أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - توفيق أبو شومر - كيف كنتُ آكلُ البطيخ؟!!















المزيد.....

كيف كنتُ آكلُ البطيخ؟!!


توفيق أبو شومر

الحوار المتمدن-العدد: 5203 - 2016 / 6 / 24 - 19:59
المحور: كتابات ساخرة
    


اخترتُ هذا اليومَ قصة مُعلَّبةً في ذاكرتي عن طريقة أكل البطيخ، كما كنتُ أفعلُ، في خمسينيات وستينيات القرن السالف.
أمي كانت هي التي تشتري لنا البطيخ من السوق، وتحمله في سلةٍ موضوعة فوق كعكةٍ من القماش فوق رأسها، مسافة أكثر من كيلومتر، وما إن تدخل البيت حتى نُهرع لرؤية محتوياتها.
إذا كانت هناك بطيخةٌ كبيرة، أو بطيختان، فإنني كنت أشعر باللذة لوجبة الغداء، فأنا أظلُّ مسكونا بطعم البطيخ الحلو، بشرط أن تُصاحبَه الخطوات التالية:
أن أتولى شخصيا شقح البطيخة بالسكين المنزلي، ذي النصل الخشبي غير الموضب، والذي صنعه والدي من فرع شجرة برتقال، كنتُ أحتكرُ عملية الشقح، لا، لأنني بارعٌ فيها، بقدر ما أطمحُ إلى تذوق القطعة الدائرية الأولى، وهي عنقها، ولأكتشف أنني كنتُ مُصيبا حين حكمتُ على نضجها، هل هي ناضجة حلوة؟ أم وردية اللون؟ أم قرعاء، بيضاء؟
بعضُ أنواع البطيخ، مخلوقٌ، وعلى غلافه الخارجي دليل إلهيُ، يُبيِّنُ طريقة شقحه، مرسومة بخطوط واضحة، كنتُ أجد لذةَ، وأنا أتابعُ حركة السكين، وفق الكاتلوغ الإلهي للبطيخة.
أما إذا كانتْ البطيخة بلا كاتلوغ خارجي، بأن تكون كلها خضراء لدرجة السواد، كنتُ أصنع لها خطوطا تمهيدية بالسكين، وحتى لا يغضب والدي، المحتجِّ دائما على كِبر الشقحات، لأن عدد الشقحات لا يتناسب مع عدد أفراد الأسرة التسعة، فقد كنتُ أتجنب نقده، وأقوم بترقيق الشقحات!
وما إن أنتهي من الشقح، حتى تبقى أهم قطعة في البطيخة، وهي قلبها، وهو الأكثر حلاوة، وهذا أيضا يحتاج إلى تقسيم آخر قبل أن أُبعد السكين من الصينية الحديدية للمائدة البطيخية، كنتُ أقوم بخطة سريعة فأحجز نصيبي من الُّلب.
في الغالب كان الأبوان يتركان اللب الأحمر الناضج لنا، نحن الأبناء، وكان الاثنان يتركان مائدة البطيخ في وقتٍ مبكِّر، كنا نظنّ أنهما شبعا من البطيخة، أدركت خطئي عندما كبرتُ، وصار لي أبناء، فالآباءُ يُضحون بلذائذهم، ويسعدون عندما يرون أبناءهم يلتذون، حتى وإن كانوا يشتهون!
ليس من المبالغةِ القولُ؛ إن وليمة البطيخ، هي الوحيدة، التي اعتدنا أن نراجعها مرةً أخرى، ففي المرة الأولى يحتاج الآكل إلى السرعة الفائقة، حتى يظفر بنصيبٍ كبير، لأن كل جيلنا لم يكن مؤمنا بالتقسيم، بدءا من تقسيم فلسطين، وحتى تقسيم البطيخة، لذا فإننا كنا نمارس طقس مراجعة ما جرى أكله من الشقحات، فهناك من الإخوة الصغار، مَن يتركون كثيرا مِن اللباب، وهذا يخضع أيضا لمراجعة الكبار، كما أن لكل بطيخة عصيرا يبقي في قعر الصينية، كنا أيضا نتسابق على شربه!
لا تنتهي قصة البطيخة عند هذا السرد، فللقصة تتمة أخرى، عندما تستلم الأم بقايا البذور، والقشر.
للأمِّ أُسَرٌ أخرى، تخدمُ أسرتَنا، ولها نصيبُ في كرنفال البطيخ.
تخضع البذور أولا، لإعادة التدوير، تنتقي الأم البذورَ الناضجة، وتعزل البذور البيضاء، غير الناضجة، ثم تُغسل الناضجةُ بماء صافٍ، وتوضع في الشمس للتجفيف، تمهيدا لقليها وإضافة الملح لها، لتستخدم للتسلية، وبخاصة في سهرات المساء!
كنتُ أنا أُخبئُ كمية من البذورِ المقلية، استعداد لأمسية سينما وكالة الغوث الدولية، التي كانتُ تعرض لنا أفلاما مصرية شهرية في الهواء الطلق، كنتُ أعتقد أن مشاهدة الأفلام السينمائية، بدون قزقزة البذور، يحرمني من لذة متابعة أحداث الفيلم، فالقزقزة أثناء المشاهدة، تفريغٌ ضروري لإحداث الانسجام.
أما عن القشر، فهو غذاءُ رئيس لسرب البط، الذي يسكن دارنا، ويعيش فيها، قبل ولادة آخر أخوين لي، وأيضا لعائلة الدجاجة التي أفقستْ بيضها منذ أكثر من شهرين، وخرجتْ صيصانها العشرون، ذواتُ الألوان الزاهية الجميلة، فقد كنت أرى والدتي، وهي تقوم بخرط قشر البطيخ في مستويين، المستوى الأول، حيث القطعة الكبيرة للبط، أما الخرط الثاني الصغير فلصيصان دجاجتنا الأليفة، وكذلك بذور البطيخ غير الناضج، سعادة أمي بالتذاذنا بأكل البطيخ، تشبه سعادتها بالتذاذ البط والدجاج.
لم تنتهِ قصة أكل البطيخ، فقد كنتُ مغرما بأكل البطيخ أيضا، ولكن في مكانٍ آخر، غير البيت، في سوق يوم الثلاثاء، فقد اعتاد بائع البطيخ أن يحضر للسوق بعربة الكارو المملوءة بالبطيخ، ثم يفرد بطيخه على الرمل، في انتظار الشارين، بائعُ البطيخ هذا ليس كالبائعين الآخرين، فقد كان بائعو البطيخ كثيرين، غير أن البدوي، سالم، له بسطة بطيخ مميزة، بطيخُه، لا يشبه بطيخ الآخرين، بل كان بطيخا مشوَّها في صورته الخارجية، صغيرا، أو ملفوحا بالشمس، أو ليس مستويا، أو ينزُّ من جرحٍ في غلافه الخارجي، ولا يجذب الشارين، فاخترع سالم طريقة أخرى لبيع محصول بطيخه غير المعتاد، بطريقة أخرى، فأفسح مكانا مُظلَّلا ببطانية خاكي مربوطة بالكارو ومرفوعة بفرع من شجرة لوز جافٍ، خلف بسطته في السوق، لتصبح مطعما لتناول البطيخ، فقد اهتدى أن بطيخة لن يُباع، وما في أحشاء البطيخ من بذور أغلى بكثير من البطيخ نفسه، فربحه من البذور، أكبر من ربحه من بيع البطيخ.
كنتُ أنا وصديقٍي محمود، زبونا دائما عند سالم، وكان لي سعرٌ خاصٌ، لأنني حفظتُ شروط سالم، بطيخة كاملة كبيرة مشوهة من الخارج، فكان يبيعها لي بنصف قرش، أي (تعريفة)، ومن شروط سالم؛
أن تؤكل البطيخة في المكان، ولا يجوز أخذها للبيت، أو أكلها في مكانٍ آخر، وأن يقوم الآكل، أنا، بعد الانتهاء من أكل لُبِّها بفرز بذورها، وفرده في الشمس مع البذور الأخرى المفرودة فوق التراب، فالبذور تصبح من حق البائع، وليس من حق الشاري، ثم أُنفِّذ آخر الشروط، وهي وضع القشور في كيس من الخيش، يحمله سالم معه غذاءً لقطيع أغنامه!
كنتُ في مراتٍ عديدة، عندما أفرد بذور بطيختي في الشمس، آخذ بعض البذور الناشفة السابقة على وجبتي، أضعها في يدي وأشرع في قزقزتها عندما أغادر المكان، بلا تحميص، أو تمليح، ولم أكن أستأذن سالم، ولكنني كنتُ أعلم أنه يعرف ذلك.
بطيخ الحاج سالم، ما يزال يسكنني حتى اليوم، لا للذته فقط، بل لأننا كنا أفضل الأصدقاء لبيئتنا، فبعد انتهاء السوق لا نجد أثرا للنفايات، فقد كان جيلنا جيلا بلا نفايات، يُعيدُ تدويرَ كلِّ شيء!



#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انتهاء صلاحية الإنسان العربي
- مقال مرفوض بمناسبة الأعياد اليهودية
- في فقه العلاقات الإسرائيلية الروسية
- لماذا تسعى إسرائيل لإفشال مؤتمر باريس؟
- تسونامي ليبرمان الجديد
- هل غزة فاشستية؟
- فلسفة للتبرير، وليس فلسفة للتنوير والتغيير
- تدمير بُنية الأجيال
- الاحتلال الفرعوني لتل أبيب
- جربوا مطاعم المحبة
- ضحايا التيار الكهربي
- هل الثقافة نقيض العولمة؟
- لماذا رفضوا مقالي عن الأميرة دايانا؟
- جيل السندوتشات الثقافية السريعة
- خبرٌ جديد، ومقالٌ قديم
- كلمات إلى أنصار( العصا التربوية)!
- نفي الفلسطينيين إلى المملكة العربية السعودية
- الكتاب المطرود من رحمة الأزهر 3-3
- قصة العجوز والأيباد!
- الكتاب المطرود من رحمة الأزهر 2-3


المزيد.....




- الأدب الروسي يحضر بمعرض الكتاب في تونس
- الفنانة يسرا: فرحانة إني عملت -شقو- ودوري مليان شر (فيديو)
- حوار قديم مع الراحل صلاح السعدني يكشف عن حبه لرئيس مصري ساب ...
- تجربة الروائي الراحل إلياس فركوح.. السرد والسيرة والانعتاق م ...
- قصة علم النَّحو.. نشأته وأعلامه ومدارسه وتطوّره
- قريبه يكشف.. كيف دخل صلاح السعدني عالم التمثيل؟
- بالأرقام.. 4 أفلام مصرية تنافس من حيث الإيرادات في موسم عيد ...
- الموسيقى الحزينة قد تفيد صحتك.. ألبوم تايلور سويفت الجديد مث ...
- أحمد عز ومحمد إمام.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وأفضل الأعم ...
- تيلور سويفت تفاجئ الجمهور بألبومها الجديد


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - توفيق أبو شومر - كيف كنتُ آكلُ البطيخ؟!!