أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كامل حسن الدليمي - زهرة البرتقال اتساق الوجع ونزف الدلالة















المزيد.....


زهرة البرتقال اتساق الوجع ونزف الدلالة


كامل حسن الدليمي

الحوار المتمدن-العدد: 5216 - 2016 / 7 / 7 - 05:55
المحور: الادب والفن
    


زهرة البرتقال اتساق الوجع ونزف الدلالة
قراءة في مجموعة الشاعر الأستاذ الدكتور عبد الكريم راضي جعفر
كامل حسن الدليمي
نحن أمة عجنت وجعها مع الرغيف وألقمته أبناءها عن صغر فلازم الأجيال بأشكال وصور متعددة ، غناؤنا تراتيل حزن استنشقناها من الحبل السري لأرحام أمهاتنا ،كبرت معنا بفضل حشرجات النسوة وهن يعللن صغارهن على طول الليل الموحش بـ " دللول يلولد يبني دللول" ، هذه اللازمة المعبرة عن الأسى والمعاناة في المعاش والتشظي بين قسوة الطبيعة وجور السلطان ، بين الفاقة الدائمة واللهاث وراء ما يسد الرمق ويوفر الحدود الدنيا للعيش قسوة وكدرا يقمّط ُ أيامنا، هكذا حال سومر منذ أن ولدت تلك الحضارة التي ُطرقت على صفيحٍ ساخن من ارضِ الله، هنا عَزَف القيثار أول لحن حزن للعالم ـ فاطرب وأشجى، وأضحك وأبكى ، واقتبست منه الأمم حلاوة الوجع ، ونطقت النايات تأوهاتها ،معلنة فجر حضارة بلاد وادي الرافدين المضمخة بالمأساة.
من رحم هذه الأجواء يطالعنا بين الفينة والأخرى صوت رخيم يزف لنا حزن الجنوب بلغة شفيفة أخاذة تصل الأزمان مع بعضها بحبال غلاظ معبرة عن سرمدية الألم العراقي نعم عراق وافر النعمة محكوم على أهله بالتقشف عبر العصور معرقلا لكل ما يسهم في تذليل صعوبات الحياة ، فذاك السياب بملاحمه الشعرية الخالدة وأناشيده التي ضجت بها الألسن شاهد فقد عاش غربتين معا هي غربة العاطفة وغربة المرض لكنه خلد في الذاكرة الجمعية بحسن ما جادت به قريحته الشعرية، وهذا عبد الكريم راضي جعفر بحنجرته السومرية المتهجدة بالوجع وهو يشكل الامتداد الطبيعي والمائز لذاك السفر الملحمي البصري "الجيكوري" الممتد من الفاو إلى أعلى قمة حزن في شمالنا النازف، ومن شرق بلاد الأزمات لغربها، هكذا هو العراق كلما بلغ أشده كبا كحصان جموح يطارده أعداء الحياة نقمة ليجسد ذلك الشعراء بملاحم تحكي للأجيال أطوار الظلم .
عبد الكريم راضي جعفر سليل أسرة علمية، ورعة، تقية، أعطت البلاد ما عجز عنه المتنعمون بخيرها والملتذون برفاهة العيش خروجا عن القاعدة الفقهية القائلة بمبدأ أن : " الأجر على قدر المشقة" ، في العراق قلبت الموازين وحطت السعادة على شجر الانتهازيين وأنصاف المتعلمين، بينما ألبس الفاعلين ثوب التجاهل القصدي نكاية بالعلم والعلماء .
سمعت عنه وقرأت له عن بعد ولما شاء الله أن أدرس على يديه درسا فوجئت حقا بقامة باسقة ، وعقل جبار، وطيبة تنم عن طهارة طينه، وأصالة منبته، وتبدد عندها يأسي وتيقنت أن عراق الله ولود للقيم ومنبع للفكر، ومنجم للإبداع .
أهداني الدكتور مجموعته الشعرية الموسومة " زهرة البرتقال " فقرأتها بنهم وكأني لم أقرأ شعرا من قبل ، وكلما أعدت القراءة وجدتني عاجزا عن الولوج لعالمه وهو ينزف حلاوة شعر وشرف لفظ وحسن أسلوب، وأنا لست إلا متذوقا للشعر وحسبي أني أحاول الإشارة لما أتذوق مما ينتجه الأصدقاء معتذرا عن شططي وقلة متاعي وأنا أتصفح مجموعة الشاعر عبد الكريم... يقول:
" أنزفك الآن حسكاً ، أو سعفاً ، تمراً أو ماءْ ، أبترد الآن دمَ عشبٍ ،أو رجع غناءْ ،فحين تسوخ الروح ينبض الطين ،ويبقى خيط بين النزف وبيني " ص8 .
ومفردة الحسك هنا تنفتح معجميا على معان عديدة فهي "الشَعر المتجعد ، وحسك الورد وحسك السمك ..." ومن خلال مقاربةٍ لوظيفة ِاللفظ يميل معنى الحسك للورد لما بين العنونة والمضمون من علاقة سيميائية أسهمت في تأسيس الثقة بين المتلقي والنص بدءً من المفردات الأولى كإشارات ذكية إلى أن الغور في النص ليس يسيرا ، وفك شيفراته يتطلب جهدا . أما السعف أو التمر ودم العشب فهي محاكاة للطبيعة بما يرقى على حقيقة صورها ، واستنطاقا لما تحمله من تخيل للجمال، ولو غادرنا اللفظ للمعنى المستهدف فما الذي ينزفه عبد الكريم راضي جعفر هل هو ( العمر ،الحبيب ، المال ،...؟) لا... أبدا لا يبدو كل هذا ، انه ينزف وطنا يتشظى بين الانواة العليا ، وجعجعة السلطان القابع في أوجرة ظلماء، يهش على الخلق بسوط لا يرحم ، ذلك انه يختتم نصه بجملة باعثة على المزيد من التوجع والمرارة " تقتلني وأحبك" ولا حبَ بهذا المعنى غير وطن تنتسب اليه ويصفعك كل صباح بكف العوز والفاقة والجوع ويدلك على مخابئ الموت في حروب تحصد الأرواح بمناجل رغبة جامحة وتدافع على السلطة لمعتاشين على الاتجار بالقيم والمثل بينما لا يملكون منها شيئا ، فهم غير معنيين بحقيقة الجمال كما يدركها الشاعر ومع كل هذا الألم يظل الشاعر متمسكا بوطنه على الدوام. هكذا يفتتح الشاعر مغاليق الحزن ليوغل بعيدا في فضاءاته من خلال صياغات أنيقة بنيت على ثنائية متوازية متواشجة أطلقت اللفظ والمعنى عبر خطين مستقيمين متجاورين لا يسبق أحدهما الآخر. وهنا يبرز دور التراكم المعرفي والخزين اللفظي في توظيف مفردات قلما يستخدمها الشعراء في نصوصهم وان عمل بها بعضهم فلابد من وجود هنات من خلال التفاوت الحاصل بين الفواصل معنوية كانت أم لفظية. إن وظيفة الشعر رصد لمعاناة الإنسان وهمومه من خلال طبيعة الإنسان الفطرية من جهة ، ومن خلال الالتذاذ بالمحكي من جهة أخرى، حيث يقول أرسطو":"يبدو أن الشعر-على العموم- قد ولَّده سببان وأن دينك السببين راجعان إلى الطبيعة الإنسانية، فإن المحاكاة أمر فطري موجود للناس منذ الصغر، ثم إن الالتذاذ بالأشياء المحكية أمر عام للجميع".(1) وهذا ما لا يمكن أن يتهيأ للجميع وإلا لتحول كل الناس إلى شعراء خصوصا وأن التعقيدات التي رافقت تطور أساليب العيش شغلت الإنسان وحولته إلى ما يشبه الآلة، أما في موروثنا العربي فقد وجدنا الجاحظ يقول :" " طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يتقن إلا غريبه، فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا يتقن إلا ما اتصل بالأخبار، وما تعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلاَّ عند الأدباء الكتاب كالحسن بن وهب، ومحمد عبد الملك الزيات"(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-فن الشعر، أرسطو طاليس، ترجمة متى بن يونس، تحقيق:شكري عياد، دار الكتاب، القاهرة، ،1967،ص.36.
2- البيان والتبيين، الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الرابعة، (د.ت.) ، ص.76.
وعلى هذا أقول : يسعى كل الشعراء جاهدين لإيصال رسائلهم الإنسانية وتأدية أدوارهم في صناعة الجمال والتخفيف عن كاهل الإنسان من خلال خلق العزاء لمن
يشعر بقسوة الحياة عليه على لسان شاعر عصره، فنجد أحيانا من يتعرض لعثرة حياتية يعزي ذاته بالشعر استشهادا ليهون من وقع البلية عليه ، وهو هروب على سبيل الهروب ليس إلا فيشكل الشعر بهذا الوصف مخفف محنة عند المتلقي وبالتالي يكون العقار الناجع للازمة.
يقول الشاعر :
(البارحة ، خاصمني النوم ، البارحة قاتلني النوم ، فسهرت معك أقص عليك حكاية أمي ، حتى غفونا : أنا ، وأنت ، وأمي على زندي ) ص88
الشعرُ الومضة ، أو الومضةِ الشعرية ، هو أن يرسم الشاعر أحاسيسه من خلال لحظة أو مشهد أو موقف أو إحساس شعريّ خاطف يمّر في المخيلةِ أو الذّهن يصوغُهُ الشاعرُ بألفاظٍ قليلةٍ. وهي تصنف في باب التجديد أو التحديث في الأساليب الشعرية التي تسعى للاقتصاد بالوقت والجهد ، وهي تنسجم مع هموم العصر فيها يعبر الشاعر عن همومه و آلامه، بتوافق مع تسارع وقع الحياة، ولعل من ابرز رواد هذا الأسلوب ، أحمد مطر، الذي جاء بعد المناصرة و مظفر النواب،و سيف الرحبي، وآخرين ، تتسم الومضة بالسمات العامّة للقصيدة الحديثة، مثل" التفرد و الخصوصية، الترکيب، الوحدة العضوية، و الإيحاء والابتعاد عن المباشرة ، اقتصاد في اللفظ وشمولية في المضمون.
وهذا ما تحقق فعلا في النص أعلاه والذي نظم وكأنه قصيدة اتسمت بالإيجاز والاقتصاد في اللفظ محافظة على الوحدة الموضوعية والمضمون الشامل المنفتح على تأويلات عديدة وكأن المتلقي قبالة مطولة شعرية .
( خاصمني النوم ، قاتلني النوم ) تكرار المفردة حقق هدف الشاعر الذي أراد التلميح له وهو ملازمة الأرق مسببا هذا الأرق ومفسرا له برمزية محيلا ذلك لمن ظل يقص عليها الحكايات أو حتى لغيرها من عديد الهموم في نفسه ، وهذا ما يمكن الاجتهاد في تأويله .
وثمة إلماعة أخرى وردت في بعض النصوص وهي التضاد، وكأن هذا التضاد قد جاء معبرا عن غاية مقصودة لأنه جاء مبنيا على الطباق الظاهر، الذي تمثل بالفرح والحزن، والغنى والفقر، والوحشة والاستئناس ... وهكذا، على أن هذا الباب يُكتفى فيه بظهور التضاد بين المفردات لفظًا ومعنًى، ولا يتطلب التدقيق في معرفة الفرق بين معاني المفردات والوصول إلى ما يُضادها على الحقيقة كما هو الحال في التضاد المضمر يقول الشاعر :
(كم تمنيت ان أنام في سَماوة العصفور ، لأبعد ارتجافة الفواخت ، أنا منحدر من سلالة اذا غنت ،بكت مرتين مرة للحزن ، ومرة للفرح ).
والسَماوة في المعجم البيت إذا ارتفع وسَماوة العصفور وسَماوة الهلال أي ارتفاعه ، ولو أثرنا تساؤلا ، ما الذي تبعثه في النفس ثنائية الفرح والحزن التي لازمت نصوص هذه المجموعة لرمز شعري كبير مثل عبد الكريم راضي جعفر وهو يصّر على أن لا يغادره حتى وقت السرور؟
لوجدنا أن الشاعر كان قصديا في هذه الثنائية الجميلة عارفا أثر وقعها المعبر عما في خلجات نفس ابن آدم فقد آثر عن الحضارة السومرية أن من بين الحكم التي علمها إنكي لأنانا حكمتين: “إقامة المناحات، وإنعاش القلب”، وفي هذا دليل على أن التضاد، أو الثنائية بين الحزن والفرح، التشاؤم والتفاؤل تضرب عميقاً في وجدان البشر، بل ترقى بذائقة الإنسان وتروض من نزوعه المفرط نحو السرور .
ألا يحدث لكل واحد منا في أحايين كثيرة أن يبدأ نهاره متفائلاً وأن يمسي متشائماً، أو أنه يستقبل صباح يوم جديد تبدو له فيه الدنيا سوداوية والأفق مسدوداً، وعقد المشكلات أصعب من أن تفك؟ أو يحدث له العكس: أن يرى الدنيا بألوان زاهية وردية، وأن الحبور والفرح يغمران كل ذرة من ذراته، وأن السعادة تضمه بجناحيها فتحلق بعيداً، عالياً؟ يبدو أن كل الناس يمرون بالحالتين، فثنائية التفاؤل والتشاؤم واحدة من الثنائيات التي فطر عليها الإنسان، كما هي ثنائيات الخير والشر، والفرح والحزن وغيرهما، وربما يقبع هذا الميل في مكان ما من أعماق الروح، والإنسان عرضة لهذا التقاذف العنيف في حالتي التشاؤم والتفاؤل الذي يشبه في بعض حالاته حركة بندول الساعة حين يجد نفسه تارة في أقصى حالات التفاؤل، وتارة أخرى في الحالة المعاكسة تماماً.
وأقول أن الحزن الذي أودعه الله في النفس الإنسانية تستنهضه المحنة أحيانا وفي أحيان كثيرة يستنهضه الفرح الغامر وهذه التناقضات نتلمسها في حياتنا اليومية فكم نشتاق لحزن ونحن في غمرة السعادة وبالعكس نتباكى على ومضة فرح ونحن نلبس جلباب الحزن .
وعبد الكريم راضي جعفر يرفض الحرب بوجهها الدموي المكفهر المحطم لأحلام وآمال الإنسان وعموما فالحرب رفضها الشاعر العراقي الذي يسعى إلى السلام والأمان،لما تحمله هذه الحرب من خراب ودمار وموت،والمنجز الشعري العراقي في العقدين (الثمانيني والتسعيني) من القرن الماضي عاش الرجل بالتاكيد الحرب. وواكب همومها وقرأ إبعادها المؤلمة يقول الشاعر :
(حتى إذا دنت الشوارع مثقلات بالرصاص ،بدأ القا على مقل العصافير الخلاص ،على عجل ،تمر الآن أرصفة الشوارع ترتمي عند المتاريس التي حملت لهاث العدو تصطك الرصاصات الأجيرات ،احتمي بالحائط المسبي غصن من حمام الدوح ،ص207)
كم هي مؤلمة صور الحرب لا تخلف سوى الخراب على الأرض وعلى النفس الإنسانية ، وما من عراقي ألا واكتوى بنارها بشكل مباشر أو غير مباشر حروبنا طويلة وقاسية ، لذا نجد أن الشعراء لعنوها كلا على طريقته يقول : حسن إبراهيم الحسن وهو من الشعراء الذين عاشوا الحرب :
الخيلُ تمضي .هكذا اعتادَ الصغارُ ظهورَ أجدادٍ
فشبّوا يعشقونَ الخيلَ ،/لا خيلٌ و لا ليلٌ يُزنِّرهُ الصهيلُ
الخيلُ تمضي .و الذينَ يغادِرونَ
يغادِرونَ لأنَّهم ملّوا الإقامةَ في حِصارِ الأمَّهاتِ.
وليس من قبيل المقارنة فالصور التي وردت في النصين ورغم البون الواضح بين الأسلوبين بيد أن النصين لعنا الحرب وويلاتها ووصفا بذكاء ما تضفيه على الحياة من ظلام وتخلفه من ألم في القلوب فقد ركز الشاعر على الخيل بوصفها واحدة من أدوات الحرب بينما نجد أدوات شاعرنا متعددة وأكثر حداثة ورمزية .
( الرصاص ، المتاريس ، لهاث العدو،الاحتماء بالحائط )
وتعدد هذه الأدوات دلالة على الثراء اللغوي إذا ما عرفنا إن لغة الشعر عمارة كاملة ونظام تتفجر فيه الطاقات الحية للشاعر تبينها المقومات التي تؤثث عليها القصيدة أي أنها علاقات شكلية بنائية ومضمونيه منسجمة لغة وإيقاعا ودلالة وصورة ، والحرب صورة خراب ودمار متعددة الأدوات وهي كفيلة بتفجير الطاقة الشعرية التي تعكس ذلك الخراب وتلعن آلات الحرب وموقع الإنسان منها فالحرب عند عبد الكريم راضي جعفر رصاص ومتاريس وجدران اتقاء الرصاص وخوف وسعي دائم للبقاء ، أليس هذه هي صورة الحرب الشائهة ؟
ولا يمكن رسم مثل هذه الصورة بكل جزئياتها إلا لمن خبر الحرب، وذاق مرارتها لا سيما وأن الشاعر بصري النشأة تلك المدينة التي ارتشفت مرارات الحرب ما لم تذقه بقية مدن العراق لذا جاءت الألفاظ؛ وهي إحدى الدعائم الأساسية لبنية القصيدة، وأداة من أدوات الشاعر التي امتازت بالأناقة ودقة الاختيار استعملها كلا في محله ليخلق نصا شعريا معبرا عن حصاد سنين من التعامل مع المفردات اللغوية والتي إذا جاز التعبير عنها أنها قد نحتت بعبقرية وذكاء يؤمن كسب المتلقي ليتفاعل مع النص دون أدنى شعور بالملل وهذا ما سارت عليه بقية النصوص مع تعدد أغراضها .







دلالة الوجع في نص ( موسى كريدي) :
الشعر توجع ونزف ومنسأة يتوكئها الشاعر للعبور إلى عوالم الجمال وبالتأكيد هو سوى عالمنا المحسوس ، عالم يرصد الشاعر من خلاله أوجاع الآخرين كما يراها فيجسدها لوحة شعرية تسافر فيك الى تلك المواجع لتجعلك جزءً منها يقول الشاعر في نص (موسى كريدي)(1)
1- السابعة صباحا:
ينتظر الباص بعينين تصرهما الشمس/ ينتظر الهمس /فيغني في الرأس الزنيق والأس.
2- الثانية عشرة ظهرا:
ظمأ في الشاي وفي السكر/ ظمأ في الماء / ويشربه موسى،/ثم يتمتم شعرا ((قطط سود... ولها ذنب))... موسى في غرف غير مضاءة .
تناول الشاعر في الكثير من قصائده معاني الموت والبعث، لكنه عبّر في هذا النص عن طبيعة شعور الإنسان بالموت قبل حلوله واعتباره المخلص من شظف العيش وخسارات الدنيا ومعضلاتها فها هو يستعرض يوميات ( موسى
ـــــــــــــــــ
1- موسى جابر كريدي.. شاعر وقاص عراقي نجفي . ولد عام 1940 في مدينة النجف . تخرج في قسم اللغة العربية كلية الآداب -جامعة بغداد 1965 .عمل مدرساً للغة العربية من 65 - 1970 ثم انتقل للعمل في وزارة الثقافة والإعلام . تولى رئاسة تحرير مجلة الكلمة ( وهى مجلة تعنى بشئون الأدب الحديث ونقده ) من 68 - 1974 , ثم رئاسة تحرير الموسوعة الصغيرة . نشر العديد من قصائده الشعرية في الصحف والمجلات الأدبية.ومن مؤلفاته :أربع مجموعات قصصية هي : أصوات في المدينة 1968 - خطوات المسافر نحو الموت 1970 - غرف نصف مضاءة 1979 - فضاءات الروح 1986 . الوهم والكتابة ( مجموعة مقالات ) كتب عن موسى كريدي سامي مهدي/الموجة الصاخبة // وزارة الثقافة والإعلام بغداد 1994 /.. فاضل ثامر //الصوت الآخر (الجوهر الحواري للخطاب الأدبي) وزارة الثقافة والإعلام بغداد1992 /.. ياسين النصير //موسوعة أصوات العراق 1 سنة 2007 وعن وفاته يقول عبد الرضا علي : رحم الله موسى كريدي الذي توقف قلبه عن الخفقان في ليلة من ليالي آب الشديد الحرارة سنة 1996م, حين علم أنّ عائلته لم تعد تملك نقوداً لشراء عشاء تلك الليلة، وأنها باتت تتضور جوعاً، ولعلهُ لم يكنْ آخر ضحايا الحصار
كريدي) من خلال تعقب ذكي يوحي بحضور كريدي الدائم في مخيلة الشاعر ويعبر عن عاطفة جياشة تجاهه وهو نوع من الأسى المر يسوقه على شكل نزف معنوي بألفاظ يسيرة مفهومة ومعبرة .
لقد عمد الشاعر على استثمار البعد السردي في الشعر ليحول تقلبات الحياة لجهاد الإنسان وسعيه الدائم للهروب من الألم والحزن الذي يغلف يومياته فتشكلت تفصيلات هذه اليوميات من خلال المحطات التي اتخذت من الوقت الوقت مهيمنة على الحدث الشعري وما يفرزه من تداعيات (السابعة صباحا، الثانية عشرة ظهرا ...) مشيرا لأهمية استثمار هذا الوقت لما له من فاعلية على الإنسان والشاعر راصد ذكي للتطور الحاصل من خلاله من مشاهد يغلفها الأسى والحزن ( موسى في غرفة غير مضاءة ) موسى في ظلمات العيش أم في ظلمة القبر ينفتح النص على تأويلات أقربها للمتلقي (الموت)
لقد ساعد وعي الشاعر لمتناقضات الحياة على إدراك واضح لجدلية الموت والحياة وما يعنيه الغياب الأبدي لمن نحب على أن الشاعر قد عكس ذلك على على مستوى الواقع الذاتي والموضوعي معا.
ثم يتجه النص الى في نهايته الى ما يشبه النواح الخارج من اعماق النفس مغلفا بحزن عميق يقول:
أبتي . وتغيب النظرة في رفّ هواك/ موسى يركب في الباص الآن/ ولا ينتظر الهمس /موسىيشرب قهوةٌ /ويشّد فضاءه /موسى في غرف غير مضاءة .
قد تجاوز الشاعر بأسلوب متجدد الصور البيانية المرتبطة بالذاكرة التراثية كما كان ذلك يشكل منهجا عند الشعراء الإحيائيين، وكذلك تخلى عن الصور المرتبطة بالتجارب الذاتية عند الرومانسيين، إلى صور تقوم على توسيع الدلالات من خلال تحريك الخيال والتخييل وتشغيل الانزياح والرموز( موسى يشرب قهوةٌ) و( موسى يشدّ فضاءه )عليه فان عملية التأويل وفك شيفرات النص متوقفة على وعي المتلقي وثقافته وإلمامه بالأساليب الشعرية فما يحيط بالمعنى من ترميزات يتطلب درجة عالية من الوعي بمضامين اللفظ واختصاصه بالمعنى المستهدف .
واستخلاصا لما تقدم نجد أن أساليب البيان في اللغة وتمكن الشاعر من تكريس المعاني بأقل قدر من المفردات وإصابة الهدف هو سلاح ليس متاحا إلا لمن تراكمت معارفه من خلال تواصل دائم مع الحياة الشعرية ومتغيراتها، وامتلك موهبة الشعر بحيث يحرص المتلقي له على مرافقته لآخر المطاف، وهذا ما اتسم به عبدالكريم راضي جعفر من خلال " زهرة البرتقال" التي شكلت لوحات شعرية في غاية النضوج والالق وتنافست مع أجمل ما يقال من الشعر في عصرنا (لفظا ،وأسلوبا ،ومعنى ) الأمر الذي يستدعي قراءتها من زواياها المختلفة .



#كامل_حسن_الدليمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بائعة الاعشاب بين الواقع والمخيال
- الاغتراب في شعر حسين حسان الجنابي
- طفل البحر
- شرائع الوجاء
- محمد كاظم ومنى يقظان وعالم الطفولة
- عالم الواسطي وسرية البوح
- يوميات مريض
- عين على داغستان وقلب في بغداد
- رحلة مع شاعر
- الدين بين الشعبوية والنخبوية
- معلم النزاهه
- دريد الوسخ
- سكينه أم الكيمر
- بغدادية بلا زيف
- قراءة في كتابالهيرمينوطيقيا ...
- مواسم المطر
- معارك اللسان
- ذياب شاهين بين المرأة والوطن
- إمارة البنفسج
- قراءة في مجموعة صادق الطريحي


المزيد.....




- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كامل حسن الدليمي - زهرة البرتقال اتساق الوجع ونزف الدلالة