أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبد المنعم عرفة - عبادة الملائكة الروحانيين.. [1] الصوم كما يراه الإمام أبو العزائم















المزيد.....



عبادة الملائكة الروحانيين.. [1] الصوم كما يراه الإمام أبو العزائم


محمد عبد المنعم عرفة

الحوار المتمدن-العدد: 5200 - 2016 / 6 / 21 - 08:41
المحور: الادب والفن
    


قال الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم:
(الحمد لله فرض الصيام ليجمل الصائمين بجمال عمار ملكوته الأعلى، ويرفعهم على ملائكته المقربين بجهادهم أنفسهم قهرا لها على ترك ما لا غنى لها عنه من طعام وشراب نهاراً، ومن نوم وراحة ليلا، ففرض سبحانه علينا صيام النهار، وسن لنا (ص وآله) قيام الليل، والصلاة والسلام على من أكمل الله به دينه الذي به نيل السعادتين، وأتم علينا به (ص وآله) نعمته التي بها كمال النفس بمعرفة الله وعلم أيامه وأحكامه، وحكمة أحكامه، وكمال الجسم بما بينه لنا (ص وآله),بعمله وقوله وحاله من أنواع العبادات والقربات، ومكارم الأخلاق وجمال المعاملات، حتى أصبح المسلمون وهم في هياكلهم الإنسانية وعلى وجه الأرض كلهم ملائكة مقربون، بما تجملوا به من العمل لنيل محاب الله ومراضيه سبحانه، ورضوان الله تعالى يغشى رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقاموا لربهم ونبيهم بما نالوا به فضله سبحانه، ورضوانه الأكبر من أفراد الصحابة وأبدال السلف وأئمة الخلف، خصوصا العاملين منهم في هذا الزمان الذي صارت فيه الفتن كقطع الليل المظلم، وهم على ما كان عليه السلف الصالح كالأنجم المضيئة في ظلمة الليل الحالك، لا تشغلهم زينة الحياة الدنيا ولا تنسيهم محنها ذكر الآخرة والعمل لها.

وبعد:
فيقول خويدم الفقراء محمد ماضي أبو العزائم، إن الواجب المقدس على كل المعاصرين لي وخصوصا لمن عرفتهم من أحبابي في الله المسارعين إلى العمل بما كان عليه سلفنا الصالح، الزمنى أن أحب لهم ما أحبه لنفسي، في أوقات فرض الله علينا عمارتها بالصيام والقيام فيها له سبحانه بنوافل البر، وكان شهر رمضان المعظم خير شهور السنة لأن الله فرض صيامه وسن رسول الله (صلى الله عليه وسلم وآله) لنا قيامه، وبيّن لنا بقوله فضله، وبعمله الشريف قدره، فكتبت لنفسي ولأخوتي المسلمين جميعا، ما أحب أن أقوم به بتوفيق الله وحسن عنايته، لنفوز بمعية رسول الله (صلى الله عليه سلم وآله)، وجوار الأحبة في فردوس الله الأعلى، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

الصيام هو الفريضة التي هي ترك في الحقيقة وهو العمل الروحاني الذي يصير الإنسان فيه كالملائكة الروحانيين، لأن الإنسان يترك فيه ضروريات الحياة الجسمانية ولوازم النفس الحيوانية. والصوم رمز يشير إلى أن الإنسان (حيوان وملك) فهو بقوته الحيوانية يعمل أعمال البهائم. وبقوته الملكية يعرف الله ويعبده، ويتشبه بسكان ملكوته الأعلى، فيترك لوازم قواه الحيوانية بالصوم ليتذكر قوته الملكية وليطهر نفسه من كثافة التوسع في الأعمال الحيوانية، فإن النفس يقوى طمعها وميلها إلى الحرص والأمل والحماقة والخيانة وبغض بنى قومه كلما توسعت في كل ما يقوي الجانب الحيواني منها، ويكون بذلك بعيدًا عن رتبة الإنسان، قريبا من الأنعام لتشبهه بها فإذا قلل من ضروريات حياته الحيوانية وتشبه بحياته الملكية من الصوم والتفقه كان أشبه بالملائكة منه بالحيوان، وكان الصيام تزكية لنفسه وشفاءا لها، من أمراضها وصفاءاً لجوهرها، حتى تتكمل بكمالها الحقيقي، الذي تكون به في مقعد صدق عند مليك مقتدر تخدمها الملائكة.
فالصوم عبادة من حيث أنه فرض فرضه الله، وشفاء من حيث أنه يرد للنفس صحتها، وتزكية من حيث أنه جلاء للنفس من التطرف عن الحالة الوسطى التي هي الفضيلة، وبه تتجمل النفس بالرحمة والصلة والبر والإحسان والتواضع، فيكون الصائم عبدا عاملا لله بتركه ما نهاه الله عنه من الأكل والشرب وملامسة النساء، مما أباحه الله له في غير رمضان، وبذلك يكون متجملا بجمال الروحانيين، ومتخلقا بأخلاق الله من الرحمة والعطف والإحسان والود والشفقة ويكون مجاهدا نفسه في ذات الله لحبسها عن شهواتها فيكون له- بإطاعة الأمر- النعيم المقيم ويحظى بالتشبه بالروحانيين في مشاهدة ملكوت الله، وبالتخلق بأخلاق الله- بنعيم النظر إلى وجهه الكريم سبحانه.
فما أيسر ما ترك، وما أعظم ما نال!!

من معانى الصيام
الصيام جهاد الجسم، وسياحة العقل، ومشاهدة الروح ومن صام بتلك الحقائق فقد نفذ من أقطار السموات والأرض بسلطان الحق، ومن صام صيام أهل العادة فترك الأكل والشرب وملامسة النساء، ولم يجاهد جسمه ولم يسح بعقله ولم يشهد بروحه، فليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ولا من قيامه إلا العناء والسهر.
والصيام التجرد من الإنسانية بعد التجرد من الحيوانية وكيف لا يكون كذلك وأنه تعالى يقول {إنى نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } لأن الصيام خروج عن مرتبة الإنسانية، للاتحاد بالمكانة الملكوتية، فالصائم لا يتكلم مع الإنسان مع أنه مجانسه ومشاكله، وقال سبحانه: (قال أيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) مريم 10 فنفت الآية الأولى كلام الأناسى وأثبتت الكلام مع الملائكة، وفى الآية الثانية نفت كلام الأناسى ولم تنف الكلام مع الملائكة، وذلك لأن الحقائق الحيوانية أمسكت عما تقتضيه المجانسة، مجاهدة لتفوز بالمشاهدة، رزقنا الله الصيام الذي به نجانس العالم الأعلى إنه مجيب الدعاء رب العالمين.
والصيام تجريد مما يناسب الإنسانية، وتخلية عما يناسب الملكية، واتصال بعالم اللاهوت في صورة الناسوت وهو العجب العجاب.
والصيام ترك ما تحب، مسارعة إلى ما يحب سبحانه، وخروج من سور الحيطة (3) والتحديد وباعث الشهوة (4) والتجديد بل ولوازم الحياة الإنسانية تشبها بأخلاق رب البرية.

فرضية الصيام
الصيام فريضة على كل مسلم قال تعالى: {يايُهَا الذَّينَ امَنُوْا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اُلصَيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبّلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أيَّامَاً مَعّدُودَات فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَةُُ مِن أيَام ٍأخَرَ وَعَلَى الَذينَ يُطِيقُونَهُ فِدَيَةُُ طَعَامُ مِسّكِينٍ فَمَن تَطوعَ خَيْراًً فَهُوَ خَيْرُُ لَهُ وَأَن تَصُومُوا خَيرُُ لَكُمْ إن كُنُتمْ تَعْلَمُونَ } (يا أيها الذين آمنوا) أي يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله (كتب عليكم الصيام) أي فرض، والصيام لغة مصدر صام وهو الترك، والصيام شرعا هو الإمساك، ومن تدبر الصوم فعلم أن الله تعالى حرم علينا في الصوم ما أباحه لنا في الفطر من صغيرة وكبيرة. فقول الفقهاء الإمساك عن شهوتي البطن والفرج يقتضي حبس جميع الجوارح عن الاستطالة فيما أباحه الله تعالى من الضروريات، فلا يسمع ما يكره سماعه شرعا، ولا يتكلم ولا يشم ولا يمس إلا بقدر الضرورة، مع مراقبة أنفاس الصوم واستحضار أنه صائم. ومن أمسك عن شهوتي البطن والفرج وتوسع بالجوارح فيما أباحه الله أو تعدى حدود الله تعالى فقد انتهك حرمة الصوم. وفاته من أجر الصيام بقدر ما أفرط به من جوارحه وهذا هو الصيام شرعا.
(كما كتب على الذين من قبلكم) ووجه الشبه جائز أن يكون في حكم الفريضة فقط، وجائز أن يكون فيها وفى تعيين الزمان والعمل، فإن كان الأول فيكون تعيين زمان صيامنا وبيان مقداره في كل يوم خاصا. وهذا ما يظهر بدليل قوله (أياما معدودات) وبما ورد أن الصيام كان أول فرضه ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ بقوله تعالى (شهر رمضان) وبدليل الفدية التي جعلها الله رحمة بنا في أول عهدنا بالصيام بعد أن أباح للمريض والمسافر القضاء في هذه الآية، ثم نسخ هذا الحكم بآية قوله تعالى (شهر رمضان) وذكر المريض والمسافر أيضا بيانا للناسخ والمنسوخ، وإن كان الحكم الثاني- وهو أن وجه الشبه المطابقة في كل معاني الصيام- يكون الذي فرض علينا هو ما فرض على الذين من قبلنا وهو شهر رمضان، وكان الصائم يترك الأكل والنكاح من صلاة العشاء إلى صلاة العشاء، حتى خفف الله عنا بقوله تعالى (كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) وبقوله سبحانه (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) إلى آخر الآية. وقد ورد هذان التأويلان عن أفراد من الصحابة.
وقوله تعالى: (لعلكم تتقون) أي تتقون من الوقوع في المفطرات فتنالوا بتقواكم رضوان الله تعالى.
قوله تعالى: (أياما معدودات) منصوبة على الظرفية بنزع الخافض أو أنها مفعول به لفعل محذوف تقديره أن تصوموا أياما معدودات، وتأولها عطاء أنها صيام ثلاثة من كل شهر بحجة أن الشهر لا يقال له أياما معدودات، وقال بعضهم أن الأيام المعدودات هي شهر رمضان وأن الثلاثة الأيام التي كان يصومها (صلى الله عليه سلم وآله)، قبل نزول الآية كانت تطوعا، وهذا هو الأولى لسياق الآية، لأنه لم يرد نص صريح ولا برهان على أن الله فرض علينا أولا صيام ثلاثة أيام, وعليه عمل الأمة سلفا وخلفا.
قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) يبين الله لنا أن المريض الذي لا يقوى على الصيام خوفا من تأخير برء أو زيادة مرض، فالحكم أنه يفطر ويقضي عدة الأيام التي أفطرها بعد شفائه، وأن المسافر الذي لا يقوى على مشقة السفر يفطر ويقضى عدد الأيام التي أفطرها، ملاحظا حرمة الشهر في بقية الجوارح، حتى يكون من أهل التقوى الصائمين بكل الجوارح إلا البطن.
قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) رفع الله تعالى عن المريض وعن المسافر مشقة الصوم رحمة بهما، وخفف عمن امتحنهم بفرض الصيام فرخص لهم في الفدية عن الصيام حتى نسخ هذا الحكم بالآية التالية. وجائز أن يكون طاق يطيق قام به بسهولة، وأطاق يطيق كعسر عليه أو صعب كالشيخ الهرم وكالمرأة الحامل والمرضع، إن طال حملها ورضاعها وظهر ضعفها، أو كمن لا يجد محلة يأوي إليها عند(صلى الله عليه سلم وآله)، فطره وسحوره حتى يجد، فإن وجد صام بقية الشهر وقضى عدد الأيام التي أفطرها، ويكون حكم هذه الآية لم ينسخ بالنسبة لمن ذكرناهم.
(فدية طعام مسكين) الفدية هي ما يفديه المفطر، بدلا من صومه للمسكين طاعة لحكم الله تعالى، والفدية هي صاع من بر أو شعير أو طعام، ولفظة فدية مرفوعة على أنها خبر لمبتدأ محذوف أي فحكمة فدية أو مبتدأ لخبر محذوف تقديره فعليه فدية.
(فمن تطوع خيرا فهو خير له) والتطوع هو نوافل البر والمعنى أن الله يرغبنا في عمل الخير في رمضان، بأن من أطعم مسكينين عن اليوم أو أكثر كان ذلك تطوعا منه مقبولا. وقد بشر المتطوعين أن التطوع خير لهم عند الله ووعد الله العبد بخير لا تعلم نفس قدره.
قوله تعالى: (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) يبين الله تعالى لنا العمل الأفضل لديه بعد أن رخص للمريض والمسافر في الفطر وكلفهما بالقضاء، لأن القضاء يسقط العقوبة، ثم رغبنا في الأفضل فقال، وصيام المريض والمسافر خير له، لينال فضل صيام رمضان في رمضان (إن كنتم تعلمون) أي تعلمون خير الخيرين فتسارعون إليه وهو الصيام.
قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) عين الله لنا زمان فريضة الصوم بعد أن قال سبحانه (أياما معدودات) فشهر رمضان بدل من الصيام في قوله سبحانه (كتب عليكم الصيام) ولك أن تقول أنه خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ لخبر محذوف ومعنى ((شهر)) الشهرة لأن الشهر مواقيت لمصالح الناس وقضاء حوائجهم. ومعنى (رمضان) مأخوذ من الرمضاء التي ترمض فيه الفصال من حرارة الصيف، وسُمّىَّ بهذا الاسم لأنه جاء في زمن الصيف حال التسمية وجائز أن تقول: ترمض فيه معاصي العباد أي تزول بالصيام. (الذي أنزل فيه القرآن): أي الموصوف بإنزال القرآن. ومعلوم أن القرآن أنزل نجوما متفرقة، فكيف يصح أن يكون أنزل في رمضان؟! والجواب أن القرآن نسخته السفرة الكرام من أم الكتاب ليلة النصف من شعبان إلى ليلة الرابع والعشرين من شهر رمضان وأُنزل إلى سماء الدنيا في الليلة الخامسة والعشرون منه، وجائز أن يفتتح الله إنزال بعضه في رمضان فيكون كإنزال الكل. (هدى للناس) أي بيانا لما فيه سعادة العالم في دينهم وأخراهم وفى مصالحهم الدنيوية.
(وبينات من الهدى والفرقان) أي مبينة للحقائق التي بها تزكية النفوس، وتثقيف العقول، وعمارة القلوب بالغيب المصون، الذي ترتسم أسراره على جواهر النفوس. وهذا معنى (من الهدى).
وقوله (والفرقان) أي الايات الفارقة بين الحق والباطل فيما يتعلق بالأخلاق والآداب الاجتماعية المنزلية وبالمجتمعات في المدن, وبالمجتمع العام الإسلامى, وما يتعلق بتلك من أحكام في المعاملات التي تقتضي المعارضات والمفاوضات، وقد ينتج منها المعارضات فبهذا الفرقان يظهر العدل والميزان. فهذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه عليه الصلاة والسلام جامع لما يلزم الفرد والمجتمع من عقائد التوحيد ومن عبادة الله تعالى ومن أخلاق ومعاملات، من أول وضع النطفة في رحم الأم إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، قال عليّ عليه السلام (لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله).
وإنما سعد سلف الأمة بالعمل بما أنزله الله على نبيه عليه الصلاة والسلام وما ذل من ذل من الخلَف حتى تمكن منهم من كانوا بالأمس عبيدا يباعون في أسواقهم من بنى الأصفر إلا بمخالفة هذا الكتاب المجيد و(إنما يسعد آخر هذه الأمة بما سعد به أولها).
قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) أي من أدركه الشهر وهو بين أهله فالحكم صيامه، وقد تعينت فريضة صوم رمضان بقوله تعالى: (كتب عليكم الصيام) وبقوله تعالى: (فليصمه) في تلك الآية إشارة روحانية وهي أن تلقي هذا الكتاب المجيد لا يكون إلا بالروح المجردة من ملابسة مقتضيات الهيكل الإنساني.وإنما تحجب الروح بميل هذا الهيكل إلى لوازمه الضرورية والكمالية، وحرصها على تحصيلها وبذلك تحجب الروح عن مكاشفة الغيوب، بشغل الجوارح فيما يدعوا إليه الجسم، يأمرنا الله بصوم الشهر الذي أنزل فيه الكتاب، لأن الصيام رياضة تصفوا بها النفس فتتلقى أسرار القدس، لأن تلك الأسرار العلية لا تجانس المادة ولوازمها، ففرض الله علينا تزكية النفس بالصيام لتتأهل لقبول تلك الأسرار، ومن هذا نعلم أن السالك إلى الله تعالى يجب أن يجعل له رياضة خاصة بجهاد قاهر يكبح به جماح النفس، من الطمع في غير مطمع مما أباحه الله تعالى لنا مما يقوى به الدم، وتنفتح له العروق ويجعل الإنسان كالسبع الضاري لا يتسلى عن مألوفه، وقد عين الله تعالى زمن الصيام محدودا بعد أن أخبر عنه في الآية السابقة بأيام معدودات ولم يرد حكم صريح يعين عددها وزمانها إلا هذه الآية.
(فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) تقدم تأويلها ولم تأت هذه الآية هنا تكرارا لأنها بيان وتفسير للآية السابقة في التأويل الذي أولناه أن الآية السابقة المراد بها رمضان ولم يذكر هنا سبحانه (وعلى الذين يطيقونه) على هذا التأويل ببقائها على حكمها. وقد بينت ذلك محصورا في الرجل الكهل والمرأة العجوز وفى المرضع والحبلى كما قررنا.
(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العُسر) وقبل أن نكتب تأويل هذه الآية نبين سرا يجب رعايته. يقول الله تعالى (يريد الله) لفظة (يريد) هنا ليست من الإرادة الواجبة الوقوع بل هي من الإرادة المحبوبة لله التي هي الأمر. فإن الإرادة قسمان قسم واجب الوقوع وهي بمعنى قدر وقضى، وإرادة محبوبة وهي ممكنة الوقوع ,وهي بمعنى أمر ورغب كما قال تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم) وقال سبحانه (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) أي لا يأمر الله بالجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، وهنا يأمركم الله بالإفطار في حالة المرض والسفر تخفيفا عنكم بدليل قوله تعالى: (وأن تصوموا خير لكم) لأنها لو كانت من الإرادات الواجبة الوقوع لم يقل تعالى (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) وبهذه الآية يظهر لنا جليا أن الله تعالى لم يكلفنا بهذه الأحكام ليشق علينا أو يكلفنا ما لا نطيق، إنما ذلك لتظهر محبتنا له وإيثارنا لأوامره العلية وإخلاصنا لذاته في معاملاتنا وعبادتنا وأقوالنا وأحوالنا.

فرائض الصوم عند آل العزائم:
دوام رعاية القلب: لأن الصوم واجب لله تعالى وأنه يتقرب إلى الله تعالى به، لا رغبة في جنته ولا خوفا من ناره، لأنه بالصيام ترك شهوته وملاذه التي هي كالجنة. ومن ارتفعت همته فترك الجنة فهمته متعلقة بالله تعالى. ثم كمال الإخلاص في العمل بحيث يشهد معونة الله له في الصوم وتوفيقه معتقدا بالصوم سقوط ما فرض الله عليه طاعة لأمره.
ويتجنب الأكل والشرب والجماع إقبالا على الله تعالى ورغبة في نيل القبول منه سبحانه وهذه فرائض الصيام عند آل العزائم. وهذا الصائم يباهي الله به ملائكته وهو السائح في ملكوت الله تعالى المذكور في قوله (واستعينوا بالصبر والصلاة) البقرة 45 يعنى بالصوم ومن وفقه الله لتلك الفرائض لا يسهو عن صيامه نفسا.

فضائل الصوم عند آل العزائم:
من فضائل الصوم أن يحفظ جميع جوارحه مما يوقع في هفوة أو مكروه أو محرم، والتفصيل معلوم فإن الصائم متشبه بعالم الملكوت الأعلى الذين قال الله فيهم: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) فكيف يغفلون أو يقعون في محرم. وشر تلك الجوارح على الصائم اللسان والفرج, فإن كلمة قبيحة من الصائم تفسد صيامه وقصد الشهوة أو وجودها يفسد الصيام، والأولى لضعاف آل العزائم أن يتباعدوا عن مجالس الغافلين وعن طول الإقامة مع الزوجات صونا للصيام من المفسد, وإنما هو شهر لا يدري الإنسان أيعود له أم لا, فالأولى أن يتحصن بلباس التقوى ويعمر أوقات الشهر بخير القربات ليغتنم عظيم الأجر ويحرص أن يقلل الطعام والشراب والنوم, ولا يفطر إلا على ما يتحقق حله بعد الاجتهاد.
وخير عمل الصائم تلاوة القرآن بعد الفرائض، ونوم الصائم في الصيام خير من قيام الأحمق. قال رسول الله (صلى الله عليه سلم وآله) (نوم الصائم عبادة وصمته تسبيح ودعاؤه مستجاب) وآل العزائم لهم في رمضان مشاهد ملكوتية في نومهم بالرؤيا الصالحة وفى يقظتهم بدوام المراقبة.

الصائمون أربعة أنواع:
تارك لشهوته، وتارك لرغبته، وتارك لوجوده، وتارك لشهوده.
فالسالك يصوم بترك شهواته
والواصل يصوم بترك رغباته من كرامة وولاية وشهوة وحظ عاجل وآجل
والمتمكن يصوم مشاهدا أكمل مشاهد التوحيد فيرى الصيام بالله ولله ومن الله فيفنى عن شهود عمله فإذا لَحِظَه استغفر.
والمتحد يترك في صيامه شهود تلك المعاني وهو وارث مقام (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا هو صيام ورثة رسول الله (ص وآله) ولأبداله من الصديقين والشهداء شميم من هذا العبير.. وفى هذا المقام صيام أهل (لا حول ولا قوة إلا بالله). وهناك صيام فوق ذلك لمن ذاق حلاوة التنزل للماء المهين, فخذ بذوقك- الذي صورك هو الذي وفقك والذى جملك بمعاني الصفات هو الذي أقامك- فمن أنت إذا تحققت ؟!
والصيام سر من أسرار الصمدية فاحفظ السر عن غير أهله منحني الله وإياك صيام أهل الاتحاد إنه مجيب الدعاء.

آداب الصوم:
ثم نذكر خاتمه بها يكمل الصيام ويتم, وهو أن يفطر على طعام حلال لا شبهة فيه, وأن لا يستكثر من أكل الحلال بحيث يتدارك ما فاته ضحوة، فيكون قد جمع بين أكلتيه دفعة واحدة فتثقل معدته، وتقوى شهوته، ويبطل سر الصوم وفائدته, ويفضي إلى التكاسل عن التهجد، وربما لم يستيقظ قبل الصبح, وكل ذلك خسران, وربما لا توازيه فائدة الصوم.

القيام:
القيام في الشريعة، الصلاة في النهار قبل الليل, والتهجد بالصلاة في الليل بعد النوم, والقيام في رمضان سنة ويتأكد في العشر الأواخر من رمضان خصوصا في الليالى الوترية فإنه (ص وآله)قام فيها. قال (ص وآله): (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه).


حكمة الصوم
الحكمة الأولى:
وتشمل حكمة صحية,. وحكمة اجتماعية, وحكمة شرعية.

1- حكمة الصيام الصحية:
معلوم أن المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وأن أكثر الأمراض سببه المعدة، ولذلك فإن الطبيب يأمر المريض بترك الأكل والشرب في كل الأمراض، والخلاق العظيم أرحم بخلقه من أنفسهم، ومن رحمته بهم أمرهم بترك الأكل والشراب وملامسة النساء نهارا في رمضان، لتقوى المعدة وتصح الجوارح ويتوفر الدم، رحمة بهم وعناية منه سبحانه، وقبل منهم هذا العمل عبادة له سبحانه ووعدهم عليه بالنعيم المقيم، فسبحان من أمرنا بما هو خير - لنا وهو الغني عنا وعن أعمالنا- وأثابنا عليه بالجنة، وعبد يكرمه مولاه فيأمره بما هو صحة وعافية وخير، ثم يتفضل فيعطيه الجنة جزاء للعبد على ما هو نفع له، والعبد اللئيم يظلم نفسه فيخالف ربه فيقع في بلايا الأمراض في الدنيا وشديد العذاب يوم القيامة، أسأله سبحانه أن يعلمنا حكمة العبادة ويعيننا عليها حتى نسعد في الدنيا والآخرة.
بينت حكمة الصيام الصحية ليعلم الصائم أنه إنما يصوم لصحته وعافيته ولأن كل عضو من أعضاء الجسم يستريح عند النوم إلا المعدة والقلب فجعل الله الصيام راحة للقلب وراحة للمعدة لأن الصائم لا يحتاج إلى حركة تجهد المعدة للهضم, ولا يتولد دم غليظ من كثرة الأكل يتعب القلب.

2- حكمة الصيام الاجتماعية:
معلوم أن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بنفسه بجميع لوازمها كالحيوانات التي لا يحتاج فرد من أنواعها إلى مساعدة غيره في جميع لوازمه، فالإنسان الواحد يحتاج إلى كثير من الأناسى والحيوانات والآلات البخارية والكهربائية في نيل ما لابد له منه قال سبحانه (وتعاونوا على البر والتقوى...) إذا تقرر ذلك فالصيام يكسب قلب الأغنياء رحمة بالفقراء، وقلب الرؤساء عطفا على العمال، وقلب الملوك شفقة بالرعية فيصبح المجتمع كما قال سبحانه وتعالى:(رحماء بينهم)، وغني لم يذق ألم الجوع والعطش كيف يرحم الفقراء؟ ورئيس لم يحس بفقد مشتهياته خضوعا لسلطان الشريعة كيف يحسن إلى من ولاهم عمله؟! وملك لا يجاهد نفسه بالصيام كيف يعدل في رعيته ويمنح الأمة الحرية والمساواة؟.

فالصيام هو العمل الذي يزكي النفس ويهذبها، ويجعل الإنسان يحس بأنه عبد مقهور لقهار قادر وعابد لمعبود قوى، لا فرق بين الغني والفقير عنده والملك والمملوك لديه. فإذا نحن تركنا الصيام انقلبت النفس الإنسانية فصارت نفسا إبليسية أو وحشية، فأفسدت المجتمع بقدر ما تطيقة من تنفيذ أغراضها لنيل شهواتها. فالمسلم تارك الصيام شر على الأمة، شر على الوطن، شر على أسرته وعلى نفسه.
وأمة ترى مسلما يفطر رمضان ولا تقوم في وجهه مشنعة عليه ليرتدع، فتحت على نفسها أبواب غضب الله تعالى، لأن المفطر في رمضان دون عذر شرعي أغضب ربه سبحانه بمخالفة أمره ونبيه (ص وآله)بترك التشبه به- ورجل يغضب ربه كيف يرضي والديه أو قومه؟ ولعل الذين بحوا حناجرهم بقولهم يحيا الوطن وهم يحاربون الشريعة ويعقون الوالدين ويقطعون الأرحام- ظهرت لهم نتيجة أعمالهم بتسليط الأعداء عليهم، ولو عملوا بأوامر دينهم وبوصايا نبيهم لجمعهم سبحانه على الحق، وأعزهم وأذل أعداءهم... قال سبحانه (وما النصر إلا من عند الله)
فالصيام عمل يكسب الصائم رحمة وعزة واستجابة للدعاء، وبذلك يسعد المجتمع وتتحد الكلمة, وتصبح الأمة كالأسرة يكون رئيسها والدا عطوفا رحيما واثقا ببنيه, وتكون الأمة أبناء بررة واثقين بوالدهم, وتلك النتائج مقدماتها القيام بأحكام الشرع الحنيف.

3- حكمة الصيام الشرعية:
معلوم شرعا أن الإنسان هو المخلوق الوسط بين عالم الأرواح المجردة وعالم الحيوان، وهو خليفة ربه في الأرض منحه ما به يسخر كل الأنواع التي تحيط به فهى مخلوقة له، لا فرق بين ما في السموات من الأفلاك والأملاك والجنة وغيرها، وما في الأرض من الجمادات والنبات والمعادن والحيوانات، وما في الأجواء من الهواء والأمطار والسحب.. فالإنسان في الحقيقة ونفس الأمر له كل شيء، لأنه سبحانه خلق الأشياء وهو غني عنها، ومن نظر بعقله في العالم أعلاه وأسفله يظهر له أنه خلق لنفع الإنسان، وبقدر ما يناله الإنسان من العلم تكون له القدرة على تسخير جميع الكائنات، فقد يبلغ الإنسان بعقله أن يقهر كل شيء لينتفع به، وقد يبلغ بتزكية نفسه مقاما تخدمه الملائكة.
ولو علم الإنسان نفسه علما مؤيدا بنور الكشف لتضاءلت في عينه أكمل مراتب الدنيا، واضمحل في نظره كل خير فيها وفر بهمة لنيل كماله الروحاني ليفوز بالخير الحقيقي في جوار الأطهار حيث البقاء في مسرات الحياة، وصفاء العيشة، آنسه روحه بما يجانسها من عالم الطهر، وعقله بما يشاكله من جمال الآيات، وجسمه بما يطيب به من ملذات ومسرات، من غير شوب عناء أو جهاد ولا كدر انقطاع وزوال.

الصيام: اقتضته حكمة إيجاد الإنسان ممتعا بكل الحقائق، ومعلوم أن شكر النعمة متعين على كل منعم عليه, فعرض الله تعالى الصيام لنشكره سبحانه على نعمته علينا بتسخيره ما في السموات لنا من الأفلاك والأملاك والآيات والأسرار، وتسخير السحاب وتصريف الرياح.
ولما كانت الملائكة التي سخرها الله لنا أرواحا مجردة لا تأكل ولا تشرب ولا تلامس النساء، تقوم لنا بما لا غنى لنا عنه، وكذلك الأفلاك، لزمنا أن نتقرب إلى الله المنعم المتفضل علينا بترك الأكل والشرب عبادة له سبحانه، فإننا نشكره على تسخير ملائكته وأفلاكه لنا وهي أول حكمة من حكم الصيام.

الحكمة الثانية
أن الصائم يتحقق أنه عبد مملوك لله بطبعه، إذا أمره بترك ضرورياته لأن العبد لا يتصرف ولا في نفسه إلا بأمر سيده وفى ذلك من السعادة للعبد التي من أجلها رضوان سيده عنه، وإسباغ إحسانه عليه، مما لا يمكن للأرواح أن تشهده وهي في عالم الأشباح.

الحكمة الثالثة
أن الصائم أشبه الملائكة، فتكون لروحه ملكوتية تقتبس فيها نفسه قبسا نورانيا ملكوتيا تجمل به العقل والحس والجسم، فيلحظ الصائم أنوارا من الحكمة العلية وأسرارا من الآيات المنبلجة في نفسه وفى الآفاق، فيميل بكليته إلى الفضائل التي تجعله قريبا من ربه، متخلقا بأخلاقه، متصفا بصفاته من الرحمة والعطف والحنان، والإحسان والعلم والعرفان, مسارعا إلى نيل كماله الروحاني، لينفع نفسه وأهل عصره بما يناله من هذا الخير.

الحكمة الرابعة
أن الصائم يشعر من نفسه أنه تشبه بأفضل الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام، فيكون له من الفرح والبهجة وعلو الهمة ما يجعله يكره المعاصي ويتباعد عن ضرر الخلق، ويحسن إلى من أساء إليه وبذلك يعيش عزيزا في الدنيا آنسا بمعية الأخيار يوم القيامة.

الحكمة الخامسة
هي أن الصائم بإمساكه عن لوازم الحيوانية، يقل نومه وينشط لعمارة الأوقات بالعبادة وتحصيل العلم، وتلاوة القرآن، وتزهد نفسه في شهوات الحيوانات، وملاذ البشرية ومقتضيات الابليسية، حتى يكون في نومه مشاهدا لما تقتبسه روحه من العالم الأعلى، وفى يقظته مراقبا ربه، وبذلك تنكشف له غيوب بما يرد على قلبه من الروح لصفائها وراحتها من عناء تدبير الجسم الشهواني، فيكون الجسم مجانسا للروح، وفى هذا المقام يكون الإنسان أفضل من الملائكة، لأنه مجاهد، والملائكة مفطورون على الخير، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.


مراتب الصوم

أولا- صوم العامة:
ترك الأكل والشرب وملامسة النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

ثانيا-صوم العلماء:
ترك شهوتي البطن والفرج، مع حفظ الجوارح من الاستطالة، فإن الصوم إذا أطلق أريد منه الترك مطلقا.
ولكل عضو صيام بحسبه، فصيام اللسان ترك الكلام إلا في ذكر الله أو ما لابد له منه، وصيام الأذن ترك الإصغاء إلا إلى علم أو ما لابد منه قال سبحانه (إنى نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم انسيا).
والعلماء يمتازون عن العامة بصيام كل جوارحهم، ولكن العامة يصومون بترك شهوتي البطن والفرج، وشتان بين الصيامين.

ثالثاً- صوم العارفين بالله:
وصيام العارفين بالله عمارة الأنفاس في اليقظة بمراقبة الله تعالى، وعمارتها في النوم بسياحة الروح في ملكوت الله الأعلى، لتقتبس لطائف العوارف من عالم الطهر والصفاء،
وتعود إلى الهيكل الإنساني بتحف الروحانيين من حملة العرش والحافين حوله، لأنهم تركوا لوازم الحيوانية نهارا، فتشبهوا بالملائكة الكرام، وقاموا بين يدي مولاهم ركعا سجدا يبتغون فضله ورضوانه، فتشبهوا بعالم الطهر من عليين وأعلى عليين فإذا ناموا ليلا سرت أرواحهم الطاهرة إلى فضاء هذا العالم لأنها مجانسة له، هذا مقام فوق العبارة، بل فوق الإشارة, وقد ألمعت إلى غوامض هذا المقام في كتاب ((معارج المقربين)) و((النور المبين)) وكتاب ((الإسلام دين الله)).

رابعا- صوم المقربين:
أما صيام المقربين ممن أخلصهم الله لذاته، فهو تنزيه سر الصائم عن خطور ما سوى الله عليه، لأنهم شغلوا بالمعروف عن المعرفة، وبالمعلوم عن العلم بعد تحصيل العلم والمعرفة، وأهل هذا المقام عمرهم كله رمضان، إلا أنهم في هذا الشهر المبارك يتركون ما أباحه الله لهم نهارا، قياما بالفرض والسنة ورعاية لواجب الوقت،الذى لا يشغلهم عنه أعظم شأن من شئون المشاهدة، فان القيام بفرائض الله تعالى فوق كل مقام، ومن ظن أن الشهود يسقط الفرائض التي فرضها الله وقام بها رسول الله (ص وآله)، أوقع نفسه في مهاوي الهلكة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي الطويل ((وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلى من أداء ما افترضته عليه) رواه البخاري.
وأهل هذا المقام في صيام طول عمرهم ولو أكلوا وشربوا في غير رمضان نهارًا، لأنهم صاموا بست جوارح في غير رمضان، وصاموا في رمضان بثماني جوارح، وغيرهم يصوم في رمضان بجارحتين، وربما يفطر بالجوارح الباقية، فيكون صائما عند نفسه فقط، وإن أسقط بعلمه ما فرضه الله عليه، وطلب العلم فريضة على كل مسلم، وأول ما يسأل عنه المسلم يوم القيامة (هل تعلمت أم لا؟).

خامسا- صوم المحبوبين:
وهؤلاء يعلمون أن رمضان شهر الله تعالى، ونسبة هذا الشهر إليه سبحانه دليل على أنه يقرب من أوليائه فيؤنسهم فيه كما نسب إليه الكعبة فسميت بيت الله، فسارعوا إلى أن يعمروا الأنفاس بالحضور مع مولاهم، فحرصوا عليه كل الحرص، ونظروا إلى أمر الله في رمضان، فظهر لهم أنه حرم عليهم المباح في نهاره، ورغبهم في أحياء ليله بالقيام، فظهرت لهم حكمة عناية الله بهذا الشهر من التشبه بالعالم الأعلى، عالم الأرواح النورانية المجردة من العناصر السفلية، عالم اللطائف الروحانية الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، فساحوا بأرواحهم في فسيح الملكوت حضورا أو استحضارا وفكراً, وتجردوا عن وجودهم الباطل بالوجود الحق، وتخلقوا بأخلاق الله حلما ورحمة ورأفة وعطفا وكرما وإحسانا وفضلا، أحسنوا إلى من أساء إليهم ووصلوا من قطعهم، واستحضروا عظمة الله وجلاله، فانكسرت قلوبهم بين يديه، فكان سبحانه عندهم بما هو أهله من جمال وقرب وحب وولاية وعناية، أوحشهم أنسه عن كل أنس من سواه، وآنسهم بجماله ففروا ممن سواه وما سواه، وأقبلوا بكليتهم به سبحانه عليه، فكانوا كأنهم في ضيافة الله على بسائط مؤانسته وموائد كرامته، أرواحهم سائحة في ملكوته، وسرهم مشرف على قدس عزته وجبروته، فهم بين الناس بأجسامهم ومع الله بأرواحهم، اجتباهم لحضرته فأفردهم له، وواجههم به بجمال وجهه العلي، ففروا به إليه سبحانه، تلذذوا بما يتألم به أهل الجهالة وفرحوا بما يحزن منه أهل الغرور، تصعد أنفاسهم إلى الملكوت فتضيء عوالم عليين، يناجون الله تعالى بكلامه حتى كأنهم يسمعونه منه سبحانه، ويضعون وجههم ليلا على تراب الذل، تملقا بين يدي مولاهم، أمنيتهم أن يكون الدهر كله رمضان، وحزنهم أن يمضى نفس منهم في غير الحضور مع الملك الديان، انكشفت لهم حقيقة الدنيا والآخرة، ففارقوا ما يزول بقلوبهم وزهدته أجسامهم, وسارعوا إلى ما يبقى طمعا في شهود الوجه العلي الكريم في النعيم المقيم.

سادسا- صوم الصوفية:
الصيام لغة: الصمت، والصيام عند الصوفية صولة الروح على الجوارح، صولة تجعلها تجانسها مجانسة ما. فتجاهد في سبيل الاتحاد بها من حيث ما تقتضيه الروح في حقيقتها، وبكمال تلك الحقيقية تمنح الجوارح قبسا من الملكوت الأعلى تنال به الرفعة عند ردها إلى أسفل سافلين، وبتلك الرفعة تتلقى من ربها كلمات الإنابة الموصلة إلى المقام الذي أكرمها ربها به في المرتبة الآدمية، إلا أن آدم أسكن في مقام الزوجية النفسانية الجنة متمتعا بنعيمها، وهذا الصائم يكرم بدخول جنة الرضا متنعما بأسرارها لتجرده عن مقتضيات الجوارح المجترحة بترك ما أبيح له مما لابد منه، والإقامة في محاب الله ومراضيه، فيكون صائما بكل جوارحه مع وجود المقتضى لا فقده، وهو الجهاد الأكبر جهاد الحس والنفس والعقل والجسم، معنى قوله (ص وآله): (الصيام جنة) وليس بصائم من ترك ما أبيح له ووقع فيما حرم عليه، وعلامة قبول الصيام تخلق الصائم بأخلاق الله أو على الأقل بأخلاق عالم الطهر الروحاني من عوالم الملكوت. والصيام سياحة عظمى قال تعالى (السائحون) بمعنى الصائمين، والصيام صبر على خرق العادة من طبعه، وهو الذي بشره الله بمعيته قال تعالى (أن الله مع الصابرين)، والصابرون من معناها الصائمون. فجاهد نفسك في الصيام أن تتخلق بتلك الأخلاق مهما ضحيت بكل غال ورخيص في سبيل ذلك، لتفوز بمعية الله لك، وبقدر نزوع النفس إلى ما يخالف تلك الآداب وقهرها عليها تكون رفعتك وقربك ونيلك وحظك، ولعلك فهمت أشاراتي وأنت في فاتحة الشهر, فاستعن بالله وقل لا حول ولا قوة إلا بالله.


درجات الصوم
وهناك تقسيمان لدرجات الصوم باعتبارين مختلفين، من ناحية مقداره، ومن ناحية أسراره.

أولا- من ناحية مقداره فدرجاته ثلاث:
1- أعلاها: وهو صوم داوود عليه السلام، وهو أن تصوم يوما وتفطر يوما، ففي الخبر الصحيح: (أن ذلك أفضل من صوم الدهر وأنه أفضل الصيام).
وسر ذلك: أن من صام الدهر صار الصوم له عادة، فلا يحس بوقوعه في نفسه بالانكسار، وفى قلبه بالصفاء، وفى شهوته بالضعف، فإن النفس تتأثر بما يرد عليها، لا بما مرنت عليه- فلا يبعد هذا - وإن الأطباء أيضا ينهون عن اعتياد شرب الدواء، وقالوا: من تعود هذا لم ينتفع به إذا مرض، إذ يأنفه مزاجه فلا يتأثر به.
واعلم أن طب القلوب قريب من طب الأبدان وهو سر قوله (ص وآله) لعبد الله بن عمرو حينما سأله عن الصوم فقال عليه السلام: (صم يوما وافطر يوما) فقال ابن عمرو: (أريد أفضل من ذلك) فقال (ص وآله): (لا أفضل من ذلك). ولذلك لما قيل لرسول الله (ص وآله): إن فلانا صام الدهر، فقال (ص وآله): (لا صام ولا أفطر) وكما قالت السيدة عائشة رضوان الله عليها- لرجل كان يقرأ القرآن بهذرمه (إن هذا ما قرأ القرآن ولا سكت).
2- أوسطها: فهو أن يصوم ثلث الدهر، فلو أنك صمت الاثنين والخميس وأضفت إلى ذلك رمضان: فقد صمت من السنة أربعة أشهر وأربعة أيام وهذا زيادة على الثلث، ولكن لابد أن ينكسر يوم من أيام التشريق، وترجع الزيادة حينئذ إلى ثلاثة أيام فقط، فإذا تصورت أن ينكسر في العيدين يومان فقد بقيت الزيادة بيوم واحد فقط، فتأمل حسابه تعرفه، فلا ينبغي أن ينقص عن هذا القدر صومك فإنه خفيف على النفس وجزيل ثوابه.
3 - أدناها: فهو الاقتصار على شهر رمضان فحسب, فهذه درجات الصوم من حيث المقدار.

ثانيا- من ناحية أسراره فدرجاته ثلاث.
1 أدناها: أن يقتصر على الكف عن المفطرات، ولا يكف جوارحه عن المكاره وذلك صوم العموم، وهو اقتناعهم بالاسم فقط.
2- أوسطها: أن يضيف إلى الدرجة السابقة كل الجوارح، فيحفظ اللسان عن الغيبة، ويحفظ العين عن النظر إلى الزينة، وكذا سائر الأعضاء الأخرى وهذا هو صوم الخصوص.
3- أعلاها: فهي أن تضيف إلى ما سبق صيانة القلب عن الفكر والوساوس، وتجعله مقصورا على ذكر الله عز وجل. وذلك صوم خصوص الخصوص وهو الكمال (5).

______________________________________
(1) الروح
(2) الجسم
(3) الكون
(4) الدوافع الحيوانية (الغرائز)
(5) نقلاً عن كتاب (الإسلام دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها) للإمام أبي العزائم.




#محمد_عبد_المنعم_عرفة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أدعية الغفران في شهر القرآن للإمام أبي العزائم - الجزء الأول
- رسائل إلى السيد كمال الحيدري [4] الدابة والمسيح الدجال
- رسائل إلى السيد كمال الحيدري [3] ذو القرنين
- رسائل إلى السيد كمال الحيدري [2] استفت قلبك
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [30]
- الإمام أبو العزائم ونظرية داروين
- سيكولوجية المشركين ودجل الوهابيين
- رسائل إلى السيد كمال الحيدري [1] الإمامة وصلتها بتجلي الأسما ...
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [29]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [28]
- رسائل إلى الدكتور عدنان إبراهيم [10] متى سيغلق باب التوبة
- روح الإسلام وخلاصة الدين [3] الحرب العالمية الثالثة
- روح الإسلام وخلاصة الدين [2]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [27]
- روح الإسلام وخلاصة الدين [1]
- رسائل إلى الدكتور عدنان إبراهيم [9] الوسيلة
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [26]
- رسائل إلى الدكتور عدنان إبراهيم [8] ويزكيهم
- رسائل إلى الدكتور عدنان إبراهيم [7] ذو القرنين
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [25]


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبد المنعم عرفة - عبادة الملائكة الروحانيين.. [1] الصوم كما يراه الإمام أبو العزائم