّ باحتقار ، كأنه يقول لا علاقة لي بك، جلوسي على الكرسي طمأنني الى عدم تهديد كبريائي بعد، وربما باستعادة حياتي تصورت قبل ساعة فنائها .
جاء الزيتوني الباسم، فنهضت عندما دخل، نظرني تلك النظرة المحايدة وقال:
- ألم يجلبوا لك الماء؟
قلت وانا انظر الى الاخر :
- كلا.
دخل عسكري آخر حاملاً قنينة الماء وصينية فيها علبة قيمر وصمون وإبريق شاي وزيتون وجبن وقدح فيه سكر، كنت أنظر إليه وهو يضع كل ذلك على الأرض، منتظراً أمره..
- تناول فطورك الآن، وبعدها نتكلم.
جلست ثانية على البلاط وأخذت جرعة من الماء ، تبدد على ملابسي، ثم بدأت تناول الطعام بعد مغادرته هو والآخر، وبقي الباب مفتوحاً، لم أعتد على الجوع، فتناولته بشهية مفتوحه، الصمون حار، والقيمر من النوع المستورد، والشاي جديداً، يداي مشغولتان بالتهام الطعام، ووراء كل قضمة أرتشف جرعة من الشاي، ظهري إلى الباب المفتوح، و عقلي يخبرني أنّهم يراقبونني ، فاستجمعت فيّ قوة افتقرت إليها روحي المعذبة، كل دقيقة تمضي تخلف عندي شعوراً بأنّ انقراضي قد توقف، عقلي يداعب كلمة "يا اخي" فحلقت هذه الكلمة كالطير في فضاء روحي .
أنهيت طعامي بسرعة، مانحاً خيالي التحليق في اجواء هذا المكان ، ثم جاء أحدهم وقبل أن يرفع الصينية، قدم لي سيجارة وأشعلها لي فنفثت الدخان بارتياح ، لكني ما زلت أجلس القرفصاء وظهري إلى الباب.
دخل الزيتوني الباسم، أحسست به يقف خلفي:
- لماذا تجلس هناك.. تعال إلى الكرسي.
نظرت إليه باستغراب وأنا أشهد تحولاً في معاملتي لم يقبلها عقلي بعد، كنت أنظر إليه بتودد وخوف، ولم يكن يحمل لوحة رسمتها له، فأيقنت أنّها في مكان ما..
- ستأتي معي الآن.
لم أسأله، لأن عقلي يشير الى تغير واضح بدأ معي، ولا بد أنّ غرفة أخرى أفضل من هذه سأذهب إليها.. كنت أفكر بسرعة وأنا أسير خلفه ويسير خلفي اثنان من الزيتوني.
هذا المكان عبارة عن بيت كبير، حيث الممر الذي نسير وسطه يعبق بروائح الورود فيما الأشجار تحيطه من الجانبين، لا يلوح لي ثمة نهاية لهذا الممر المشجر الطويل، الزيتوني يمشي بسرعة وأتبعه أنا مثل ظله بالإيقاع نفسه وقد أخذت نعالي تطرق الأرض طرقات ذات إيقاع يشبه خبب الحصان ما يبعث السخرية لدى الآخرَين اللذين يمشيان خلفي وهما يكتمان ضحكهما.
وعندما وصلنا إلى نهاية الممر انكشفت لي باحة دائرية، وسلم وسطها يؤدي إلى بوابة كبيرة عملاقة لم أرَ مثلها حتى في الأفلام.
أبطأ الزيتوني بخطواته، فأبطأت معه، صعد الدرجات الخمس بهدوء فصعدت معه مثله حتى وصلنا إلى الدرجة الأولى المؤدية إلى البوابة الخشبية المصنوعة من خشب الصاج، وثمة حفر على الباب تقليدي يعود إلى نقاشين حرفيين، يبدو أنهم لا يتمتعون بالخيال، الباب مغلق، فوقف الزيتوني ووقفت خلفه، أما الاثنان فقد اختفيا، فُتح الباب وأطلّ وجه فتاة جميلة سمراء لا ابتسامة و لا مشاعر واضحة ترتسم على سيمائها، مظهرها يبدو أنها تعمل خادمة ترتدي ثوبا أصفرَ مشجراً ووجهها بيضوي يعبر عن سخرية مريرة رغم أنّها لم تبتسم، عيناي انغرزت بعينيها العسليتين، فتذكرت زهرتي، لكن عقلي حرضني على شطبها الآن من ذاكرتي كي لا أقع فيما لا يسعدني، فأطرقت أنظر إلى البلاط المرمري متجنباً نظرات الخادمة ذات الجسد الرشيق.
أغلق الباب خلفنا، وسار الزيتوني أمامي داخلاً باحة البيت العريضة ذات السقف الدائري، مصابيح ملونة لا وجود لها تضيء البيت ، وثمة نافورة صغيرة داخل حوض وضعت وسط الحوش، وهناك غرف عديدة متوزعة على الشكل الدائري للبيت، وسلم يؤدي إلى الطابق الأول تراءى لي يصعد حلزونياً ثم يختفي عن الأنظار وراء جدار آخر، علقت عليه لوحات مستنسخة لرسامين عراقيين وأجانب، بعض الرسومات تمجد "الضرورة" وثمة لوحات لخيول ومزارع، يبدو أنّ صاحب هذا البيت مغرم باللوحات.
نظرت إلى كل ذلك وأنا أقف بجانب الحوض، وخلفي الخادمة فيما اختفى الزيتوني في إحدى تلك الغرف بعد أن امرني بايماءة حازمة البقاء في مكاني.
بعد دقائق خرج الزيتوني من غرفة، وأومأ لي بأصبعه أن تعال فخطوت باتجاهه ببطأ ، متجنباً أن تحدث نعالي صوتاً فيثير سخرية الخادمة التي تقف خلفي، وصلت بالقرب منه وأنا ما زلت ذاهلاً، متعجباً من ثقل الصمت والهدوء اللذين يجثمان على باحة هذا البيت الواسع الفخم.
همس الزيتوني بأذني:
- ستقابل الأستاذ.
ثم تقدم إلى الأمام، ودخل فدخلت خلفه، الغرفة عبارة عن قاعة استقبال عريضة ذات نوافذ متعددة على الجانبين ولها ستائر مخملية معلقة من السقف إلى الأرض يتسرب من ثقوبها ضوء الشمس.. وفي نهاية القاعة مكتب منضدي وكرسي لونهما أسود، ومكتبة خلف المنضدة وضعت بين رفوفها مجلدات لكتب مغلفة تغليفاً راقياً.
خرج الأستاذ من باب جانبي، يترنح، يرتدي المنامة وروب من الحرير قصيراً يصل إلى مستوى ركبتيه، خارجا من الحمام للتو بسبب الماء المتقاطر من شعره، وفي يده مسبحة صغيرة من الفضة، وفي اليد الأخرى سيجارة من نوع "كنت".. رافعاً أنفه، وهو ينظر إليّ من الطرف الأسفل لعينيه، لم يكن الأستاذ مشهوراً ، في وسط الأساتذه المعروفين، الذين يظهرون في التلفاز كمسؤولين رياضيين أو مسؤولين عسكريين، إذ لم أره ولم أعرفه من قبل.
جلس الأستاذ خلف المنضدة واتكأ برأسه المبلل على مسند الكرسي ينفث الدخان إلى السقف، ضربات قلبي تتسارع، والزيتوني أشد خوفاً مني.
أطفأ الأستاذ سيجارته في المنفضة البلورية الموضوعة على المكتب ونظر إلى ورقة رسمتها لوجه الزيتوني..
تحدث الأستاذ بصوت بدا لي رخيماً وهادئاً:
- هذه "رسمة" عليان.. أنت عملتها؟
ضاع الصوت من حنجرتي، فأومأت برأسي وأنا أكاد أبول على نفسي..
- يقول عليان.. إنّك فرار من العسكرية؟
لا أعرف بما أجيب، ما زال صوتي يبحث عن مخرج..
- هل صحيح أنّك.. هارب من العسكرية؟
خضّت الرجفة أنحاء جسدي، أمّا يداي فقد ارتجفتا بغير إرادتي وحاولت مسكهما بالضغط على فخذي بقوة كي أمنعهما من افتضاح خوفي، قدماي ارتختا ولا أستطيع تخمين الوقت الذي سيمكنهما من حملي، فضلا عن جفاف فمي، وتسرب الرجفة إلى شفتي..
وجه كلامه إلى عليان، بصوته الناعس المخدر.
- لماذا لا يتحدث؟
غرز عليان عينيه بي:
- كلا سيدي، إنّه يعرف كيف يتحدث، ولكن هيبتكم ووقاركم هيمن عليه ما أخرس لسانه.
يحاول الزيتوني أن يردد كلمات زائفة كي يزيل خوفه هو أيضاً.. فضحك الأستاذ بصوت بدا لي غريبا، إذ لم أسمع في حياتي أسلوباً للضحك مثل هذا، قرقرة مكتومة، كأنها نشيج امرأة ثكلى، مصحوبا بثغاء أغنام منتهيا بضربات آلة الصنج.. ابتسم عليان وحاولت مجاراته إلا أنّ مثانتي حبلت بالمياه و تدفعني للشعور بالضعة والخسة.
- هل ترسمني الآن؟
أومأت أنْ نعم، واستطعت أن أتجرأ وأهمس بأذن عليان وأنا أشير إلى عضوي.
- محصور.
فضحك الأستاذ، وقد عرف قصدي، وعليان بدوره ابتسم أيضاً بعد اكتشافه معرفة الأستاذ بحالتي. أشار الأستاذ إلى الحمام فعرف عليان ما يجب عليه فعله، إذ تقدم يسبقني إلى الحمام وفتحه لي، ثم أغلقه عليّ، الحمام غرفة كبيرة، ثمة مكان غربي وآخر شرقي، وبانيو ومغاسل ومرايا وأنواع من المستحضرات الصابونية والشامبو والعطور ، فهرعت إلى الغربي، وأفرغت المياه بسرعة .
تنفست الصعداء وبرغبة في الاستحمام بعد مصيبة ليلة البارحة، نظرت إلى وجهي في المرآة، لم يكن وجهي الذي أعرفه، ثمة شخص آخر يقف أمامي، خائفاً، مذعوراً، مستلباً، غسلت يدي بالصابون ذي الرائحة الزكية، وغسلت وجهي أو وجه صاحبي الخائف المستلب المسكين..فتحت الخادمة الباب ودخلت، ثم أغلقته علينا، فاضطرب قلبي، لم أعرف ماذا أفعل، تقف على مسافة متر مني، بابتسامتها الغامضة، تحمل بين يديها ملابس نظيفة .. وهي تقول:
- الأستاذ يقول.. استبدل ملابسك بهذه، وإذا أردت الاستحمام فسيكون ذلك أفضل.
استغربت، دهشت، أنا أستحم بحمام الأستاذ؟ أخذت الملابسَ من يديها، قميصاً ناصع البياض، وبنطلوناً أزرق لامعاً، وغياراً داخليًا ثم ابتسمت لي ابتسامة غامضة وهي تغادر الحمام.
استحممت بسرعة، وارتديت الملابس بسرعة أيْضا، ثم خرجت وأنا أرتدي ملابس نظيفة بنعال أبو الأصبع وعندما شاهدني الأستاذ أطلق ضحكة مدوية عصفت بأركان المكان، فسايره عليان ضاحكا وقبل أن ينهي الأستاذ عزفه المنفرد بقرقرات صوته، كان عليان أسرع منه إلى الصمت والوجوم.
- ملابس أفندية مع نعال.. كيف تقبل بذلك؟
موجها خطابه إلى عليان الذي فرد ذراعيه محتاراً لا يعرف كيف يجد حلاً لهذه المعضلة.. وبأنفه أشار الأستاذ إلى غرفة دخلها عليان مسرعاً ثم جلب حذاء أسود مع جوارب زرقاء وقدمها لي، كدت أبتسم من سخرية القدر، إذ يقدم لي عليان الذي تصورته إلى ما قبل ساعتين قابضاً للأرواح حذاءً بين يديه، فأخذت الحذاء ووضعته تحت إبطي، فضحك الأستاذ ضحكته الداعرة، وزعق:
- ضع قدميك به يا "قشمر".. ثم أجلس .
ارتعدت من الأمر، فجلست، خلعت أبو الأصبع،وارتديت الجوارب ثم الحذاء ونهضت وأنا حائر مضطرب لا أعرف ماذا أفعل أأبتسم أم أتجهم أم أكفّ النظر عنهما؟
أحضر الأستاذ قلما وورقة،وقال:
- أريدك الآن أن ترسم وجهي أحسن من "رسمة" عليان.
أخذت القلم الرصاص من أصابعه الناعمة والورقة ومن ثم احترت أين أضع الورقة، فاكتشف هو حيرتي ، فقال:
- اجلس على منضدتي، وأنا سأجلس هناك.
جلست خلف مكتبه الأنيق على الكرسي الأسود ووضعت ذراعي على المنضدة فلامست البرودة أنحاء جسدي، ثمة عطرٌ يفوح من تحت الكرسي، ومن جانبي المكتب، ومن الملابس النظيفة ارتديتها قبل قليل ثم بدأت معزوفتي في تحريك أصابعي بأنحاء الورقة، لم أكن بحاجة لأنظر إليه،أكثر من اللازم، فقد حفظت ملامحه، خطوط قلمي تتلاقح، وتتغامز، تنصهر بين أصابعي، كنت أستخرج من أعماق روحي ملامح زاهية، لتصنع من كومة قمامة تجلس أمامي الى أيقونات للجمال، جعلته يبتسم، ينظر إلى الأفق، عيناه ضاحكتان، وثغر يستخرج فراشات تطير في الفضاء .. وعندما انتهيت، نهضت وقربتها إليه..
لم يبتسم، فحبست أنفاسي، استغرق زمناً طويلاً يحدق في الرسم، ولم يقل شيئاً ، غير أنه، بعد صمت ثقيل في وقت حسبته دهراً، ضحك ضحكته الداعرة المجنونة، وقال ضارباً ظهر أصابعه الورقة.
- هذا الرسم.
تنفست الصعداء، وشملتني راحة، كأنها الراحة الأبدية، يبدو بوجه ذاهل، ، فأسرع هذا راكضاً، وهو ينظر على بعد عشر خطوات ما رسمت..
- ألم أقل لك سيدي؟
قدم لي الأستاذ سيجارة "كنت" ووضعها في فمي وأشعلها لي، ثم أشعل له واحدة، ونفث الدخان بوجهي..
- أين كنت أنت؟ بأية مزبلة مدفون؟
ساءني وصفه بيتي بالمزبلة ولكنها أفعمت إحساسي بالسعادة والراحة، أخذ يذرع الغرفة ذهاباً وإياباً، وهو ينظر إلى الرسم، حتى توقف، وقال ناظراً لي نظرة جامدة..
- أنت ستبقى هنا.. ستبقى في البيت، لترسم لنا العشيرة كلها، واعتبر نفسك مُعفًى من الخدمة العسكرية.
حلقت روحي في الفضاءات ، ذهبت إلى حديقة أكاديمية الفنون، حيث تجلس زهرتي في الشمس بانتظار مجيئي، وما إن وصلت إليها حتى ابتسمت.. وفي ابتسامتها حزن شفيف ، تحلق روحي في إشراقات ذلك النهار الجديد.
- لماذا تاخرت ؟ صار ساعة مصلوبة انتظرك .
انحنيت امامها وجلست على ركبتي :
- اعذري العاشق الولهان .. اقدم لك كل اسفي واحتقاري لنفسي
بعصبية :
- انهض !! ماذا تفعل يا مجنون ؟ الطلاب ينظرون نحونا
- لا ارى في هذا الكون سواك ..
فضحكت ضحكتها التي احبها ..
سألت الاستاذ مرتجفا غير مصدق قراره :
- ماذا سيدي؟
قلت ذلك بحشرجة، وخوف وبصعوبة بالغة :
رد عليان نيابة عن الأستاذ..
- ستعفى من الخدمة العسكرية وسنجد لك مكاناً هنا سنجلب صور العائلة لترسمها.. ألمْ تفهم ما يقول الأستاذ؟
10
نهضت فاتن من رقادها شعثاء الشعر، تطن برأسها أصوات الليل وقد حاولت إسكاتها عبر حبوب الأسبرين، اتجهت إلى الحمام فأفرغت جوفها، ثم اتجهت إلى مرآة المغسلة لترى بشرة وجهها البرونزية وقد غسلته بالماء والصابون "كم أكره وجهي".
أعدّت سندس الفطور كالعادة، ودخلت فاتن إلى المطبخ فوجدتها ترتشف كوب الشاي بالحليب بهدوء وأمامها الجبن والقيمر المعلب، تبادلت الفتاتان عبارات الصباح التقليدية وجلستا وجهًا لوجه، من غير كلام، وبعد دقائق استعدت فاتن لتحضير ملابسها وهي تهم بالخروج باتجاه العمل ترافقها السكرتيرة الشخصية سندس.
صعدتا سيارة التيوتا البيضاء موديل 1981 وانطلقت فاتن تقودها في شوارع بغداد بعد أن وضعت مفتاح البيت في المكان المقصود:
قالت سندس:
- يمكننا نسخ مفتاح آخر له بدلا من هذه الطريقة القديمة.
لم تجبها فاتن، إذ سبق لهما أن تحدثتا في الموضوع نفسه أمس، وأمس الأوّل، ولا تريد تكراره. وصلت السيارة إلى الاتحاد، وترجلتا بعد ركنها في المرآب ، ثم صعدتا إلى المكتب. طوال الطريق ، فاتن تفكر ولاتستسيغ الكلام، وتلح عليها فكرة أنّها يجب أن تضيق الخناق على عليان هذا اليوم من أجل استرجاع شريط الفديو.
أعدّت أمّ هاشم العاملة، القهوة المرة لفاتن وحالما جلست خلف مكتبها جاءت بها ووضعتها أمامها وهي تفترش على وجهها تلك الابتسامة المصطنعة.
خلف الباب الموصد ، تشعر فاتن بخطوات نقر أحذية الرفيقات على البلاط، الرفيقة القانونية أمينة والرفيقة الاجتماعية رغد والرفيقة الاقتصادية وصال، إضافةً إلى كاتبة الطابعة هند والحلاقة عفاف.
وبسبب الفراغ كن يأتين إليها يمضين عندها دقائق أوّل الدوام يتعاطين معها حكايات تعدها تافهة لا معنى لها بخصوص الزواج والطلاق والحرب وأولاد الحلال الذين لم يطرقوا أبوابهن، خصوصاً الرفيقة رغد مسؤولة الأمور الاجتماعية، لكن رغد لا تيأس فهي دائمة القول أمامهن:
- سيأتي ابن الحلال، لا أريده ضابطا يقاتل في الحرب، بل أريده حراً، لا تقيده الحرب.
فيضحكن منها، وبخاصة القانونية أمينة التي ترى أنّ أحلامها كمحامية تحقّقت وأصبحت لها وظيفة في اتحاد النساء تتقاضى منه راتبًا شهرياً يعيلها وإخوانها. الرفيقات لا يتدخلن بخصوصيات فاتن وهن يعرفن أنّها ذات نفوذ واسع في العائلة الحاكمة بسبب صفقات لا يعلمن بأسرارها ولا يردن العلم بها، إلا رغد الجميلة غالبا ما تحاصر سندس في غرفتها لتمطرها بأسئلة خطيرة من أجل انتزاع معلومة تمكنها من التقرب منها كثيرًا.
- ماذا بشأن رغد هذه المرة؟
سألت فاتن حانقة فأجابت سندس:
- تسأل كثيراً، تريد أن تعرف كل شيء.
- تعرف !! ماذا تريد أن تعرف؟
صفنت سندس وتذكرت أنَّ فاتن عصبية المزاج وبإمكانها أن تكبل رغد بسهولة وتودعها المتاهات فلذلك حاولت أن تتستر عليها.
- لا شيء محدد، أسئلة عامة فقط.
ولما جلست سندس إلى مكتبها بانتظار أوامر فاتن جاءت إليها رغد وأعادت عليها السؤال ثانية.
- ما الذي يفعله ذاك الشاب الذي يرتدي الملابس الزيتونية حينما يختلي بفاتن ساعات؟
أطلقت سندس زفرة حادة بوجهها وقالت:
- هذه المرة لن أعلم فاتن بأسئلتك الحشرية هذه، ولكنك إذا رجعت إليها سأبلغها وهي تعرف كيف ستتصرف معك.
أخذت رغد التهديد على محمل الجد فقمعت الفضول في داخلها بضعة أيام، غير أنها وجدت أسلوبًا آخر للدخول إلى عالم فاتن المكهرب. رغد حالياً تجلس خلف منضدتها تراقب مجيئه، فهو لا بدّ أنْ يطل بعد الواحدة ظهراً، أي قبل نهاية الدوام بساعة ليبقى معها حتى بعد خروجهن، لذلك قررت اليوم أنْ تعرف أكبر كمية ممكنة من المعلومات.. أمّا لماذا تريد أن تعرف فهذا أمر آخر ليس تفصيله هنا ذا جدوى الآن.
ذهبت إلى غرفة عفاف، حلاقة الاتحاد، وجلست على الكرسي تراقب وجهها الجميل لتزيده نضارة ووهجًا بالأصباغ المتوفرة لديها.
- جمّلي وجهي رفيقة عفاف.
عفاف إلى قبل يومين تحبها وتودها ولكنها عندما حذرتها فاتن من عدم إيلاء أسئلة رغد أيّة أهميّة خافتها وأصبحت حذرة منها وتعاملها بشكل رسمي.
- ممنوع عليَّ مداعبة شعر أيّ رفيقة من رفيقات المكتب إلا بعد موافقة الرفيقة فاتن.
أحسّت رغد أنّها محاصرة، وأنَّ فاتن بدأت تشكّ بما يدور في خلدها، لذلك انسحبت إلى غرفتها وجلست مقابل الشباك تنتظر إطلالة الشاب الزيتوني "عليان".
ثمة نساء يدخلن إلى الاتحاد ويخرجن من دون أن تلتقي بهن رغد، فالحلول متوفرة لدى فاتن على الدوام، إذ تأتي نساء حوامل، أرامل، وزوجات شهداء يطالبن بحقوقهن من أهالي أزواجهن، يطلبن مساعدة الاتحاد، ثمة نساء باحثات عن وظائف، فتيات يشكين آباءهن أو إخوانهن، منتقمات من أرباب أعمالهن، وتعلم رغد أنّ حلول الاتحاد لا تنفع، فهو واجهة لأمور أخرى تافهة ومنحطّة.
أصبحت الساعة الثانية بعد الظهر، وما زالت رغد في غرفتها تراقب سيارة الزيتوني، ولابد أنَّ الزميلات بدأن يخرجن، ووجدت أنّه في هذا اليوم، من الأفضل لها أن تقفل الباب عليها من الداخل موهمة سندس وفاتن بخروجها، وليحصل بعدئذ ما يحصل.. فهي قد قررت معرفة كل شيء دفعة واحدة.
سألتها صديقتها نضال الساكنة معها في الشقة:
- لماذا تريدين هذا اليوم تنفيذ الخطة؟
فأجابت رغد:
- لا ينبغي البقاء في مكاني أراوح، لا بدّ أن أصعد خطوة إلى الأعلى.
قالت نضال:
- إلى أين تصعدين؟
ضحكت رغد:
- أصعد إلى فوق، لا بدّ في أيامنا هذه من الصعود، ثم أريد أن أعرف لماذا فعلت فاتن بنا ما فعلت!
سألت نضال مستغربة:
- بالضبط، إلى أين تريدين الوصول؟
ابتسمت رغد وهي مغمضمة العينين:
- أريد الوصول إلى الاستاذ ، فاتن لديها بيت في المنصور، وتحتها سيارة بموديل حديث وتأتي إليها هدايا من كل مكان، ما الذي تملكه أكثر ما نملكه..؟
عندما أقفلت الباب عليها جلست تنتظر بخوف هذه المرة، عتمت الغرفة وجعلت الستارة مغلقة إلا قليلا كي يمكنها أن ترى ما يجري في الخارج، حضرت لنفسها الطعام لمواجهة الجوع إذا ما طالت المدة وجلبت قنينة ماء للغرض نفسه.
غير أنّ الزيتوني هذا اليوم يبدو أنّه لن يأتي، هكذا أحسّت رغد، لكنها لم تجد نفسها في ورطة لحد الآن عندما تضطر إلى الخروج من الاتحاد فيما إذا أُغلقت الأبواب عليها، لأنّها استنسخت مفاتيح الأبواب كلها حتى غرفة الرفيقة فاتن.
أصبحت الساعة الثالثة ظهراً، فأخذ رغد الملل والتعب من جراء مراقبة مدخل الباب الرئيسي، ولكن بعد ساعة، عندما دبّ اليأس تماما في روحها، فجأة، أطلّ الزيتوني، فتسارعت نبضات قلبها، لا تعرف كيف يمكنها أن تتصرف، فخروجها من غرفتها يفضحها، وبالتالي الوقوع في كماشة فاتن الحديدية، أمّا البقاء في مكانها فقد لا يفيدها إلا إذا أرهفت سمعها فيما يجري ويدور عبر الأبواب المغلقة، ولكن أنّى لها أن تسمع الكلام عبر كل تلك الحواجز؟
تمددت على الأريكة، وشحذت ذهنها فهي إن خرجت الآن من الغرفة ستصادف سندس وربما عفاف وإن بقيت في مكانها فلن تصل إلى نتيجة، استسلمت إلى التعب والإرهاق الذي دب في جسدها فأخذت إغفاءة قصيرة شاعرة أنّ الدقائق القادمة قد تحبل لها بالكثير من المفاجآت والتفاصيل.
دخل الزيتوني إلى غرفة فاتن وهو يبتسم، جلس على الكرسي المخصص للضيوف بجانب مكتب فاتن ويحمل علبة كبيرة وضعها على المنضدة.
- ماذا جلبت لنا؟ هل صدقَتْنَا الوعد؟
- جلبت لك الغداء.
ردت فاتن بهدوء ومن دون ابتسامة:
- أنا لا أريد الغداء يا عليان، أريد الشريط، ألمْ أفِ بوعدي معك؟
ضحك عليان:
- وفيت ونعم الوفاء، اصبري علي قليلا عزيزتي.
نهضت من مكانها وفتحت العلبة فوجدت الكباب والمقبلات، اسالت الرائحة لعابها ، فمدت يدها إلى قطعة صغيرة وتناولتها بسرعة.. سألته:
- ماذا فعلتم أمس؟
ضحك عليان:
- لن تصدقي، ألقينا القبض على ابن خالتها واعترف لنا بهروبه من العسكرية.
تنتظر منه أخباراً عن فائزة.
- والمقموعة.. هل وجدتموها؟
قال عليان متحسراً:
- عذبناه وكدنا ننزع عنه جلده لا يمكنه معها إلا قول الحقيقة، ولكن المسكين ظهر أنّه لا يعرف أين ذهبت وأين أمضت ليلتها.
استغربت لهجة عليان من قوله "المسكين" وعقلها التآمري المتقد جعلها تتوقع شيئاً ما قد حصل لابن خالة فائزة معه..
- وماذا ستفعلون به؟ هل ستعدمونه لهروبه من العسكرية؟ أم "المسكين" ستدللونه على طريقتكم الخاصة؟
قال عليان وقد فهم غمزها المبطن:
- لن نعدمه، بل رحب به الأستاذ أجمل ترحيب.
استغربت فاتن.. وسألت:
- لماذا رحب به؟
ناهضاً من مكانه:
- لأنه.. لا تسأليني أرجوك، فيما بعد، ستعرفين كل شيء.
- والفتاة، هل ستتركها؟
قال بحسرة وغضب:
- لن أتركها! الليلة سألقي القبض عليها.. أين تذهب مني.. بغداد صغيرة وبأيدينا، ولن يفلت منها حتى الجرذ إذا ما أردنا القبض عليه.
قالت فاتن:
- حدثني عن "المسكين" إذن.
وضع أصبعه على فمه وقال:
- اش.. اش، ممنوع بأمر الأستاذ.
قالت فاتن يائسة:
- والشريط؟
وهو يخرج من باب غرفتها زفر كلماته بتلمظ:
- الليلة حتما؟؟ ويمكن أبيت عندكم.
خرج عليان، فنادت فاتن على سندس ثم جلستا حول الطعام وأكلتا بشهية وصمت.
فتحت عفاف الباب وقالت لهما:
- مع السلامة .
فأومأت لها فاتن من دون كلام.
وفي الساعة السابعة مساء، استقيظت رغد من الغفوة، طالت ثلاث ساعات، ابتسمت وسخرت من نفسها، فتحت الباب، ما يشبه الظلام يخيم على الممر، اتجهت صوب المطبخ، شربت قدحاً من الماء، إضاءة الممر معتمة لكنها تستدل طريقها، ها هي وحدها، كما خططت، في مكان لم تألفه ولم تنتمِ إليه، قد أحضرت المفاتيح، وهمّت بالدخول إلى غرفة فاتن، تعلم هي أنّ أيّة إضاءة للغرفة تعطي إشارة خاطئة للحرس خارج المبنى، لذلك اكتفت بما تنيره مصابيح الشارع مكتب فاتن والممرات..
إنّها تدخل هذه الغرفة كل يوم، لا شيء فيها يثير أسئلتها مثلما تثيرها أدراج المكتب والدولاب الزجاجي خلف منضدتها، وكلما جلست أمام فاتن تحاول إخفـاء فضولها في البحث عن أسرار ما يُختبأ في الأدراج من ملفات ومعلومات وتقارير.
تعلم بشدة وبأس فاتن التي أودعت الحكومة إليها مهمة إدارة فرع من فروع اتحاد النساء، وأنها تدرك قيمتها لدى أشخاص مهمّين ومجهولين، بعضهم يأتي بالزي العسكري الزيتوني، واضعاً نظارة سوداء، وبعضهم يأتي بالزي العربي الدشداشة والعقال والعباءة، أشكال وأنواع متعددة من الرجال، جميعهم من صنف الحكومة المخيف،"ابن عمو، وابن خالو، وابن عمتو، وابن خالتو، وابن اختو، تعرفهم من لهجتهم" عجل يابه وين نتعلل هالساعين" ولذلك رغد، بالقدر نفسه الذي تخشى فيه فاتن، تحس باندفاع شديد إلى الغوص والسباحة في هذا البحر الذي تتكاثر فيه أسماك القرش، لتجد نفسها ليست أقلّ من مهاراتها في إدارة دفة الأمور لو تسنّى لها الحظ بعبور الرفيقة فاتن وإيقاعها في شرّ أعمالها.
جلست على كرسيها الهزاز، ودارت به دورة كاملة، واضعة رأسها على مسنده، وهي تحلم باصطياد المعلومة السرية – الكنز، المفتاح الذي سيفتح الأفق لطموحات تعدها مشروعة وطبيعية.
ألقت نظرة على الأدراج المقفلة، وقالت في نفسها: "هنا تلتقي الطرق، هنا سأجد ضالتي، ولكن كيف السبيل إلى فتح هذه الأدراج؟".
نهضت رغد تبحث عن "مفك" أو سكين أو أيّة آلة حادة في محيط
غرفة فاتن، فلم تجد شيئاً، فذهبت إلى المطبخ، تمشي حافية القدمين، بعد أنْ أحسّت بضغط الوقت وحلول الظلام الذي غالباً ما يكون ستراً لأشباح بشرية قد تتسلل ليلاً من أجل قضاء متع عابرة، أو وطرٍ من الراحة.
بحثت في المطبخ، بين أدراج الصحون، فوق البوفيه، تحت الدولاب الكبير، قرب الثلاجة، تحت الطباخ، فوق سنك الغسيل، حتى وجدت علبة كاملة من العدد اليدوية، فابتسمت: "لا بد أن أعثر على ما أريد"، هكذا قالت بفرح.
أخذت من العدة ما تحتاج إليه، وذهبت به إلى غرفة فاتن تسير في الممر بخطوات أسرع، وثمة شعور بالخوف والنشوة يتسربان إلى روحها معا ، جلست، وبدأت عملية فتح قفل الدرج الأول ، الذي تتوقع سيفتح الأدراج كلها. تعرقت ، ثمة بلل بين فخذيها، وتحت إبطيها، وعلى جيدها ، يمنعها الظلام من الوصول إلى البراغي الصغيرة، فأستعملت "التيبل لامب" وأضاءته ، جهدها ينصب في عدم الإخلال بجوهر القفل، إذا ساءت بفتحه، ستقع في كارثة، خصوصًا وأنّها محاصرة الآن وفرصها بالنجاة ونجاح الخطة ما زالت أقل من الوسط، وقد تدور حولها الشبهات.
وبعد ساعة من العمل المحموم فتحته، وقبل أن تنظر الى ما فيه، سمعت أصواتاً قريبة، فأطفأت المصباح فوراً ، قطعت أنفاسها ، شنفت اسماعها ، شعرت كأنها فتح أقفال "طراق.. تك"، أصغت بانتباه شديد ، فإذا تكرر معنى ذلك أن أحدهم دخل إلى المبنى، وبالتالي لا مفرّ من مواجهة الكارثة، قبضت بقوة على المفك ، وجعلت نفسها في حالة الدفاع ، وختلت تحت المنضدة، ذلك لأنها أيقنت أنّ من سيأتي في هذه الساعة لن يحتاج إلى مكتب فاتن ليجلس خلفه، بقيت في مكانها بضع دقائق حسبتها دهراً ، وهي تقطع أنفاسها ، ويتعاظم ذعرها .
لم يتكرر الصوت ثانية، لكنها استمرت في المكوث بمكانها ريثما تزول العاصفة، اوحى لها عقلها في الأخير بأنّ ما سمعت قد يكون وهم صوتٍ تجلى لها تحت ضغط نفسي تمر به، فعادت إلى مكانها وأشعلت التبيل لامب ثم فتحت الدرج.
عثرت على مجموعة من الملفات، فأغلقت الدرج الأول، لأنها ليست شغوفة بمعرفة ما تحوي مضامينها، تعلم أنها تقارير إخبارية تأتيها من وكيلات يعملن بالسرّ يتم تزويد فاتن بها عن أشخاص لايرتاح الى سلوكهم النظام، يسمونهم "معادون للحزب والثورة"، ضحكت في سرها من هذه العبارة التي أودعت الكثير من الناس في السجون وانقضت حياتهم من التعذيب في غرف محكمة الإغلاق، عبارة صادمة قاسية لا أحد يستطيع أن يواجه كارثة ما ستحل به إذا أتهم بها .
فتحت الدرج الثاني، يحتوي على تنوع غريب من الأشياء، أشرطة فديو، أشرطة صوتية، أوراق رسمية، مظاريف مغلفة بعناية. أثارت أشرطة الفديو فضولها، تمنت مشاهدة محتوياتها، لكنها لا تستطيع الآن تشغيل جهاز الفديو والتلفاز لأنه قد يثير ذلك انتباه الحارس خارج المبنى.
قلبت رغد عناوين الأشرطة بملل"محضر اجتماع الرفيقة مع.."، "نشاط القائد في عيد ال..."، "برامج تثقيفية للنساء الحوامل "، ثمة أشرطة كتب عليها بخط ضعيف كلمات لا معنى لها " ثقافة فرنسية " .. تقلب بسرعة ولم تجد ضالتها بعد، وعندما دب فيها اليأس أغلقته وانتقلت إلى الدرج الثالث.
لم يكن الدرج مثيراً ، فهو عبارة عن حاجيات شخصية للرفيقة، لباس داخلي غير مستعمل، أكياس صغيرة وضع فيها فلاش لذر، ومسجلة صغيرة بداخلها كاسيت، شعورها باليأس يتفاقم وليس هناك ما يثيرها حقاً فقالت في نفسها "المغامرة ذهبت سدى" ليس هناك كنز علومات أو خارطة طريق توصلها إلى طموحاتها "المشروعة".
استلقت على البلاط واستشعرت البرودة، ضايقتها تنورتها، ورأت
أن تخلعها وتبقى بثوب شفاف ، فخلعتها ووضعتها جانباً، تنظر إلى السقف مستلقية ونصف جسدها تحت منضدة فاتن، ثم فجأة ، قالت لأجرب مشاهدة أفلام الفديو ربما تسليني وتجعلني انتصر على الوقت الثقيل الواقف، والليل طويل.. طويل هنا كما يبدو.
توصلت إلى هذه الفكرة بعد ساعة من الاستلقاء وإحساسها يقول لها إنّ الحارس ربما يكون في بار يقع بالقرب من الاتحاد، أو مع أصدقائه أو عند أهله.
نهضت بسرعة وقفزت في مكانها قفزات رياضية لتنشيط جسدها الذي دب فيه الاسترخاء والكسل ، أسدلت الستائر بهدوء، وهي تراقب المرآب والحديقة والباب الخارجي، عتمت الغرفة تماما إلا من ضوء المصباح الذي ما زال في مكانه حيث الأدراج المفتوحة.
ذهبت إلى التلفاز ففتحته ثم ضغطت على زر تشغيل الفديو والتقطت أحد تلك الأشرطة ذات العناوين الغامضة، فألقمت الفديو، وبدأت تتفرج، نشاط رسمي قام به وفد نسائي لزيارة قرية، قالت "هذا سخف". أخرجت الشريط ثم وضعت آخر، ظهر فيه وفد نسائي آخر يزور معملا للخياطة توزع فيه الرفيقة فاتن هدايا العيد كما يبدو ولكن أيّ عيد! فقالت: "هذا سخف أيضًا".
تركت رغد فكرة الاستمرار في لعبة البحث عن أسرار فاتن، ووصلت إلى قناعة أنها ليست غبية أن تترك أثراً يمكن لعابث مثلها من إيقاعها في المصيدة، وهي المشهورة بإيقاع الرجال والنساء في مصائدها.
تسرب الملل إلى روحها، افترسها العطش والجوع ، فذهبت إلى المطبخ، أخرجت علبة من البسكويت وقنينة حليب، وتناولتهما بغير تلذذ. ثم عادت إلى أدراج فاتن، جلست أمامها لا تعرف ماذا تفعل، فتحت المغلفات وبدأت تقرأ، لم يكن هناك شيءٌ مثير، بطاقات سخيفة للتهنئة بمناسبة عيد ميلاد القائد الضرورة، بطاقات نفاق ودجل وخسة.
الملل يسري في جسدها، وأيقنت أنْ لا شيء يمكنه أن يبث في نفسها الشعور بالفوز، فأغلقت الأدراج واحداً بعد الآخر، وعندما وصلت إلى الدرج الثالث، وبسبب الملل، أبقته مفتوحاً لتنظر في محتوياته مرة أخرى، ضحكت من اللباس الداخلي المغلف بأناقة فرفعته ووضعته جانباً، ثم مدت يدها إلى علبة الأكياس الصغيرة، فتحت واحدة، مدت فيها أصبعها الوسطى، وضعته في فمها، ثم اشمأزت من مذاقه ورائحته، فرمت العلبة، في مكانها.. ثم التقطت المسجلة الصغيرة، قلبتها وهي تعرف أنْ لا شيء سيثيرها، فضغطت على زر التشغيل، لم يكن ثمة صوت أو موسيقى، قدمته إلى الأمام قليلا، وشغلته، فلم يكن هناك أيّ شئ يثير الانتباه، ثم أرجعته إلى الوراء، وأعادت تشغيله، هناك صوت رجل، فانتبهت! كادت تزعق، كادت تطير من الفرح، ما هذا؟ أرجعته إلى الوراء كثيراً وشغلته ثم انتظرت، صوت رجل، الصوت تعرفه، لكن ماذا يقول، قطعت أنفاسها، وشنفت أسماعها، لتصغي إليه بانتباه شديد، لتحفظ كل كلمة يقولها: "أنا المدعو.." ولما انتهى التسجيل أعادته رغد وهي تشعر أنّها الآن، والآن فقط، عثرت على الكنز الذي تبحث عنه.
حفظت جيداً ما يدور في الكاسيت ولم تضعه في مكانه، أخذته معها، وأعادت اللباس الداخلي ورتبت محتويات هذا الدرج الخطير، تعمل بانفعال والكاسيت بيدها، أغلقت جميع الأدراج، ثم جاءت لحظة يجب أن تكون فيها دقيقة جداً، وهي إعادة غلق الدرج الأوّل بإحكام من دون أن يظهر ما يثير شكّ الرفيقة فاتن، وأكملت عملها، ارتدت تنورتها الضيقة، وذهبت إلى الحمام، أفرغت جوفها، ثم غسلت وجهها من العرق ، وأخذت قطرات من الماء بللت ما بين فخذيها، ثم خرجت إلى الغرفة وهي تعمل على أن لا تترك أثراً، أعادت المصباح اليدوي إلى مكانه وفتحت الستائر. نظرت إلى الساعة الجدارية فوجدتها الحادية عشرة، قالت، لا بدّ هناك سيارات أجرة تعمل إلى الصباح، فأغلقت غرفة فاتن وأقفلتها كما يجب، أرجعت عدة المطبخ ووضعتها في مكانها، ثم خرجت من المطبخ واتجهت لكي تقفل غرفتها، ثم سارت بهدوء بعد أن وضعت الكاسيت في حقيبتها بالخوف والفرح، تشعر أن خطورة مهمتها تتجلى في هذه الدقائق بالذات وهي تخرج من المبنى، تتوقع عدم وجود الحارس، سارت في الممر ما بين الباب الداخلي وباب الحديقة، حركة السيارات والمارة أقل من المعتاد، بحثت، وهي تقف خلف إحدى الأشجار، عن الحارس، فلم تعثر له على أثر، فخرجت من باب الحديقة الرئيس، بسرعة، ومعها تسارعت نبضات قلبها، عليها أن تبتعد أكثر ما يمكنها عن المبنى كي يتسنى لها الفرار ، ساقاها ثقيلتان وهي تعبر إلى الجهة الأخرى ، تفكر الآن في العثور على سيارة أجرة يكون سائقها كبير السن وليس مخمورا أو شابًا قد يورطها في متاهات هي في غنى عنها. هناك عجلات تزمر لها وأخرى وقفت على مبعدة من خطواتها المتسارعة، فلم يكن هؤلاء ممن ترغب بالصعود معهم، إذ غالبًا ما يكونوا سكارى باحثين عن متع آخر الليل، وهم يتصورون أنَّ أية امرأة تمشي في هذه الساعة المتأخرة من الليل لابد أنْ تكون بائعة هوى.
لم تكن هذه المرة هي الأولى تسير فيها وحدها في منتصف الليل
فقد مرت بالتجربة نفسها سابقاً وعرفت كيف تصل إلى شقتها، تمشي وثمة سيارة تسير معها والسائق يحاول أن يمد عنقه إليها ليسترضيها ويوازن بقيادته العجلة ألا تصطدم برصيف، فوقفت تنظر إليه، ثم قالت له بعصبية:
- إذا لم تبتعد سأصرخ وأجعل الحزبيين يخرجون إليك من تحت الأرض.
التهديد كان واضحاً وصارماً، والسائق أخذ الرسالة بسرعة وانطلق بسيارته واختفى في ظلام الشوارع.
توقفت بعد مسافة كافية، وأومأت لسيارة اقتربت منها، فانحنت لترى السائق فوجدته يبتسم وعيناه دامعتان من أثر الخمر، فقالت له:
- آسفة، كنت أتصورك أخي الذي يعمل ضابطا في الحرس الجمهوري.
انطلق السائق بسيارته مسرعا وقد فهم تماماً مغزى كلامها، لكنها بعد دقائق أومأت إلى سيارة أجرة، فوجدت السائق، كما تمنت، كبيراً في السن، جلست في المقعد الخلفي صامتة والسائق ينظر إليها عبر المرآة.
لم تجب على أسئلته ، التزمت الصمت إزاءها ، ولما وصلت نقدته أجرته وترجلت، ثم سارت إلى عمارة تسكنها وهي فرحة كأنّها تريد الطيران، فتحت باب الشقة ووجدت نضالاً بملابس النوم تشاهد التلفاز، فسألتها من غير فضول حقيقي لمعرفة الجواب:
- ها سبع لو ضبع؟
احتضنت حقيبتها واستلقت على الأريكة فرحة ، صامتة ا، وذهنها مشوش بالأفكار، والخطط، فاتن أصبحت في قبضتي فعلاً، وفكرت إنّها لا بد ستنتقم من لحظة ساقتها فيها ذات يوم إلى مأوى الذئاب وجعلتها تدفع أغلى ما تملك ، كما فعلت مع الباقيات.
فتحت عينيها فوجدت صديقتها تراقبها:
- أخبريني.. ماذا جرى؟
ضحكت رغد كثيرا كما لم تضحك من قبل، خلعت ملابسها الضيقة وسط غرفة المعيشة واتجهت ومعها الحقيبة إلى الحمام.
- دعيني استحم، ثم سأحدثك عن كل شيء.
بقيت نضال مذهولة، ولم يثرها ما تُظهر رغد من الانفعالات بسبب اعتيادها على ذلك، فهي وإن رغبت بتحقيق ما تصبو إليه ، لكنها عاجزة عن إيجاد الوسيلة، كما أنّها تعتقد بعجز صديقتها رغد عن تنفيذ إرادتها فتقول عنها دائما: "أنت تتكلمين فقط دون ".. تشعر نضال بالرثاء والملل واليأس وترى أنّه لا أحد يمكنه مجاراة امرأة متسلطة مثل فاتن ، إذ لم يستوعب عقلها الصغير سقوطها بسهولة ، أمّا كيف ولماذا؟ ذلك ما لا تريد التفكير فيه، يكفي لها ما وقع لها من الحيف جعلها تترك دراستها ومدينة أهلها لتعيش في بغداد تحت رحمة وظيفة في دائرة مهملة من دوائر الدولة، وعليها مسايرة هذه الصديقة وزميلة السكن التي أصبحت بمرور الوقت، ذات ردود أفعال غير متوقعة، وتقلبات مزاجية، فهي مثلها وقعت في الفخ، وانداست تحت الأقدام بكل سهولة.
خرجت رغد من الحمام وهي تغني وتنشف شعرها الفاحم مرتدية البرنص ولا شيء تحته فيما تحمل باليد الأخرى حقيبتها.
جلست على الأريكة فانكشف ما بين فخذيها بزغبه الاشقر قالت لها:
- تصوري، أين وصلت الليلة؟
سخرت منها نضال وهي تنظر الى الزغب هازة يدها متسائلة:
- لا بد أنك وصلت إلى القمر.
ضحكت رغد ورفعت الحقيبة ثم قبلتها ونظرت إلى صديقتها نظرة نشوة ومستعدة هذه الليلة مطارحتها الغرام :
- وصلت إلى الكنز، فاتن في قبضتي الآن.
هذه العبارة سمعتها نضال كثيراً فلمْ تبالِ بما قالت وعدّت ذلك نوعًا من التفاخر تتمتع به رغد طوال الوقت.
- من حقك ألا تصدقي، ولكن من حقي أن أفرح.
يعرض التلفاز مسلسلاً مصرياً فأخفضت نضال الصوت لأنّها لا تستطيع الاندماج مع المسلسل وسألتها:
- أخبريني، ما الكنز الذي عثرت عليه و"خلصينا"؟
فتحت الحقيبة واستلت شريط الكاسيت وقالت:
- هذا الكنز!
هزت نضال يدها ثانية:
- ما هذا؟
نهضت رغد إلى غرفتها ولم تغلق الباب خلفها، جلبت المسجلة، ووضعت الشريط فيه، ثم ضغطت على زر التشغيل، كان صوتاً رجوليا واضحاً "أنا عليان نمر البوحمد، اليوم الثلاثاء 13/3/1987، سبب تسجيلي هذا الكاسيت يعود إلى وعد قطعته إلى فاتن بجلب شريط الفديو الخاص بها وهي مع الأستاذ.. أقول الشريط الإباحي.. ردت فاتن.. قل أيّ شيء، شريط الفديو السكسي الذي هو الآن بحوزة الأستاذ، سأجلبه إليها عندما تحين الفرصة مقابل العنو.. وش".
ذهلت نضال وأمسكت بجهاز التسجيل بهدف إعادة ما سمـعت
غير أنّ رغد منعتها.
- ماذا تقولين الآن؟
ما زالت نضال مذهولة، غير مصدقة ما تسمع.. فسألتها:
- مقابل ماذا؟
ضحكت رغد، كأنها تعرف كل شيء.
- مقابل العنوان، ولكن عنوان أيّة مسكينة؟
نهضت نضال إلى المسجلة وضعتها على الطاولة، الانفعال بادياً على حركاتها:
- أرجوكِ أعيدي بث الصوت، أنا لا أصدق ما أسمع.
قالت رغد منتصرة:
- لأنّ عقلك الصغير لا يستوعب.
جارتها بالكلام.
- بالضبط، عقلي الصغير لا يستوعب، ولكن دعيني أسمع ثانية، أرجوك.
فأعادت البثّ، وسمعت العبارات نفسها، وهي تحك رأسها، ولم تفارق ابتسامة النشوة والفرح شفتي رغـد ، ذهبت إلى غـرفتها وارتدت ملابس النوم وجاءت ثانية بالقرب منها:
- هل نحلل الكلام؟
سألت نضال، فأجابت رغد:
- وهل يحتاج إلى تحليل؟ واضح أنّ الرفيقة العزيزة هي الأخرى من ضحايا الأستاذ، ويبدو أنّ قوادها عليان يقوم بتسجيل أفعاله على أشرطة فديو، ثم يحتفظ بنسخ منها لديه، وعليان ، في أيّ وقت، بإمكانه سرقة أيّ شريط، هذا كل ما في الأمر.. أهناك أبعد من ذلك؟
هزت نضال رأسها، أنْ نعم، وهي تنظر بحياد وحزن وخوف إلى رغد الفرحة، طالت النظرة فاستوقف ذلك رغد:
- ماذا هناك؟ لماذا تنظرين لي هكذا؟
لم تجبها بسرعة، وتركت لخيالها أن يذهب بعيداً، إلى ما وراء الشريط، وتختبر بالوقت نفسه ذكاء صديقتها وهي تصفها دائما بصاحبة العقل الصغير.
سألت رغد:
- هل فاتني شيءٌ ما؟
هزت رأسها بالموافقة وهي تكتم ابتسامة ساخرة:
- ماذا.. قولي ولا تبتسمي ؟
ردت نضال:
- ألم تقولي إنّ عقلي صغير، لنرى مَن بيننا عقلها صغير يا فاهمة؟
انفعلت رغد، وغضبت، وتمنت لو أنها لم تفش لها بمكنونها:
- أخبريني ماذا لديك؟
قالت نضال بجد:
- توقفت أنت عند حدود شريط فاتن.. أليس كذلك؟
أجابت بعصبية :
- وماذا غير ذلك؟
ما زالت نضال جادة :
- وماذا؟ تسألين وماذا؟ أنسيت ؟ أيمكن أن يتركك من دون تصوير؟ إنّه الشخص نفسه الذي صور فاتن صور أيّ واحدة ويحتفظ لديه بالشريط عند الضرورة؟
صعقت رغد ، وكأن قلبها انخلع ، سرحت بعيداً، إلى تلك الغرفة الفردوسية ذات المصباح الوردي، فكرت بحثا عن المكان الذي وضعت فيه الكاميرا، لم تتذكر أيّ شيء، سوى كرهها لنفسها بعد الانتهاء من حركات جسده الوحشية ، تذكرت كيف دفعها إلى مكان في الفراش، عكس اتجاه الوسادة، وجعلها تمشي عارية فوقه :
- امشي مثل عارضات الأزياء.
- ولكن لماذا على الفراش، يمكنني على البلاط.
- كلا.. على الفراش، وأنا أنظر إليك من هنا، أريد أن تنحني
مثل شخص يسجد على الفراش .
- ولكن لماذا؟
- لكي أزداد ولهاً بك، ثم افتحي ساقيك.
تعرف أنها تمادت كثيراً وذهبت معه إلى آخر المدى، حتى أنها استغربت تقبيله لها في أماكن لا يستوجب منه ذلك.
قالت لها نضال:
- من هي أمّ العقل الصغير؟
تصاغر شعورها بالعزة فقالت لها:
- ربما صورني.
- لا تقولي ربما.
صفنت رغد ثم قالت بألم وحسرة:
- ولكن ما الذي سيفيده كل ذلك؟
ثم تهاوت على الأريكة وأكلها الإحباط، مرت فترة صمت بينهما، استغرقت زمناً طويلاً، كل واحدة منهما، غاصت في عالمها بحثا عن أسباب هذا الرجل ، غير أنّ رغد لم تكن تشعر أنّها مخطئة، والمسألة كلها عبارة عن عملية اغتصاب مدبرة ساهمت بها الرفيقة فاتن، بالرغم من إنها على علم بما سيحصل في قصر الأستاذ، هو يعرف أنّ لديها رغبة شديدة في إرضاء جسدها بعد انقطاع دام أشهر عن الملامسة والمباشرة، منذ ايفاد برلين الشرقية ..
قالت رغد وهي تستعيد شعورها بالانتصار:
- إذن هدفنا هذه المرة ليس فاتن بحد ذاتها بل القواد عليان ليجلب شريطي أيضاً.
أجابت نضال:
- الآن بدأ عقلك ينور ، عليان الهدف قبل أن تكون فاتن.
- ولكن كيف؟
بعد تفكير قالت نضال:
- وجدتها..
ثم توقفت عن الكلام، وبشغف وفضول سألت رغد :
- هيا قولي، ماذا وجدت؟
- تذهبين إلى عليان تعقدين معه صفقة .
- صفقة ؟! حول ماذا؟
- تقولين له إن كاسيت اعترافه لديك، تسلمينه له في حالة جلب شريطك الخاص.
ضحكت رغد بسخرية ..
- هل تتصورين سيجلبه ويقول تفضلي هذا الشريط، أنت تعلمين عزيزتي أنّ هؤلاء الناس قذرون لا يتوانون عن ارتكاب أيّ شيء، صفقتك فاشلة.
- ماذا لديك أنت من أفكار يا فهيمة؟
بعد صمت قالت متحفزة وقد دب النعاس في عينيها..
- دعيني أستلقِ على فراشي، وهناك على الوسادة تخرج الأفكار.. مثلما خرجت قبلها أفكار كثيرة.
اختفى منظر الزغب ، فقالت لها :
- هل تودين الاستلقاء معك ومشاركتك الافكار نفسها ؟
ضحكت رغد بصعوبة :
- ليس الليلة .. انا تعبانة ولا اريد اجهد نفسي اكثر .
بقيت نضال جالسة تنظر إلى المسلسل المصري بملل فيما قالت رغد "تصبحين على خير" ثم أغلقت عليها الباب، فاستلقت، وهي تقول لنفسها "لن أخبرك ما الذي سأفعله غداً".
11
عندما وصلت سيارة فاتن ومعها سندس إلى بيتها في المنصور، وجدت مصابيح الإنارة مضاءة في غرفتي المعيشة والمطبخ، فتأكدت من وجوده، وفكرت بأنه لا بد قد التقط المفتاح الموضوع في المكان المخصص.
اتجهت سندس صوب باب المطبخ بسرعة وانفعال ، إذ إنّها لا تريد رؤيته، فيما دخلت فاتن من الباب المخصص لغرفة المعيشة.. قالت فاتن:
- أراك جئت مبكراً، هل وفيت بوعدك؟
عليان يشاهد فيلم فديو ، من أفلام رعاة البقر، ويتناول فستقاً وبذور عباد الشمس، واضعاً قدميه بدون حذاء على طاولة صغيرة، وقد فتح حزام البنطلون الجلدي "النطاق العسكري".
رفع قدميه عن الطاولة وأخذ جرعة من المشروب بعد أن ركن قنينته أسفل الأريكة، يشرب من فم القنينة وبعد أن أفرغه أطلق زفرة حادة..
- كيف حالك عزيزتي ؟
دخلت فاتن غرفتها و فكرت أنّه يتملص ويراوغ ولم يفِ بوعده فاستبدلت ثيابها وجاءت تتمشى بهدوء لتقف بجـانبه، مصطنعة دور الغضب.
- لماذا لا تنجح بإيفاء وعودك؟
نظر إليها نظرة جادة صوّبها في عينيها:
- بدأت معركة قوية في شرق البصرة، والقائد مشغول بها، ألمْ تشاهدي صورًا من المعركة؟
أرادت أن تقول له ما شأني بالقائد، غير أنّها تذكرت موقعها ووظيفتها ولم تنس خسته في نقل الكلمات وتحويرها إلى الأستاذ، كما هو شأن جميع أفراد البطانة الذين تعرفهم، فقالت:
- أكيد سننتصر فيها.. هل دخلنا معركة لم ننتصر فيها؟
- أسمعت بنهر جاسم، قرب بحيرة الأسماك، شرق البصرة؟
- ومن أين لي معرفة نهر جاسم؟
بقي ينظر إلى الفيلم وقد جرت معركة حامية بين البطل وجماعته ضد العصابة الأشرار..
- نهر جاسم مكان المعركة التي تدور رحاها الآن، ولكن للأسف، تدخل فرقة إلى المعركة، لتخرج بعد ساعتين إعادة تنظيم، لتدخل أخرى وهكذا دواليك.
- يبدو أنها معركة صعبة جداً.. ولكن لماذا تشاهد الأفلام المفضلة ما دامت المعركة صعبة.. ألا تساهم معهم بالدفاع عن جاسم.
- أريد أن أنسى، لا أريد مشاهدة جنودنا وهم....
فجأة سكت عن الكلام المباح، وتذكر أنّ فاتن ما كان لها أن تحظى بكل هذا الاحترام لولا تقارير ترفعها ضد من يتحدث بالسوء عن منجزات القائد الضرورة ومعاركه الفاشلة دائماً.
بحثت عيناه وهو ينظر في الممر المؤدي إلى صالة البيت..
- أين سندس؟
جلست فاتن بجانبه، وأومأت بيدها:
- لا شأن لك بها، دعها لعذاباتها، إنها مسكينة.
امتدت يدها إلى الكرزات وسألته:
- هذا يعني أنّ الأستاذ سيتأخر اليوم في جلسة الشرب والطرب والكيف؟
رد بسرعة:
- وربما لن يشرب، لذلك عزيزتي لم جلب ما تريدين، اصبري علي، وأنت المعروفة بحلمك وصبرك الفولاذي.
لم ترق في نفسها كلمات المديح ، تعرفه كاذبًا وصفيقًا لا يتورع عن فعل وقول أيّ شيء إذا ما وجد لمصلحته ذلك ضـرورياً أو لمصلحة من يعمل تحت يده.
تومض عبارته التي قالها، سهواً، في مكتبها صباحاً، حـول ابن خالة فائزة الهارب من العسكرية، في ذهنها الآن ، فدفعها فضولها إلى معرفة كيف أصبح مرحباً به من قبل الأستاذ ويصفه لها بالمسكين، لكنها اعتقدت أنّ كشف تفاصيل الحكاية لم يحن بعد، والخمرة لم تدب دبيبها فيه كي يأخذ "راحته" في البوح عن الإسرار..
قالت له:
- اشرب.. اشرب، وأنا سأشرب معك.
عليان في تلك اللحظات يود لو يتقرب من سندس ويفترسها على فراشها، غير أنّ موانع تجبره كتم غيظه بسبب احتقارها له، وأنّه يعرف، أنّ نفسه لا تقبل أن يكون محتقراً على الدوام، يكفي الذل والهوان الذي يمارسه الأستاذ معه، لا يريد أنْ يتذكر ليلة البارحة، عندما جلب له عارضة الأزياء وعلم الأستاذ بحدسه أنّها ليست الفتاة المطلوبة ، فطلب منه خلع حذائه ليشرب فيه خمراً أمام مجموعة من البطانة وطلب منه أن يسير باللباس الداخلي واضعاً زجاجة الشمبانيا على رأسه، فإذا سقطت ضربه بالسوط على مؤخرته:
- اشرب يا غبي اشرب.
عليان يكرع الخمرة وهو يتلوى من الألم. هذا الشعور بالذل لا بدّ له أن يفرغ، صحيح أنّه صفع في الصباح رجلاً ، غير أنّ تلك الصفعة لم تشفِ غليله، وهناك رجل آخر طلب منه توصيل عريضة إلى مكتب استعلامات القائد الضرورة يشكو فيها سوء فهم حصل لابنه مع أحد دوائر الدولة ، فمزق العريضة ورفس الرجل ما بين فخذيه ليطرحه أرضاً، يشعر بالراحة كلما ضرب إنسانًا أو أودع بريئًا السجن، هذه التصرفات هي غيض من فيض تقليداً لسلوك الأستاذ الذي علمه أنْ ينفر من الناس الذين يتقربون إليهم، لأنّهم كما يقول الأستاذ مثل الوباء، غير أنّ احتقار سندس له لا يستطيع أنْ يطيق له صبراً، وهو عندما جاء ليشرب عند فاتن، يتحين الفرصة أن ينقض عليها، لكنها، كلما جاء، تختفي عن ناظريه، ويعدّ ذلك نوعاً من الاحتقار، وهو الذي شبع احتقارات، وذلاً وخنوعًا، بالرغم من أنّه يقرب إلى قبيلة الأستاذ من خلال النساء.
أطفات فاتن جهاز الفديو وحركت المؤشر باتجاه برامج التلفزيون التي تبثّ أغاني المعركة، "يا كاع ترابك كافوري" فانزعجت ونظرت إليه فوجدته أكثر انزعاجاً، نهض حافيا إلى الحمام، بحث عن سندس بنظرة سريعة خاطفة رماها إلى غرفة فاتن، ثم بنظرة متمعنه إلى غرفتها المغلقة، دخل الحمام ثم خرج منه، وما زال يأمل رؤيتها، عاد مترنحاً، يتجنب الوقوع من فرط دبيب الخمرة في دمه.
- هل دخلت الحمام حافياً؟
رد وهو يتمايل :
- وماذا فعلت؟ آه، إنّك لا تحبين تلويث حمامك بقدميَّ الحافيتين؟
قالت في نفسها "كلهم قذرون" ورأته يجلس متهاوياً على الأريكة وشعور بالانزعاج يتفاعل مع مزاجه الاسود ، فأدركت أنّ أسباب ذلك تعود إلى تأثره السلبي من أغاني المعركة، فوضعت شريطًا في الفديو غير أفلام رعاة البقر، حفلة للغجر وبعض الأصحاب من الشخصيات المهمة تتنادم وتهزّ أجسادها طرباً لأصوات الغجريات، فانشرحت أساريره، ولاحـظت أنّ الانـزعاج تحول إلى هياج من التصفيق وترديد كلمات لا معنى لها.
وجدت فاتن أنّ الوقت قد حان لتسأله عن الهارب كيف أصبح مرحَّباً به من قبل الأستاذ، فسألته:
- ما قصة الهارب مع الأستاذ؟
انتبه إلى صوتها بصعوبة بالغة ، لأنه يتخيل وجوده بين حشد الراقصين وسط حفلة "الكاوليه"، فخفضت صوت التلفاز وأعادت السؤال ثانية: فأجاب بصعوبة وبحروف مقطعة، مع تدفق لعابه:
- لم يجد فيه الأستاذ ما وجدته أنا.. تعرفين أنا الذي عثرت عليه.
اغتبطت فاتن لأنّها أكدت لنفسها بنجاح التوقيت في طرح سؤالها.
- أها.
- نعم، أنا الذي وجدت فيه رساما تشكيلياً.
- وهل رسم لكم شيئاً؟
يضع عليان اللوحة التي رسمها كريم على ورقة مطوية في جيبه، إذ كلما شعر بالاحتقار يخرجها ليبدد شعوره باحتقار الأستاذ وبطانته إليه، أخرجها وأعطاها إلى فاتن.
تناولت اللوحة، نظرت إليها بعدم اكتراث إذ لم تكن تأبه يومًا إلى انشغالات الفن وتعدّ ذلك مضيعة للوقت فقالت له:
- ولكن لماذا؟ ما الذي يريده الأستاذ منه؟
التقط فستقة وبصعوبة قشرهـا، وباصابع مرتعشة كاد يودعـها فـمه لكنها سقطت ارضا..
- الأستاذ يحب الفنانين الشعارين ، أنت لا تعلمين بذلك، يحب السيلما.. الرقص الجوبي والتشكيكي.. اللوحات يشتريها ويلصقها بالجدران.. لا أعرف لماذا.. وعندما اكتشفت أنّ الهارب فنان أخبرته بذلك ورجوته عدم إرساله مخفوراً إلى سجن الحارثية مجمع الانضباط العسكري، وبالتالي سيقوم هؤلاء بإرساله إلى وحدته، وربما يسجنونه أو يعدمونه، عندما شاهد الأستاذ الرسم، قال هذا ينفعنا، لنجعله يخدمنا، مثلما الشعب كله يخدمنا، ونطلب منه أنْ يرسم لنا ما نريد، فقلت أنت تأمر سيدي، أمرك مطاع، التقاه الأستاذ ثم رسمه، وجعله يبول في حمامه، تصوري تواضع الأستاذ، وطلب منا أن نأتي بملابس ليلبسها..
- الأستاذ محبوب، ويحب كل الناس، بما فيهم الفنانين، هذه الصفة أعرفها فيه.
تكذب عليه، وهو يعرف أنها تكذب عليه، وهي تعلم أنّه يعرف كذبها ونفاقها، وقالت لنفسها، الحياة هكذا في هذا البلد، ليس هناك من سبيل العيش وسط مهرجان كبير من الكذب.
عليان تحول إلى خروف، هكذا تصورته، نظرت إلى الساعة فوجدتها تجاوزت العاشرة بقليل، فقالت: إنّه وقت العشاء، تركته منطرحاً على الأريكة وهو يغني بصعوبة مع الغجر، وذهبت إلى سندس، ففتحت لها الباب بعد تأكدها غيابه عن الوعي..
- حضري لنا العشاء؟
همست سندس:
- وهذا.. لا أريد رؤيته.
فضحكت فاتن:
- أصبح خروفًا، يمكنك ذبحه بسهولة وقت ما تشائين.
وانطلقت ضحكتها الداعرة ساخرة منه، غير أنّ عبارة "يمكنك ذبحه"، أوقعت في عقل سندس تأثيرها الملحوظ، فقالت لها سندس:
- هل تريدين أن أذبحه الآن، أقسم بالله أنّني أشدّ حرصاً على ذلك من أيّ وقت مضى.
رأت فاتن التهديد والوعيد يتحول شرراً في كلمات سندس، فمسكتها من ذراعيها وجذبتها إليها محاولة تهدئتها من الغضب الذي اشتعل في قلبها.
- اهدأي حبيبتي، اهدأي، أمزح معك.
- لن أنسى ما فعل بي ما حييت.
- أعرف.. أعرف، دعينا نأكلْ وننمْ، إذا فقده الأستاذ سيطمرنا تحت التراب، فرغي عقلك من الأفكار السوداء وحاولي أنْ تتعايشي مع الناس مثلما أفعل.
فاتن تراقب سندس وهي تعد العشاء، لكنها لم تكن موجودة في المكان، إذ ذهبت بخيالها إلى غسان، كيف ارتبطت به في السنة الرابعة في كلية الآداب، ثم كيف أغواها ذات يوم ونجح بإقناعها الذهاب إلى بيتهم، ليقوم بمضاجعتها وهو معروف عنه بين الطالبات لا يلتزم بالوعد..كاذباً..
- لماذا فعلت ذلك؟
- لأنّك حبيبتي، ومن حقي أنْ أفعل ما أشاء، كما أنّك استسلمت ولم تمنعيني.
ارتدت فاتن ملابسها ومسكته من ذراعه:
- إذا لم تتزوجني خلال أسبوع، سأقدم شكوى ضدك باغتصابي.
- الحبّ بهذا الشكل حبيبتي، فلماذا الزواج؟
- الحب حب، والجنس جنس، لا تخلط الأوراق، تذكر أسبوع وإلا مصيرك سيكون الإعدام، وأنا لن أخاف الفضيحة كما تعرفني.
- لماذا لا تخافين الفضيحة؟
ضحكت بسخرية مريرة:
- لأنّني أصلاً مفضوحة.
تزوجها بعد ثلاثة أسابيع، وعاشت معه سنة واحدة، حملت وأنجبت منه فتاة أسمتها سمر وتركتها عنده، ومنذ سبع سنين وهي تئن شوقاً إليها، إذ لا تعرف لها مكاناً، كأن الأرض ابتعلته.
- العشاء جاهز يا فاتن، أين ذهبت ؟
نظرت سندس الى عينيها ، وساءها حزنها المفاجئ
- ولماذا هذه الدموع؟
وضعت سندس أنواع اللحوم والخبز والفاكهة على منضدة وسط المطبخ..
- ذهبت إلى هناك، إليها.
وضعت أول لقمة في فمها، ثم توقفت عن تناول الطعام.
- ماذا بك.. قبل قليل كنت تمرحين وتضحكين.
- أريد رؤيتها، أكاد أموت جنونًا بها.
وبكت فاتن كعادتها حين تدبُّ الخمرة في جسدها ثم لم تمض سوى دقائق حتى مسحت دموعها وعادت إلى الطعام. سندس تعلم أنّها ستبكي ثم ستعود إلى الطعام، فلم تلح عليها، ظلّت تقضم طعامها وفي عقلها ترن عبارة "بإمكانك ذبحه". ولما انتهت غسلت يديها وفمها وذهبت إلى غرفة المعيشة لتراه، فوجدته نائماً يشخر وفمه مفتوحٌ، لملمت بقايا الفوضى التي أحدثها واتجهت بها صوب المطبخ، تناولت كوباً من الشاي، ثم ذهبت إلى غرفتها لتنام.. فجاءت عندها فاتن..
- لماذا لا ننام سوية؟
ضحكت سندس:
- لديك من ينام معك الليلة؟
أحسّت فاتن بسخف كلماتها فوبختها:
- هل أنا التي تنام مع قواد، هل فعلتها من قبل؟ لماذا لا تضـبطين لسانك عندما تتكلمين معي، ألا تعرفين كيف تمررينها دون أنْ تلقي بقنابلك الموقوته بوجهي؟
تأسفت سندس وقبلتها من خدها لتمسكها فاتن من شعرها وتلثمها من شفتيها.
- إذا أردت أحداً معي فهو أنت.
احتضنت سندس فاتن وطلبت الصفح واعتذرت منها، ثم قالت لها:
- لن أكرر ذلك ثانية، لا تقهري نفسك، مجرد كلمات قلتها لا أعرف كيف خرجت من فمي.
سحبتها من ذراعها..
- هيا إذن معي.
فاعتذرت سندس:
- أرجوك، وجود هذا عندنا يثير أعصابي.
شخيره يتصاعد فوجدت فاتن أنْ لا فائدة ترجى منها، فذهبت إلى غرفة المعيشة، فأطفأت جهاز التلفاز واتجهت صوب غرفتها، لتغلقها عليها ، استلقت على فراشها وأرادت أن تنام بسرعة، دون أن يثير خيالها شيئًا ما فتبقى ساهرة إلى ساعة متأخرة من الليل، طردت صورة ابنتها سمر وزوجها غسان ونسيت الأستاذ وقواده النائم، وذهل عقلها إلى فائزة "ترى أين أنت الآن يا حلوتي؟ لماذا لم تجعليني أدلك جسدك وأنت تسبحين في حمامي؟" وبغضب قالت "أين تذهبين، فابن خالتك موجود في قبضتنا"، قالت ساخرة: "قد ظهر علينا رسامًا، رددت مع نفسها: "كيف يمكن للهارب من العسكرية أنْ يكون رساماً؟".. ضحكت من نفسها لأنها لم تجدْ رابطاً بين تداعياتها، يمكن أنْ يكون الرسام هاربًا من العسكرية، هكذا صحّحت لنفسها، نامت على بطنها واحتضنت الوسادة، ثم وضعتها بين فخذيها، نامت بعمق، دون أن تعلم ماذا فعل عليان في منتصف الليل.
في الصباح، عندما استيقظت وجدته نائماً عند باب غرفة سندس مفترشاً البلاط فطرقت بابها وقالت بصوت هامس:
- افتحي سندس، هذه أنا.
لكنها لم تجب، فأطرقت ثانية ورفعت صوتها ولم تجـب علـيها،
وضعت يدها على أكرة الباب فوجدته مفتوحاً، بحثت عنها فلم تكن موجودة في الغرفة، اتجهت إلى المطبخ وآثار الخمرة ما زالت تصدح في رأسها فلم تجدها "أين ذهبت" بحثت عنها في الحمام، ثم في غرفة أخرى، خرجت إلى الحديقة حيث يعجبها رشّها بالمياه كل صباح، فلم تكن موجودة، اشتعل الغضب في عروقها، بيأس صاحت:
- سندس.. سندس.
استيقظ عليان على إثر صراخ فاتن، جلس في مكانه، وآثار ليلة البارحة تطوح به ذات اليمين وذات الشمال..
- أخبرني ما الذي فعلته، وأين سندس؟
قال بصعوبة وهو لا يدرك ماذا يجري في صباحه المثقل..
- لا أدري.. ولكن كيف نمت أنا هنا؟
قالت له بغضب:
- اسأل نفسك؟
بدأت تصيح عليها دون فائدة، غير أنّها تذكرت لم تفتش السطح بعد، وهي غالبًا ما تجدها جالسة في زاوية من السطح تراقب مجاميع الحمام الراقصة في الفضاء، صعدت بسرعة تعبر السلم اثنين اثنين حتى وصلت إلى السطح فوجدت الباب مفتوحاً، ولما بحثت عنها في الزاوية نفسها، وراتها وهي تضع يديها على وجهها..
- ماذا بك عزيزتي، لماذا تبكين؟
لم تجبها، مدت يداً إليها وقبضت على ساعدها وأنهضتها..
- ماذا جرى حبيبتي؟
لم تخبرها ماذا فعل ليلة البارحة، أومـأت برأسها إليه وسكتت،
ففهمت فاتن معنى الإشارة.
عليان انزوى في الحمام، وبعد مدة خرج ليرتدي بنطلونه وقميصه، ثم اتّجه خارج البيت من دون أن يتفوّه بكلمة، سيارته في المرآب، شغّل محركها، ثم أرجعها إلى الخلف ليستدير في الشارع وينطلق بها وعندما اختفى عن ناظريها جلست سندس في المطبخ وفاتن تحضر الشاي وتعد الفطور..
- أخبريني ما الذي حصل؟
قالت بصعوبة محاولة أن تكفكف دموعها.
- أنت ذهبت إلى فراشك..
- طيب.. وبعدين؟
- بعدين..
قريبًا من الساعة الثالثة فجراً، سمعت سندس طرقاً خفيفاً على باب غرفتها، فعلمت أنّه هو وليس أحداً غيره، تجاهلته، لكن عقلها استوفز، كل شعرة في جسمها وقفت نابتة، بقيت على هذه الحالة دقائق من دون أن تستجيب له، لكنّها ترجلت عن سريرها واقتربت من الباب، يهمس بصوته، سمعته يتحدث بكلمات مشوشة، لا معنى لها، غير أنّها فهمت أنّه حزين ونادم على فعلته معها ، ويتمنى تصحيح خطأه، تصغي إلى هذيانات آخر الليل، منولوج طويل من الكلام غير المترابط، فلم تشعر بالضعف، بل زاده ذلك حقداً ، بحثت عن آلة جارحه، في محيط الغرفة، فلم تعثر عليها، وجلست بجانب الباب، و هو مستمر في تعذيب نفسه، وجلدها بكلام يحقر به ذاته الجريحة، "مهما كنت في تصورك، فأنا أعتذر، مستعد لتقبيل قدميك، كل شعرة من شعيرات رأسك، لا أريد منك شيئاً سوى مسامحتي"، وانتظر إجابتها، يعلم أنّها لن تجيب، تمدد بجانب الباب وأثقلت الخمرة حركاته، لكن بصيصاً من الوعي ما زال يحرصه على المراوغة في الكلام: "أنا كنت عبداً مأموراً، ليس بيدي حيلة، هو الذي طلب وضع المكواة على مؤخرتك، آه كم أحبّ مؤخر.. عفواً، عفواً، لا أقصد الإساءة، ولكن تصوري جزاراً مثل الأستاذ لو لم أفعل ذلك ماذا يمكن أن يفعل بي ، سيذبحني، بكل سهولة، الأستاذ لا يرحم، وأبسط لعبة يلعبها يوميًا هي قتل الناس، كلهم تعلموا كيف يقتلون الناس، لكنني، لا أحبّ أنْ أدوس على بعوضة، صدقيني عزيزتي، على أيّة حال إذا لم تصدقي فهذا شأنك، أنا ذاهب لأنام، ونامي أنت بسلام، أحببت إراحة ضميري وأثبت لك الحقيقة، تصبحين على خير".
غير أنّه لم يبارح المكان، انبطح عرضاً بجانب الباب، يتحين الفرصة، وعندما اطمأنت بغياب صوته، تصورته فعلاً ذهب إلى غرفة المعيشة، فنهضت لتتأكد، وحاولت أن تفتح الباب مسافة بحجم الكف لا أكثر، وفي الوقت الذي فتحته، هجم على ساقها وقبض عليه بقوة وشراسة، فقدت توازنها ووقعت أرضاً، ممسكاً بالساق وهو يتقدم زاحفاً نحوها، إلى داخل الغرفة، يلهث كالثور، وهي في أشدّ لحظات ذعرها وخوفها، لم تطلق أيّة كلمة، لم تصرخ، يزحف نحوها، حتى وصل إليها، لملمت هي أطرافها إلى صدرها وأصبحت متكورة، ترتجف أوصالها كلها، وتنشج بخوف ورعب، فيما انهارت كل دفاعاتها، تنظر إليه راجية ألاّ يفعل بها أيّ شيء..
- ارحمني أرجوك.
ما زال ممسكاً ساقها بقوة وهو يحبو على الأربع مطلقاً تلك الروائح والأصوات الكريهة.
- أريد التأكد فقط مما سببته لك، دعيني أرَ الآثار، ولن أفعل شيئاً سوى المشاهدة.
لم تجبه، اضحت شبه ميتة، استسلام كامل من جسدها لما تفعله يداه، يمسّد شعرها باليد اليسرى وفي اليمنى قابضًا بشراسة على ساقها:
- أريد رؤية أثر الحرق بالمكواة على المؤخرة، لن تخسري شيئاً أرجوك انقلبي على بطنك.
لم تحرك ساكناً، تنشج بصمت وخوف، ولما شعر أن لا فائدة من استجابتها، أدارها على بطنها، لم يمد يده إلى المكان الذي سبق كيه بالمكواة، طلب منها أن تكشف هي بإرادتها عن المؤخرة، وانتظر ثوانيَ، ولم تفعل، لكنها تركت أصابعه تعبث برفع ثوب النوم أعلى المؤخرة، استسلمت للغثيان أن يستحوذ عليها، وللأصابع الخشبية تعيث بجسدها، ليس لديها إرادة المنع، إذ توقفت كل إمكاناتها في الدفاع عن نفسها، فقدت قدرتها على إنهاض نفسها من وحل الشهوة الذي وقعت فيها، ولشدّة استسلامها نسيت تماما أنَّ لها يدين يمكنها أنْ تقاوم أو تدفعه بهما، غير أنها بدلاً عن ذلك أراحتهما، جعلتهما وسادة تحت خدها الايمن وهي ما زالت تنشج ، الأمر سيان لديها، رفع الثوب إلى وسط ظهرها ببطء لاهثًا كالثور، يدرك أنّها الآن تختض من ألم الاستسلام، رأى مقصًا قريباً منها، فرفسه إلى أسفل السرير، الثوب ارتفع إلى حدّ يمكن معه معرفة ما تركته يداه من آثام على جسدها، فوجئ أنها لم تغطِّ نفسها باللباس الداخلي، فشاهد تلك الآثار المفزعة، خطوط الجلد المنزوعة من مكانها، في تلك اللحظات، فقد القدرة من منع نفسه على ارتكاب المزيد من المجون، تلاشت قدرته على منع نفسه بمجرد أنْ رأى التكوير المستسلم، الذي كان، بدلاً من الأسف عليها والاعتذار، قد هيج في نفسه قضيبه ، وقد فعلت الخمرة فعلها في رأسه، فذهب بعيداً في الجنون، الصوت الذي يدوي في رأسه يقول له ليس صحيحاً ترك الأمور عند حدود المشاهدة، وخامره إحساس، بسبب استسلامها المميت، إنّ الفتاة ترغب في ذلك، مجونه دفع به إلى آخر المدى، فأمطرها باللهاث والرقص والرفس، رغم موات الفتاة تحت ثقل جسده المشبع بروائح الخمرة، ولما وصل إلى نهاية المطاف، انقلب على ظهره في عرض الغرفة، وبعد ساعة فزّ مرعوباً فزحف إلى خارج الغرفة التي اغلق بابها لوحده لينام عند عتبته.
قالت فاتن مداعبة مشاعرها:
- انسَيْ ذلك عزيزتي.. انسَيْه.
بكت سندس وحاولت أن تمنع الغثيان فهرعت إلى الحمام وألقت بنفسها في البانيو المعدّ سلفاً لفاتن، سبحت في المياه بملابسها، وغطست رأسها تحت الماء كأنّما تريد الغرق به، لكن فاتن دخلت وراءها بالوقت المناسب وسحبتها من شعرها.
- ما الذي تفعلينه بنفسك يا مجنونة؟
أخرجتها بملابسها المبلّلة واتجهت بها إلى غرفتها، أجلستها على الكرسي ونزعت عنها ثيابها، جلبت المنشفة، سندس مستسلمة ليدي فاتن، لم تكن تأبه لمداعبتها الوقحة المازحة بقرص ثدييها ولما انتهت جلبت لها ثوبًا آخر وألبستها ثم جلست أمامها على السرير.. قالت سندس وهي ساهمة تنظر إلى السقف مستذكرة كل التفاصيل التي مرت بها:
- مثل الوحش.
- أعرفه.. كلهم هكذا.
- لن أذهب اليوم إلى العمل.
ضحكت فاتن بود:
- اليوم وغداً.. ماذا تريدين بعد؟
ذهبت فاتن إلى المطبخ فتناولت فطورها ثم اتجهت إلى غرفتها وهي تشعر بالغثيان وتتوعد : "لا بد من وضع حدّ لهذا المعتوه.. وليس هناك سوى الأستاذ من ينتقم لها منه".
أكملت ارتداء ملابسها ثم ذهبت إلى سندس، قبلتها ثم ودعتها وانصرفت. تسير بسيارتها في شوارع بغداد، اشمأزت من منظر ازدحام اليافطات بأسماء شهداء الحرب تتوزع على جدران البيوت والمباني الحكومية والمقاهي، جميعها لمعركة جديدة، معركة نهر جاسم شرق البصرة، لكن فاتن مشغولة بأمر أكبر من اشمئزازها بالحرب والويلات التي جاءت بها، فكرت في الأسلوب الذي يمكنها من مواجهة الأستاذ إزاء تصرفات قواده عليان الذي ما برح يشنّ حربًا شعواء ضد فتياتها، إنّها تبحث عن أسلوب لا تفقد من جرائه وظيفتها، سخرت من نفسها "من تكون سندس كي تفقدها كل هذه الإمبراطورية التي تتحكم بها؟ لكنها أصرت بأن تجد حلاً جذريا معه، وليس أمامها غير الانتظار كي يجلب لها الشريط من أرشيف الأستاذ ومن ثم ستتصرف معه بلباقة وحذر، وعليها أن تنتظر هكذا قالت لنفسها".
زمرت السيارات خلفها بعد إضاءة الإشارة الخضراء فانطلقت تسير بهدوء فيما بعض السائقين يقتربون منها ساخرين من بطء قيادتها، حتى انبرى أحدهم وصاح بها: "تمتعي بسيارة الشهيد، عاشت الحرب، مصائب قوم عند قوم فوائد"، ثم فرّ من أمامها نافثاً دخان محرك سيارته عليها، أدارت المقود يميناً جهة معرض بغداد الدولي، ورأت الازدحام من جهة الحارثية على أشده، إنها تعلم ما الذي عليها فعله، سبق لها أنْ تعلمت أثناء دورة أقيمت في برلين الشرقية شاركت ضمن وفد للنقابات المهنية كيف تتفنّن في التصوير، ولذلك احتفظت على الدوام بكاميرا لديها تصور لقطات لا يمكن لأحد الوصول إليها، وهي في ليلة الأمس أحسّت أنّ شيئاً ما يحصل خارج غرفتها، فمشت على أطراف أصابعها ووجدته نائماً فوق سندس يضاجعها من الخلف، فأحضرت على الفور الكاميرا وصورت كل المشهد، تقف خلف الباب وسمحت لعدسة الكاميرا أنْ تسجل، دون أن تتحرك قيد أنملة لمنعه، ذلك لأنّها تحب رؤية مشاهد ساخنة مثل هذه، بل تماهت مع الحركات حدّ الذوبان وتصورت نفسها هي النائمة في الأسفل، فيما يرهز عليان فوق المؤخرة الكبيرة التي تتمتع بها سندس، واغلقت باب غرفة سندس قبل ان يقذف ، وعندما جاء الصباح ، لم تتأثّر كثيرًا لحكاية سندس، تدرك أنّها ستستفيد من الدقائق التي صورت بها ذلك المشهد الذي لا بدّ أن يستثير الأستاذ ويعاقبه عليه أشدّ العقاب.
وصلت إلى مبنى الاتحاد وصعدت درجات السلم الثلاث بسرعة وأخرجت مفتاح غرفتها بسرعة أيضًا، وقبل فتح الباب نظرت إلى أسفله فوجدت ورق حمام مُلقى على الأرض، لم تتوقف كثيراً إزاء الورقة وعزت الأمر إلى إهمال أمّ هاشم في التنظيف .
جلست خلف منضدتها وهي تفكر بوضع حدٍ لمهاترات قواد الأستاذ "ليجلب لي الشريط.. وسأفعل به ما يحلو لي، سأفتح عليه النار من كل الجهات".
جلبت أُمّ هاشم فنجان القهوة الصباحي وهي تبتسم تلك الابتسامة الكريهة، ولما رأت أنَّ الرفيقة صافنة تغوص في لجة أفكارها أخفت ابتسامتها ولجمت لسانها عن قول جملة حضرتها لها، ثم خرجت مسرعة خوفاً من سلاطة لسانها.
تناولت القهوة وهي ما زالت تفكر في الهارب كريم ابن خالة فائزة التي يبدو أنّها ذابت واختفت من بين يديها: "مصيرك تأتين إلى هنا يا فائزة.. أنت حبل النجاة لي مع الأستاذ الآخر!!".
12
ودّعت فائزة صديقتها أحلام عند باب البيت الذي نامت فيه ليلة أمس فقالت لها أحلام:
- سأنتظر مجيئك مرة ثانية.
قالت فائزة من غير تردد:
- بالطبع سأعود إليك.. ولكن بعد استلام الوظيفة.
التفتت فائزة إلى الشارع وسارت فيه بخطوات واثقة ترتدي الثوب الأصفر الذي ابتاعته أمس وبتسريحة شعر ليس مثل قصة الأسد، فهي تكره الحيوانات المفترسة لفرط ما تشاهدهم بهيئات بشرية، فقررت الذهاب إلى فاتن لتسألها عن سبب ملاحقتها بعد خروجها، تُلقي عليها هذا السؤال وترحل إلى أماكن أخرى قد تمكّنها من أن تجد طريقة للوصول إلى هدفها الذي جاءت من أجله.
قلبها يحدثها أنّ مدينتها تتعرض الآن إلى وابل من القصف ومواكب الشهداء تترى ، ذلك ما تحسّه به من أغاني المعركة التي تصم الأذان، ولكن من بقي لها في البصرة كي تجعل قلبها يهفو هكذا، صحيح المعارك طاحنة حسب ما تبثه الأخبار، لكنها لا تعرف أين يقع نهر جاسم بالضبط؟ تخشى من اقتراب القطعات الإيرانية من الحدود لأنهم سيتمكنون من استهداف المدينة بالمـدفعية، تلك مدينتها التي تحبها وتعلمت فيها.
اومأت لسيارة الأجرة فتوقفت، سألت السائق إيصالها إلى مكان معين فرحب السائق واتفقت معه على الأجرة، طول الطريق تفكر في الكلمات التي ستتلوها على الرفيقة فاتن: "لماذا الشاب الذي يرتدي الزيتوني يتبعني؟"، وقالت: "ليس هكذا بل سأسألها: تصوري يا رفيقة أضعت العنوان الذي أعطيتنيه ووجدت شاباً يتبعني فخفت منه ولم أذهب إلى أيّ مكان" قالت بصوت خافت: "ليس هكذا"، وفكرت بعبارة أخرى: "أنا جئت إلى بغداد من أجل وظيفة تليق بي وليس العمل مدبرة منزل، فعرفت أنّي قد لا أصلح للعمل".
تنظر إلى الشوارع والساحات والسيارات ولكنها في حقيقة الأمر لم تكن تبصرها، إذ يشغلها كيف ستقف أمام الرفيقة فاتن وهي تتمنى ألاّ ترى تلك الفتاة ذات الابتسامة الصفراء، تمشي كأن خللاً ما أصيبت به مؤخرتها، ابتسمت حين تذكرتها: "سأقول لك يا رفيقة فاتن، جئت إلى بغداد بحثًا عن وظيفة، جئتها لكي أتحرّر من شرنقة مدينتنا التي تراقب بعضها البعض، أنا ملّلت المراقبة، وقالت لنفسها ليس هكذا!
وعندما وصلت إلى المكان المقصود، نقدت السائق وترجلت وقبل أن تصعد درجات السلم الثلاث، نظرت إلى المبنى وقدرت أين يقع مكتب الرفيقة فاتن، لا بدّ أنّه مطلّ على الحديقة والشارع والمرآب.. فصعدت.
سارت في الممر ولم يكن أحدٌ في غرفة الاستعلامات، استمـرت
في مشيتها ذات الخطوات البطيئة: "غرفة الرفيقة أعرف أين تقع، لا أريد رؤية ذات الابتسامة الصفراء".
وصلت إلى الغرفة وقبل أن تفتح الباب طرقته طرقتين، فقالت الرفيقة "تفضل" ففتحت الباب.
عندما رفعت فاتن رأسها إلى القادم، تسارعت نبضات قلبها، وفرحت، كادت تنهض من مكانها مسرعة، لتحضنها "اثقلي يا فاتن، ها هي جاءت ترتمي عند قدميك"، مدّت فائزة يدها إلى فاتن وقالت:
- صباح الخير.
قالت فاتن في نفسها: "لن أنهض من مكاني كي أشعرها بأهميتي في الاتحاد".
- أهلاً.. صباح الخير.
انشغلت فاتن بالأوراق الرسمية المكدسة أمامها، لم يكن هناك ما يبرر
انشغالها سوى أنّها تريد بثَّ رسالة إلى فائزة بإهمال حضورها "المزدهر".
فائزة تحاول إضفاء البراءة على حركاتها..
- ها.. أخبريني ماذا فعلت؟ هل ذهبت إلى العنوان؟
تخرج الكلمات من فاتن بطيئة، مدروسة، فيما تصغي فائزة وتوزن ما تسمع بميزان التأمل، فليس مطلوباً منها أن تجيب عن كل الاسئلة، فهي لم ترتكب ذنباً يؤخذ عليها، لذلك "يجب إهمال سؤالها وألقي بوجهها العتاب فوراً".
قالت فائزة بالبطء نفسه الذي تتحدث به فاتن:
- ما كان يجدر أن يتعقبني أحد وأنا خارجة من الاتحاد.. أليس كذلك؟
فوجئت فاتن بشجاعة فائزة لطرح سؤال كهذا. "وأنا تصورتك قطة مغمضة"، احدثت هذه الجملة في نفسها الحرج والأسف ، وفكرت أن هذه الفتاة حقًّا ليست ككل الفتيات وعليها أن تعيد حساباتها معها ولا ينبغي أن تفرط بها بسهولة:
- لا أعرف عن أي شيء تتحدثين، من تعقبك؟
توقعت فائزة إجابة فاتن المراوغة ، لذلك لا تريد أحراجها كثيراً فقالت لها بابتسامة باهته .
- تصورت أنّ أحداً تعقبني، ربما كنت واهمة.
أعجبت فاتن بذكائها وها هي تنتشلها من البحث عن الجواب المناسب، "يجب أن تكون هذه الفتاة تحت يدي.. لأنّها تناور بذكاء".
- هل ذهبت إلى العنوان؟
ردت فائزة وقد نجحت بالتلاعب بمشاعر فاتن، ولم تكن تريد أن تمعن بها كثيراً والتركيز على هذه النقطة فقالت لها:
- كلا.. لم أذهب.
جلبت أمّ هاشم كوباً من العصير ووضعته أمام فائزة ولم تتفوه فاتن بكلمة حتى خروجها.
- لماذا، ألم نتفق أنَّ الراتب عشرة أضعاف؟
لا تريد فائزة أن تحدثها عن الكرامة والكبرياء لأنّ هذه التعابير سحقها "الضرورة" بالحذاء وبات الناس يتندرون منها بسب الضحايا الذين ذهبوا على جبهات الحرب.
فقالت لها:
- أريد وظيفة، وليس مدبرة منزل، أنا لا أجيد التعامل مع القطاع الخاص,
فاتن تتوقع منها هذه الإجابة فأفرحتها، لأنها قررت أنْ تجعلها قريبة منها.
- أيّ وظيفة تعجبك؟
لم تتردّد فائزة بالقول:
- السكرتارية.. أنا أجيدها وأعرف كيف أوفق فيها.
منذ هذا اليوم قررت فاتن إبعاد سندس من السكرتارية واستبدالها بفائزة: "سـأجعلها تفاحتي للمهمات الصعبة التي تنتظرني مع الأبله القواد عليان".
- ما رأيك بالعمل سكرتيرة عندي؟
فوجئت فائزة بقرار تعيينها بهذه السرعة وعقلها يقول إنها وجدت فيها شيئاً لم تجده في غيرها لكن لماذا بهذه السرعة تم تعيينها، لا بدّ أنّ في الامر سراً "سأعرفه فيما بعد حتماً".
- من اليوم إنْ شئت.
ردت فائزة، وهي ما زالت تتصنع البراءة:
- ولكن الأخت التي تعمل هنا، لا أعرف اسمها، أليست سكرتيرتك الشخصية؟
- توقفت عن العمل، سندس جامدة، أريد واحدة فيها الحيوية والذكاء، وأظنّها تتوفر عندك.
قالت فائزة:
- لا أتوقع أن تحصل مضايقات من بعضهم هنا.
فاتن تعرف إلى ماذا تهدف فقالت:
- اطمئني تماما، لن يراك أحد سواي.
فرحت فائزة، دون أنْ تستخف بنفسها:
- إذن أعتبر نفسي استلمت الوظيفة؟
- من اليوم.
صمتت فائزة قليلا، ثم قالت:
- كلا، من الغد، اليوم غير مستعدة، أرجوك.
فكرت فاتن: "هل ستفلت من يدي هذه المرة، كلا، فقد ظهر عليها السرور، ومن حقها أنْ تبدأ العمل في الوقت التي تشاء".
- ولا يهمك، من الغد.
أخذت جرعة صغيرة من العصير، ونهضت:
- أستأذنك، إلى الغد، مع السلامة.
ظلّت عينا فاتن تحدقان بإعجاب إلى طريقة مشيتها البطيئة وهي تتجه إلى الباب، وفائزة تتعمّد ضرب حذائها بالأرض بطريقة تظهر فيها المفاتن.
خرجت من الغرفة وأسرت لأنّ الزيتوني لم يكن موجوداً، شاهدت إحدى الرفيقات تقف عند باب غرفتها، وعندما نظرت إليها فائزة، دخلت تلك الرفيقة بسرعة، فلم تشغل ذهنها بالبحث عن السبب، ولم تكتم فائزة شعورها بالإعجاب بجمال تلك الرفيقة المنزوية، وقالت في نفسها: "سأتعرف عليها في الغد، كما أتعرف إلى باقي الرفيقات"، فخرجت من المبنى، أفردت أصابعها بشعرها من الخلف، وتنفست الصعداء، أومأت لسيارة أجرة وأقلّتها دون أن تبذل جهداً في معرفة سن السائق أو مقدار الأجر، لديها ما يكفي من المال حتى نهاية الشهر.
وصلت إلى بيت خالتها وطرقت الباب ففتحته حليمة إذْ هي بحالة رثة، ولم تعبر لها عن أيّ شعور بل لاحظت الازدراء على سيمائها، سلمت عليها فلم تجب، تقدمت إلى وسط الحوش فوجدت الخالة تنوح، وعندما رأتها انفجرت بالبكاء.
- ماذا جرى؟
رفعت الخالة رأسها:
- أخذوه.
اقتربت حليمة منها وهمست بأذنها بغضب:
- ذكروا اسمك أولاً، أين ذهبت، هل وشيت بأخي؟
لم تستطع فائزة استيعاب ما يحدث أمامها، هل تم إلقاء القبض على كريم كونه هاربًأ من العسكرية منذ ثلاث سنوات، ولم تتعب في البحث عن الجواب ، لا بد أنّهم استدلوا على عنوانه، أما أن يذكر اسمها، فهذا لغز جديد من الصعب أن تجد له خيوطه.
- كيف ذكروا اسمي، ثم ما علاقتي بالأمر؟
أطلقت حليمة حسرة قوية:
- قالوا أين فائزة.. أين كريم الهارب، ثم عندما شاهدوه في الأعلى صوبوا مسدساتهم نحوه وجرجروه، ذهب معهم بالبيجاما، وهذه أمّي ستموت كمداً عليه.
فكرت فائزة: "لا بدّ أنّي أطفو على بحيرة من الألم، هكذا أنا ما إن أشعر بسعادة مدتها ساعة حتى يعود القصف والدوي إلى رأسي".
- ولكن بحق المقدسات لماذا ذكروا اسمي؟
غضب حليمة وهي تتنقل بين أمّها المتكومة على البلاط وبينها لن يفسر لها ما يجري بصورة دقيقة. استرجعت شريط أحداث الأمس، استذكرت الوقائع، في تلك المقابلة ذات الحمام الساخن، أخذت فاتن كل التفاصيل، ذكية بمعرفتها سكني عند بيت خالتي واستنتجت انّ ابن خالتي هارب من العسكرية، ولما افتقدني الزيتوني عاد إليها ليأخذ العنوان، هذه كل القصة.
تهاوت على الأريكة ولم تصدق ما يجري، هل يمكن للسلوك البشري أن يصل الانحطاط به إلى هذا المستوى؟
الجو في البيت مظلم، ولا بدّ أن تجد الحل فوراً، مسكت حقيبتها ونهضت، إنّها لا تعلم إلى أين يمكنها أن تذهب؟
تركت البيت وبخطوات فيها انفعال سارت باتجاه الشارع العام، أومأت إلى سيارة أجرة، ودون أنْ تخبره إلى أين ذاهبة، قالت له آمرة:
- اطلع بسرعة.
ولما وصلت إلى المكان المقصود نقدته ونزلت مسرعة داخلة المبنى.
أرادت أن ترفس باب غرفة فاتن، غير أنها تماسكت فوقفت عند الباب، التفت إلى جهة الممر، فوجدت تلك الفتاة الجميلة تنظر إليها، حدقت فيها بعمق فدلفت رغد إلى غرفتها، قطعت فائزة أنفاسها ولم تطرق الباب، فتحته ودخلت بدون استئذان.
فنهضت فاتن وهي ترى شرراً يتطاير من عيني فائزة، تسارعت في عقلها خيوط الأحداث وتوصلت إلى استنتاج أنّها علمت للتو بفقدانها ابن خالتها:
- لماذا رفيقة فاتن؟
- ما الأمر؟
- أحقاً لا تعرفين، وأنا التي تصورت أنّك فهمت سبب مجيء على الفور، أين ابن خالتي، أين يمكن العثور عليه؟
ضحكت فاتن واستدارت حول مكتبها ثم اقتربت منها وأمسكتها من ذراعها الناعمة:
- موجود، وبخير، واطمأني.
فائزة تلهث، وثمة عرق ينزّ من أنحاء جسدها، استلت منديلاً من حقيبتها ومسحت ما تصبب من وجهها، ورقبتها، وتحت ذراعيها.
- لماذا؟ ألأنّني أجبت عن كل أسئلتك تودعين شاباً لا علاقة له بالأمر في متاهات السجون؟
وجدت فاتن أنّ هذه الفتاة تمادت كثيراً وعليها أن تلقنها درساً في كيفية تعاملها معها.. صاحت بها:
- اسمعي، ابن خالتك هارب من الحرب فماذا تتوقعين أنْ يكون مصيره، اشكري الله أنّي تدخلت في الأمر وهو الآن موجود في مكان لا تحلمين حتى بمشاهدته وليس العيش فيه، قلت لك قبل قليل، اطمئنّي وهو بخير، لماذا لا تصدقين ما أقول؟
قالت فائزة يائسة:
- لا أصدّق، حتى أرى.
ردت بغضب:
- حتى ترين ماذا؟
- ابن خالتي.. هل تعلمين أنّ أمّه على شفا الموت؟
ساخرة منها:
- وأمّه لماذا تتستر عليه؟ أنت لماذا لا تصدقين ما أقول؟ كريم الآن يا عزيزتي في بيت الأستاذ، اكتشفوا لديه موهبة الرسم وسيعفى من العسكرية.
جلست فاتن، متعبة، كادت تنهار وأن تطردها لولا رغبتها باستقطاب هذه التفاحة إليها فبدّد ذلك نوبات غضبها.
دخلت أمّ هاشم فجلبت العصير ووضعته أمامها وانصرفت فطلبت فاتن من فائزة أنْ تشربه كي يروي عطشها..
- أريد ماءً.
نادت على أمّ هاشم فجلبت لها قدحاً من الماء، شربته، وهي تفكر: "كيف يمكنني تصديقها بعد الذي فعلته بي، فقالت بتصميم"، يجب أن أمتحن صدقها؟".
- طيب.. دعيني أسترشد بخيط واحد أصدقك فيه القول.
وجدتها فاتن بدأت تميل إلى الاقتناع: "من أين أجلب لك القواد عليان في هذه الساعة كي يخبرك كيف يتنعم ابن خالتك بأجواء السعادة".
فكرت فاتن في وسيلة تبقيها أطول مدة ممكنة كي يتسنى لها الالتقاء بعليان وأخبارها بالحقيقة، غير أنّها تذكرت ما خططت له بألا تجمع بينهما، "القواد سيأخذها إلى الأستاذ حتماً وتفلت من بين يديّ.. وأنا التي خططت وجهزت كل أدواتي لأقربها إلى الأستاذ الأكبر الذي بإمكانه أنْ يسحق عليان وأستاذه بحذائه".
ما وراء الباب رغد تشعر بالقلق، فهذه الزائرة الجديدة "قبل ساعتين كانت هنا، ثم عادت، لماذا ذهبت؟ ولماذا عادت؟ أمّ هاشم تقول إنّ الفتاة غاضبة على الرفيقة فاتن، هل أوقعتها في شر حبائلها مثلما فعلت بنا؟ " تذرع الممر ذهاباً وإياباً وفي كل مرة تصل فيها إلى المطبخ تفتعل أنّها عطشة لتشرب الماء، لكنها في الحقيقة تريد أن تعرف، حتى يتسنى لها أنْ تحبك مؤامرتها ضد الرفيقة، من كل الجهات، بخاصة وأن لديها وثيقة صوتية ستجعلها تتمرغ في التراب.
وخلف الباب الذي تنظر إليه رغد بفضول، فاتن تحاول أنْ تجعلها تستلم عملها اليوم بدلاً من الغد، وأنْ تجعلها بعيدة عن القواد لتقف في مكان منزوٍ لكي تسأل عليان عن مصير كريم فتتيقن فائزة أنّه في مكان آمن يعيش داخل قصر ويأكل وينام فيه كالملوك.
قالت لها فاتن:
- عندما يأتي عليان سأسأله أمامك عن مصير ابن خالتك.
ردت فائزة بغضب:
- لا أريد رؤيته!
ضحكت فاتن:
- لن تريه، ستقفين هناك، في الحمام، وسأسمعك كل الكلام الذي يدور بيننا.
فكرت فائزة: "هل هذه لعبة جديدة، أم أنّها تتحدث بصدق؟
- انتظري قليلاً، سيأتي بعد ساعة أو ساعتين، يمكن قضاء الوقت في الحمام، اسبحي فيه، وعندما يأتي سأشعرك بذلك فوراً.
فكرة سخيفة أن تنزوي في الحمام وهي تغلي بحثاً عن ابن خالتها الذي ربما ضاع بين أنياب شلة فاتن " لا أدري لماذا تصرّ على وجودي في الحمام!" ريقها أصبح جافاً فشربت العصير.. وقالت:
- كلا، لن أبدّد الوقت في الحمام، دعيني أنتظر هنا، وعندما يأتي سأدخله.
سايرتها، فهي تشعر أنّ عليان لن يأتي اليوم بعد الذي فعله ليلة الأمس بسندس، خوفاً ألا تشكوه إلى الأستاذ.
قالت لها:
- إذن، سنستفيد من الوقت لكي أعرفك على الرفيقات ومن ثم تجلسين في غرفتك المتاخمة لغرفتي.. ماذا تقولين؟
صمتت فائزة، و ذلك إيذاناً بموافقتها فنهضت معها وفتحت الباب لتجد رغد تقف في نهاية الممر وعندما شاهدت فاتن دلفت بسرعة إلى غرفتها..
دخلت قبلها إلى الغرفة المتاخمة حيث لا أحد يتواجد فيها، أصغر من غرفة فاتن، مؤثثة بأرائك سوداء، ومنضدة وكرسي، وعلى المنضدة آلة كاتبة وهناك جهاز استنساخ "رونيو"..
- هذه غرفتك، من الآن وصاعداً.
لم تكن فائزة تبالي بأحاديث فاتن المتقطعة، وإن ارتحات اليها قليلا ، لأنّها ستجد مكانا خاصاً بها تمضي فيه ما يمكنها من الوقت، لكنها الآن مشغولة الذهن بصدق نواياها فيما تقول بشأن كريم وتتمنى حقاً أنْ يكون في المكان الذي وصفته..
- هل يمكننا الاتصال به؟
استغربت فاتن سؤالها، ولم تتأكّد فيما ترمي إليه.
- نتصل بمن؟
ببراءة قالت:
- نتصل بكريم؟
ضحكت فاتن وأمسكتها من ذراعها بدفء وشاعرية..
- عزيزتي ليس من السهولة الاتصال ببيت الأستاذ، يمكنه هو أنْ يتصل بمن يشاء، ولكن ليس كل فرد يمكنه الاتصال به، لا أبالغ إذا قلت لك، إنّ الأستاذ هو الشمس، عندما ننظر إليه، تحترق عيوننا، لا ينبغي أن ننظر أو نتصل به، اليابانيون يحنون ظهورهم عندما يخرج الإمبراطور من شرفته ليحييهم، ليس خوفاً منه، بل لأنّه يمثل لهم الشمس، فلا ينظرون إليه، أستاذنا هكذا، أرجوك افهميني.
فائزة تعلم ما تعني كل كلمة تقولها فاتن، وتعرف البطش والقسوة التي يمكن أن يبديها ضد الآخرين، سواء كان جاداً أم مازحاً لكنها الآن "أريد رؤية عليان لأسمع صوته يحدث فاتن عن مصير ابن خالتها كي يشفي غليلي".
جلست فائزة في مكتبها وأحست أنّها غطست في الكرسي و بأهمية وجودها، فاتن تراقبها مثل ذئبة ، انتبهت لأوّل مرة إلى ثوبها الأصفر، كما وصفها عليان: "أنا متأكد أنّها خرجت من المحل بثوب آخر ولم أنتبه لذلك إلا بعد أن ابتعدت، أظنّها ارتدت ثوباً أصفر".
- سأتركك في مكانك الجديد، وبيننا هذا الزر الكهربائي إذا أضاء عندك بمعنى أريدك حالاً.
تركتها فاتن وحدها في غرفتها، فاتكأ رأسها على مسند الكرسي ونظرت إلى السقف، المروحة واقفة، وصور متعددة للضرورة في محيط الغرفة: "أعرف أنّ دربي طويل وشائك وصعب".. فتذكرت تلك الأيّام..
مهند محرج عندما جلس وجهاً لوجه أمام فائزة، ليس لديه القدرة على أن يواصل سرد القصة وهو يجالس أخت صديقه الشهيد وشعوره بالذنب يتعاظم.
- لم تقل لي سبب العداوة بينهما؟
- أخبرتك أنّ المرحوم ورائد عماد كانا على خلاف مستمر، أسباب الخلاف لا أحد يعرف بها إلا أنا، إذ كنا في واجب جالسين تحت النجوم.. فسألته، لماذا يكرهك؟ فقال لي وهو ينظر إلى الجهة البعيدة، بسبب فتاة، فقلت له ماذا تعني؟ ظلَّ ساهماً، فقال: كنت أحبّ أجمل فتاة في الكلية، زميلتي في الدراسة، وعماد زميلي أيضاً، لكنه يعيش في الأقسام الداخلية، لأنّه من بغداد، وأنا من البصرة، وعندما تعلق قلبي بعلا وهي من بغداد وتسكن الأقسام الداخلية أصبحت بمرور الأيام حكاية حبنا على مسمع ومرأى القسم كله، ولم أتصوّر أنّ قصة ذلك الحب العنيف تنتهي بالمأساة بسبب الرائد عماد.
سألت فائزة:
- كيف؟
- قال لي المرحوم مهند إنّه في يوم من الأيّام جاءت إليه علا من القسم الداخلي لتخبره بمضايقة عماد لها، ولم يكن يتصور مهند أنّ يجرؤ بالطلب من علا تركه لسبب لأنّها من بغداد وهو من البصرة ، وقال لها عماد أولى بك أنْ تكوني مع ابن مدينتك وليس مع الغرباء. المرحوم يبكي عندما يتذكر تفاصيل تلك الايام، ويسألها غير مصدق: ماذا تقولين عماد نفسه، فتؤكد ذلك، وتقول له أنتَ ما دمتَ معي لن يضايقني أحدٌ ولن يأخذني منك أحدٌ أنت حبيبي وليحصل من بعدك الطوفان، غير أنّ الطوفان حصل إذ اتصل عماد بأخ علا وأخبره بعلاقة المرحوم مهند بها وجاءت إليه في يوم آخر وطلبت منه قطع العلاقة لأنّ أخاها هدّدها بفصلها من الكلية إذا استمرت معه.
أضيء المصباح أمام فائزة ما يعني استدعاء عاجلاً من قبل فاتن، فنهضت تسير بخطوات هادئة ودخلت عليها فقالت فاتن:
- ما رأيك نبدأ بالتعرف على بقية الفريق في الاتحاد.
لم يكن ذلك ما يشغل ذهنها بقدر ما يثقل علـيها شعورها
بالذنب إزاء كريم.
- مثلما تشائين.
تجولت الفتاتان في أنحاء الغرف، فاتن تكثر من الكلام، وهي تتحدث مع الرفيقات بتسلط واضح وهن كن صاغرات مستمعات، تعطيهن ملاحظات عن كل الأمور العالقة في ذهنها والتي لم تنجز. وبّخت القانونية لتناسيها مشاكل النساء فيما تشعر أمينة المحامية بأن ما تتحدث به الرفيقة غير صحيح لأن لا وجود لمشاكل حقيقية لدى النساء، مجرد شكاوى اجتماعية من اختصاص رغد، كما أنّها تكره حضور المحاكم وليست لديها الدربة الوقحة في مناكفة حشد المحامين الذين يتقاتلون للفوز بأية قضية، وعند تجولها معها في الغرف الأخرى تجاوزت غرفة رغد وهي غرفة تثير فضول فائزة لاستكشاف تلك الفتاة التي غالبًا ما تنظر إليها ثم تنزوي .
قالت فائزة:
- هنا رفيقة لم تعرفيني عليها؟
نظرت إليها مستطلعة وحاولت أن تبين أنّها نسيت.
- آه.. نسيت الرفيقة رغد، مسؤولة الاجتماعية.
طرقت الباب ثم دخلتا، رغد تطالع في مجلة "المرأة" ولما دخلن عليها نهضت احتراماً ومدت فائزة يدها إلى رغد..
- هذه فائزة سكرتيرتي الجديدة، وهذه رغد نسميها الجميلة المشاكسة.
تعرف رغد أنّ فاتن تضمر لها العداء وجملتها تعبير ساذج عن مكنون أعمق تدرك مساحته، لم تتحدث فاتن مع رغد كثيراً ما أثار ذلك فضول فائزة واكتشفت نوعاً من الجفاء بين المرأتين، ستعرف تفاصيله في مقبل الأيام.. فاتن تتحدث عن مواهب رغد في إضفاء الأجواء الاجتماعية على أفراح الشعب، وخصوصا في المناسبات الوطنية بالغة الحساسية كعيد ميلاد القائد الضرورة وأعياد المحافظات وأيّام النصر غير المعدودة، تتحدث ببرود وبغير انفعال وحاولت أن تزن كلماتها كي لا تقع في المحظور ، خشية من زلات لسانها ، وهي تنصب المطبات والفخاخ للجميلات أمثال رغد وإرسالهن إلى حفلات عيد الجيش وأعياد ميلاد بنات بعض السادة المسؤولين الكبار أو الإشراف على حفلات تقام في مزارع لا يمكن لأحد أن يدخلها سوى المسؤولون. وفي تلك الحفلات تقام الولائم الباذخة ونحر الذبائح وحفلات الغناء الغجري الصاخبة، فاتن تتجنب الحديث عن ذلك وهي كلما سألتها رغد في الأيّام السابقة عن أيّ حفلة تقام هنا أو هناك، لكي تستعد لها فتجيبها بأن فرعاً آخر من الاتحاد سيتكفل بذلك وليس فرعهم.. غير أنّ الحقيقة ليس هكذا، بل لأنّ فاتن تتخوف من ذكاء رغد في أن تنجح بإقامة علاقة مع أحد "الأساتذة" وهم كثر في جمهورية الخوف. والأساتذة قد تمكنها من الانطلاق إلى الآفاق الرحبة، بعيداً عن إمبراطوريتها ممتدة الأطراف.
ولما خرجتا من غرفة رغد همست فاتن بأذن فائزة:
- لا تقتربي منها.
دهشت فائزة وتصنعت البراءة:
- لماذا؟
وصلتا إلى غرفة فائزة ودخلتا فيها ثم جلستا جنباً إلى جنب فقالت فاتن بجد:
- هذه أفعى ستلدغك بسرعة إذا ما تقربت منها.
لاحظت فائزة أنّ الرفيقة بدأت تفقد رصانتها وتكشف عن ضحالة في تفكيرها، فليس مستحباً أن تنكّل بزميلة تعمل تحت يدها بشكل مكشوف فأرادت فائزة أن تظهر لها رأيها بذلك لإيصال رسالة لعلها تفيد.
- لا ينبغي التحدث عن العاملين عندك بهذا الأسلوب.
لاحظت أنّ ابتسامة فاتن تحولت إلى تكشيرة، فأردفت فائزة:
- لأنّي أخشى أن يقال عني الكلام نفسه إذا لم يعجب الآخرين عملي.
لم تتوقع فاتن أن تَصُبَّ هذه الفتاة الجديدة صراحتها ونقدها علانية وبوضوح كالذي سمعته الآن، فأحرجت ، سال العرق تحت إبطيها ، حكت رأسها لامتصاص صدمة العبارة الجافة، وحاولت انتشال نفسها مما هي فيه من ضيق، إلاّ أنّ العبارة صاعقة ألزمتها الصمت والهروب إلى غرفتها نادمة على أشياء كثيرة ليس تعيين رغد واحدة منها فحسب بل وخذلانها في عدم إيجاد نفسها بشكل طبيعي في عالم يكتظ بالشرور والتناقضات.
جلست على كرسيها وأخذت تنظر إلى السقف وفكرت في سندس: "أتجرؤ سندس أن تحدثني بهذا الشكل؟ لا غير ممكن، لم ولا تجرؤ، رغم المصائب التي عصفت بحياتها بسببي، أرادت الضغط على زر المصباح الكهربائي كي تأتي إليها فائزة راكضة مثلما تفعل سندس، غير أنّها لا تعرف بماذا تحدثها وبماذا ستكلفها من عمل: "هذه الفتاة ذكية وجميلة جداً وعلى مداراتها بهدوء، فهي السلالم للأستاذ الكبير"، حكت ما بين فخذيها ثم قالت في نفسها: "بدأت أخشى من ذكائها أنْ ينقلب ضدي، الأفضل معرفة رغبتها في السكن معي، هناك غرف كثيرة في البيت شاغرة ولا أعتقد أنّها مرتاحة في السكن مع خالتها". وقبل أن تضغط على المصباح الكهربائي وجدته ليس في موضعه السابق، فاستغربت، ثم تجاوزت ذلك عندما تذكرت بلاهة أمّ هاشم عندما تنظف مكتبها، جاءت فائزة تتلوى بمشيتها التي تحبها فاتن:
- نعم؟
- اجلسي.
جلست فائزة وهي تنظر باستغراب الى فاتن ، يبدو هناك حنقٌ وضيقٌ بادٍ عليها وبصعوبة تحاول إخفاءه.
- أسألك عن مكان إقامتك؟
- ماذا عنها؟
- أقول.. هل أنت مرتاحة فيها؟
"ماذا تريد مني هذه المرة، هل ترغب بانتقالي من بيت خالتي إلى مكان آخر، هذا ما تبدو عليه طبيعة السؤال، لأجاريها وسنعرف".
- يعني.. بين بين.
- إذا كنت غير مرتاحة فلدي مكان يليق بك.
- مكان يليق بي، لا، هذا كثير عليّ.
- أين يقع المكان، هل هو قريب من هنا أم بعيد، إيجار أم مجاني، وحدي أم مع أحد، آسفة، ولكن أنت تعرفين.
ضحكت فاتن:
- تعجبني أسئلتك، فهي بحق تدلّ على حرصك.
انتظرت فائزة الإجابة الواضحة، فقالت فاتن:
- تسكنين عندي في البيت، أنا مقطوعة من شجرة وبيتنا كبير.
- من يسكن معك؟
ردت بسرعة:
- سندس، أنت تعرفينها، سكرتيرتي السابقة.
أرادت أنْ ترفض السكن، غير أنّ فضولها يدفعها دائماً إلى أبعد ما تتوقع.
- ولكن سندس، قد لا تودّني؟
- سندس!! معقولة أنْ يكون انطباعك عنها سلبياً؟ سندس عبارة عن فراشة.
لا تستطيع أن تتصور تلك الفتاة أن تكون فراشة رغم ذلك سألت فائزة:
- ولكن لماذا أسكن عندك، ألا يضايقك وجودي؟
- أنت تضايقينني؟! كلا.. كلا.
- قلت لربما أسبّب الإزعاج، فأنا كثيرة النقد كما لاحظت.
أحسّت فاتن بأريحية، وأظهرتها بابتسامة مكشوفة النوايا، متلونة..
- لهذا السبب أريدك بجانبي، قد أحتاج إلى مشورتك ونقدك وملاحظاتك، تعرفين نحن النساء نعيش في عالم نحتاج فيه إلى التوحد ضد الوحوش.
توقفت فاتن من أجل ألا تخوض كثيراً في شرح أبعاد كلمة وحوش وقد تسجل عليها مأخذاً ستُلام عليها، لكن فائزة عند كلمة وحوش وجدت ضالتها في الموافقة على اقتراح فاتن.
- أنا موافقة.. ولكن بشرط؟
- اشرطي عزيزتي..
أطلقت زفرة من صدرها المكتوي بالنيران:
- أساهم من مرتبي بمصروف البيت.
العبارة نفسها التي قالتها لخالتها وكريم.
- مصروف البيت؟ ولا يهمك.. لا نريد إغضابك.
فائزة تشعر أنّها كلما صفنت فاتن فإنّها تدبر لها تدبيراً جديداً، فبقيت تحت مراقبتها ووضعت كل كلمة تنطق بها تحت مجهر تحليلاتها كي تصل معها إلى الغاية التي جاءت من أجلها.
- ومتى سيأتي هذا لكي نتأكد من سلامة ابن خالتي؟
بدون تفكير، قالت:
- أنت تعلمين بالمعارك الدائرة الآن في شرق البصرة، ربما يتأخر اليوم أو لن يأتي على الإطلاق، بسبب الوضع هناك عندهم.
ثم قالت فاتن:
- سيأتي، أين سيذهب؟ مصيره أن يعود إلينا.
أرادت أن تسألها عن عمله، ولماذا يرتبط بعلاقة مع الاتحاد، غـير
أنّها وجدت في سؤالها بلاهة وسذاجة فلم تسأل.
- الآن اذهبي إلى غرفتك، وبعد انتهاء الدوام سنذهب أنا وأنت لتودعي بيت خالتك وتجلبي أغراضك الشخصية.
نهضت فائزة، وفكرت أنّها بدأت تقترب شيئاً فشيئاً من حفلة الذئاب.
13
جلس كريم في غرفة شبه معتمة، لكنها تطل على البساتين والمساحات الخضر ، جلبوا له كل ما يريد من أدوات الرسم ذات النوع الفاخر: أصباغ وقماش وجنفاص واوراق وفرش ووضعوا في غرفته جهاز تلفاز وفديو وسريراً ومنضدة وثلاثة كراسي وبراداً فيها كل أنواع المشروبات الغازية والخمور.
يقوم بخدمته منيف شاب يرتدي على الدوام ملابس زيتونية وغالبا ما يجلس خلف الباب بانتظار ما يطلبه كريم.
أنجز التخطيط الأوّلي لصورة الأستاذ وهو جالس خلف منضدة، يعمل ببطء شديد، في الجانب البعيد من عقله ثمة أسئلة عميقة لا يمكن لأحد الإجابة عنها كمثل علاقة فائزة بكل ما يحصل له ، أصابعه لم تعتد مسك الفرشاة، لم يدربها على أعمال اضطرارية، إذ يعد الفن محاولة لإعادة صياغة الحياة من جديد وليس نقلها كما هي إلى الجنفاص بأشكال جامدة.
- لماذا لا ترسمني؟
قالت نوال وهي تجلس أمامه في مرسم الكلية، فأجاب:
- عندما يحين الوقت.
ابتسامتها ملهمة له في إشاعة الدفء ضد الغضب في الحياة.
- ما الذي تعمل عليه الآن؟
- أرسم السلام، أحبّ تحليق الطيور في الفضاء، سباحة الغيوم، ذرات الغبار الطائرة، ابتسامات ترقص الباليه على شكل حمائم..
نظرت نوال إلى الرسم وضحكت:
- لا وجود للطيور هنا و لا الغيوم ولا الغبار.. بل ضربات من الألوان المتصارعة، كأنّك تخوض فيها حرباً.
- لم ينجز العمل بعد، عندما أنتهي سأضطر الإصغاء إلى أعظم ناقدة لأعمالي..
دخل منيف حاملاً صينية فيها الفطور، ووضعها على المنضدة، وقبل مغادرته سأله كريم:
- منيف.. هل أستطيع أنْ أسألك؟
بقي واقفاً في مكانه :
- أأنت متزوج ؟
- لماذا؟
يحاول كريم اختراق عالمه .. فقال:
- هل تحب أن أرسم لك زوجتك أو المرأة التي تحبها أو أيّ إنسان عزيز عليك؟
لم يستطع كريم أنْ يتصور شكلاً للبلاهة مثلما يراها في هيئة منيف.
- ابني، أريدك "تصور" ابني.
- يبدو لي أنت فلاح، قبل أن تكون عسكرياً.. أليس كذلك؟
أسلوب كريم في الكلام كما يبدو لا يعجب منيفًا، لأنّ عقله البسيط لا يحب الدوران والحذلقة وتمنعه سذاجته من التفكير عميقاً في ما وراء الكلمات..
- كلنا فلاحون، لكن الأستاذ أرادنا هنا.
لم يترك كريم ريشته وسمح له أن ينظر..
- تعال انظر كيف رسمت الأستاذ؟
قبل أنْ يتحرك من مكانه، التفت منيف إلى الباب، ونظر إلى ما وراء النافذة، خشية أن يراه أحد، ثم اقترب من اللوحة..
- حلوه..
- ما هو الحلو فيها.. الرسم أم الأستاذ؟
العبارة صعبة الفهم على عقل منيف فاستنتج كريم أنّه بدأ حياته من المراهقة إذ وجد نفسه ذات يوم متزوجاً من ابنة عمه أو خاله وبعد سنة ألبسوه الملابس الزيتوني، وعلموه قيادة سيارة حديثة، ثم يخرج مع جماعة من أبناء عشيرته إلى فنادق الدرجة الأولى، علموه احتساء الخمور والنظر إلى أجساد الراقصات في النوادي المخصصة لذلك.
- حلو الأستاذ.. والصورة.
ينظر إلى اللوحة غير المكتملة وهو سعيد وفرح ولا يشعر ثمة بأي شيء سوى البلاهة..
- اجلب لي صورة ابنك أو صورتك، أو كلتيهما، وسأرسمكما معاً.
- كيف؟
كتم كريم ضحكاً وعربدة، لكنه سيطر على نفسه..
- سأرسمكما معاً، سأجعل ابنك يجلس في حضنك.
غادر منيف غرفة كريم فرحاً كما بدا له، ألقى نظرة على الفطور فوجده زاخراً بـ "قيمر العرب" والعسل وإناء اللبن وقرص من الخبز المطعم بالسمسم، تناول فطوره بهدوء وهو يحاول كتم انفعالات لايريد إظهارها، قد تشقيه، وتبدد سعادة مغلفة بالحذر والخوف وربما الموت بدأ يشمله الآن.
قال له عليان يوم أمس:
- هذه غرفتك، وإذا أردت قضاء حاجتك ستجد بجانبها الحمام والتواليت وكل لوازم الراحة.
- والأستاذ؟
- ماذا به؟
- كيف يمكنني رسمه؟ هل يأتي إلى هنا، أم أذهب إليه، أم تجلبون لي صوره؟
قبل أن يغادر عليان قال له بجفاء:
- لا أعرف!
عالم متشابك، لا يعرف كريم أين هو الآن، في أيّ مكان من بغداد، عقله يخبره بأن إقامته هنا ستطول، وليس هناك منفذ للهروب. رشف الشاي ودخن السيجارة ثم جلس يتأمل صورة الأستاذ.
بعد قليل، جاء منيف ، رفع الصينية وقبل أن يغادر، ابتسم له، هذه هي المرة الأولى التي يبتسم فيها، فشعر بأن حديثه أوقع في نفسه تأثيرًا ما، وبقي لوحده.
- أنت مجنون، الدنيا تمطر بغزارة، أين نذهب، تعال نستتر..
جذبها من يدها:
- المطر يغسل أدراننا، يعلمنا أن ننبطح على أسرّة الجمال ونمارس المتعة بالهواء، تلك هي حكمة المطر..
ضاحكة وهي تجاريه في نزقه:
- أيّة حكمة وأيّ جمال، ملابسنا أغرقتها مياه الأمطار.
رفع رأسه إلى السماء:
- أمطري أيّتها السماء، خفّفي من أعبائك، اهطلي دموعك على البشر الفانين.
وهي لما تزل ضاحكة واضعة جلدة المحاضرات على رأسها:
- كريم.. لماذا تزعق، الناس ينظرون إلينا؟
- الناس سينسون بعد لحظات، الناس تراقب لأنّهم لا يستطيعون هضم ما نفعل، لنعلمهم كيف نصنع الحياة، نحن صناعها الحقيقيين.
توقفت تحت شجرة وتركته لوحده يحاول احتضان المطر.
- لن أتحرّك من مكاني بعد الآن.. ألا ترى المطر ينهمر بغزارة.
توقف بجانبها، فيما سائقو السيارات يزمرون بالهورنات لهما، ضاحكين أو ساخطين، نظر إليها بعمق، وشهوة:
- ما رأيك في مكان دافئ وجميل؟
سخرت منه:
- كل يوم نذهب إلى مكان دافئ وجميل، هل هناك فندق لم نذهب إليه نحتسي فيه شايًا أو عصيراً ؟
أخذ يحدق بعينيها عميقاً، ورأى فيهما ما لم يره من قبل.. فتشجع وقال:
- نذهب إلى بيتنا.
باستغراب:
- بيتكم.. لماذا؟
- هناك سنمضي يومنا الدافيء الجميل، لا أحد يراقبنا.
ترددت قبل أن تقول:
- وأهلك.. أختك وأمك.
- سأعرفك عليهما، ثم نصعد إلى غرفتي، ولن يقولا شيئاً إزاء ذلك!
جاء منيف ومد يده إلى جيب قميصه الزيتوني وأخرج صورة ابنه وصورته وقدمهما إليه بخوف وبسرعة.
- أرجوك لا تخبر أحداً بذلك.
أيقن كريم أنّ منيف جاء إلى الطريق:
- هذا سرّ سيكون بيني وبينك.. اطمئن يا "منيف".
غادر "منيف " غرفة كريم واتجه إلى المكان المخصص له مع جماعته المنتشرين في مزرعة الأستاذ، هناك من يحرس البيت، والسواق الذين يجلبون الضيوف والحاجيات، وهناك الفلاحون والخدم وبعض الموظفين، الجميع يمشون محني الرؤوس.
منيف يراقب ولا يفكر شأن الكثير من رجال حمايات الأساتذة، أهمّ شيء عندهم عدم حصول خرق أمني من قبل بعوضة وألا تقترب ذبابة من سياج الدار أو ينظر عدو ضـل طـريقه إلى أشجار المزرعة.
قال منيف لزوجته:
- كل واحدة منهن كأنها "تلفزيون".
فاستشعرت زوجته بالغيرة:
- لا تنظر إليهن، هؤلاء جنيات.
يعرف أنّ زوجته تخرف ولا يستوعب عقلها الصور الجميلة التي يراها خصوصا في ليالي الملاح. غير أنّه مأخوذ بالعجب من الأفندي الذي يرسم الصور على القماش..
بعد ساعة جاءه منيف:
- رسمتني؟
ضحك كريم من سذاجته :
- سأصورك بعد الأستاذ.. صبراً جميلاً.
- أتحتاج شيئاً؟
- ألم تقل ذلك عشرين مرة؟
كريم يتقصد السخرية كي يضحك معه ووجد عزاءً لسذاجته معه فهو أفضل من الواجمين المشغولين على الدوام بالرواح والمجيء حسب بندول الأستاذ.
- ما هي آخر أخبار المعارك.. يا منيف ؟
- لا أعرف.. لكننا منتصرون بعون الله.. أبو عُدي حاديها.
لا يريد كريم أنْ يأخذ حديثهما هذا المنحى، فهو يكره سيرة "أبو عدي"، ويقرف حتى من سماع اسمه، غير أنّ المفـارقة التي يعيشها
أنّه في قبضة عشيرته الآن، وكل أنظار أفرادها كما يبدو متعلقة به.
غادر منيف الغرفة وبقي كريم يواصل وضع اللمسات الأخيرة على صورة الأستاذ..
قالت له نوال:
- توقف المطر.. هيا بنا نعود إلى الكلية؟
كانا في سيارة أجرة تقلهما إلى بيتهم..
- وصلنا حبيبتي.. تعالي نعيش الدفء الحقيقي.
عندما توقفت السيارة، نقد السائق، وسارا في الشارع الصغير الذي يؤدي إلى البيت، تشعر نوال أنّها غير قادرة على استيعاب وجودها مع كريم في بيتهم..
- ماذا ستقول أمّك أو أختك عني؟
- لن تقولا شيئاً.. تعرفان أنّك حبيبتي.
- والجيران؟
- المطر لن يسمح لهم بمعرفة من دخل ومن خرج، انزوى الناس كلهم في البيوت الآن.
لم يطرق الباب، ولجه بمفتاحه الخاص، قبلها، ثم أدخلها إلى غرفة الاستقبال من دون ملاحظة أمّه وأخته اللتين انشغلتا بعالميهما الخاص، كل واحدة في غرفتها.. فصعدا إلى غرفته بدون علمهما.
اكتملت لوحة الأستاذ فركنها جانبا واستراح، أشعل سيجارة له وانتظر إطلالة منيف.
في تلك اللحظات سمع كريم دربكة وضجة خارج غرفته أو سجنه الأبدي، اقترب من النافذة فشاهد مجموعة من الشبان بملابس رثة مربوطين بالحبال بالتتابع "ما الذي يجري هنا؟" كان هؤلاء الشبان يساقون كالعبيد إلى إعماق البستان، "سبق لي مشاهدة ذلك في فيلم يجرجرون فيه الزنوج هكذا، لا أتذكر اسم الفيلم الآن". حاول كريم إخفاء وجهه بقدر ما يستطيع خشية اكتشاف أحد مراقبته ما يجري، الشبان عددهم تسعة، بعضهم حاف، وبعضهم الآخر يرتدي ملابس عسكرية منزوعة الأزرار ، بحراسة مجموعة من العسكريين الذين يرتدون الزيتوني، مدججين بالأسلحة وفي أياديهم كيبلات سود، المزرعة واسعة على امتداد البصر، لاحظ كريم اختفاءهم داخل غابة الأشجار ولم يستطع رؤية أيّ واحد منهم "إلى أين يأخذونهم؟ ".
جلس كريم على الكرسي بقلب خائف ، يعلم أنّ أجواء هذه العشيرة ملغمة وممتلئة بالغموض والشرّ والمجون والغرائب، سمعها من أحاديث الناس، لا أحد يجزم أنه رأى بعينيه ما يفعلونه ، غير أنّه الآن، يرى ويسمع ولا يتكلم، ضحك من نفسه أتكلم مع من؟ وماذا سأقول، ومصيره هو في المحصلة النهائية؟ أهو مشمول بالتصفية أيضاً، بزعم أنّه مجرم حرب، هرب منها منذ ثلاثة أعوام، وبإمكان الأستاذ، في أيّة لحظة أنْ يصوب مسدسه إلى رأسه ويقتله، وربما يدفن هنا، في هذا المكان الواسع، ليكون جسده سماداً للأرض وتضيع مشاريع حياته، كما ضاعت مشاريع حياة مئات آلاف من الشبان في محرقة الحرب، ولكن أيّة مشاريع بقيت لديه الآن؟ الموت هو المشروع الوحيد الذي يفكر فيه طوال ما مضى من الوقت، منذ جلبوه إلى هنا وإلى هذه الساعة، ليس أمامه غير أن يكمل صورة الأستاذ، ها هي اللمسات الأخيرة قد انتهت!!
دخل منيف مذعوراً فنهض كريم لاستقباله، ذعره أخافه، إذ يتلفت إلى كل الجهات، ثم ركض إلى النافذة وأسدل ستارتها بسرعة:
- لماذا هذه مفتوحة، لقد رأوك.
ارتعش جسد كريم وعاودته نوبات القلق، لا يعرف ماذا يقول له:
- من الذي رآني؟
- اش.
- ماذا جرى؟
وقف منيف عند الباب ينظر إلى مكان ما، ثم دخل مسرعاً.
- لماذا كنت تنظر الى المجرمين ، ألا يكفي ما أنت فيه من المشاكل؟
ازداد ارتعاش كريم من جراء ما يظهره منيف من الذعر والقلق.
- من الممكن أن يكون الأستاذ قد رآك.
أراد أن يقول.. وماذا يعني؟ غير أنّه لم يستطع، فأكمل منيف:
- ومن الممكن أنّه لم يرك.
فتنفس كريم الصعداء قليلاً وهو يبحث في دوران عيني منيف عن لحظة استقرار واحدة:
- أنا أخاف عليك، أنت إنسان طيب.
انزوى كريم في زاوية الغرفة، جلس القـرفصاء، وبدأ يرى كيف
ينزلونه في حفرة تتسع له ويدفنونه فيها، شعوره بالموت جعله يفكر سريعاً في ذاك القرد العملاق الذي يتعلق بالغيوم ماداً يده ليسحب منه نوال حبيبته، كيف يطرد صورتها من مخيلته وقد وصلت حياته إلى نهاية الأزمنة.
- هل سيقتلونني لأني شاهدت؟
- ما كان يجب أن ترى.
الموت بدأ يقترب، فاستسلم إليه كريم، نهض بالاستعداد الكامل أن يواجهه وقال لنفسه "أليس الموت الذي أنتظره أفضل من البقاء ميتاً على قيد الحياة؟". ابتسم كريم ووجد الشجاعة الكافية ليقول إلى منيف:
- إذا أرادوا قتلي فأنا مستعد، فلماذا أنت خائف؟
استغرب منيف من كلمات كريم الغامضة، عقله البسيط لا يمكنه فك شفراتها المتداخلة، فقال:
- ألا تخاف الموت؟
ضحك بتوتر وبعدها بانطلاق، وبصوت شعر منيف أنه ربما يسمعه الآن أيّ إنسان قريبًا من الغرفة.
- الموت واحد، غير أنّ الحياة موات مستمر، فلماذا أخافه؟
أراد كريم الخروج من الغرفة ليلتقي حتفه، لكن ضجيجاً وأصوات رجال وأحذية تضرب الأرض تقترب من الغرفة، يرى عبر المساحة المخصّصة له من فتحة الباب تزاحم اللون الزيتوني حول بابه , فدخل اثنان، يتطاير من عيونهما الشرر، ثم دخل ثلاثة آخرون، وجد كريم داخل أفواههم أنياباً، وبأياديهم رشاشات صـغيرة الحجم
"غدارات"، ثم بعد ذلك دخل الأستاذ..
شعر كريم أنه ميت لا محاله، فلماذا يخاف، هي ميتة واحدة، ولن تتكرر، ولكنه عندما شاهد ابتسامة الأستاذ، ابتسم هو أيضًا، ابتسامة مذعورة، محنطة، أحسّ بها كأنّما ابتسامة تماثيل رجال الشمع، وقف أمامه دون أن يحني ظهره، كما يفعل المتزلفون الخائفون من حدة مزاجه، تقدم الأستاذ الذي يرتدي ملابس أنيقة، بدلة لامعة زرقاء وقميص حرير سمائيًا وحذاء سمائيًا وبيده عصا من الخيزران سمائية، اقترب من اللوحة التي رسمها كريم، ثم شاهد ما رسمه، يتأمل كريم ردود فعل الأستاذ، لم يفاجأ بعطره الذي فاح في الغرفة، غير أنّ روائح حمايته زكمت أنفه، كأنّها روائح فطائس جثث حيوانية على هيئة بشرية، اختلطت الروائح كلها برائحة الموت المنتظر..
قال الأستاذ بصوته الخشبي الجاف، صوته القادم من صدى كهوف بعيدة الغور:
- حلوة "الرسمة".
هكذا خرجت من فمه كأنها تشبه الضراط، فتعاظم شعوره بالسخرية، كادت تهكماته أن تتحول إلى قهقهات لا تنتهي، فأكمل الأستاذ:
- "رسمة" حلوة.. ها؟
التفت إلى حمايته الذين كانوا جامدين، صاغرين، كأنهم أوتاد كونكريتية انزرعت في الأرض، وابتسم لهم، فابتسموا ابتسامات صفراء، يعرف كريم أيّ كذب ونفاق تحتها..
دخل عليان لاهثاً، تدنت رقبته من الأستاذ بعد إزاحة كتف أحدهم عنه..
- شبعت الكلاب سيدي.
تطاير ضوء الشرر من عينيّ الأستاذ وهو ينظر إلى عليان، فزعق به:
- اخرس، ليس هنا يا غبي ؟
فارتعد عليان وهو ينظر إلى كريم لنجدته ممّا وقع فيه من السوء، أو هكذا خيّل لكريم ، لكن ممَّ ينقذه، لم يقل الرجل ما يستحق عليها هذه الإهانة المخيفة، ثم تغيرت لهجة الأستاذ مع عليان، وأخذ يبتسم وهو يؤشر بعصاه السمائية إلى اللوحة:
- "خوش" رسمة.. مو عليان؟
اهتزّ رأس عليان كثيرا ليؤكد له صدق ما يقول، يحاول بلع ريقه الجاف، غير أنّ كريم ما زال يشعر بالسخرية المريرة من سذاجة ونزق الأستاذ ومزاجه المتقلب، حسب نوبات، كما يبدو بالغضب والارتياح، المكابرة الفارغة والكبرياء الأجوف، رثى حاله في نفسه لمحدودية لغته التي عرفت اللوحة بـ "الرسمة"، ذلك كافي ليشعر كريم أنّ ميتته ستكون مباركة وجميلة وسيقبله الله في علاه ما دام أحمقُ وجاهلٌ مثل هذا يتحكم بكل هذه الرقاب ينحدر سخفه إلى هذا المستوى الدوني.
يقف رجال الحماية حول "الأستاذ" بأفواه نصف مفتوحة ووجوه شاحبه، هي الوجوه نفسها التي يراها الناس كل يوم عبر التلفاز تسير خلف "الضرورة" ترتدي الطاقيات العسكرية والملابس الزيتوني، فيما أثقلت خصورهم بالمسدسات وأياديهم بالرشاشات الغدارة أو نصف الأخمص، تذأبت واستأسدت فيما عيونهم يربض فيها الشرر كي لا تفسح مجالا للناس للاقتراب منه:
- متى "رسمتو" يا ويل ؟
السؤال موجه إلى كريم طبعا ومن دون أن ينظر إليه، هو صاحب الشأن، فشعر كريم بالإهانة، تؤلمه الإهانة، فانتظر قليلاً قبل أن يجيب، دام انتظاره ثوانيَ، محلقاً في فضاءات الموت، واضعينه في الحفرة المخصصة لراحته الأبدية، فيما ترفرف فوق قبره ملائكة السماء لتنقل أعماله الطيبة إلى الملأ الأعلى، تلك الثواني، حسبها الأستاذ زمناً طويلاً لا ينبغي له أن تطول أكثر من اللازم، أرعبه بنظرة حادة كي يعجل إجابته، غير أنّ كريمًا أصرّ على الصمت، كجزء من لعبة الموت التي أخذ يبتكر التفنن بها الآن، بمنع نفسه من الإجابة، إلا إذا نظر إليه شخصياً وسأله وجهاً لوجه، لأنّه في هذه اللحظات، هو وليس غيره سيد الموقف، هو رسام اللوحة، هو الفنان، الذي يجمل الخراب، ويصنع الحياة ويفتح أفقاً في العتمة لترى الناس من خلالها وجوههم وأرواحهم، ولن يسمح للأستاذ بتسيده في هذه اللحظة بالذات، رغم كل المدججين بالسلاح، ما دام الموت واحد، والحياة متعددة الموات.
- سألتك يا "قشمر" متى "رسمتو"؟
شدد الأستاذ على الحروف وهو يظهر انفعاله وغيظه وقد أخذ يجاريه مجنون بالفن هرب من الحرب وهو الآن في قبضته..
أراد أن يسأله أين دفنتم الشبان التسعة، لكنه استسخف خواطره،
وخفة عقله، وفقدان رشده، إذ سؤالٌ كهذا قد يسبب مصرع منيف في الحال، لكن عليان أنقذ الموقف حين همس بأذنه:
- إنّه خجول سيدي، جلال قدرك ووقارك قد ألجم لسانه عن الرد.
طيرت هذه الكلمات عقل الأستاذ فضحك وتضاحك معه رجال الحماية بأصوات ناشزة مكتومة كأنها ضحكات نساء خجولات.
استرد كريم وعيه وأدرك الخطر يحيق به فقال متردداً، مرتعشاً، عائداً إلى نوبات خوفه الأولى، ناسيًا، أو متناسيًا حفلة الموت التي تخيلها قبل قليل:
- رسمتها.. اليوم... سيدي.
كلماته متقطعة، مستثقلة بالرهبة والخوف والجراح، فاطمأن الأستاذ إلى صحة كلام عليان وخامره شعور بالخيلاء أن يكون لحضوره كل هذا التأثير:
- أكرموه بالمحشي الليلة وكل ليلة.. واجلبوا له الأصفر , تحبو أصفر لو أبيض يا ويل؟
عادت إلى عقل كريم لعبته بالموت، فلم يجب، احتقاراً لأسلوبه الفج في مخاطبته بكلمة "يا ويل" ما جعل الأستاذ غير قادر على التواصل معه وخشي من تبديد الأريحية في مزاجه، فغادر الغرفة وتبعه حمايته واحداً بعد الآخر ومعهم منيف أيضاً.
قبل أن يتمدد على سريره ليرتاح من عصف هذه المقابلة الشائكة ويفكر في تحليل ما جرى بينه وبين الأستاذ الأخرق ، دخل منيف مسرعاً، التقط اللوحة وحضنها، دون أن ينظر إلى كريم وركض بها..
استلقى كريم، وغفا لبرهة، شاعرا بالإرهاق...
- لماذا أخلع ثيابي كلها يا كريم؟
ابتسم لها في وقت اختفت فيه ابتسامتها:
- كي نتحرّر من موانع العقل ونسبح في فضاءات المحبة ولنكتب على غيوم مسراتنا أغانيَ لم يكتبها أحدٌ سوانا.
ابتسمت نوال وهزت يدها:
- لم أفهم ما تقول.
- افهمي ما يقوله جسدك وهو يحاول معانقة فراديس اللذة التي تريد فتح أفقٍ في الحياة.
- وهذه لم أفهمها أيضاً.
- سأتجرد أنا قبلك من عتمة البياض.
بدأ يخلع قميصه وبنطلونه ووضع يده على أزرار قميصها الأزرق ففتح الأولى ثم الثانية فظهر ما يحلم بلثمه مراراً:
- أكملي أنت البقية، سترين كيف يمكننا معانقة النبوغ الجمالي الذي لا يأتي إلا في هذه اللحظات.
تخلع قميصها وهي متوترة وتند عنها ضحكات فاترة، خجولة..
- لم نتفق أن تصل بنا الأمور إلى هذا المستوى.
سحب تنورتها إلى الأسفل فبان بياض فخذيها، فلثمها بقبلة، عابقة بعطور أنفاسها، قبلة طويلة ازدهرت فيها روحه..
دخل عليان الغرفة، فنهض كريم من رقاده:
- هل أكلت لسانك الكلاب؟
وقف أمامه ينتظر الأوامر فعليان لا يشبه منيف، هو الصوت المباشر المعبر عن رغبات الأستاذ.
جلس على الكرسي ودخن سيجارة، ثم قال باسماً:
- الأستاذ أعجبته "الرسمة".
ردد عليان كلمة " الرسمة " التي قالها الأستاذ ، ولم يكن إعجابه مبعث فخر لكريم، إذ هو يعرف لغز الفن في لوحته، فلم يبال بالمديح الآن بل يبحث عن الخطوة الأخرى، فأخرج عليان صوراً من مظروف وضعه ما بين قميصه وبطنه..
- هذه الصور، تختار كل يوم واحدة، وترسمها للأستاذ، إنّها عائلية جداً، والده ووالدته، إخوانه وأخواته، ترسم واحدة كل يوم، مفهوم؟ وسيأتي الخروف المحشي مع الويسكي الليلة، فماذا تريد بعد؟
التوتر زال عنه قليلاً، وبدا له كأن العبث الذي خرج منه قد وضع في إطار معين داخل عقول هؤلاء الأوغاد، لعبة يمكن أنْ يستمر فيها ليرى تأثيرها وهو يرى ذلاً كانوا جميعاً يعيشونه، ذل البلاهة والخواء والجفاف الروحي مع أستاذهم متقلب المزاج الذي رآه منسوجاً من تكوينات طينية غريبة معجونة بغدر الأفاعي والضباع.
بعد مغادرة عليان غرفته، قلب كريم الصور، واحدة بعد الأخرى، فرأى وجوهًا نافرة، لا حياة فيها، بهل وغباء وسذاجة، كيف يمكنه أنْ يبث الحياة فيها، عقله مشغول بالشبان التسعة، وتمنى مجيء منيف كي يفهم، حتى يتحرر من شرنقة الفضول الذي استعر في دمه غلياناً.
أخذ فرشاته وقماشه ووضع صورة منيف أمامه وأخذ يعمل بسرعة: "هذا الإنسان الوحيد بين هذه المجموعة يمكنه بث الروح في وجهه الأبله " رقصت ريشته على الجنفاص وأخذ يسرع كأنه في سباق مع الزمن لينجز واجبه بأسرع ما يمكن كي يخرج من قاعة الامتحان ليشم عبق النسيم، ينتظر أنْ يفتح له منيف قلبه ويحدثه عن مصير أولئك الشبان التسعة الموثقي الأيدي وهم يجرجرونهم إلى المصير المجهول.
لم تكن له رغبة بالمحشي ولا الويسكي ولا كل ملذات الدنيا، جوفه يرفض تناول أطياب الطعام، روحه تشتعل بالجوع لمعرفة تفاصيل الجنون الذي يعيشه هنا في كنف هذا المكان الغامض المجهول، هذه فرصته الوحيدة والأخيرة، فالموت ينتظره حتما هنا.
يرسم محموماً، في حركة دائبة، يصارع الوقت والجوع وشغفه بمعرفة ماذا جرى للتسعة الذين لا بدّ أنّهم مثله سيقوا دون ذنب أو جريرة.. أخذ يرسم صورة الابن بعد إنجازه صورة الأب، والعرق غطى كل أنحاء جسده، والشمس في الخارج بدأت تغرب.
بعد ساعتين من العمل المتواصل، أوشك كريم على نهاية اللوحة ، خيم الظلام على أنحاء الدنيا، غير أنّ مصابيح شديدة الإضاءة تغرق القصر الذي أمامه لتجعله يسبح في بحر زاهر من الألوان.
ولما اكتملت اللوحة، دخل منيف حاملاً صينية كبيرة مغطاة بورق السيلفون وضعها على الأرض وأعطاه كيسًا يحتوي على زجاجة ويسكي غريبة الشكل من النوع الفاخر.
لم ينظر منيف إلى اللوحة بعد، غير أنّ كريمًا وجّه إليه نظرة ذات مغزى لم يكن عقله البسيط فهم معناها، فقال:
- آه.. نسيت جلب السجائر لك.
مسكه كريم من ذراعه وسحبه بهدوء إلى اللوحة، نظرته إليها كافية ليفهم منيف أي إنسان يقف أمامه، وبمجرد أن شاهد اللوحة فتح فمه وقال فرحاً:
- هذا صحيح أنا وابني.
غرق منيف في بلاهة وعجب، فلم يكن يصدّق ما يرى، اللوحة عبارة عن رؤيا ما يحلم به منيف احتضان ولده بين ذراعيه جالساً على ركبتيه وهو يضحك، رافعاً وجهه إلى والده الضاحك أيضاً.
قرأ كريم في لحظات مراقبته استغراب منيف حنيناً ازدهرت به روحه
- ها .. جميلة اللوحة؟
لم يستطع أن يقول شيئاً، اكتفى بالانبهار والعجب وشعر كريم أنّه يطير من الفرح، لذلك باغته .
- أين ذهبوا بالشبان التسعة؟
أجاب منيف وهو ينظر إلى اللوحة فرحاً:
- أكلتهم الكلاب الجائعة.
فأدرك كريم أنّه مستسلم إليه، يجيب بلا وعي منه.
- وهل شبعت الكلاب؟
ينظر إلى لوحته ويجيب:
- شبعت كلّها.
منيف شبه مخدر فلم يلتفت إلى كريم وهو يسأله.
- لماذا لم يعدموهم في سجون الأمن العامة أو الرضوانية؟
انتبه منيف إلى نفسه وشعر أنّه باح بمعلومات خطيرة لا ينبغي قولها، ولكن عندما شاهد ابتسامة كريم لم يشعر بالضغينة منه، بل بالعكس، كان مرتاحاً وطلب منه:
- كأنك لم تسمع ما قلت لك.. هل آخذ "الرسمة"؟
بدا كريم متأسفاً لعدم قدرته الولوج أكثر إلى أحداث ما جرى أمام عينيه نهار اليوم فقال:
- هي لك، خذها وخبّئها جيداً عن عيون أعدائك.
شدّد كريم على كلمة "أعدائك" ليقينه أنّهم يناصبونه العداء بسبب سذاجته واقترابه منه إلى هذا المستوى.
- أعدائي كثيرون كرومي، أين أخبئها، أخاف عندما يكتشفونها قد "يحرقوني" أمام الأستاذ وهذا ينتزع الجلد بالكيبلات.
فرح كريم من كلمة هذا إشارة إلى الأستاذ ودل على ذلك عدم احترامه كما تصور للوهلة الأولى.
- سأخبئها لك في مكان أمين.
غادر منيف وهو مسرور، بينما جلس كريم إلى الصينية وكشف الغطاء ليجد فخذاً من لحم الخروف فوق الرز المطعم بالفستق، لم تشته نفسه، فتح زجاجة الشراب وعبَّ في جوفه ما أمكنه ونسي كل شيء.
14
أخبرت الرفيقة فاتن سندس، أنّها جلبت لها ضيفة عزيزة لتحل محلها في الاتحاد كسكرتيرة وتبعدها، من الآن، أن تكون عرضة لمواقف صعبة كالتي مرت بها ليلة البارحة مع القواد عليان، أخبرتها أنّ الضيفة ستسكن معهما، ليضم البيت ثلاثة بدلاً من اثنين، وهو كبير ويتسع إلى أكثر، وقالت لها: "كلّما كثر الأحباب انصرف الوقت سريعاً وعمت البهجة".
تصغي سندس إليها بغير انتباه، شاردة الذهن، تبحث في أفق مجهول عن ذريعة لكي تنقذ نفسها مما فيها من الألم وجرح الكبرياء وفراق الأهل، فاتن تجلس مع سندس في غرفتها التي لم تبارحها منذ حادثة الليل الماضية، متكدرة على سريرها تندب حظها العاثر الذي دفعت به الأقدار إلى هذا العذاب ، تصغي دون أنْ يثير كلام فاتن أيّ مشاعر في داخلها. فيما بقيت فاتن جالسة في غرفة المعيشة.
- لم تسألي من تكون الضيفة العزيزة؟
قالت فاتن وهي تعلم أنّ من الصعوبة إقناع سندس على الكلام في هذه اللحظات، فصدمتها ما زالت تثير الانفعالات في نفسها.
- أنا أعرف أنّك لا تريدين الكلام، ولكن أقسم بشرفي أنّي سأنتقم لك منه وأجعلك تدوسين بحذائك على رأسه.
سخرت سندس في داخلها من "بشرفي " ولكنها ظلّت معتصمة خلف جدار الصمت.
- أتعرفين من هي؟ سأخبرك، إنّها فائزة البصراوية.. تعالي فائزة ألقي التحية على سندس؟
فائزة تقف خلف الباب تصغي إلى كل الكلام وتختزن في عقلها العبارات والأسئلة، فعلمت أن سندس تعرضت إلى حادث اعتداء ليلة البارحة من شخص تسميه فاتن "القواد" فأدركت أنّه نفسه وليس غيره من تتجنّبه، والتقط سمعها أنه سيتعرض للانتقام، من قبل فاتن بالذات، وشعورها يقول إنّها ما زالت في الطريق الصواب، دخلت فائزة:
- مرحباً سندس.
رفعت رأسها وردّت التحية بصوت مخنوق وعينين دامعتين، فقالت فائزة بلطف:
- أرجو ألا أضايقكم، أنا هنا باقتراح من الستّ فاتن، فإذا وجودي يشكل أيّ نوع من المضايقة أو الإزعاج فلن أتردّد بالمغادرة فوراً.
وجدت سندس أنّ عقلها يخبرها بصدق كلمات هذه الفتاة ، فأرتاحت لها لأنّ صوتها ناعم لا يخدش الأسماع، فيه من الثقة ما يكفي، والأريحية ما تحتاج إليه سندس فرفعت رأسها ثانية إلى فائزة وبصعوبة ابتسمت لها:
- البيت ليس بيتي..
ردت فاتن بسرعة فرحة لخروج سندس من الصمت:
- البيت بيتنا جميعاً.. هيا انهضي واغتسلي، وسنرى ماذا حضرت لنا فائزة من العشاء.
امتدت يد فائزة إلى ذراع سندس وهي تشعر أنّها أحدثت تأثيراً فيها:
- ستنهض معي، اتركينا رفيقة فاتن، حضري أنت الصمون وسنأتي أنا وهي لنعمل العشاء.
غادرت فاتن شاعرة بالغيرة من قدرة فائزة على استمالة سندس بهذه السرعة.
جلسن حول منضدة الطعام، وتناولن العشاء بصمت بسبب ما يبثّه التلفاز من صور أفلام المعركة في شرق البصرة على نهر جاسم. الإعلام كله مشغول بهذه المعركة، يردد بيانات عن قصف مدفعي مركز للقوات الإيرانية على مدينة البصرة، فيما تصف التقارير الصحفية حسب البي بي سي بأنّ المدينة أصبحت مدينة أشباح..
لا تريد فائزة الانشغال بمدينتها، فهي قد قدمت إلى بغداد بعد شعور باليأس والقنوط من الحياة في تلك المدينة، وها هي الآن في قلب معركة أخرى ومن نوع ثقيل.
انتهى العشاء، وانتهى الكلام الصامت بين الفتيات، وانتهى فيلم السهرة، وذهبت كل واحدة إلى غرفتها، تمدّدت فائزة على السرير وهي في مكانها الجديد، موقنة أنّها لا يمكن أن تنام، قد تبقى ساهرة إلى الصباح وهي تتقلب على فراشها الجديد ، وفيما البيت يغط في الصمت والهدوء، والظلام، سمعت، أو تناهى إلى سمعها صوتٌ خافتٌ، هناك صوت رجل، إذ لا يمكن لذاكرة فائزة أن تخطئ، هو نفسه، فقد جاء القواد، وهو يتحدث مع فاتن الآن..
عليان مخمور، رمى حذاءه وفكّ حزامه العسكري، وتمدد على الأريكة، ووقفت فاتن عند رأسه وقالت له بصوت خافت:
- ما الذي جاء بك في هذه الساعة المتأخرة؟
قال بصوت بدا لفائزة التي شنفت أسماعها أنّها تسمعه أكثر مما يجب:
- جئت أعتذر من سندس.
- اخفض صوتك؟
لم يكن عليان ثملاً إلى الحدّ الذي يمكن أن يفقد فيه تركيزه:
- جئت أكمل الشرب عندك.. أتمانعين؟
- كل الممانعة، لا أرغب في أن تراك، وهي لا تودّ سماع حتى صوتك، حطمتها أنت، ألا تدري؟
ضحك عليان واثقا أنَّ ما سيقوله لاحقاً يجعل فاتن تركع لتقبل قدميه.
- طيب.. أتريدين مني مغادرة البيت؟
أجابت باقتضاب:
- يكون أحسن.
ما زال يضحك:
- وإذا قلت لك إنّني جلبت الشريط الإباحي من دولاب الأستاذ؟
فرحت بذعر، وبخوف، ركضت بسرعة إلى غرفة فائزة لتتأكد من أنّها نامت، بوضع خدها على الباب، ثم عادت إليه..
- ألا تعرف أن تتحدث بصوت منخفض، ألا تخشى أن تسمعك.. ثم توقفت.
قصدت بخفض صوتها ألا تسمع فائزة بمسألة شريط الفديو، لكن إيحاءها المزدوج ألقى فهماً مغايراً على مسامعه، فظنَّ بقصدها ألا تسمع سندس بذلك.
قالت:
- أين هو الآن؟
رد ممتنعًا، مراوغاً:
- ماذا تقصدين؟
بغضب ونفاد صبر:
- الشريط؟
ضحك ورفع يده ملوحاً بميدالية مفاتيح السيارة فوق رأسها:
- إنّه هنا.
- أتعني بالسيارة؟ انهض اجلبه لي هيّا؟
ما زال يراوغ.. فطلب منها:
- اخلعي الجواريب عن قدمي.
مضطرة أن تعمل أيّ شيء مكرهة فنزعتهما بروائحهما العطنة التي تزكم الأنف..
- قبّلي قدمي.
حركت سبابتها ممسكة قبضة يدها بعصبية..
- أحذّرك عليان.. أحذّرك.
- إذا لم تقبّلي قدمي، إذن تعالي قبليني من فمي، وسأنهض من فوري لأجلب الشريط من السيارة.
ترددت فاتن، لكنها إزاء شغفها بمشاهدة الشريط وما جرى لها على سرير الأستاذ تدفعها أنْ تعمل أيّ شيء في سبيله، فقبلته بغير ارتياح، فيما عصرها إليه لاثماً شفتيها وواضعاً يده على مؤخرتها، فاصطدمت أسنانه بأسنانها، انتشلت جسدها من ذراعيه بصعوبة ونهضت:
- هات مفتاح السيارة.. سأجلبه بنفسي؟
أعطاها المفتاح، فهرعت مسرعةً، منفعلةً إلى المرآب، فتحت باب السيارة فأضاء المصباح جوفها، بحثت عنه فلم تجده، فتحت الحقيبة الصغيرة فوجدته مغلفاً بكيس فالتقطته بسرعة ثم أغلقت الباب ودخلت البيت لاهثة.
نهض إلى المطبخ يبحث عن شيء ما فركضت خلفه:
- ماذا تريد؟
- ويسكي، أريد تكملة ما بدأت، وقبل أنْ أنسى، أين شريط الكاسيت؟
همست له:
- تحدث بصوت منخفض، شريط الكاسيت تستلمه غداً.
أخذ شريط الفديو من يدها بحركة مباغته وسريعة ووضعه خلف ظهره:
- لم نتفق على هذا، تسلميني أسلمك، أليس كذلك؟
كان محقاً، ولكنها من أين تأتي بشريط الكاسيت الموجود في مكتبها الآن!
- في مكتبي غداً أسلمه لك.
رفض بهزّ رأسه عدة مرات:
- كلا.. كلا، تسلميني أسلمك.. لسنا نلعب.
فكرت، ووجدت أنّه ليست أمامها غير أنْ تجلب له المزيد من الويسكي، فجلبت القنينة ووضعت كمية كبيرة في القدح وقدمته له، فضحك وغمزها:
- أتظنّين أنّي سأثمل، لا، لن أفعلها، الشريط يبقى بحوزتي حتى أستلم شريط الكاسيت، مفهوم؟ بصحتك.
عبَّ القدح كله ، فقدمت له قطعة من الخيار فالتهمها بسرعة، ثم مسكته من ذراعه وجلبته معها إلى غرفة المعيشة بعيداً عن غرفتي سندس وفائزة..
- تعال هنا نتحدث، لا أريد إيقاظ سندس أو أن تعلم بوجودك فهي تريد الانتقام منك.
ضحك كثيراً وهو يلعب معها لعبة القط والفار، وقد استُفز من كلمة الانتقام.
- تنتقم مني؟ ألا تعلم أنّي سأقطعها نصفين.
لم تكن عبارتها موفقة حين ذكرت كلمة الانتقام فهي تعرف بأيّة قوة يتحدث هذا القواد! فصبت له المزيد من الشراب وقدمته له، فرفض أن يشرب، غير أنّها قربته من فمه ولصقت صدرها بصدره:
- اشرب.. اشرب من أجلي.
كرع القدح الثاني، ودمعت عيناه من آثار حرقة الخمر في معدته وناولته قطعة من الخيار..
- لن أسلمك الشريط الآن، حتى أستلم.
جلس مثقلاً على الأريكة، فجلست بجانبه، ترتدي ثوباً قصيراً يكشف ساقيها، ولم ترتد تحته أي شيء، نهضت أمامه تتلوى بمشيتها جاعلة ردفيها يتراقصان بحركة رشيقة مقصودة بعد سحب ثوبها من الجانبين ليبدو ملتصقاً على جسدها، لتريه ما لا يضمر تحت الثوب الشفاف الوردي، ولم يكن يتصور أن تطوح به الخمرة وتثقل رأسه بهذه السرعة، مشت داخل غرفة المعيشة قاصدة فتح زر التلفاز فانحنت من غير طيّ ركبيتها فكشف له بقايا ما يضمر تحت الثوب، مما تصاعدت إلى أنحاء جسده شهب الاحتراق.. فتح أزرار بنطلونه وأحس بالضيق ما زال يكبس عليه، فخلع البنطلون، بسرعة وانفعال، مستثقلاً، وهو ينظر إليها، حيث ما زالت منحنية أمامه، كأنها تبحث عن زر كهربائي، تمنى منذ زمن بعيد أن يرى حقيقة الرفيقة فاتن، وهو حتى هذه اللحظة لم يرها إلا في الشريط، عندما ترقص مع الأستاذ رقصة الحياة الرشيقة بانفعال ولهاث واحتكاك الخبيرة العارفة بما تفعل..
صب لنفسه قدحاً واحتساه بسرعة، ونسي ما يظن تدبيراً مكشوفاً مما تفعله فاتن أمامه، فترك الشريط على الأريكة ودعاها إليه، وقد توهجت فيه اشتعالات الشبق..
- اتركي التلفاز، ودعينا نرى الجمال.
تركت التلفاز فعلاً، والتفت إليه فوجدته قد صُرع تماماً، وأصبح فمه لعاباً من فرط السيل المتدفق من شفتيه، وعيناه جحظتا إلى حدّ الهوس والجنون، يفتح ذراعيه ويدعوها بينما تقف هي وسط الغرفة، وقفة مقصودة، إذ طوت ساقها اليسرى على ساقها اليمنى ووضعت ذراعيها على خصرها رافعةً من ثوبها ليبقى جزءٌ قليلٌ جداً مما يخفي المنطقة المحرمة ذات الشعر الكثيف، الذي يراه الآن لأول مرة، لكنه غير قادر على الحراك.. فقد أصبحت يداه بثقل الحجر ورأسه لا يستطيع رفعه وهو يدعوها إلى الاقتراب منه دون فائدة، كالفريسة المدماة وقد أثقل بالطعن والجراح، فيما وقفت هي في مكانها، ترفع الثوب إلى الأعلى وتخفضه بحركة تبدو له طبيعية، غير أنّها حركات مدروسة لديها، فلم تقترب منه، فتحامل على نفسه ليقترب منها، استند على مرفقيه، وبصعوبة بالغة سحب جذعه إلى الامام، وبالمقابل تقف متأهبة، متحفزة، للانفلات من بين يديه إذا ما حاول الانقضاض عليها، جاعلة وقفتها تبدو طبيعية، بإغواء وكشف لساقيها وما بينهما من الشعر الأسود ، الثور الجامح قد نهض ولكن بساقين رخوين، وعصفور مدَّ عنقه إلى الآخر، فدهشت فاتن واستغربت من التناقض بين الصورتين، صورة سقوطه الوشيك، وانتصاب يخبئ تحته شغفاً محترقاً للآخر، حتى أنها بدأت تستلذ رؤية تلك الصورة، وقد تبلل ما بين ساقيها، هو نفس البلل، الذي منحها ذات يوم دفئاً عصياً على الفهم، دفعها إلى الذهاب إلى بيت عماد حبيبها في الكلية، لتنام على ظهرها في السرير المعد لذلك، ومن ثم تفرج ساقيها، من غير أن يطلب منها ذلك، ليلجه فيها بسهولة ويسر . لكن ثورها الجامح الآن، وقف برهة من الزمن، ثم سقط على الأرض ، ويبدو أنّه سيرقد حتى الصباح، فأخذت الشريط ، وألقمته الفديو، وبقي هو في رقاده حتى اكملت فاتن سهرتها بمشاهدة الشريط الذي أستغرق عرضه 16 دقيقة، وبأنتهائه توقف الفحيح واللهاث، في التلفاز ، في تلك الاثناء أستمعت فائزة إلى معظم ما دار بين عليان وفاتن، لكنها لم تر ما عرضه الفديو، تركت وقوفها عند باب غرفتها واستقلت على السرير، بعد أن تأكدت نوم فاتن بغرفتها، وأنّ عليان غطّ في رقاده . وبدأ عقلها يحلل الجمل المتقطعة التي سمعتها، هناك شريط فديو أصرت فاتن على مشاهدته مقابل آخر كاسيت تحتفظ به كوثيقة ضد عليان ، وهذا رفض في البدء تسليمها الشريط لأنّها تركت الكاسيت في مكتبها، ثم أغوته ونالت مرادها ونامت.. أعادت فائزة مقاطع الحوار بينهما في ذهنها، "هناك شيء لا أعرفه، يقول لها وإذا جلبت الشريط الإباحي من دولاب الأستاذ، هل يعني أنّه لص يسرق اي شيء منه"
سمعت فائزة طرقا على باب غرفتها المقفلة من الداخل، أصاخت السمع، لم تخف، لكنها استغربت ، الوقت لا يسمح بزيارتها إي أنسان ، ساورها الشكّ أن يكون قد نهض السكير من منامه بحثاً عن ملذات، فلم تجب وهي تصغي إلى الطرق ، وسمعت همس لصوت أنثى:
- افتحي فائزة، أنا سندس.
نهضت بسرعة ، فتحت الباب، أطلّت سندس مذعورة ، أقفلت الباب عليهما، مضطربة وخائفة تنظر بقلق إلى جهة الباب .
- ماذا بك، لماذا أنت خائفة؟
- الوحش نائم في غرفة المعيشة.
أجلستها على سريرها، التفّتت سندس حولها بحثاً عن شيء ما فلم تجده:
- أريد سيجارة.
- لا أدخّن.
نظرت إليها سندس باستغراق وكأنها تبحث عن الكلمات المناسبة، ثم قالت:
- يجب أن لا تتعرّفي عليه.
صمتت بعدها قالت بخوف وإصرار:
- هذا الوحش قواد الأستاذ، لا يفوّت جميلة إلا ويجلبها إليه سواء أقبلت بذلك أمْ لم تقبل.
تصغي فائزة بانتباه، وتكاد تحفظ كلّ كلمة تقولها سندس وفي أعماقها تدرك أنّ عمل هذا الزيتوني لا بدّ أنْ يكون قذراً ودونياً، وقلبها أعلمها منذ اللحظة الأولى بانحطاط أخلاقه، لكنها ما لم تستطع استيعابه أنْ تتحوّل هذه المؤسسة إلى مكان للدعارة بتسهيلات تقوم بها فاتن وبمساعدة فريق متخصص بذلك، أرادت أن تسألها أسئلة كثيرة غير أنّها فضلت الصمت، لأنّ في أعماقها كلاماً لم تقله بعد، فأكملت سندس:
- أرجوكِ، ساعديني في الهرب من هنا وأنقذي نفسك من جحيم هذا المكان، لأنّ بقاءك، معناه، أنّك دخلت بقدميك إلى وكر الزنابير، وأرى أنّك طيبة وجميلة، وفرص العمل كثيرة في هذه الحياة، فلماذا جئت إلى الاتحاد؟
لا تعرف فائزة دوافع كلامها وبدت لها تتحدث بحرقة وألم وصدق، ويبدو أنّ عملاً شائنًا يدبر ضدها لا تود البوح به أو أن تفضحه، ولكن لماذا تحذرها وهي اليد اليمنى للرفيقة فاتن.. فسألتها:
- لماذا تحذرينني وأنت جزء منهم؟
- أحذرك، وسأحذر أيّ فتاة بالابتعاد عن هؤلاء الوحوش والذئاب.
سألت فائزة:
- ولكن لماذا، ما الذي فعلوه معك، أنت تتحدثين كأن مصابًا كبيراً ألمَّ بك؟
رفعت سندس ثوبها، وكشفت مؤخرتها الكبيرة غير المتناسقة مع ضعف جسدها، ثم جلست ثانية وقالت:
- هل شاهدت آثار المكواة على جلدي؟
منظرها بشعٌ، كأن قطعة من جلدها اقتلعت من مكانها وبقي أثرها كالخريطة..
- ما هذا؟
سألت فائزة وهي لا تزال تتابع حديثها المتقطع..
أجابت سندس:
- هذا أثر المكواة وضعه الذئب النائم هناك عندما رفضتُ أنْ ينال مني الأستاذ.
بلعت فائزة ريقها، أنها تعلم أنّ فضائح الأستاذ تلوكها الألسنة ولكنها لم تكن تتصور أن تكون واحدة من ضحاياه ماثلة أمامها تحدثها عن صورة البشاعة.
نهضت سندس إلى الباب لتصغي، خشية أنْ ينهض من نومه ويفاجئهما ثم عادت مكانها نفسه، أرادت فائزة أن تسألها لماذا رفضت ما دامت تعرف أنّ عواقب ذلك ستكون قاسية ولكن سندس أكملت حديثها:
- ربما تسألين لماذا رفضت؟
هزّت فائزة رأسها بسرعة، فقالت سندس:
- رفضته لأنه ربطني إلى السرير مثل النعجة، كان مخمورا وعاريًا بيده عصا الخيزران، وكنت أتوسّل به ألاّ يفعل، لكنه ضربني بقسوة على مؤخرتي، على فخذيّ، كنت مرتدية ملابسي، مزقها مثل الوحش، وهو يلهث كالمجنون، وعندما أراد أنْ ينام معي، رفضت بشدة، أطبقت فخذيّ ومنعته من الاقتراب مني، ما جعله يتناولني ضربًا بالعصا ضربني على رأسي ضربات متتالية أفقدتني الوعي، القواد قد وضع المكواة على جلدي، فصرخت صرخة مفزعة أعادت لي الوعي، وبقيت ثلاثة أشهر لم أستطع بعدها الجلوس على مؤخرتي والنوم على بطني فقط، فتركت أهلي وغيّرت فاتن اسمي إلى سندس وطلبت مني العيش معها.
توقفت سندس عن الكلام واغرورقت عيناها بالدموع، وهي تنشج بصمت وخفوت، فمسحت فائزة دموعها بمنديل وقالت لها:
- ولكن ما الذي دفعك للذهاب إلى بيت الأستاذ؟
لم تجبْ سندس وداهمها الخطر ، تحدثت بأمور لا ينبغي البوح بها، تعتبر من الأسرار الخاصة جداً بالأستاذ ، وهي تعلم أنّ أيّ تسرب لتلك الأسرار سيكون الموت مصير صاحبها ، لا تريد أن تموت، أمنيتها أنْ تجد عملاً شريفاً في الاتحاد، ودفعت بها الأقدار إلى بيت الأستاذ ليحصل ما حصل.
- لماذا ذهبت إلى هناك؟
لا تود الإجابة عن هذا السؤال، فشعورها بالخطر بدأ يتعاظم، وظنت أنّ فاتن قد تنهض إلى الحمام وبطريقها تمرّ على غرفتها، ولعلها ستقف خلف الباب لتصغي إلى حديثهما فوجدت أن من الأفضل لها ألا تتكلم.
- ربما ترغبين العودة إلى وظيفتك كسكرتيرة لفاتن بعد أن أوكلت بها.
ضحكت سندس بصوت خافت ووضعت يدها على خدّ فائزة قائلةً:
- هل تصورت أنّي حذرتك من أجل الفوز بعملي، يا لسذاجتك، وأنا التي كنت أتصوّر أنّك ذكية بما يكفي.
توقفت قليلاً ثم أكملت:
- أنا لن أبقى هنا بعد الآن، سأغادر قريبا ولن ترينني إلى الأبد، لكنني أحببتك وأردت لك الخير، عجيب الإنسان كم هو قبيح ووقح.
- أجيبي على سؤالي، كيف ذهبت إلى هناك؟
سألت فائزة وقد تجاوزت توبيخاتها السابقة وكأنها لم تسمعها
- ذهبت إلى هناك فضولا، كنت أتوقّع أنّ أجد لنفسي مكاناً عند الأستاذ ليشملني برعايته .
سخرت منها فائزة:
- ألم تتوقعي أنْ يقوم بعمل يحط من شأنك ويجرح كرامتك؟
- كنت أتوقع أيّ شيء إلا أن يضربني كالحمير ويمزق ثيابي ويعبث بأصابعه في أعضائي، ألمْ تفهميني، كان مخمورا، ولم يكن فيه رجولة.
سألت فائزة:
- هل هذا استنتاج أم حقيقة؟
أجابت سندس وهي لا تعرف كيف توصل إليها أكبر كمية من المعلومات بكلمات قليلة مختصرة.
- هذه هي الحقيقة وليس غيرها.
القصر يزدهر من الخارج بالأضواء الكاشفة على كل الاتجاهات تغمر الحديقة بها، ولما وقفت السيارة بسندس أمام الباب، تقدم عليان أمامها، ثم انحرف يسير بها من باب الى آخر، سندس ترى وتسمع عبر النوافذ، صخب الموسيقى وفرقة تغني أغانيَ أجنبية وهناك فتيات يرقصن في وسط الصالة، تمشي خلفه وعيناها معلّقتان باتجاه باحة القصر، لكنها لم تسأل لماذا يأخذها إلى الباب الخلفي، وعندما دخلا وجدت أن الصالة التي ترقص فيها الفتيات أصبحت بعيدة عنها، ولكن صخب الموسيقى ودي جي بات أكثر وضوحاً، اقتربت من الممر الذي يفصل عن الصالة ولم ترَ الأستاذ، بل مجموعة من الفتيات وشبان يبدون بعمره يتراقصون، فتح عليان لها باب أحد الغرف وقال لها:
- انتظري هنا ولا تخرجي حتى يأتي دورك.
فانتظرت في غرفة كبيرة وفيها سرير يتسع لأربعة وليس لاثنين ومصابيح وثريات وأرائك وتلفاز ودولاب كبير، ولم تفعل سندس شيئاً سوى أنّها أطلّت مرتين من الغرفة لترى الراقصين وقد خلع بعضهم أحذيته وخلعت الفتيات تنانيرها وقمصانها وبعضهن بقين بالملابس الداخلية، لكن الأستاذ لم يكن بينهم، وصوت الزعيق والضحك يتعالى والأقداح العامرة بالشراب تحمل بأيادي البعض منهم. وبعد ثلاث ساعات من الانتظار المملّ، تقول سندس إلى فائزة، ذهبت إلى الحمام مرة لأفرغ مثانتي، تعبتُ فاستلقيت على السرير، ربما غفوت، لا أدري، وأنا مستلقية جاء الأستاذ مخموراً، عاريًا، بيده عصا الخيزران، برأس أفعى مصنوعة من العاج، شاهدني مستلقية على الفراش فهجم علي ثم حصل بعده ما حصل.
- ربما في مكان آخر.
فوجئت سندس بالسؤال وهي لم تدرك أنّ الرجل يمكن إذا ما ذهب إلى مكان آخر قد توهن طاقته وتضعف عزيمته بالخمرة، فكأنها انتبهت لأوّل مرة إلى شيء لم يخطر لها على بال فقالت:
- بالضبط، في مكان آخر، لأنّه طوال السهرة مختف، وعندما توقفت الموسيقى جاء إلى الغرفة التي تواجدت فيها.
توقفت سندس واستلقت على سرير فائزة وهذه بدورها استلقت بجانبها.
- إنّه يوميًا يقيم حفلة.. لايمل منها.
أجابت فائزة:
- ألمْ يكن من الممكن مجاراته، لماذا رفضت؟
قالت سندس بحسرة:
- باغتني بالضرب، لم يكن فيه فائدة فكيف أجاريه، أأقول له اضربني، هات المزيد من الضرب، أنهال عليّ كالوحش وكأنَّ غضب الدنيا كلّها انصب على جسدي ، ففقدت الوعي ولم أنتبه إلا والمكواة تلصق على مؤخرتي.
- وماذا عن فاتن؟
صعقت سندس، فوضعت يدها على فم فائزة وتوسلت بها:
- أرجوك دعي هذه المرأة ، أنت لم تعرفيها بعد ، أنا أعرفها جيداً اترك موضوعها إلى المستقبل.
تتحدث بخوف شديد لم تستطع أن تستوعب فائزة سببًا له:
- ولكن لماذا تتخوّفين منها ؟
ما زالت يدها على فم فائزة:
- أرجوك، كفى، اتركيها ونامي، وإذا سألتِني مرة أخرى لن أبقى ثانية واحدة معك.
قبلتها فائزة وقالت:
- مثلما تريدين لن أسألك عنها، هيا نامي، الساعة الآن قاربت الفجر.
التفتت إليها سندس:
- لن تخبريها عن كل ما جرى بيننا.
- كأنك تحدثت إلى نفسك، ثقي بي..
في تلك الأثناء سُمع طرقٌ على الباب، فالتفتت الفتاتان إلى بعضهما البعض.
قالت سندس مذعورة:
- هي أم هو، أكيد هو.. لا تجيبي.
عاد الطرق ثانية ولم تصدر عن الفتاتين أيّة استجابة، غير أنّ خوفهما تعاظم وبعد لحظات سمعتا صوت فاتن:
- افتحي الباب سندس.. هذه أنا فاتن.
همست فائزة:
- ما الذي تفعله الآن؟ ألا تنام؟
قالت سندس:
- عندما تشرب الخمر، تذهب إلى الحمام عشرين أو مئة مرة.. إنها قلقة على الدوام.
همست فاتن:
- سندس، فائزة.. افتحا الباب.
نهضت فائزة من دون خوف وفتحت الباب فدخلت فاتن شعثاء الشعر تبدو آثار الخمرة على عينيها وشفتيها وبيدها الكأس..
- نسيت أنّ غداً الجمعة، وليس عندنا عمل في الدائرة فقلت أتسلّى بالأقداح.
لم تجب الفتاتان، فأكملت:
- ربما تتسليان بوجودي معكما، أنّكما لم تناما وكنت أسمع حديثكما.
شعرت سندس بالرعب.. فأكملت فاتن:
- سندس خائفة من هذا الخرتيت النائم في غرفة المعيشة، فلجأت إليك، أليس كذلك؟ بالطبع حدثتك عنه، إنّه معتوه، لا يضر ولا ينفع، ونفعه اكثر أحياناً، يقربنا من الأستاذ.
توقفت عن الكلام وكادت تسقط على السرير، فارتشفت ما تبقى من القدح، ثم أكملت:
- لن أجعلك يا فائزة تعذببي مثل سندس، سأجعلك خبيرة في أمور الحياة، بعيداً عن الأجواء الخانقة، فـلا تخافي أرجوك، ولا تصدقي بعض ما قالته لك سندس.
ارتعشت سندس من الخوف:
- لم أقلْ لها شيئًا ، كنا نتحدث عن أمور بعيدة.
حاولت فائزة إنقاذ سندس فقالت:
- حدثتني كيف تواجهين الأشرار بالصبر والحكمة.
اغتبطت فاتن للإطراء وصدقت بسرعة حكاية الحكمة.
كلام فائزة افعم مشاعر سندس بالارتياح وأنقذها فعلاً من مطبات فاتن فقالت:
- لا تعذبي نفسك بها، ستعود ابنتك ذات يوم.
جلست فاتن القرفصاء على الأرض فانكشف ما بين فخذيها لأنها لم ترتدِ اللباس الداخلي، أخذت تنتحب مرددة اسم سمر.. سمر.. سمر.
همست سندس بأذن فائزة:
- أسم أبنتها سمر، انتقل بها والدها إلى مكان آخر بعد ان رمتها عليه في لحظة جنون ، ولم تعثر له على عنوان طوال سبع سنوات.
انتبهت فاتن إلى الجملة الأخيرة من حديث سندس:
- سأعثر على عنوانه، أعطيت أسمه إلى جهاز المخابرات والأمن العامة وحماية الأستاذ ليبحثوا عنه في كل مكان، هل سيطير؟
جلست بجانبها فائزة ورفعتها من ذراعها.
- من المؤكد ستعثرين عليها وسترينها.
ازداد بكاؤها حدة:
- مضت سبع سنوات، قلبي يتمزق شوقاً إليها.
أجلستها فائزة على السرير ثم جعلتها تنام، فيما بقيت سندس جالسة على طرف منه وفائزة على طرف آخر، حتى ذهبت فاتن في أعماق النوم.
الباب مقفل عليهن جميعاً، تمددت سندس بجانب فاتن من الجهة اليسرى فيما نامت فائزة على الأريكة.
وبعد أن تأكدت من عمق نومهما، نهضت فائزة ، هل تغامر بفتح الباب، ستصطدم بوجود عليان، هل سيكون يقظا ، وتساءلت، من يقول إنه يقظ، بل هو مخمور، وقد يكون نائماً.. وصلت إلى الباب، ادارت المفتاح في القفل ببطء وهدوء، كي لا تحدث صوتًا ثم ضغطت وفتحته، أخرجت رأسها وبقي جسدها في الغرفة، التفتت إلى جهة المطبخ ثم إلى جهة غرفة المعيشة، فلم يكن موجوداً، تنفست بعمق، ثم وضعت أوّل خطوة خارج الغرفة، ومشت على أطراف أصابعها بهدوء، حافية القدمين، تمشي خطوة، وتتوقف، تصغي بانتباه شديد، وجدت غرفة فاتن القريبة من غرفتها، مفتوحة فاقتربت منها، أطلّت داخلها، بنظرة خاطفة، وهي تتوجس الا يكون فيها ، فلم تجده أيضاً، لا تريد أن تدخل الآن، ليس هدفها معرفة محتويات الشريط، بل إفراغ مثانتها، فذهبت مسرعة إلى الحمام، يبدو مغلقاً، فتساءلت هل يمكن أنْ يكون في الحمام؟ فتحت الباب ببطء وخوف ، فوجدته نائماً بجانب فتحة الإفراغ الشرقية، احتارت بما ستفعله الآن؟ فهو نائم، وربما يستيقظ في اية لحظة ، ومن الصعوبة أن تحتفظ بالمياه في مثانتها اكثر من هذا الوقت ، دخلت تمشي على أطراف أصابعها، جلست في المقعد الغربي، أرعبها صوت الوشوشة التي يحدثها، فقطعت أنفاسها، وعندما انتهت، أرادت أن تقفز بخطوة واحدة الى الخارج ، غير أنّه تقلب، مولياً وجهه للمكان الذي تقف فيه، وعندما همّت بالهروب من الحمام، قبضت يده على كاحلها، فتجمدت في مكانها، اقترب زاحفاً من تحتها، مع اشتداد قبضته ، إلى حدّ آلمها، ينظر إلى ملتقى الفخذين، وقبل أنْ يمد يده الأخرى على الساق الثانية كي يطيح بها أرضاً، رفسته بقوة على خصيتيه ، بالقدم الأخرى المحررة، وانطلقت تركض إلى غرفتها ، أقفلتها من الداخل وعادت إلى مكانها وسمعت قبضات عليان تضرب الباب بقوة..
- افتحي يا فاتن، لماذا ضربتِني.. لماذا؟
فائزة جعلت نفسها نائمة، ووجدت سندس تتحرك في مكانها، خائفة من صوته، هدأت أنفاسها وأرادت أنْ تنام إلا أنّها لم تنم.
عاد عليان إلى مكانه في غرفة المعيشة يترنح وهو يشكو من ألمِ الرفسة.
في الساعة العاشرة صباحاً استيقظت سندس فوجدت فاتن مكشوفة الساقين ووسطها ، ونظرت إلى فائزة فوجدتها نائمة على الأريكة وهي تحضن حقيبتها الصغيرة، أثار استغراب سندس طريقة نوم فائزة باحتضان الحقيبة: "ماذا يوجد في الحقيبة لتخشى أنْ يقترب منها أحدٌ.
أيقظت سندس فاتن ، وهذه تطالبها البقاء نائمة إلى وقت آخر فقد أثقلها الشراب ، كما أنّه يوم عطلة الجمعة.
- اتركيني نائمة.
- كيف أتركك وهذا يحوم في البيت مثل الذئب ، وربما هو في غرفتك الان .
فزت برعب، جعلت فائزة تفز معها.
- غرفتي مفتوحة.
هرعت خارجة فوجدته ما زال نائماً في مكانه على الأريكة، ثم عرجت الى غرفتها لتستبدل ثيابها ، بعد تأكدها من وجود الشريط في مكانه الذي خبأته به. نظرت إلى نفسها في المرآة، إرهاق ليلة البارحة بادية على ملامحها، لا تتذكر كيف جاءت سندس، ولماذا نامت على سرير فائزة، لكنها تدرك أنّها ثملت ، اتجهت إلى المطبخ وجلبت قدحاً فيه ماء ، إلى غرفة المعيشة وأدلقته على وجه عليان فنهض مستغرباً، مرعوباً يبحث عن سلاحه.
- ماذا تفعلين يا مجنونة؟
- انهض الأستاذ يبحث عنك الآن.
كلمة الأستاذ كافية لجعله يرتدي ملابسه بسرعة ودون تركيز، باحثاً عن أشيائه المفقودة.
- لماذا رفستِني البارحة؟
ضحكت فاتن وقالت له:
- رفستك! طبعاً كنت مخموراً ولا تدري ماذا تفعل بنفسك.
قال لها بعد أن أكمل ارتداء ملابسه.
- غداً شريط الكاسيت يكون عندي، مفهوم؟
طبطبت على ظهره وهي تدفعه باتجاه سيارته المركونة في المرآب.
- وهو كذلك. المهم أن تغادر الآن.
انطلقت سيارته وعادت فاتن إلى الفتاتين، في غرفة فائزة، ضاحكة مستبشرة.
- ماذا تريدان للفطور؟
15
لم يكن كريم على معرفة واسعة بأسماء زوجات رجال الجيران، غير أنّه شديد الاعتناء بتوازن نظراته الفضولية تجاههن، فهو يفهم أنّ سمعة الرجل في المنطقة تتأتى من حرصه على غض طرفه في وجه أيّة امرأة يصادفها في الشارع.
يمشي كريم في الشارع فلا يرفع بصره إلى الأعلى كي لا يرى الوجوه التي سيلتقي بها، وهو منذ دراسته في الكلية بقي محافظاً على عدد محدود من أبناء الجيران يلقي عليهم التحية من دون أن يسمح لهم الاقتراب منه، وحتى هؤلاء القلة، قد تناقصوا أو اندثروا أثناء الحرب، ولما اكتشف أنّ جاره أبا خالد يعمل في جهاز المخابرات، فأوجد لنفسه سببًا قويًا كي ينزوي في البيت ثلاث سنوات.
ومنذ انزوائه انقطعت أخبار الشارع عنه، فلا يعرف من تزوج ومن مات ومن أحبّ ومن قتل في الحرب، أخته تأتي إليه بالأخبار، وهو لا يصغي إليها بمودة، حتى إنها ذات يوم ملّت من نقلها الأخبار من دون أنْ يتفاعل معها، إذ لا تشغله من الدنيا سوى لوحاته غير المكتملة وكتبه المتناثرة بين فراغات الغرفة .
الحرب طالت أكثر مما يجب، راح فيها قتلى كثيرون ، وازداد عدد الأرامل، يسمع كل ذلك من أمه أو أخته، وهو حريص ألا يكون شهيداً، فتقبض حليمة ثمن موته لتصعد سيارة حديثة ويتزوجها ضابط ليقتل في الحرب أيضاً.
حكايته مع نوال انتهت كمعظم قصص الحب، جاء الضابط الذي يمتطي سيارة سوبر حديثة ويستلم راتباً كبيراً ثمناً لمذبحه القادم، فاختطف منه حبيبته ولم يحقد عليها، ذلك لأنّ عقله يفسر الأشياء على وفق ما يرسمه الواقع من فواجع، فحبيبته نوال جميلة، تخرجت للتوّ من الجامعة، وأبناء الحلال كثر، وأبواها يريدان لها مستقبلاً زاهراً ليس في العمل أو الوظيفة بل في الزواج من ضابط لديه سيارة، حيث القائد الضرورة يغري الشبان بالتطوع في الجيش مع راتب مغر وسيارة وقطعة أرض ومبلغًا يكفي لبناء دار يسكن فيها، وهكذا خطف أحدهم حبيبته وانزوى بها في غابة الأسرة، واللوحة التي يرسمها عن نوال، اكتملت منذ زمن دخولها حجرته، وما عاد يتعاطى الذكريات معها.
ومنذ أن اختفت نوال عن ناظريه ، وضع ستاراً حديديًا عن سماع أخبار كل النساء، لكن ممازحات أخته السمجة معه، وهي تُنقل إليه أخبار بعضهن ممن تزوجت أو خطبت أو طلّقت من نساء سكنة الشارع، تلك الأخبار تثيره أحياناً لمعرفة مصائر بعضهن، من دون أن يعرف أشكالهن أو جمالهن.
لكنه في يوم من الأيام، كان الوقت صيفاً، خرجت فيه أمّه وأخته إلى زيارة الإمام موسى بن جعفر، بمناسبة يوم الزيارة الأسبوعي، وبقي وحده في البيت، يتنقل بين الغرف كالعادة ملولاً، يدخل المطبخ ليصنع له الشاي، ثم يخرج منه، باتجاه غرفة حليمة، يعبث بأمشاطها ولوازمها من دون شعور بالفضول، محاولاً استنهاض الأريحية في دواخله المعتمة، كان يوماً قائظاً، والتيار الكهربائي مقطوعاً، والعرق ينزّ من رقبته وإبطيه فيما تتعاظم حاجته إلى امراة يتصفح معها كتاب الوقت، يبحث في زوايا عقله عن تلك اللحظات التي أمضاها مع نوال في أماكن شتى، كي يبدد شعوره بالملل، غير أنّه لم ينجح، الصيف لاهب، ولا يمكن له أن يخرج من البيت لأن حملة البحث عن الهاربين مستمرة يقودها الحزبيون الذين لا عمل لهم سوى اصطياد الشباب وزجهم في محرقة الحرب.
وفجأة قبل أنْ يصعد إلى غرفته بكوب الشاي الذي أعدّه لنفسه، سمع طرقات خفيفة على الباب، فتذكر حملة الهاربين، "جاء الملعونون".. فلم يجب على الطرقات، لم يكن يتمنى غياب أمّه وأخته ، في وقت ابتدأت به حملة البحث عن أمثاله ممن ركلوا الحرب بأحذيتهم، استمرت الطرقات الخفيفة، فوضع الكوب على المنضدة في غرفة المعيشة واقترب من الثقب الذي أحدثه ذات ليلة في الباب لمراقبة ومعرفة هوية الطارقين والطارئين، ذلك الثقب اصبح سبيله للإسراء عن نفسه من الملل ووضع عينه اليمنى وشاهد الطارق، أنّها امراة بيضاء ترتدي العباءة، تقف قلقة، فتصاعدت الدماء في عروقه فوراً، ودب شيء ما بين ساقيه، هذه المرأة لا يعرفها، ولكنها بالتأكيد إحدى نساء الجيران، ثمة طاسة بيدها، أيفتح لها الباب؟ الطاسة فارغة، إحساسه بالتوتر عاد إليه، وكالعادة على الدوام يقف في مفترق الطرق، أيفتح الباب أم لا يفتحه؟ غريزته تدفعه إلى أنْ يفتح لها الباب، مهما كانت النتائج، وعقله يحذره من أنْ يؤدي ذلك إلى افتضاح أمره،لكنه عندما شاهد قلقاً متزايداً في عيني المرأة، والتفاتًا إلى جهتي الشارع دفعه ذلك للمسارعة بفتح الباب وليحصل ما يحصل بعدئذ.
ولما فتحه وقف خلف الضلفة خشية مرور أحدهم من الشارع يمد بصره الى الداخل فيراه ، دخلت المرأة، ودهشت عندما وجدته يقف خلف الباب، حاولت إظهار خجلها منه، فليس معتاداً لديها أنْ يقوم هو بفتح الباب وهي التي تظن أنه قد يكون موجوداً الآن في ساحات القتال.
- مرحباً كريم.. كنت أتصورك في الجبهة.
تردد في الإجابة، وفوجئ بمعرفة المرأة اسمه.. صوتها أكثر نعومة من الهواء، وأقرب إلى زقزقة العصافير.
- أجئت بإجازة؟
ما زال مندهشا، ركضت في دمه موجات الجمال ، طار منه الملل والشعور الرتيب بعدم جدوى الحياة، ماذا يفعل؟ ماذا يقول لها؟ إنّها حشد هائل من الأنغام والموسيقى والورود والأمطار والثلوج أخذت تتساقط على رأسه، فابتسمت المرأة وقالت:
- أمّ سيف.. جارتكم.. ألا تعرفني؟
أومأ إليها أن تستريح دون أن يقول لها كلمة واحدة، فقد ظهر توتره واضحا على ملامح وجهه، والمرأة عندما وجدته يمر بكل هذا الحرج والخجل، شعرت نحوه بالتعاطف :
- أين الوالدة أو حليمة؟
ما زال غير قادر على الكلام، فيما وجدت أنّ خجله تعاظم إلى درجة بات من الصعب عليها الاستمرار بالوقوف جامدة مثله، فهي تسمع بكريم ابن جارتها أم كريم، لكنها لم تره منذ ثلاث سنوات، تعاطفها أجبرها على أن تستريح، وهي تبحث عن أمّه وأخته، غريزتها وإحساسها الفطري تخبرها بأن وجودها في البيت مع هذا الشاب الوسيم، طويل الشعر، ينذر بالخطر، عقلها يقول لها إنّه بمفرده، ووجودها معه في البيت قد يثير إحساسها بالتوتر، وثمة نشوة بالغة لم تألفها منذ رحيل ابي سيف صعدت من بين فخذيها باتجاه رأسها، نشوة نسيتها تماماً بعد مقتله في هجوم تاج المعارك على حدود مدينة العمارة ، وبقيت أم سيف منذ ذلك الوقت لاتختلط بأحد من الجيران سوى بيت أم كريم، فالأمّ وابنتها لوحدهما دائماً ولن يشكك الناس بدخولها بيتهم وخروجها منه, ومعظم الناس في الشارع لا يعرفون شيئاً عن مصير كريم، أهو في الجبهة أم هرب خارج العراق أم سجن بسبب هروبه من العسكرية، يقول حدس أمّ سيف لها إنّه ليس في إجازة دورية أو مؤقتة، بل في إجازة دائمة طويلة منحها لنفسه، مثلما أراد ذات ليلة أبو سيف أن يفعلها ويبقى في البيت قبل ولادة سيف ، لكنها أجبرته على الالتحاق بوحدته، وعيرته بالجبن إن لم ينهض فوراً، حصل ذلك في آخر إجازة له، حتى إنّه قبل الالتحاق في الليل قد ضاجعها مرتين، كاد يكسر في الثانية أحد أضلاعها لجنونه بها ، حتى بقيت ذكرى تلك الساعة قبل التحاقه الأخير، تدوي في طيات أحلامها.
جلست الان على الأريكة وسط الحوش وهي تبحث عن شيء لا تعرف ما هو، فالأمُّ وابنتها غير موجودتين، لكنها تريد التأكد:
- أين الوالدة وحليمة؟
يقف على مبعدة منها، جلس في الجانب الآخر من الأريكة محاولاً
طمأنتها، قائلاً:
- في الكاظمية، دقائق وستعودان.
ابتسمت له ابتسامة مصطنعة، متوترة، ثمة هسهسة تدب في عروقها، وهو يشعر أنّه يسمع بموسيقى تعزف لحناً في أعصابه، التي باتت أكثر توتراً من أيّ وقت مضى، إذ إنّه منذ تركته نوال وذهبت إلى ضابط سيارة السوبر، لم يقترب من امراة، لم يلامس جسد انثى، شاعراً بكبت يبكي الصخر، هذه المرأة التي تجلس بمحاذاته الآن أعادت إلى نفسه الشعور بالرجولة بعد أن أخصاها "بطل التحرير القومي".
- سأحضر لك الشاي.
نهضت المرأة، وعند ذاك داست على عباءتها فسقطت من كتفيها، ليبرز أمامه جسدها البضّ بثوبها الأسود، اللاصق تماماً على جسدها، فجلست تعدّل عباءتها.
- اشربي الشاي ، يجب أن نقوم بالضيافة ولا يصح خروجك الآن من البيت.
داخت من الكلمات والصوت الدافئ وطريقة الحديث، شعرت أنّ كل ذلك مغايراً لما سمعت أو عرفت من أصوات الرجال، كم هي بحاجة لأن تسمع دفئاً في أي صوت تسمعه بعد المرحوم.
- لماذا لا يصح خروجي.. هل تمنعني؟
ضحك بسرور، وشعر أنها تكتم توتراً أبلغ منه:
- لن أمنعك، فأنت ضيفة عزيزة، غير أن خروجك من البيت في وقت ستأتي به أمّي وحليمة سيثير أقوال الناس، سيقول مع من هذه الفاتنة أمضت وقتها ما دام أمّ كريم وابنتها قد جاءتا للتوّ من الزيارة؟
اكتشفت أنّ تأثيراً ساحقاً بإقناعها البقاء لا يمكنها الانفلات منه، وشعرت بخبث ومراوغة دفينة وجميلة، أحبّت هذا الخبث واقنعها بالبقاء ، فذهب إلى المطبخ وحضّر الشاي ثم قدمه إليها جالساً بالقرب منها..
وهي ترتشف قليلاً منه :
- يقال إنّك ترسم.. يعني فنان.. هل صحيح ما يقال أمْ مجرد إشاعة؟
- يمكن إشاعة..
- المرحوم يقرأ كثيراً ويحب كتابة الشعر
- صحيح؟
- وبعد أن غاب عنّا.. أصبحت أكتب الشعر بدلا عنه.
- لماذا؟.. أقصد لماذا تكتبين الشعر؟
- لا أدري!
نهضت بعد وضع القدح على الطاولة:
- سأجلبه إليك ذات يوم لتقرأه.
- اسمعي.. أمي وأختي، في مثل هذا اليوم تذهبان كل أسبوع إلى الزيارة، سأنتظرك لأسمع شعرك.
لم تُجبْ، لكنها أدركت أنَّ خبثه على درجة عالية من الرفعة والشفافية، حتى أنّها اكتشفت وصفاً لحالته بالقول "الخبيث الطيب".
غادرت أمّ سيف ونسيت طاستها الفارغة على الأريكة، وبقي كريم بمفرده، لم تنفع محاولته إبقاءها مدة أطول، صعد إلى غرفته يقلب صورة المرأة الفاتنة التي نزلت إليه من السماء لكنه وجد نفسه خائفا من الوشاية، وشايتها به، بشكل غير مقصود، إلى زوجة ضابط المخابرات أمّ خالد، أو زوجة أيّ رجل حزبي في الشارع، وبالتالي يقع في فخ الأقاويل وربما يلقي القبض عليه متلبسا بجرم الهروب من الحرب فقال: "لن أعاود الاتصال بها، وإذا جاءت سأخبر حليمة لتقول لها إنّني ندمت على هروبي وكفّرت عن ذنبي بالالتحاق في جبهات الحرب".
يجلس أمام لوحاته، ساعات، وهو يفكر في جميلة العينين القلقتين، وحسب أيّام الأسبوع التي مرت دهراً، حتى جاء يوم الزيارة الأسبوعية لوالدته وأخته إلى الأمام، وانتظر بعد خروجهما أنْ يسمع طرقات الباب، يدخن بقلق، ويحدق بتركيز شديد وهو يتصور وقوفها خلف الباب، طال الانتظار حتى توقع أنّها لم تأت، وكاد يصعد إلى الأعلى حيث غرفته، إلا أنّه سمع الباب يغني بطرقات خفيفة، نظر من خلال ثقب الباب، ليتأكد من وجودها، وقلبه يقول إنّها هي التي طرقته، فرأى الوجه الأبيض والعينين القلقتين، وتذكر جحيم باربوس الأرضي، عيناها تفضحانها ووجهها يتحرك بلفتات سريعة إلى جهتي الشارع، فلم يتأخر كثيراً وهو يتأمل الجمال المقبل عليه دفعة واحدة، فتح الباب، وأطلّ وجهها الابيض بعد أسبوع من الانتظار، وجهها ينضح نوراً وجمالاً ، ولمح ارتباكاً وقلقا ً، يعرف اسبابه ، ووجد خيطاً من الحمرة على الشفتين، فاغتبط أستعدادها لهذه الزيارة، خصوصا أنّها ترتدي ثوباً أسودَ لا يبدو أنّه من تلك الثياب التي يعني سوادها الحزن، فكر بالمساحة التي تبدو فيها متشوقة لرؤيته، تحمل بيدها دفتراً صغيراً وعلى شفتيها ضحكة مختنقة.
لم تتحدث معه، وهو بالمقابل لم يحدثها، ناولته دفتر الشعر وانشغل بمطالعته وهو في حقيقة الامر كان يتحسس ، عبر كل ما لديه من مجسات ومن قدرة على استنهاض حواسه لقراءة التوتر، واللهاث، والزفير، والشهيق ، كان يشعر بضربات قلبها، مثلما هي تشعر بضربات قلبه، نظر الى رقصة أرتعاش أصابعها وهي تسلمه الدفتر ، تلك الرقصة أخبرته بكل الحكاية، هو الآن يقرأ وفي الحقيقة لا يقرأ، فالكلمات على الورق ساذجة وبليدة، غير أنّه تحسس كلمات أخرى لم تقلها، كلمات قالتها ببلاغة متناهية ، وبجال آخاذ ، في معزوفة الصمت وهي تجلس بجانبه، وقد تشوقت لسماع رأيه فيما كتبت، أراد أن يسألها من المقصود بهذا الشعر، وهي أرادت أن تقول له إنَّ أيَّ فرد يسكن في الغياب معني بشعرها، لكنها خشيت افتضاحها .
ود لو ترفع العباءة كي يراها ماثلة على حقيقتها، ليتمعن فيها، وفي داخله الخبرة تدفعه أن يحافظ على كياسته وعدم الانجرار وراء جنونه . بلعت ريقها كثيرا وهي تنظر إليه كيف يقرأ شعرها، بصمت وروية وعمق.
قال لها بعد أنْ وجد أنَّ الصمت طال أكثر مما يجب، وأنَّ الكلمات التي قيلت صمتاً قد أبلغتهما بما لا تستطيع التعبير عنها كلّ الكلمات ..
- تكتبين شعراً جيداً.
جرى الصمت ثانية، وأراد ألاّ يتكرر كي لا يثير فيهما الملل، قال أيضاً:
- حاولت خلال الأسبوع الفائت أنْ أرسمك.
فرحت لأنّها وجدت باباً تلج منه إليه:
- رسمتني ! كيف؟ ليس لديك صورتي؟
لم يكن يريد القول إنّه حفظها عن ظهر قلب، منذ النظرة الأولى، وانه حفر ملامحها في طيات عقله الذي لا يحفظ سوى الخطوط والمنحنيات والأشكال التي تندرس في قلبه ومساحات الجمال في دوامات روحه المضطربة، لأنّه إذا قال ذلك سيفرط بها، ويجعلها تهرب من بين أصابعه وهو يركض خلفها من دون الوصول إلى نتيجة، فبقي متزناً أو هكذا قالت له خبرته:
- إنْ أحببْت مشاهدة لوحتك فسأريكها ، ولكن بشرط!
- شرط.. أيّ شرط؟
- شرط أن..
كاد يقول لها أن تنزعي العباءة من على كتفيك، غير أنّه تذكر خبرته واتزانه المصطنع فاستبدل الفكرة، بالقول:
- شرط أنْ تشتريها بمليون دينار.
مزحته باردة إزاء حرارة ما في قلبها، وعرف أنّها مزحة سخيفة، فلم تضحك، إلا أنّها ابتسمت له وقالت:
- بل أنت ينبغي من يمنحني مليون دينارا مقابل رسمي .
امتلك الشجاعة، وتقدم أمامها إلى السلم، وبعد أنْ وضع قدمه على الدرجة الأولى ، قال لها:
- هل تأتين لترينها؟
أدركت أنّه ما زال خبيثاً ومراوغاً، نظرت إليه وهي جالسة نظرة مترددة، هل تصعد، أمْ تبقى محافظة على هذا المستوى من الحوار، فقالت وقد حسمت أمرها بالبقاء .
- كلا.. لن أصعد , اجلبها لي؟
أسلوبها في الرفض، ألقى في نفسه الرغبة بالتمرغ تحت قدميها ، كاد يطير محلقاً في فضاءات بعيدة، فالإغراء والممانعة التي خبرها تجسدت بكل حضورها عند قولها "كلا"، بلعت ريقها ، وارتجفت شفتاها وبعد أنْ حركت يديها بطريقة مقصودة ، أسقطت العباءة من رأسها لتستقر على كتفيها، ولم ترفعها هذه المرة، يدرك أنَّ حوارهما السطحي، هو ستار لحوار آخر يجري بينهما على مستو خفي ، ثلاث سنوات أمضاها محبوساً في هذه الغرفة كافية لتفجر كل الاشتعالات في عروقه، هي نفس السنوات الثلاث من فقدانها زوجها جاعلة الارض تحت قدميها تتشوق للمطر من شدة بوارها ، أرضها العطشى للمياه، وظن كريم أن مياهه الفائضة تريد الأرض.
- لن أجلبها إليك.. اصعدي لترينها.
فرفعت كتفيها تدللاً:
- لن أصعد، حتى تجلبها إلى هنا.
وقف على مفترق الطرق ثانية، طوال حياته ،حين يصل إلى هكذا موقف، يحسمه بالاندفاع إلى أقصى العقل ، ليتسيد سلوكه، كما فعل ذلك كثيراً مع نوال، حين تصر على موقف وهو على آخر نقيضاً ، فلا يودّ أنْ يتنازل، و ذلك ما يزعلها فيتركها إلى شأنها لا يتقرب منها، حتى تذوي فتأتي إليه طائعة، منجذبة، متشوقة، أكثر من أيّ وقت مضى، إنّه يعرف هذه اللعبة، فقد خبرها جيداً، ولا يمكن أنْ ينساها، والمرأة هي المرأة، تحركها الانفعالات والعواطف، اكثر من العقل.
وقف عند منتصف السلم ماسكاً المحجر ومطلاً عليها بوقفته التي تتأمله بها وهو يرتدي المنامة الأنيقة التي تفضح تفاصيلا من جسده تتعمد ألا تراها.
- إذا لم تصعدي فلن أجلبْها.
ضحكت وقالت :
- إذا لم تجلبها فلن أصعد.
عاد إلى مكانه وجلس بجانبها وهو يتضاحك معها، لا يريد أن يخسر الجولة، فترتبك عنده كل الخطط، كما أنّها لا تريد الانسياق وراء خبثه ومراوغته التي وضحت لها الآن جلياً وما عاد فيها أيُّ لبس أو شكّ، فهي تخاف الآخرة وربما إذا انجرفت إلى جنونها ستغضب عليها السماء وتفقد ابنها، لذلك وجدت من المناسب أن تفاتحه قبل الصعود إلى الغرفة بأنَّ الأمور يجب أن تأخذ مسار الشرع.
- ماذا تقصدين؟
أفهمته بأنّ البعض من الأرامل والمطلقات يقدمن على هكذا زواج بدون حضور الشهود وقد أُقر شرعا في الكتاب، ولا غبار من أن تقيم المرأة علاقة شرعية من غير تسجيل ذلك لدى الشيخ في كتاب مكتوب.
- كنت أسمع بهذا الزواج ولم أصدق حقيقته، أتصوره أكذوبة اخترعها العقل الشهواني لتستمر الحياة بين الرجال والنساء خارج إطار الزواج الشرعي.
امتد النقاش بينهما بشأن هذه المسألة وقتاً طويلاً، لكن من دون أنْ يؤدي بها الصعود إلى الأعلى أو يتنازل فيجلب لها اللوحة.
ودعته، وقد استغرق الوقت بينهما سريعا ً، عبارة عن ومضة فقالت:
- سنتحدث عن ذلك في المرة المقبلة، ربما ستأتي أمّك وأختك الآن وستُفاجآن بحضوري.
في الأسبوع التالي، تحفز الاثنان لمخططاتهما، من ناحيتها تصر على أن تكون العلاقة الجسدية بينهما شرعية خوفاً من غضب السماء، ومن ناحيته وّد أنْ يقبل بأيّة صيغة حتى لو على الشريعة اليهودية.
غير أنهماّ في اليوم الموعود حدث ما هو ضد مشيئتهما، إذ تمارضت أخته، سمع من والدته إنها مريضة، فألح عليها بأن تأخذها إلى الطبيب ما دامت مريضة، لكن الأمّ، وهي تعرف فطرة ولدها في أمور الحياة لم تكن تتصور عدم علمه أنّ زيارة الإمام لا تصح بقذارة المرأة.
- مريضة ابنتي مرضاً لا يعالجها طبيب، بل الله طبيبها، ألا تفهم ما أقصد، أمْ أنت أبله؟
فبقيت المرأتان في البيت وقد تعاظم قلقه في وقت أصبح فيه مجيء أمّ سيف بين لحظة وأخرى، ولا يدري ماذا يفعل، أيبقى في غرفة المعيشة وبالتالي ستفضحه أقواله أمْ يدخل جحره في الأعلى يستمع إلى صوتها وهو بأشد الشوق إليها؟
طُرق الباب طرقاتٍ خفيفة، فتسارعت نبضات قلبه ووجد الهروب من ساحة المواجهة أفضل حلّ بعد أن أومأت له أخته بالصعود فوراً قبل فتح الباب، متردداً، وقف عند الدرجة الأولى من السلم وكاد ينزل لولا غضبها.
- قلت لك اصعد ألا تخاف الانضباطية العسكرية؟
تذكر جنود الانضباط وما يتبعه ذلك من إهانة وجرجرة إلى متاهة الاذلال ، فصعد صاغراً من دون أن يدخل إلى الغرفة ليرى من خلال مكانه المنزوي الداخلين والخارجين .
فتحت حليمة الباب، وأطلّت أمّ سيف، بوجهها الضاحك، وفوجئت، فبادرتها حليمة:
- ملعونة، صار ثلاثة أسابيع ولم نرك.
تتحدث معها من دون أن يسمع كريم صوتها، فشعر بأنّها ربما تكون مذهولة من وجودهما في البيت، وقد رتبت نفسها هذا اليوم للقاء مع الشاب الوسيم الذي انتزع منها الهدوء والسكينة والتعاسة وجعلها تبحر في القلق والشوق والأحلام السعيدة..
يراقب النساء الثلاث وهن يقضمن الوقت بثرثرات غير مجدية عن الحرب والشهداء والزواج، ولكن حبيبته قد منعها الحياء من أنْ تنظر ولو مرة واحدة إلى الأعلى، هل الحياء أم الذكاء كي لا تلفت انتباه أخته الذكية.
غادرت أمّ سيف بعد دقائق معدودات، فيما بقي كريم في غرفته يطالع لوحتها متأملاً لحظات سعيدة يتسلق بها شجرة المتعة والجمال، كل يوم يضفي لوناً جديداً على الأفق ويستبدله بلون آخر، وخلال أيّام الانتظار، ينزل من غرفته يخبئ رسمها بين اللوحات، خشية من صعود حليمة المفاجئ لتنظيف الغرفة أو جلب أطباق الطعام، وعندما يصعد يظهرها ليتأملها، يكمل نواقصها، بعد غلق الباب، إلا أنّه قبل يوم من الموعد المقرر لمجيء فتاته الأرملة، نزل من غرفته مسرعاً وقد اضطربت معدته، فذهب إلى الحمام، من دون أنْ يغلق باب الغرفة، أو يخبئ اللوحة الخاصة بأمّ سيف في مكان لا تراه حليمة، فصعدت حليمة لتنظيف الغرفة وترتيبها، وعندما دخلت، فوجئت بلوحة أمّ سيف، تأملتها، جالسة على السرير، كاشفة عباءتها عن كتفيها، بوجه بيضوي، ولم تمكث الأخت كثيراً في الغرفة، تركتها على حالها ونزلت بسرعة كي لا يشهد كريم جرمها باختراق أسراره وجلست بانتظار خروجه من الحمام.
خرج كريم وصعد إلى الغرفة ولما وجدها مفتوحة شعر بالندم لأنّ لوحة المرأة الارملة ما زالت على الإسناد.
فصاح كريم:
- حليمة.. لماذا لم تأخذي الأطباق الفارغة؟
يريد التأكد من أنّها لم تصعد وأنّها لم تر اللوحة , فردت أخته:
- لقد تعبت من الصعود والنزول، ها أنذا قادمة.
خبأ اللوحة في مكانها وانتظر دخولها غرفته وفي حقيقة الأمر كان يختبرها فيما إذا دخلت ورأت اللوحة أمْ لا؟
دخولها الغرفة بالنسبة إليه طبيعياً ، نفس النظرات، نفس الحركات الروتينية التي اعتاد عليها، نفس الكلمات:
- متى تساعدني بتنظيف غرفتك؟
إذن لا شيء يثير الريبة، هكذا خاطب نفسه. ولكن في يوم الزيارة المقرر، أخبرت حليمة أمّها أنّ شعوراً بالضيق وضعفاً بقدميها قد لا تحملها على الزيارة، ولم تنفع كل محاولات الأمّ إقناعها بالعدول عن بقائها في البيت، فذهبت العجوز بمفردها، وانتظرت حليمة كما توقعت قدوم أمّ سيف في الوقت المحدد، أي في الساعة الرابعة عصراً، عيناها إلى الباب وغرفة كريم كما يبدو لها مغلقة أو هكذا تصورت.
سمعت الطرقات الخفيفة، فنهضت لتشاهد عبر ثقب الباب أمَّ سيف قادمة، فأدركت أنَّ ما تقوله غريزتها صحيحاً ، فتحت الباب، وتقابلت الفتاتان، أمّ سيف فوجئت بغير سرور ، وحليمة تأكدت بأنّ ثمة شيئاً ما يدور بين أخيها والأرملة التي تريد حتما توريطه فيما لا تُحمد عقباه.
جلستا في غرفة المعيشة وتبادلتا عبارات تقليدية، وجافة، غير أنَّ حليمة لم تترك الأمور هكذا إذ بادرت بالسؤال:
- ذاك الأسبوع جئت يوم السبت.. واليوم هو السبت أيضًا.. هكذا صارت المحبة بيننا أسبوعية.
ارتعدت أمُّ سيف وقلبت الأمور بعقلها، فلم تصل إلى نتيجة.
نهضت ضيفة الساعة الرابعة وودعت حليمة بسرعة وذهبت شاعرة بالألم والخسارةِ.
وبالفعل بعد غياب شهرٍ زارتها حليمة إلى البيت وقالت لها:
- لماذا تزعلين منا بدون سبب؟
فصعقت أمّ سيف لمجيئها وهي التي قررت نسيان الأمر وألاّ تترك في قلبها أثراً منه.
- لم أزعل.. ومن قال إنني زعلت؟
- صار لك شهرٌ لم تزورينا.
ردت عليها بشعور منكسر وأسفٍ.
- كل ما في الأمر أنَّ ولدي مريض ولم تبرحه الحمى، طوال شهر.
- رغم ذلك يجب إخبارنا بذلك لعلنا نساعدك.
انتهت الزيارة من دون أنْ تتوصل أمُّ سيف إلى شيء محدد، وشعرت حليمة أنَّها انتصرت على المرأة دون إخبارها بقصة اللوحة، فعادت إلى البيت ووجدت أخاها حزيناً، يرفض تناول الطعام، ويقضي معظم وقته في الغرفة لا يعرف سراً لغيابها الذي دام شهراً.
صعدت حليمة إليه تواسيه، غير أنّه لم يستسغ مواساتها البليدة، فتركته منطرحاً على الفراش، وبعد أيّام تعافى من حزنه وأخذ يستعيد روحه المرحة في البيت وشعرت أنّه بدأ يتجاوزها ونسي الأرملة وأمعنت حليمة في إذكاء نسيانها لها بتذكيره بصاحبة لوحة القرد الذي يصعد على غيمة يختطف الفتاة التي تقف على صخرة، إنّها اللوحة الأكثر حضوراً في ساعات تأمله، كريم يتضاحك مع حليمة في سبيل إيهامها بتعافيه فعلاً، ذلك لأنَّ عقله الباطن أوضح له بأنّها وراء ابتعاد أمّ سيف عن البيت، وشعر أنَّ حقدها وعقدها ومشاكلها النفسية كلها قد أنزلتها في المرأة، وعندما راجع أوليات التفاصيل، رفضها الذهاب بزيارة الإمام كل سبت، أدرك بأنّها اكتشفت شيئاً بينه وبين الأرملة ولعل اللوحة قد تكون هي الخيط الذي دفعها لتشك بنوع العلاقة بينهما، ولكن سؤاله الذي لا يعرف له جواباً: أين عثرت على اللوحة، في أيّ وقت غياب له؟ هذا ما لم يستطع عقله الإجابة عنه، ولما ظهر مرحاً، فرحت:
- الآن، عدت إلينا يا أخي.
- أين كنت حتى أعود إليك؟
ونتيجة لعقدها الكثيرة التي لا يفهمها كريم أفلت لسانها اعترافها:
- كنت غائباً في رسم تلك اللوحة التي تخبئها عن أختك ولا تريدني أن أراها.
شعر كريم أنّه مأخوذ فعلاً، فصعق، كاد يرفع يده فيلطمها على خدها، لكنه صعد إلى غرفته.
ظل يمشي في الغرفة ذهابًا وإيابًا، ما الذي سيفعله الآن، أينزل ويصب جام غضبه عليها، ذلك صعب، لأنّها ستنتقم منه بإخبار ضابط المخابرات الذي يسكن بالمقابل من بيتهم، فكظم غيظه، وأراد أن ينام إلا أنّه لم يستطع، يشعر بأنّ الدنيا ضيقة، تخنقه، وتساءل، ماذا قالت لها كي تبعدها، هل هددتها مثلاً؟ هل فضحتها؟ الأسئلة تتدفق دون أن يعرف لها إجابة، فأخرج لوحتها وأراد أنْ يعترف لها بأنّه يحبها أكثر من أيّ فتاة في العالم، حتى أكثر من نوال، لكنه لم يجرؤ على قول ذلك، ضحك في نفسه، كيف يمكن لأيّة امرأة في العالم أنْ تنتزع من قلبه حبه إلى نوال؟
هدأ نفسه ونزل إلى الأسفل وجلس في غرفة المعيشة بينما الأخت والأم تراقبانه
- أحضر لك الغداء؟
لاحظ خوفاً في صوتها، فقال لها بصوت خفيض، مبرمج :
- ماذا تنتظرين.. هيا؟
ركضت إلى المطبخ مذعورة. جلبت له الغداء فأكل بشهية، لأنّه جائع حقاً، وفي الليل وعندما نامت أمّه، سألها ضاحكاً:
- ماذا كنت تقصدين باللوحة المختبئة؟
نظرات مستفهمه وجهتها له:
- ألا تفهم؟
أراد أنْ يبدو بريئاً.
- كلا لم أفهم.
قالت بصعوبة وهي خائفة من أنْ يترك كلامها تأثيراً عليه:
- لوحة أمّ سيف جارتنا الأرملة.
- ماذا بشأنها؟ هل عثرت عليها؟
ضحكت وقالت:
- عثرت عليها وشاهدتها، ولكني أسأل كيف عرفتها؟
أجاب ببراءة كي يموه عليها ما تغلي به عروقه:
- لِمَ أتعرَّف عليها، ألا تعلمين أنا أنظر إلى كل من يدخل البيت من الأعلى وأشاهد كل ما يجري دون أنْ يتعرّف علي مخلوق؟
- صحيح!
- فشاهدتها وأعجبني شكلها، رأيت الحزن في عينيها فرسمتها، أهـو أمرٌ غريب عليك أن أرسم من الذاكرة؟
شعرت بصدق ما يقول وأنّها ظلمت أخاها والأرملة، رغم أنَّها لا تستطيع إقناع نفسها أنْ يكون مجيئ الأرملة كل سبت أثناء الزيارة مصادفة.
- طيب إذا كنت لم تتعرف عليها، لماذا تزور البيت في الوقت الخاص بالزيارة؟
رد بالبراءة المفتعلة نفسها:
-ربما مصادفة، ألا تحصل المصادفات في الحياة؟
أيقن الآن أنّه استحوذ على عقلها ونجح بطرد الشك منه، وهي من جانبها كي تتأكد من صدق كلامه، حضرت عبارتها لتكتشف إنْ كان فعلاً لا يهتم لأمرها، فقالت له:
- أتعرف أين هي الآن؟
كاد قلبه يتفطر لمعرفة مكانها الآن، غير أنّه سخر من فخها الساذج، ولم تدرك أنّها أخته ويعرف إلى أيّ درجة مـن الخبث يمكن لعقلها أن يصل بها، فقال:
- ما شأني بها، عساها ذهبت إلى الجحيم.
حتى هذه اللحظة، لا يعرف أين يمكن أن يجدها، وهو داخل جوف سيارة اللاندكروز المظللة، حيث يرتدي الملابس الزيتوني مع السائق ومنيف اللذين يرافقانه إلى البيت بعد غياب ثلاثة أشهر عن أمّه وأخته، وقد استأذن الأستاذ أن يمنحه إجازة لرؤيتهما لمدة ساعتين وليس أكثر من ذلك، ووافق هذا بلحظة مزاجية رائقة على منحه الإجازة:
- إذا صارت ساعتين وخمس دقائق، اعتبر نفسك أصبحت وجبة دسمة للكلاب، مفهوم كريم؟
- مفهوم سيدي مفهوم.. ساعتان لا أكثر.
ها هو يصل إلى الشارع، وفي أمنياته أن يراه ضابط المخابرات وكل الجيران الذين شهدوا اعتقاله في ذلك اليوم، أنْ يروه كيف يرتدي الزيتوني كي يعطي انطباعا بأنْ أصبح له نفوذٌ واسعٌ لدى الحكومة، كما أنّه مشتاق لسماع أخبار أمّ سيف.
وصل إلى الباب وقبل أنْ يطرقه، نظر إلى منيف الذي يضحك مع السائق، ثم نظر إلى بيت الأرملة وتمنّى خروجها في هذه اللحظة، لم يطل بالنظر، فقد خرج معظم أبناء الجيران ونسائهم وبعض الآباء.
كان واضحا لدى الناس الذين شاهدوه أنّه الآن في موقع أفضل وليس هاربا من الجيش كما تردّدت الإشاعات حوله، وتساءل متى ستخرج أرملته الجميلة، غير أنَّ منيف زمر بالسيارة ووضع يده على الساعة مذكراً إيّاه بتمضية الوقت هباء وقد يداهمهم ولم يدخل بعد ليرى أمه وأخته، فأومأ إليهما وطرق الباب طرقتين، فخرجت حليمة فرحة وقد شاهدته من ثقب الباب وتعلقت برقبته وهي لا تعرف كيف ترحب به أمام الناس والجيران وسط ملاحقة منيف والسائق له. دخل البيت فوجد أمّه واقفه تمد ذراعيها إليه، وعندما شاهدها دخل بين ذراعيها وكاد يبكي.
ولم يكن يرغب في أن يقول لهما أين هو الآن ولكنه طمأنهما وقال لهما: لا تخافا عليَّ، إنني الآن في الخدمة العسكرية في مكان سري.
منحه الأستاذ مبلغاً من المال فوضعه بيد أمّه وقال لها:
- هذا راتبي، خذيه يا أمّي.
فرحت الأمّ بوجوده وليس بالراتب، غير أنَّ حليمة تنظر بدهشة إلى حفنة كبيرة من النقود جاء بها أخوها.
- أنا مضطر للمغادرة بعد ساعة واحدة، فأريد أنْ تقولا لي كل شيء دفعة واحدة.
بكت الأمّ، وحليمة همست بأذنه:
- هل تريد معرفة أين هي الان؟
لم يكن بحاجة لكي يسألها عماذا تقصد، لأنّه كان يسترجع طوال الطريق ذكرياته معها، فقال فرحاً:
- أين هي الآن؟
- تعمل في أحد فروع اتحاد النساء.
همس بأذنها:
- ألمْ تعرفي أيّ فرع منهم؟
قالت:
- لا أدري، ولكنها في مكان وسط بغداد.
16
تخشى رغد من إمكانية نجاح المخطط الذي دبرته للإيقاع بفاتن، فاحتفاظها بشريط الكاسيت الذي يحتوي اعتراف عليان، قد لا يكون سبباً خطيرا في إحكام مخططها، وهي تعرف ان فاتن لديها من الدهاء والمكر ربما ستقلب عليها قواعد اللعب ..
نضال صديقة رغد في السكن تنظر إليها صباح هذا اليوم نظراتٍ حزينة، وقالت لها:
- أخشى عليك من اللعب بالنار.
رغد تسرح شعرها أمام المرآة، وتضع أحمر الشفاه والبودرة، ترد على صديقتها:
- أنا لا ألعب بالنار، بل النار هي التي تلعب بي.
تظن أنّها محقة في قولها ، فالنار التي تشتعل في الجبهات لتحرق أجساد الشباب، هي نفسها التي جعلت والدها المقدم في الجيش العراقي يصب كل غضبه على أمّها وعليها، حين يأتي في الإجازة ويحتسي الخمور، ثم يبدأ بالزعيق والصراخ عندما يثمل "قحاب، عاهرات، قحاب".. وشبت النار فيها عندما سمعت أوّل مرة كلمة "قحاب" من والدها بالذات،الذي يعد بالنسبة لها مثالها ومحط إعجابها، خصوصا حين يرتدي ملابسه العسكرية وعلى كتفه النسر والنجمة وثمة سيارة مع سائقها بانتظاره متى يخرج، وحين سكر في ذلك اليوم رددها كثيرا، مع نقد لاذع لقائد الفرقة التي يأتمر بأوامره "أتعرفين لماذا قائدنا حذاء، طبعا لا تعرفين، أنت وابنتك لا تعرفان معنى أنْ يصعد الجنود إلى راقم جبلي يتمترس فيه العدو، ادفع بالجنود يا مقدم رياض إلى الراقم.. أقول له.. سيدي هذا الفوج الثاني الذي يسحق عن بكرة أبيه ولا يمكننا استرداد الراقم، آمر اللواء اقتنع، لكن قائد الفرقة يقول، أعيدوه لنا حتى لو دفنت الفرقة كلها على سفوحه".
يجلس في وسط غرفة المعيشة لا يرتدي سوى لباسه الداخلي وأمامه قنينة العرق:
- ماذا نفعل؟ أنخالف الأوامر؟ لا يمكن ذلك، الإعدام خلفنا، والموت بقذائف العدو أمامنا، ثم تقدم الفوج الثالث وتسلق الجبل ولكن عند منتصف الطريق، صار وا يتدحرجون إلى الوادي أمواتاً.
كلما جاء بالإجازة يتذكر هذه الحادثة، فينصب منضدته ويضع قنينة العرق ، ثم يبدأ بالحديث عنها، حتى استفزته أمّها ذات يوم وهي تمزح معه :
- والله شغلتنا ودمرتنا بالراقم، جنودكم جبناء، لماذا لم يصعدوا ويستردوه ؟
فالتفت إليها والشرر يقدح في عينيه، كأنه بحاجة إلى البنزين لينفجر، وها هي أمّها قد صبته على جسده المتـرهل فثار كالبركان بالسباب والشتائم صائحاً:
- قحاب، نحن نموت كل يوم هناك وأنتن هنا تفتحن أفخاذكن للمصريين، لا أمان لكن.. عاهرات.
وعندما يتعب من الشتائم يتحول إلى معزوفة أخرى بشتم القائد الضرورة "وهذا ابو الضراط ، لو لم يكن نغلاً لما قد فعل بنا كل هذه الأفعال الجبانة".
ثم نظر إلى أمّها وهي ترتعد من الخوف بعد إغلاق النوافذ والأبواب، "وأنت من يقول هذه ابنتي؟" عندئذ أمّها تبكي، فتحتضنها رغد، وهي لا تفهم معنى أيّة كلمة مما قال.
وفي الإجازة التالية، ثمل وصب شتائمه على قائد الفرقة "استبدلوه بواحد آخر أكثر خراءً من الذي قبله" وعندما يصل إلى مستوى الزعيق والصراخ، تهرب رغد وأمّها، تنزويان بعيدا عنه، فيأتي مترنحاً "قحاب، ترفضن سماعي، وأنا أموت بالجبهة كل يوم".
- لماذا لا تهدأ يا أبا رغد، ما ذنبنا نحن إذا كان قائدكم يضايقكم؟
واقفا عند الباب، وبصعوبة يثبت قدميه :
- ما ذنبكن.. إنّكن قحاب.
عندها ، وجدت امّ رغد من اللازم وقفه عند حده فزعقت ومسكته من رقبته ناشبة اظفارها فيها :
- احفظ لسانك، إذا كنا نحن قحاب فمـن تكون أنت؟ أكيد
قوادنا.. ؟
صعق والدها عندما سمع ذلك، كأن جمراً ألقي على رأسه، فثار ثورته الأخيرة، بالضرب والرفس على أنحاء جسدها، كادت تموت بين يديه.
وفي الصباح، هربت أمّها، لا تعرف الى أين ، اتصلت بأخوالها فلم يعرفوا لها وجوداً ، بل قلقوا عليها وجاءوا الى البيت بأسرع ما توقعت.. سأل جدها :
- ما الذي فعله لها هذا السكير ؟
بكتْ رغد وهي تحضن صدر جدها.
- ضربها بشدة، وربما كسر لها ضلعاً.
صاح الخال الأصغر وبيده سكيناً،
- اين هو ؟
فيما الخال الأكبر ينظر بغضب ويتحفز لاي اشارة من والده فقال الاصغر بانفعال :
- أين هو ، سأدخل غرفته لارى اين تكمن رجولته بضرب امرأة ؟
غير أنّ السكيرا ظهر من غرفته حاملاً بندقية وقد سحب أقسامها امامهم باستعراض واضح ، ثم قال له بصوت بدا واثقاً مما سيفعله:
- تقدم خطوة واحدة وسترى كيف أثقب جسدك بمشط كامل من الرصاص، أنت وأباك وهذا "الخرتيت".
سحب جدها ذراع خالها ثم ذهبوا، وبقيت وحدها تتجنب رؤية والدها. لم يكن شعوره بالندم بادياً عليه، وبعد أيام غـادر البيت ملتحقاً
بالجبهة، وبقيت رغد وحدها.
قالت لها فاتن تتصنع التأثر والحزن:
- وأمك.. ألَمْ تعثروا عليها ؟
مسحت دموعها..
- لا ندري أين هي الآن، جئتكم أطلب المساعدة .
ضحكت رغد من نفسها وهي تمشط شعرها وقالت "أجمل مساعدة قدمتها لي رفيقة فاتن، مسكتني من ذراعي وألقتْ بي إلى الذئاب.
- أجل يا رفيقة يمكننا مساعدتك، ولكن قبل ذلك عليك أنْ تجيبي على كل هذه الأسئلة.. حتى الهواية .
الورقة تحمل عشرين الف سؤالاً ، أجبت عن كل شيء حتى مكان الشامة في مؤخرتي ، أما عن الهواية ، فلم أهوَ شيئاً في حياتي مثل السفر، رغبة بالهرب من حياتنا الكابوسية التي فرضها والدي بعد عوقه بأحد قدميه .
- هاوية سفر!
ضحكت الرفيقة فاتن ، وقالت:
- بعد أيام سنذهب إلى برلين الشرقية، وكنا بحاجة إلى واحدة حتى يكتمل العدد.
ما زالت الرفيقة تضحك:
- يا للمصادفة، اجلبي غداً 6 صور شخصية وبطاقة الأحوال المدنية والباقي علي.
- ماذا تقصدين.. لم أفهم.. ؟
- ألا يعجبك السفر مع وفد نسائي إلى ألمانيا الشرقية؟
- يعجبني، لكنني أريد وظيفة.
- اعتبري نفسك موظفة في اتحاد النساء، شكل وجهك يوحي بأنّك باحثة اجتماعية، هيا.. أنت مسؤولة عن الشؤون الاجتماعية.
تريدني أن أكون سهلة، وفعلا صرت سلعة سهلة وبسيطة وطيعة، ولم تتعب معي الرفيقة لإقناعي بأنّ الحياة عبارة عن رقصة ، او أكلة طيبة او سفرة حلوة ، وتنتهي بمغامرة نعيشها مرة واحدة ثم نموت، صدقت بكلامها وسافرنا، وهناك في الفندق تذوقت طعم البيرة مع الرفيقة، في غرفتها، ومن ثم جاء الرفيق، الذي لم يتعب كثيرا معي ، وجدني جاهزة تماما ، بمجرد وضع يده على صدري ، وبعدها على مؤخرتي ، فلم يبذل جهداً صعبا لاستمالتي، حتى أنّه استغرب بعد المضاجعة السهلة.
- ما هذا؟
وسألت بانتشاء:
- ماذا، هل هناك شيءٌ ما؟
قال بندم واضح:
- إنّك عذراء !!
الخمرة دبت في رأسي ولم أشعر بالجرح إلا بعد ساعات، ولثلاثة أيام أنا جالسة في الغرفة أقلب تاريخ والدي في الجبهة وهو يدافع عن الماجدات أمثالي "قحاب" ها أنذا يا والدي صرت مثلما أردتني وأمي أصبحت مثلي أو سبقتني إلى ذلك، وعندما عدنا إلى الوطن، سائق السيارة التي أقلّنا من المطار إلى المدينة قد شغل أغنية لمطرب ساذج تقول كلماتها "نيرانه مثل الثلج.. تجوي واكول اشاه" ها نحن عدنا إلى نيران الوطن وحروبه وخطب قائده الضرورة.
أصبحت رغد بالقرب من فاتن، و صارت من السهولة تقديمها وليمة دسمة إلى الأستاذ، الذي استقبلها بالغرفة الحمراء وبدون مقدمات.
أرادت رغد أن تنتقم من والدها الذي وصمها بالعار قبل ارتكابه، فوجدت دعوة فاتن لقضاء ليلة في قصر الأستاذ فرصة لهذا الانتقام وقد نشف الجرح وتشوقت لتكتشف أنواع الرجال الاخرين ، وخاضت التجربة ولم تصدق أنّ الأستاذ يضع كاميرا تصوير ليسجل تجاربه الجنسية مع الفتيات، ولا بد أنّه صوّرها ويحتفظ بنسخة في دولابه وأنّ عليان سيسرقه منه كما فعل عندما سرق شريط فاتن وستجبره أن يجلبه إليها مقابل شريط الكاسيت نفسه الموجود الآن في حقيبتها.
مضى الخميس من دون أن تفعل شيئًا والجمعة عطلة وها هي في هذا اليوم السبت تتحرق شوقاً إلى الانتقام من فاتن ومن والدها ومن بطل التحرير القومي ، تجلس في مكتبها بانتظار مجيء الرفيقة، تنظر من خلال نافذتها إلى الحديقة وهي تغلي .
غير أنّ الرفيقة جاءت بعد العاشرة بقليل تصحب الضحية الجديدة التي بدت لرغد ساذجة وجميلة، دخلتا المبنى، وتحفزت، ليس لديها فكرة واضحة عن نوع الكلمات التي ستقولها إلى فاتن "الكاسيت الذي تبحثين عنه بحوزتي".عدلت جلستها وقالت: "إنّك الآن يا فاتن في قبضتي لأن الكاسيت عندي، يأتي عليان بشريط الفديو خاصتي فأرجعه إليك".. لم تكن رغد مرتاحة من استعدادها لمواجهة فاتن ، فهي تعرف أنّ فاتن ذات العقل الجبار، التي تمتهن التآمر والسمسرة العلنية والبغاء الخفي، لا يمكنها أنْ تقع فريسة في قبضتها ببساطة لمجرد أنْ تكشف لها عن سرقتها للكاسيت، فتوقعت أنْ يكون ردها "أُقرُّ أنك سرقت الكاسيت، ولكن كيف يمكنك إيصاله إلى الأستاذ؟" وربما قالت لها "هل تتوقعين أي فرد يمكنه الوصول إليه؟.. وقد تقول لها: "سأحرقك الآن قبل أن يصــل مضمون هذا الكاسيت إلى أيّ فرد تحلمين بالوصول إليه".
سمعت نعال أمّ هاشم وهو يطرق البلاط ففتحت الباب لتجدها حاملة الصينية ووضع عليها فنجاني القهوة "أكانت سهرتها أمس ثقيلة؟" دخلت أم هاشم ووجدت فاتن تتضاحك مع فائزة، فشاركتهما من دون أن تعرف سبباً للضحك، ثم وضعت فنجاني القهوة على طاولة حيث تجلس فائزة بجانبها ، ولما خرجت أمّ هاشم، قالت فاتن:
- بعد احتساء القهوة يمكنك استلام عملك، ولا تنسي تحذيراتي بعدم الاقتراب من الأفعى رغد.
تناولت فائزة القهوة بسرعة وغادرت الغرفة فوجدت رغد تقف عند باب غرفتها، وعندما رأتها فائزة ابتسمت لها وقالت:
- صباح الخير..
فأجابت رغد، بمشاعر لا كره فيها ولا محبة..
- صباح الخير.
ثم انتظرت دخول فائزة إلى غرفتها كي تقرر ماذا عليها أن تفعل الآن، لكنها لم تصل بعد إلى بلورة الفكرة، ذلك لأنّ الانتقام وحده هو الذي يسيطر عليها، دون أن تجد آلية ما إلى تنفيذه، إنّه انتقام وحسب، فعادت إلى غرفتها بانتظار ما سيسفر عنه الوقت من تطورات.
فاتن ، فتحت الدرج الأول في منضدتها ثم أغلقته كي يفتح الدرج الثالث، استخرجت المسجلة ونظرت إلى الكاسيت، في داخله، ابتسمت.
أعادت المسجلة إلى مكانها واطمأنت أنّ كل شيء يجري حسب ما تريد، فاتكأت على مسند الكرسي، وبعد لحظات سمعت طرقاً على الباب، فتوقعت مجيء فائزة، غير أنّ أمينة المحامية هي التي دخلت بابتسامتها البليدة.
- سأذهب إلى المحكمة رفيقة.. هناك قضية طلاق لمشتكية عندنا، ربما أتأخر.
أومأت إليها من دون أن تتعب نفسها في الكلام فهي تكره المحاكم والمحامين والقضاة، لأنّها تعرف ليس في البلد قانون، فالقاضي واحد، والمحامي واحد، هو الذي نلجأ إليه، بيده مفاتيح كل شيء، إضافة إلى أنّها لم تستطع أنْ تحقق في المحاكم حضانة ابنتها.
تفكر فاتن في ليلة قبل البارحة، لا تتذكر شيئاً مهما سوى أنّها وجدت نفسها نائمة في غرفة فائزة، وأنّها رأت الشريط، لكنها لم تتمعن فيه، بسبب حالة السكر التي منعتها من التركيز ، غير أنّها بقيت طوال يوم أمس تفكر في كلام عليان "لماذا رفستِني؟.. هل يحلم أنّي رفسته أمْ فعلت ذلك حقاً، لكن كيف رفسته وأنا ثملة ونائمة في الغرفة مع الفتيات " !! ..أما فائزة فهي سبق لها أنْ تعلمت دروسا في الدفاع عن النفس ، عندما كانت شابة يافعة في مركز الشباب أقنعها أخ صديقتها نهاد بأنْ تنتمي إلى مركز الشباب تمارس رياض الجمباز ولم تفهم وقتها سبب اختياره هذه الرياضة لكنها اكتشفت فيما بعد سعيه لمشاهدة جسدها بملابس الجمباز الضيقة، وهي لذلك قرّرت أنْ تسخر من أهدافه بالتمرن على رياضة التايكوندو كما أقنعتها زميلة لها تدخل معها مركز الشباب كل يوم وقالت لها بأنّ رياضة الدفاع عن النفس هي أفضل سبيل لمواجهة الأخطار ضد الشباب الطائشين .. ولم تمض طويلا في دروس هذه الرياضة التي تعلمت منها ما يكفي، إذْ تركت مركز الشباب بعد أنْ وجدت بعض الرياضيين يتركون تمارينهم ويأتون لمشاهدتها وهي تتدرب، فاكتشفت أنْ لجسدها سحراً يبدو أنّه سيؤدي بها إلى عواقب لا تحتملها، وبقيت تلك الدروس عالقة في ذهنها "أهمّ درس أنْ تبقى لياقتك البدنية حاضرة في جسدك". يقول المدرب لها، ويضيف: "حتى لو تغادرين اللعبة تذكري أنْ تتمرني في البيت ولا تجعلي الترهل يتسرب إلى عضلاتك". وقد مارست ليلة أوّل البارحة واحدة من تلك الحركات التي تدربت عليها فأوقعت عليان في شرّ أعماله، وأفقدته صـوابه، وفي غمرة تفكيرها طرق باب فائزة، ثم دخلت رغد ضاحكة ووقفت أمام مكتبها:
- صباح الخير آنسه فائزة..
ابتسمت لها وتذكرت نصيحة فاتن بأنْ لا تدع لها فرصة لكشف الأسرار امامها .. جلست رغد بجانب المنضدة وقالت لها:
- لم نتعرف كثيراً، إذا لم يكن لديك مانع.
تتحلى فائزة بمرونة تمنعها من الأخذ بنصيحة فاتن حرفيًا، لذلك قالت لها:
- ولِمْ لا.. أنا فائزة، وأنت رغد، أعمل سكرتيرة وأنت مسؤولة الشؤون الاجتماعية، ماذا بعد؟
لم تخطئ ظنون رغد بأنَّها قد لقنت جيداً من فاتن ضدها وها هي عباراتها تدل على ذلك، غير أنّها لم تيأس، فهي تريد أن تعرف كيف اتفق مثلاً مجيئهما معاً وفي الوقت نفسه، لكن طريقة السؤال قد أخذت منها وقتاً لصياغته بهذا الشكل:
- أكان طريقها على بيتكم أم هي المصادفة؟
في هذه الأثناء أضيء المصباح ما يعني استدعاءً من قبل الرفيقة، فاستأذنتها فائزة ونهضت معها رغد خرجت قبلها :
- يبدو ليس هناك فرصة للتعرف كثيراً عليك.
فأجابت فائزة مبتسمة:
- فيما بعد.. أحسن.
فائزة تراقب أسلوب مشي رغد، بضع خطوات لتصل إلى غرفتها، وأخبرها عقلها بأنّها ستلتفت قبل انصرافها إلى غرفة فاتن، وفعلاً حانت التفاتة سريعة منها، أجبرتها على الانزواء إلى غرفتها، قلبت في ذهنها سلوك رغد، ووجدت أنّها تشعر بالكراهية نفسها التي تكنها فاتن إليها، كراهية متبادلة، لكن لماذا تحتفظ بها فاتن موظفة لديها وهي المتنفذة التي بيدها الأمر كله؟
جسلت فائزة وهي تراقب فاتن التي تشاغلت بورقة رسمية حدسها يخبرها بأنّ الرفيقة تفتعل هذه الحركات لتضفي جواً من الوقار والهيبة على نفسها .
- هناك حفلة في نادي الصيد.
نظرت إليها فاتن لتختبر ردة فعلها، فاكملت :
- نحن مدعوون إليها.. فماذا تقولين؟
استغربت فائزة الـ "نحن" وسألت:
- من المقصود بـ "نحن"؟
ما زالت تمثل أمامها الوقار المصطنع:
- نحن.. أنا وأنت؟
ابتسمت فائزة وأدركت أنّها داخل فخ :
- أنت جائز لك حضور الحفلة.. أمّا أنا فلا أحد يعرفني.
تهاوت أقنعة الوقار وسقطت تحت قدمي الرفيقة، إذ عادت إلى طبيعتها المرتبكة، القلقة:
- أقصد أنا، ومن اختارها لتكون معي في الحفلة.
شعرت فائزة أنّ رفضها لن يؤدي إلى أيّ تغيير، ستجبرها للذهاب معها وإذا رفضت سيؤدي ذلك إلى عواقب أخرى ليس أسوأها الطرد من بيتها..
- متى الحفلة؟
فرحت فاتن وعقلها يخبرها أنّ هذه الفتاة تسير في الطريق المرسوم لها.
- الليلة!
ردت فائزة باستسلام:
- وهو كذلك.. الليلة.
نهضت فائزة، غير أنّ فاتن قالت لها:
- ألا تودّين معرفة من صاحب الدعوة؟ وأين سنجلس؟
لم تكن تريد أن تسألها عن ذلك ولكن إنْ أرادت إخبارها فلا بأس من المعرفة.
- من؟
قالت مغتبطة والورقة بيدها:
- زوجة وابنة الوزير (فلان).
تعرف فائزة أنَّ (فلان) مسؤول كبير في حكومة "الضرورة"، فأجابت:
- قلت لك، وهو كذلك.. الليلة.
غادرت فائزة الغرفة متمالكة الأعصاب، لا تريد للقرف واليأس أنْ يدبّا في نفسها.
جلست في غرفتها تفكر في الحفلة، أيّ الملابس تختار وهي لا تملك سوى ثوبٍ أصفر ابتاعته قبل يومين، إذن لا بدَّ من اللجوء إلى خزانة ملابس الرفيقة التي لا تمانع من استعارة أحد ثيابها، بقي أن تعرف إذا حضر الداعون، الزوجة وابنتها، فهل يحضر معهما الوزير؟..
لا تريد إشغال ذهنها الآن بتفاصيل الفخ الذي أعدّ لها، هي مشغولة بصدد كشف أوليّات العلاقة المتوترة بين رغد وفاتن، وماذا تخبئ كل واحدة منهما للأخرى، فنهضت، وخرجت من غرفتها متجهة إلى غرفة رغد، طرقت الباب فأجابت رغد:
- تفضل.
نهضت رغد من مكانها مبتسمة، فرحة بزيارة فائزة ، دارت حول مكتبها وأومأت لها بالجلوس على الأريكة :
- كنت أشعر أنّك أصيلة، وستبادلينني الزيارة، والتعارف، ولو أخذت على خاطري منك!
- لماذا؟ هل بدر مني ما يزعجك؟
راقبت رغد طريقة جلوسها ووجدت ليس هناك ما يدل على الكبرياء والغرور، بقيت تحافظ على ابتسامتها:
- لا يبدو أنّك من النوع الذي يزعج الآخرين، ولكن أسلوب التعريف فيه مزاح ثقيل، وأخشى أنْ تصدقي كل ما يقال لك.
فهمت فائزة تلميحها المبطن، ولكنها لتحقيق الغاية من مجيئها إلى غرفة رغد، سألتها:
- من تقصدين؟
- معقولة! ألا تعرفين من أقصد؟ على أيّة حال، لا أقصد أحداً، المهم عندي ألاّ تصدقي وخلاص.
صفنت فائزة وبحثت في ذهنها عن الكلمات المناسبة لمعرفة أسباب قلق رغد منذ أنْ رأتها وحتى هذه اللحظة..
- أريدك أن تفهميني، أنّني لا أصدّق إلاّ عندما أرى، ولا أحبّ أنْ أسمع أكثر مما يجب، كما لا أحبّ أن أكون فضولية لمعرفة دوافع كل ما أرى.
شعرت رغد أنَّها أمام متحدثة بارعة وذكية، رغم أنَّ ما قالته
تحذلقاً فانفتح لها قلبها وتمنّت أن تحذرها من فاتن لكن تحذيرها قد يجعلها في موقف صعب لن تفلت من شراسة العقاب الذي ستناله إن هي تفوّهت بما لا يُسمح به.. ثم قالت لها رغد بشيء من الارتياح..
- أتمنى معرفة أين تسكنين كي أذهب معك وفي الطريق نتحدث سوية.. براحتنا.
شعرت فائزة أنّها إذا أخبرتها الحقيقة فلن تحصل على ما تريد، فتركت جانبا الإجابة عن مكان سكنها وقالت:
- ستعرفين لاحقاً أين أسكن، ولكني أود أن أسألك عن الأمور الاجتماعية التي تديرينها في الاتحاد.
تحدثت لها رغد عن مشاكل النساء المعقدة والخطيرة مع أزواجهن أو آبائهن أو أولادهن، وكيف يقوم الاتحاد بتحذير الزوج أو الأب أو الأخ أو الابن من مغبة التمادي معهن، حدثتها عن بعض النساء كيف يلُذن بالاتحاد بحثاً عن عمل فيجد لهن العمل، تتحدث وهي تعلم أنّ نصف ما تقوله أكاذيب والنصف الأخر حقائق مشوهة لا تمتّ للواقع بصلة، ولما انتهت من الحديث، استأذنتها فائزة وقالت لها:
- سأذهب إلى غرفتي، يمكن الرفيقة فاتن أضاءت المصباح، ولكننا، سنتحدث كثيراً .
غادرت الغرفة وهي تتوجس أن تجد المصباح مضاءً ولما رأته مطفأً، استرخت على الأريكة، وفكرت في كل كلمة قالتها رغد، ووجدت ثغرات وأكاذيب كثيرة.
تركت زيارة فائزة في نفس رغد انطباعا بالراحة، وتمنت أن تخبرها بحقيقة هذه المرأة، لكنها لم تجد الوقت المناسب، وأرجأت ذلك إلى وقت آخر، لأنها تنظر إلى النافذة، لترى الداخلين إلى مبنى الاتحاد، تريد أنْ تجري حوارها الدامي مع عليان بشأن شريط الفديو الإباحي وهي جالسة قلقة تبحث عنه، غضبها لم يهدأ، وشعورها لتحقيق أهدافها لم يزل يثير في نفسها الهوى في إمكانية اختراق العائلة المالكة "خسرت كل شيء، فما الذي سأخسره أكثر إذا ما فشلت في ابتزازه؟ " أمّا الموت فلا تأبه به لأنها خرجت من أنيابه ذات يوم، وتجزم في نفسها أنّ مسكن والدها المعوق ليس أهون عيشًا مع صديقة تسكن الأقسام الداخلية، في الأحوال كلها ميتة.
لكن عليان لم يأت هذا اليوم، والدوام الرسمي يوشك على الانتهاء، دون أن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، فشريط الكاسيت ما زال في حقيبتها ولا يمكن لفاتن أن تشكّ بسرقته لأنها وضعت بديلا عنه في المسجلة.
انصرف الجميع، بعد انتهاء الدوام، وآخر الخارجين ، فاتن وفائزة، اللتين صعدتا سيارة التويوتا وانطلقت بها إلى البيت.
ولما أدخلت فاتن السيارة في المرآب، وجدت الباب الداخلي مفتوحاً، فشعرت أنَّ امراً مريبًا قد حصل، ربما سبقها القواد إلى البيت، فطلبت فاتن من فائزة أن تذهب إلى جهة باب المطبخ لكي يتسنى عدم مشاهدتها عليان وهي تدخل إلى البيت، وفعلت فائزة، ودخلت فاتن فلم تجد أحداً، صاحت على سندس، غير أن لا جواب، بحثت عنها في الغرف كلها، فلم تكن موجودة.. وقفت في منتصف الحوش وزعقت بأعلى صوتها "سندس".. دون جواب.
عرفت فاتن أن سنسدس هربت من البيت فقد أخبرتها أوّل أمس أنّها ستغادر دون أن تقول إلى أين يمكنها الذهاب؟!
أحسّت فاتن أنّها بدأت تفقد هدوء أعصابها أثناء إعداد الغداء، فيما فائزة تغسل الأطباق وتصغي إلى سيل متدفق من الشتائم والسباب "أين ذهبت القحبة، ليس هناك أحدٌ بالدنيا يمكنها اللجوء إليه سواي؟ "، فائزة صامتة طوال مدة هذيان فاتن.
وبقيت تتحدث بالعصبية نفسها وهي تتناول طعامها، واستمرت هكذا حتى بعد تناولها الشاي ولم تهدأ إلا بعد إيوائها فراش القيلولة. تراقبها فائزة و لا تود استثارة أعصابها بأي سؤال ولما أغلقت الباب عليها تنفست فائزة الصعداء وجلست في غرفة المعيشة لوحدها، فتحت جهاز التلفاز لتجد نفسها تستمع إلى أناشيد المعركة، فأغلقت الجهاز فورا واستلقت تفكر في حفلة الليلة.
وبعد ساعتين استيقظت فاتن من نومها ووجدت فائزة تجلس في غرفة المعيشة تنظر إلى السقف.
- ألمْ تنامي؟
- لا أحب نوم الظهيرة.
تعرق جسد فاتن ، وفضلت أن تسبح مع فائزة، غير أنّها عندما نظرت إليها، وجدتها قد اغتسلت قبلها، ندمت ، وتمنت أن ترى أكثر التفاصيل تشويقا في جسدها، لكن فائزة، من حيث لا تدري، فوتت عليها الفرصة فدخلت فاتن الحمام بمفردها، وأشعرها الماء بإحساس لذيذ، حاولت طرد سندس من ذهنها، رغم أنّها متعلقة بها وتمثل لها الانصياع التي تنشده.. أمّا هذه الصامتة، المتعجرفة ، والمبطنة، فقد تخشاها وتشعر إزاءها بالتحدي، وقد قبلت الرهان، بأن تجعلها، ترتقي أعلى المراتب، بإدارة العلاقات الاجتماعية المتطورة مع كبار شخصيات الحكومة، وليس مع أساتذة صغار يخافون ظلالهم لمجرد أنْ يسمعوا بالأستاذ الكبير.
خرجت من الحمام بالبرنص، ودخلت إلى غرفتها، ارتدت ملابس البيت، وجـاءت لتجلس في غـرفة المعيشة مـع فائزة، غير أنّها اختفت لتحضر لها الشاي :
- تفضلي.. أعرف أنّك تحبين الشاي كثيراً.
- وأنت.. ألا تحبينه؟
- كلا.. تناولت عصير البرتقال.
- ماذا سترتدين للحفلة؟
ابتسمت فائزة ولم تجد الكلمات المناسبة لتخبرها بعدم امتلاكها الملابس، ففهمت فاتن مغزى ابتسامتها:
- اختاري ما تشائين من ملابسي، أنت عزيزة عليَّ، اذهبي إلى الغرفة واختاري.
توقفت عن الاسترسال، وفطنت إلى أنّها تود رؤيتها بشكل أفضل تعويضاً عن فقرة الحمام..
- تعالي سأختار لك ما يناسبك وسألبسك الثوب بنفسي.. هل رأيت دلالاً مثل هذا من قبل؟
فائزة مستسلمة لإرادة فاتن، واستغربت إصرارها على تعريتها في غرفتها وتلبيسها الثوب بنفسها، تمعنت بالفكرة جيداً، وقلبتها ظهراً على بطن، فوجدت الحل الأمثل:
- اختاري لي ما تشائين، ولكن سأرتديه في غرفتي.
لم تعجب فاتن هذه الكلمات، ولكنها إزاء التحدي، وعدم فسح
المجال لأيّة ثغرة في سلوكها، أيّدت أقوالها، فاختارت لها ثوبا قصيراً يبرز مفاتن الركبتين، ولما شاهدته فائزة، رفضته:
- هل نسيت أنّنا مدعوتان إلى مائدة زوجة وابنة الوزير (فلان).. وينبغي للحشمة والتواضع أن تعبرا عن شخصيتينا.
فوجئت فاتن بهذا المنطق "سأرى أين سيكون مكان الحشمة عندما يفترسك الأستاذ في ليلة حمراء لن تنسيها طول حياتك ".. فقالت:
- أنا مع الحشمة.. ولكني رأيت أنّ هذا قد يناسب عمرك.
- الملابس لا تمنح هوية لأعمارنا.
شعرت فاتن بالدوخة وعدم التركيز، وتساءلت في نفسها عن فحوى ما قالت هذه المتعجرفة وما تقصد ببواطن كلامها.
اختارت فائزة ثوبا مناسبا وأخذته إلى غرفتها، وضعته على السرير، وخطت خطوتين إلى قفل الباب فأغلقته عليها، ثم خلعت ملابسها وارتدت الثوب، فبدت محتشمة، ولكنه مثير، وضيق عليها من جهة المؤخرة فقالت في نفسها "أفضل بكثير من ذاك".
وبعد ساعتين وصلت الفتاتان إلى نادي الصيد، وقبل دخولهما بالسيارة، تم تفتيشهما بدقة رغم بطاقة التعريف الشخصية التي قدمتها
فاتن، وورقة الدعوة الشخصية، ثم سمح لهما بالدخول..
شمت فائزة لأول مرة روائح أشجار متراصة بعناية بالغة في ممرات
النادي، وثمة عطور لورود القرنفل والجوري والرازقي والبنفسج تسبح في فضاءات الليل الذي جملته مصابيح منتشرة بعناية فائقة، على أنواع من الحدائق المتناظرة، تقطع أوصالهما ممرات للمشاة، تتجه الفتاتان إلى الحديقة الخاصة التي لا يستطيع الوصول إليها أيّ فرد من المجتمع سوى رجال الحكومة وأبنائهم ونسائهم، هناك على المسرح الصيفي تعزف فرقة ألحاناً غربية ، العزف هادئ وأنغام الموسيقى تتحدث لوحدها، حتى أنّ فائزة شديدة الملاحظة، لم تجد مكبرات للصوت تنطلق منها الحان الموسيقي الأخاذ.
فاتن تبحث عن نادل ليجلسها في المكان المخصص لهما، وعندما عثرت عليه ناولته بطاقة الدعوة، فتقدم الشاب الذي يرتدي بدلة أنيقة خاصة بالندل وأشار عليهما بمنضدة جلستا حولها.
مضت ساعة أو أقل، حتى جاءت سيدة ترتدي ملابس أنيقة ومعها ابنتها بملابس مثيرة، تعرفت فائزة إلى السيدة والفتاة وجلستا بمواجهة المسرح وقدمت لهما قناني المياه الغازية ، ثمة همس بين فاتن والأم زوجة الوزير ولكن لا حديث بين فائزة والفتاة ابنتها التي تبتسم كثيراً، وقلقة في البحث عن الوجوه، سريعة الالتفات، وقدرت فائزة أنّهـا تكبر الفتاة بسنة أو سنتين "خفيفة ابنة الوزير ، لا أدري عماذا تبحث"..
جاء المطرب الذي يبث التلفاز أغانيه دائماً، ورقصت بعض الفتيات مع إيقاعات سريعة اختارها المطرب في نهاية وصلته الغنائية المملة.
استأذنت فائزة لتذهب إلى الحمام فأخبرتها عن مكانه، ذهبت إلى الحمام ووجدت فيه عددًا من النساء يتحدثن بهمس عن أخريات، دخلت المرحاض وبقيت مدة طويلة، تستمع فائزة إلى حوارات تافهة عن أسرار العوائل التي تتحكم بمصير هذا البلد، وبين كل عبارة وأخرى تطفر إلى أسماعها كلمة "الأستاذ" ولا تدرك فائزة أيّ أستاذ مقصود بالموضوع، فالكل أساتذة، وعندما خرجت ووصلت إلى المنضدة ، توجهت الأنظار كلها إلى منضدة معينة، النساء والرجال والندل وثمة شبان يرتدون الزيتوني أحاطوا المكان كله.. همست فاتن بأذن فائزة:
- الأستاذ وصل.
لم تفهم فائزة من يكون الأستاذ ولكنها هزت رأسها موافقة على ما أشارت إليه أصابعها، ارتفعت حرارة الرقص والغناء إلى مستويات أخرى، هناك فتيات خلعن أحذيتهن وشددن الأربطة حول مؤخراتهن وهن يتمايلن ولم تكن فائزة بحاجة لتعرف دوافع رقص كل هؤلاء الفتيات أمام منضدة مخصوصة بعينها، ترى بعض مسؤولي الحكومة يتقدمون إلى منضدة الأستاذ ومعهم فتياتهم ليسلموا على الأستاذ الذي لم يتعب نفسه لينهض ويمارس البروتوكول الأصولي بالوقوف لمن يتقدم بمصافحته، لكن عقل فائزة لم يستوعب سرّ اصطحاب الآباء لبناتهم، ومن ثم السماح لهن بتقبيل الأستاذ على خده.
فجأة، انزعج الأستاذ، فتوقفت الموسيقى، اتجهت الأنظار بسرعة إلى منضدة الأستاذ لترى ما الذي سيفعله، يضع بجانبه مسدس "غدارة" ويقف خلفه شاب لا يضحك ولا يفتح فمه ولا يغني بل يتطاير الشرر من عينيه.
طال انتظار المدعويين لصمت الموسيقى والأستاذ لم يزل منزعجاً، تقدم المطرب من منضدة الأستاذ بعد أنْ همس أحد "الزيتونات" بأذنه، تقدم بخطوات سريعة، ووقف منحنياً أمام الأستاذ.. فائزة تراقب مثل كل الحاضرين ما يفعله الأستاذ بالمطرب، لا أحد بمقدوره الاستماع إلى الحوار بينهما، غير أنّ الناس شاهدت المطرب يخلع فردة حذائه ويقربه من أحد رجال الحماية الذي يحمل قنينة بيرة فصب في جوف الحذاء كل البيرة،، حمل المطرب الحذاء بعناية فائقة، ثم حدث ما لم يكن يتوقعه أحد، أخذ المطرب يحتسي البيرة من حذائه، حتى كرعه كما يبدو كلّه، ثم أشار رجل الحماية إلى الموسيقى لتنطلق وسط ضحكات أطلقها الأستاذ فانطلق الجميع يضحكون معه.
كان مشهداً مثيراً، لم تتصور فائزة أنْ تصل حالات الجنون إلى هذا الحد ولكنها هضمت ما شاهدته قياسا بما سمعت عنه من أحاديث الناس، الشعب كله يتحدث عن جنون الأستاذ لكنها الآن تراه أمامها ماثلاً كيف يعبث ويتراقص وهو جالس في مكانه مع الفتيات اللواتي يحطن به.
أبنة الوزير الجالسة بقربها ، نهضت حافية القدمين ومشت باتجاه الأستاذ، انحنت عليه وقبلته وهو يمسح يده على مؤخرتها، ثم عادت فرحة ومسرورة ولا تصدق أنّ يده لامست مؤخرتها أمام أنظار الناس، والناس أجمعهم يعرفون من تكون، ولم تمتعض الأم من سلوك ابنتها ، تركت فاتن المنضدة وذهبت تنتقل إلى مناضد أخرى، كالفراشة، لاحظت فائزة أنّ الأمّ تبدو أنّها تتمنى لابنتها أن تقدم على ما أقدمت عليه، ويبدو من خلال إشارات ليست غامضة على مدارك فائزة بين البنت وأمّها بأنْ تكرر ما فعلت، غير أنّ الفتاة اوضحت لأمّها التريث حتى تكمل شرب كأسها .
في أثناء عزف الموسيقى الصاخب، أخذ الأستاذ يطلق العيارات النارية في الهواء، ولاحظت فائزة أنَّ المطرب أخذ يغني بخوف، ارتعاش صوته في المكبرات يثير الضحك والسخرية من قبل الحاضرين جميعاً، وشاهدت فائزة أنّ ما بين فخذيه ثمة بقعة مبللة، فأدركت حجم الخوف الذي يعيشه حاليًا، وجدت نفسها الوحيدة التي تعاطفت معه، وشعرت بالخجل والمرارة التي يمر بها في تلك اللحظة.
لا أحد يعرف دوافع الأستاذ من إطلاق الرصاص في الهواء، غير أنّ فائزة تدرك تلك الدوافع الخفية وظلت تراقب فاتن وهي تتضاحك مع أحد رجال الحماية التي توجهت أنظارهما بين حين وآخر نحوها.
رجل الحماية اقترب من المنضدة التي تجلس حولها فائزة ووقف بالقرب منها :
- مرحباً.
خاطبها باستعلاء ، فيما وقفت فاتن خلفه متضاحكة، تشبك يديها أمامها بالقرب من وسطها، فقالت فائزة بذهول:
- مرحبًا.
ينظر إليها بتمعن، وشرر، مع ابتسامة فارغة لا معنى لها..
- إذنْ أنتِ فائزة.
نظرت إلى فاتن مندهشة من تسمية رجل الحماية باسمها
- نعم . أنا فائزة.. هل أضعت الطريق؟
فانطلق الرجل يضحك بقهقات مزعجة تاركا المنضدة، وعلى إثر ضحكته، ضحكت الأمّ وفاتن، إذ أن أبنتها اخذت ترقص بجانب الفتيات اللوالتي اقتربن جدا من منضدة الأستاذ.. ذلك كافي لفائزة أنْ تفهم سرَّ الدعوة والحفلة وما ترتب عليها بعدئذ.
17
أنا ناجي عباس، ضابط أمن في مديرية الأمن العامة، دُربت جيداً على الإصغاء، وكتابة التقارير التي من شأنها أن تجعل المسؤولين الأعلى درجة يرضون عني، في أثناء الحرب، نشط جهازنا في متابعة الخلايا الإجرامية التي تعمل خارج السياقات المألوفة، واجبات المراقبة والمتابعة من أشدّ واجباتنا المهنية مشقة للنفس والعقل، إذ يقتضي منك للحصول على معلومة بسيطة أنْ تبقى ساعات بانتظار خروج الهدف من مكان إلى آخر كي تتحرر قليلا لتتابعه إمّا سيراً على الأقدام أو عبر شبكة العجلات المركونة في زوايا وشوارع وساحات العاصمة حيث يجري الاتصال معها لمتابعة عجلة يقودها الهدف نفسه، ولكن في عملنا، إضافة إلى المشقة، هناك متعة، وغالبا ما تقترن المتعة بالعمل إذ يحلو لنا التعرف على نساء نمضي معهن الوقت ونستعملهن أفخاخًا لأهدافنا المتحركة أو الثابتة.
وهكذا نجحت في إقامة علاقة مع امرأة تدعى جميلة، وكانت اسمًا على مسمى، وهي زوجة صديق لي اسمه غسان عبد المجيد. أمضينا معا أربع سنوات في الكلية، كان يحب فتاة صلفة ووقحة أظنّ اسمها فاتن ارتكب معها غلطة فظيعة عندما ضاجعها ثم أجبرته أنْ يتزوجها بعد أسبوع لتنجب منه طفلة سُميت فيما بعد سمر.
غسان هذا لم يكن الوقت يسمح له بأن يفكر عميقا في المشاكل الصعبة والمعقدة التي تثيرها زوجته الثانية جميلة مع ابنته سمر من زوجته الأولى فاتن، وقد أنجبت له جميلة ابنة أيضاً، وهو كما يحدثني دائماً لا يعرف أنّ زوجة الأب، مهما اتصفت بالطيبة، لا يمكنها أنْ تتوازن أو تقف على الحياد فيما إذا نشب صراع بين الطفلتين، عندما يعود غسان في الإجازة الدورية من جبهات القتال، بعد غياب 28 يومًا يفاجأ بابنته سمر، بعدم تواجدها في غرفة المعيشة ، تتجنب أن تكون معه خشية من إثارة غيرة أختها التي إن بكت ستصب زوجة أبيها جام غضبها عليها في الصباح انتقاماً لابنتها وذلك بتسخيرها بأعمال غسيل الملابس ثم نشرها على الحبال وغسل أطباق الليل، وتنظيف البيت , غسان لا يريد أن يفتح المجال أمام ابنته ذات السبع سنوات كي يشكيها خشية من "نرفزة" جميلة زوجته.
جميلة ، كما أخبرتني فيما بعد، تضجر من حكايات الحرب التي يسردها عليها زوجها غسان، وكيف يمضون الوقت بأحاديث داعرة يفضل الجنود التحدث فيها، تلك الأحاديث الداعرة هي التي تشغل ذهن جميلة أكثر من أيّ شيء آخر، إنّها لا تريد منه أنْ تعرف كيف يأكل أو ينام أو يغسل ملابسه إذْ سبق لها أن سمعت كل هذه التفاصيل، في حديث ليلة واحدة مضت، تسخر منه بطلبها سرد المزيد من التفاصيل بشأن أحاديثهم الداعرة، مزاجها الهادئ يهيمن عليها، فيوفر لها سبيلاً للخروج من رتابة تلك اللحظات، عندما تخلع ملابسها كلها، من خلال مداعبات لسانية لا تترك مسامة من جسدها دون أن يبللها، ولما ينتهيان، تجد لنفسها متسعاً من الحرية أنْ تبوح له بسقمها من ابنته سمر التي باتت تتذمر من كل ما تأتمر به وشكت له بأنها قد تكون ملقنة من قبله بعدم طاعتها فينكر ذلك ويبدأ يقبل قدميها وفخذيها وغالبا ما يثير اشمئزازها حينما يحاول استلطافها من أجل الاعتناء بابنته.
أخبرتني أنّها أخذت تتحدث معه بملل ولا تجد سبيلاً إلى الخروج من رتابة حياتها وهي تنتظره كل شهر لكي يمضي معها أسبوعا يقضيه في الغالب مع أصدقاء يلعبون النرد ويشربون الشاي في المقهى.
كنت أعرف أيّ مأزق يدور في داخله، لقد تخلصت من مؤسسة الجيش حين تطوعت بالأمن، تلك المهنة التي لا تحتاج سوى سحق الجانب الإنساني في قلوبنا من خلال كتابة التقارير عن الناس المشكوك في أمرهم، فكنت أسأله كثيراً ويجيب غسان عن الأسئلة كلها. كنت أفضل في شخصيته السذاجة المفرطة، رغم أنّه عندما كان طالبا في الكلية يمتلك بعض الألاعيب والدروب الخفية حتى أنّه غامر في مضاجعة حبيبته فاتن قبل أن يتم بينهما أيّ تخطيط للزواج، وكنت أعرف أنَّ فاتن نجحت في ستر نفسها قبل أنْ تتحول مسألة انتهاك شرفها إلى قصة يتندر بها الطلاب في الكلية فتزوجت منه في اليوم السابع بعد الواقعة، ولما حملت منه، رمت ابنته عليه وهربت باتجاه عالمها الغامض، وطفلتها لما تزل في القماط، كنت أحبّ ثرثرته التي يكشف من خلالها حتى عن أعمق الأسرار الزوجية، فأسأله: "لماذا تقبلها من قدميها حتى رأسها، ألا يمسخ ذلك شخصيتك أمامها؟ ما الذي سيبقى لك كرجل؟"، وكان يجيبني: "أُستثار كثيراً عندما أجد نفسي هكذا".. لم يدربونا في مدرسة الأمن العامة على كيفية مواجهة حالات نفسية مثل حالة صديقي غسان، ذلك لأنّ تركيبته نادرة، وكنت منذ أيام الكلية أسخر من رغبته بإنهاء الخدمة الإلزامية ثم السفر إلى أوروبا فأقول له ساخراً: "تتوقع يسرحونك من العسكرية بمجرد إنهاء الخدمة الإلزامية المقررة؟"، فيرد: "أليس قانون الخدمة الإلزامية يسمح بإنهاء خدمة المكلّف بعد انتهاء مدته؟". أضحك معه من فرط سذاجته وأقول: "نحن في حرب يا صديقي ولن يسري قانون التسريح ما دام الوطن يواجه "الأشرار".. تذكر نحن في حرب ضد الفرس المجوس، أنا من جهتي لن أذهب إلى الحرب، سأتطوع في سلك الشرطة أو الأمن العامة، حتى ندافع عن الحرائر في الداخل ".
أمقت الحديث السخيف عن الحرب والجنود وصور الممثلات العاريات في المواضع،أبحث عن الأسرار، تعلمنا في دهاليز الأمن، كيف نجلد ظهور المطلوبين ليقولوا لنا كل شيء، وهناك الأسلوب الآخر لاكتشاف الأسرار ، كما اتبعته مع غسان للوصول إلى زوجته التي لها صلة بواحدة ظل زوجها مختفيًا عن الأنظار حتى ألقينا القبض عليه ذات يوم، كاد غسان أنْ ينفجر يوما عندما سألته عن ابنته سمر: هل تشتاق إلى أمّها؟ حدثني عن عزلتها وعدم انجذابها إليه ، وعن قسوة زوجته لها ن وعن كوابيس وصراخ تطلقه الفتاة في منامها وهروبها من فراشها ، فأقول له: "مشتاقة إلى أمّها، لماذا لا ترسلها لها، أمّها ستكون مشتاقة إليها أيضًا"، زعق غسان حتى أنّه لفت انتباه رواد المقهى "أنا الذي هربت منها، لقد تركت بيت أهلي وجئت إلى هنا، عندئذ وجدت من المناسب أن أقول ما خططت له: "هل ترغب في العثور عليها؟" فقال بتوسل وتضرع: "أرجوك، أيمكنك ذلك، ستموت الفتاة، وأمّها هربت كأنّ الأرض ابتعلتها"، فقلت له بهدوء وأنا أزِنُ كل كلمة: "دعني أرَ الفتاة، أود التحدث معها للتأكد من أنّها فعلاً تريد رؤية أمّها"، فقال بغباء لم أتوقعه: "ألا تصدقني؟ هيا نذهب إلى البيت لأجمعك بها"، كنت أطمح إلى تلك اللحظة في الوصول إلى بيت صديقي وهدفي ليس البنت طبعا بل الزوجة التي اكتشفت أشياء كثيرة عنها.
سرنا معا إلى البيت وهو ما زال يثرثر حتى وصلنا، ولم يطرق الباب فقد كان لديه المفتاح فدخل قبلي وطلب من زوجته أن تستعد لاستقبالي كضيف عزيز، وقال لها مخاطبا: "أريدك أنْ تجلبي سمر، قولي لها خالها موجود". لمحته ثم ركضت فرحة إلى سطح الدار حيث تجلس الفتاة تنظر إلى السماء والحمام والطيور ثم جلبتها ترتدي ملابس نظيفة وشعرها مصففٌ، قدم غسان قدح الماء، بعدها جلبت زوجته الشاي والمعجنات، سلمت ثم غادرت، فانتبهت إلى شكل امرأة جميلة تحتفظ بقوام رشيق ومؤخرة تهتز بارتياح.
وبعد كلمات قصيرة مع الفتاة وعدتها بالعثور على أمّها، نهضت وقلت بصوت كنت أريده أنْ تسمعه الزوجة: "أودعناكم أختنا"، فهرعت المرأة ولم تصدق أنّني قررت المغادرة بالسرعة غير المتوقعة, لكنها نظرت لي نظرة كافية لأفهم معناها، فقلت لها وأنا أرمي إلى أبعد ما في أعماقها: "كان شاياً لذيذاً وجميلاً"، ثم قلت إلى غسان بعد خروجنا من البيت: "سأعمل المستحيل من أجل إنقاذ الفتاة من عذابها".
وفي اليوم التالي، غادر غسان إلى الجبهة، فيما بقيت عبارتي: "كان الشاي لذيذاً وجميلا" تضرب في أعماقها، كما أخبرتني هي في محل سعيد ذات يوم، وسعيد هذا عرفته مؤخراً من خلال متابعتي لامرأة، كانت قد دخلت عنده، وبقيت ساعتين لم تخرج من محله المختص ببيع ملابس وحاجيات النساء: "الكماليات", وعندما تحريت عنه اكتشفت هروبه من العسكرية من خلال تقارير طبية مزورة بعجز إحدى كليتيه ، كان ذلك كافياً لأبتزّه وأجعل من محله مكاناً لجنوني وعبثي بعيداً عن رقابة زملاء ضباط في الأمن ، فحدثني سعيد عن نساء يأتين بقصد المتعة، وأخريات بقصد الحاجة، ولما سأله ملازم ناجي عن جميلة كيف تعرف عليها بهذه السرعة فأجاب سعيد : "إنها بسيطة جداً، كانت مشتاقة إلى حدّ الجنون، زوجها في الجبهة يقاتل المجوس دفاعا عن الحرائر، فجاءت ذات يوم، دخلت المحل مرتبكة، وقالت أريد لباساً داخلياً، فسألتها ببراءة ما هو المقياس، ردت وهي تبلع ريقها، قياس كبير، فجلبت لها واحداً، وسألتها: أيعجبك هذا الحجم؟ فقالت افتحه لأراه، فتحت المغلف وفرشته بين يدي، فقالت: كلا أريده أكبر من هذا الحجم، فقلت ليس لدي قياسك إلا إذا عرفت حجمه، فابتسمت بمكر، وقالت بجرأة: هل تقصد أن تراه لكي تقرر كيف يكون حجمه؟ فوجئت بقولها بالرغم من أني لم أقصد رؤيته بالعين المجردة , لكنني وافقتها لأنني متأكد من نفع ذلك بدون الدخول في اللف والدوران فسألتني: أين يمكنني رؤيته، أشرت إلى المكان المخصص لتبديل الملابس وقلت : هنا حيث لا يراك أحد، فتحركت من مكانها واتجهت صوب الغرفة الصغيرة المعدة لتبديل الملابس، وبعد هنيهات مدت عنقها من خلف الستارة، هذا متوسط أليس لديك قياس كبير، ثم دخلت إلى الغرفة، وبقيت حائراً، ثم سمعتها قالت: أتريد أن تقيسه، هل تحب أن تراه؟ دعوتها واضحة، فأغلقت باب المحل وعدت إليها، هل تقصدين أرى مقياسه؟ فقالت بغنج أكثر وضوحاً، تعال لتراه، دخلت، ما تزال ترتدي كامل ملابسها وتضع العباءة عليه ولما اقتربت منها رفعت العباءة، وعلقتها، وبقيت بالثوب، فأدارت لي ظهرها، كي تسمح لي برفعه، وهكذا فعلت رويداً رويداً، حتى ارتفع الثوب فوق خصرها، فقالت هل تراه؟ وفي الحقيقة لم أره، بل هو مهرجان من الجمال، حجمه أكبر مما توقعته، استطعت أن أذوب بسهولة، وأنا أقعي على ركبتي واضعا يدي على المؤخرة، مرتعشاً، متصاعداً وأنا أتلمس ذلك الشق، ثم وضعت أنفي فيه، ونهضت فيما أخذت يداي ترفع بقية الثوب حتى ارتفاع ذراعيها، واستطعت أن أخلعه كله فأصبحت كتلة من اللحم، عارية تماما، بين ذراعي، فالتحمت معها وقوفاً وأنهيت مشواري بسرعة ، ثم خرجت قبلها، وبعد قليل، خرجت بعدي ولم تقل أيّة كلمة، حتى أنها لم تنظر الي، أخذت اللباس فوق المنضدة ولم تنقدني مبلغه ثم غادرت.
شوقني إليها أكثر من أيّة امرأة أعرفها، ثم قلت له: "هكذا نساء يحتاج إليها نظامنا من أجل أن ينجح مشروعه النهضوي القومي الإنساني، ولطالما كان مسؤولنا الحزبي يخبرنا بأن مركز الإشعاع القومي ينطلق من العراق ولكني كنت أضحك في سري من الترهات، كان مسؤولي نقيب غرباوي الذي يركز على صيد الاهداف من خلال النساء ، فيقول "يجب ألا تفلت الهدف من بين يديك، تبعث إليه بأية عاهرة تفض زهده إنْ كان زاهداً، سبيلك إلى ذلك النساء، كلما تعرفت على عدد منهن استطعت أنْ تسيطر على منطقة العمل من خلالهن "، وهكذا وجدت نفسي أتابع أخبار صديقي غسان ومراقبة تحركات زوجته جميلة لإنّها تمضي وقتا طويلا في محال كماليات سعيد ، استطعت اختراق عالم سعيد بإرسال فتاة تمكنت من تسجيل كلامٍ ممنوعٍ وهو يطارحها الغرام في المكان المخصص لتبديل الملابس، ففاجأته ذات يوم: "أريدك أن تتعاون فقط ليس عندي شيء غير التعاون معنا"، فقال ساخراً: "كيف أتعاون؟". أخرجت له المسجلة وأدارت التسجيل وظهر له صوته وهو يتحدث عن القهر الذي تسببه الحرب في نفوس الناس، ارتبك سعيد وشعر أنّه مأخوذ وخاف أنْ يجرجر إلى الأمن العامة وربما سيسجن أو يعدم بسبب تافه، فقال لي: "أأمرني، كيف تريدني أن أتعاون معكم، أنا خادم"، وهكذا بدأ يزودني بالمعلومات عن الفتيات والنساء اللواتي يتحدثن بسوء عن القائد الضرورة ويرسل لي المعلومات عن استعداد بعضهن للوشاية بأزواجهن أو إخوانهن أو آبائهن، وعندما أخبرني باسم زوجة صديقي غسان لم أصدّق في بداية الأمر، تابعتها، فوجدت كلامه صحيحا. "ما الذي يشغل اهتمامها أكثر من أيّ شيء آخر؟"، فقال: "أشياء كثيرة، كإهمال زوجها، انزعاجها من التحاقه بالجبهة وبقائه ثلاثين يوما هناك، لكنها بمرور الوقت بعد أنْ طالت الحرب بدأت تجد سعادة في غيابه، كما أنّها تنزعج من ابنة زوجها، وتتمنى يوما يبعثها إلى أمّها ولن تعود".
أخذت أنتظره في المقهى وعندما يأتي غسان، أستقبله بحرارة وأمضي نصف الوقت معه بمجاملات فارغة نتحدث عن الحرب ولماذا طالت أكثر من سبع سنوات دون بارقة أمل، وكنت ألاحظ شعوراً عنيفاً متعاظماً بالكآبة وتخطيطه أن يصوب نفسه بالبندقية كي يعدَّ معوقَ حرب فيعفى من العسكرية. "فعلها كثيرون وهم الآن متنعمون في بيوتهم"، فأقول له: "الحرب لا بدَّ أنْ تنتهي، لكن العوق لن ينتهي، تذكر هذه النصيحة"، وفي الحقيقة كنت أرفع التقارير إلى الضباط الأعلى رتبة في الأمن وأبثّ لهم تفكير الشبان المشتركين بالحرب كيف يتحينون الفرصة لتعويق أنفسهم، وعلى إثر تلك التقارير صدر قرارٌ من القيادة العامة بعدم تسريح المعوق من الجيش ويبقى يخدم في الخطوط الخلفية، اكتشفنا هذه اللعبة ووضعت الحكومة حداً لها، فقال لي: "حكومة أوغاد"، فأضحك وأحذره ممازحاً: "لا تنسَ أنا ضابط أمن وعلى هذه الكلمة ستُعدم"، لكن غسان الساذج لا يعرف كيف يخلص نفسه من قهر يتحول إلى كلمات غاضبة، قلت لـسعيد ذات يوم: "اسمعْ سعيد ، أريدك أنْ تغادر المحل ساعة واحدة، لدينا واجب". لم أبذل جهداً كبيرا لإقناعه بضرورة ترك المحل، تركه صاغراً، وكانت كل امرأة تطلب حاجة أعتذر منها لنفادها حتى أطلّت جميلة، ففرحت بها، وهي فوجئت بي: "ماذا؟ هل تركت عملك في الأمن وأصبحت بائعا للعطور؟" لم أتعب معها كثيرا، قلت لها إن "سعيد أخبرني كل شيء من فقرة اللباس الداخلي الكبير حتى آخر مرة كيف عضك من مؤخرتك"، فقالت: "ماذا تريد الآن؟" بعد خروجها من غرفة تبديل الملابس قالت لي: "اكتشفت كيف يصبح رجال الأمن أنذال يستغلون أيّ شيء للوصول إلى مآربهم". استغربت لهجتها: "ما دليلك على نذالتنا؟" فسخرت ضاحكة: "خيانة صديقك بمضاجعة زوجته". قلت لها: "دعيني أخبرك ما عليك عمله، وأخبرتها كيف تراقب البيت المقابل لبيتهم". فقالت لماذا طلبت مني مراقبة هذا البيت بالذات؟" فقلت: "أمور تدخل في صلب عملنا أريدك أنْ تسجلي رقم أيّ سيارة تأتي إليهم ليلاً، هذا عملك". وبخبث ومراوغة سألت: "وأنا ماذا أستفيد من ذلك؟" ضحكتُ وقلت لها: "سأزيح عنك ابنة زوجك إلى الأبد".
راقبت جميلة وهي تخرج من المحال، ولما وجدت سعيد يجلس عند باب أحد المقاهي القريبة من السوق هزت يدها، ورمته ببصقة تعبيراً عن امتعاضها منه لكشفه أسرارهما.
وخلال أسبوع جاءت قوة مفرزة من رجال الأمن، أخذت صاحب البيت وابنه اللذين يسكنان في البيت المقابل لبيت غسان، وأخبرتني جميلة فيما بعد أنّ معلوماتها التي أرسلتها لي عن رقم السيارة التي باتت عندهم في تلك الليلة كانت سببًا فيما حصل لهم من مأساة.
18
وصلت سيارة اللاندكروز وفيها كريم ومنيف إلى مزرعة الأستاذ أثناء غروب الشمس التي تداعت خلف الأشجار الكثيفة المحيطة بقصره.
دخل كريم غرفته شاعراً بفرح غامض وهو يستلقي على السرير، مسترجعاً بسرعة شريط الأحداث التي مر بها مستفهما معنى ما يحصل، غير أنّه لم يستطع، "لو لم أكن رساماً كان يمكن أنْ أصبح وجبة دسمة للكلاب كما فعلوا بالشبان التسعة في ذلك النهار".
الرسومات الملقاة على الأرضية بعضها شبه جاهز والبعض الآخر تخطيطات أولية لمشاريع قد ينفذها قريباً. "أين أنت يا سازوكي لترى كيف أصبحت أجيراً حيث أرسم بدون مقابل، حياتي مقابل الرسم، ما أجمل أن يكون للإنسان موهبة تصبح له قشة في بحر الموت المجاني".
أصبح كريم متأكداً الآن بأنّ الموت الذي ينتظره، تأخر قليلا، وربما غادر المساحة التي يوجد فيها.
دخل منيف فجأة وجلس على حـافة السرير واجماً، فنهض إليه
كريم مستغربا، إذ كيف يمكن لمنيف أنْ يكون بهذه الحالة المزرية؟
- ماذا بك؟
أجاب من غير أنْ ينظر إليه:
- اكتشفوا "الرسمة" وأخذوها إلى الأستاذ.
بقي كريم مذهولا، انتظر ثوانيَ حتى يكمل، غير أنّه يعرف صاحبه، لا يكمل أيّ كلام إلا إذا سأله، جزء من البلادة في شخصيته اكتشفها فيه..
- وماذا بعد؟
رد بحزن وخوف:
- سيعاقبني الأستاذ، وسيرسلني إلى القرية.
ازداد استغراب كريم، وشعر بالخطر الداهم..
- إلى القرية! وماذا بشأني؟ هل سيعاقبني أيضاً؟
- لا أدري، ربّما!
وقع قلب كريم بين يديه، إنّه في موقف يصعب عليه تحمل الألم مرة ثانية، لكن عقله قلّل من أهمّية الحماقة المرتكبة، لذلك وجد نفسه يضحك من منيف..
- لن يتخلى عنك الأستاذ بسهولة.
رد منيف ، بصوت متحشرج:
- أنا قلق عليك.
ثم سرد حكاية أحد الأتباع عندما شكّ فيه الأستاذ مختلساً لبعض المال في مشروع معين، كيف علّقه من قدميه في مروحة السقف إلى مستوى لا يمكن للكلاب الوصول إلى وجهه إلا إذا قفزت، اسمه عباس، يدير له شركة من شركات بيع الخمور، التي تأتي إلى الأستاذ من كل أنحاء الدنيا، ويبيعها إلى المحافظات، وعندما سأله الأستاذ عن المال قال:
- الشاحنة صادرها أحد المسؤولين سيدي، ولا أعرف من هو، السائق أبلهَ، فقيل له تعال أفرغ حمولتك في مخازن بيت الأستاذ (فلان) فصدق الأمر وأفرغها، ما ذنبي سيدي إذا كان السائق أبلهَ.
باغته الأستاذ بصعقة على ظهره بسوطه الكهربائي ، فأطلق عباس صرخة مدوية ترددت صداها في ارجاء المكان ، فزعق به الأستاذ: "لماذا لم تخبرني في يومها، لماذا تأخرت أسبوعاً قبل أن تخبرني بالأمر الآن؟" كان يبكي ويصرخ من الألم وثمة مياه خرجت من فمه وما بين ساقيه، فرد عباس: "كنت مشغولاً أستاذ، لا أحد بإمكانه الاقتراب منك في تلك الأيّام، وعندما تذكر الأستاذ شيئاً ما، أوقف عملية تعذيبه ثم قال لهم أنزلوه ، و عرّوه، فألقوا عليه الزيت ، ثم أجلبوا لحما مفروما وغطوا به جسده . تركوه وحيدا في غرفة السجن ، حتى العصر، وبعدها أطلقوا عليه كلاب الأستاذ الجائعة ، وانتهى كل شيء.
- ماذا تعني "انتهى كل شيء؟".
منيف ظل صامتاً، لا يحب أنْ يوضح أكثر من اللازم، فهو يخشى العيون التي تراقبه وقد أخبره ذات يوم أحد الحرس ممن يبيت بالقرب من سريره عن علاقته بـ "أبو رسمة".
عقل كريم لا يود تضخيم الحادث كي لا يترك نفسه فريسة للتعاسة، إنّه مستسلم إلى النهاية بمصيره المحتوم، ولا يريد إهدار الوقت بحثا عن حلول ليضع منيف في الموضع الصحيح ولكي يقنع الأستاذ بأنّ ما فعل ليس خطأ منه، إنه رسم وانتهى.
لكن الأحداث تسارعت بعد ساعتين، عندما سمع كريم جلبة واضحة وكبيرة في القصر الصامت على الدوام، أطلّ من نافذته الوحيدة فوجد ثلاثة شبان مقيدة أياديهم إلى الخلف يجرون بالحبال إلى عمق الغابة، والأستاذ يقودهم، وقبل أن يصل إلى منتصف الطريق، وقف، وأعطى حبل اقتيادهم إلى أحدهم ثم نظر إلى مكان حجز كريم، فجاء إليه يسير بخطواته الواثقة، الراقصة، المتبختره، كأنّما كان نافشاً ريشه كالطاووس، مرتدياً تلك البدلة الرصاصية اللامعة وبيده السوط الكهربائي، كريم استولى الذعر على أعصابه، فجلس في زاوية الغرفة مستسلمًا تمامًا للموت.. فدخل الأستاذ ومعه طاقم الحاشية، لكن نظراته دلت على نوع من الفرح الغامر..
- انهض.. لماذا أنت خائف؟
نهض كريم مرعوباً، ووقف في مكانه في الزاوية.
- تعال معنا اشهد كيف نتسلى بالوقت.؟
لم يكن أمامه إلا تنفيذ الأمر.
- أصبحتَ واحداً منا، فلا تخف!
التفت الأستاذ إلى أحدهم، وقال:
- رافقه حتى يرتدي ملابسه العسكرية.
ارتديت الملابس الزيتونية بسرعة ولم أصدق ما يجري، إذ يبدو أنَّ الأستاذ نسيَ أو تناسى قصة "الرسمة" لمنيف وابنه، فخرجت مع المرافق باتجاه غابة الأشجار.
همس رجل الحماية بأذن كريم: "هؤلاء الثلاثة تلاميذ في الكلية، تحرشوا بصديقة الأستاذ". لم يفهم كريم لماذا أسره رجل الحماية بهذه المعلومة ، وهو يعرف أنّه ليس من جلدتهم، "ربما أغراه ارتداء الزيتوني وملاطفة الأستاذ لي فتصورني واحداً من الحاشية".
كريم بحاجة إلى مدة من الوقت كي يستوعب ما يجري حوله" ربما نسي الأستاذ هروبي من العسكرية، وأنهم اقتادوني إلى هذا المكان كي أخبرهم بعنوان ابنة خالتي ومكان اختفائها، لكن الأستاذ لا ينسى".
داخل الغابة هناك إسطبل للخيول، أدخلوا الشبان الثلاثة، ثم تبعهم دخول رجال الحماية وآخرهم دخل الأستاذ فتبعته مع رجل حماية برفقتي. طُلب منهم خلع ملابسهم، خلع اثنان، وبقي الثالث مكابراً، عنيداً، فاقترب منه الأستاذ حاملاً السوط الكهربائي وهوى به على ذراعه الأيسر فسقط التلميذ، ثم نهض مسرعاً يخلع بنطلونه وقميصه ولباسه الداخلي، ثم جُلبت ثلاث قناني ويسكي فارغة ووضعت بأماكن متباعدة، وأمروا بالجلوس عليها.
لم أتصور أن تبلغ الوحشية بعائلة القائد الضرورة هذا المستوى من القسوة والبطش".
ولما أمضينا ساعة في الإسطبل وقد تحول المشهد إلى مأساة بما جرى للشبان من إهانة وتجريح لكرامتهم ومؤخراتهم، خرجنا منه، وطُلب منهم ارتداء ملابسهم، وعدم تكرار ما فعلوه في الكلية.
مسكني الأستاذ من يدي وهو يأخذني إلى قصره، فدخلت إلى مكان طالما أستغرقت بمشاهدته من الخارج ، رأيت السقوف العالية والجدران التي زينت بلوحاتي "هذا الحجي، وهذه الحجية، وهذه ال..". سبع لوحات أعرف كل تفاصيلها وألوانها وخطوطها وعدد القطرات من الزيت التي رشقتها على الجنفاص، وقد علقت على جدران صالة البيت الدائري بطريقة مناسبة، جلس على الأريكة، بقيت واقفاً، وخلفي يقف ثلاثة من رجال الحماية.
- اجلس كريم.
ابتسمت بخجل وخوف وافتعال:
- كيف يمكنني الجلوس مع جنابكم؟
ضحك الأستاذ بطريقته المثيرة للاشمئزاز.
ثم نهره بقوة:
- قلت لك اجلس.
فجلست بعيداً عنه، مقرفصاً، لاصقاً ساقي إلى بعضهما واضعاً يدي عليهما..
- أنا أختلف عن البقية ، لكن عندما يقترب أحدٌ من ممتلكاتي "أخوزقه". تذكرت المتوكل العباسي كيف كان يضع معارضيه على الخازوق وبالأسلوب نفسه.
- ممتلكاتي ليس السيارات والمزارع والخراف، بل النساء والأصدقاء وأنت.
لم أستطع هضم ما كان يريد قوله، فبقيت صامتاً..
- نعم.. أنت من ممتلكاتي، أتفهم؟
"أومأت برأسي موافقاً إذ ليس لدي الشجاعة لقول لا"، أدرك كريم أنّ الأستاذ يسلي نفسه ويعبث معه، ويراوغه، صفق مرتين، فجاءت الخادمة الجميلة ، تبتسم على طول الوقت، جلبت له قنينة وكأسين..
- أشربت الشمبانيا من قبل؟
أشار كريم برأسه أنْ كلا، فصبت الفتاة كأساً له، وكأساً لكريم.
- اشرب.. بصحتك.
كرع شرابه بسرعة، والكأس ما زالت بيده، ثم وجه إلى كريم نظرة متفحصة وغاضبة..
- اكسر هذه الزجاجة برأسك الآن إذا لم تشربه بالسرعة نفسها.
خاف كريم من تهديده فاستجاب له ثم وضع له كأساً آخر، وطلب منه أن يشربها بسرعة، وثالثة ورابعة، والأستاذ يتسابق معه في شرب الكؤوس، إذ كلما صب لكريم كأساً، صب لنفسه آخرى..
- هيا بسرعة.
وفي الكأس السادسة، توقف كريم، بعد أنْ شعر أنّ الدنيا تطوح به ، اختفى كل رجال الحماية، وبقي الأستاذ وكريم وحدهما.
- أريدك صديقاً لي.. فهل تقبل؟
قال كريم بصعوبة:
- لي الشر...ف.. سيد...ي.
- امشِ معي.. لنتجول.. في المزرعة.
مشى معه، يسير بصعوبة بالغة، فيما يمشي الأستاذ كالطاووس، مترنحا قليلاً.. صفق مرة واحدة، فخرج أحدهم من اللامكان، لم يعرف كريم من أين ظهر رجل الحماية..
- هات لي بندقية.
بعد مضي لحظات ، جلبت له بندقية صيد :
- ضع برتقالة على رأسك!
بدأ كريم يرتجف، وضع البرتقالة، ثم سقطت، ثم وضعها مرة ثانية وسقطت، أخيراً نجح باستقرارها ، فيما خارت قدما كريم، وقف الاستاذ على مسافة عشرين متراً يصوب باتجاهه، غمض كريم عينيه، لا يريد أنْ يموت في هذه اللحظة بالذات وقد دب في رأسه دبيبها.
- افتح عينيك يا قشمر؟
فتح كريم عينيه، ورأى الأستاذ يصوب نحوه، وشعر إنه من الصعوبة تثبيت قدميه، فقال كريم: "إذن وداعاً للحياة، هذه هي اللحظة الأخيرة التي بقيت من عمري".
فقال الأستاذ:
- جاهز؟
ثم ضغط على الزناد، فسقطت البرتقالة من على رأس كريم، تسديدة موفقة إلى حد غير معقول، فيما شعر كريم أنَّ حياة جديدة كتبت له، رمى الأستاذ البندقية وسحب ذراع كريم ..
- تعال أُرِيك بطولاتي.
تجرأ كريم على القول:
- كنت بطلاً في الرمية.. أستاذ.
ضحك الأستاذ بصوت يثير التقزز، إذ سبق له سماع كلمات المديح من الحاشية وغيرها، فمازح كريم قائلاً:
- هل تريدني أن أجرب ثانية معك؟
ينظر إلى كريم وهو يتذكر وعد فاتن بجلب فتاة جميلة مساء أمس، غير أنها لم تفِ بوعدها، فاحتقرها، وبدأ يبحث من خلال عليان عن واحدة لا تتأخر بوعدها.. تعاظم شعوره بالكراهية من فاتن وقد مارس معها ذات ليلة تمارين كانت قاسية ما دفعه إلى أن يتذكرها الآن.
يمسك الأستاذ بذراع كريم وهو يترنح، مرة متقصداً ومرة بدون قصد، ومن جهته بقي كريم صامتا يكتم في داخله سخرية مريرة من فراغ يعيشه الأستاذ، حيث يرى كل شيء متوفراً لديه، الدنيا بأسرها بين ذراعيه، لكنه يشعر بالإحباط واليأس والقنوط، فيفرغ يأسه في كؤوس الشمبانيا، هكذا استنتج كريم تقلبات شخصيته وهو يقوده إلى القصر ثم أخذ يسرع لكي ينزوي معه في غرفة من غرف القصر العديدة.
جلس الأستاذ على السرير متهالكاً فيما بقي كريم واقفاً في مكانه عند الباب:
- أغلق الباب.. وتعال اجلس هنا.
طلب منه الجلوس على كرسي بجانب السرير، فنهض الأستاذ إلى دولاب أسود ذي واجهه زجاجية لماعة، وقف الأستاذ مترنحاً أمام الدولاب ففتحه بصعوبة ، هناك عددٌ من أشرطة الفديو، يبدو أنه يبحث عن أحدى بعينه ، فلم يستطع العثور عليه، يدير رأسه ذات اليمين وذات اليسار ويداه تبحثان، ليست هناك فائدة، "لا بد أنّ الخمرة أفقدتني تركيزي"، فاستل أحد الأشرطة وحمله إلى جهاز الفديو ثم ضغط على زر التشغيل وبدأ العرض..
أصيب كريم بالذهول مما يرى، صورة شبه ثابتة، على سرير ما، بحث في زوايا عقله عن السرير، إنه لا بدَّ هذا السرير الذي استلقى عليه الأستاذ قبل قليل، نظر إلى الأعلى، ولم يتم عثوره على مكان الكاميرا رغم أنّ الخلفية نفسها الواضحة أمامه في الصورة، شعور كريم الذاهل جعله يستبطن البحث عن مكان الكاميرا ولم يتأخر كثيراً ، فقد وجدها خلف لوحة زيتية قديمة، ثقب رسمه الفنان في الكوخ، هو نفسه المكان المخصص للكاميرا الصغيرة، نجح كريم في العثور على مكان الكاميرا لكنه لم يستطع معرفة من سيدخل في كادر الصورة الثابته، الأستاذ يقف عند جهة الفديو يحاول أنْ يقدم الشريط إلى الأمام، وعندما لمح حركة في الصورة، أوقف التقديم، وأعاد قليلا الشريط إلى الخلف، ظهرت فتاة، قد بدأت تخلع ملابسها، وحدها في الغرفة، واقفة في مكان لا يبدو منها وجهها، تبين ظهرها فقط في الصورة، مشت الفتاة باتجاه المرآة ووقفت أمامها، تتمعن بجسدها، ولا يدري كريم هل الفتاة محبطة أم سعيدة! زوايا عقله ترشده إلى تحليل وقوف الفتاة أمام المرآة، ثم بعد قليل، تركت مكانها، لتأخذ بالسير بطيئًا في أنحاء الغرفة الواسعة، حتى اقتربت من اللوحة، أو الكاميرا، فرأى كريم وجهها، تمعن فيه، وجده يعبر عن إحباط شديد، ثمة حركة دوران في عينيها، تبدو قلقة، كأنها تنتظر الخلاص.
الأستاذ يراقب كريمًا ولما وقفت الفتاة طويلاً أمام اللوحة، جمد الصورة على ملامح وجهها.
- هل تستطيع رسم هذا الوجه؟
شعر كريم بالتعاطف مع الفتاة مع أنّها عارية تماما، لكنه وجدها مسلوبة الإرادة، قد دفعت إلى هذا المكان بغير إرادتها.. هكذا
حدثته ظنونه.
- أستطيع بكل سرور.
صفق مرتين، فدخلت الخادمة الجميلة بعد دقيقة، حاملة الصينية وفوقها زجاجة الشمبانيا والكأسين ثم وضعتها على طاولة، وغادرت..
- فيما بعد، ستأتي بأغراضك لترسمها، أريدك أنْ تجسد وجهها بشكل حقيقي مثلما فعلت مع صور الحجي والحجية وبقية أفراد العائلة؟
تمنى أن يستمر بث الحركة في التلفاز غير أنّ الأستاذ انشغل بصب الكأسين، وشعر هو بحاجته إلى الشراب وقد أوشكت تلك الكؤوس على الاحتضار في عقله، كرع كريم كأسه بسرعة مثلما يفعل الأستاذ، متشوقاً أن يرى نهاية لهذه الحكاية، ويصب الأستاذ لنفسه المزيد من الكؤوس ويقول بلسان ثقيل..
- أنت.. صد..يقي، وأنا.. أحبّ الرسامين، حتى يقولوا عني مثقف.. الأستاذ مثقف.. يصادق الفسكانين، العفو، أنا لا أريد أغلط، لكن أنتم الفسكانين، لا أدري كيف تأتي إليكم "العبغرية"، أنت عبغري، أليس كذلك؟
كريم يصغي وفي الوقت نفسه متشوقا لكي يرى ما هي قصة هذه الفتاة، ما الذي يحصل بعد انتظارها الطويل الممل..
شغل الأستاذ جهاز الفديو وبدأت الصور تتوالى ، فتحركت الفتاة واتجهت صوب السرير، صعدت، استلقت على بطنها، مضت مدة، أحسّها كريم طويلة جدا، ثم انقلبت الفتاة لتنام على ظهرها فيما أنظارها تتجه إلى الباب أن يفتح، لكن بدون جدوى .
نهض الأستاذ من مكانه، واتجه صوب الجهاز فأطفأه.
- إلى هنا يكفي ما رأيت من الفضائح.
سأله كريم وقد شعر بموجات من الجرأة تتصاعد في عقله المتشرب بالخمرة..
- أحب أن أسأل ماذا حصل بعد ذلك؟
أطلق الأستاذ ضحكة مجلجة ، تلك الضحكة نفسها التي تثير اشمئزاز كريم..
- أراك صرت رجلاً وبدأت تسأل براحتك؟
خاف كريم من هذا التلميح المبطن فابتسم مصطنعا ذلك وقال له:
- ألم أكن صديقك؟
شعر الأستاذ بالإهانة أو هكذا خيل لكريم، اختفت كل أمارات الفرح عن وجهه، الغضب تطاير من عينيه..
- من تكون أنت لتصبح صديقي، أنت هارب من الحرب، ويجب أنْ تعدم الآن، الفاو احتلت، وشرق البصرة يمكن أنْ تقضم، وبحيرة الأسماك ابتلعها الإيرانيون، ونهر جاسم يمكن راح أيضا..
يتدفق بالكلمات دون رابط يربطها، لكن عقل كريم التحليلي ساعده على الربط بين الكلمات.. بقي الأستاذ يردد هذه الكلمات، دون أن يفقد كريم رباطة جأشه، إذ إنه بالرغم من تناوله كل هذه الكمية من الخمر إلا أنه لم يفقد قوته في فرز وتحليل الكلمات والحركات والصور..
باغته كريم بالقول:
- هل تريدني أرسم لك صورة هذه الفتاة؟
نظر إليه دون أن يفهم ما يقصد:
- أية فتاة؟
- الفتاة التي ظهرت بالصورة قبل قليل.
نظر إلى التلفاز..
- أية صورة؟ لا أفهم ما تقصد!
قال كريم مع نفسه، هل يتغابى أم إنها لوثة الخمرة وقد أخذت منه مأخذاً.
- أستاذ , سيدي العزيز , قبل قليل، ألم نعرض على شاشة التلفاز صورة إحداهن، هي تلك الفتاة التي أقصد..
بقي الأستاذ على استغفاله، وهو منطرح ٌ على السرير..
أومأ له بالخروج من الغرفة، فسارع كريم إلى ذلك خشية أن يتطور الموقف إلى ما لا يتوقعه، وفتح الباب، ووجد الخادمة تقف على مسافة منه، لم يكن يعلم ماذا يقول لها.. لكنها بخبرتها أشارت إليه بأن يقترب منها، وهمست:
- اتبعني.
فتبعها، حتى أوصلته إلى الباب الخارجي، هناك أحد رجال الحماية يجلس على مقعد بجانب الباب، أومأت إليه، فمسكه من بين ذراعيه برقة لم يتوقعها، وأخذه إلى غرفته وسط المزرعة، أوصله إليها، ثم عاد، فدخل كريم غرفته، وتنفس الصعداء.
خلع الملابس الزيتوني، وارتدى المنامة، طوال المدة التي أمضاها معه لم يدخن سيجارة واحدة، بحث عن علبته فلم يجدها، همس:
- منيف .. أين أنت؟
جاءه مسرعاً مرتدياً الدشداشة البيضاء..
- أحضر لك العشاء؟
ابتسم له، وهو غير قادر على الوقوف..
- أريد سجائر قبل العشاء.
صمت قليلا، كأنه أراد إخباره أين أمضى وقته..
- هل تعرف أين كنت أنا؟
- أعرف وشربت معه.. أليس كذلك؟
أيقن بأنّهم يعرفون كل شيء، كان بحاجة إلى سيجارة، لكي يتمكن من تحليل ما جرى ويجري حوله، الشبان الثلاثة، الخوازيق، البرتقالة، الخمرة، السرير، شريط الفديو، الصداقة المزعومة مع الأستاذ، بحيرة الأسماك، الفتاة التي طلب رسمها، أحداث ليس من السهولة نسيانها .
- السجائر يا منيف ، ماذا جرى لك يا صديقي؟
قفز منيف ، وبسرعة خرج من الغرفة، ولم تمض ثوان، حتى جاء بعلبة جديدة من سجائر الكرفن وبقي منيف ساهما، صامتاً..
- لماذا تنظر إليّ هكذا؟
سأل كريم وهو يسحب دخان سيجارته بقوة.
- المشكلة الخاصة بالرسمة انتهت.
فرح كريم لذلك، وتذكر أنه أخبره لا شيء يمكن أنْ يحصل له.
- ألم أقل لك ذلك؟
- متى أجلب العشاء؟
ضحك كريم، وقال له:
- أريدك أنْ تجلس هنا، لنتحدث، لدي كلام كثير الليلة، أريد أن أقول كل شيء، وأي شيء.
ذعر منيف ، ووضع أصبعه على فمه وهمس:
- اش.. اش، يسمعون ما تقول.
ثم غير لهجته وقال بصوت عال:
- أجلب لك العشاء..
ثم طلب منه منيف وهو يومئ برأسه موافقاً, ففهم كريم لعبته .
- اجلبْ لي العشاء يا طيب.. يا منيف.
وحين هم منيف بجلبه ، تمدد كريم على سريره يحاول تذكر ملامح الفتاة، لم يكن يشغله ظهرها أو ساقاها أو صدرها، إثاره وجهها، القلق مستبداً بها إلى حدّ الهوس، لا يمكنه أن يجد تفسيراً لقلقها ورغبتها المكوث في غرفة ستعرف ماذا سيحصل لها ، هل هي مجبرة على ذلك؟ لماذا عارية دون أن يطلب منها أحد خلع ملابسها؟
جاء منيف وبيده صينية العشاء، حطها على الأرض ثم غادر الغرفة مسرعاً، فجلس كريم، تناول فخذ الدجاج بشهية، والمقبلات، يأكل بسرعة وبدون مضغ، وتمنى في الوقت نفسه أن يبلع اللقمة بكأس من الشراب، لكنه شعر بصعوبة ، تناول الطعام كله، وأشعل لنفسه سيجارة وتمدد ثانية على السرير، تذكر صورة الفتاة الحزينة الحانقة، هل هي حانقة فعلا ؟ كلا، لم تكن كذلك، بدليل أنها خلعت ملابسها بإرادتها، فكيف تكون خائفة وقد جاءت بقدميها إلى ماخور هذا الإنسان المتقلب المزاج، نظر إلى الساعة فوجدها تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل وأيقن أنه ليس وقت نوم الأستاذ، ربما يصحو بعد قليل، وربما تأتي فرقة من فرق الغناء ليسهر معها إلى الصباح، وبالفعل، ما هي إلا دقائق معدودة، حتى سمع صخباً بدأ يدوي في قاعة من قاعات القصر "إذن استيقظ الأستاذ".
أراد أنْ ينام لكنه لم يستطع، وفجأة دخل أحد رجال الحماية فوجده راقداً:
- الأستاذ يريدك.
نسي أنه كان يرتدي المنامة، فخرج مع رجل الحماية بها، غير أن منيف اعترضه.
- ملابسك..
انتبه لنفسه وعاد أدراجه مسرعاً، ارتدى البدلة التي أهداها له الأستاذ ولمع حذاءه ولبس ربطة العنق، ثم غادر مع الزيتوني، يمشي سريعاً وبالكاد يستطيع اللحاق به، فطلب منه أن يبطئ، لأن قدميه لا تقويان على حمله، لكن هذا أجابه بأنّ الأستاذ سيغضب عليه بسب التأخير..
وصلا إلى باب القصر، تركه رجل الحماية واستقبله آخر، دخل معه إلى أنحاء القصر، صعد سلماً وتبعه، وعند نهايته، هناك ممرٌ يؤدي إلى قاعة الضجيج والموسيقى الغربية، دخل إليها فوجد الأستاذ يتوسط مجموعة من الفتيات وهناك فرقة تعزف وشبان لا يبدو عليهم من عناصر الحماية، "يبدون مخنثين"، ولما توسط المكان لمحه الأستاذ، صفق فصفقوا معه:
- جاء الفنان الفاكس.. جاء الفنان الفاكس..
لم يشعر بالسوء مثلما يشعر به الآن حين يسخر منه الأستاذ ويقول له الفنان الفاكس، نهضت إحدى الفتيات وأخذته من ذراعه وبدأت تتراقص معه، وهي تتلوى أمامه كالأفعى، ترتدي تنورة ضيقة مفتوحة من الأسفل حتى الخصر، نهض الأستاذ ومسك المايكرفون وآثار السكر واضحة على صوته وحركاته..
- أعرفكم بصديقي الجديد، الرسام.. كر.. يم.
صفقوا له كثيراً.
- تعال كريم اجلس بجانبي، هيا ارقصوا.
الشباب يرقصون مع الفتيات وقد بدأت وجوههم تتعرق وأخذوا يخلعون ملابسهم من الأعلى، والفتيات خلعن القمصان وبقين بالتنانير والاتكات، هل الحفلة حفلة عراة، إنه لم يشاهد مثلها حتى في صور المجلات الفاضحة ، ها هو يراها وفي وقت كان قطار الموتى والجرحى يأتي من الجنوب باتجاه العاصمة.
لم يكن مستعداً للشراب غير أنّ الأستاذ شاهده لا يحمل بيده كأسا فأومأ إليه، طاوعه ووضع لنفسه كمية بسيطة..
شاهد بلمحة خاطفة، انزواء إحدى الفتيات إلى غرفة كانت الفتاة الأكثر جمالاً من بين كل الفتيات، ولمح الأستاذ يسير بعدها ويدخل الغرفة.
بقيت الموسيقى صاخبة والفتيان يرقصون مع الفتيات ويتبادلون القبل وضرب المؤخرات ولمس الأفخاذ والصدور فيما هو بقي ساكنًا في مكانه لا يستطيع الحراك..
بعد ساعة، بدأ التعب يدب في أجساد الجميع، وفي تلك الأثناء، خرجت فتاة الغرفة تمشط شعرها، ولم يخرج الأستاذ فأيقن كريم بأنه نام، أطفئت الأنوار، وتوقفت الموسيقى، وأخذ المحتفلون ينزلون السلم ولم يبق في القاعة أحد سواه.. جالساً في مكانه، لا يعرف أين يذهب، فبقي هكذا إلى الصباح، من دون أن ينام، وخطا بتؤدة باتجاه غرفته، يغالبه النعاس ، فألقى جسده المنهك لينام عميقاً.
19
نهضت سندس مبكرا، ارتدت ملابسها بهدوء وببطء، خشيت من استيقاظ فاتن أو فائزة، ما زال الفجر يشعشع، "لأصنع لي كوبا من الشاي قبل أن أهرب من هذا الجحيم، فائزة المسكينة وقعت في الفخ، مثلما وقع الكثير من الفتيات".
شربت الشاي وبدأت تنتشر خيوط الشمس لتضيء الحديقة والمرآب، وحين غادرت سندس حملت حقيبة كبيرة تحتوي حاجياتها، كما احتفظت بمبلغ ادخرته إلى هذه الساعة وضعته في حقيبتها الصغيرة التي علقتها على كتفها ثم ألقت نظرة اخيرة إلى موجودات البيت..
مشت في شوارع المنصور الخالية من المارة، حتى وصلت إلى الشارع العام، لم تكن حركة السيارات تطمئنها، حركة شبه فارغة، إلا بعض السيارات السريعة، لمحت سيارة أجرة من مسافة بعيدة، فرفعت يدها، ثوانٍ معدودات ثم توقفت السيارة بجانبها، مد السائق عنقه إليها "أين تذهبين؟"، قالت: "إلى الثورة". صعدت في المقعد الخلفي .
خلافاً لما تظنه سندس باستيلاء الإحباط على دواخلها ، أعطت للشمس اهتمامها البالغ، وثمة مشاعر جديدة ، جعلتها ترتاح ، وفكرت أنّ الدمية التي كانت تحركها فاتن كيفما شاءت قد تحررت منها الان ،اجتازت السيارة نفق ساحة دمشق باتجاه منطقة علاوي الحلة ثم اتجهت صوب جسر الأحرار، استدارت حول فلكة تمثال الملك فيصل الأول، ثم سارت صوب الجسر، شاهدت على يمينها المباني المحيطة بالإذاعة والتلفزيون. تذكرت أخا فارقته وهو يودعها وأمها عندما التحق بجبهات الحرب، تلك آخر مرة رأته فيها، قبل ثلاث سنوات، أطلقت زفرة قوية حارقة.
أنهت سندس تعليمها في الدراسة المتوسطة قبل أن يتزلزل بيتهم بالكارثة ، أول خاطر فكرت به هو تكملة دراستها في الدوام المسائي لتساعد أمّها في العمل صباحا، لم تفكر كيف تعمل، لكنها ستتدبر ذلك، فقد تعلمت كيف تختزل على الآلة الكاتبة، فضلا عن معرفتها بالعمل كسكرتيرة.
ستتذكر سندس ذلك اليوم طويلا عندما اقتحم رجال الأمن العامة دارهم وهي نائمة على سطح الدار، قرابة الساعة الثالثة فجرا ليأخذوا والدها بين صراخ الأم وتوسلاتها، ولم تمح صورة والدها حين أخذوه شبه عارٍ من الفراش، بفظاظة وقسوة ، في البدء تصورت أنّ الأمر مجرد مزحة، ذلك لأن والدها، رفيق حزبي كبير في المنطقة، كل شبان الشارع يخشونه حين يصبح أو حين يمسي، متأبطا كراس "الثورة العربية" وأضابير الرفاق الذين يجتمع معهم ، كل أسبوع في بيتهم، وسندس تصغي إلى أحاديثهم غير المفهومة عن السجون والمعتقلات ومواجهة الأعداء "أعداء الداخل كثيرون". كان والدها المتحدث وأضاف "كل من نجده يحمل مسبحة ويذهب إلى المسجد سيكون هذا مشروع عدو يعمل ضدنا"، وقال: "علمنا القائد أنّ الحزب فوق الدين"، والرفاق يصغون بانتباه شديد، وتصغي سندس من وراء الباب، فالمتحدث مثلها الأعلى، يخبرهم بأنّ الحياة لا تستقيم إلا إذا طبقت نظرية "الحزب الحاكم على جميع مفاصل الحياة، بما فيها الدين".. ومنذ ذلك اليوم فهمت سندس بأن الدين أكذوبة، يكذب به كل واحد معهم:
- لماذا تطارد الشباب يا والدي؟
يضحك الأب، ويطبطب على كتف ابنته..
- أنا لا أطاردهم، بل أريد لهم الإصلاح، ولا يُصلحون إلا من خلال الحزب.
صفنت سندس، ثم سألته:
- هذا يعني أنت موافق أن أكون حزبية وأجتمع في اتحاد النساء؟
فرح الأب لذلك وقال:
- طبعا عزيزتي، الحزب سيعلمنا كيف نرتقي سلم المجد.
كان سلماً حقيقيا للمجد حين أخذوه في تلك الليلة، وهي تراقب انهيار أمّها وسجودها عند قدمي رجل الأمن عندما قيد زوجها بالقيود الحديدية "الجامعة".. سألتهم بشجاعة:
- ماذا فعل والدي؟
لم يصدق رجل الأمن ما تراه عيناه من جمال الجسد ، ترتدي سندس ثوبا شفافا، وحانت منها التفاتة بكامل جذعها إلى والدتها لتهدئتها، فوجد، روعة جسدها ولاسيما مؤخرتها ، جعلت عروقه تضطرب فيها كل الهسهسات وهو يقول لنفسه: "لن أتركها أبداً".
في اليوم التالي، قالت عجوز تبيع علب الكبريت والسجائر عندما مرت بالقرب منها سندس "هذا جزاء الشباب الأبرياء الذين زجهم في قواطع الجيش الشعبي"، تعرف سندس أنّ والدها مسؤول عن أحد قواطع الجيش الشعبي الذين زجهم بالجبهة ولن يعود نصفهم أحياء، يجبر عشرات الشبان على ترك أعمالهم ليزج بهم في ساحات التدريب من أجل أنْ يصبح العدد مناسباً فيرسلون إلى جبهات القتال، في البدء كانوا يرسلون لمدة شهرين، ثم أصبحت ستة أشهر، والجيش المحترف لا يحبذ وجودهم، فيزجون بسرايا على خطوط التماس:
- ألمْ تقلْ نحن جيش قوي ولن يقهرنا العدو.
- نعم .
- فلماذا إذن ترسلون الكسبة وباعة النفط والغاز والخبازين وسائقي سيارات الأجرة إلى الجبهة كجيش شعبي.
يضحك الأب ويفرح لأنّ ابنته تسأل كثيراً، ليس مثل ولده "الخروف" الذي لم يفهم أيّ شيء من الحياة سوى القمار والخمرة والعربدة.. فيجيب:
- القائد قال يجب عسكرة الشعب.
سندس كانت تحتاج إلى هذه العبارة للحصول على موافقته في أمر.. فقالت:
- إذن لا تمانع إذا اشتركت في دورة تدريب عسكرية مع الرفيقات في اتحاد النساء!
ر د بالفرح نفسه:
- لن أمانع.. وحتى لو ذهبت إلى الجبهة مع الرفيقات، لن أمانع، الشعب يجب أن يخرج كله إلى الجبهة للدفاع عن حياض الوطن، وإلا فالمجوس سيدنسون أرضنا.
لم تأخذ كلام والدها على محمل الجد، فهو لن يوافق إذا جد الجد بذهابها إلى أحد القواطع.
اندهش ضابط الأمن وهو ينظر إلى مؤخرة سندس ، سألته:
- ما الذنب الذي ارتكبه؟ ما الذي فعله كي تسحبوه بهذا الشكل القاسي والمذل؟
أجاب الضابط، بمودة، محاولاً كسب رضاها:
- الأوامر هكذا، نحن ننفذ الأوامر، يوم أو يومان، ثم يعود إليكم.
لكن الأب لم يغب يوما ولا شهراً ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين، بل أبدياً.
وترددت في ذهنها كلمة العجور "هذا جزاء الشبان الأبرياء الذين ساقهم في الجيش الشعبي".
بعد اسبوعين ، بحثت سندس مع والدتها عن السبب وراء اعتقال والدها، لكن الوالدة لم تستطع أن تخبرها بأي شيء، هي تعرف انه يعمل مدير لمخازن إحدى شركات وزارة الصناعة ، أصبح مديراً ليس عن كفاءة في إدارة التخزين، بل لأنّه حزبي كبير، والحزبيون الذين تسلقوا الوظائف الكبيرة، غالبا ما يكونون غير كفؤين، فكرت سندس، لعله قد أخطأ في جرد بعض المواد أو سرقت مواد لم يستطع أن يتوصل إلى معرفة الجاني. حاولت الفتاة أن تثبت لوالدتها بأن والدها اعتقل بسبب خطأ غير مقصود.
وللتأكد من أنّ بحثها في هذا الأمر لا يخرج عن إطار ما تفكر به، ذهبت إلى مديرية الأمن العامة، بقوة انتمائها للحزب، وتطوعها في معسكرات تدريب الرفيقات الماجدات، غير أن موظف الاستعلامات، الذي كان يجلس معه عشرة مثله، بالشوارب ونظرة العيون وزم الشفاه نفسها، قال لها، بعد أن سألها أكثر من ثلاثين سؤالاً وأجابتها كلها، بأنَّ من الصعب أن تبحث عن والدها هنا في دائرة الأمن، وشدد بالقول "احترمي نفسك واذهبي إلى البيت وستعرفين فيما بعد مصير والدك".. كان تهديداً شديد القسوة، ولم تفد كل محاولاتها الأنثوية بتليين جمود مشاعره الحديدية ولا استعطاف أيّ فرد من الأشخاص الذين يحيطون به، لكنها عندما خرجت من غرفة الاستعلامات سمعت دوي ضحكاتهم دفعة واحدة، كأنها ضحكة رجل واحد، وليس عشرة.. فأدركت أنهم سخروا منها، وأنّها جاءت في الوقت والمكان الخطأ ، وخابت آمالها في الوصول إلى خيط واحد تستدل منه الى معرفة ما اقترف والدها من ذنب.. وبعد أسبوع يأست تماما، سمعت نصيحة أمها بالعودة إلى حياتها الطبيعية، فخرجت إلى الاتحاد ، لكنها في الطريق صادفت الضابط نفسه الذي نفذ أمر اعتقال والدها، يسير نحوها باسماً يرتدي بدلة أنيقة..
- أكيد تتذكرينني
- أتذكرك طبعاً !
استسخفت ابتسامته :
- لماذا تضحك؟
لم يصدق سامر ضابط الأمن العامة أن تواجهه بجرأة وتشعره بضعته وسخف طريقته للتعرف عليها..
- أترغبين معرفة أي شيء عن والدك؟
- يا ليت!
نظر حوله، كان قلقاً، وثمة من يراقبه، فقال:
- الأفضل أن تأتي معي بسيارتي لأخبرك ما الذي فعله والدك؟
رفضت اقتراحه:
- لماذا لا تخبرني الآن كي أرتاح؟
ما زال قلقاً، يتلفت إلى الجهات كلها..
- الكلام يطول، وأخشى مراقبة زملائي.
كانت ذريعته قوية، مما شجعها على صعود سيارته السوبر موديل 82 وسار بها بسرعة لافته ، وعندما وصلا إلى فندق الميليا منصور أركنها في المرآب، وأوقفها بالقرب من الباب، ترجلا، ثم سار أمامها قليلا، وبعد وصولها إلى باحة الفندق أخذ يمشي مسافة خطوتين قبلها، وهي تسير خلفه، لا تعرف سبباً لأن يتقدمها خطوتين إلا فيما بعد ـ وعندما وصلا إلى الكافتيريا، قصدا زاوية قصية منها . وقد بدا عليها الحماس لتعرف مسار قضية والدها ، فيما انشغل هو مع النادلة الآسيوية وطلب منها عصير وقهوة..
- إذا اكتشفت الدائرة اتصالي بك سيعاقبونني بشدة لكنني غامرت من أجلك.
لم تشعر بالارتياح معه، رغم وسامته، ومحاولاته أن يبدو كيسا وودوداً..
- أخبرني أرجوك ما الذي فعله والدي؟
- بعد العصير.
كان باديا على وجه سندس الوجوم وحالة من القلق والاضطراب واللاستقرار حتى إنها لم تحتس عصيرها ، سامر الذي لاحظ كل ذلك ، قال :
- والدك متهم بسرقة بضائع قيمتها مليون دينار عراقي، أو ثلاثة ملايين دولار أمريكي.
نهضت من مكانها، لكنه سحبها من ذراعها..
- اجلسي، اسمعي بقية الكلام.
- مستحيل..لا يمكن أن يسرق والدي.
بعد جلوسها، قال لها بغضب:
- اسمعيني جيداً ولا تفوتي هـذه الفـرصة، لا يمكننا في الأمن أن
نفضح أوليات التحقيق لولا..
توقف، شعر أن غصة حالت دون إكماله الكلام، فماذا يخبرها عند هذا المفترق، لكنه قال بجرأة:
- لولا أنك أعجبتِني، صحيح الظروف غير ملائمة ولكن هذه هي الحقيقة.
سخرت منه وحالة من التذمر وعدم الارتياح تغمر كيانها كله ..
- وما الثمن الذي عليَّ دفعه مقابل هذه المعلومات الخطيرة؟
مراوغتها أعجبته، وطريقة كلامها ضعضعته ، أصبح متيبسا من الداخل غير قادر على البوح أكثر من اللازم.
- أنت تعجبينني.. بدون ثمن، والسلام.
نهضت دون أن تشرب العصير..
- وأنت لا تعجبني.. والسلام.
وما ان خطت باتجاه باب الفندق لفحها نسيم هواء منعش ، لحقها سامر وحين هم بمسك ذراعها نهرته ومنعته من ملامستها..
اتجهت صوب الباب الرئيس، حاول إقناعها بإيصالها إلى البيت فرفضت بشدة ، وساءها مصير والدها، التي لم تتصور يوما ، أن يكون لصاً استحوذ على بضائع بقيمة مليون دينار..
وعندما عاد سامر إلى سيارته، وجد في سيارة آخرى زملاءه غارقين بالضحك، كان يعرف أنهم سيأتون وراءه، لذلك شغل عجلته بانفعال شاعرا بالإحباط من عدم تمكنه إغواءها، وهي قد استأجرت تاكسي وانطلقت بها إلى البيت.
لكنها الآن، في هذا الصباح، غير راغبة في الذهاب إلى البيت، لاسيما حين تنفست حرية الخلاص من قبضة فاتن فتملكها شعور بالدفء وذهنها مشغول بالذهاب إلى بيت عمتها الثرية، أم أحمد، فهي الوحيدة، في هذا العالم تستطيع الإصغاء إليها والاقتناع ربما بتبرير كل ما قامت به طوال مدة غيابها التي امتدت لثلاث سنوات.
ينظر سائق التاكسي بارتياب إليها ، وهي تبكي، أخبرها السائق بأنه مستعد أن يواجه من كان السبب وراء بكائها، فأخبرته، بأنه ضابط في الأمن العامة، ضحك السائق، وقال لها بخوف ونفاق وكذب، إلا جماعة الأمن "هؤلاء لا أحد يتقرب منهم"، فقالت متذمرة:
- إذن اسكت أحسن لك.. ولي.
فصمت السائق فيما تعبر سيارته جسر السنك باتجاه مدينة الثورة. وصلت إلى البيت فوجدت والدتها قلقة، مرتعبة، أخبرتها بالحقيقة، كما هي، دون أن تضيف أو تقلل من الكلام شيئاً، فقالت الأم:
- أبوك لا يملك فلسا واحداً، أنا أعرفه حق المعرفة ولا يمكن له أن يدخر أموالا لا أعرف مصدرها، هذا الذي سمعتِه تلفيقاً وكذباً وليس الحقيقة.
عندما ذهبت سندس إلى فرع الاتحاد في منطقتهم واجهتها الرفيقة المسؤولة بقرار الطرد من الحزب بسبب والدها المختلس، عادت إلى البيت، تريد أن تعرف هل من المعقول أن يكذب الحزب عليها بشأن اختلاس والدها فيما تصرّ هي على براءته.. تركت دراستها في الرابع إعدادية واكتفت بحصولها على الشهادة المتوسطة "أفضل من أخي الحاصل على الشهادة الابتدائية"، الذي هو الآن عسكري في شمال البلاد لا يأتي إلى البيت خوفاً أو كرها من والده الذي انهال عليه بالضرب ذات يوم أمام أصدقائه، وهي في الوقت نفسه لا تشعر بوجود أخيها، فهو الغائب الحاضر، لذلك، وجدت من الأفضل البحث عن وظيفة تستطيع بها إعالة أمّها المسكينة، وهكذا وجدت عملا في معمل البلاستيك وقد وظفها ربّ العمل بسرعة بعد أنْ تفحص جسدها المثير بنظرة شبقة .. واستلمت العمل تحصي الأكياس وترزمها، كل خمسين كيساً برزمة، عمل مرهق ، لكنه أفضل من الجلوس بالبيت، مضى نصف شهر، وهي تعمل بتفان ، وفي أحد الأيام، طلب منها رب العمل تنظيف مكتبه من الغبار وبقايا الأكياس، شاب في الثلاثين من العمر يضع اللبان في فمه طوال الوقت، فاستجابت لطلبه، وقت خروج العمال، اخترع رب العمل تنظيف مكتبه حجة واهية كي يختلي بها، فأغلق الباب عليهما وأحضنها من الخلف.. قائلا:
- هذا هو العمل، وليس تنظيف المكتب.
هواجسها أخبرتها أنّ وراء تنظيف الغبار، فخاً، فلم تدعه يبحر كثيرا، إذ أدارت له جسدها، وطوحت بيدها إلى الخلف، لتضربه بصفعة على وجهه ، ثم ركضت، فيما بقي الشاب ، ساكنا ، من هول المفاجأة، واضعاً يده على خده، لا يعرف ماذا يفعل ! ركضت بضعة امتار خارج المعمل، ثم أستردت طبيعتها بعد شارعين، وروت لأمّها ما فعلت.
- ماذا تقولين في أن نذهب إلى عمتي نستدين منها ما يسد رمقنا؟
ارتعبت الأم :
- نذهب إلى الشيطان.. إلا عمتك!
الآن، بعد تحررها من فاتن، تتجه إلى بيت عمتها ولا تود الذهاب إلى بيت أهلها.
توقفت سيارة التاكسي عند مفترق الباب الشرقي، هناك سيارات عسكرية نوع ايفا تحمل عسكر حاسري الرؤوس وبلحى كثة ، فقال السائق:
- إنّهم يستعرضون الأسرى الإيرانيين الذين وقعوا في قبضة القوات.
لم تجب، لكنها نظرت بحياد، فواصل السائق:
- أسلوب تتبعه القيادة الحكيمة لإذلال العدو، باستعراض أسراهم في الشوارع.
لا تفهم سندس معنى ذلك، لكنها سخرت من عبارة "القيادة الحكيمة"، ما تعلمته سندس خلال السنوات الثلاث في بيت فاتن يفيض كثيرا على وعاء عقلها البسيط.. فقال السائق:
- انتصرنا عليهم في معارك شرق البصرة واسترددنا بحيرة الأسماك ونهر جاسم..
لا يثير هذا الحديث في نفسها أية أسئلة، إنّها تريد أن تخلص بجلدها من كل أشكال الحرب والعسكر ولا تود سماع كلام السائق، انتهت عملية استعراض الأسرى وانطلقت السيارة التي تقل سندس صوب نفق ساحة الطيران، كما انطلقت أفكارها..
بعد أسبوعين، من المقابلة التي جرت بينها وبين ضابط الأمن سامر، التقته وهي تتجه صوب بيت عمتها، هذه المرة اصبحت شغوفة باللقاء معه كي تفهم وتعرف أين وصلت قضية والدها، وعندما وجد سامر رغبتها طافحة بمحادثته، قال لها تعالي نتفاهم داخل السيارة، فصعدت معه، وأخذ يسير بها في شوارع بغداد بسرعة معتدلة، شعر أنها مستعدة لتصغي له، وليس أمامها من منفذ غيره إلى معرفة مصير والدها.
- لماذا هربت مني ذلك اليوم.
أجابت بمراوغة وخبث:
- ربما كانت حالتي النفسية لا تسمح لي بالإصغاء، والآن أخبرني أين وصلت الأمور.
قال لها إنّ مجرى التحقيق مستمر وإذا ثبت أنّ والدك لم يختلس فليس أمام الحكومة إلا إطلاق سراحه،وطمأنها أن لا دليل واقعي على الادعاءات التي أوصلت والدها إلى الأعتقال .
بكت سندس، وقالت له:
- طردوني من الحزب، وليس لدي وظيفة أعمل بها، كـمـا أن
أخي ليس معنا، نحن نعيش في ضائقة مالية صعبة.
حاول ان يدسها بمبلغ من المال الا إنها رفضته البته
- هذا دين.. وليس صدقة، أرجوك أقبليه.
بغريزتها اكتشفت أنّ قبولها المبلغ معناه سقوطها في حبائل ضابط الأمن، وبالتالي استجابتها لكل ما يطلب وهي غير مستعدة حاليا أن تفرط بنفسها.
- أشكرك، مستورة، لم تصل بنا الأمور بعد إلى مرحلة الاستجداء.
ازداد سامر إعجابًا بها كلما قاومته، وفي هذه الفقرة، اكتشف عزة نفسها العالية، فترك أمر الرهان مع زملائه، وشعر أنّه يريدها بصدق وليس حبًا، بل شغفا بها من أجل ساعة يستطيع التفاخر بها أمام الزملاء الذين يناكدونه، يحب النساء ممن يصعبن عليه الموقف وأدرك أنّها صعبة وليست كالأخريات..
- إذا أخبرتك بالبشارة، ماذا تعطينني.
- الان؟
- بعد البشارة، هل نفتح صفحة جديدة من الحب.
سخرت من كلمة الحب، على طريقة ضابط الأمن، وغضب لأنه ما زال يفهمها بشكل خاطئ.. فقالت له:
- أنا لست منهن، فلا تتعب نفسك معي أرجوك؟
توقف في منتصف الطريق بعد شعوره بالإهانة وعدم التوصل معها إلى حلول وسط، ألتفت إليها، واضعاً يده على الكرسي الجالسة عليه، محاولا لمس شعرها..
- لماذا لا تصدقين أنّني معجب بك؟
أبعدت يده عنها.. وقالت:
- أرجوك.. افهمني، لست من الفتيات اللواتي في ذهنك! لا تحاول.
المكان الذي وقفت فيه السيارة، لا يسمح بمرور السيارات منه، يقع بالقرب من الجزيرة السياحية، قرب فمه فخطف قبلة من خدها ، فتمنعت، وتحول جسدها الى كتلة من النار، كادت تصفعه مثلما فعلت بمدير المعمل، لكنها أرجأت ذلك..
- أرجوك.. لا تجبرني على الصراخ.
وضع يده على فخذها، ثم رفعها إلى صدرها، وهي تبعد يديه، ضاغطة على أعصابها من أجل منع صراخها، وهو كلما صدته ازداد تعلقاً بها..
- سأذهب غدا إلى استعلامات دائرتكم وأخبرهم بحقيقة أمرك.
كانت تتحدث متقطعة الأنفاس، وهو يحاول لثمها بقبلة.
- أحبك، أحبك.. أنت جميلة ورائعة.
هجمت عليه وعضته من فخذه، كانت العضة من القوة بحيث زعق من شدتها فجلبت أنتباه المارة ، فتحت باب السيارة وهربت.
أشارت إلى سيارة فوقفت بجانبها ثم صعدت بجانب السائق..
- أرجوك احمِني من هذا الكلب..
فرح الشاب وقال لها:
- تأمرين.
بعد شهرين على غياب والدها في سجون الأمن العامة جاءهم الخبر الصاعقة بأن قضية والدها تحولت إلى محكمة الثورة.
تعلم هي وأغلب العراقيين أنّ أيّة قضية تتحول إلى هذه المحكمة مصير صاحبها الإعدام، وفعلاً بعد أسبوع استلمت العائلة جثة والدها، فانهارت الأم، فيما وجدت سندس أنّ مرحلة صعبة من حياتها قد بدأت ولامت نفسها لامتناعها من منح نفسها للضابط الذي عجل بمصير والدها، هذا اللوم دفعها إلى الكره الشديد للضابط وقررت أن تخطط للانتقام منه.. ولكن كيف؟ أخبرتها صديقة لها بأنّ اتحاد النساء سيساعدها على ذلك.
توقفت العجلة أمام بيت عمتها، ضغطت على زر الجرس الخارجي ثم انتظرت قليلا، وبعد ثوان فتح الباب، فظهر رجل في الخمسين من عمره، يبدو قد نهض للتو من نومه، رغم أنّ الساعة الثامنة صباحاً..
- أتساءل هل هذا بيت عمتي شكرية وزوجها أبي غايب؟
ابتسم الرجل واعتذر منها لأنه ابتاع البيت من زوج عمتها قبل سنة مضت، وقال لها، يمكن انتقلوا للسكن في حي راق.
أصابت الخيبة فؤادها، كادت تبكي، إلا أنّ تصميمًا وعزماً دفعها للقول: "ما الضير من الذهاب إلى بيت أهلي، لا بد من أن تكون أمي موجودة".. اتجهت صوب بيتهم، مسيرة ثلاثة شوارع وستصل إلى البيت، وقفت أمام الباب، وقبل أنْ تطرقه، شعرت أنها قد تكون غير مرغوبة من أمها، وربما تطردها أو تقول لها "أما كان يجب عليك المكوث بجانبي بعد وفاة والدك وهروب أخيك إلى المجهول".. لاحظت سندس أنها لا تسمع صوتاً في البيت.
أخذت نفسًا عميقًا.. طرقت الباب بخفة، ثم بقوة.. ولا أحد يجيب !
20
تنتظر رغد مجيء عليان، جالسة قرب النافذة، تمضي وقتها بالتحديق في وجوه الداخلين إلى مبنى الاتحاد وقد قاربت الساعة الواحدة ظهرا، بقيت تنتظر كل هذا الوقت وهي تقضم بأظفارها.
وفجأة، دخل عليان، نافخاً صدره، يسير بخطوات بطيئة كأنه يرقص رقصة البطريق، فانطلقت رغد إليه، راكضة في الممر، فيما أغلقت فاتن بابها، وكذلك السكرتيرة، لكن اللعينة أمّ هاشم جالسة في مكانها عند نهاية الممر بالقرب من المطبخ، لم تأبه لها رغد، لقد أقفلت على الهدف وليس بوسعها الانتظار أكثر من ذلك الوقت.
التقته رغد عند الباب، لاهثة، نظرت إليه فوجدت تساؤلا في عينيه، لم تسمح له أن يسألها، مسكته من يده "أريدك فورا في غرفتي لأمر مهم"، ثم سبقته إلى غرفتها، وبقي هو في مكانه، حائراً، أيذهب إليها مباشرة كما أرادت، أم يتركها ليستفهم من فاتن العليمة بكل شيء؟
غير أنَّ عقله محدود الخيال أشار إليه أن يذهب إلى غرفة رغد لأن الأمر إذا لم يكن مهماً فعلاً، لما وقفت أمامه مذعورة ولاهثة بالشكل الذي رآه؟
دخل الغرفة ثم أغلقها عليه فاقتربت منه حتى لامست صدره فأحسّ بالقشعريرة والرغبة بلثمها، عيناها تتحدثان قبل شفتيها المزمومتين.
- ما هو الأمر الهام.. أخبريني؟
- اجلس أرجوك، المسألة لا تحتمل كلمات معدودة، نقولها وينتهي كل شيء، إنّها أكبر من ذلك، اجلسْ.
جلست بجانبه، ركبتها تلامس فخذه، ترتدي تنورة زرقاء فيها فتحة تصل إلى منتصفها ومن خلال الفتحة شاهد الفخذ الأبيض الصقيل، لكنه لم يعر لذلك أهمية، فهو قد شاهد كل الجسد ذات يوم، بالشريط الموجود في دولاب الأستاذ، فلم تثر حركاتها الرغبة في عروقه، لكنه تساءل:
- أخبريني ما لديك ولا تأخريني.. هيّا.
بعد صمت قصير، تسارعت فيه نبضات قلبها، قالت رغد:
- أنا أعلم بقصة شريط الفديو.
ثم صمتت، نظرت إليه لتختبر ردة فعله، يجلس مسترخياً، رأسه مسنداً على متكأ الأريكة، غير أنه عندما سمع بشريط الفديو فزّ مرعوباً، كأن صعقة كهربائية صعقته، وانتظر ماذا ستقول بعد ذلك.
طال صمتها، وشعر عليان، بالضعف والخوار والتوسل وهو ينظر إلى فوهة جحيم أنفتحت عليه..
أكملت رغد:
- شريط الفديو الذي جلبته إلى فاتن، أعني.
ازدادت فوهة الجحيم اتساعًا، انتقل عقله محدود الخيال إلى كلاب الأستاذ المفترسة كيف ستقطع أوصاله، كيف سيتدلى جسده في تلك الغرفة اللعينة ويُترك رأسه إلى الأسفل وقدماه معلقتان في السقف.
لمحت رغد الذعر والهلع يعلوان وجهه :
- لا تخف.. سرّك سيكون مدفونًا في بئر عميقة.
ما زال مرتعبًا، ضعيفًا، يعصر يديه بركبتيه، ثم يعصر وجهه، انفعالاته تصاعدت بشكل جنوني، تذكر كيف التهمت الكلاب الشبان التسعة ولم يبق منهم سوى العظام والجماجم..
- كيف عرفت؟ وما ثمن معرفتك، أنا جاهز، لأي شيء!
- ثمن الشريط غال، هل تقدر عليه.
قال بسرعة وبدون تردد:
- اطلبي، قولي أيّ شيء، ولكن أرجوك أخبريني كيف عرفت؟ هل أخبرتك "البربوك" فاتن؟
- لم تخبرني فاتن بأي شيء، وهي لا تعرف أنني أعرف، ولكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد.
ظلَّ عليان مأخوذاً، متيبسًا، بانتظار ما ستقوله..
- وماذا هناك أيضا؟
ابتسمت له ابتسامة صفراء، إذ هي تريد الانتقام منه أيضًا وليس من فاتن فحسب، وتريد الانتقام من قائد الفرقة الذي أصاب والـدها
بالجنون وتسبب بطرد أمّها في تلك الليلة المأساوية.
- أخبريني أرجوك، ماذا هناك باستثناء معرفتك بشريط الفديو؟
واقفة بالقرب من ركبتيه، تنظر إليه من الأعلى، وهو ينظر عليها من الأسفل..
- وأعرف بحكاية شريط الكاسيت، واعترافك بجلب شريط الفديو، مقابل العنوا....
توقفت، ثم سألته:
- كنت تقصد مقابل العنوان.. أليس كذلك؟
استسلم لها تماما، وشعر أنّ كل القوة التي يتمظهر بها نتيجة عمله كقواد وحارس شخصي للأستاذ مجرد بالون سينفجر عند تخوم الكلمات التي تقولها هذه العاهرة.
- عنوان!! نعم . أقصد عنوان واحدة من الفتيات.
اشتغل عقلها التآمري بسرعة وحدست أنّ المقصود بذلك هي فائزة التي تحجبها فاتن عن الأنظار الآن، قالت له:
- عنوان من؟
- لا أعرف، كانت مجرد واحدة زارت الاتحاد وتبعناها ولم نستطع الوصول إليها.
- هل تصفها لي؟
بلع ريقه وشعر بحاجته إلى الماء ليرتوي.
- شعرها أسود، وجهها أبيض، طولها متوسط..
سألت بخبث ومراوغة:
- ومؤخرتها، أقصد جسدها كيف كان شكله؟
الارتعاش والارتجاف يسيطران على حركات يديه وقدميه.
- جميلة، حلوة، وذكية.
- خرجت من هنا بتسريحة الأسد.. أليس كذلك؟
- هي بالضبط، ولكن أرجوك، كيف عرفت أيضًا بموضوع شريط الكاسيت؟
عادت إلى مكانها وجلست بالقرب منه ولامست فخذها فخذه.
- أريدك أن ترتب لي موعداً مع الأستاذ.
ذعر عليان أشدّ الذعر، وسأل هلعاً:
- ماذا؟
ضحكت، وهي متوترة، باكية من الداخل، ووضعت يدها على فخذه، قريبا من ملتقى الساقين..
- أريد تمضية ليلة معه.. ألديك مانع؟
إنّه يعرف صاحبه لا يكرر ليلة ثانية مع كل من يلتقي بها إلا إذا شعر أنّها تستحق ذلك وهذا نادرا ما يحصل، فقال لها:
- وهو كذلك، ولكن أريد منك الآن التفاصيل.. كيف عرفت بأمر شريط الفديو، وبعدها بشريط الكاسيت.
كانت ما تزال تمسك بفخذه، لتشعره بالتوتر..
- دع التفاصيل إلى وقتها، المهم أنَّ ما يجري بيني وبينك الآن لا أحد يعلم به، وأحبّ أن أخبرك أن شريط الكاسيت عندي في مكان أمين.
فوجئ، ورأى أنَّ فوهة الجحيم ما زالت تتسع لتلتهمه..
- في مكان أمين! ماذا تقصدين، هل هذا يعني أنّ أحداً يعلم به سوانا؟
رفعت يدها عن فخذه:
- أنتم الحكومة، بل أنتم حكومة الحكومة، بل أنتم سادة الحكومة، بيدكم الأمر كله، من يقول إنك ستتركني بعد هذه المحادثة، عندكم قتل الإنسان أسهل من قتل البعوضة..
أصبح صوتها جدياً، وحازماً أكثر من ذي قبل..
- الكاسيت الذي تعترف به بسرقتك الشريط عندي وفي مكان أمين كما قلت لك، نفذ ما أطلبه وسأسلمه لك بكل يسر وسهولة.
صفن قليلا، وقد اختلطت عليه الأمور، أدرك أنّه لا يستطيع فرزها الآن، الكاسيت ليس عندها، ولكن كيف وصلت إليه؟ ألا ينبغي أن تحتفظ به فاتن عندها؟
تذكر تلك الليلة شرب الخمر فيها بإفراط ورفسته عند خصيتيه ولم تسلمه شريط الكاسيت بعد أن سلمها شريط الفديو هذا ما لا يستطيع إيجاد تفسير له!
- لماذا تريدين اللقاء بالأستاذ؟
- أحبّه.. أعندك مانع؟ أنا أحبه، لن أنسى ليلتي الأولى معه، وأريد تكرارها، فهل هناك ما يمنع ذلك؟
مرتبكا ومتوترا.. قال لها:
- أنت لن تحبيه، ولن تحبه أية امرأة أخرى، لديك نوايا أخرى، تريدين الإيقاع بي، أليس كذلك؟
ضحكت متوترة أيضًا:
- كيف أوقع بك وبيننا سيكون الاتفاق والوعد، لا تذهبن بسوء الظن، دعني ألتقي به، لليلة واحدة، وأعاهدك أنّ كل شيء سيكون على أفضل ما يرام.
رد بعصبية وغضب:
- فسّري لي إصرارك على الالتقاء به؟
تنظر إليه وقد أصبح خائفاً بامتياز، لكنه يكابر بالتمثيل المصطنع على قوة فارغة يظن أنّه ما زال يحتفظ بها.
- أريد معرفة أين يقع مكان الكاميرا تصور الفتيات حتى أقف أمامها وأنا أعلم أنّها شغالة تصورني.
وجد أنَّ تفسيرها سخيف، وتأكد له سعيها للإيقاع به، وبفاتن..
ازداد غضبا وقال:
- اسمعي، يكفي إلى هذا الحد، إذا لم تسلميني شريط الكاسيت، اعتبري نفسك في عداد الموتى.
توقع أنها ستخاف من التهديد، وعقله يبحث عمن يمكنه أنْ يحتفظ بشريط كاسيت حفاظا على حياتها.
واجهته بالتهديد نفسه والقوة نفسها.
- عداد الموتى! هل تتوقع أنا الآن على قيد الحياة؟ ما الفرق عندي بين موتك المزعوم وموتي اليومي؟
وجدها أكثر صلابة من ذي قبل، فانصاع إليها قائلاً:
- إذن أخبريني بالسبب الحقيقي من رغبتك اللقاء بالأستاذ، إذا لم يكن القصد منه الوشاية بي؟
ها هو يعود إلى جادتها، فقررت أن تخبره، كي يقتنع أكثر:
- أريد الانتقام!
سأل بذعر:
- ممن؟
قالت:
- من قائد الفرقة الفلاني؟
بحث عقله عن أسماء القادة الميدانيين، فأدركه.
- ولماذا هذا القائد؟
كادت تبكي وهي تتذكر المآل الذي وصلت إليه حالة والدها، وهروب أمّها إلى جهة مجهولة إلى هذه الساعة.
ضحك، مراوغًا:
- أكيد أنت مجنونة، وما دخل الأستاذ بذلك؟
قالت متأكدة:
- الأستاذ بإمكانه أن يفعل أي شيء وبأي قائد وأي مسؤول في الحكومة دون أنْ يقول له أحد ماذا فعلت.
ردّ بعصبية وفضول هذه المرة:
- ولكن لماذا هذا القائد بالذات؟
لم يكن أمامها غير الكذب كي تقنعه:
- التقيت به ذات يوم، عندما أرسلنا الاتحاد للترفيه عـن الضباط الكبار في النادي، أتذكر؟ كانت المناسبة الاحتفال بيوم 17 تموز، اختلى بي وطلب مني بعد الحفلة مرافقته إلى السيارة.. ثم صعدت بسيارته الشخصية، وسألني: "الليلة ستكونين ضيفتي.."
قلت له مرتبكة وأنا أعرف إلى أين سيذهب بي..
- ولكن هذا عكس الاتفاق..
زعق بي متودداً:
- الاتفاق، هو أن يرفه الاتحاد عن الضباط الكبار، ما هو نوع الترفيه إنْ لم يكن تمضية سهرة ممتعة في شقة صغيرة مطلة على دجلة؟
كانت تجد متعة في السرد، وهو يصغي إليها..
- فدخلنا الشقة، شربنا وسكرنا، وتعرينا، وقبل أن يقوم بواجبه سألني: "عمن يكون قد دنس هذا الجسد الجميل، فقلت له: "الأستاذ"، فأنزل شتائمه وسبابه فيه، قلت له: اسكت لئلا تسمعك الجدران ويعلقونك غداً على أعمدة الكهرباء، فقال إنه يحتقر هذه العائلة، ويراها ملوثة بالجريمة والعار وكل أنواع الشرّ.
توقفت رغد لترى تأثير ما روته على سيماء عليان، فوجدته منفعلا، وسألها:
- لا أدري لماذا أصدقك، كل ما تقولين صحيح، معظم الضباط المحترفين يحتقرون عائلة الأستاذ.
فرحت رغد لأنها وجدت نفسها تنقضّ عليه بسهولة ودون معوقات، كانت تجد تخديراً لحديثها على انفعالاتها، فقال متسائلاً:
- أتعرفين ما الذي سيفعله الأستاذ إذا رويت له هذه الحكاية؟
لم تجب على سؤاله، وانتظرت ما سيقوله:
- إنّه لن يتردد في الذهاب إليه في اللحظة نفسها، أينما وجد القائد، يقتله، ويعود إليك ليقتلك أيضًا.
خافتً، وصدقت كل كلمة تفوه بها.. فقال لها مطمئناً:
- دعي الأمر علي، أتريدين القائد مقتولاً، هذه المسألة بسيطة، أنا أنفذها أو أحد من جماعتنا في الحماية، إنّها أبسط لدينا من الذهاب إلى الأستاذ لإخباره وإزعاجه، قتل القائد أو الوزير أو عضو مجلس قيادة الثورة، أبسط مما تتوقعين..
ما زالت تجده صادقاً..
- إذن اتفقنا، تتم تصفية القائد، ونصفي الحساب بيننا، ماذا تقول؟
أدرك عليان أن لا فائدة من إقناعها بتسليمه شريط الكاسيت، واشتغل عقله على تدبير خطة محكمة للخلاص منها، فالذي يحتفظ بالشريط لن يستطيع المرور إلى الأستاذ إلا من خلاله، لكن عقل عليان لم يهتد إلى معرفة حافظ سرّ رغد العاهرة المنشغلة بالانتقام من قائد عسكري لمجرد شتم الأستاذ.
- اتفقنا، نصفي القائد، ثم نصفي الحساب بيننا، ولكن إذا لعبت لعبة أخرى، تعرفين ماذا يعني ذلك؟
ردت باستغراب:
- أية لعبة أخرى بعد؟
قال واثقاً:
- كأن تعملين على استنساخ شريطٍ آخر وتخفينه أيضاً.
ضحكت وهي تدرك أنّها لن تستطيع فعل ذلك لسبب بسيط أنها لن تراه بعدئذ.
- اطمئن جداً.
صمت الاثنان، التفت عليان إلى الباب، وقال لها:
- تنتظرني فاتن الآن، لأنها من المؤكد شاهدت دخولي المبنى.
همست له، قائلة:
- هل تريد أن أخبرك ما الذي يمكن أن تقوله لها إذا ما سألتك عن سبب وجودك عندي؟
كان بالفعل حائراً إزاء ذلك، فطلب نصيحتها بشغف:
- أخبرها أنّني حامل من الأستاذ وأريد تعويضًا ماليًا لرعاية الطفل والستر على الفضيحة.
وضع يده على رأسها.. ضاحكاً:
- يا لعقلك الجهنمي، وهو كذلك.
فتح الباب فوجد أمّ هاشم تراقب غرفة رغد وعندما رأته تشاغلت برفع الأنقاض والأوراق المتساقطة في الممر، ثم سار عليان إلى غرفة فاتن، دخلها وأقفل عليه الباب من الداخل.
بقيت رغد جالسة في مكانها على الأريكة تفكر في كل كلمة قالتها، أو قالها عليان، شعرت لأول مرة، أنّها أزاحت همًّا ثقيلا جاثي على صدرها لا تستطيع معه الشعور بالراحة، الآن وفدت إليها الراحة، وقد ضربت عصفورين بحجر واحد، سينتقم من فاتن لإهمالها بترك الكاسيت عرضة للسرقة وتصفية القائد الذي أصدر الأوامر الخاطئة بصعود الجنود إلى الراقم الجبلي وانفجار لغمٍ أرضي قطع ساقي والدها.
تخيّلت أنها تطير في أنحاء الغرفة، والأرض لا تسعها، ستترك هذا المكان اليوم، لأنّها لم تعد قادرة على هضم وجودها مع فاتن.
استغربت فاتن دخول عليان إلى غرفة رغد وإقفاله الباب من الداخل، يتطاير الشرر من عينيه، تقدم منها بخطوات وئيدة، وقد هيأ يده اليمنى، ليصفعها أولاً ويدمي وجهها، ثم يتبادل معها حديث الشريط، غير أنّه أدرك أنّ فاتن ستصرخ بشدة، وبالتالي ستسمع رغد، وستعرف أنّها لم تتجه بالأمور مثلما خططت، وربما سيفلت كل الخيوط من سيطرته، فيسمعن الرفيقات الأخريات، ولا يستطيع لملمة الحكاية، تقدم منها ببطء شديد حتى وقف أمامها..
- ماذا بك عليان؟ ماذا قالت لك رغد الملعونة؟
تنفس بعمق، ثم جلس، وتذكر نصيحتها فقال:
- ماذا.. هل قالت شيئًا عني؟
أومأ بيده:
- كلا.. لم تقل عنك أيّ شيء، تصوري أنها حامل!
ما زالت تترقبه، وقد أدركت أنَّ فحوى الأمر لا ينتهي عند هذا الحد:
- حامل؟! ممن.. ولماذا تقول لك ذلك؟
رد بسخرية، قائلاً:
- تقول إنها حامل من الأستاذ، وتريد تعويضًا ماليًا عن ذلك كي تستر نفسها من الفضيحة.
انطلقت ضحكة قوية من فاتن صدحت بين جدران مكتبها:
- وهل صدقتها؟
رد عليان بثقة:
- أتتوقعين مني أن أصدق كلام ساقطة؟
فرحت فاتن بهذه الكلمة..
- أتساءل لماذا جاءت إليك قبل أن تدخل، ثم مسكتك من يدك ودعتك إلى غرفتها.
فوجئ عليان بمعرفة فاتن بكل هذه التفاصيل..
- كيف عرفت أنها أمسكت بيدي وقابلتني عند الباب..؟
ضحكت فاتن، بثقة واطمئنان:
- لدي عيون، كما لديك، هل تريد أن أخبرك أين كنتما جالسين تتهامسان؟ هل تريد أن أصف لك مسافة فتحة التنورة من جهتك وما أثارت في نفسك من الشهوة وكتمتها بانتظار بوح ما لديها من الأكاذيب.
صمتت فاتن:
- والآن ماذا يمكن لك أن تفعل إزاءها؟
صفن قليلا، أخرج سيجارة ودخنها..
- أريد استعادة شريط الفديو؟
توقفت فاتن عن الفرح وكأن شيئاً وقع عليها من الأعلى فنظرت إلى السقف فلم تجد شيئاً قد وقع.
- ماذا بك أنت؟ أيّ شريط فديو؟
أغمض عينيه، ثم فتحهما على سعتهما، مع زفرة قوية حارقة..
- اجلبي شريط الفديو، حتى أعود به إلى مكانه، تعرفين كيف يعالج الأستاذ أموراً مثل هذه!
ردت بغضب:
- ما حاجة الأستاذ إليه وعنده العشرات بل المئات منه؟
قال لها:
- في مرات عديدة يعجب الأستاذ بمشاهدة لقطات من النساء اللواتي لا يتذكرهن، وأنت دائما على باله، لن ينساك لأنك جزء من لعبته، فإذا اكتشف أنَّ شريطك مفقود لا يقتلني أنا وحدي فقط، بل وأنت أيضا، لأنه حتما سيعرف أنني جلبته إليك مقابل صفقة معينة.
وجدته صادقا، فشحذت ذهنها وتوصلت إلى نتيجة مفادها أنْ تعمل نسخة منه ثم تسلمه له:
- حسنا.. تعال اليوم بعد العاشرة، وسأسلمك الشريط.
عقل عليان محدود الخيال لم يكن محدودا في هذه الفقرة، أدرك أنها ستعمل نسخة منه، فقال لها:
- كلا.. سنذهب اليوم معا، نتناول الغداء في مطعم، ثم نذهب بعدها إلى البيت، تعرفين عزيزتي أنّ الثقة بيننا على كف عفريت، أليس كذلك؟
لم تتوقع ان يسد الطريق عليها، لذلك رأت من الأفضل إخبار فائزة فورا بمخططها لكي تستنسخ بدلا عنها قبل مجيئهما إلى البيت..
- لا يا عزيزي، سأثبت لك أنّ الثقة بيننا ليست على كف عفريت، سنتغدى في المطعـم مثلما أردت، وعـلى حسابك طبعا، ثم
نتجه إلى البيت لأسلمه إليك.. ماذا تريد بعد؟
اطمأن عليان الآن على صدقها، وبقيت تتندر من رغد وألاعيبها وفضائحها فقالت له إنّ عليه ألا يصدق أية كلمة تقولها، فهي خبيرة بنساء على شاكلة رغد، فلم تكن حاملا كما تزعم ، وهي قبل أن ينالها الأستاذ تتناول حبوب منع الحمل، وفي خضم حديثها معه وجدت من المناسب الإسراع إلى فائزة لإخبارها بمكان الشريط وكيفية عمل نسخة منه.. استأذنته وقالت:
- لدي حاجة مع عفاف، سأعود إليك فوراً.
فكر في خروجها المفاجئ، وذكرها..
- حتى عفاف، تخرج معنا، أليس كذلك؟
أومأت له برأسها موافقة.
ذهبت إلى عفاف وطلبت منها عمل شيء ما لشعرها، ليدخل هو بعد قليل إلى الصالون ويكتشف أنها تحت أصابع عفاف جالسة تعمل لها شعرها وقبل أن يعود إلى مكانه، قالت ساخرة:
- قلت لك اطمئن، ستخرج معنا عفاف، لماذا تلح؟
خرجا إلى المطعم الفاخر في فندق عشتار شيراتيون وطلبت منه قبل الغداء احتساء بضع قناني من البيرة مدعية إنها ستجعل الغداء شهياً، فأذعن إلى مخططاتها، وجلب النادل البيرة وهما يتضاحكان من رغد التي لا تحسن التصرف..
- وماذا ستقول للأستاذ عن ذلك؟
ضحك، وهو يسايرها، لتظن أنّه مشغول بها فعلاً لإيصال هذه المعلومة إلى أستاذه.
- سأقول له إنّ إحدى المحظيات طلبت مبلغا من المال من دون ذكر التفاصيل .
أسرّت فاتن لأنها تمضي وقتا يطمئنها بإنجاز فائزة ما كلفتها به، حتى وإن شاهدت حقيقتها كيف يضاجعها الأستاذ في سبيل تمهيد الطريق لها بإخبارها عن حكايات المتعة، للوصول إلى المآرب الكبيرة، لكنها تمنّت بالوقت نفسه ألا تكون فائزة شديدة الفضول وترى ما لا يمكن احتماله فتهرب منها الفتاة، مثلما هربت سندس من قبل.
غير أنّ مسألة هروب فائزة، حسب ما تفكر به فاتن، غير ممكنة بدليل أنّها استجابت بسرعة إلى محاولة التحرش بها من قبل رجل الحماية للأستاذ الكبير، واستقبالها التمهيد الذي ألقته على مسامعها.. ولما انتهيا من الشراب والطعام، نهضا واتجها كل واحد منهما إلى سيارته، وعفاف غادرت بسيارة أجرة، وبعد نصف ساعة وصلا إلى المنصور حيث بيت فاتن.
دخلت قبله بسرعة إلى غرفتها فوجدت الشريط موضوعاً كما تركته، وغرفة فائزة مقفلة من الداخل، فيما تمدد عليان على الأريكة، وقبل أنْ يفتح النطاق، جلبت له الشريط. ثم أومأ إلى الفديو وقال:
- ضعي الشريط بالفديو، كي نرى ما يجب أن نراه.
اتجهت إلى جهاز الفديو وأدارت فيه دورة الكهرباء.
- ألم ترَ أنّك قطعت كل خيوط الثقة بيننا؟
- الثقة بيننا على كفّ عفريت.
شاهد عليان الفيلم ورأى فاتن عارية أمامه، وشعر بحاجته ليضم إليه هذا الجسد بين ذراعيه ما دام هو الآن قريب منه، نظر إليها تلك النظرة فأشارت بأصبعها:
- لا.. لا.. لا تفكر حتى مجرد التفكير..
تعلم أن فائزة تصغي إلى كلّ كلمة تقولها أو يقولها عليان فلا تريد أن تفضح نفسها أكثر من اللازم.
بعد ساعة، نهض عليان، أخذ الشريط، وغادر البيت، ثم أطلق زفرة قوية وحادة.. قائلاً: "انتهينا من الفقرة الاولى"، وانطلق بسيارته في شوارع المنصور.
عندما خرج عليان من البيت، وتأكدت فاتن من ابتعاد السيارة عن الشارع، طرقت باب فائزة، ففتحت لها.. نظرة فائزة التي ظهرت بها كافية لإخبار فاتن قيامها بالواجب على أحسن ما يرام، وضعت فائزة النسخة خلفها، قالت:
- تفضلي.
بحذر ، سألت فاتن:
- هل شاهدت محتويات الشريط؟
أنكرت مشاهدتها الشريط :
- كيف اشاهده، طلبت مني تنفيذ الأمر بسرعة ودون فتح التلفاز ، ربطت الجهازين مع بعضهما وأنه سجّل نصف الساعة الأولى منه، ثم أقفلتهما كما طلبت؟
"ما زالت هذه الفتاة غامضة" هكذا قالت فاتن..
- ألم يدفعك الفضول إلى معرفة محتوياته؟
ضحكت فائزة ضحكة باردة :
- ألم تخبريني أنّه مجرد فيلم إباحي، فما الداعي لأعرف ما فيه؟
بالرغم من إعجابها بمنطقها إلا أنّها لما تزل غير متأكدة من صحة ما تقول:
- هل تحاولين إقناعي بأنك لم تشاهدي الفيلم؟
ردت بجد وحزم:
- لماذا أحاول إقناعك وأنا أقول الحقيقة.
في صباح اليوم التالي، وهي تتجه مع فائزة إلى مبنى الاتحاد، يهيمن حدسها عليها بأنّ فائزة شاهدت الفيلم .
وقبل وصولهما إلى المبنى ، وجدتا سيارة نجدة الشرطة وبجانبها سيارة الإسعاف ويتجمهر بعض الناس حول جسد مسجى على الأرض بالقرب من باب الاتحاد، ولم يسمح المجال لسيارتها بالمرور لدخولها إلى المرآب، فترجلت فاتن من السيارة مسرعة، واتجهت صوب الجمهور وهم ينظرون إلى الأسفل، حيث ترقد جثة مغطاة بالبطانية، حنت جذعها مع الناس، لتجد خصلة شعر خارجة من الغطاء، فانحنت أكثر، كشفته عن وجه الملقى على الإسفلت، فوجدت رغد تغطيها الدماء من جانبي رأسها.
21
لم تكن فاتن تأبه لموت رغد، فهو أمر توقعته بين لحظة وأخرى، لكن ما تريد التوصل إليه، هل قرار تصفيتها الجسدية تم بيد عليان أم الأستاذ؟
تصورت نفسها تلقى ذات المصير، ومصائر كل الفتيات اللواتي ذهبن إلى بيت الأستاذ، خافت فاتن ، ماذا يمكن أنْ تعمل لكي تعرف الحقيقة؟ استرجعت الأحداث بسرعة، بعد مغادرة عليان غرفة رغد، جاء إليها والشرر يتطاير من عينيه، لكنه تماسك من أن يبدي غضبا ضدها، لن تستطيع نسيان تلك الصورة، ثم، يطلب منها بإلحاح شديد استرجاع شريط الفديو، وهي لن تنسى شروده حين تناول طعامه وشرابه معها في الفندق.. كان شروداً يخص ما جرى حتما بينه وبين رغد، تساءلت: "هل اكتشفت رغد الشريط مثلاً؟ كيف يمكنها ذلك وقد تمت العملية بسرية تامة؟ هل كانت تتنصت عليها، لو كان ذلك حاصلا لأخبرتها أمّ هاشم بذلك فوراً!
شعرت فاتن بالصداع.
ضغطت على زر المصباح لاستدعاء فائزة، ولم تمض دقيقة حتى جاءت بوجهها الذي أصبح أكثر حيادية من ذي قبل.
- اجلسي، أنا متعبة، وعندي كلام معك.
جلست فائزة وهي تنظر إليها تلك النظرة الجانبية المعبرة عن امتعاض خفي، ومستعدة لهضم المزيد من فضائح هذه المرأة.
- هل صدقتِ قصة موت رغد، اعتقد أنّ العملية مدبرة.
لم تجب فائزة كعادتها، فاسحة لها المجال لتقول كل ما لديها، فأضافت فاتن:
- العملية مقصودة، رغد قبل يوم من الحادث، طلبت من عليان تعويضا ماليا من الأستاذ بسبب حملها، وأقنعها عليان بأنّ طلبها سيتحقق، غير أنّ الذي حصل، تم قتلها.. ألا توافقينني الرأي؟
ردت فائزة متسائلة:
- ومن يكون قد قتلها، ولماذا؟
أجابت فاتن متوترة:
- عليان نفسه، ألا تجدين رابطا معينا بين حملها وقتلها؟
قالت فائزة كلمات بدت لها غامضة :
- لا أدري.. ربما نعم.. ربما كلا.
غضبت فاتن وندمت لأنها أباحت لنفسها فضّ ما لديها من الأسرار.
- أرجوك لا تقولي لا أدري.. أنا أتصور أنه فعلها، ولكن لماذا؟
سايرتها فائزة، لكي لا تؤجج غضبها..
- إذا كنت تريدين مني موافقتك على أنه قتلها بنفسه، قد يكون من الجائز قد قتلها. وقد لا يكون.
وجدت فائزة فرصة كي تمعن في تعتيم شخصيتها أمام هذه المرأة.
- ماذا يحتوي الشريط.. أنا لا أفهم سر الاهتمام به إلى هذه الدرجة؟
- الشريط يحتوي..
وصمتت فاتن، لشعورها بأنّ الوقت لم يحن بعد بمفاتحتها بالذي تخطط له..
- انسَ الموضوع، دعيه، لا يحتوي الشريط شيئاً.
إلا أنّ فائزة ذات الوجه حيادي المشاعر، لا تفلت الخواطر على لسانها بمجرد أن تضطرب الصورة التي أمامها، إنّها واعية لكل ما تقوله هذه المرأة، وهي لم تفوّت عليها فرصة أن تعثر على واحدة من أعظم أسرارها باكتشاف ذوبانها تحت قدمي الأستاذ في الشريط الإباحي، فائزة تدرك ماذا يجب أن تقول، وكيف يمكنها أن تقول ما تريد ، من دون أن تضطرب كلماتها ، وهي إزاء فاتن، لا تملك خيارين لا ثالث لهما، بل هو الخيار الوحيد الذي سيوصلها إلى أهدافها، خيار جسدته بالبقاء معها إلى آخر المطاف، أمّا إلى أين سيؤدي بها البقاء وأية كوارث يمكن أن تحل بها، فذلك ستتركه إلى غريزتها وفطرتها في الدفاع عن نفسها، المهم أنّ لديها، هدف البقاء واكتشاف المزيد من الأسرار.
قالت فاتن بعد أن تابعت شرود فائزة وانزواءها في دهاليز أسرارها العميقة غير المكتشفة:
- لا بد أن يدفعك الفضول لمعرفة ما يحتوي الشريط الخاص بحكايتنا.
قالت فائزة وهي حذرة من أفخاخ فاتن:
- لا يدفعني أي فضول إطلاقاً، قلت لك لا أحبذ مشاهدة الأفلام الإباحية، هذا خلاصة ما لديّ.
- إذن فكري معي أرجوك، لماذا قُتلت رغد؟ وإذا لم يكن بسبب الشريط فلأي سبب؟
قالت فائزة بمراوغة غير مكشوفة:
- عدنا إلى الشريط، ماذا يمكن أن يحتوي ليكون ذلك سببًا في إقصاء إنسان من الحياة، أرجح أن موت رغد قضاء وقدر، ولا تحاولي تعذيب نفسك في البحث عـن خيوط واهية قد لا تهديك إلى الحل المناسب.
نهضت فائزة ونظرت إليها تلك النظرة الجانبية ذات المشاعر الغامضة.
- هل أنصرف أم أنّك تحتاجيني معك وقتًا آخر.
فأشارت إليها بالانصراف، وبقيت فاتن تفترس الظنون قلبها، وضعت رأسها على مسند الكرسي مغمضة العينين، وتذكرت بعد ثوان أمرًا في غاية الأهميّة: "لماذا أصر عليان على أخذ الشريط من دون محاولة استرجاع الكاسيت الصوتي الذي يعترف فيه بسرقته شريط الفديو من دولاب الأستاذ؟".
بسرعة وارتباك، لاهثة، مضطربة ، بحثت عن المسجلة الصغيرة الموضوعة في الدرج الثالث، التقطت المسجلة وضغطت على زر التشغيل ، وعندما شنفت سمعها وجدته أغنية لفيروز، فاستبدلت الشريط بآخر، ثم ضغطت الزر فصدحت أغنية لوردة الجزائرية، ذعرت وخافت، وعقلها المدبر الجهنمي لم يفض لها بسر اللغز الذي يحاصرها الآن، أين يمكن اختفى شريط الكاسيت؟ هل عدم مطالبة عليان به دليلٌ على فعل شنيع قام به ضدها؟ لماذا يسرقه منها ما دامت قد منحته شريط الفديو، هل يمكن أن يكون قد سرقه قبل أن يستلم شريطه؟ ولكن كيف دخل إلى غرفتها؟ ومتى دخل؟ ومن ساعده على دخولها؟
إنّ عددًا من المفاتيح كانت موجودة في حقيبة رغد.. ولم تسأل عن سبب وجودها ولماذا تستخدمها، فهل يمكن أنَّها استنسخت مفاتيح غرف الاتحاد لتسهل الأمر على عليان؟: "ما زالت المفاتيح وحقيبة رغد عندي فلماذا لا أعمل على تجريبها في الأبواب".
نهضت، حاجيات رغد محفوظة في مكان منعزل من غرفتها في دولاب صغير، سحبت الحقيبة ، التقطت المفاتيح، ذهبت بها فوراً إلى باب غرفتها، وجدت نسخة مطابقة لقفل بابها عشقت به. تصاعد الذعر، والنار بدأت تأكل أحشاءها.
قلبت المفاتيح، وفكرت في الطريقة التي مكنت رغد من سرقتها واستنساخها، ليس هناك سوى "أمّ هاشم".. فهي الوحيدة التي تحتفظ
بمكان سري لا أحد يعرفه سوى فاتن.
ضغطت على جرس التنبيه فجاءت أمّ هاشم حاملة إناء الماء ووضعته فوق منضدتها، نهضت فاتن من مكانها قبل أن تعود أم هاشم من حيث أتت، فقالت فاتن:
- توقفي في مكانك، عندي كلام معك.
ارتجفت أوصال المرأة وتوقعت إنها ستتلقي آخر الإهانات، فقد اعتادت هي على ذلك منذ أول يوم وطأت قدماها المبنى، قالت فاتن:
- اجلسي..
فجلست، لأنها إن لم تفعل ستنهرها:
- هل كنت تحبين المرحومة؟
فوجئت المرأة الخمسينية، واحتارت في الجواب، فإنْ قالت نعم، ستكذب لأنّها سبق أنْ أبدت كرهها لرغد ، وإنْ قالت كلا، فهي لا تريد أن تبدي كرهاً للأموات، غير أنّ فاتن لم تدعها تسترسل بتفكيرها، فزعقت بها:
- أخبريني؟
- يرحمها الله.
لم تقاوم فاتن رغبتها بالزعيق، فقالت لها:
- ماذا بينك وبين رغودة "المرحومة"؟
تذكرت أنها ستطرد إن قالت أي شيء وأنها قد تبقى في وظيفتها إنْ سترت حال الفتاة الميتة وسترت حالها.. ردت أمّ هاشم:
- لا شيء بيني وبينها، ألم أوصلك كل أخبارها من ساعة دخولها الغرفة وحتى خروجها؟
مسكتها من كتفها، وسألت:
- كم أعطتك من المال مقابل المفاتيح؟
في هذه اللحظة تمنت أمّ هاشم أن يقفز الزمن إلى الأمام، تذكرت ابنها الذي استطاعت فاتن إعفاءه من العسكرية، والأرائك القديمة التي نقلتها إلى بيتها من أثاث مبنى الاتحاد، والتلفزيون الملون التي أهدته إليها، ونقل أبن أختها من جبهة الحرب إلى معسكرات بغداد ليخدم في وحدة الحسابات العسكرية مراسلاً، خلافاً للكثير من الجنود، تذكرت الراتب التقاعدي الذي شملت فاتن به زوجها أبو هاشم ولم يُمضِ يوماً واحدًا في خدمة دوائر الدولة المدنية..
اصبحت ترتجف أمام المديرة العصبية، ولا تعرف بماذا تجيب، فقالت:
- لا أعرف ما تقصدين، أمّا الأموال فأنا لا آخذ أموالاً من سواك.
فكرت فاتن بأنّ الهجوم أفضل وسيلة لانتزاع الكلام منها ـ حتى تصل إلى نتيجة سريعة وليس لديها فائض من الوقت للمناورة مع ساذجة وغبية وطماعة مثلها.
- طيب، يبدو الكلام معك لا يفيد، اذهبي إلى المحاسبة وخذي راتبك واعتبري نفسك مطرودة من الآن.
بكت أمّ هاشم، نشجت بشكل حقيقي هذه المرة وليس تمثيلا،خوفا على ابنها من إلغاء الإعفاء عن خدمته العسكرية.
- إذا بحت لك بالحقيقة، أأستمر بعملي؟
- تكلمي لنرى.
قالت أمّ هاشم.. "في يوم من الأيام، طلبت مني رغد جلب شايٍ لها، فجلبته، ثم قالت لي خذي هذه الهدية، رزمة كبيرة من النقود، سألتها لماذا، فقالت إنّها تريد مساعدتي بدون مقابل، فأخذت المبلغ، ولم أخبرك بذلك، وفي اليوم التالي، جاءت لي برزمة أخرى، فأخذتها أيضًا، تعرفين حاجتي للنقود، أريد أن يتزوج هاشم ـ وفي اليوم الثالث أعطتني المبلغ نفسه وهكذا لمدة أربعة أيّام، ثم انقطعت، ولما سألتها لماذا، قالت يكفي إلى هنا، كنت بحاجة إلى المال، وبعد أسبوع، قالت لي، هل تريدين مبلغا جديداً، ففرحت وقلت لها: "يا ليت، فقالت مقابل المفاتيح، سألتها، ماذا تفعلين بها؟ استلمت رزمة كبيرة ولم أستطع مقاومة ذلك، الإنسان ضعيف أمام المال.
ثم أخذت أم هاشم تبكي وتقبل يدي فاتن وانحنت إلى قدميها وقبلتهما.
- انهضي، لن أطردك.
انصرفت المرأة وبقيت فاتن تفكر في الكيفية التي نجحت بها رغد في استمالة المرأة لسرقة المفاتيح.. جلست وراء مكتبها وقالت: "كلا.. لن أطردها، هناك أمور كثيرة يجب أن أفهمها، فلربما ليست رغد وحدها من أغوتها بالمال".
وفيما تجلس فاتن مسترخية، وقد انتهى فصل رغد، وعرفت كل القصة، جاءت أم هاشم إلى غرفتها..
- هناك شخص يريد مقابلتك.
زعقت بها:
- لماذا أنت وليست فائزة تبلغني بذلك؟
ترددت أمّ هاشم قليلا، وتمتمت، ثم قالت:
- فائزة خرجت تبتاع شيئا من الأسواق.
تذكرت فاتن أنّ حالة فائزة صباحا تشبه حالاتها أثناء حدوث الدورة الشهرية ، ثم سألت:
- من يكون الشخص؟
دخل ناجي غرفة فاتن قبل أن يطرق الباب:
- أنا ناجي عباس ، ضابط في مديرية الأمن العامة.
لم تستسغ فاتن دخوله المفاجئ، وتضايقت منه، لكنها إزاء فضولها كتمت غضبها، فقالت بجفاء:
- نعم، تفضل أخي.
تقدم خطوات من مكتبها:
- ألا ينبغي أن تضيفي ضيوفك؟
لم تقل له شيئا، فهي تعرف أنماطاً كثيرة من الرجال ولن يستطيع هذا إثارة أي شعور إزاءه.
- تفضل أخي، قل ما تريد؟
ابتسم ناجي ابتسامة ثقة..
- أنا جئت إليك أنت بالذات.
فوجئت بثقته ورباطة جأشه، لكنها لم تدع المفاجأة تتغلب عليها، فدعته يكمل..
- ألا تقولين لي استرح على الأقل؟
انزعجت فاتن من تلك الثقة، فقالت له:
- قل ماذا تريد، لأنني سأغادر المبنى لاجتماع طارئ مع الرفيقة المسؤولة.
شعر ناجي بالصلف والكبرياء والقوة في صوتها وإصرارها رغم أنّه عرفها بنفسه، ولديه يقين ما أن يقول لها إنه من الأمن العامة حتى ترتبك، شأنها شأن العراقيين جميعًا، وربما ستفتح له كل الآفاق، غير أنّ ذلك لم يحصل، كان يراقبها وهي تراقبه، كأنهما في حلبة، وبخبرته في النساء, أحسّ أنها راقت له، وأنها هي المطلوبة، "هكذا نساء يمنحن الدفء الشامل والمتعة الكاملة"، لم تدعه يمضي بعيداً بأفكاره.. سألته:
- هل جئت من أجل إلقاء نظرة على " جهرتي "، أم لديك عمل تريدنا ننجزه؟
جلس على الكرسي المحاذي لمنضدتها:
- سأجلس حتى وإن لم ترض، أنا ضيفك على أية حال، ولن أسرق من وقتك أكثر من دقائق معدودة.
جرأته وصلفه أثارتا إعجابها:
- أستغرب من تصرفك، قلت لك عندي اجتماع فماذا تريد مني بالضبط؟
نهض وسار نحو الباب، مفتعلا الغضب، وقبل خروجه، قال لها:
- كنت أتوقع أن تكون المقابلة بمستوى ما أحمل إليك من أخبار سارة تخص ابنتك سمر!!
أحسّت كأن قلبها هوى بين يديها، نار تأججت بين أحشائها، نار الشوق لابنتها الغائبة، سمر عزيزة قلبها، وفلذة كبدها، غير أنّ ناجي صفق الباب خلفه وسار مسرعا في الممر المؤدي إلى الباب الخارجي، لحقت به وهي تصرخ:
- أستاذ ناجي.. أستاذ ناجي أرجوك..
صعد سيارته ثم شغل محركها وبعدها شخطت الإطارات بإسفلت الشارع ليخلف وراءه فاتن تلوح له وهو ينظر إليها في المرآة، وقد ألتقطت بصعوبة رقم عجلته السوبر 82 ثم اتجهت إلى المبنى نادمة على ما فعلت.
عادت إلى مكتبها مذعورة، لاهثة، أحسّت أنّ قلبها أخذ يركض خلف سيارة ضابط الأمن ،جلست مرتبكة لا تعرف ماذا ينبغي أن تفعل: "ليس هناك أحدٌ غيره سيّحل هذه المشكلة " تذكرت ابن عم عليان الذي يعمل ضابطاً كبيراً في الأمن العامة ، بحثت عن رقم هاتفه في دفتر التلفونات ، تصفحته وهو يزدحم بأرقام ورموز وأسماء وعلامات، تقلب الأوراق الصغيرة باندفاع ولهفة، وفي دوامة بحثها غير المجدي، سمعت نقراً على الباب، إنّها الطرقات نفسها التي تعرفها، عليان ليس غيره، دخل بوجهه الضاحك، تمتمت:
- بسرعة.. أخبرني كيف يمكن الاتصال بابن عمك؟
دهش عليان وهي تهتز أمامه مذعورة ومتلهفة، متسائلا عن اختفاء ذلك الجبروت والقوة التي كانت تسبقها قبل أن تظهر على هذه الشاكلة المزرية..
- لماذا.. ما الذي حصل؟
وعندما أفضت إليه بمكنون صدرها، استرخى، وأمسك سماعة التلفون، وتحدث مع ابن عمه بطران، نهره..
- قلت لك اسمه.. انتظر لحظة.
همست فاتن لتذكره بالاسم، ورقم سيارته، فقال:
- اسمه ناجي عباس .. ورقم سيارته (... )
ثم أغلق التلفون وابتسم لها قائلا:
- نحن نساعدك وأنت ترفسيننا بالحمام..
عقلها لم يستوعب ما يفكر فيه، فلم تنجح بتحليل شفرات كلامه الآن، أيّة رفسة، فلا تتذكر أنّها فعلت ذلك، وأين؟ يقول إنّها كانت بين فخذيه، أكيد كان مخموراً ، إنها ليست قادرة على فتح أيّ حوار معه في أي مجال إلا حوارها حول سمر ابنتها..
جلس عليان يفكر في العصف الذي ألمّ بفاتن، يشعر بالارتياح لذلك، اليوم جاء من أجلها، لن تستطيع أن تقوى على مواجهة ما لديه، وبخاصة وهي في أشّد لحظات ضعفها ، ومناشدته مساعدتها في العثور على ضابط الأمن الذي سيوصلها إلى ابنتها سمر.
- أتعرفين ماذا قالت لي المرحومة؟
ذهنها مشغول الآن في الدوافع التي دعت رجل الأمن إلى إخبارها بابنتها، ماذا يريد أن يأخذ منها مقابل حصولها على معلومات تخص أبنتها سمر، ترى هل وقع زوجها غسان في قبضة الأمن بسبب جرم ، ولكن أية جريمة سيرتكبها وهي تعرف إنه جبان لا يغامر بحياته ، حتى على حساب كرامته، لا تعرف كيف أحبّته في الكلية، ولا كيف أغواها بالذهاب إلى البيت، ولا كيف فض بكارتها، كل ذلك كان مثل الحلم، لم تفق منه حتى الآن، بعد مضي أكثر من سبع سنوات، هل كانت تحبه حقاً ؟ أم أنّها بحثت عن رجل ضعيف تستطيع أن تمارس معه ساديتها.. استغرب عليان من صمتها وشرودها..
- أتحدث معك وأنت في وادٍ آخر.. ألا تسمعينني؟
لم تصغ إليه فعلاً ، ما أغضبه ذلك :
- سأتصل بابن عمي بطران وأطلب منه عدم المجيء ، لا يصح أن تتجاهليني.
فانتبهت إليه، وسألته:
- ماذا قلت بشأن المرحومة؟ أعدْ السؤال أرجوك، أنا مشوشة.
فسألها والضجر قد تسرب إلى نفسه:
- أتعرفين ماذا قالت لي المرحومة؟
هزت برأسها، مستفهمة:
- ماذا قالت؟
فأجاب مضمراً شيئًا ما:
- قالت إنك تتسترين على تلك الفتاة، وتعرفين أين هي الآن!
عقلها يشتغل بسرعة ، وأيقنت أنّه سيتحدث عن فائزة محاولا اختراقها من شاهدة ميتة.
- لا أعرف عنها أيّ شيء.
قال لها بتهديد:
- ابن خالتها كريم الذي في قبضتنا، أخبرنا إنها منذ ذلك اليوم لم تعد إلى بيتهم، يعني هذا ما زالت عندك؟
حاولت أن تضحك, لكنها لم تستطع, وخشيت من اقترابه للحقيقة، فقالت:
- ولماذا لا تقول إنها سافرت إلى بيت أهلها في البصرة؟
هزَّ يده، وقال:
- أتتوقعين لم نجرِ تحرياتنا؟ إنّها في بغداد، وإذا لم تساعدينا في العثور عليها، فلن أساعدك في قضية ابنتك، واحد بواحد، أليس كذلك؟
لم يكن مزاجها ليسمح الآن بتقريعه، كما أنّها تشعر بالتشتت، غير قادرة على التركيز، قالت بما يشبه التوسل:
- أرجوك عليان، لا تلعب معي، أنا لا أستطيع مجاراتك، دع بطران يأتي إلى هنا ولنرَ ماذا يمكن أن نفعل فيما بعد..
رفع السماعة، وقبل أن يزول الرقم.. هددها:
- أمامك ثوان ، أريد خيطاً حولها والأ فلن تعرفي عن ابنتك إي شيء، وبعد هذا ، أريد معرفة أين شريط الكاسيت؟
أخذت منه سماعة التلفون وهي تقرّب صدرها من أنفه، أدركت أن هذه هي الطريقة النافعة في تهشيم حضوره ، فهي ما زالت بفتنة المرأة الثلاثينية، وبإمكانها فعل أيّ شيء الآن، حتى لو اقتضى ذلك أن تتعرى أمامه، وتأخذه إلى الحمام، لتنظف بقاياه الدفينة، مقابل أية معلومة تأخذها إلى ابنتها.
- اسمع عزيزي، شريط الكاسيت سرقته رغد وأعطتك إيّاه، لأنه يفضحك، بعد أن قررت المرحومة ما ستفعله ضدك، أو ضدي، فقمت أنت بالواجب وقطعت رأس الأفعى، هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى، بالنسبة للفتاة المقصودة، فلو أعرف أي شيء عنها، لن أتردد عن إخبارك ، فأنا شغلتي مثلك ، كلنا نكدح لإسترضاء الأستاذ، فلا تتعب نفسك معي بشأن سراب، موضوع الفتاة انسَه.. أرجوك.
أيقن عليان أنّها تبدو صادقة فيما تقول ولذلك طلب منها أن يعرف مصير سندس وأين يمكنها قد ذهبت!
- وهذه أيضاً لا أعرف عنها شيئًا!
عيناها مذعورتان، قلقتان، تجاه الباب، متوقعة بين لحظة وأخرى مجيء بطران ، فاستسلما إلى الوقت وهما ينتظران، طال بينهما الصمت، وتعرقت ، وخصوصا تلك المنطقة المحصورة بين الفخذين، وفي داخلها تعاظمت الهواجس من أن تفاجئها فائزة بالدخول إلى غرفتها وتفضحها..
بعد ساعة من الانتظار جاء بطـران، فيما ذاب عليان في التوتر
والاستمناء الداخلي وهو يتصور جسد تلك الفتاة كيف يرفس تحت قدمي الأستاذ.
صافحه من غير من أن ينهض:
- لماذا تأخرت؟
- أنجزت عملا معقداً مع...
ثم توقف عن الكلام، فهذه تعد من المحظورات وليس مطالبا أن يشرح لابن عمه ماذا كان يفعل..
- أخبرني ماذا فعلت إزاء الضابط الذي يعمل عندكم؟
جلس على الأريكة وهو يتأمل جسد فاتن الواقفة، متلهفة، تنتظر منه أية كلمة بشأن العثور على ناجي.
عيناه تقدحان بالشرر وشارباه معقوفان إلى الأسفل ، شاهدت فاتن، بلمحة سريعة، تكوراً محصوراً بين الفخذين، لا تدري لم نظرت الى ذلك المكان ، فلامت نفسها ..
- الضابط سيلتحق فورا إلى هنا .
اضطربت فاتن من الفرح وشعرت بأنّ الأرض ضاقت عن حملها، كادت ترقص طربا ووجدت أفضل ما يمكن أن تهدي هذا الشبقي الذي أخذت عيناه تأكلانها من شدة التحديق ، أن تجلس أمامه بطريقة مثيرة معبرة عن الامتنان..
سألها بطران:
- بالضبط.. ماذا قال لك ؟
ما زالت نبضات قلبها في تسارع وأختفت الكلمات من رأسها، فهي لا تتذكر "بالضبط" ماذا قال سوى أنه ذكرها بمعرفته مكان أبنتها.
بعد دقائق، دخل ناجي، فألقى التحية العسكرية إلى بطران، بضرب الأرض بقوة وصّف قدميه في حالة الاستعداد ، كان وجه ناجي مذهولا، خائفا ومرتعبا:
- نعم سيدي.
من دون أن ينظر إليه ، نافخا صدره، قائلاً:
- أخبرنا كيف نصل إلى ابنة الرفيقة؟
بارتعاش وخوف واضح :
- حالاً سيدي.
التفت بطران إلى الرفيقة فاتن..
- هل تريدين رؤيتها الآن، أم في وقت آخر؟
وضعت فاتن يديها على وجهها، وبكت، وتمنت أن تموت الآن، وليس في إي وقت من أجل رؤية ابنتها.
كان ناجي ثابتا في مكانه، ينظر إلى سيده بطران نظرات خشوع والى هذه السيدة الحديدية التي لم ترفع يديها عن وجهها إلا حين ضحك عليان.. وقال لها:
- رفيقة فاتن.. أتريدين أن نأتي بعشيرة زوجك إلى هنا؟
التفت بطران إلى ناجي وسأله وهو ما زال منتفخاً:
- هل تعرف زوجها؟
رفعت يديها عن وجهها :
- طليقي.. وليس زوجي.
أجاب ناجي، بالثبات والإذلال والخشوع نفسه:
- نعم سيدي.
- ماذا يعمل؟
- نائب عريف مكلّف في الفرقة 31 لواء 429 في منطقة جسر الواوية بالحويزة بالقرب من مجنون الجنوبي.
أجاب بطران وهو منتفخ الأوداج.
- فرقة 31 تقع بالدير قرب البصرة، قائدها يالجين عمر عادل التركماني.
- نعم سيدي، لكن اللواء 429 ضيفية على الفرقة 32 بالحويزة، ضابط التوجيه السياسي للفرقة مقدم خالد الدوري الذي كان يقدم المجلة العسكرية بالتلفزيون..
ثم توقف ناجي، مرت مدة صمت، تصغي فاتن وتراقب الحوار بينهما، حوار ليس غريبا عليها، فالرجال الذين تعرفهم، غالبا ما يتبادلوا المعلومات بسرعة واقتضاب :
- طيّب ناجي، لنرَ الرفيقة ماذا تُريد، حتى نُقرر بعدها كيف يمكن جلب أبنتها إليها..
- أنا حاضر سيدي.
كلُ الأنظار توجهّت إلى فاتن، كانت ترتعش، ضربات قلبها في تسارع مستمر، لا تريد الآن أن تجلب أبنتها بالطريقة التي يجلب فيها الأمن أي شيء، وتصورت إنهم قادرون حتى على الطيور في السماء لو أرادوا.
- هل يمكن أن أراها من دون أن تراني؟
ضحك عليان وبطران، وبقي ناجي ثابتاً لم يتزعزع عن مكانه، شاعرا بورطة كبيرة، ليس الخلاص منها سيكون بسهولة، ولم يكن يتصور أن تكون الرفيقة واسعة النفوذ مثلما يراها الآن، ركبتاه ترتعشان مثل ارتعاش فاتن، ويرى أنّ مصيره في مهب الريح، فالضابط الكبير يجلس أمامه وهو أحد رموز العائلة، ابن عمهم، وبإمكانه أن يفعل به ما يشاء، يطرده، أو أقل احتمال يقوم بنقله إلى آخر نقطة في جنوب أو شمال العراق..
ما زالا يتضاحكان.. فسأل بطران:
- كيف ترينها دون أن تراك؟
وضحك أيضا.. ثم قال:
- يعني مثل الأفلام الهندية.
ثم التفت إلى ناجي:
- اسمع، تصطحب مفرزة بإمرتك وتجلبون الصغيرة إلى أمها.. نفذ؟
- نعم سيدي.
ثم قال له ، قبل أن يخرج :
- بعد ذلك قابلني غداً في مكتبي.. انصرف.
غادر ناجي، وشعرت فاتن بالهلع، ما الذي يمكنها أن تفعله إذا جاءوا بصغيرتها الآن، من يقول إنها ستتعرف إليها؟ وتتيقن أنّها أمّها، ماذا قال لها والدها عن امها؟ أكيد أنه أخبرها بموتها، أو بسفرها إلى الخارج ، تدفقت الهواجس والمخاوف في عقلها، هل يمكن أن تعيش معها بهذه الحالة المزرية، علاقات ونساء وخمور وحفلات ورجال يدخلون إلى البيت ويخرج آخرون.. هل ستكون جميلة مثلها؟ بأية حالة هي الآن؟
قال عليان:
- هذه فضت، ماذا تريدين بعد ذلك ؟
لم تجب فاتن إذ ما زال الخوف يسيطر عليها، ذهب عقلها إلى الحمام ، يجب أن تغطس بالماء كي تشم ابنتها رائحتها الطيبة.
استأذنت عليان وبطران ودخلته ، وبعد نصف ساعة، وجدت بطران غادر المبنى وعليان بقي في الغرفة:
- أين ذهب بطران؟
رد بابتسامة خبيثة:
- يقول إنّه يطلبك بواحدة..
فهمت ما يقصد، كان عليها أن تنشف شعرها عند عفاف فطلبت من عليان أن يبقى في مكانه، ، لأنها ستعود بعد دقائق، غادرت غرفتها، ومرت بجانب غرفة فائزة، ثم التفتت إلى الوراء خشية أن يراها عليان، ثم عندما تاكدت عدم خروجه ، دلفت بسرعة إلى غرفة فائزة، أخبرتها بغلق الباب عليها وحذرتها ألا تخرج منها، لأن عدوها موجود، وخرجت مسرعة إلى عفاف، ولم تتأخر كثيراً تحت أصابع الحلاقة التي نشفت لها شعرها سريعا وعادت إلى غرفتها لتجلس وراء مكتبها.
وبعد ساعة، شاهدت سيارة الضابط ناجي تقف عند الباب وبجانبه تجلس فتاة في السابعة من عمرها، فترجل من السيارة ، تقدم بها إلى مبنى الاتحاد، اغرورقت عينا فاتن واضطربت وهي ترى ابنتها لأول مرة، بعد سبع سنوات تقدمت من الفتاة، بخطوات بطيئة، متعثرة، فاتحة ذراعيها إليها لكي تحضنها.. قبلتها من جيدها ، عصرتها بين ذراعيها وهي تشم رائحتها الزكية ، بصعوبة غالبت دموع عينيها .. لكنها لم تستطع .
22
لا يشبع الأستاذ من الملذات الحسية، إذ كل ليلة له صولة وجولة، يشرب الخمر حتى يصل إلى درجة الانبطاح، وغالبا ما يجد نفسه، عاريا في الغرفة ينام على البلاط البارد، لا يشبع من التجوال في الكليات والمعاهد بحثًا عن فاتنات يراقبهن بعيني ذئب، ولا يتورع من افتعال أحاديث سخيفة مع أساتذة أو رئيس اتحاد الطلبة أو عميدٍ للكلية، ولكنه، يشعر بسرعة من الملل ويحس بالجدب الروحي، حين لا يستطيع مجاراة الأساتذة أو عمادة أي كلية، في أن يتحدث مثلهم ويفسر الأشياء والظواهر مثلما يفعلون، فيعود إلى نفسه، شاعرا بالخسارة والاضمحلال، ليستعين بكريم، الرسام الذي يرسم له ويكلمه، يرتاح حين يتكلم كريم، يشعر إزاءه بالامتلاء وكثيرا ما أعجبته طريقة كلام كريم، فهو يعتقد أنّه موسوعة تتحرك على قدمين، حدثه كريم عن الفنانين العظام، دافنشي ولوحاته المثيرة، الموناليزا والعشاء الأخير، حدثه عن فان كوخ وسيزار فيما الأستاذ يصغي منتشيا، مثل طفل صغير، ليتعلم، رغبته في التعلم تفضحها أسئلة يطرحها بسذاجة وغباء، وكريم على دراية تامة مع من يتحدث، فهو حين يسأله، يجيب عن أسئلته بالاستهلال الجميل الذي تطرب له نفس الأستاذ "سيدي الفاضل الكريم، من جهتي أرى أنّ المسألة تحتاج إلى كذا" ثم يسترسل فلا يتوقف، بصوت هادئ واضح النبرات، ولا يتوقف إلا حين يأمره بالتوقف، فيصمت كريم، وهو يعرف أنّ عقل الأستاذ لا يستوعب كل التدفق الهائل من المعلومات، فيطلب عندئذ جلب الخمرة، ويجبر كريم أن يشرب معه كمية يحددها له، لكي يضحك عليه ويضايقه. إنه لم يفض أسراره، فالأستاذ مغرم بأسرار الآخرين، وإذا أراد أن يمتع نفسه يذهب إلى مديرية الأمن العامة يشاهد عن قرب عمليات التعذيب الجسدي لمعارضي النظام، يتمتع الأستاذ باعترافات كاذبة يطلقها بعض ممن يزج بهم بالسجن، كانوا يعترفون وهم يتصورون سيتم خلاصهم من كل أنواع التعذيب، يتمتع حين يرى سجيناً معلقاً من قدميه صارخاً بأنه فعلا أرتكب الجرم الفلاني، ويهمس له ضابط التحقيق بأنه يكذب إذ لا وجود لذلك الفعل، وكان الأستاذ يسرق بعض أنواع عمليات التعذيب فيطبقها في غرفة خاصة على بعض الفتيات ممن يرفضن منح أجسادهن إليه، وكان أجمل ما يراه حين يضع المكواة على مؤخرة إحداهن فيشوي جمرها المتقد الجلد الرقيق، فتتلوى الفتاة تحت نيران الاحتراق ، فالأسرار الشخصية هي سر سعادته، ولكنه مؤخراً حتى هذه السعادة بات يجد نفسه إزاءها ملولاً، غير عابئ بها، وأصبح كريم، رسامه الشخصي كوة يطل من خلاله على أسرار الكون والحياة والفن، حدثه عن موزارت وبتهوفن وجايكوفسكي، يضحك كثيرا حينما يريد أن يتلفظ الموسيقار جايكوفسكي فيقول جاي وفسكي، ما هي أخبار الجاي والكسكي كريم، غير أن كريم، بعد أن غزا دواخل الأستاذ، لا يسمح لنفسه، أن يضحك، لأن أية ضحكة في الصحو، معناه المزيد من العذاب يجب عليه أن يكون بمنأى من استفزازه وقد أخبره منيف بطباعه ، فساعده على أن لايسمح لنفسه بالسهو والغلط فيضحك في وقت غير مسموح الضحك فيه، ويلذ للأستاذ أن يُصّور وهو يصطاد العصافير والفواخت ، يصطحب معه مصوره الشخصي الذي يسميه "النطاط" ، ويرفض أن يسمح لكريم بالمغادرة إلى غرفته، حتى بعد أن يتعب من شدة المراقبة والمتابعة والابتسامات المفتعلة والكلمات المستهلكة ، ويرى معه تلك الأشرطة كيف تمارس بطانة الأستاذ اعمالهم الجنسية على الفراش . كريم، وجد ذلك في أول الأمر، فضولا شديداً وهو يرى الفتيات كيف يرفسن تحت أجساد متنوعة من البطانة، لكنه بمرور الأيام، بدأ يشعر بالملل، ذلك لأن الصورة ثابته على مشهد واحد ، وكل الأفعال حفظها، لا إبداع فيها، فضلا عن حركات الشبان، مع الفتيات، تبدو مفتعلة، ومنقوصة الرجولة، بعض الشبان يحاول لحس الفتيات في كل أنحاء الجسد، فتستغرق العملية نصف ساعة أو أكثر فيشعر كريم بالغثيان ، لأن ثبات الصورة وإن كانت حقيقة ، تبعث على الضجر، ولما سأله الأستاذ ذات يوم عن رأيه بما يرى، فأجاب بصريح العبارة:
- الصورة الثابته سيدي.. أقل إثارة للفضول من المتحركة.
التفت إليه الأستاذ مندهشاً ، فهولم يعتد سماع رأيٍ على درجة عالية من الجرأة مثلما سمعها الآن من كريم .
- ماذا تقصد؟
تلعثم كريم ثم تمالك رباطة جأشه.. وقال:
- الصورة الثابتة، مثل لوحة واقعية يرسمها فنان لا معنى لها مجرد خطوط وأشكال فوتغرافية منقوله حرفيا من الواقع.
ما يّمتع الأستاذ سماع آراء كريم في كل شيء وفي هذه المرة أثار فضوله.. فسأله:
- مرة أخرى.. ماذا تقصد؟
يعلم كريم أنه كلما أمعن في توضيح مراميه ازداد الأستاذ استيضاحاً، فاختصر الطريق على نفسه وقال بوضوح تام:
- لو جعلنا "النطاط" يصور هذه المشاهد ومن زوايا مختلفة، من وراء ستار، ، لا بد ستكون الصورة تتميز بدرجة عالية من الإبداع والفن.. ولن يحصل الملل.
قفز الأستاذ من مكانه نزقا كعادته، كأنه وجد شيئًا..
- أنت يا ويل.. عبغري، كرومي أنت عبغري.. هذا ما كنت بحاجة إليه.
صفق الأستاذ، فجاء الشراب، واغتبط قائلا: هاتوا المزيد من الشراب.. كان فرحا للغاية..
- أنا ضجرت فعلا من هذه الأفلام.
ازداد كريم توضيحا:
- الصورة الثابتة كأن الرائي لها يطل من نافذة على منظر واحد طوال سنة أو عشرين سنة، أما المتحركة ، فهي التي تبعث على الحياة والدفق.
قال الأستاذ، وهو يكرع القدح إلى آخره:
- منذ الغد ستكون أنت بطل الصور المتحركة.
لم يفهم كريم ما عني، وبحث في عقله عن جواب لا يثير استفزازه، لكنه لم يعثر عليه، فبقي صامتا معتقدا أنه قد يكون أفضل أنواع الإجابة التي أجادها كريم مع الأستاذ، متذكرا على الدوام نصائح منيف "إذا لم تفهم ما يقول فلا تسأل، استمر في الصمت حتى يأتيك التوضيح بعد ذلك".
فقال الأستاذ:
- لم تفهمني.. أليس كذلك، اسمع ستكون غدا أنت بطلاً لواحدة جديدة، ستكسب أجراً إذا أرحتها.
شعر كريم أنّ دبيبًا يسري في عروقه وأنّ أعضاءه الميته تحركت، فهو منذ زمن بعيد لم يلمس امرأة، عندما ضرب الطوق عليه بهروبه من الحرب، أصبح من النادر أن يشم رائحة امرأة، كان طوقا قاسيا مدمراً، بينما الحياة، في أماكن كثيرة من العالم ، تجري فيها المسرات والأفراح من دون أن يصيبه رذاذ منها، هل يحلم الآن أن تكون ليلة الغد ليلة عرسه؟
وعرف الباقون ما عليهم عمله، الانصراف الفوري من قصر الأستاذ وبقاء الخادمة بجانبه ليفعل بها ما يشاء أو تفعل به ما تشاء، وذهب كريم إلى غرفته، وقد تعتعه السكر أيضا، وأراد أن ينام لكنه لم يستطع، فهو يخوض في بحر التفكير النزق والمجون مع أستاذه ولا نهاية لهذا النفق المظلم كما يبدو.
في اليوم التالي، نسي الأستاذ قراره، ولا أحد يمكنه تذكيره،لأنه قرارٌ فرديٌ انفضت بعده الجلسة عند الساعة الرابعة فجراً، ثمل الأستاذ وأخذ ينوح بلا شهود، سوى كريم، وهو لا يستطيع تذكيره بقراراته، لأن ذلك يعد تدخلا صارخـا في شؤونه وبالتالي قد يلقي به إلى كلابه الجائعة دائما.
مرت سبعة أيام على حكاية الصور المتحركة حتى فطن الأستاذ إلى أنه سبق لكريم أن حدثه عن أمر معين إزاء الصور المتحركة فأرسل بطلبه وجاء كريم لاهثاً..
- نعم سيدي.
كأنه أضاع شيئا من ذهنه يريد استرجاعه بمساعدته:
- أتذكر تحدثنا عن صور متحركة وثابتة هنا قبل يوم أو يومين؟
أدرك كريم أن الزمن لدى الأستاذ متوقف، فموضوع حديثهما جرى قبل أسبوع فلم يبادر إلى تصحيح معلوماته ، قال له:
- نعم سيدي، تحدثنا عن الصور المتحركة واقترحت عليك أن يصور النطاط لقطات المتعة بكاميرا متحركة وأعتقد أنّك..
توقف كريم عن الكلام المباح، وكأنه أراد أن يكمل الأستاذ بقية كلامه..
- إنني طلبت أن تكون أنت بطل الفيلم القادم.. أليس كذلك؟ كريم أنا أتذكر ما أقول، لا تحاول إساءة فهمي؟
خاف كريم ورد بسرعة:
- ما عاش الذي يسيء فمهك.. سيدي
صفق الأستاذ، فجاءت الخادمة الجميلة ذات الجسد الراقص بتنورتها
القصيرة الضيقة..
- أريد عليان فورا؟
ذهبت الخادمة وبعد دقائق جاء عليان:
- بطل الفيلم موجود الليلة، أريدك أن تأتي بالأرملة!
استغرب عليان.. وسأل:
- أي منهن سيدي؟
انزعج الأستاذ.
- تلك التي تعمل في الاتحاد يا غبي.
غادر عليان وبقي الأستاذ مع كريم، ثم صفق، فجاءت الجميلة ذات القوام الرشيق، خادمة الأستاذ الشخصية:
- أريد النطاط أن يحضر فوراً.
خرجت، فيما نظر كريم إلى الأستاذ بمودة مفتعلة.
- ستصبح بطل الفيلم هذه الليلة.
ضحك الأستاذ مزمجراً ، واستغرق به كثيراً.
- لنرَ كيف ستتدبر أمرك!
لم تمض ساعة حتى اكتملت كل أجهزة العمل وآلياته، النطاط حضر، وجُعل مختبئاً خلف ستارة سميكة مع الكاميرا، والأرملة جاهزة في مكان ما من القصر، أصدر الأستاذ الأوامر بجلب الشراب والطعام إلى الغرفة، فيما أصبح كريم من تلقاء نفسه عبارة عن عضو متحرك "هل صحيح سأذوب الجليد في أعصابي هذه الليلة؟".
بقي كريم بمفرده في مكان التصوير، تلك الغرفة الزرقاء شبه المعتمة، والنطاط في مكانه يترصد دخول الأرملة، كريم في أشد لحظاته توترا، قال: "سأمارس اللذة المحرمة" شعر بالدفء ، فيما تعرق جسده ورأى أنه سيغطس في بحر من المتعة أفتقد إليها منذ ثلاث سنوات، ماذا ينبغي أن يفعل، أية كلمات سيقولها ، أي حركات يمكنه تأديتها ما دام أنّه سيكون على مسمع ومرأى الأستاذ، فهل سيبوح لها بأسراره؟ هل ستكلمه بأسرارها؟ هل ستعرف أنها ستكون مادة فيلمٍ جاهزٍ؟ أكيد أنّها لا تعرف، هكذا أيقن: "ولكنني أنا الذي يعرف، فهل سأنسى أن كاميرا تصورني، وأنا عارٍ، فيرى الأستاذ جسدي وعضوي وعورتي، هل سأبقى محترما عنده بعدئذ؟
يقف كريم عند طرف السرير، منتظراً إطلالة الأرملة.
بعد دقائق عصيبة، شديدة التوتر، رأى الباب يفتح لتطل الفتاة تنظر إلى بلاط الغرفة شبه المعتمة، ترتدي تنورة تحت الركبة وقميصًا أبيص، تقدمت منه، محنية الرأس ..
ولكنها عندما رفعت رأسها إليه، شعر كريم بالصعقة الكهربائية ، وبات كل توتره قد ذاب سريعا ، كمن أفاق من حلم، لم يبق لديه أي توتر، شعوره بالفضول تبدد، والدبيب الذي كان يحس به قد نهش أعضاءه فأصبح سياطاً تلسع ظهره.
كانت الأرملة أمّ سيف، جارته، حبه الجديد، ذعرت ايضا ، ارتجفت شفتاها ولا تعرف ماذا يجب أن تفعل ، هل تنفذ أمر الأستاذ أم تتراجع؟ التراجع هنا محال، فهي تدري أنها داخل لعبة شديدة الوطأة، اقتربت منه، ووجدته ذاهلاً مصعوقا، كيف يمكنها أن تستوعب فكرة وجود كريم في هذا المكان المنزوي البعيد عن العالم ؟ عندما أخبروها بإلقاء القبض عليه يأست وحزنت لعدم قدرتها استكمال مشوار حب اللوحة الغامضة التي لم ترها حتى الساعة، أما أن تلتقي به في بيت الأستاذ ، فذلك مالم يهضمه عقلها، رأت ارتجاف شفتيه، وجمود نظراته وتخشب أصابعه ، رأت في عينيه احتقارا مزدوجاً لها ونفسه، كيف تبرر وجودها، إنها متلبسة بالجرم المشهود، ولا ينفع أي دفاع، فهل تمضي معه إلى أقصى المغامرة، أم تترك كل ذلك دفعة واحدة، وهي لا تعرف حقا لماذا يوجد هو هنا بالذات، هل تخبره أنها لم تكن تقصد المجيء وأنها ضحية فرع اتحاد نساء الفلاني، بدعوى الاشتغال مدبرة منزل في بيت مسؤول رفيع المستوى.
لم يتصور كريم أن تتم مقابلته إنسانة شطرت قلبه ذات يوم ومنحته سعادة مؤجلة لم يحصل عليها من انتظاراته المميتة، الشغوفة لإطلالتها.
ندت عن سعاد حركة واضحة، مفهومة بالنسبة له، فقد وضعت يدها على أحد أزرار قميصها، وفتحت الزر الأول، وهي تراقبه، فاكتشفت، أنه في سكينة تامة، ووجدت انه يجب مساعدته في الإحماء، لا يجب أن تستسلم للضعف الآن، فتحت زر القميص الثاني، لم تكن ترتدي الستيان، وكريم يراقب صافناً، مذهولاً، ومأخوذاً، لم ينس أنّ النطاط يقف خلف الستارة، فاقتربت منه كثيراً، أصبحت المسافة بينهما أقل من شبر، شمت عطر جسده الذي تحبه، فتحت آخر الأزرار، وظهر النهدان، متكوران كبرتقالتين، فأسقطت القميص من على كتفها، ومدت يدها إلى فمه، ثم إلى خده، وإلى رقبته، كانت تغرز عينيها بعينيه، تدعوه أن يكف عن ملامتها، مدت يدها إلى قميصه الأبيض وفتحت الأزرار بهدوء، وببطء شديد، لافحة بأنفاسها وجهه، حتى انتهت من آخر زر، وهو ما زال جامداً ، تقدمت حتى التصقت به ، لا تريد أن تتحدث معه، عقلها يخبرها أن الحيطان تسمع كل كلمة وكل نأمة تصدر منهما ، مدت يديها إلى سحاب التنورة خلفا ففتحتها ، فانخرطت إلى الأسفل، ظهر جسدها عاريا ، وهو ما زال واقفا بلا حراك، سحبت يده وجرتها إلى مؤخرتها ليتحسس ، غير أنه افلتها من قبضتها، وابتعد خطوات ، جلس على السرير، يراقب ويفكر في الوسيلة التي يتخلص بها من المأزق الذي وقع فيه.
تقدمت منه، جلست على ركبتيها بين فخذيه، محاولة ثانية إحماءه، وهمست بأذنه، أن عليه تلاوة آية قرآنية ويجري ما بينهما حلالا، وليس زنى، فلم يقتنع، أدار وجهه ، وندم على قضاء وقته في رسم غموض وجهها، عندما تمثلت له شعلة للغموض الجميل الذي يحبه..
- أرجوكِ.. ارتدي ملابسك؟
نهضت وانحنت بمستوى فمه، كادت تلثمه، غير أنه أشاح وجهه عنها، ارتدت ملابسها فعلا وخرجت.
وبقي في الغرفة وحده، لم تمض لحظات حتى خرج إليه من خلف الستارة المصور النطاط وهو غاضب :
- ماذا جرى لك يا أخي، كدت أفضح نفسي بالماء المتدفق مني وأنت غير مبال.
غادر النطاط الغرفة وتركه بمفرده يقلب أوجاعه وعذاباته ثم ترك الغرفة وسأل الخادمة عن مكان وجود الأستاذ فقـالت له
- خرج من القصر وقد لا يأتي حتى الفـجر .
فتخفف عن كاهله الثقل الذي ألمّ به. غادر القصر وذهب إلى غرفته، انطرح على سريره محاولا إيجاد رابط بين الأحداث الغريبة التي تحصل له في هذا القصر.. أراد أن ينام إلا أنّه لم يستطع، كيف صادف مجيء أم سيف إلى القصر؟ هل عرفوا بعشقه لها؟ من يعلم بذلك حتى يتوصلوا إلى ذلك ويرسلونها إليه جاهزة؟
ترى ماذا سيقول الأستاذ حين يخبره النطاط أو يريه ما صور؟ لم ينم كريم حتى الصباح، ولما طر الفجر، سمع نباح الكلاب في مكان ما ، كان بحاجة إلى الشاي وقرص الأسبرين ليخفف صداعا كاد يفجر رأسه، أين يمكن أن يجد الشاي ومنيف ليس في وقت عمله الآن؟ استسلم إلى الألم.
23
في تلك الليلة التي أمضاها كريم ذاهلاً لا يقوى على إيجاد رابط للخيوط المبعثرة حوله، كانت فائزة على موعد جديد مع زوجة وابنة الوزير بصحبة فاتن التي وافقت على مرافقتها إلى حفلة كبيرة يقيمها الأستاذ.
رأت فائزة أنّ أكثر الضيوف من النساء يحتفلون في نادي الصيد، في القاعة الصيفية الخاصة المسورة برجال الحمايات الذين يرتدون الملابس الزيتونية والمدنية الفاخرة.
صوت الموسيقى يهدر، وأغان ليست هادئة يرقص الشبان والفتيات على إيقاعها رقصات تفضح جمال الراقصين ، كانوا يرقصون رقصات غربية. لاحظت فائزة أنّ صاحبتها تبدو أكثر اتزانا وعللت السبب إلى وجود ابنتها سمر معها المندهشة والساكنة.
أجرت فائزة حوارا متقطعا مع السيدة التي تجلب ابنتها الخفيفة معها كلما أقام الأستاذ حفلة، يتركز حديثهما، وسط الصخب والموسيقى الهادرة، في سفريات السيدة إلى بلدان أوروبية وآسيوية، وأحيانا أمريكا اللاتينية، ولم لا، هكذا قالت فائزة في نفسها، ما دام زوجها المقرب من "القائد الضرورة" ولفرط ما قدم إليه من خدمات، عينه وزيرا".. تصغي فائزة إلى حكايات سفر السيدة وتحرضها بين لحظة واخرى على الإمعان في سرد تفاصيل شيقة بشأن انفرادها بالفندق أو حمامات السباحة وهي ترتدي ملابسها الخاصة وكيف تتعامل مع نظرات الغزل والمودة التي يبديها المعجبون.
عينا فائزة تتابعان ما تقوم به فاتن من إشارات وإيماءات إلى أحدهم يقف على مقربة من منضدة يتحلقن فتيات حولها، حتى اقترب أحدهم وهمس بأذن فاتن كلاما لم تستطع فائزة أن تسمعه، أو تخمن مقصده، لكن شعورها لا يخطئها بأنَّ ما دار من حديث سيكون عنها حتمًا!
وبالفعل مرت دقائق معدودة، حتى جاء أحدهم، يبتسم طالبا منها المشاركة بالرقص في الحلبة فدخلت لترقص مع الراقصات والراقصين، غير أنّ عينيها كانت تبحثان في أعماق تلك الدائرة التي تحيط بالأستاذ، جمهرة من النساء الفاتنات والشبان يتضاحكون معه، ويتمايلون حول مكانه، في حين جلس هو نافخاً صدره، مرتفعا بجلسته عن قامات الجميع.. ترقص فائزة بهدوء، غير مبالية بالكلمات التي يغدقها بعض الشبان على مسامعها، فالموسيقى صمّت أذنيها عن سماع أيّ شيء ولكن بقيت أنظارها مصوبة إلى الأستاذ الذي جلس غير مهتم بالمطرب ولا الراقصين، حتى رفع يده، بارتخاء ، فتوقفت الموسيقى، ووقف الراقصون في أماكنهم جميعًا، شاهدت فائزة ابنة الوزير تقف أمام شاب يلتصق بها ، فيما يداه تداعب مؤخرتها وهي تضاحكه، لا أحد يعرف ما الذي يريده الأستاذ، التفت بخيلاء إلى شاب يقف خلفه مباشرة وهمس بأذنه كلمات مقتضبة ، وهذا من جانبه ركض باتجاه مكان ما، العيون تحدق في اتجاه واحد.. باتجاه الشاب الذي همس بأذنه الأستاذ، جاء الشاب وبيده سلة فيها تفاح، وتقدم إلى حلبة الرقص، وطلب من الجميع الوقوف صفا واحدا على خط وهمي رسمه لهم.. فوقفوا، وفائزة من بينهم، القلوب تهفو لمعرفة ما الذي سيفعله الأستاذ، بعضهم شعر أنهم سينالون مكافأة منه، بعض الفتيات عدلن شعورهن وقمصانهن وثيابهن، كن يعتقدن أنه سيختار واحدة منهن لتكون ضيفته الليلة، بنات مسؤولين كبار ووزراء وأعضاء قيادة، كلهن ليس لديهن مانع في خوض المغامرة إلى أقصاها ما دام الأستاذ موجوداً، حتى إذا طلب خلع الملابس والوقوف عاريات أمام الجمهور.
صاحب سلة التفاح، وضع فوق رأس كل راقص وراقصة تفاحة، ووصل بالقرب من فائزة فوضع فوق رأسها تفاحة أيضًا، ولما اكتمل المشهد.. أخرج الأستاذ بندقية من تحت منضدته وبدأ يصوب باتجاه الراقصين، شعرت فائزة، لأول مرة، بالخوف والجزع، وفكرت أنّ نزق الأستاذ سيدفعه للتسديد على التفاح فوق الرؤوس، ولم يتحرك أحد، وحبس الجميع أنفاسه، في حين أخذ يطلق من جانبه ضحكات هستيرية، وجماعته يقلدونه ضاحكين.
وضع الأستاذ البندقية موضع التسديد وبدا ، كأنه يريد أن يطلق النار، لمحت فائزة الذهول الذي أصاب الجالسين أمامها، لم يكن بإمكان الأستاذ النهوض، فقد أثقلته الخمرة ، فكان يسدد وهو جالس، تقف فائزة بين الشاب الذي قبلت الرقص معه وفتاة كثيرة الحركة ترتدي ثيابا قصيرة تكشف نصف ظهرها.
وقبل أن يصوب الأستاذ، همس بأذن رجل الحماية الذي يقف خلفه ليردد هذا من بعده بصوت عال:
- من يقول أنا خائف فليرفع يده؟
رفع نصف الحاضرين أياديهم، وبقي ثمانية، من بينهم فائزة التي أصبحت الوحيدة من الفتيات التي قبلت تحدي الموت.
طلب المتحدث من الخائفين الخروج من حلبة الرقص، واعتبار التفاحة هدية لكل واحد منهم، تتجه الأنظار إلى الشبان السبعة وفائزة الفتاة الوحيدة التي ارتضت البقاء معهم.
رصّ صف الواقفين وجعلوا فائزة تقف في المنتصف، الأستاذ ما يزال يضحك بقرقرات سخيفة يسمع صداها الكل، ثم صوب باتجاه أول الواقفين من جهة يمين الأستاذ وسدد ، فصفقوا بحرارة للأستاذ وليس لحامل التفاحة الذي نجا من الموت، إذ نال الأستاذ التفاحة الأولى، ثم سدد ثانية باتجاه الثاني، كان أقصر منه، وشعر أنه بسبب قصر قامته أنه سيموت في اللحظة، فارتجفت التفاحة فوق رأسه ووقعت قبل أن يصوب، فضحكوا وصفقوا.. فأومأ إليه الأستاذ بالانصراف، وجاء دور الثالث الذي نفخ صدره، فصوب باتجاهه وشعر أن الرصاصة شطرت التفاحة نصفين ما زاد من حدة التصفيق، وجاء دور الرابع وأصاب التفاحة، ووصل الأمر إلى فائزة، تمعن الأستاذ بها كثيرا، وقد ركن البندقية الخاصة بصيد الطيور جانبا، هامساً بأذن الواقف خلفه، ثم صوب نحو فائزة وهو يحاول أن يحفظ في ذاكرته شكل الفتاة، ووقفتها الواثقة، كان يتمعن في استدارة الوركين والثوب الوردي الذي يجمل وقوفها، اكتشف الأستاذ أنّ الخمرة أثقلته وخشي أن تصيب الرصاصة جبهة الفتاة الشجاعة فيثقبها..
أنزل بندقيته، وأومأ لهم بالانصراف جميعاً، طالبا مـن الـفـرقة
الموسيقية العودة إلى العزف والصخب.
ولما عادت فائزة إلى مكانها، صفق لها الجميع لشجاعتها، وبعض الشبان مسّد شاربيه إعجابًا بها، تسير إلى منضدة فاتن وهي تحاول أن تجعل مشيتها بوزن شجاعتها، لا تغنج فيها، ولما وصلت إلى المنضدة، كرعت كأساً كان موضوعا على منضدتها ، تصورته ماء، فإذا بها تتضايق من رائحته وطعمه، لكن يد فاتن امتدت إلى الكاس وجعلتها تدفع الخمرة إلى جوفها.
- كنت شجاعة.. مبروك.
كرعت قدح البيرة، وتنفست الصعداء وهي تحاول أن تكتم خوفا كاد يطيح بها وهي في حلبة الرقص، ابتسمت السيدة غير المتزنة لفائزة وقالت لها:
- لم أكن أتصور لحظة واحدة صمودك أمام بندقية الأستاذ، بماذا كنت تفكرين لحظتها؟
لم تجب فائزة لأنها تفكر بالموت وحده، وإذا ما أخبرتها بذلك سيتحول الموضوع إلى حديث بارد عن الموت وأسبابه، ولماذا اختارته هنا على يد الأستاذ، وما الذي يضايقها لكي تفكر فيه، أسئلة يصعب عليها الإجابة عنها، فأرجأت الحديث مع السيدة حتى تسترد وضعها الطبيعي.
ضمن المتجمهرين، يجلس الأستاذ الصغير، قريب الأستاذ الكبير، ولما شاهد الفتاة، تعلقت أبصاره بها وطلب من عليان الذي يقف في مكان قريب أن يأتي إليه بأخبارها بعد حين، فقال له: إنها تجلس مع فاتن. ليفرح هذا أشدّ الفرح وقد كتم فرحه أمام الأستاذ لأنه يعرف نواياه إزاء الفتيات الجدد.
انفضت الحفلة وعادت فائزة مع فاتن، وفي رأسها تدور الدوائر.
الطفلة نائمة في المقعد الخلفي بينما الفتاتان تتضاحكان إزاء ما قامت به فائزة من جنون، وفي الطريق إلى البيت، فاتن تتراقص مع إيقاع موسيقى تبثه مسجلة السيارة، ايقنت فائزة بثمالة صاحبتها ، ولم يعد بمقدورها قيادة العجلة التي سير بها بتعرج يمنيا وشمالا ، وبالوقت نفسه كانت هي أيضا تشعر بتحليق روحها، لأنها شربت وذاقت طعم الخمرة لأول مرة في حياتها، صوت فاتن لا يريح فائزة إذ اخذت تغني مع مطرب المسجلة ولما اجتازت العجلة شارعين اعترضتهما سيارة لاندكروز حديثة ومظللة ووقفت أمام عجلة فاتن ، فاصطدمت مقدمتها بمؤخرة السيارة، ترجل السائق من عجلة اللاندكروز وتقدم نحو فاتن، وابتسم لها:
- الأستاذ يحييك ويرجو الآنسة أن تكون ضيفته.
التفتت فاتن وهي فرحة إلى فائزة لترى ما ينبغي أن تفعله، معتقدة أن مراميها وصلت إلى منتهاها، وأنّ لعبة فائزة المباغتة أمام بندقية الأستاذ إثارت إعجابه.
ردت فائزة محتدة، وقد طارت الخمرة من رأسها:
- وإذا رفضت الدعوة، ماذا ستفعل ؟
ابتسم السائق لفاتن وقال لها:
- أخبريها ست فاتن هل يمكن رفض دعوة الأستاذ؟
فرحت فاتن لأنه خاطبها باسمها، معتقدة، أنّ سائق الأستاذ الكبير يعرفها ومراميها قد تحققت بدون تعب مضنٍ:
- ليس مناسبا رفض دعوة الأستاذ عزيزتي.
أشمأزّت فائزة من صاحبتها ولم تتصور أنّها ستسلمها لقمة سائغة بهذه السهولة:
- لن أترجل ! وأخبر الأستاذ شكري وامتناني من دعوته.
نظر السائق إلى فاتن نظرة واضحة، صارمة، تكشف عن مظاهر العنف والخشونة، إذا امتنعت هذه المعتوهه رفض الدعوة.
مدّت فاتن ذراعها فأمسكت يدها، ضاغطة بقبضة قوية، كأنما لتنبهها..
- هيا عزيزتي، تفضلي معه، فقد جاءت الفرصة إليك وستفتح الجنة أبوابها ، هذا الأستاذ، وليس غيره.. يافائزة.
تتحدث معها بصعوبة ذلك لأنّ الخمرة لعبت برأسها كثيراً هذه الليلة.. وأكملت:
- تذكري سندس إذا ما أصررت على رفض دعوته، لن يكون مصيرك أفضل منها، هذا الأستاذ الكبير، وأخباره غير ما تسمعين عن ذاك الصغير!! إنّه حنون ولطيف.. عزيزتي.
رفعت فائزة وجهها إلى فاتن وقد احتقن الدم في رأسها.. وقالت بعصبية وتشنج:
- قلت لك لن أنزل.. وليحصل ما يحصل!
عصبية فائزة استفزت السائق الذي تحرك من مكانه تجاه الباب حيث تجلس بجانبه فائزة، فتحه بقوة كاد يخلعه وسحبها إليه، ثم مشى بها إلى سيارة اللاند كروزر وقد وقعت فردة حذاء قدمها اليسرى في الشارع.. ثم دفعها إلى جوف السيارة لتنطلق بها بسرعة..
التفتت فاتن إلى ابنتها التي استيقظت مندهشة مما حصل، مسّدت شعرها طالبة منها النوم، ثم انطلقت وهي تشعر بالارتياح البالغ والسعادة القصوى، لظنّها باقتراب تحقيق مطامحها في الوصول إلى إمبراطورية الأستاذ الكبيرة واسعة الآفاق..
وصلت إلى البيت وركنت سيارتها في المرآب، ثم حملت ابنتها واتجهت بها فورا إلى غرفتها حيث تنام أبنتها على سرير وضع حديثا ، وألقت بجسدها على السرير.
قاومت فائزة القبضة الحديدية من دون فائدة ولما ألقيت بجوف المقعد الخلفي، أيقنت أنّها اختطفت، وعليها مقاومة ذلك بأساليب أخرى، فلن ينفعها بعدئذ أية محاولة للهرب، إذ اصبحت جاثية على المقعد وشاعرة أنّها بلا قدرة ، فقد شلتها تلك الضغطة القوية وأدركت من خلالها كم هي ضعيفة وخائرة القوى، لا تقوى على الإفلات، لم يلتفت السائق وبجانبه الذي يرتدي الملابس الزيتوني إليها، طول الطريق، بحثت في حقيبتها عن أداة جارحة، فلم تجد، حقيبتها فارغة إلا من أدوات ومساحيق التجميل ومنديل وقنينة عطر.
تسير السيارة بسرعة جنونية، عرفت ذلك من الاستدارات التي توقعها على الجانبين ، لامت نفسها على جرأتها بالرقصة الدموية، و لديها فرصة الأنسحاب عندما طُلب من الخائفين الانصراف، لتبتعد عن الأضواء، وبعيدا عن انتظارها رصاصة الموت، من بين كل الفتيات المنسحبات، واحتقرت نفسها لقبولها احتساء زجاجتي البيرة وفقدانها تركيزها، باتت تتذكر الصور والكلمات بسرعة، كأنما تتخاطف في عقلها، بسرعة سير السيارة المظللة، والتي تبدو أنها دخلت الآن إلى شارع لا أحد يسير فيه، حيث الإضاءة من الجانبين خافتة، وثمة ظلمة موحشة خلف أشجار كثيفة على جهتي الشارع، أبطأت السيارة في السير وبعد دقائق وصلت إلى بوابة قصر كبير..
تُركت فائزة في مكانها وترجل السائق والآخر الجالس بجانبه، أسرعا في خطواتهما،اقترب أحدهم، من باب العجلة وفتحه لها بمودة وابتسامة.. وأومأ لها بالترجل ، من دون أنْ يتكلم معها، ترجلت متباطئة بفردة حذاء القدم اليمنى، خطواتها متعثرة ، فرمت فردة الحذاء ومشت حافية القدمين أمام الزيتوني، دخلت الباب المفتوح وتوقفت بعد ثلاث خطوات، إذ وجدت ممرا طويلا يفضي إلى صالة كبيرة تشع بثريا معلقة في سقف لا يمكنها مشاهدته، وثمة غرف عديدة على الجانبين، وسُلم مرمري حلزوني على الجهة اليمنى، وآخر على اليسار، وفي المنتصف سلم بسلالم مغطاة بسجادة حمراء، دعاها الزيتوني أن تسير خلفه، فمشى إلى جهة السلم الحلزوني الأيمن، تحته باب ففتحه، ودعاها إلى الدخول، فدخلت، ثم أغلق الباب عليها، وبقيت وحدها في الغرفة، ذهلت حين رأت أنها سبق لها مشاهدة السرير، والكرسي والأريكة، والصور المعلقة على الجدران، السرير نفسه الذي شهد أحداث شريط فاتن، سارت خطوات إلى منتصف الغرفة وجعلت ظهرها إلى الباب، فهي تعلم أنها الآن تحت مراقبة الكاميرا، وتصورت أين يمكنها أن تقع، نظرت إلى أعلى الباب فوجدت لوحة، وثمة ثقب داخلها بحجم زر ثوبها الوردي، قررت التحرك في الغرفة لايهام من يراقبها عدم علمها إلى وجود الكاميرا، نظرت إلى آثار القبضة على زندها فوجدت احمرارا، لم تعره أهمية، وقاحتها هي التي دفعتها إلى هذا المصير، وعليها تقبل نتائجه، وجود الكاميرا والسرير نفسه معناه، بتحليل بسيط، أنها في بيت "الأستاذ" الصغير ، سحبت الكرسي إلى جهة الباب لصق الجدار وجلست، "لن يروني هنا".. طار من رأسها آثار زجاجتي البيرة، لا بد أنهم يراقبون الفراغ الآن، هكذا بدأت تفكر، وهذا يعني ازدياد فضولهم لمعرفة أين جسلت .
ومثلما توقعت، بعد دقيقة ، دخل الغرفة أحدهم، ولما شاهدها جالسة لصق الجدار بعيدا عن عين الكاميرا، أغلق الباب . لم تلتفت إليه حين دخل، وحين خرج، استعادت تنفسها بشكله الطبيعي ، لا تريد تذكير نفسها بالجرح العميق الذي أصابها، حين اكتشفت أنها في قبضة الرجل نفسه الذي طاردها طوال تلك المدة، التي تخشى فاتن أن يعثر عليها، أمّا لماذا تتستر فاتن عليها ضد رغبات عليان وأستاذه، فلم تصل إلى نتيجة، غير أنْ تطير وخفة فاتن عندما عادت من حفلة الرقص وفرحها الغامر، افضي إلى معنى واحد لا غير، التحضير لفراش الأستاذ الكبير.
بقيت جالسة في مكانها، طوال ساعة، ولم يطرق عليها أحد الباب ، ولما عجزت، وتسرب الملل إليها ، نهضت وسارت بخطوات قليلة بجانب الجدار، بعيدا عن عدسة الكاميرا, في تلك الأثناء، دخل عليان، مبتسماً، فيما وقفت خلفه الخادمة تحمل صينية مغطاة بقطعة قماش حريرية، أشار إلى الخادمة بوضعها على منضدة أمام الأريكة:
- تفضلي كلي.. لا بدّ أنك جائعة.
24
كريم في غرفته بالمرسم الإجباري منطرحاً على الفراش يفكر بتلك الليلة التي فشل فيها مع أمّ سيف، وتجاوبه السلبي مع ضحكات وسخرية الأستاذ في عدم النهوض برجولته أمام عريها الجميل، سعادة الأستاذ لا توصف حين عُرض عليه الشريط، وهو يتضاحك مع كريم.
- ظهر أنّك "فاشوشي" وقد كنا نتصورك رجلا حقيقيا.
اهتزت صورة الحب وأصبحت أمامه حكاية الجسد تتلون بألوان الدعارة والفسوق، وتلك الغيوم التي سرقت محبوبته فأخذتها صاعدة إلى ضابط السيارة السوبر ، هي الاخرى من الوان الفحش والفسوق ، غامت الرؤى الجميلة في ذهنه، ثم تلاشت، وإذا ما بذل جهدا في حفظ ملامح ذلك الجسد، فإنّه سيرسمه على الطريقة المشوهة التي اخترعها سلفادور دالي، او بيكاسو في مرحلته الزرقاء .
وفي تلك الأثناء وهو غاطس في اللوحة الوهمية التي سيرسمها، دخل منيف فوجد عشاءه لم يتناول منه أيّ شيء، فاستغرب:
- ماذا جرى كريم.. هل أنت مريض؟
نهض من استلقائه ، وجلس على حافة السرير ينظر إلى منيف تلك النظرة الحانية:
- لا أستذوق الطعام، شهيتي مسدودة.
لم يقتنع منيف ، وتذكر لماذا جاء إليه:
- الأستاذ يريدك.
ارتدى ملابسه على عجل، يعرف أنّ تلبية أي نداء للأستاذ يجب أن يكون بسرعة، وتوقع أنّه يريد أن يسخر منه ثانية ويصفه بين حين والآخر "بالفاشوشي".. انطلق إلى القصر، وهو يعلم أين يجده في مثل هذه الساعة التي تجاوزت الثالثة صباحا..
يدرك الأستاذ وعليان أنّ فائزة هي ابنة خالة كريم ولذلك فقد دبر الأستاذ لهما مكيدة، لكنه أرجأ تنفيذها الليلة بسبب ما نقل إليه عنها من صلابة واستفزاز وعدم استسلامها إلى حدّ الآن.
وصل كريم إلى الغرفة الخاصة بالشراب والمرح، فوجد الأستاذ مرتديًا المنامة والروب الحريري واضعًا قدميه على الطاولة ويمسك الرومونت يقدم ويؤخر فيلما في الفديو كان يشاهده، على ما يبدو .
- استرح، ثم تناول شيئا من الشراب؟
يعرف كريم أنّ الأستاذ كان في حفلة خارج القصر ولم يأخذ كفايته من الثمالة ربما بسبب وجود من هو أقوى منه ، وكريم طوال الليل ينتظر اللحظة التي سيستدعيه فيها ، لكي يريح أعصابه بعدد من كؤوس الخمرة الفاخرة..
الأستاذ صامت يحدق في التلفاز حيث يعرض فيلمًا إباحيًا، فتناول كريم الكأس الأولى وبعد دقائق دب دبيبها ، كان يحتاج إلى هذه الكأس لكي ينسى ما جرى بينه وأم سيف..
- لم تخبرني لماذا كنت "فاشوشيا" يا كريم؟
ثم ضحك تلك الضحكة المقززة، التي يكرهها كريم "كاه.. كاخ.. كاه" ضحكته عبارة عن "كاهات" متقطعة ومفتعلة، مثيرة للاشمئزاز، غير أنّ كريم اجبر نفسه كالعادة في مسايرته..
- ليس الليلة، بل غدا، سنعيد التجربة، ولكن مع واحدة أخرى، فماذا تقول؟
لم يُجب كريم، ينتظر أن يكتشف إلى أيّ مدى هو صادقٌ في كلامه، فهو غالبا ما يعده ويخلفه في اليوم التالي.
فانبرى الأستاذ قائلاً:
- وإذا لم تفعل ما يجب، سأعتبرك مخصياً.. فماذا تقول؟
وقعت كلمة "مخصيا "مثل الجمر على قلبه وأثقلت نفسه بوقعها، فهو يشعر أنّه أكثر الناس استعدادا لإثبات قدرته، بعد أنْ تخشبت حواسه مدة ثلاث سنوات.
- ماذا تقول في الغد؟ ليلاً، لدينا معك جولة جديدة وامتحان عسير، فإذا فشلت، سنرمي بك إلى الكلاب.
أصغى إلى نبرة الصوت فأيقن أنّ تهديده حقيقي، غدا سيكون مستعدا، المهم لديه أنْ يتركه كي يذهب وينام.
25
غير أنَّ فائزة لم تنم، جالسة في مكانها حزينة، تشعر بالضيق والتبرم، مكفهرة المشاعر، تشعر أنّ جسداً ميتًا يحملها الآن، تخيلت شكل المكواة مرسومة جمرتها على مؤخرتها، تصورت الألم الذي سيرافق عملية وضع كتلة الحديد المجمر مع صوت الوشيش، هل سيكون بمقدورها أنْ تصرخ، أي صراخ سيوازي حجم الألم الذي أخذت تتخيله الآن؟ تذكرت ما قالته لها سندس: "لم أكن رافضة العملية، بل كنت مستعدة لها، غير أنّه بدا لا يقوى على النهوض من كبوته، ماتت لديه كل أفعال الرجولة، ماذا يمكنني فعله إزاء خذلانه لنفسه؟".
توقعت أنْ يُطرق الباب، غير أنَّ خيوط الفجر تسللت عبر نافذة مسدلة الستائر بإحكام، استبشرت بالفجر، نجحت شهرزاد بداخلها في الصمت المباح، في أوّل ليلة دون أن ترى شهريار، قاتل النساء وغاصبهن، نامت على الكرسي، استغرقت ساعة في النوم، فوجدت نفسها بعد استيقاظها، منبطحة على الأرض، بثوبها الوردي وقد فتحت الستائر واضاءت الشمس غرفتها..
جاءت الفتاة الخادمة ذات التنورة القصيرة، بيدها صينية ووضعتها بدلا عن صينية العشاء التي لم يمس بها الطعام، التقطتها، وذهبت بها، تنظر إلى الفتاة نظرة محايدة، بلا مشاعر، كأنها تريد أن تعقد معها ودا خفيا، لا يمكن له أنْ يتم في مكان كهذا، وسألتها قبل أن تخرج:
- ممكن، أسألك سؤالاً؟
وقفت الفتاة، ونظرت إليها نظرةً جامدة لا معنى لها، ثم غادرت الغرفة دون أن تفسح لها مجالا للكلام، فأدركت فائزة أنّها مدربة تدريبا لا يمكن لها خرق أعماقها، تشعر بأنّ عظامها مسحوقة، وعضلات جسدها متشنجة، وثمة مياه كثيرة في مثانتها لا تعرف أين تفرغها.. بحثت في أنحاء الغرفة فوجدت بجانب الدولاب الكبير، بابًا تقدمت منه ببطء وفتحت الباب فوجدته حمامًا، وفي الحمام ثمة كوة صغيرة يتسرب منها ضوء النهار، بحثت في زوايا الحمام عن كاميرا أخرى لكنها لم تعثر لها على أثر فأفرغت جوفها بسرعة، وغسلت وجهها، ثم نظرت إليه فلم يعجبها وكادت تبصق عليه، لكنها خشيت من وجود الكاميرا المراقبة، فخرجت من الحمام، واتجهت صوب الباب، وقفت إزاءه، كأنّها تخاطبه أنْ يفتح ذراعيه كي تنطلق من غابة السجن هذه، ولما وضعت يدها على أكرة الباب، انفتح لها، بسهولة، ويُسر لم تتوقعه، لترى أمامها عليان مبتسمًا تلك الابتسامة الصفراء، ابتسامة "القوادين"، ما زالت لديها القوة على فعل ذلك، لكنها، رجعت خطوة إلى الوراء، فيما هو يتقدم منها خطوة إلى الأمام، وعندما دخل الغرفة أغلق الباب عليهما، كان عليان مسترخيًا وآثار النوم المستريح لم تغادره بعد، تأهبت كالقطة دفاعا عن صغارها، وتحولت إلى كتلة من اللهب، بإمكانها الآن بحركة سريعة جعله يرفس تحت قدميها، لكنها تذكرت نصيحة معلمها في أنْ لاتبادر للفعل حتى يبادر هو وترى أن لا مناص من مباغتة العدو بالحركة السريعة المناسبة الخاطفة، غير أنّ عليان لم يبادر، بقيت ابتسامته جامدة ، ثم تجاوزها وذهب إلى الأريكة مقابل الدولاب، وجلس واضعًا ساقًا فوق الأخرى.
- الأستاذ معجب بك أشدّ الإعجاب، قال إنّك شجاعة ولم يرهبك الأستاذ الكبير عندما سدد عليك بندقيته.
ليس لديها كلام، المقت والاشمئزاز يسيطران على مشاعرها، تعلم أنّها إذا أقدمت على أيّ فعل ضده، لن تخرج منه سالمة، وعليها أنْ تبقى محافظة على حياتها باستعمال هدوئها وعقلها وعدم تبديده في حركات قد تجلب وبالاً عليها.
- ليلة صعبة، أليس كذلك، لكن ذلك سينجلي عندما ترتاحين هنا، ربما يوظفك الأستاذ كسكرتيرة شخصية له، إنّه يحب الشجعان، وأنت شجاعة ومقدامة.
تعلم أنّها مجرد كلمات وتعرف أنّ الفضاء ممتلئ بالكلمات، الكذب، والمداهنة، والمراوغة.
- ماذا تقولين إذا ما عملت سكرتيرة.. الأستاذ لديه شركات وتجارة واسعة، إلى الصين شرقًا، وإلى اسبانيا غربا، ويحتاج إلى واحدة مثلك شجاعة، فماذا تقولين؟
لن تقول أيّ شيء، إنَّها الآن مختطفة, يتحدث عليان وهي واقفة تنظر إليه تلك النظرة الجامدة الخالية من أيّة روح، مشمئزة ومحتقنة.
- إذا لم تصدقي كلامي فهو سيأتي بعد ساعة ليخبرك بذلك، وقال لي بشِّرْها بتعيينها سكرتيرة.
نهض عليان.. ووصل إلى الباب:
- بعد ساعة سيكون الأستاذ عندك، فلا ترفضي الفرصة الذهبية، صدقيني، لم يغرم الأستاذ بواحدة مثلما فعلت به الجنون.
غادر الغرفة وجلست على الأريكة وبالرغم من أنّها تعلم أنّ "القواد" لا يمكنه أن يصدق الكلام، لكنها شعرت بحدسها الذي لا يخطئ أنه قد يكون صادقا هذه المرة على الأقل.
الآن هي بحاجة إلى الشاي، رفعت الغطاء عن الصينية فرأت الشاي والحليب والبسكويت والعسل والقيمر وقطع الكيك والسكر والجبن والزيتون.
تناولت فطورها، بعد شعورها بالجوع يستولي على قدرتها في التركيز ويمنع قابليتها في التفكير..
وبعد ساعة ونصف، طرق الباب، فخفق قلبها اضطرابًا، وحدست أنّه هو وليس، عليان، بابتسامته الصفراء يدعوها الى الخروج:
- تفضلي، الأستاذ يريدك.
أثارها بشدة لطفه المفتعل، وأدبه الجمّ الذي أظهره لها، وتساءلت هل يمكن لقواد مثله أنْ يرتدي كل الأقنعة، حتى أقنعة الأفاضل من الناس..؟
سارت خلفه في وسط القاعة الدائرية ذات الأبواب متعددة الغرف وصعدت السلالم المفروشة بالسجادة الحمراء، وعند نهاية السلم، التفتت إلى عليان، فأومأ لها بموقع الغرفة التي يقطنها الأستاذ الآن.
- تلك هي الغرفة.. اذهبي لوحدك.
سارت بخطوات بطيئة وتأكدت أنّ عليان نزل السلم، بعد التفاتة سريعة نحوه، تسارعت نبضات قلبها، واستعدت لكل الاحتمالات، عقلها يخبرها أنّه ما دام في مكان آخر ليس فيه كاميرا معناه، بتفسير بسيط، أنّ الأمر ينطوي على غموض ما، قد يكون مفتاحه ما أخبرها به القواد حقًا.
طرقت الباب، وفتحته دون أن تسمع كلمة ادخلْ، فوجدته جالسا
يقرأ صحيفة "الثورة" وصورة "الضرورة" تملأ واجهتها بابتسامته الكاذبة التي تعرفها.. يتكئ ، وهو يرتدي المنامة والروب الحريري، على أريكة واسعة ، أثاث الغرفة من النوع الفاخر، ثريا معلقة في السقف، ستائر متداخلة الألوان بين البيجي والأبيض، هدوء غريب وثمة موسيقى منبعثة من مكان ما، عزف على آلة البيانو، وعندما تقدمت خطوة إلى الأمام، ترك الصحيفة جانبًا، وابتسم لها، ثم نهض يسير كالطاووس، يبحلق بها من قدميها الحافيتين إلى قمة رأسها المشعث..
- هذه أنت بلا مكياج وحافية وتثيرين الجنون.
دار حولها، وتمعن كثيرا في التكور الخلفي، فأطلق صافرة إعجاب، أدركت من خلالها فائزة أنّ مسألة العمل كسكرتيرة ما هي إلا أكذوبة، وقف خلفها، وكاد يلمس الانحناء القوسي المتناسق، لكنه أرجأ ذلك.. ثم عاد إلى مكانه ليجلس إلى الجانب الآخر من الأريكة فاسحًا المجال إليها، وبإشارة منه دعاها لتجلس بجانبه:
- تفضلي.
استعادت قوتها فجأة، على الأقل، إنّها في هذه جالسة ولا يمكنه فعل أي شيء ما دام هو جالس أيضًا..
- هل أخبرك عليان؟
تفوح من جسده وملابسه عطور غريبة، مثيرة وزكية، لكن حواسها لم تقبلها ، وانصب جهده في التركيز على ما سيقوله..
- لماذا صامتة؟ هل أنت خرساء؟ سألتك هل أخبرك عليان بالوظيفة؟
أجابته بالموافقة بحركة من رأسها..
- أنا أحبّ الفتاة الشجاعة.
توقف عن الكلام، وصب لنفسه شايًا، ولها:
- اشربي.
فأخذت منه قدح الشاي، وأكمل:
- كل الذين يعملون معي "حمير" و "كلاب" إلا واحد، وأريد أن تكوني أنت الثاني.
ما زالت مستوفزة، غير قادرة على تمييز الكذب ، لكن الأجواء الساحرة في الغرفة أغرتها بقبول الإصغاء تحت نوايا طيبة..
- واحد ستعرفينه فيما بعد.. وأنت.. لا أعرف كم تحتاجين من الوقت للتدريب، حتى تأخذي علمًا بمشاريعي وأعمالي، وستكونين معي حين أسافر، وفي رحلات الصيد، بل معي أينما ذهبت حتى عندما نزور القرية.. قريتنا "العوجة" ستكونين معي، وسأصرف لك مرتبًا جيدًا وإقامة في القصر، ومصاريف بدل ملابس ومكياج، وقد نحصل لك على مكرمة من القائد كمجاهدة قد تكون سيارة حديثة كالضباط والشهداء.
توقف عن الكلام، وأخذ ينظر إلى قدميها الحافيتين.
- عليان السخيف.. لماذا لم يأت لك بحذاء يليق بهاتين القدمين؟
صفق مرة واحدة، فجاءت الخادمة ذات التنورة القصيرة ووقفت أمامهما.
- اجلبي لنا حذاء على مقياس فائزة؟
بقيت الفتاة واقفة في مكانها، بانتظار إيضاحٍ آخر، ففكر الأستاذ أنّه قال لها جملة مبتورة، عرف ذلك من تسمر خادمته في مكانها:
- صحيح ما تفكرين به، تذهب معك، وتقيس الأحذية بنفسها حتى تعثر على المناسب.. هيا فائزة انهضي معها، وحينما تعثرين على الحذاء، اذهبي مع عليان لكي يبتاع لك الملابس والحقائب واللوازم التي تحتاجين إليها.
نهضت فائزة بسرعة، وخرجت مع الفتاة، وقد شعرت أنّ ثقلاً هائلا أزيح من صدرها، وعندما أغلقت الفتاة الباب على الأستاذ، سارت أمامها تتبعها فائزة، تنظر إلى الغرف، ثمة واحدة أمامها، يبدو أنها مفتوحة من خلال تسرب الضوء ولما وصلتا إليها، ألقت نظرة عليها وهي تمشي متجاوزة، فوجدت فتاة شبه عارية تتمطى على الفراش، اجتازت غرفاً عديدة مغلقة، ووصلت الخادمة إلى نهاية الممر، ودخلت إلى غرفة كبيرة مكتظة بكل أنواع الملابس والتجهيزات النسائية والرجالية، ثمة دواليب عديدة، الغرفة غير منتظمة..انحنت الفتاة لتبحث في الدولاب عن حذاء، فاختارت واحدًا ورديًا بلون ثوبها ورأت مقياسه يتطابق مع قدميها، فابتسمت فائزة للفتاة وطبطبت على كتفها، لكن الخادمة لم تبادلها الابتسام، خرجتا من الغرفة واتجهتا نحو السلم حيث يقف عليان مبتسما تلك الابتسامة الصفراء التي تكرهها..
- هيا معي، ألمْ أقل لك أعجب بك الأستاذ، أنت لا تصدقين.
خرجا من القصر، سيارة اللاند كروزر المظللة واقفة عند باب القصر، ففتح لها الباب ودخلت في جوفها، ثم جلس عليان في المقعد الأمامي، بجانب السائق وأعطى الإشارة بالانطلاق.
لم تصدق فائزة كل ما يجري حولها، ووجدت نفسها تستبدل خططها، إذ إنَّ وقاحتها جلبت لها وظيفة مرموقة لم تكن تحلم بها، تقربها إلى الهدف بأسرع ما يمكن.
خرجت السيارة من مجمع المنطقة المحظورة واتجهت إلى الكرادة حيث محال الملابس النسائية والرجالية الفاخرة، تجولت مع عليان بغير استعداد حقيقي لتنفيذ أيّة فكرة من أفكارها في الانفلات من القبضة الحديدية.
ابتاعت أشياء كثيرة، امتلأت مؤخرة السيارة بها، وانطلقـت بهم
إلى المنطقة المحظورة التي لا يصلها أحد سوى أبناء العائلة الحاكمة.
خصص لها الأستاذ غرفة في القصر وقال لها عليان هذه ستكون غرفتك، ارتاحي فيها الآن، وإذا مللت لديك التلفاز والمجلات والفديو وبإمكانك تسلية نفسك.
وفي الليل، احتسى الأستاذ الخمرة مع ندمائه وأصدقائه في مكان آخر، وبعد الساعة الواحدة، جاء يترنح إلى قصره وفي ذهنه تفاحة طازجة لم يقضمها أحد لحد الآن.
دخلت الخادمة غرفة فائزة وطلبت منها مصاحبتها، فسارت فائزة بملابس النوم، ووصلت إلى الغرفة الأولى التي شهدت فيها فاتن في شريط الفديو، فتأكدت فائزة أنّ كل ما قاله الأستاذ مجرد أكاذيب، وها هي تقدم على مذبح الطهارة لينال منها.. لكنها ابتسمت، واستعدت.. حين دخلت الغرفة، وتركتها الخادمة بمفردها.
استدعى الأستاذ كريم كي يحتسي معه الخمرة. الأستاذ فرح ومسرور ، وبين دقيقة وأخرى يقول له:
- ستشهد مفاجأة كبيرة يا كريم لا يمكنك توقعها.
وبعد أنْ شرب الأستاذ، ومعه كريم، نهض الأستاذ، وطلب منه مرافقته:
- هيا معي.. سترى المفاجأة الآن!!
26
امّ هاشم تركت العمل في الاتحاد وسكنت في بيت فاتن لتخدمها، وقبلت بذلك طائعة، ما دامت قد أبعدت ابنها هاشم من جحيم الحرب، وبقي ابن أختها يخدم عسكريته في دوائر بغداد الخدمية بعيدا عن جبهات الموت.
استيقظت فاتن من النوم شاعرة بالسرور والحبور، فقد حلمت حلمًا جميلاً بامتلاكها بقاعاً وكنوزاً يمنحها لها الأستاذ الذي اختطف رجال حمايته صنيعتها فائزة، وهي تغتسل الآن في الحمام، نظرت في المرآ ة إلى جسدها فوجدته ناحلاً، ربما أتعبتها الصغيرة هذه الأيام فلم تأكل كثيراً، خرجت من الحمام شبه عارية واتجهت صوب المطبخ حيث أعدّت لها أمّ هاشم الفطور الذي تحبه، البيض المخفوق والحليب بالعسل، ولما دخنت سيجارتها بعد الفطور، خرجت من البيت وتركت الصغيرة ترعاها أمّ هاشم.
وصلت فاتن إلى الاتحاد وصعدت إلى مكتبها، قلبت الملفات على سطح منضدتها لتعاين مشكلات النساء الساذجات اللواتي يعجزن عن حلها فيلجأن إلى الاتحاد وهن متصورات أنّ عصا سحرية ستقوم بحلها، ضجرت فاتن من الملفات والأوراق المكدسة أمامها، دخنت سيجارتها ونفثت دخانها بحرقة. وبينما هي في أشدّ لحظاتها عزلة، سمعت طرقًا على الباب، فتوقعت أنَّ الطارق عليان، نظرت عبر النافذة إلى عجلته فلم ترها "من يكون يا ترى؟ فتح الباب وأطلّ بطران، مرتديًا ملابس أنيقة، يبتسم لها وقد اتسعت مساحة شاربيه الكثَّين.
- جئت على الوعد، هل تقبليني ضيفًا عندك؟
جلس بطران على الأريكة نافخًا صدره:
- هل جئت في وقت غير مناسب؟
ضحكت ضحكة مصطنعة..
- أهلاً وسهلاً بك في أيّ وقت.
عبارتها جافة، مفتعلة.
- هل تعرفين ما الذي فعلته للضابط الوقح الذي أراد التقرب منك؟ لقد رميته إلى أبعد نقطة في العراق.
لم تكن تتجاوب معه، فهي لا تنكر صنيعه بجلب ابنتها لكنها لن تستطيع الاستمرار في تقديم خدمات، وحتى هذا البطران، فقد أصبح وجوده غير مرحّب به، بالرغم من كل ما أظهره لها من تعاون ومساعدة كانت في أمسّ الحاجة إليها.
فأكمل بطران:
- الملعون كان مرتبطًا بعلاقة غرامية مع زوجة طليقك غسان، يمارسان الجنس في محل لبيع الكماليات النسائية.
عند هذه الفقرة من الكلام المبتور، لم تمنع نفسها من الضحك بانطلاق، وغرور، وغطرسة.. أزاحت بها كل أكوام الضجر التي تكدست فوق صدرها، بمجرد أنَّها تذكرت حماقة زوجها، اغتنم بطران قصة انطلاقها بالضحك فنهض، شاعرًا بأنّ الوقت قد حان لكي ينال حصته من الوعد، فأحاطها بذراعيه القويتين ولثمها بقبلة عنيفة، كادت تكسر أسنانها، وهي بالمقابل حاولت الإفلات من دون فائدة، حماقتها وتشفيها وغطرستها دفعتها لتفقد حياءها ورباطة جأشها عندما انطلقت بالضحك قبل قليل، فتصورها واهمًا، أنها تريده، وفي غمرة قبلته العنيفة، وضع يده على سحاب تنورتها من الخلف وسحبه إلى الأسفل، فانخرطت التنورة بسرعة، فذهلت، لم تجد أمامها غير أن تلقنه ضربة بين الفخذين، منطقة الضعف العظمى لدى الرجال، وتسرع بارتداء تنورتها..
- ماذا تفعل يا حمار؟
توقف بطران عن الهيجان، وشعر أنّ كرامته أثلمت تماما، وأنّه جرح بصميم كبريائه، رفع ذراعه اليمنى إلى الأعلى، وكاد يباغتها بصفعة تلهب خدها ، غير أنه كظم غيظه، وهرب من غرفتها، وقبل مغادرته قال لها:
- ستعرفين من هو الحمار بيننا؟
خرج بطران من غرفتها حانقا، غاضبا وصفق الباب بقوة، فجلست تصفف شعرها وتعدل تنورتها، وهي تلهث، محاولة أنْ تستعيد تنفسها الطبيعي. جلست إلى مكتبها تبكي ولكن بدون صوت..
ومن جانبه، فقد ذهب بطران فورا إلى المديرية وجهّز مفرزة بقيادته ينطلق بها إلى بيت فاتن في المنصور، فتحت أمّ هاشم الباب لأحد أفراد المفرزة وأقنعها بأنّ فاتن تحتاج إلى ابنتها حالاً، وبسذاجة نفذت أمُّ هاشم الطلب وأعطته الفتاة الصغيرة، فاتجهت السيارة بها إلى بيت غسان، طرق الباب مرتين، فخرجت زوجته وخلفها يقف غسان، ناوله رجل الأمن ابنته، وقال له:
- أمّها ماتت للأسف بحادث سيارة.. هذه ابنتكم.
فرح غسان بابنته، غير أنَّ جميلة اكفهر وجهها وأرعدت وأزبدت بعد غلق الباب.. وبعد انطلاق سيارة المفرزة، شعر بطران أنّه قام بنصف ما يجب القيام به ضد فاتن "تصورتني ساذجا الغبية" ومن المديرية اتصل بعليان فأجاب هذا:
- حسناً فعلت.. تستحق.
قال بطران من ناحيته:
- خشيت أنْ ترفض ما عملت بها.
- كلا.. عملت عملا جيدا.
- أرجو ألا يعلم الأستاذ بما فعلت..امنعها من الوصول إليه.
ضحك عليان..
- لا حاجة للأستاذ بها، أنت تعرفه، هناك عشرات الفروع يمكن الاستفادة من خدماتهم، إلا فرع اتحاد فاتن "البربوك".
ثم أكمل بطران:
- إذن علينا أن نتخلص منها قبل أن تصل إلى الأستاذ.
ضحك عليان مرة أخرى فرحا ومسرورا.. ولم يقل شيئًا.
- أنا شاهد، سمعتها تشتم الرئيس.
علمت فاتن بما فعل بطران بابنتها من خلال اتصالها بأمّ هاشم وتذكرت أنّه هددها تهديدا خطيرا، ونفذ وعيده، فانفعلت وهرعت إلى التلفون للاتصال بمنقذها الأستاذ، فزولت الرقم، ليأتي الرد من المقسم بإعادة المحاولة، فعلمت بدون أن تبذل جهدا أنّ بطران أعلم عليان ليسد هذا الطريق عليها.
بكتْ، بحرقة وألم لفقدانها ابنتها، وقررت أن تطرد أمّ هاشم من البيت وتتجه لتبحث عن ابنتها.
خرجت من الاتحاد، بأعصاب متوترة، أدارت محرك سيارتها، وانطلقت بها، وفي تلك اللحظة، لم تدرك من أين جاءت سيارة الحمل الكبيرة لتصطدم بسيارتها من جهة باب السائق لتجعـلها هشيما وقد ضاعت ملامح وجهها على الزجاج الأمامية.
27
ينتظر كريم المفاجأة التي وعُد بها في الغرفة نفسها التي يراقب الأستاذ من خلالها التلفاز الخاص حين تكون إحداهن في غرفة التصوير الأخرى، إذن هناك فتاة ستصور بالكاميرا الثابتة بعد أن أُرجئت فكرة الكاميرا المتحركة، فكر كريم، لا شيء مثير في الأمر، ستتم هنا كالعادة عملية اغتصاب وتصور شأنها شأن كل الحالات التي مرت.. فما المفاجأة في ذلك؟
الأستاذ وكريم ينظران إلى التلفاز الخاص بالكاميرا، الصورة ثابتة وليس هناك فتاة، صب لنفسه كأسا وطلب من كريم أنْ يصب لنفسه قائلا:
- سترى فتاة جميلة جدا..
لاحظ كريم أنّه يراقبه وينتظر منه تعليقا أو إشارة، فقد اعتاد الأستاذ على سماع لغة كريم التي تختلف عن كل ما يسمعه من جماعته وأبناء عمومته من كلمات لا يتعدى قاموسها القتل وسفك الدم واحتقار الناس وزجهم في السجون، لغة كريم علمته كيف يكون مهذَّبا، لذلك كان شغوفًا به بسبب ما يسمعه منه..
- لقد تأخرت الجميلة عن الظهور، ربما يستعدون لتقديمها على أروع ما تكون، اشرب، اشرب.. ستأتي وتظهر لنا.
أصبح كريم معتادا على هذه الأمور فلن توقظ في نفسه أيّة مفاجأة.
أصدر الأستاذ أوامره إلى عليان:
- يجب أن تظهر الفتاة يا عليان، ماذا جرى بِشأنها، هل نامت؟ هل تمضي كل هذا الوقت وهي تخلع ثوبا واحداً على جسدها.
التفت عليان إلى الأستاذ، ففهم هذا ما يقصد، فقال لكريم:
- هيا كريم حان دورك، تقدم إلى حيث المتعة.
كان كريم متشوقا إلى تحليق روحه في فضاءات بعيدة، من خلال ملامسة جسد أي امرأة الآن، ليس تلبية لرغبة الأستاذ الذي عيّره بضعفه قبل أيام مع الأرملة، بل لأنه متعطش، تتهشم بين أصابعه القوارير من شدة اليباس، فأخذ يشعر بالتحسن، وهو يخطو خطواته البطيئة إلى الغرفة، ويشعر ثمة دبيبا بين أعضائه، إنه اللحظتئذ سيقول وداعا للشقاء، حتى لو كان توديعا مؤقتا، برغم أنّه يحس كونه رحيلا أبديًا، حيث سيرى نفسه يذهب إلى متعة الصمت الأبدي، مرحى للجسد، ووداعاً للألم واليأس، ومرحى للالتحام، والذوبان، لن يواسي بعد الآن تخشب جسده، الذي لا بدّ أنّه سيستأنف الحياة بعد قليل، حيث لا تمنعه ايّ حواجز، سيغلق الباب عليه بإحكام، ويذهب إلى أبعد مراحل الشوق في الإبحار بالجسد الآخر، سيدرك أنّ الخوف قد يغادر قلبه، مرة وإلى الأبد، ويطوي صفحات العذاب طيَّ الصحف، ولربما تغادره موجات الاضطراب، إلى الآخر، فقطع أنفاسه وهو يضع يده على أكرة الباب، لا بد أنّه سيراها ملقاة على الفراش بانتظاره عارية، سيحلو له، قبل أن يخوض في بحر جسدها، أن يداعبها، يلثمها بقبلة طويلة، يمص حلمتيها، يتشمم خاصرتها، يقلبها على بطنها، ليرى كيف رسمت لها التكورات، سينظر إلى الشق طويلاً، ربما قد يدفن أنفه وفمه فيه، ليعود يقبلها ثانية قبلة أطول من الأولى يستمر بها حتى تنقطع أنفاسه، سيعلم، هؤلاء الأوغاد الذين يجلسون خارج الغرفة وهم يراقبونه من شاشة التلفاز، كيف يمكن أن يُمارس الحب، ليس كما هي على طرقهم الحيوانية، التي اعتاد مشاهدتها في كل حفلات المجون السابقة، تسارعت نبضات قلبه وهو يحاول أنْ يفتح الباب، وتقدم أول خطوة، عيناه تركزان على الفراش الوثير، أزعجه الضوء المنسكب من كل الجهات على سطح الفراش الذي وجده خاليا، بقي ثابت الجنان ينظر إلى الفراش الخالي، وهو يعتقد أنّه فخ جديد من أجل الضحك، التفت يسارا فلم يجدها أيضًا، ثم عندما التفت إلى اليمين، كاد يقع من هول عاصفة المفاجأة، إذ إنها فائزة تقف خلف ضلفة الباب، دُهش الاثنان وردّدا اسمي بعضهما معا "فائزة" , "كريم". شعر كريم أنّه طُعن بهذه المفاجأة غير السارة، وفائزة بقيت تنظر إليه بحزن وخوف وشوق، مشاعر الخوف والحزن والشوق هي نفسها التي تعتمل في كريم، استرجع شريط الأحداث بسرعة، تذكر اليوم الأخير في بيتهم، قلقه عليها، بسبب تأخرها، وتذكر أنهم عندما ساقوه إلى هذا المكان سألوا عن فائزة قبل أن يسألوا عنه، وأدركت فائزة أنّ الزلّة التي ارتكبتها بكتابة عنوان بيت خالتها أدت إلى حياة الجحيم التي عاشها كريم فيما بعد، كانت تنظر اليه بحزن وندم، محاولة أن تجد في عينيه ما يوجب مسامحتها، لقد اشتعل قلبها بالنار في تلك اللحظات، وهي تبحث في عيني كريم عن الغفران، وهو يبحث في وجهها تلك الإشراقات التي حلم كثيرا أنْ تضيء له مساحة الحياة المعتمة التي عاشها، حروباً ومجازراً وموت الشبان التسعة، وفقدانه نوال، وحبس نفسه ثلاث سنوات في الغرفة لا يرى من العالم سوى الضوء وأصوات بعيدة متناهية، شعر كريم وفائزة أنّهما كانا يتحاوران، بالصمت، موسيقى الصمت تعزف أنغامها وهما متقابلان وجها لوجه، يرتجفان، متشوقان، أيقن أنّ المفاجأة قاسية، وأدركت هي أنّ لعبتهم بلغت منتهاها، كأنها تعلم أنهم جاءوا به إلى السخرية، حين جلبوه ليرسمهم سخروا منه، وحين أبقوه محتجزا لديهم هدفهم كان لإقصاء كل منابع الفن في روحه، ولذا، فإنّها لم تجد في نفسها الرغبة في مشاركتهم بأن تكون أداة للإمعان في سخريتهم منه، بل، وجدت أنّ بإمكانها أن تسخر منهم، فشجعت كريم أنْ يستمر في رسم فضاءات روحه في منابت جمالها الذي تشوق إليه ذات نهار، وكريم من جهته قرأ بتركيز شديد تلك النظرات، قرأ بريق العينين، ورجفة الشفتين، والعنق الطويل الذي ازدهر بلعابها صاعدا نازلا، كانت تلك علامات، لا يمكنه أن يخطئ الظن بقراءتها، فتشجع ومد يده إليها، إلى منتصف المسافة فيما تحركت بهدوء، وببطء شديد يدها باتجاه أصابعه، تلك الأصابع التي كانت تداعب الريش ليستخرج منها رشقات الجمال على القماش، أحس الاثنان أنّ رجفة من تيار كهربائي خض جسديهما، تفاهما كثيرا، عميقا في مداعبة أيدي بعضهما، تقدما كل منهما خطوة واحدة نحو الآخر، فالتحما، أصبح جسدها ملاصقا لجسده، لفحه عبير أنفاسها، ولفحتها روائحه، وأنفاسه، قرب شفتيه من شفتيها المرتجفتين، فلثمها بقبلة، استجابت له، وقد أغمضت عينيها، وسبحت في أمواج الشفتين، شفتيه اليابستين، شعرت بالاشتعالات في قلبها وجسدها وكل أعضائها، فيما نهضت في جسد كريم كل الأعشاب اليابسة، كأنّها قد عادت إلى الحياة، طوقها بذراعيه، أول الأمر بخفة وشاعرية، وطوقته هي استجابة إلى ضغطه على صدرها، وشعر أنّه في ملكوت آخر، كما أنها شعرت بالذوبان، ووجدت أنّ إحساسها بالندم لن يذوب إلا بهذا الانصهار الذي رسمته الأقدار ، ومن حيث لا يدركان، وجدا نفسيهما يخلعان ثياب بعضهما، واستلقيا مثل ملاكين على السرير ، ليحلقا اعالي الوجد الروحي ، يسبحان في أمواج بحر ، فائزة تشعر أنّ المطر الذي كانت تحتفل به كلما هطل قد غمرها الآن، إنّه مطر الروح التي تحررت من قضبان الجسد، ها هو قد بلل شعرها وجسدها وباتت تغني وهي تبكي وتضحك وتتأوه، لم يكن بكاء، بل عويل موسيقى لحنها الشجي يوقظ كل المسامات ، استمر ذلك العويل الموسيقي يمزق جدران الصمت، فيما عبر كريم عن شغفه برقصات كان قد حفظها من لوحات لم يرسمها لكنه احتفظ بأشكالها التي من المؤمل أنْ يرسمها بعد نهاية المطاف، يرسم على جسدها إيقاعات اللون الذي لم يرسم به أحد، أحسّا أنّ الوقت ملكهما، وشاهدا معا أنّ السرير قد أصبحت له أجنحة، يعوم بهما في فضاءات بعيدة ، كانت النجوم وهي تلمع كأنما تستقبلهما فأخذت تغازل بعضها بعضا ، كانا يسبحان في لذة لن تنتهي، حتى شعرا أنهما قد يستمران هكذا إلى نهاية العمر وهما متلاحمان، يتجاذبان أطراف حديث الجسد ، لا كلام ولا نفاق ولا زيف فيه، يحلقان في المتعة.. ويبلغان ذروتها، فيما بدا في الجانب الآخر من الغرفة ، حيث أكفهر الأستاذ ، فأصدر أوامره وهو يزعق من هول الصدمة، كأن العاشقان يرسمان لوحة لم يستطع كل الزبانية استيعابها، كما حدا بالكلاب المفترسة، تلك الكلاب الجائعة على الدوام، أن تدخل إلى غرفة المتعة، وتصعد إلى فراش اللذة، لتنهش وتأكل العاشقين بحقد أسود، ويطلق الأستاذ صيحات في الفراغ.. ستظل إلى الأبد مجرد صيحات لا معنى لها، ولا أحد يسمعها.


*****************************************



#محمد_مزيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية الغرق - الفصل الثاني
- رواية ( الغرق )
- بحر ايجه
- ليست قصيدة
- قصة قصيرة جدا
- الجارة
- قراءة في رواية شاكر نوري ..- جحيم الراهب - .. التجديف خارج ا ...
- اعتراف بالحب
- المفوهون العرب
- دولة الاحزاب ام دولة المؤسسات
- قصة قصيرة
- الثقافة العراقية والتسييس المهمش
- رد على نقد
- الناشر والبوكر وحارس التبغ لعلي بدر
- صحراء نيسابور
- نجيب محفوظ .. الصانع الامهر
- كيف ينبغي قراءة نجيب محفوظ


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد مزيد - رواية ( سرير الاستاذ )