أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الأول: 5















المزيد.....

الفصل الأول: 5


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 5212 - 2016 / 7 / 3 - 02:04
المحور: الادب والفن
    


مراكش، التي حظوتُ بمعرفتها في مُفتتح عقد التسعينات هذا، وإن بدت لي خالية تقريباً من الرومانسية، بيْدَ أنها كانت ما تفتأ مُحتفظة بأسطورتها. مراكش، ليست مدينة للذكرى. إنها مثل حبيبة " حَمُو أونامر "، في الحكاية الشعبية الأمازيغية.. فلو غادرتَها أبداً، لن تتخلصَ من سِحْرها.. عندئذٍ تسيطرُ الكآبة عليك فتجعلك تذوي رويداً، وتضمحل، بحيث أنك لو فكرت العودةَ إليها مجدداً يكون الوقتُ قد فات. مراكش، في وجهها الآخر، هيَ مثل رياضٍ رائع ذي حجراتٍ مفتوحة النوافذ على صحن الدار السماويّ، فيما النوافذ الخارجية مُترّسة بالمناخل وقد علق في شراكها كلّ أنواع الذباب والهوام البشريّ.. رياضٌ عريق، يقيم في دوره المتعددة أناسٌ مُتطفّلون، مُحدثو نعمة، ما فتأت رائحة الريف معلّقة بملابسهم ـ كما القراد في رؤوس جداتهم، الذي لوّثَ شَعرهن الأبيض بلون الدم القاتم.
المدينة القديمة، متاهة دروب وأسواق وأزقة. كأنها متاهة للروح، لا يُمكن أن تخرجَ منها إلا على شفا الهلاك.. كأنما مقامات الرجال السبعة، إنعكاسٌ لطبقات السماء السبع؛ ثمة، أين يتربّع عرش الملكوت. إلا أنّ الفوضى، المنافية للحكمة الربانية، شاءت أن تكون الأحياء الأصيلة مرتعاً للدخلاء والدهماء؛ هؤلاء الذين زحفوا كالجراد من أقاصي الريف بجوعهم المزمن وجشعهم ومكرهم، وفوق ذلك، بحقدهم على كلّ ما يمتّ للحضارة والمدنية: القَصَبة والمشْوَر، المُحتفي كلّ منهما بقصر ملكيّ منيف علاوة على الدور الكبيرة، كانا فيما مضى حيين يسكنهما سراة القوم.. حيّ الملّاح، كان بدَوره مكاناً غامضاً، مُغلقاً على اليهود، قبل هجرتهم الجماعية إلى أرض الميعاد.. حتى الأحياء الأحدث نسبياً، الواقعة على مشارف المدينة القديمةـ كسيدي يوسف وآلطن وألبكار ـ لم تسلم من الفوضى. فنهر وادي ايسيل، المُنحدر من الأطلس عند آيت أورير مخترقاً تلك الأحياء، صارَ جرفاً جافاً يُأوي المنحرفين والمتشردين جنباً لجنب مع الكلاب والجرابيع: إنها فوضى، شبيهةٌ بفوضى الجسد؛ هذه المُتحتّم عليها أن تقذفَ الفتيات، بما فيهن القاصرات، من المدارس الحكومية المختلطة إلى البارات وصالات الديسكو؛ من حمّامات السوق الشعبية إلى مراكز التدليك المُستحدثة؛ من أماكن يُعبَد فيها الملكوت إلى بؤر يُقدَّس فيها أوراق البنكنوت.
في واقع الحال، فإنني خلال عاميّ إقامتي المراكشية لم أعرف جيداً سوى حيّ غيليز، الراقي. ثمّة، أين العمارات السامقة والفيلات الفخمة، المتحصّن فيها بشكلٍ خاص الأثرياءُ من الأوروبيين المقيمين؛ المطاعم والمقاهي والملاهي والمقاصف، المنذورة لخدمة أمزجتهم الرهيفة وأحاديثهم الحميمة؛ الحدائق الفريدة، المتوسّلة ظلالها صُحبةَ نسائهم وأولادهم وكلابهم؛ السوبرماركات الكبرى، بأسعارها الرخيصة، لتبضّعهم اليوميّ؛ محلات الكوافير والتجميل، للتألق في الحفلات والسهرات؛ دور الأوبرا والمسرح والسينما، لأمسيات العطلة الأسبوعية والطارئة؛ محطتا القطار والبولمان، للسفرات الدورية إلى كازابلانكا والرباط وأغادير والصويرة؛ كراجات تأجير السيارات، لنزهة التزلج على الثلج في أوكايمدن أو أرتياد الشلالات في أوريكا وإمليل؛ العيادات والمستشفيات الأكثر تطوراً، للعلاج والعمليات؛ الكنيسة الكاثوليكية، لصلاة الآحاد والأعياد والجنازة؛ المقبرة النصرانية، للراحة الأبدية من كلّ ما سبق!

***
لا مكانَ أكثر سحراً في ساعة الأصيل، من سطح كافيه دو فرانس.. حينئذٍ تصبح السماءُ لوحة فنية فريدة، يغلب عليها لون الزهر الشاحب، فيما الشمس تنطفئ في أفق الأطلس.. إنه السطح نفسه، المُشرف على ساحة جامع الفنا، أينَ لمحَ بطلُ فيلم " الحبّ الضائع "، الرومانسيّ، عشيقته الهاربة منه وكانت عندئذ بين جمهرةٍ تتفرّجُ على أفراد الكَناوة من قارعي طبول وصنوج وراقصين ( أتكلم عن رشدي أباظة وسعاد حسني! ).
عليّ كان أن أشكُرَ " خدّوج "، لأنها رافقتني في أصيل يوم جمعة إلى ذلك المكان العجيب، الساحر. هذه الفتاة المرحة والجسورة والعنيدة، جديرةٌ أكثر بمشاعر الإمتنان والعرفان والوفاء، كونها هيَ صاحبة الفضل في إنقاذي وأخي من مصير الضياع والتشرّد؛ بل وربما التسوّل أيضاً. صداقتنا، قُدّرَ لها خلال أسبوع واحد أن تتقدّم إلى أمام ـ كخطواتنا المُثابرة يومئذٍ على أرضيّة رصيف الشارع ذي الاسم الملكيّ، المُتصل مع المدينة القديمة: أعتقدُ أنني من واجبي الآنَ تسجيلَ مشاعري، علّها تُنقل يوماً إلى من أضحَت غريمة لي؛ تُنقل شفاهاً، بطبيعة الحال، بما انّ المَعنيّة كانت لا تقرأ شيئاً تقريباً غيرَ مجلاتٍ فرنسية متخصصة بأخبار الموضة والمجتمع.
على الرغم من أننا نملك ذات الطول تقريباً، ولكنني كنتُ إذاك أحاول مُجاراة خطوها العجول، الذي يشقّ طريقه فوق الأرضية الموحلة قليلاً بفعل مطر الصباح.. خطوها، المُفصح عن ثقة بالنفس؛ أو على مرجوح التأويل، عن قلقٍ دفين في أعماقها. كان إذاً أصيل يوم جمعة، جازَ لريحه الخريفية أن تُجلي الغيمَ المُحمّل بالغيث عن سماءٍ مُلوّنة بآخر لمسات الشمس. كلانا، كان يرتدي جلابة مُشابهة، منسوجة من الكتّان الحار ومطرّزة بالورود مع ترصيعات من الأحجار البرّاقة. وكانت " خدّوج "، قبيل انطلاقنا من المنزل، قد قالت لي بلطف وهيَ تُناولني الجلابة من خزانتها: " إليكِ هذه بلون الزهر، فإنها ملائمة لبشرتك! ". أما هيَ، فكانت قد اختارت جلابة بلونٍ أبيضَ جديرٍ ولا شك بقلبها الناصع: ولكن، ماذا عن الملاءة البيضاء الملموم بها جسدُ المرأة المتسوّلة، التي مررنا بها في طريق عودتنا إلى المنزل وكانت متكوّمة على نفسها؛ أهي تليقُ بلون كفنها، مثلاً؟
قلبُ " خدّوج "، على أيّ حال، لم يضرْهُ شائبةَ ذلك الموقف المُحرج قليلاً، في يومٍ سابق، حينما تذكّرتُ أمرَ حقيبتي، التي كانت سببَ وجودنا في مراكش. إذاك، تطوّعَ ذكرُ الأسرة الوحيد، " حَمُو "، لتجشّم مهمّة جلبها من مطار المدينة. وإذا بشقيقته تتدخّل قائلةً، أنّ الأمرَ لا يستدعي العجلة. تطلعتُ إليها باستغراب، وقد مَسّني شعورٌ مؤذٍ. فما كان منها، مُرتبكةً ولا غرو، إلا أن أضافت وهيَ تهرب بعينيها إلى جهة أخيها: " لا ضيرَ في ذهابك الآن، إذا شئتَ. وكان قصدي أن تصحبَ فرهاد، لكي يتعرّف على الحقيبة ويوقّع على وصل استلامها ". ذلك الشعور، المَوسوم، كان قد انتابني بعدما لمعت في رأسي فكرةٌ خاطفة ( وربما خاطئة ) ؛ وهيَ أنّ " خدّوج " كانت تبغي أن أبقى مكتسيةً بلباس إحسانها.

***
في ذلك الخريف، قبيل عودة خطيب " خدوج " مع صهرها إلى مراكش فجأةً وعلى غير توقع، كنتُ مشبعةً بشعور آخر. أجل، كنتُ أشعر حيال هذه الفتاة بالتفاهم أكثر منه الإمتنان؛ بأننا ننمّي برعمَ صداقةٍ لن يلبث فيغدو زهرةً مُزدهرة، فوّاحةً بعبق البراءة والثقة والوفاء. الإختلافُ بين لهجتينا وثقافتينا ومزاجينا وكلّ الأهواء الأخرى، لم يَحُل دون نموّ هذا الشعور الجديد. أحاديثنا، صارت تترى بالصراحة دونما أن يُفسدها ما فيها من شطط التعابير والألفاظ المكشوفة. من ناحيتي، كنتُ أحسّ أحياناً بأنّ " خدّوج " تقتربُ في أحاديثها معي إلى مَبالغ الرجال؛ على الأقل، كما كنتُ أفهم ذلك بعقليتي المشرقية. ولكنني للحق، كنتُ أراها مذاك الوقت المبكر كنموذجٍ أدبيّ لشخصية محورية في رواية أو سيرة. عليّ كان أن أشحنَ ذاكرتي جيداً للاحتفاظ بذكرى تلك الأوقات، وإلى حين أن تصبح مادةً على الورق.
كنا معاً إذن على ترّاس مقهى كافيه دو فرانس، المُطلّ على ساحة جامع الفنا. وكنا قد أحتفينا للتوّ بمشهد الغروب، فيما الساحة تبدو تحت وقع البصر مُتألقةً بأضواءٍ قوية وخافتة. أصوات شجية لموسيقى محلية وأمازيغية، كانت تحلق في الأفق ومصدرها الفرق الشعبية من كَناوة وغيرها. إلى سحابة كثيفة من الدخان، الريّان الرائحة، المنبعثة من مناقل شواء اللحوم في الأكشاك العشوائية، العامرة موائدها بالزبائن المُطعمين. خُضنا في حديث حميم، كان محورَهُ الحبّ. للوهلة الأولى، خِلْتُها تتكلّم عن خطيبها العراقيّ. إلا أنّ " خدّوج "، أدهشتني حينما تضاحكت من سذاجة تفكيري بنفس القوّة حين كنتُ أفهم نعابيرها المغربية بشكلٍ مغاير لمعناها.
يتعيّن القول، أنها حتئذٍ لم تنبس اسمَ " فرهاد " على لسانها. بل كانت تتجاهل وجوده أيضاً خلال اجتماع الأسرة الضروريّ على مائدة الطعام في شقة الدور الأرضيّ، المُخصصة لسكناها مع والدتها. وهيَ ذي، على غرّة، تبوح لي بأنها كانت على ريبة من أمر خطيبها منذ بداية تعارفهما. فلم تتحرّج من أن تذكر ما سبقَ لها أن أسرّت به، على مألوف العادة، لإمرأة أخيها وحافظة أسرارها: " إنه لا يبغي شيئاً آخر غير نيكي. لستُ أنا من يُخدَعَ بكرَمه، الملتوي! ". على الرغم من ذلك، لم تكن " خدّوج " راغبةً بتحطيم آمال الأسرة في هذا الزواج. بالنسبة لها، لم يكن الموضوع يتعلق بأطماع زوج شقيقتها: إنّ طموحها ( وربما ضعف إرادتها )، زيّنَ لها إمكانية أن تكون هيَ " منقذ " الأسرة بعيد وفاة راعيها.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الأول: 4
- الفصل الأول: 3
- الفصل الأول: 2
- الرواية: الفصل الأول
- سيرَة أُخرى 35
- تخلَّ عن الأمل: 7
- تخلَّ عن الأمل: 6
- تخلَّ عن الأمل: 5
- تخلَّ عن الأمل: 4
- تخلَّ عن الأمل: 3
- تخلَّ عن الأمل: 2
- تخلَّ عن الأمل: 1
- الرواية: استهلال
- سيرَة أُخرى 34
- احتضار الرواية
- فاتن حمامة والزمن الجميل
- أقوال غير مأثورة 6
- سيرَة أُخرى 33
- الهلفوت والأهبل
- سيرَة أُخرى 32


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الأول: 5