أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الأول: 2















المزيد.....

الفصل الأول: 2


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 5206 - 2016 / 6 / 27 - 01:59
المحور: الادب والفن
    


ما لم أقله هنا، لن أقوله في أيّ مكان آخر.. لا في حجرة تحقيق ولا في محكمة ولا أيضاً في حضرة ملاك الجحيم. الجحيم؟ ألا إنه هنا، في الحبس كما في الحرية. داخل وخارج روحي، في جانبها العتم والمضيء على حدّ سواء. ولأنّ ما بقيَ لروحي من ضياء قد أخبى، فلم يكن غريباً أن أشمل المدينة كلها بالعتمة.. مراكش، العاهرة العظيمة، ونحن أولاءَ أولادُها العاقون. وربما هيَ عتمة الرحم، من كنتُ أسعى للعودة إليها. ولكن، أكان عليّ أن أنفصل عن المدينة الملعونة، لكي أتمكن من رؤيتها بشكلٍ أفضل: ألا فانتظروا، إذاً، ما يُمكن أن تبوحَ به السمكةُ وهيَ خارج الماء!
هأنذا مطروحة فوق صخرة الشاطئ، أتنفّسُ بعدُ. ولكن إرادة الحياة فيّ، هيَ من ماتت. أتذكّرُ حكاية ذلك الرجل، المحكوم بالإعدام، الذي أعلن أنه في سبيل أن يعيش فهوَ مستعدٌ للبقاء أبد الدهر فوق صخرة نائية بقلب البحر، وحيداً مع الموج والبرد والمطر والريح. لا بدَّ أنني قرأتُ ذلك في إحدى روايات دستويفسكي، التي كان أخي يستعيرها من أصدقائه. ولا بدَّ أن هذا الكاتب ( معبود جيلنا ) كان سيُدهش حينما يعرف، بطريقة ما، بأنّ فتاة بأوج صحتها ونضارتها تخلّت ببساطة عن كل امكانيات تخفيف عقوبة السجن المُشدد من أجل فقط أن تموت: الحق، أنني كنتُ لأعتبر العقوبة عادلة لو أنّ مراكش، بطريقة ما، كانت هيَ القاضي!
أكان عليّ أن أذهب بعيداً، في سبيل العودة نقيةً، مطهَّرة، إلى مراكش الأخرى؟ ولكنني، في المقابل، ذهبتُ أبعد بإدانة عُهر هذه المدينة. الحق أنّ الرجال، وهم في قاع حضيضهم، هم من دوّنوا كل كلمات ذلك العهر، الذي يطفو على صفحات كتاب مراكش. هؤلاء الرجال ( وأعني بهم الشباب أكثر )، هم مَنْ يسلّمون أجسادهم المُتعبة، بعد شقاء نهار مُمضّ، لرخاء المقاهي الخاملة؛ مَنْ لا يقرّون برأي إلا لو كان مشفوعاً بسندٍ دينيّ وهم يتعاطون الراحَ والمعجونَ في أقبية البارات وشقق الإقامات السياحية؛ من يصحبون صديقاتهم إلى تلك الشقق المفروشة ليُضاجَعن من وراء، في وقتٍ تسعى فيه أمهاتهم لتدبير فتيات عفيفات لهم، صالحات للزواج؛ من لم يسمعوا يوماً باسم أكبر أدباء اسبانيا، الذي يتكلم لهجتهم الدارجة ويعيش بين ظهرانيهم في منزل مجاور لمنارة الكتبية.

***
منارة الكتبية، هيَ ذي. ملاكٌ عظيمُ، مكلّفٌ من الله بمراقبة بنيه. بيْدَ أنها، بأضوائها المبهمة ليلاً، برزتْ كماردٍ خرافيّ لأعين شقيقين دمشقيين، غريبين ولا غرو، ما أن صارا بمحاذاة ساحة الحارثي. ثمة، كان شارع محمد الخامس يبدو في صعوده نحوَ المدينة القديمة وكما لو أنه يسعى لعناق تلك المنارة. منذ بعض الوقت، كان كلا الشقيقين قد خلّف وراءه محطةُ القطار ذات البرج المربع الشكل والقليل الإرتفاع. على ذلك، فلم يكن غريباً أن يَلتبس عليهما أمرُ المنارة، المربعة الشكل والهائلة الإرتفاع، المختلفة في عمارتها عن مآذن المشرق. محطة القطار، في المقابل، كانت في نظر بطليّ حكايتنا ضئيلةً وعتيقةَ الملامح: " فرهاد "، حاولَ عند ذلك عقدَ مقارنةٍ مع محطة الحجاز، الدمشقية، الأعظم عمارة والأقدم من هذه المراكشية بنصف قرن على الأقل.
تلك المحطة الشامية، بعيدةٌ الآن جغرافياً بقدر قربها من ذاكرة الشقيقين. هما من ركبا في الصغر، لمرةٍ وحيدة حَسْب، قطارَ الريف في طريقه إلى البلدة الساحرة، المطلّة على وادي بردى. كان القطار يرتقي الجبال، مجتازاً سلسلة من الضيَع المزدهرة وصولاً إلى الزبداني؛ مسقط رأس حماة أمهما. ثمة، سبقَ لبعض الأعيان من كرد دمشق أن أمتلكوا مزارع رائعة، وكان من أشهرهم عزت بك العابد؛ مستشار السلطان عبد الحميد، والمشرف على بناء محطة الحجاز: هذه المعلومات، التي استعادها " فرهاد " على الرغم من خواء روحه ومعدته على السواء، كان قد سمعها يوماً على لسان الشقيق الأصغر لزوج والدته.. استعادها إذن خارجَ محطة مراكش، حين كان بصره يمرّ على لوحاتٍ تشير إلى جهات بلدات الريف، الأمازيغية الأسماء.
فيما بعد، سينصتُ بطلنا إلى " للّا بديعة " عن ردة فعل جماعتها، البربر، على فكرة بناء السكك الحديدية: " لقد انتابهم الهلعُ آنذاك خشية خرق خصوصية أقاليمهم، فثاروا على السلطات الفرنسية وقاموا بتخريب الكثير من خطوط القطار ". هذه المرأة المتوسطة العُمر، والصبوحة السحنة كما يَجْدُر بقلبها الطيّب، هيَ من استقبلت كلا الشقيقين بمنزلها في تلك الليلة الخريفية. آنذاك، كانت صُغرى أبنائها، " خَدّوج "، قد لفتت نظرَ الأم إلى مشهد الشقيقين الغريبين، المتمددين على أرضية العَرَصَة المجاورة للمنزل. ثمّ شاءَ " فرهاد "، ليلتئذٍ، أن يعقُدَ هذه المرة مقارنةً بين والدة " خدّوج " ووالدته " خجي ". حقّ له أن يُدهش كذلك، كون اسم هذه الأخيرة ( وهوَ التحويرُ الكرديّ لخديجة )، مُشابهٌ للتحوير الأمازيغيّ لنفس الاسم..!

***
هواءُ الخريف، الجافّ واللاسع ليلاً، يتسلل خِلَل المدخل الفسيح للسور ليكنّسَ أرضيّة العَرَصَة من أوراق الأشجار المتناثرة، المصبوغة بصفرة الموت. أربع عوائل من النخل، تستأثر بمعظم مساحة المكان، وكلّ منها يتمايل بحنان على الآخر بفعل هبوب الهواء. في القاعدة الإسمنتية المستديرة، المطوّقة كلّ من تلك العوائل، كان ثمة شتلة غريبة ـ كالصبّار أو التين أو شوكيّة الشمعدان: " كلّ نخلةٍ أمٌّ، وكلّ شتلة طفلةٌ مُتبناة "، كذلك فكّرت " شيرين ". كانت حينئذٍ تتمشى ضَجِرةً حول البحرة الجافة، المكسوّة بالزليج الأزرق القاتم. شكل البحرة، ونافورتها، أشبَه بصحنٍ يتوسّطه كأسُ ـ كما راقَ للفتاة أن تراه وهيَ جائعةٌ وعطشى. بضعة أشجار زيتون، تحتّمَ عليها أن تنشر ظلاً كثيفاً فوق البقعة المرصوفة ببلاطٍ على شكل ضفائر؛ ثمة، أين يتمدد شقيقها مُتكوّراً قليلاً على نفسه. رددت فتاتنا، على الأثر، شذراتٍ من آية كريمة بصوتٍ هامس: " والتين والزيتون، وطور سنين ". فكرةٌ أكثر جدّة، ما تلبث أن تداهمها: " التينُ مباركٌ، كونه ذُكر في القرآن الكريم؛ فماذا عن الكرز، مثلاً، وهو أشهى منظراً وأطيب مذاقاً وأعلى سعراً! ".
" شيرين " ما عتمت أن عادت أدراجها، وقد أعياها الضجرُ والفكر والسغبُ، فاستلقت بالقرب من شقيقها. كحالها سواءً بسواء، كان " فرهاد " يرتدي معطفاً مبطّناً بالفرو، سبقَ أن حمله من الشام إلى السويد إحترازاً من البرد. كلا المعطفين، تمّ شراؤه من سوق البالة في دمشق. كانت إذاً تتسلى بمنظر القمر، الكامل الملامح، المُعتلي حينئذٍ على البرج الأيسر لمدخل السور. غارقة في طيّات معطفها، بدا أن فتاتنا تهوّم منذ بعض الوقت: إنها تسنحضرُ الصورة الأخيرة لأمها، الحزينة والبهيّة في آنٍ واحد؛ صورة الوداع، هناك في صالة مطار دمشق الدولي.. إنها ترى " زاهد "، أخاها غير الشقيق، بعُمرٍ يمتّ إلى الطفولة وعبثها، تحوّطه بإعجاب عينا أبيه، الكامدتان.. أنها تنظرُ بقلقٍ وفرَق إلى الصبيّ، وهوَ يدور حول نفسه سعيداً، غير آبهٍ بانحداره رويداً نحو طرف الجرف، الغميق والعميق العتمة.. إنها تستصرخُ الأبَّ والأم بنظراتها، طالما أنّ الرعبَ قد حبسَ صوتها.. وإنها لتفيق على غرة، مثلما هوَ دأبها مع كلّ كابوس.
إلى جانب الفتاة، يرقدُ " فرهاد " وقد أعتراه بدَوره الخمول والنعاسُ. عليه كان أن يبقى صاحياً، خشيةً على الفتاة من أيّ طارئ. فبين فينةٍ وأخرى، كان يتصاعد صوتٌ سكران، أو محششٌ، شاتماً إحدى العواهر ممن أعتدنَ على التسكّع في هذا الشارع حتى لحظة أذان الفجر. خُطا الخلق، من خُطاة وورعين ولا أباليين، كانت قد خفّت في هذه الساعة المتأخرة. على ذلك، راحَ فتانا يُزجي الوقتَ بتأمّل ما حوله من موجودات: سيل السيارات والدراجات النارية وعربات الحنطور، الما يفتأ ينهمرُ من جانبيّ الشارع ذي الإسم الملكيّ. الأسوار والأبراج، المُسلط عليها أنوارٌ هيّنة من مصابيحٍ مثبتة بالأرض. الإفريز النباتيّ العريض، المشكّل قوساً حول كلّ من جهتيّ بوابة السور، المخفور من جانب أشباح أشجار الحمضيات. لوحة ضوئية، مرفوعة فوق سطح مبنى إقامة فندقية، تبدّت عن بعد كنجمة كبيرة زرقاء اللون.
عجزَ نظرُ " فرهاد " عن قراءة اسم ذلك الفندق، فتاه بعدئذٍ بين جمهور الشارع ومركباته. داخِلُهُ، سبقَ أن عبّر عن الدهشة لمرأى أولئك العابرين في ساعةٍ متأخرة كهذه؛ بما أنّ اليومَ جمعة والغد هوَ يومُ عمل. لاحقاً، ستُعلمه " خَدّوج "، فيما علّمته من أشياء أخرى، أنّ العطلة الأسبوعية تشمل يوميّ السبت والأحد. وما لم يكن ليعلمه بعد، أنّ هذه الفتاة ستمرّ به آنئذٍ فيما هيَ عائدة من ساحة جامع الفنا مع أمها وامرأة أخيها: " خدوج "، كانت قد أنهت للتوّ مجادلةً مُعتادة مع الوالدة بشأن خطيبها العراقيّ. سبقَ أن رضخت هيَ لمطلبه، فيما يتعلّق بالتزام الحجاب الشرعيّ. وبعد سفره مباشرةً، نحّت الحجابَ جانباً قائلة للأهل أنها ستعيد وضعه على رأسها، ولكن ليسَ قبل زواجها واستقرارها في فرنسا. هذه الفتاة، اللطيفة المُحيا والجميلة القوام، مرّت كما سبقَ القول بمجلس الشقيقين عند العَرَصَة. كانت مكتسيةً بسترة جلدية قصيرة فوق سروالٍ أسوَد اللون، ضيّق وبرّاق، مما جعل تفاصيل جسدها تتفجّر بالفتنة. إذاك، تعلّقت عينا " فرهاد " بعينيها لبضع ثوانٍ حَسْب. وعليه كان أن يُتابعها بنظره، فيما هيَ تنحدرُ نحوَ جهة غيليز، إلى أن حجبتها الأشجارُ المُغلّسة.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرواية: الفصل الأول
- سيرَة أُخرى 35
- تخلَّ عن الأمل: 7
- تخلَّ عن الأمل: 6
- تخلَّ عن الأمل: 5
- تخلَّ عن الأمل: 4
- تخلَّ عن الأمل: 3
- تخلَّ عن الأمل: 2
- تخلَّ عن الأمل: 1
- الرواية: استهلال
- سيرَة أُخرى 34
- احتضار الرواية
- فاتن حمامة والزمن الجميل
- أقوال غير مأثورة 6
- سيرَة أُخرى 33
- الهلفوت والأهبل
- سيرَة أُخرى 32
- بسمة مسمومة
- الغموض والوضوح
- عَرَبة العُمْر


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الأول: 2