أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - بلال البازي - مفهوم الحرية عند باروخ اسبينوزا .















المزيد.....



مفهوم الحرية عند باروخ اسبينوزا .


بلال البازي

الحوار المتمدن-العدد: 5212 - 2016 / 7 / 3 - 10:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


من البديهي أن مطلب الحرية ليس وليد القرون الوسطى ولا الفكر الحديث ، أو المعاصر ، جذوره ضاربة في عمق التاريخ الإنساني و من المؤكد " أن الإحساس بالحرية والحاجة إليها نفسها . قديم قدم البشرية نفسها في الأزمان القديمة تحدث بعض الفلاسفة والمتصوفة عن الحرية في معنى الانعتاق والتحرر من الميول النفسية والشهوات ، أو ما يسمى بالنفس السفلى ، وصولاً إلى السيطرة التامة للعقل على حركة الإنسان وأفعاله. هذا النوع من التحرر و الانعتاق لا يناله غير قليل من الناس. وتسبقه رياضة ذهنية وروحية غرضها تمكين النفس العليا ، أو العقل ، من تكيف نوازع الإنسان الداخلية و مراداته وطريقة عيشه حتى تنسجم تماماً مع قواعد الأخلاق ، وتجسد طبيعة الإنسان النقية . الحرية في هذا المفهوم " تحرر الإنسان من غرائزه وشهواته ".
لا يمكن تناول مفهوم الحرية بمعزل عن مفهوم الدولة في الفلسفة السياسية عامة ، وفي فلسفة القرن السابع عشر ، خاصة الفلسفة السياسية لباروخ اسبينوزا . هذا الأخير الذي يعتبر حلقة مهمة في تاريخ الفكر الفلسفي السياسي ، ويعد من أهم الفلاسفة الذين نظرواْ للحرية ، من خلال مشروعه الفلسفي الذي يقوم أساساً انطلاقا من العودة إلى الحالة الأولية للإنسان ، إلى مفهوما الحق والقانون الطبيعيان ، من أجل بناء صرح فلسفي نسقي ، وبناء تصور متكامل للدولة ، دولة الحقوق والحريات . إذن وبناء على هذا وجب أن نعرض لمفهوم الحرية في التصور السبينوزي والوقوف على مظاهر هذه الحرية التي ناد بها .
كما سلف الذكر فإن حالة الطبيعة هي حالة تخلو من كل مظاهر الاجتماع ، أي كان الإنسان يعيش في حالة المشاعة البدائية لكن بشكل عنيف ، والكائنات خاضعة في هذه الحالة للغريزة والشهوة ومبدأ حفظ الذات ، وكل الموجودات متساوية في الحقوق الطبيعية أمام قانون الطبيعة الأعظم ، ولما كان الحق والقانون الطبيعيان لا يحظران إلا ما لا قدرة للفرد على تحقيقه وما لا رغبة له فيه ، فإن الأفراد كانواْ يتمتعون بحرية مطلقة ، لا تحدها إلاّ حدود قدرة الموجودات.
وبالتالي فالحرية في حالة الطبيعة حسب تصور باروخ اسبينوزا هي حرية مطلقة تشمل كل ما يقع تحت قدرة الفرد في غياب تام للجريمة أو الخطيئة . ولما كان الأمر كذلك توجب علينا أن نتساءل هنا ؛ هل حقاً الأفراد أحرار في هذه الحالة ؟ علماً أنهم وكما رأينا سلفاً ، خاضعون لقوة الغريزة والشهوة ومبدأ حفظ الذات ؟.
إن اسبينوزا " لم يعتقد من حيث إنه فيلسوف آلي دقيق ، في حرية الإرادة بمعنى اللاحتمية فكل حدث يقع بضرورة رياضية . وعندما لا نعي الظروف الخارجية ونعني فقط حالاتنا العقلية والجسمية ، فإننا نتخيل أن أفعالنا تكون حرة ، كالحجر ، إذا كان لا يعي إلا حالاته الداخلية فحسب ، فإنه يفترض أنه يحدد بإرادته الخاصة المجرى الذي يتبعه عندما يلقى إلى أعلى في الهواء " 2 . يرى اسبينوزا بأننا عبيد لانفعالاتنا و أفكارنا الغامضة ودوافعنا – دافع حفظ الذات مثلا - ويقترح اسبينوزا كحل لتحرير أنفسنا من العبودية التفكير بصورة واضحة " إن الحرية الإنسانية من ثم ، هي ببساطة مسألة قبول الكون ، لأنك تفهم ضرورته الرياضية. ومتى تم ذلك ، ستحصل على سلام العقل ، ستتحرر من الانفعالات ، وتكون قادراً على أن ترد الشر إلى الخير . " 3 ، ولتوضيح هذه النقطة أكثر ، وللوقوف على حيثياتها فلنتصور أن " هناك حجرة مثلاً من سبب خارجي يدفعها كمية معينة من الحركة ، وعندما يتوقف الفعل الناتج عن السبب الخارجي ، فإن قطعة الحجر ستواصل تحركها بالضرورة ، واستمرارها في الحركة أمر مفروض من الخارج ليس من حيث هو ضروري ، بل من حيث إنه راجع إلى دفعة ناتجة عن سبب خارجي ، وما هو صادق عن الحجرة يجب أن نطلقه على كل شيء جزئي مهما تعددت استعداداته ...لأن كل شيء مفرد هو بالضرورة مجبر من طرف علة خارجية على أن يوجد ويتصرف بصورة محددة.
ولنتصور الآن قطعة الحجر وهي تواصل الحركة وتفكر وتعرف بأنها تبذل مجهوداً على قدر ما تستطيع لتستمر في حركتها ، ومن المؤكد أن هذه الحجرة من حيث إن بها وعياً بمجهودها فقط ، ومن حيث إنها مهمته فهي تعتقد بأنها حرة جداً ، وبأنها لا تستمر في حركتها إلا أنها تريد ذلك. تلك هي الحرية الإنسانية التي يتبجح الكل بامتلاكها والتي تقوم فقط في واقعة أن للناس وعي بشهواتهم ، ويجهلون الأسباب التي تحددهم حتمياً . الطفل يعتقد بأنه يشتهي الحليب بحرية ، وأن الطفل المنفعل يريد أن ينتقم أو يريد الهروب إذا كان رعديداً. والسكير يعتقد أنه يقول بقرار حر من نفسه ما كان يود السكوت عنه وقد عاد إلى صحوه بعد ذلك. وكذلك فإن الهذائي والثرثار وآخرين من نفس الطينة يعتقدون أنهم يتصرفون بقرار حر من النفس ، وأنهم لا يخضعون لأي إكراه .
إن هذا الحكم المسبق ، من حيث هو حكم طبيعي مولدي لدى الناس ، فإنه ليس عليهم التحرر منه ، وذلك بالإضافة إلى أن التجربة تعلمنا بما يكفي أنه إذا كان هنالك شيء يعجز عنه الناس ، فهو مسألة تنظيم شهواتهم ، ورغم أنهم يرون أنفسهم مقسمين بين عاطفتين متعارضتين ، وكثيراً ما يرون الأحسن ويقترفون الأسوأ ، فإنهم مع ذلك يعتقدون بأنهم أحرار ، وذلك لأن هناك أشياء لا تثير فيهم شهية ضعيفة من السهل التحكم فيها ، بواسطة الذكرى التي كثيراً ما يتم استحضارها ، والمتعلقة بشيء آخر ".4
: الحرية وعلاقتها بالدولة .
الدولة في التصور السبينوزي ، نشأت بموجب عقد اجتماعي بين الأفراد كما سبق وأن رأينا، من أجل " إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم كيما تقوم بوظائفها كاملة في آمان تام ، بحيث يتسنى لهم أن يستخدمواْ عقولهم استخداماً حراً دون إشهار لأسلحة الحقد أو الغضب أو الخداع ، وبحيث يتعاملون معاً دون ظلم أو إجحاف ، فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة "1. ولما كانت غاية الدولة هي ضمان الحرية لأفرادها ، كان لزاماً عليها أن تعمل بشتى الوسائل لتحافظ عليها و تضمنها بمختلف أنواعها ) حرية البقاء ، حرية التفكير ...( ، كما كان لزاماً على أفراد الدولة أن يحافظواْ على قوانينها وأن يطيعوها ، " فمن الواجب ألا يعد من يطيع القوانين عبداً لا يحقق مصلحته الخاصة ، بل مواطناً ، وعلى ذلك تكون أكثر الدول حرية تلك التي تعتمد قوانينها على العقل السليم . ففي مثل هذه الدولة يستطيع كل فرد – إذا أراد - أن يكون حراً ، أن يعيش بمحض اختياره وفقاً للعقل،...المواطن هو من ينفذ ، بناء على أوامر الحاكم ، أفعالاً تحقق المصلحة العامة ، وبالتالي مصلحته الشخصية "2. فليس من يطيع القانون عبداً بل هو مواطناً صالحاً ، لأنه يحافظ على المصلحة العامة التي يضمنها القانون لأفراد الدولة والتي هي غايتها ، وهذا ما ذهب إليه فولتير في تعريفه للحرية عندما قال : " إن الحرية تتمثل في ألا يخضع المرء إلاّ للقوانين ".3
الأفراد أحرار بطاعتهم لقوانين الدولة واحترامها ما دامت تحقق المصلحة العامة، وما دامت تكفل لهم الحرية ، وكما يرى مونتسكيو أن الحرية تعني حق فعل كل ما تبيحه هذه القوانين 4، فالحرية من أسباب استمرار الدولة وقوتها ، ويذهب اسبينوزا إلى أن الحرية لا يمكن أبداً أن تشكل خطراً على سلامة الدولة " وهناك أمثلة كثيرة على أن الحرية لا تمثل أي ضرر لا تستطيع السلطة العليا تجنبه بمفردها ، وعلى أن احترام الناس لهذه السلطة وحدها يمنعهم من أن يسيئواْ إلى بعضهم البعض مهما كان بينهم من اختلاف في الآراء "5.لكن ورغم أهمية الحرية إلاّ وأنها قد تشكل بعض المضايقات على الدولة ، ويعترف اسبينوزا بأن أفضل الدول " هي التي تسلم للفرد بنفس الحرية التي يسلم له بها الإيمان . وأني لأعترف بأن هذه الحرية قد تسبب بعض المضايقات ولكن هل هناك تنظيم وضعي يبلغ من الحكمة حداً يجعل من المستحيل أن تنشأ عنه بعض المضايقات ؟ إن من يريد تنظيم الحياة الإنسانية كلها بالقوانين يزيد من حدة العيوب دون أن يقومها ، ومن الأفضل السماح بما لا نستطيع منعه مهما كان الضرر الناتج عن ذلك . إننا نعلم العواقب الوخيمة المترتبة على الترف والحسد والشهوة والثمالة وما شابهها من الانفعالات ، ومع ذلك نسمح بهذا كله لأننا لا نستطيع إلغاءه بسلطة القانون ، مع أنها رذائل فعلية . فالأولى أن نسمح بحرية الحكم ، التي هي فضيلة في الواقع ، وألا نقضي عليها ، ولنضف إلى ذلك أنه لا يوجد ضرر واحد ينتج عن حرية التفلسف لا تستطيع السلطات العليا أن تتجنبه . وأخيراً أليست الحرية شرطاً أساسياً لتقدم العلوم والفنون ؟ إن العلوم والفنون لا تتقدم تقدماً ملموساً إلا على أيدي أناس تخلصوا تماماً من المخاوف وأصبحت لهم حرية الحكم "6. فالحرية هي ما يجعل الدولة أكثر تقدماً ورقياً في مختلف الميادين ، ونلحظ أن الدول الأكثر تقدما هي تلك التي تتيح لأفرادها حرية أكبر ، ويتضح هذا جلياً من خلال نموذج الدول الغربية المتقدمة ، عكس تلك التي تحرم أفرادها حريتهم سواء كان هذا الحرمان من طرف النظام السياسي أو من طرف المؤسسة الدينية ، خاصة حرية التعبير والتفكير التي من شأنها أن تساعد في تقدم العلوم ، وامتلاك ناصية البحث والجرأة لممارسة النقد بمختلف أشكاله ، زد على ذلك أنه كلما حرم الفرد من شيء كلما أصبح أكثر رغبة فيه وإلحاحاً على تحقيقه وكما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشل فوكو: " إن أكثر الشعوب تحريماً لشيء أكثرها هوساً به "، لذلك فلما كان غير ممكن حرمان الناس مما لا تستطيع الدولة منعه ، سمحت به.
إن سلب حرية الأفراد يؤدي إلى دمار الدولة ، مع أنه ليس ممكناً سلبهم هذه الحرية لأنها طبيعية في الإنسان ، وسلبها سيؤدي حتماً بالدولة إلى التعارض مع الحق الطبيعي ، وهذه ليست سمة النظام الديقراطي الذي تبناه اسبينوزا ، لكن " فلنفترض ، مع ذلك ، أنه يمكن سلب الناس حريتهم والقضاء على استقلالهم بحيث لا يمكنهم التفوه بكلمة واحدة إلا بأمر من السلطة العليا في هذه الحالة لن يحدث مطلقاً أن تتفق جميع أفكارهم مع أفكار السلطة العليا . والنتيجة الحتمية لذلك هي استمرار الرعايا في التفكير على نحو يتعارض مع أقوالهم ، وبذلك تضيع الثقة ، التي هي شرط ضروري لإقامة الدولة . ويؤدي تشجيع الفساد الكريه والخداع إلى سيادة المخاتلة والغش في جميع العلاقات الاجتماعية "7. وبالتالي فإن إتاحة قدر كاف من الحرية للأفراد من شأنه أن يحفظ الدولة والسلطة العليا ، كما من شأن ذلك أن ينمي الإحساس بالثقة بين الأفراد والحاكم ، والإحساس بالمواطنة أكثر .
إذن يستحيل سلب الأفراد حريتهم ، وأن الاعتراف بهذه الحرية لا يهدد أمن الدولة وبقائها ، ويضع اسبينوزا شرطاً أساسياً لاحتفاظ الفرد بهذه الحرية وهو " ألا يسمح لنفسه بتغير قوانين الدولة المعترف بها أو بأن يفعل شيئاً ضد القوانين القائمة " كما أن " تمتع كل فرد بحريته لا يهدد سلامة الدولة ، أو التقوى أو حق السلطة العليا ، بل هو بالإضافة إلى ذلك ضروري للمحافظة على ذلك كله "8.
ومنه فإن الحرية هي الغاية التي تأسست الدولة من أجل تحقيقها وتخليص الأفراد من الخوف والشقاء ، كما أن الحرية تشكل دعامة أساسية لاستمرار الدولة ، لأن إتاحة الحرية لكل أفراد الدولة دون أي تحيز أو تميز بينهم من شأنه أن يجهض النزاع والصراع بين أفراد الدولة الواحدة من خلال احتوائها لمختلف الأجناس والعقائد والثقافات ، أضف إلى ذلك أن الدولة هي الضامن الفعلي للحرية ، خاصة حرية الرأي وحرية التفكير.
: حرية الرأي و التعبير داخل الدولة .
إن أهم حرية ركز عليها باروخ اسبينوزا في تصوره للدولة ، هي حرية التفكير ، وذلك نظراً لما لهذه الحرية من دور في تقدم وازدهار الأمم ، وهي حق طبيعي لكل فرد ، أو بعبارة أخرى لما تم التعاقد فإن الأفراد تخلو عن حقهم في أن يسلكواْ كما يشاءون ولم يتخلواْ أبداً عن حقهم في التفكير الحر ، " وعلى ذلك ، فإذا لم يكن من الممكن أن يتخلى أحد عن حريته في الرأي وفي التفكير كما يشاء ، وإذا كان كل فرد شيد تفكيره بناء على حق طبيعي أسمى ، فإن أية محاولة لإرغام أناس ذوي آراء مختلفة ، بل ومتعارضة ، على ألا يقولواْ إلا ما تقرره السلطة العليا تؤدي إلى أوخم العواقب . بل إن الأذكياء منهم – ناهيك بالعامة – لا يمكنهم أن يلزمواْ الصمت ، ذلك لأن من الأخطاء الشائعة بين الناس أنهم يبحون بنواياهم للآخرين ، حتى في الحالات التي يحسن فيها الكتمان. على ذلك فإن السلطة السياسية تكون أشد عنفاً إذا أنكرت على الفرد حقه في التفكير وفي الدعوة لما يفكر فيه وعلى العكس تكون معتدلة إذا سلمت له بهذه الحرية . ومع ذلك فنحن لا ننكر أن سيادة الدولة يمكن أن يطعن فيها بالأقوال كما يطعن فيها بالأفعال ، وبالتالي فإذا كان من المستحيل سلب الرعايا حريتهم في التعبير كلية ، فإن من الخطورة التسليم لهم بها كلية "9 . فالدولة ينبغي أن تقف موقفاً وسطاً ، أي ؛ ألا تمنح الأفراد حرية مطلقة في التعبير عن الرأي ، لأن هذه الحرية تشكل خطراً على الدولة أحياناً ، لذلك فإن اسبينوزا يضع شرطاً أساسياً لهذه الحرية ، فالمرء " يستطيع أن يفكر وأن يصدر حكمه ، ومن ثم يستطيع الكلام أيضاً ، بحرية تامة ، بشرط ألا يتعدى حدود الكلام أو الدعوة ، وأن يعتمد في ذلك على العقل وحده ، لا على الخداع أو الغضب أو الحقد ، ودون أن يكون في نيته تغير أي شيء في الدولة بمحض إرادته "10. ويقدم اسبينوزا مثال المواطن الصالح ، ويفترض اسبينوزا أن أحد أفراد الدولة قد بين تعارض أحد القوانين مع العقل السليم ، و أقر برغبته في تغيره أو إلغائه ، وفي الوقت ذاته عرض الأمر على السلطة العليا للدولة لكي تحكم عليه ، وكف عن كل مظاهر المعارضة لهذا القانون ، في هذه الحالة يكون الفرد مواطناً صالحاً يسعى إلى حفظ آمن الدولة والمصلحة العامة . أما إذا كان يهدف من وراء ذلك إلى اتهام السلطات بالظلم ، والتحريض عليه لإثارة غضب العامة ، أو محاولة إلغاء القانون رغما عن السلطات عن طريق إثارة الفتن ، فحينها يسمى الفرد مشاغباً ومتمرداً . إن حرية التعبير هنا تتجاوز المصلحة إلى المفسدة ، وبالتالي ينبغي أن تقنن هذه الحرية وألا تمنح بشكل مطلق ، بحيث يقف ضد المصلحة العامة ، و إثارة الفتن داخل الدولة.
يرى اسبينوزا أنه " لو كان من السهل السيطرة على الأذهان مثلما يمكن السيطرة على الألسنة ، لما ، وجدت أية حكومة نفسها في خطر ، ولما احتاجت أية سلطة لاستعمال العنف ، و لعاش كل فرد وفقا لهوى الحكام ، ولما أصدر حكماً على حق أو باطل ، على عدل أو ظلم إلا وفقاً لمشيئتهم . ولكن الأمور لا تجري على هذا النحو ، لأن ذهن الإنسان لا يمكن أن يقع تحت سيطرة أي إنسان أخر ؛ إذ لا يمكن أن يخول أحد بإرادته أو رغما عنه إلى أي إنسان حقه الطبيعي أو قدرته على التفكير وعلى الحكم الحر في كل شيء " 11.. وعليه فإن الحق الوحيد الذي تخلى عنه الفرد هو حقه في أن يسلك كما يشاء وليس حقه في التفكير والحكم الحر ، حيث أنه لا يمكن للفرد أن يفوض للآخر قدراته العقلية والذهنية ، ولنفترض أن الدولة تمكنت من احتواء أفرادها باستخدام العنف فإنها لن تحظى إلا بسجن الأبدان و ليس الأذهان ، فالسجين بين القضبان والحرية تتغلغل داخله ولا تفارق تفكيره " ذلك لأن من يعلم براءته لا يخاف الموت كما يخافه المجرمون ، ولا يطلب العفو ، ون لا يعذبه تأنيب الضمير لذنب اقترفه يقبل الموت في سبيل غاية نبيلة على أنه شرف ، لا عقاب ، ويصبح عظيماً حقاً لأنه ضحى بحياته في سبيل الحرية "12. باعتبارها حق طبيعي أسمى ، والغاية الحقيقية وراء تأسيس الدولة ، و إن " أسوء موقف توضع فيه الدولة هو ذلك الذي تبعث فيه إلى المنفى بالشرفاء ، من رعاياها وكأنهم مجرمون ، لا لشيء إلا لأنهم اعتنقواْ آراء مخالفة لا يستطيعون إخفاءها "13. لما كانت غاية الدولة هي أن تحاول قدر الإمكان المحافظة على الحقوق الطبيعية للأفراد ، ولما أدرك الأفراد استحالة اتفاق أفكارهم وآرائهم ، وهم مدفعين بالشهوة والغريزة " فقد اتفقواْ على العمل بالرأي الذي يجتمع عليه أغلبية الناس ، وعلى اعطائه قوة القانون مع الاحتفاظ بحقهم في إلغاء هذا القرار الأول عندما يجدون ما هو أفضل منه ، وكلما قلت حرية الرأي عند الناس ابتعدوا عن حالة الطبيعة ، واشتد عنف السلطة "14. وعندها ستقع الدولة في المحظور وسيلغى العقد الذي بموجبه تأسست الدولة ، بانتفاء المنفعة التي يحققها هذا العقد.
لعل أهم سلبيات سلب حرية الرأي ، إثارة الفتن والتمرد على قوانين الدولة ورفضها ، وتفشي العنف في سبيل الدفاع عما يعتقد الأفراد أنه صواب ، ويقول اسبينوزا في هذا الصدد " لقد طبع معظم الناس على الاستياء الشديد إذا ما عدت بعض آرائهم التي يعتقدون بصحتها جرماً ، وإذا ما وصف ما يحث نفوسهم على تقوى الله وحب الناس أنه جريمة. ويؤدي بهم ذلك ، في نهاية المطاف ، إلى رفض قوانين الدولة ، والتجرؤ على فعل ما يضر بالسلطات العامة . وعندئذ يرون أن إثارة الفتنة واستعمال كل ألوان العنف في سبيل ما يعتقدونه شيء رائع لا عار فيه "15 . ولمواجهة دعاة الفتن ، يقدم اسبينوزا حلاً جوهرياً لهذه المسألة ، فلكي يسود الولاء وألا تضعف السلطة العليا أو تخضع لهؤلاء – دعاة الفتن – ينبغي على الدولة الاعتراف لكل
فرد بحريته في الرأي ، وبهذا يعيشون الناس في سلام ووئام رغم اختلاف وتعارض آرائهم ، وكما يرى فإن هذه الطريقة في ممارسة الحكم هي أفضل الطرق وأكثرها اتفاقاً مع الطبيعة الإنسانية .
إن الذين يثيرون الفتن في الدولة ، هم أولئك الذين يشوهون كتابات الآخرين ويدينونها ، إنهم أولئك الذين يقفون بكل ما أتواْ من قوة في سبيل تحقيق حرية التعبير ، وهنا نستحضر بقوة الواقع الموسوم بالرفض والتنكيل بالفلاسفة والمفكرين ، الذي عاش فيه اسبينوزا وعانى من ويلاته ، " ومن ذلك يتبين بوضوح لا يقبل أي شك أن دعاة الفتنة هم أولئك الذين يدينون كتابات الآخرين ويثيرون غضب الشعوب ضد مؤلفيها ، وليسواْ هم المؤلفين الذين لا يكتبون إلا للعلماء ، ولا يعتمدون إلا على العقل وحده . أما مثيرو الشغب الحقيقيون فهم الذين يريدون في دولة حرة القضاء على حرية الرأي ، التي لا يمكن قمعها "16 . باعتبارها حق طبيعي أسمى ، ولكونها الغاية التي من أجلها تأسست الدولة ، وكما سلف الذكر فمن المستحيل أن يتخلى فرد ما عن حقه الطبيعي بشكل مطلق.
وفي ختام هذا المبحث ، لا يسعني إلاّ أن أستشهد بنص بليغ وعميق ، يصب في نفس ما تطرقنا إليه ، وهو نص يظهر بإيجاز ووضوح تام ، موقف اسبينوزا من الدين والدولة والمهام التي يحددها لكل واحد منهما : " لو أردنا أن نضمن سلامة الدولة ، فيجيب أن نجعل التقوى والدين مقتصرين على ممارسة العدل والإحسان ، كما يجيب أن ينصب تشريع السلطة العليا في المجالين الديني والدنيوي على أفعال الرعايا وحدها ، وأن يترك لكل فرد حريته في التفكير والتعبير " 17، لاعتباره أن الحرية هي مطلب سامي وحق أسمى ، وهذا المطلب لا يأتى إلا بتحقيق التوازن داخل الدولة ، والانسجام بين ما هو سياسي وما هو ديني بإخضاع هذا الأخير للأول الذي يسهر على تنظيم وتطبيق مبادئ العدل وتحقيق الحرية.

خاتمة :
الدولة في التصور السبينوزي تتخذ صبغة الحداثة والأنموذج الديمقراطي الرشيد في الحكم ، فالدولة كجهاز سياسي عملاق يسهر على منح الحقوق والحريات وتحديد الواجبات والعقوبات ، وحفظ السلم وآمن الأفراد ، نشأت بوجب تعاقد اجتماعي ، بعد ما أدرك الأفراد مصالحهم الذاتية التي لا تتحقق إلاّ باتحادهم تحت سلطة واحدة وقانون وضعي موحد ، بعد ما كانوا يخضعون لقانون طبيعي مطلق ويتمتعون بحق طبيعي لا حدود له إلا حدود القدرة.
مع اسبينوزا يمكننا القول بأن الإنسان من حق القوة إلى قوة الحق ، انتقل من تمجيد حق القوة إلى تمجيد قوة الحق ، عن طريق تخلي الأفراد عن حقهم في أن يسلكواْ كما يشاءون بموجب عقد اجتماعي أبرمه الأفراد فيما بينهم ، لتجاوز حالة الطبيعة والشقاء الذي كان يعيش فيه الإنسان ، من أجل التخلص من سيطرة الشهوة والغرائز وتبني العقل كبديل لها . فتأسست الدولة ، وصلاحية هذا العقد رهينة بمنفعته فإذا انتفت المنفعة أصبح العقد لاغياً ، لا فائدة من الحفاظ عليه و الامتثال له .
إن الهدف من تأسيس الدولة ليس إرهاب الناس أو إخضاعهم للسلطة العليا بالعنف والقمع والمنع ، وتحويلهم إلى آلات صماء أو موجودات غير عاقلة ، بل الغاية الرئيسية من تأسيس الدولة هي إخراج الناس من حالة الفوضى والشهوة إلى حالة تخضع إلى للعقل ويتمتعون بحقوق مدنية ويخضعون لقانون مدني يسهر على حمايتهم ، وإتاحة الفرصة لهم لتنمية أذهانهم وأبدانهم في آمن وسلام. كما أن الغاية الحقيقية ليست استعباد الناس بل هي منح أكبر قدر ممكن من الحرية للأفراد ، أي تحقيق الحرية بمختلف مظاهرها وألوانها بما يتوافق مع الطبيعة الإنسانية وقانون الدولة . وهذا لا يتأتى إلا في ظل دولة علمانية لا تقيم وزناً لأي تميز عنصري بين أفرادها ومعيار الصلاح فيها هو المواطنة وخدمة الصالح العام ، باعتماد نظام ديمقراطي في الحكم ، ومن إيجابيات هذا النظام ، أنه أقرب إلى الطبيعة البشرية ، وقادر على احتواء التعدد . ويتأسس هذا النظام بناء على تفويض الأفراد لقدراتهم في أن يسوسواْ أمورهم ، لصالح الجماعة . ولعل أبرز حق يكفله هذا النظام للفرد هو حق البقاء والاستمرار وحرية التعبير عن الرأي والتفكير .
نلاحظ أن اسبينوزا لم بتهاون في توضيح أن حرية التفلسف لا تشكل أي ضرر على الدولة أو على التقوى ، الحرية بصفة عامة هي دعامة أساسية تقوم عليها الدولة كما بين اسبينوزا ، وأكثر الدول تقدماً هي تلك التي يحظى أفرادها بأكبر قدر ممكن من حرية التعبير والتفكير ...ومن شأن هذا ان يدفع بعجلة تقدم الدولة على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأهم من ذلك على المستوى العلمي ، وانعدام الحرية يعني دمار الدولة وانتشار الفساد والثقة وانعدام الثقة بين الحاكم والمحكومين.
التصور السبينوزي للدولة إذا ما نظرنا إليه على أنه يعود إلى القرن السابع عشر ، فهو تصور حدثي بامتياز سابق لأوانه ، تصور سطر الخطوط العريضة للدولة الحديثة ، دولة الحقوق والحريات ، دولة الديمقراطية التي لم تتحقق بعد أكثر من أربعة قرون ، في عالمنا العربي الإسلامي ، فنحن مازلنا خاضعين لدولة دينية و إما طائفية أو عرقية و إما دولة عسكرية وهذه هي السائدة ، تنم عن وجود نظام سياسي هجين يحاول تبني العلمانية ، وفي الآن ذاته ونظراً لتشبثه بالحكم ، يعطي لنفسه مشروعية دينية.
**********************************************
- ـ1 : رجل السياسة دليل في الحكم الرشيد، توفيق السيف، ط 2، 2013، الشبكة العربية للأبحاث والنشر ، بيروت- لبنان
-2 : وليم كلي رايت : تاريخ الفلسفة الحديثة ، ترجمة محمود سيد أحمد ، تقديم ومراجعة : إمام عبد الفتاح، الطبعة الأولى 2010، التنوير للطبعة والنشر والتوزيع بيروت – لبنان ، الفصل 16، ص 124-125.
- 3 : نفسه ، ص 125.
- اسبينوزا : الرسالة 58 ، إلى شولار ، 1657 ، ترجمة محمد سبيلا ، الفلسفة الحديثة ، نصوص مختارة ، إفريقيا الشرق ،2001، ص : 274 – 275 .
- 4: اسبينوزا : رسالة في اللاهوت والسياسة ، ترجمة حسن حنفي، مراجعة فؤاد زكريا، مكتبة الأنجلو المصرية، ص 446
- 5:المصدر نفسه ، ص 384- 385 - 6: فولغين:فلسفة الانوار ترجمة هزييت عبودي دار الطليعة بيروت ط 1 ص 31. - 7: نفسه ص :62
- 8: اسبينوزا : رسالة في اللاهوت والسياسة ، ترجمة حسن حنفي، مراجعة فؤاد زكريا، مكتبة الأنجلو المصرية، ص451
-9: نفسه ،ص 449.
- ــ10: اسبينوزا : رسالة في الاهوت والسياسة ، مصدر سابق ، ص 449
-11 : المصدر نفسه ، ص 452
- 12 : اسبينوزا : رسالة في اللاهوت والسياسة ، ترجمة حسن حنفي، مراجعة فؤاد زكريا، مكتبة الأنجلو المصرية، ص 445.
-13 : نفسه ، ص 446.
- 14 :اسبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسة ، ص 444
- 15 : اسبينوزا:رسالة في اللاهوت والسياسة ، ص .450
-16 : اسبينوزا : رسالة في اللاهوت والسياسة . ص 450
-17 : نفسه ، ص 451.
-18 : نفسه ، ص 449.
-19 : اسبينوزا : رسالة في اللاهوت والسياسة ، ص 452.
-20 : نفسه ، ص 453



#بلال_البازي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النظام الأمثل للحكم في تصور اسبينوزا
- باروخ اسبينوزا : القانون الوضعي و الحق المدني كتجسيد للدولة
- الحالة المدنية عند باروخ اسبينوزا
- اسبينوزا: العقد الاجتماعي كمنعطف نوعي للانتقال إلى المدنية
- التأصيل للدولة : العودة إلى الحق و القانون الطبيعيان عند اسب ...
- حالة الطبيعة كتأصيل للدولة عند اسبينوزا


المزيد.....




- إزالة واتساب وثريدز من متجر التطبيقات في الصين.. وأبل توضح ل ...
- -التصعيد الإسرائيلي الإيراني يُظهر أن البلدين لا يقرآن بعضهم ...
- أسطول الحرية يستعد لاختراق الحصار الإسرائيلي على غزة
- ما مصير الحج السنوي لكنيس الغريبة في تونس في ظل حرب غزة؟
- -حزب الله- يكشف تفاصيل جديدة حول العملية المزدوجة في عرب الع ...
- زاخاروفا: عسكرة الاتحاد الأوروبي ستضعف موقعه في عالم متعدد ا ...
- تفكيك شبكة إجرامية ومصادرة كميات من المخدرات غرب الجزائر
- ماكرون يؤكد سعيه -لتجنب التصعيد بين لبنان واسرائيل-
- زيلينسكي يلوم أعضاء حلف -الناتو- ويوجز تذمره بخمس نقاط
- -بلومبيرغ-: برلين تقدم شكوى بعد تسريب تقرير الخلاف بين رئيس ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - بلال البازي - مفهوم الحرية عند باروخ اسبينوزا .