أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - علي شريعتي - جمال البنا يتحدث عن جمال الدين الأفغاني















المزيد.....



جمال البنا يتحدث عن جمال الدين الأفغاني


علي شريعتي

الحوار المتمدن-العدد: 5218 - 2016 / 7 / 9 - 23:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يقول الأستاذ جمال البنا رحمه الله تحت عنوان (الإسلام ضد الاستعمار والاستبداد):
بدأت اليقظة الإسلامية في العصر الحديث على يدي جمال الدين الأفغاني، وقد سبقه وزراء مثل مدحت باشا وخير الدين التونسي في تركيا، أو دعاة مثل بعض شيوخ الأزهر الذين ظهروا مع الحملة الفرنسية حتى رفاعة رافع الطهطاوي، ولكن بعض هذه المحاولات توجهت للإصلاح الدستوري والحكومي، بينما عني البعض الآخر بتنقية العقيدة مما اكتنفها من خرافة، ومن هنا، فإن هذه المحاولات كانت لها الطابع الجزئي، سواء أعاد هذا الطابع إلى موضوعها أو طريقة معالجتها أو منطقة هذه المعالجة، وبالتالي لم يكن لها الطبيعة أو الأثر أو الوزن الذي رُزِقته دعوة الأفغاني.

وأبرز قسمات دعوة الأفغاني هي :
أولاً : الثورة على الاستعمار الأوربي :
ظهر الأفغاني عندما كان الاستعمار الأوروبي قد بلغ الأوج، وبدت أوروبا كقوة لا تقهر تمسك بيدها مصائر العالم، وهيمن الإنبهار بها والخوف منها على الجميع، فقد دكت مدافع الأسطول البريطاني أمنع القلاع، وتوغلت الجيوش الأوروبية في أدغال إفريقيا وفيافي آسيا، وسقطت في يدها الهند والصين ومصر وكل الدول الأفريقية، بينما دمرت الصناعة الأوربية الآلية الحرف والصناعات اليدوية التي كانت مزدهرة في الشرق، وبدا كما لو أن الاستكانة والتسليم هما قدر الشرق الذي لا مناص عنه ولا مهرب منه.
في هذا الوقت ظهر جمال الدين الأفغاني، كشهاب ثاقب وسـط الظلمات، ورفع صيحته المدوية التي أحيت الموات، وقال : إن الاستعمار عرض زائل لابد وأن ينتهي، وباطل لابد وأن يزهق، وأنه «عارية» لا بد أن تسترد، وليس هو بالقدر الدائم، أو الحتم اللازم.
ووصلت ثقته في ذلك أن تنبأ بتقلص الإمبراطورية البريطانية التي كانت وقتئذ في الأوج، وأخبر أحد مريديه من مسلمي سيبيريا أنه سيسير في جنازة الإمبراطورية الروسية، وأخذ ينشر المقالات الطوال مثيرًا الهمم، محفزا للعزائم، ضاربًا الأمثال من التاريخ القديم عندما كان للدول الشرقية حضارتها، وصاح بالهنود إنهم قرابة ثلثمائة مليون يحكمهم خمسون ألف جندي إنجليزي، ولو نفخوا جميعا نفخة واحدة لأطاروا الإنجليز !
وكانت عداوة الأفغاني للاستعمار، وأيمانه بزواله هي أبرز ما لفت إليه الأنظار، لأنها بدت ــ وسط المداهنات والتسويات ــ دع عنك الاستخذاء والتسليم والعمـالة ــ شيئا شاذاً في معناه حادًا في مبناه، وخص بريطانيا بأعظم قدر من عداوته قال الشيخ محمد عبده عنه : «ويدخل في مبادئه تنكيس دولة بريطانية في الأقطار الشرقية، وتقليص ظلها عند رؤوس الطوائف الإسلامية، ولــه في عــداوة الإنجليز شـئون يطول بيانها..».
وهذا أديب أسحق، تلميذة المقرب يقول : «وكان صاحب الترجمة، شديد الكراهة لدولة الإنجليز، جهر بذلك غير مرة، ونشر في جريدة مصر فصولا ناطقة به».
أما سليم العنحوري فقد ترجم لجمال الدين الأفغاني لمناسبة شرح بيتين من ديوانه (سحر هاروت) هما :
ترنو إلي بمقـــلة غضبى إذا بصرت بطود سال كالوديان
فكأنني بيكونســــفيلد زمانـه وكأنها من بغضها الأفغـــاني
وإنما خص جمال الدين بريطانيا بعدواته لأنها كانت عميدة الاستعمار، ولأنها أصابت بسمومها أعز بلدين إليه (الأفغان) التي تعد مهده، و (مصر) التي كانت محل أمله وأمضى فيها ثمان سنوات كاملة.

ثانيًا : التنديد بنظم الحكم الاستبدادية :
كان التنديد بالحكام الشرقيين المستبدين يسير جنبًا إلى جنب مع الثورة على المستعمرين، لأن الاستبداد يتلاقى مع الاستعمار في كبت الحريات، وحرمان الشعوب والجماهير من حقها في المشاركة في وضع القرار وإصدار الأحكام، والاستئثار بموارد البلاد وإنفاقها في بناء القصور واجتناء اللذات.. الخ.
من هنا عمل الأفغاني بكل الطرق للقضاء على هذه النظم الاستبدادية وقد انقلب عليه، ونكث بعهده الحاكمان اللذان أمل فيهما ــ لفترة ــ خيرًا ووعدًا بالإصلاح : الخديوي توفيق الذي كان يقول له «أنت أملي في مصر أيها السيد»، والشاه ناصر الدين الذي استقدمه لطهران لاقتراح الإصلاحات، فنفاه الأول بمجرد أن ولي الحكم، بينما طرده الثاني شر طردة في البرد والثلج، فعزز هذا من إيمانه بعقم وسوء النظم الاستبدادية، وأنه لا جدوى من التساوم معهم، بما في ذلك السلطان الأعظم الخليفة عبد الحميد الذي قال عنه : إنه «سل في رئة الدولة!».. وعقد الأفغاني العزم على القضاء عليهم، ولو بالاغتيال، وقد صاح قاتل الشاه ناصر الدين وهو يطعنه بخنجرة «خذها من يد جمال الدين».. كما فكر بعض أتباعه في مصر في اغتيال الخديوي توفيق، ولكن هذا الأسلوب لم يكن هو الأسلوب المقرر الذي قام عليه عمله، وإنما كان استثناء عندما يفيض الكيل أو تحكم الضرورات، لأنه ــ وحده ــ لا يحقق هدفه في إقامة الحكم الشوري الذي صوره في إحدى عباراته «تاج دون رأس أو رأس دون تاج!»، أي الحكم الملكي الدستوري الذي يملك الملك فيه دون أن يحكم أو الحكم الجمهوري الذي لا يكون فيه ملك أو تاج !
أما الوسيلة المقررة لتحقيق هذا فقد كانت إيجاد رأي عام يتحرر من أَسْر الاستعمار والاستبداد، وتنظيم هذا الرأي في تشكيلٍ أو حزبٍ أو هيئة تتولى العمل لتطبيقه.
من أجل هذا، عني الأفغاني بالصحافة باعتبارها أقوى الأدوات لاستثارة الهمم وإيجاد الرأي العام، وعمله في مصر يصلح مثالا لذلك، وقد تحدث عنه ببعض التفصيل تلميذة الأثير الشيخ محمد عبده عندما استعرض أحوال مصر قبل الأفغاني وبعده فقال : «هذه كانت شدائد مهلكة، وظلمات حالكة، يضل فيها الرشيد، ويتعثر فيها العزم الشديد، ولكن كان يلوح خلالها ضياء لو كمل ظهوره وانتشر نوره لاهتدى به الضال، وحسن به الحال، ذلك أن أهالي مصر قبل سنة 1293 كانوا يرون شئونهم العامة، بل والخاصة، ملكا لحاكمها الأعلى، ومن يستنيبه عنه في تدبير أمورهم يتصرف فيها حسب إرادته، ويعتقد أن سعادتهم وشقاءهم موكولة إلى أمانته وعدالته أو خيانته وظلمه، ولا يرى أحد منهم لنفسه رأيا يحق له أن يبديه في إدارة بلاده، أو إرادة يتقدم بها إلى عمل من الأعمال يرى فيه صلاحا لأمته، ولا يعلمون من علاقة بينهم وبين الحكومة سوى أنهم محكومون مصرفون فيما تكلفهم الحكومة به وتضربه عليهم، وكانو في غاية البعد عن معرفة ما عليه الأمم الأخرى سواء كانت إسلامية أو أوروبية، ومع كثرة من ذهب منهم إلى أوروبا وتعلَّم فيها من عهد محمد علي الكبير وإبراهيم باشا لم يشعر الأهالي بشيء من ثمرات تلك الأسفار ولا فوائد تلك المعارف، ومع أن إسماعيل باشا أبدع مجلس الشورى في مصر سنة 1283 وكان من حقه أن يعلم الأهالي أن لهم شأنا في مصالح بلادهم، وأن لهم رأيًا يرجع إليه فيها، فلم يحس أحد منهم، ولا من أعضاء المجلس أنفسهم، أن له ذلك الحق الذي يقتضيه وتشكيل هذه الهيئة الشورية، لأن مُبْدِعَ المجلس قيَّدَه في النظام وفي العمل، أما في النظام فلأنه قد نص فيه على أن نظر المجلس ينحصر فيما تراه الحكومة من خصائصه، وما يَعِنُ لها أن ترسله إليه للمداولة فيه، وأما في العمل فلأنه كان يرسل من قبله عند المداولة من يخبر الأعضاء بإرداة جنابه ! فيقررون ما يريد بعد مداولة صورية، فكانوا يشعرون أن الإرادة المطلقة هي التي كانت تصرفهم في آرائهم، وهل كان يمكن لأحد أن يعمل على خلاف ما يؤمر به ؟ هل كان يمكن لشخص أن يميل بفكره عن الطريق التي رسمت له أو الوجهة التي يتوجه إليها الحاكم ؟ لو حدثه الفكر السليم بأن هناك وجهة خير من ذلك ؟ هل كان يمكن أن ينطق بما حدثه به فكره ؟ كلا، فإنه كان بجانب كل لفظ نَفْيٌ من الوطن أو إزهاقٌ للروح أو تجريد من المال..».
ويستطرد الشيخ محمد عبده :
وبينما الناس على هذا، لا كاتب ينبههم، ولا خاطب يعظهم، إذ عرض أمر قلما يلتفت إليه، أو تحوم الأنظار حواليه، وإن كان مما يعرض في كل مكان، وجرت به السنة الإلهية في كل زمان.
«جاء إلى هذه الديار سنة 1286 رجل غريب، بصير في الدين، عارف بأحوال الأمم، واسع الاطلاع، جم المعارف، جرئ القلب، هو المعروف بالسيد جمال الدين الأفغاني، وركن إلى الإقامـة في مصر، فتعرف إليه في بادئ الأمر بعض طلبة العلم، ثم اختلف إليه كثير من الموظفين والأعيان، ثم انتشر عنه ما تخالفت آراء الناس فيه من أفكار وعقائد، فكان ذلك داعيًا لطلب الاجتماع به لتعرف ما عنده، ثم اشتغل بالتدريس ببعض العلوم العقلية، وكان يحضر دروسه كثير من طلبة العلم ويتردد على مجالسه كثير من العلماء وغيرهم، وهو في جميع أوقات اجتماعه مع الناس لا يسأم من الكلام فيما ينير العقل، أو يطهر العقيدة، أو يذهب بالنفس إلى معالي الأمور، أو يستلفت الفكر إلى النظر في الشئون العامة مما يمس مصلحة البلاد وسكانها، وكان طلبة العلم ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلى بلادهم أيام العطلة، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحبائهم، فاستيقظت مشاعل، وانتبهت عقول، وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد خصوصا في القاهرة...».
إن الشيخ محمد عبده يتحدث بلسان وشعور أحد أفراد الشعب عن حالة البلاد عند تشكيل مجلس شوى القوانين، وكيف أن الحريات كانت مكبوته، والإرادات مغلولة، وشبح الحاكم يسيطر حتى داخل المجلس، ولا أحد ينتقد هذا الواقع حتى جاء هذا الرجل «الغريب» فبسط آراء وأفكارًا مخالفة.

ثالثا : الاستثارة.. والصحافة.. وحتى الماسونية :
يصف سليم عنحوري مجالس الأفغالي فيقول :
«كان من ديدن جمال الدين أن يقطع بياض نهاره في داره حتى إذا جن الظلام خرج متوكئا على عصاه إلى مقهى قرب الأزبكية، وجلس صدر فئة تتألف حوله على هيئة نصف دائرة ينتظم فيها اللغوي والشاعر والمنطقي والطبيب والكيماوي والتاريخي والجغرافي والمهندس والطبيعي، فيتسابقون إلى إلقاء أدق المسائل وبسط أعوص الأحاجي لديه، فيحل عقد أشكالها فردا فردا، ويفتح إغلاق طلاسمها ورموزها واحدا واحدا بلسان عربي مبين لا يتلعثم ولا يتردد، بل يتدفق كالسيل من قريحة لا تعرف الكلال فيدهش السامعين، ويفحم السائلين، ويبكم المعترضين، ولا يبرح هذا شأنه حتى يشتعل رأس الليل شيبا، فيقفل إلى داره بعد أن ينقد صاحب المقهى كل ما يترتب له في ذمة الداخلين في عداد ذلك الجمع الأنيق».
ويقول في موضع آخر :
«وأخذ يُقَرِّب منه العوام، ويقول لهم أثناء مكالماته ما معناه إنكم معشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد وتربيتم في حجر الاستبداد، وقد توالت عليكم قرون من زمن ملوك الرعاة حتى اليوم، وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين، تسومكم حكوماتهم الحيف والجور، وتنزل بكم الخسف والذل، وأنتم صابرون، بل راضون، وتنزف قوام حياتكم وسواد غذائكم المجموعة، ما يتحلب من عرق جباهكم بالمقرعة والسوط، وأنتم في غفلة معرضون، فلو كان في عروقكم دم فيه كربات حية، وفي رؤوسكم أعصاب تتأثر فتثير النخوة والحمية لما صبرتم على هذه الضعة والخمول، ولما قعدتم على الرضاء وأنتم ضاحكون، تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد والمماليك ثم الفرنسيين والمماليك والعلويين، كلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، ويهيض عظامكم بأداه عسفة وأنتم كالحصوة الملقاة في الفلاة لا حمى لكم ولا صوت، أنظروا أهرام مصر، وهياكل منفيس، وآثار طيبة، ومشاهد سيوة، وحصون دمياط، فهي شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم !!»
ونقلت بعض المصادر في استثارته للفلاحين :
«أنت أيها الفلاح المسكين، تشق قلب الأرض لتستنبت فيها ما تسد به الرمق، ويقوم بأود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالمك.. لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة تعبك ؟».
وعندما كان في الهند، أخذ يؤلب الهنود ويقول : إنهم لو كانوا ثلثمائة مليون ذبابة، وطنت كل واحدة بجناحيها لأطارت الجيش البريطاني.
ومن المهم عند تقرير هذه الاستثارات أن نضيف إلى القوة والفعالية الموضوعية لها، شخصية جمال الدين التي لا تقل قوة وفعالية عن مضمون الاستثارة ومعانيها، وكان لجمال الدين شخصية آسرة وجاذبية عجيبة خضع لها كل من عرفه، وتحدث أحد المؤرخين عن رشيد رضا باعتباره «عاشق جمال الدين» ولكنه لم يكن وحده فقد ذهب لطفي السيد ــ وهو آخر من يظن التأثر به ــ إلى الاستانة خاصة ليلتقي به ويتعلم منه، وعندما التقى الكاتب الفرنسي الكبير «رينان» به قال : «تعرفت بالشيخ جمال الدين من نحو شهرين فوقع في نفسي ما لم يقع في إلا من القليلين، وأثر في أثرا قويًا، وقد خيل إليَّ من حرية فكره ونبالة شيمه وصراحته وأنا أتحدث إليه، أني أرى أحد معارفي القدامى وجها لوجه، وأني أشاهد ابن سينا، وابن رشد، أو واحدا من أولئك الملحدين العظام(1) الذين ظلوا خمسة قرون يعملون على تحرير الإنسانية من الإسَار...».
وبقدر ما عُنِيَ جمال الدين الأفغاني باستثارة من كان يحضر مجالسه، بقدر ما عُنِىَ بأن تدرك هذه الاستثارة بقية الناس عن طريق الصحافة، والنهضة بأسلوب الكتابة، ووصف الشيخ محمد عبده دور الأفغاني في هذا فقال : «وحث تلامذته على العمل في الكتابة وإنشاء الفصول الأدبية والحكمية والدينية، فاشتغلوا على نظره وبرعوا، وتقدموا في الكتابة في مصر بسعيه، وكان أرباب القلم في الديار المصرية القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة، منحصرين في عدد قليل، وما كنا نعرف منهم إلا عبد الله باشا فكري وخيري باشا ومحمد باشا سيد أحمد، على ضعف فيه، ومصطفى باشا وهبي، على اختصاص فيه، ومَنْ عدا هؤلاء فإما ساجعون في المراسلات الخاصة، وإما مصنفون في بعض الفنون العربية أو الفقهية وما شاكلها، ومن عشر سنوات ترى كتبة القطر المصري لا يشق غبارهم ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن شيوخ في الصناعة، وما منهم إلا من أخذ عنه أو عن تلامذته أو قَلَّدَ المتصلين به، ومُنْكِرُ ذلك مُكَابِر، وللحق مُدَابِر.. انتهى.
ومما يبين سعة أفقه، أنه أيَّد ترجمة سليمان البستاني للإلياذة بناء على اقتراح يعقوب صنوع، وتمنى لو أن علماء المسليمن قاموا بذلك، وقد عدد الأستاذ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «عصر إسماعيل» إثني عشرة صحيفة سياسية كان السيد جمال الدين يُشرف على تحرير أقوى ست فيها، فكانت هناك مجلة مصر، ومجلة التجار يحررهما أديب إسحاق وسليم نقاش تلميذ جمال الدين، ومجلة مرآة الشرق لصاحبها سليم عنحوري يحررها إبراهيم اللقاني تلميذ الأفغاني، ومجلتي مرآة الإخوان وأبو نضارة يحررهما يعقوب صنوع، الأولى صدرت في لندن سنة 1876 والثانية في القاهرة سنة 1877، وكان الشيخ يعقوب صنوع مصريًا إسرائيليًا متعلقا بالصحافة يميل إلى الدعابة في كتاباته، واتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني، وقيل إنه هو الذي أوعز إليه إصدار جريدته لانتقاد سياسة إسماعيل فأصدرها وكانت أول جريدة سياسية صدرت في مصر، وهذا كله فضلا عن صحيفة العروة الوثقى التي أصدرها في باريس، وكان يشرف على تحريرها الشيخ: محمد عبده، فلو قلنا : إن السيد جمال الأفغاني يستحق لقب «الصحفي الأول» في مصر لما كان في ذلك مبالغة.
وقد صدرت العروة الوثقى في باريس في المدة من 13 مارس 1884 حتى 17 أكتوبر من السنة نفسها، وخلال هذه الفترة أصدرت ثمانية عشر عددًا، ثم توقفت بعد أن شنت عليها السلطات والحكومات حربا شعواء.
ووصف السيد رشيد رضا أثر العروة الوثقى :
«إنني لا أزال أتذكر أنه كان بدارنا في القلمون بجوار طرابلس الشام، وفي سنة 1302 ضيوف من المصريين المنفيين بسبب الحوادث العرابية، فجاءت جريدة العروة الوثقى مساء فأخذها الأستاذ الشيخ محمد عبد الجواد القاياتي المشهور، وقد وضع بين يديه مصباحا من مصابيح زيت البترول، وأنشأ يقرؤها بصوت جهوري كأنه خطيب، وإنما كان يقف عند بعض الجمل ليعبر بها عما يخالجه من شعور العجب ولم يتركها حتى أتى على آخرها، ولم أكن في ذلك الوقت أُعْنَى بشيء من مثل هذا، بل كانت تلك السنة هي السنة الثانية لاشتغالي بطلب العلم..».
واستطرد : «كنت مرة أبحث في أوراق والدي العتيقة أتصفح ما فيها من الجرائد المطوية، فعثرت على أعداد من العروة الوثقى، فطفقت أقرؤها المرة بعد المرة، وهي تفعل في نفسـي فعلها، تهدم وتبني، تَعِد وتُمَنِّي، وما كان وعدها إلا حقا ولا تمنيها إلا رجاء وأملا.
أنشأت بعد أن ظفرت بتلك الأعداد أبحث عن أخواتها في طرابلس، فكنت أجد عند الرجل العدد، وعند آخر العددين، فأنسخ ما أجد، ثم علمت أن الشيخ حسينا الجسر احتواها كلها، ومن عنده أتممت استنساخها، فكان كل عدد منها كسلك من الكهرباء اتصل بي فأحدث في نفسي من الهزة والانفعال والحرارة والاشتعال ما قذف بي من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، والذي علمته من نفسي بالخبر ومن غير الخبر، ومن التاريخ أنه لم يوجد لكلام عربي في هذا العصر، ولا في قرون قبله ما كان لها من إصابة موقع الوجدان من القلب والإقناع من العقل ولا حد للبلاغة إلا هذا.
سمعت من أستاذنا الشيخ حسين الجسر، عالم سوريا الوحيد في الجمع بين العلوم الإسلامية ومعرفة حال العصر السياسية فيقول : «ما كان أحد يشك في أن جريدة العروة الوثقى ستحدث انقلابا عظيما في العالم الإسلامي لو طال عليها الزمان»
وسمعت من محمد بك على المؤيد يقول : «كنت في بغداد في عهد صدور العروة الوثقى، وكانت ترسل إلى الزعيم العربي الأكبر في العراق السيد سلمان الكيلاني نقيب السادة الأشراف، وكان يقول كلما جاء عدد منها «يوشك أن تقع ثورة من تأثير هذه المجلة قبل أن يجئ العدد الذي بعد هذا..».
إلى هذه الدرجة وصل تأثير العروة الوثقى على رجالات مصر، وسوريا والعراق وغيرها، لأنها بلورت روح جمال الدين الثورية المتقدة بأسلوب الشيخ محمد عبده النجم الصاعد في سماء الأسلوب العربي الجديد.
وقيل إن «العروة الوثقى» كانت علما على جمعية سرية، كما كانت علمًا على جريدة، وقد اختير أعضاء هذه الجمعية بدقة ووضع لها يمين غليظ كان على كل عضو أن يقسمه ويتعهد « أن يبذل ما في وسعه لإحياء الأخوة الإسلامية وإنزالها منزلة البنوة والأبوة الصحيحتين، وأن لا يقدم إلا ما قدمه الدين، وأن لا يؤخر إلا ما أخره الدين، ولا يسعى قدما واحدة يتوهم فيها ضررا يعود على الدين جزئيا أو كليا.. الخ».
ويرى أحد الكتاب المتخصصين في هذا الموضوع أن تنظيم «العروة الوثقى» امتداد للحزب الوطني الحر الذي أسسه جمال الأفغاني في مصر، كما يرى أن القضية العربية بالذات كانت من أهم دواعي تكوينه وأكثر مجالات انشغاله وعمله.
ويرى هذا الكاتب أن هناك إضافة «هامة وجوهرية» قدمها جمال الدين إلى يقظة الشرق تتعدى رسم الأهداف، والعمل لتنفيذ هذه الأهداف، وهذه الإضافة تتعلق بالأسلوب الجديد الذي دعا إليه هذا الرجل ومارسه كي يحقق بواسطته هذه الأهداف، وهو أسلوب «التنظيم السياسي السري» وتكوين الأحزاب والمنظمات السرية، وهي تنظيمات استحدثها الرجل على حياة الشرق السياسية في عصره، وكانت التجارب الأولى لشعوبنا في القرن التاسع عشر.

ولم يتردد الأفغاني في الإفادة من الماسونية لحساب قضيته، وفي رأي هذا الكتاب أن السيد الأفغاني «أراد أن يستفيد من الماسونية» كإطار للعمل والحركة، وكواجهة شرعية للتنظيم الذي يريد إقامته من أجل الثورة في مصر على الاستبداد ونفوذ الاستعمار، وأن هذه الفكرة كانت وراء دخوله الماسونية أولا، ثم إنشـائه محفلا ماسونيًا خاصًا جعله تابعًا للمحفل الشرقي الفرنساوي، وكانت رئاسته العلمية للأفغاني، ومن ثم كان تنظيمًا خاصًا لا أثر فيه للماسونية سوى الاسم فقط.
وقد اختار جمال الدين في تنظيمه الجديد هذا صفوة مختارة من قيادات مصر الفكرية والسياسية والعسكرية في ذلك الحين، وقسم هذا المحفل إلى شعب عديدة تقوم كل منها على إعداد أعضائها كمتخصصين في مجالهم، فكانت هناك شعبة للضباط المصريين تستهدف تثقيفهم فكريا وسياسيًا وإعدادهم لكسـب المعركة التي كانو يخوضونها في الجيش ضد الضباط الشراكسة والأتراك، وشعبة أخرى للعدل «الحقانية»، وثالثة للمالية، ورابعة للأشغال.. الخ.
أي أن هذا التنظيم كان مرحلة من مراحل إعداد «الكوادر» المصرية الوطنية ؛ كي تتقن فن الحكم والسياسة بمختلف أبعادها وتتخصص فيه، وذلك تمهيدًا لمرحلة تحقيق الشعار الذي كانت تنظيمات الأفغاني السرية في مصر أول من رفعته وناضلت في سبيله شعار: «مصر للمصريين..».
وسواء أخذ عمل الأفغاني هذا التصور أو لم يأخذ، فالمُحَقق أنه أول من رفع اسم «الحزب الوطني الحر»، وأن الطموح وصل بهذا الحزب إلى التفكير في إحلال نظام جمهوري يحل نظام الخديوية، وقد يصور مدى هذا التفكير ما رواه محمود سامي البارودي في 18 يونيو 1882 في منزل حسن العقاد بحضور عرابي وعبد الله نديم والشيخ محمد عبده : «لقد كنا نريد منذ بداية حركتنا إلى قلب مصر إلى جمهورية مثل سويسرا، وعندئذ كانت تنضم إلينا سوريا ويليها الحجاز، ولكننا وجدنا العلماء لم يستعدوا لهذه الدعوة لأنهم كانوا مؤخرين عن زمنهم، ومع ذلك سنجتهد في جعل مصر جمهورية قبل أن نموت..».

رابعًا : اكتشف الأفغاني أن الإسلام هو القوة الوحيدة التي يمكن أن تكون منطلق حركة اليقظة والثورة :
ليس فحسب لأن الإسلام هو القاسم المشترك الأعظم بين الشعوب الشرقية، بما فيها التي لا تتكلم العربية كإيران والهند، ولكن كذلك لما له من منزلة مقدسة في النفوس، ولما يتضمنه من مبادئ يمكن أن تقوم عليها النهضة المنشودة، وإنما توصل الأفغاني إلى هذه النتيجة لأن فكرته عن الإسلام كانت تختلف جذريًا عن فكرة بقية الشيوخ إذا أنه دخل إليه ــ أي الإسلام ــ من باب السياسة وليس من باب الفقه والعقيدة، كان الإسلام لدى الأفغاني ما كانه عندما دعا إليه محمد : دعوة للإنقاذ من الظلمات إلى النور والتحرير من الأصر والأغلال، ومع أنه كان فقيهًا، ودرَّس لطلبة الأزهر بعض كتب العقيدة حينا، إلا أنه لم يقع في مصيدة المذهبيات، ولم ير أن عليه ــ كزعيم لدعوة إسلامية ــ أن يصدر الفتاوى أو يتحدث عن العبادات أو يعالج قضايا الفقه والتوحيد.. إلخ، ولم يكن هو نفسه يصلي إلا الصلاة المكتوبة، واستخدم ميله الصوفي لأن «يفنى» في عباد الله، لا أن يفنى في الله كما يقول الصوفيون (2)، ولم يكن لديه أية حساسية نحو غير المسلمين تدفعه للنفور منهم أو البعد عنهم، فقد قرَّب إليه إسحاق نقاش المسيحي اللبناني، وشجع يعقوب صنوع الإسرائيلي المصري، كما لم يكن معَقَّدا في قضية المرأة، وهو القائل قبل قاسم أمين وغيره من دعاة تحرير المرأة «لا مانع من السفور إذا لم يُتَّخذ مطية للفجور»، ويروي عنه أنه ألقى خطابًا على أحدى الجمعيات النسائية، وأنه دخل إحدى حانات القاهرة وناقش الساقية، وكان في الأستانة يلم بمنتزه الكاغدخانة ويتحدث إلى «الغجر» ويُصغى إليهم، ولم يكن في ملبسه ومأكلة تقليديًا، وبالطبع فإنه كان يدير ندوته من «قهوة متاتيا».
ووجود زعيم إسلامي محل الاعتراف والتقدير بهذه الصفات أمر لم يتكرر، فقد قُضِيَ على الزعيم الإسلامي أن يكون معمما ملتحيا، فقيها متمكنا من الفقه والتدريس والتفسير والحديث، يؤم الناس في الصلوات ويقدم الفتاوى في المناسبات.
ولعل مما أعان الأفغاني في موقفه الفريد أنه على نشاطه في الدعـــوة والتنظيم والاستثارة، فإنه لم يُوجــد تنظيمًا جماهيريًا بالمعنى المعروف، إذ يغلب أن يفرض مســتوى الأعضاء وفهمهم، وضرورة التواؤم معهم، على زعيم هذا التنظيم أوضاعًا «مشيخية» تُقَيِّد من حرية انطلاقه ومستوى فكره.
ولم يُعن الأفغاني بالتنظيم الجماهيري، كما لم يُعن بتحديد أوضاع المجتمع الذي يمكن أن يظهر عند النجاح في القضاء على الاستعمار، لأن القضية التي شغلته تماما وعن أي شيء آخر، هي أن يرفع سيف الاستعمار والاستبداد المصلت على أعناق الشعوب، وليس هناك معنى للتفكير في أي شيء آخر ما دام هذا السيف يلمس بحده القاطع أعناق الجماهير، ويبدو لي أنه كان يرى أنه حتى الفوضى التي كان يمكن أن تعقب القضاء على الاستعمار والاســتبداد أفضل من بقائهما وأن الجماهير لن تعجز بعد فترة من التخبط والتجربة والخطأ عن أن تصل إلى الحل.
* * *

وتصور الفقرات التي استشهدنا بها مدى استغراق السياسة لفكرة الإسلام لدى الأفغاني، وأن كل ما يقوله الكتاب المعاصرون عن «الإسلام السياسي»، وأنه يعود إلى ثمانينات القرن العشرين، أو يربطونه بالســادات أو بالخوميني خاطئ تمامًا، فقبل هذه الأحداث بقرن كامل ظهر ــ بتعبيرهم ــ الإسلام السياسي في أقوى تجلياته على يد الأفغاني، بل إنه أبرز للمرة الأولى التجربة السياسية العسكرية الناجحة التي ظلمت حقها في الدرس ولو ظفرت به لكان من المحتمل أن لا يكون هناك حاجة للانقلابات العسكرية بدء من انقلاب مصطفى كمال حتى انقلاب عبد الناصر التي أساءت إلى المنطقة إساءات بالغة، وحالت دون التطور السليم لها.
ذلك أن الدول العربية والإسلامية لم تكن قد توصلت إلى نظام ديمقراطي قوي. ولم يوجد بها أحزاب عريقة تكون قنوات لتحقيق إرادة الشعب ــ أو حتى رأي عام منظم يضغط على السلطة ــ وبالتالي ظلت الشعوب عاجزة عن أن تحقق الإصلاح السياسي أو تتوصل إلى الديمقراطية، فلكي تحقق الديمقراطية كان لا بد من وجود مناخ ديمقراطي وهذا هو «الدور» المنطقي، أو هو السد الذي كان أمام الشعوب وحال دون تحركها.
في مثل هذه الحالات تكون القوة الوحيدة التي يمكن أن تتحرك وتحطم السدود هي «الجيش» (قد يكون هناك بديل آخر إذا وجدت حركة عمالية ونقابية منظمة وقوية. إذ تستطيع أن تعلن الإضراب العام فتشل جهاز الدولة، وهذا هو ما قامت به الحركة النقابية الألمانية عام 1920، عندما استغاثت بها الحكومة نفسها لمواجهة تمرد عسكري لم تستطع مواجهته، ولكن إذا لم تكن هناك ديمقراطية أو أحزاب قوية فيستبعد أن توجد حركة نقابية لها هذه القوة، وبالإضافة إلى المثل الذي قدمناه آنفا، فان الحركة النقابية البريطانية كان يمكن أن تغير الأوضاع لو كان لديها الشجاعة والجرأة عندما نجح إضرابها في العام في 1926، وقد قامت إضرابات الحركات النقابية بدور سياسي حاسم في عدد من دول العالم الثالث.)

ومن المؤسف أن تجربة البشرية منذ أن عبَر يوليوس قيصر بقواته نهر الروييكون قبل ميلاد المسيح وأعلن نفسه ديكتاتورًا أن القوامات العسكرية لا تأت بخير وأنها قد تكون أسوأ من النظام التي استهدفت القضاء عليه، وقد شاهدنا هذا بأنفسنا في التجربة الناصرية المُرَّة، وما أدت إليه من هزيمة 1967 وتزييف الانتخابات (يكفي نسبة 99.999٪ التي لا تُنسى) وحل النقابات والاستئثار بالسلطة والاعتقالات والتعذيب وقهر إرادة الشعب، ولكن ماذا يمكن للشعوب أن تفعل وهي عاجزة عن الحركة.

التجربة الثمينة المجهضة :
الجيش درع الشعب :
لقد حَلَّت الاستثارة التي قام بها الأفغاني خلال إقامته الطويلة بمصر (ثمان سنوات) هذه المعادلة الصعبة، وأدت بطريقة طبيعية للغاية إلى ما يجب أن يفعل، فاستثارة الأفغاني شملت ثلثمائة على الأقل من المدنيين والعسكريين وقادة الرأي والمهنيين والشخصيات العامة انتظموا بطريقة أو بأخرى في حلقة الأفغاني وتشرَّبوا آراءه، وعندما تعسرت الحلول وانسدت الطرق تحول الجيش ليكون درعًا للشعب ولسانًا ناطقاً.
إن عبقرية ما حدث في 9 سبتمبر سنة 1884 فالجيش لم يتحرك وحده، ولم يتحرك باعتباره «طليعة» الشعب – كما أطلقت حركة 23 يوليو على فصائلها عندما تحركت في ظلام ليلة 23 يوليو، أو كما أطلق لينين على حزبه ليحدد علاقته بالطبقة العاملة، لأن «الطليعة» لها إرادتها ورؤيتها الخاصة، وقد تستقل عن الكتلة الرئيسة وهو ما لا بد أن يحدث عند نجاحها، وعندئذ يصبح لها وجود مستقل، وربما مضاد للشعب والجيش.
ولم تأخذ حركة سبتمبر سنة 1881 شكل التنظيم التآمري الذي يعمل في ظلام الليل ويتعرض لما يتعرض له كل تنظيم سري من مآزق، الأمر الذي تعرضت له الأحزاب الشيوعية وحركة 23 يوليو ــ كما لم يكن هبة تلقائية كهبة الشعب في ثورة 19. كان هناك مقدمات تفرض التحرك. وبدأ التحرك في وضح النهار، وعلى ملأ من الشعب وكان الالتحام وثيقا ما بين الشخصيات العامة وقادة الجيش نتيجة لإيمان الجميع بفكر الأفغاني فاستهدفا تحقيق ما كان يطالب به دائما ــ وما لا يمكن أن يطعن في شعبيته أي الدستور.
ظهر الجيش أولا وعلى رأسه أحمد عرابي ووراءه تمامًا صفوف الشخصيات العامة التي تمثل الشعب بهيئة توحي أن الجيش هو درع الشعب وأن الشعب هو الذي يتحرك.
ولكن من وراء درعه الحامي : الجيش.
أَمِن الجيش أن يبطش به الحاكم لأن الشعب وراءه وأَمِن الشعب أن يبطش به الحاكم لأن الجيش أمامه، وقَبِل الجيش أن يعود إلى ثكناته دون أن ينكث الحاكم، لأنه في حماية الشعب ولأن ما طالب به هو ما يضمن الحرية أي الدستور.
كانت ولا تزال هذه هي الصيغة المُثلى لأنه إذا تحرك الجيش وحده فلا مناص من الديكتاتورية العسكرية المشئومة، وإذا تحرك الشعب وحده فسيسحقه الجيش
وإذا تحرك الجيش أو حتى الحزب كطليعة فسينتهي الأمر بالانفصال ما بين الطليعة والكتلة
والصورة المُثلى هي أن يكون الجيش درع الشعب ــ بحيث لا يمكن أن يعمل «أي الجيش» مستقلا أو مستغلا، وإنما يكون درع الشعب الذي يمكن للشعب أن يخلعه عندما يبدأ مستغلا وإنما يكون درع الشعب الذي يمكن للشعب أن يضعه إذا تطلب الأمر ذلك.
وقد نجحت الحركة وسقطت الوزارة الطاغية، وصدر القرار بمنح الدستور واتخاذ الاجراءات لانعقاد مجلس النواب، عندما تحركت قوى الشر الأوربية ومارست سلسلة من المناورات انتهت باحتلال البلاد وإجهاض هذه المحاولة.
ولكن هذا لا ينفي أن هذه الصيغة وحدها هي التي تحول دون أن تحاول الشعوب الخلاص من رمضاء الملكيات الفاسدة لتسقط في نار العسكريات الغاشمة.
* * *

وكما يحدث في كثير من الحالات، فإن هذه التجربة الأولى، الدعوة الإسلامية التي قام بها الأفغاني، كانت أفضل التجارب، وقدمت «المشروع الإسلامي» كدعوة محورها مقاومة الاستعمار في الخارج والحكم الفردي الاستبدادي في الداخل، وأقامت ذلك على أسس من القيم الإسلامية دون أن تسمح للطقوسيات أو المذهبيات أن تتسلل إليها.

________________________________________
(1) لم يكن ابن سينا ولا الفارابي ولا ابن رشد الشيخ الفقيه المالكي ملحدين حيناً من الدهر.. هذا من تلبيسات المستشرقين ودعاويهم العريضة التي تكون عن علم أحياناً وعن جهل أحياناً أخرى لتصورهم أن الإسلام يعادي العلم، لأنهم يرون "الدين" بشكل عام ضد العلم، وهذا خطأ أفرزه تجربة أوروبا مع المسيحية والكنيسة، لا يسأل عنها الإسلام. وأما فلاسفة الإسلام فكانوا مؤمنين وعلى سبيل المثال أنظر ترجمة الفارابي وابن سينا وابن رشد في "طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة، ستجد أنهم مؤنون عميقوا الإيمان كلهم بلا استثناء.
(2) الفناء في الله تعالى هو التخلق بأخلاقه بعد التخلي عن الأخلاق الذميمة.. ويقول الصوفية التخلي ثم التحلي ثم التجلي، أي تجلي عظمة الله في قلب القلب ومشاهدته لجمال الله وجلاله وكماله.. هذا هو الفناء في الله، وليس هو بمعنى الغيبة أو الغيبوبة أو الغياب عن الواقع.



#علي_شريعتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف قاعدة -عوفدا- الجو ...
- معرض روسي مصري في دار الإفتاء المصرية
- -مستمرون في عملياتنا-.. -المقاومة الإسلامية في العراق- تعلن ...
- تونس: إلغاء الاحتفال السنوي لليهود في جربة بسبب الحرب في غزة ...
- اليهود الإيرانيون في إسرائيل.. مشاعر مختلطة وسط التوتر
- تونس تلغي الاحتفال السنوي لليهود لهذا العام
- تونس: إلغاء الاحتفالات اليهودية بجزيرة جربة بسبب الحرب على غ ...
- المسلمون.. الغائب الأكبر في الانتخابات الهندية
- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...
- “محتوى إسلامي هادف لأطفالك” إليكم تردد قنوات الأطفال الإسلام ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - علي شريعتي - جمال البنا يتحدث عن جمال الدين الأفغاني