أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - حقيقة التاريخ في رواية -مسك الكفاية- باسم الخندقجي















المزيد.....


حقيقة التاريخ في رواية -مسك الكفاية- باسم الخندقجي


رائد الحواري

الحوار المتمدن-العدد: 5204 - 2016 / 6 / 25 - 17:11
المحور: الادب والفن
    


حقيقة التاريخ في رواية
"مسك الكفاية"
باسم الخندقجي
تناول التاريخ بشكل روائي ليس بالأمر البسيط، فهو يحتاج إلى الغوص في تفاصيل التاريخ أولا، ثم مقدرة على صياغة ذلك بشكل روائي ثانيا، والأمر الثاني لا يمكن لأي كاتب أن ينجح فيه، فبعد ما كتبة "جورجي زيدان" من روايات إسلامية لم يجرب هذا الفعل الروائي سوى قلة من الأدباء "وباسم الخندقجي" واحد منهم.
بكل تجرد اذهلنا هذا التناول للتاريخ بصيغته الروائية، فهناك دخول دقيق جدا ومفصل إلى نفسية "الخيزران" طريقة تفكيرها، اصرارها على الذهاب إلى مركز الخلافة، تعرضها للبيع كجارية، مغامرتها الأولى مع الخليفة "المهدي" صراعها مع مولودها الأول "موسى" باعتباره (مولود دم) على النقيض من المولود الثاني "هارون الرشيد" الذي كان (مولود حب) بهذا التفسير استطاع أن يقنعنا الراوي بميول "الخيزران" إلى ابنها "هارون الرشيد" بخلاف ابنها "موسى".
فالبناء الروائي متقن ومتين ومقنع ومشوق ويحمل المعرفة بحقيقة الاحداث التاريخية التي يجهلها أو يتجاهلوها الكثير منا، وإذا ما اجتمعت هذه العناصر فلا بد أن يكون العمل الروائي استثنائي، متميز، متألق، ممتع، مقنع، فتقديم معرفة ورؤية عن واقع مرير، قاس داخل رواية "مسك الكفاية" يعد بحد ذاته تميز وتألق يضاف إلى جمالية اللغة والطريقة السرد التي توزعت على أكثر من شخصية.
ويضاف إلى ما سبق تركيبة الرواية من خلال توزيع الأحداث على فصول متنوعة، منها تاريخي، ومنها منولوج تسرده لنا الخيزران، كما نجد تقاسم الرواة في سرد الأحداث، منهم الراوي الرئيس، ومنهم "الخيزران" حتى أنه أعطا هامش للخليفة "المهدي" يحدثنا عن نفسه وكيف وقع في هيام الجارية "الخيزران"، وهذا التعدد يعد بحد ذاته إبداع وتمكن من فن الكتابة الروائية.
"باسم الخندقجي" من خلال رواية "مسك الكفاية" أثبت نجاحه في الكتابة الروائية، كما أثبتها في كتابة الشعر، وعندما نطلع على ما كتبة الشعراء من نثر أو أعمال روائية، فلا بد أن يتجاوزوا المألوف من نثر أو روايات، و"باسم الخندقجي" أثبت هذه الاستثنائية والتألق، فالعمل مميز بكل المقاييس.
الرواية تتناول جوانب مفصلية من تاريخ الدولة العباسية، وكيف استطاعت تلك الدولة أيام أبو جعفر المنصور أن يثبت أركان الدولة، من خلال تناول الراوي للأخطار المتعلقة بالمنافسين للدولة العباسية المتمثلة "بمحمد النفس الزكية" أو بالصراعات الداخلية على الخلافة والمتمثلة بالأخوة أو أبناء العم، فهو يقدم لنا فترة من أدق الفترات في تاريخ الدولة العباسية، فترة خلافة "المهدي" التي تجاوزت العام بقليل، وفترة خلافة "موسى" التي لم تتجاوز العام، فما واكبت تلك الفترة من صراعات داخل أسرة الخلافة نفسها يعد طرح تقدمي واقعي، بعيد عن طريقة تقديم التاريخ بشكله الوردي التي يستخدمها الاتجاه الديني، فالوقائع والأحداث تتناقض تماما مع ما يقدم لنا من ذاك التاريخ، وهذا يعد بحدث ذاته تجاوز للمألوف، ودعوة لمصارحة الذات والحديث عن الحقائق بشكلها الموضوعي، وليس المزيف/الوردي.
تقديم الكاتب للمراجع التي اعتمد عليها في صياغة الرواية لا تجعل احدا يشكل بنزاهة ما بقدمه لنا من تاريخ، كما حدث مع جورجي زيدان، الذي اتهم من قبل التيارات الدين السياسي بالمعادة للإسلام وللمسلمين، بحجة ديانته المسيحية، لكن "باسم الخندقجي" أصر على أن يضع في نهاية الرواية تذيل بالمراجع التي اعتمدها، ومن يريد أن يتهمه بالمعادة للإسلام أو المسلمين فعليه أن يرجع إلى المراجع التي تعتبر من امهات الكتب.
اللغة التي استخدمها الراوي في سرده للأحداث تتناسب تماما مع تلك للغة المستخدمة في ذلك العصر، حتى أن المتلقي الذي يعرف "باسم الخندقجي" والثقافة والفكرة الذي يحمله يتأكد له قدرة الراوي على تجاوز ذاته، ومن خلال دخوله إلى تفاصيل الأحداث والتوحد من عصر الرواية، حيث نجد تضمين الرواية للعديد من الآيات القرآنية، أن كان ذلك بشكل مباشر أم بتأثير غير مباشر، واللغة الروائية المستخدمة بحد ذاتها تمثل امتاع للمتلقي.

"الخيزران وابن الدماء "موسى""
محور الرواية شخصية "المقاء بنت عطاء بن سبأ" الملقبة "الخيزران" فهذه الفتاة التي كانت تعيش في اسرو متواضعة الرزق وتعتمد على العمل في الحقل لتأمين متطلبات الحياة، يتم سبيها من قبل قائد (الرايات السود) الذي كان في مهمة تطهير قرية خارجة على الخليفة جعفر المنصور، ولكن أثناء عودته إلى بغداد مركز الخلافة يتعرض لغزو من قبل قبلية تمارس الصعلكة بقيادة "الأنهد" الذي يعمل على قتل الحامية العباسية وأخذ كل ما معها وما فيها، ومن ضمنها "الخيزران" التي كان جمالها يثير غريزة الرجال، مما حدى بأحد رجال قبلية "الأنهد" أن يقوم بمحاولة اغتصابها، لكن نجدها تقاوم بشراسة إلى أن يخرج "الأنهد" على الصوت صراخها، فيقوم بتخليصها من الرجل، ويضع عباءته عليه، كحماية لها.
يكون "الأنهد" مرتبط/متعلق بفتاة أخرى "رقية" وهذا ما جعله يقع بين نارين جمال "الخيزران" من جهة، وحب "رقية" من جهة ثانية، لكنه كرجل مخلص يتجاوز هذه المعضلة ويبقى مع حبه "لرقية" التي تعلم "الخيزران" الكثير من الأمور التي تجهلها. فتنشأ صداقة بينهما، وتعرف "الخيزران" بأن هناك علاقة بين "رقية والأنهد" فتقرر أن تمضي في حلم/هاجس/احساس عندما تطلب من "الإنهد" بأن يذهب بها إلى بغداد كجارية، كما أرد قائد الحملة العباسية. يأخذها "الأنهد" إلى مرادها، بعد أن يسلمها لاحد رجال القبلية ليبيعها كجارية ـ كما تريد هي ـ تصل بغداد وهناك تبدأ مغامراتها فتتحول من جارية إلى زوجة أمير المؤمنين ثم أم أمير المؤمنين.
تستطيع "الخيزران" أن تجذب انتباه الأمير "المهدي" من خلال تفاحة ترسلها مع صديقتها الجارية "خلوب" وأثناء مجامعة الأمير لها يكتشف بأنها مازالت بكر من خلال الدماء التي نزلت منها، والصرخة التي لازمتها، وهذا ما جعلها تشعر بهذا الشعور، " كانت تشعر أن موسى هو ابن الدماء، دمائها الأولى، كان يذكرها عندما تراه أو تحمله بتلك الليلة التي وطئها فيها المهدي بشرعية يمينة، لتصبح كنيتها أم ولد" ص 107، بهذا التفسير/التأويل استطاع الراوي أن يجد مبرر لميول "الخيزران" نحو "الرشيد" وأيضا أن يخلق حالة من الصراع بين "موسى والخيزران" من جهة، وحالة حب وعطاء بين "الخيزران وهارون"، من جهة أخرى، "مع هارون ... رأت فيه تجليات العشق لا تجليات الفض" ص147، بهذا الشكل بدأت تتشكل حالة من الصراع في الرواية، تتمثل بعدم ميل الأم لولدها البكر "موسى"، وهذا غير منطقي، غير طبيعي، لكن الراوي أستطاع أن يقنعا بميل الأم لولدها الثاني وعدم حبها للأول، لأنه ناتج عن الفض/الدماء/الصرخة التي لازمت عملية الجماع، على النقيض من الولد الثاني الذي جاء نتيجة حب وعشق ولم يكن ملازما للدماء أو للصراخ، بل عن التأويه والغنج والكلام الناعم ومثير للشهوة.
كلمة "أبن فض لا أبن حب" ص182 تتكرر كثيرا في النص كتأكيد من الراوي على بغض وعداوة "الخيزران" للدماء وللصراخ وللألم، فهي رأت الدماء التي أراقها قائد الحملة العباسية وتتذكر صراحها وتوسلها ودموعها لقائد الحملة بعدم المساس بها وتركها لأمها.
وبعد أن يشب "موسى" ويكون خليفة تراه بهذا الشكل، " حدقت به من وراء تنكرها وعجيج المجلس، كما لو أنها تراه للمرة الأولى طويلا أبيض مشربا حمرة، ويفسد بهاء وجهه تقلص شفته العليا، نعم هو ولدها وهي التي انجبته ولكنها لم تربيه كما ربت هارون، لم ترعاه بحبها كما رعت وأحبت هارون" ص277، إذن حالة التباعد بين الأم وابنها في تصاعد، فهل يعقل أن تجد أما في ولدها سوء، لكن "الخيزران" أكدت لنا من خلال قولها : "ابن دماء" هذا التباعد بينهما.
العداوة تتنامى بينهما حتى أن نجد الخليفة "موسى" يقوم بمنع حاشيته من التواصل مع أمه من خلال قوله لهم:
"ـ أيما خير أنا أو أنتم؟
قالوا: ـ بل أنت يا أمير المؤمنين.
قال:
فأيما خير أمي أم أمهاتكم؟
قالوا:
ـ بل أمك يا أمير المؤمنين.
قال
ـ فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه، فيقول فعلت أم فلان، وصنعت أم فلان، وقالت أم فلان؟
قالوا:
ـ ما أحد منا يحب.
قال:
فما بال الرجال يأتون أمي فيتحدثون بحديثها؟" ص282و283، بهذا الشكل تم تحجيم دور "الخيزران" ومنع رجال القصر من الحديث معها، وهذا يعطي إشارة إلى العداء والتباعد بينهما، فحالة عدم الحب لم تكن من الأم وحسب، بل من الابن أيضا، الذي عمل على وضع السم لها في طعامها، لكن حدسها وفراستها جعلها تحجم عن تناول الطعام وتلقي به إلى الكلاب التي ما أن أكلته حتى نفقت.
الجواري
عالم الجواري والغلمان والعبيد كان أحدى أهم مظاهر الترف الاجتماعي والاقتصادي الذي لازم العصر العباسي، فالجواري والغلمان الذين كانوا يؤتى بهم من الغزوات لم يتوقف تدفقهم على القصور، فهم أحدى السلع ووسائل الترف والبهجة للأصحاب النفوذ.
وبما أن بطلة الرواية كانت جارية فلا بد من تناول هذه الفئة من المجتمع العباسي وكيف كان ينظر للجواري، "...منهم من كان يستمع لحديث فتاة حديثة السن، وآخر ينصت باهتمام لامرأة وهي تغني له، ورجل يتهامس مع فتى حسن الهيئة جميل المظهر.... من أراد أن يتخذ جارية للمعة فليتخذها بربرية، ومن أراد للولد فليتخذها فارسية ومن أرد للخدمة فليتخذها رومية" ص 54، من خلال هذا المشهد نجد حالة الترف التي يعيشها اصحاب النفوذ وكيف أنهم يستعبدون الناس، رجال ونساء، صغار وكبار، وفهم ليسوا أكثر من سلعة تباع وتشترى، ونجد أيضا معرفة وتفصيل لهذه السلح (الجواري) فهناك من هي متخصصة للجنس، وأخرى للإنجاب، وأخرى للخدمة، وهذا التفصيل يبين حجم انتشار ظاهرة الجواري والعبيد في الدولة العباسية.
طريقة التعامل مع الجواري كانت بهذا الشكل، "ـ ألم يعلمك سيدك أن الجواري لا يسألن بل ينصتن لرغبة أسيادهن ويجبن بأجسادهن فقط" ص58، بهذا الحدث كان يتنامى عند "الخيزران" حالة التمرد والثورة على واقعها كجارية، وضرورة مواصلة طريقها لتتجاوز واقعها.
كما أن واقع الجواري والعبيد لم يكن سوي، كان فيه شذوذ جنسي،
"ـ ويحك.. إنها تأتي النساء كما يأتي الرجال النساء" ص65، معلومة أخرى تضاف إلى عالم الجواري، معلومة تبين عالمهم العبودي والشاذ، الذي لا يوجد فيه ما هو محرم أو ممنوع، فهم كالأنعام ليس أكثر.
أما كيف كنا يعشن في البيوت والقصور؟ فيحدثنا الراوي عن هذا الأمر قائلا: "فيه العشرات من الجواري السابحات في أسرتهن، فبهاء القصر لا يكتمل إلا بالجواري والهدايا والسبايا في ميادين الديار العباسية" ص163، هذا المشهد يؤكد ذروة الترف التي كان يعيشها العباسيون، فهم يعتبرون الجواري جزء من أثاث أو مظهر من مظاهر الطبيعة التي تسهم في راحة النفس وبهجتها.
كتأكيد على تفشي ظاهرة الجواري في المجتمع العباسي ينقل لنا الكاتب هذه الحقيقة، "فأم المنصور كانت جارية، وأم أبي العباس السفاح كانت جارية، والعديد من أمراء البيت العباسي هم أبناء جوار" ص212، فهذا الكلام يؤكد لنا بأن الجواري كان عددهن يتغلب ويتجاوز عدد الحرائر، ولهذا وجدنا أن القائدة والأمراء العباسيين امهاتهم جواري ولسن حرائر.
الطريقة التي مات فيها الخليفة "موسى" ابن الخيزران توكد عدم سوية التعامل جنسيا مع الجواري، فهذا الخليفة أراد أن يجامع أكثر من جارية في مرة واحدة، فكان هذا مصيره، "كان الهادي بأوج ذروته في أحضان جوار ثلاث رومية وفارسية وحبشية...لم يتمالك أنينه في سرير فتنتهن ولعنات أجسادهن، فلم يمهلنه طويلا حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ولهاث نحبه مختنقا اسفلهن هن الاتي لم يتعمدن قتله بل مداعبه وممازحته فقط بصلابة نهودهن وأردافهن كما كان يحب ويشتهي" ص294، إذن ممارسة الجنس لم تقتصر على واحدة فقط، بل كانوا يمارسونه بشكل جماعي، رجل مقابل ثلاث نساء، مما أرهقه جسديا وجعله يفقد قدرته على التنفس ثم الموت بهذه الوضعية، التي لا يقبلها أي رجل نبيل، الموت أثناء ممارسة جنس شاذ.
الجنس
لم يكن الزمن دولة الخلافة، يقل تعلقا واهتماما بالجنس، فاجنس حالة ملازمة للطبيعية البشرية، "باسم خندقجي" قدم لنا مشاهد جنسية غير صريحة، مشاهد من وراء الستار، من خلال إيحاءات، ولم يتعمق في التفاصيل، وهذا ما جعل طريقة تقديمه للجنس ممتعة ومشوقة وغير منفرة، فمن هذه المشاهد، " ...ثم مال عليها فشم شعرها ولثم أذنها وقبل شفتيها، فاستكانت حين بدأ بالهطول عليها، وهي تتشبث بشعر رأسه بشغف" ص78، بدون أدنى شك مثل هذا التصوير لا يقدم إلا من كاتب يتقن عمله الأدبي، ويستطيع أن يشير إلى الفكرة/الحدث الذي يريده دون أن يتناول التفاصيل المخجلة والفاضحة، فهو هنا قدم لنا فكرة الجنس بكلمات وتصوير رائع ومقبول، فالألفاظ التي استخدمت كان ناعمة وأدبية ومحتشمة.
ومن المشاهد الأخرى هذا المشهد، "... لفحها، أشعلها من أنامل قدميها حتى خدوش ساقيها واصلا إلى مطلع شعرها الليلي، تمتم بشعر العشق فارتعشت بين يديه وأنفاسه رخصة لينة قصيدة قمرية تتألق كارتعاش الضوء على نمش نهديها، لم يسعفها بل حط على حلمة نهدها بأرنبة أنفه فتوهجت انتصابا، ثم لثمها وعضها فازدادت رعشتها إثارة" ص91، هذا لشكل من تقديم الجنس يمثل ذروة التصوير الفني المتألق، فهو يرسم لنا مشهد جنسي بكلمات رائعة ولغة تتناسب وذلك الزمن، وفي نفس الوقت لا تجعل المتلقي الآن يشعر بصعوبة هضمها أو فهمها، كل هذا يعتبر تألق وابدع من قبل الكاتب.

التأثر بالقرآن الكريم
لكي يكون هناك انسجام بين لغة النص وزمان ومكان الحدث لا بد من يستخدم الراوي المفردات والألفاظ التي كانت رائجة في عصر ومكان الحدث الروائي، "باسم الخندقجي" استطاع اقناعنا بأن لغة النص هي ذات اللغة المستخدمة في عصر ومكان الحدث، وليس هذا وحسب، بل أعطانا شكل اللغة التي كانت سائدة، الألفاظ المتداولة وعرفنا عليها عن قرب.
وهذه المعرفة جاءت من خلال تضمين كلام الشخوص بالآيات القرآنية الصريحة، كما هو الحال في الصفحة 42 و71و116و فهنا كانت الآيات كاملة، لكن هناك تأثير بالقرآن الكريم جاء بشكل آخر، وذلك من خلال تخصيب الكلام بشيء من الألفاظ القرآنية، دون أن يكون هناك قصد أو اقحام من الراوي لهذا التضمين، وهذا ما جعل لغة الرواية أكثر اقناعا للمتلقي، فلغة الراوي ولغة الشخوص كلها كانت تتضمن المعرفة والتأثير بالقرآن الكريم.
من اشكال هذا التضمين، "..يرافقها نشيد حزين حتى مطلع الصباح" ص148، فهذا التناص يلامس الآية القرآنية من سورة "القدر" التي جاء فيها "سلما هي حتى مطلع الفجر"، وجاء أيضا ، " ...من هي في ريح المنصور الصرصر العاتية" ص149 وهذا أيضا يلامس التناص القرآني من سورة "الحاقة" التي جاء فيها: "فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا عاتية".
وجاء أيضا، " ...القادرة على هداية المهدي إلى الصراط المستقيم" ص151 وهذا أيضا يتماثل مع ما جاء في سورة "الفاتحة" "اهدنا الصراط المستقيم".
ويقول : "وتأتيه من حيث لا يحتسب" ص154، فهذا تناص مع سورة "الطلاق" التي جاء فيها "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب"
ويقول : "أخذته العزة بالإثم" ص157، الذي يلامس ما جاء في سورة "البقرة" التي جاء فيها "وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم"
ويقول: "حتى مطلع الفجر" ص191، أيضا مع تناص مع سورة "القدر" "سلاما هي حتى مطلع الفجر"
"القصر الصرصر العاتية" ص275، تناص مع سورة "الحاقة"، "فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا عاتية" "كل هذا يشر إلى تماهي الراوي مع النص ومع لغة الحدث ولغة الزمن والمكان ولغة الشخوص، فالراوي تحرر من ثقافته ولغته واستخدم لغة تتماثل تماما وعصر الحدث، وهذا من الحسنات التي تضاف للنص الروائي "مسك الكفاية"
الحكم والحكايا والقصص
كان يتضمن كلام السلف العديد من الحكم والأمثال، فنجد بعضا من هذه الحكم كما يلي: "أن تحرص على أحدهم فإن هذا يعني حبنا له" ص148، وجاء أيضا: "لقد تركت لكل ثلاثة أنواع من الناس: الفقير الذي يتوقع أن تعينه والخائف الذي يتوقع أن تحميه، والسجين الذي يتوقع أن تطلقه، فـأوسع لهم دون إسراف" ص216، وجاء : "الشهوة إذا عصت تصبح إثمنا وعدوانا... إياك وانفلات الشهوة" ص230" .
ونجد أيضا عدد من القصص التي الشعبية والدينية التي كانت متداولة في ذاك الزمن، منها قصة الزهرة والملكين، وهناك شيء عن الإثمد التي تكتحل به النساء والتي فسر وجدوه بها الشكل، "ـ .. أن أحجار الإثمد الصغيرة المتناثرة في بحر الصحراء كانت قد سقطت من أيدي الحور العين اللواتي كن يكتحلن به في الجنة ليزيدهن بهاءا وعفة وجمالا" ص171، ونجد شيء عن زرقاء اليمامة، وهناك حديث عن "المسرب السري" في الصحراء وما يحمله من أفكار خرافية، كل هذا يجعل المتلقي ينسجم مع النص ومع مكان وزمان الحدث.
الصراع على السلطة
كما قلنا سابقا هناك تقديم وردي للتاريخ وللأحداث التاريخية، وهذا يهدف إلى جذب الناس للفكر الديني، وجعلهم ويميلون إليها، لكن "باسم خندقجي" يصر على كشف حقيقة التاريخ وما فيه من احداث، فهو لا يريدنا أن نكون "صما عميا"، بل مبصرين، عارفين، قادرين على التحليل والتفسير والتقدم من الحقيقة كما هي، لا كما يصورها البعض.
بداية تشكيل الخلافة العباسية تعرض المناوئين لها لأشد أنواع التنكيل، ومن ضمن ما تعرض للتنكيل العباسي "آل علي" الذين تعرضوا للتعذيب والتقتيل، "... شرع في حبس وتعذيب آل علي في سجن المدينة، وإستقدم معظمهم إلى سجن البصرة مغلولي الأيدي والأعناق، فأذاقهم صنوف الهول والعذاب بسبب تسترهم ودعهم للنفس الزكية.
فقضى العديد منهم من شدة التعذيب، حتى أن عبد الله بن حسن والد النفس الزكية أسمع أبا جعفر آلامه وعذابه قائلا له:
ـ والله يا أبا جعفر ما هكذا صنعنا بأسراكم يوم بدر" ص37، بهذه الطريقة تعامل الخلفاء مع معارضيهم، فهم لم يتركوا وسيلة إلا وتبعوها لتروض واخضاع خصومهم، وما قاله "عبد الله" يبين الخلفية الفكرية التي تعتمد عليها المعارضة للخلافة العباسية، "فآل علي" يعتبرون أنفسهم أحق بالخلافة من غيرهم، لكن العباسيين أيضا استخدموا منهج فكري يدعم حقهم في الخلافة، والرسالة التي وجهها "أبو جعفر المنصور" إلى "النفس الزكية" تحمل تفنيد لأحقية "آل علي"، وتؤكد حق العباسيين في الخلافة، من ضمن ما جاء في رسالة "أبو جعفر المنصور"، "...فأما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب فإن الله لم يهد من ولدها أحدا إلى الإسلام، وأما ما ذكرت من أنك ابن الرسول (ص) فإن الله عز وجل أبى ذلك وقل: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبين وكان الله بكل شيء عليما".
ويضف "أبو جعفر المنصور" حقائق تاريخية عن أوضاع "آل علي" قائلا: "ثم خرج منكم غير واحد فقتلتكم بنو أمية وحرقوكم بالنار وصلبوكم على جذع النخيل حتى خرجنا عليهم فأدركنا بثأركم إذا لم تدركوه ورفعنا أقداركم وأرثناكم أرضهم وديارهم بعد أن كانوا يلعنون أباك في أدبار الصلوات المكتوبة كما تلعن الكفرة" ص42، فهنا لا مجال لتقديم الخلافة/السلطة الإسلامية بشكلها المثالي والوردي والزاهي، فها هو أحد الخلفاء العظام والمؤثرين في التاريخ العربي الإسلامي يتحدث عن بطش وجور وظلم وقع أيام الأمويين، كما أنه يتحدث بكل وضوح عن الصراع والنزاع على السلطة بينه وبين آل البيت (آل علي).
وهذا الكلام يفند كل الأشكال والصورة الخادعة والبعيدة عن الواقع بعد الأرض عن السماء.
يقدما الراوي من حقيقة الأحداث التاريخية التي جرت وما فيها من دماء وقتل وتشريد وتعذيب ونزاعا وصراع. وها وهو الخليفة المهدي يحدثنا بكل وضوح وجلاء عن طبيعة الدولة العباسية فيقول للخيزران: "إن عماد هذه الدولة وسر عزيمتها سنة الدم وإفناء الذين يقفون في وجه سلطان بني عباس" ص155، فهل يوجد وضوح وتصريح وإقرار أكثر من هذا؟،
لم تقتصر عملية التصفية على المعرضة وحسب، بل طالت أولئك الذين خدموها وعظموا شأنها، والذي فعلوا المستحيل في سبيل تثبيت أركانها، "فأبو مسلم الخرساني" أحد أعمدة الدولة العباسية والذي أخضع العديد من البلدان للعباسيين، ومع هذا تم التخلص منه والقضاء عليه بعد كل الخدمات التي قدمها.
كل هذا البطش والقتل للحفاظ على بقاء السلطات بيد العباسيين وإبقاء ولاء الرعية لهم وليس لغيرهم، ونجد في الحوار الذي دار بين "أبو جعفر المنصور" وبين "أبو مسلم الخرساني" ما يؤكد الظلم والجور الذي وقع على من يمكن أن يكونوا منافسين للعباسيين على السلطة، حتى لو كانوا يخدمون الخلافة، "...قال الخليفة: فأخبرني عن تقدمك إياي في الحج؟
قال: كرهت اجتماعنا على المياه فنضر بالناس.
قال الخليفة: فأخبرني عن ستمائة ألف من المسلمين قتلتهم صبرا.
قال: لتستقيم دولتكم.
قال الخليفة: فلم أردت أن تذهب إلى خرسان مخالفا معاصيا؟
قال: مني شيء فأردت المقام هناك وأكتب إليك.
قال الخليفة: فأخبرني عن نصلين أصابهما من متاع عبد الله بن علي؟
فاستل أبو مسلم سيفه وناوله إياه قائلا: هذا أحدهما.
هز أبي السيف وتفقده ثم وضعه أسفل العرش قائلا له:
ـ ما تقول فيمن سل على مولاه سيفا؟
قال: يقتل به.
قال الخليفة: فقد سللته.
قال: ما سللته عليك بل لك.
...ثم صفق بيديه وصاح بأعلى صوته:
ـ إلي برأسه" ص156و157، بهذا الشكل تم تعامل الخلفاء مع كل من يشكل عليهم خطر أو من يمكن أن يشكل عليهم خطر في المستقبل، وهنا يزيل الشك فيما جرى من أحداث دموية على مر التاريخ الإسلامي، فقد كان الأخ يقتل أخاه ليستأثر بالسلطة.
الرواية من منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2014.



#رائد_الحواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحرية والأمومة في مسرحية -المدعوة- فرانسوا دو كوريل
- الطرح السياسي في رواية -فرسان الحرية- هشام عبد الرازق
- حب المرأة في رواية -يافا- نبال قندس
- تغير خرائط سايس بيكو
- بحث تاريخي في كتاب -توازن النقائض- سليمان بشير
- ثلاثة شخصيات ولغة واحد في رواية -عرافو السواد- داليا طه
- التناسق والانسجام في مسرحية -وجهة سفر-
- السخط في ديوان - الساعة الناقصة- فايز مقدسي
- المرأة والرجل في رواية -امرأة للفصول الخمسة- ليلى الأطرش
- الارهاب والفساد في رواية -ذاكرة الماء- واسيني الأعرج
- انتصار المرأة في رواية -الحضارة أمي- إدريس الشرايبي
- التجربة في رواية -المرآة مسيرة شمس- هديل الحساوي
- تعدد القراءات في ديوان -عشق- حمودة الشايجي
- السيرة المحفزة للمعرفة -رام الله التي هناك- محمود شقير
- الكويت تنقذ جمهور القراء
- -في اللغة والأدب وعلاقتهما بالقومية- ساطع الحصري
- المعرفة بالشعر في ديوان -وسائد حجرية- مازن دويكات
- البداية المتسرعة في مجموعة -خارج الصورة- محمد المقادمة
- العنوان مفتاح المضمون في ديوان -ضجر الذئب- يوسف أبو لوز
- تأثير النت


المزيد.....




- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - حقيقة التاريخ في رواية -مسك الكفاية- باسم الخندقجي