أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبد المنعم عرفة - الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [25]















المزيد.....



الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [25]


محمد عبد المنعم عرفة

الحوار المتمدن-العدد: 5190 - 2016 / 6 / 11 - 10:13
المحور: الادب والفن
    


الإمام والقصـة
يرى الكثير من الباحثين والنقاد أن الشرق العربي هو مهد القصة، فمصر القديمة في نظرهم تعد المنبع الأول للقصة، فبينما كان هذا الفن الأدبي مهملا في المجتمعات الأوربية والأجنبية، كانت الشعوب المصرية والسامية في عهود ما قبل التاريخ تتميز بوفرة الإنتاج القصصي.
ومما يؤديه ذلك الرأي قصة "إيزيس وأوزوريس" التي تجسد الصراع بين الخير والشر وهي من الأساطير الفرعونية القديمة التي تجاوزت الآفاق وعرفها العالم.
فكان لقدامي المصريين فصب السبق في تجسيد تلك المعاني في أعمالهم الأدبية، كذلك عرف البابليون والأشوريون القصة حيث نقل عنهم بعض الأساطير مثل "برج بابل".
أما العرب قبل الإسلام فقد كان لهم فنونهم القصصية النابعة من بيئتهم، والمصورة لحياتهم ومغامراتهم وبطولاتهم مثل "سيرة عنترة"، التي تعد من أهم السير العربية وأشهرها.

القصة في العصر الإسلامي:
ثم جاء الإسلام بالقرآن الكريم، الذي قص علينا أحسن القصص. والحقيقة أنه قصص رائع، أتقنت أحداثه وحبكته. ويشير المولى سبحانه وتعالى إلى ذلك في سورة يوسف بقوله تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف:3) .
ولقد ذكر القرآن الكريم العديد من القصص: مثل قصة سيدنا يوسف، وأهل الكهف، وسيدنا سليمان، وسيدنا موسى،وملكة سبأ، وغيرها من القصص.
ويرى الباحثون المتخصصون أن القرآن الكريم قد جمع المذاهب المختلفة في الفن القصصي، والتي يتشدق بها نقاد الغرب، ويزعمون أنها تجارتهم التي صدرها إلى الأمم الأخرى، وأخذها عنهم الأدباء في العالم العربي.

فللقصص القرآني قصب السبق في تحديد معالم الكثير من المذاهب الأدبية. ففي القصص القرآني نلمس خصائص وسمات المدارس الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية.
فالقصص القرآني يتسم بفطامية الشخصيات، فأبطاله من الأنبياء والرسل والملوك، وهذه سمة المدرسة الكلاسيكية. والقصص القرآني يتميز بتطور الشخصية ونموها، وهذه خاصية من خصائص المدرسة الرومانسية. والقصص القرآني يجمع بين أحداثه لونين من المستوى في المعنى، ونعنى بهما عالم الواقع الملموس، ومستوى عالم ما وراء الواقع، وازدواجية المعنى من سمات المدرسة الرمزية. والقصص القرآني يهدف بالدرجة الأولى إلى الحياة الكريمة للشعوب، وهذه خاصية من خصائص المدرسة الواقعية.

أما في العصر الأموي فقد اشتهرت بعض القصص مثل روايات كتاب الأغاني للاصفهاني.. وكذلك تفجرت ينابيع أخرى في العصر العباسي بعضها مترجم مثل "قصة كليلة ودمنة" التي ترجمها "ابن المقفع" عن اللغة البهلوية.

وفي ميدان التأليف، كتب الجاحظ "البخلاء" بأسلوب يجمع بعض خصائص القصة، ومن أهمها خاصية الحكاية.. وكذلك اشتهرت قصص "ألف ليلة وليلة"، التي تمثل سفرا عظيما جمع العديد من فنون القصص.

فن القصة في العصر الحديث:
قال بعض الباحثين: أن فن القصة في العالم العربي في العصر الحديث فن مستحدث، نقلته الينا الترجمة والاتصال بالآداب الغربية، ويدللون على ذلك بأن معظم من كتبوا القصة العربية في العصر الحديث ببيان أثر الأدب الغربي وخاصة أدب القصة على الآداب الغربية’ وعقد بعض الباحثين دراسة مقارنة لبعض الأعمال القصصية العربية وتأثيرها في الآداب الأوربية مثل ألف ليلة وليلة والمقامات، وقصة حي بني يقظان وغيرها.

وتنقسم القصة إلى نوعين هما : القصة القصيرة والقصة الروائية.
1- القصة القصيرة:
قرر بعض الدارسين على سبيل الجزم أن القصة القصيرة بصورتها الفنية في الأدب الحديث، قد أخذت عن أدب الغرب، ولم تنحدر من التراث أو تتطور عن فن عربي مشابه. والذي دعاهم إلى ذلك الرأي هو أن الكتاب القصة القصيرة في عالمنا العربي كانوا من ذوي الثقافة الأدبية الأوربية وكان أوائلهم بصفة خاصة على صلة قوية بالأدب القصصي الفرنسي أمثال "محمد تيمور- عيسى عبيد0 شحاته عبيد محمود تيمور... إلخ حيث محمود تيمور يعبر عن شغفه وفتنته بالقصاص الفرنسي "موباسان" فيقول: " ما كدت أقرأ لـه حتى فتنت به، وما زلت محتفظا لموبا سان بالمكان الأول في نفسي، فهو عندي زعيم الأقصوصة الأكبر"، حيث فتن به هو وشقيقه محمد تيمور الذين اعتبر أن مولد القصة القصيرة بصورتها الفنية كان على يديه حين أذاع قصته " في القطار" سنة 1917هـ.
وإذا كان لنا رأي آخر سنبينه بعد قليل.
وذكر الباحثون أيضا: أن هناك محاولات غير كاملة سبقت ذلك في مجال القصة القصيرة على يد كل من "عبد الله النديم- خليل مطران- منصور فهمي- المويلحي- المنفلوطي .. الخ.

خصائص القصة القصيرة:
تتميز القصة القصيرة عن الرواية بأنها تنحصر في موقف محدد، أو تصور لحظة معينة، ينفعل بها الكاتب، ويعبر عنها في حادث موحد. فالموقف هو الموضوع الغالب على القصة القصيرة، بينما رسم الشخصية هو الموضوع الغالب على الرواية. فحسب كاتب القصة القصيرة الناجحة أنه هو الذي يصور الفكرة الواحدة في قصته، لا مجموعة من الأفكار مهما يكن بينها من ارتباط كما هو الشأن في القصة الطويلة، فالقصة القصيرة تفضل أقل عدد ممكن من الشخصيات خلافا للرواية حيث يكثر الأشخاص. ونستطيع أن نجمل خصائص القصة القصيرة في كلمتين: الوحدة والتركيز، فالوحدة: في الحادث والغرض والموقف. والتركيز: يكون في كل شيء، وهو أهم مميز للقصة القصيرة.

الإمام المجدد أبو العزائم عميد الأدب الإسلامي:
لقد أثبتت الرسائل العلمية من "ماجستير- دكتوراة" التي أخذت في أدب للإمام المجدد أبي العزائم ذلك، وسوف تسهم الدراسات المتتالية في أدبه في تدعيم ذلك الرأي وتأكيده فالإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم لـه نظرياته الأدبية الجديدة، وله إسهاماته الشاملة في كل مجالات الأدب العربي الإسلامي، والتي سبق بها جميع من عاصروه من الأدباء والمفكرين "من شعراء- قصاص- بلغاء- مسرحيين وغيرهم".
وللإمام المجدد رأي خاص وجديد في مفهوم الأدب والأديب يقول فيه " لا أستطيع أن أقول أن ابني أديب أو مؤدب لمجرد أنه حفظ المنظوم والمنثور والبلاغة من كلام الغرب، فالقرآن الكريم قد تحدى بلاغتهم فشهدوا بأنه مغدق، وأنه ليس بقول البشر. ولكن الأديب حقا من تأدب بآداب القرآن وتخلق بأخلاقه، واقتدى برسوله، واهتدى بخلفائه، وزكى نفسه، وطهر قلبه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال (أدبني ربي فأحسن تأديبي) هذا هو الأدب وهذا هو الأديب بحق.
ولقد سرت هذه النظرية في كل أدب الإمام المجدد أبي العزائم "نثرا ونظما" وفي كافة الفنون الأدبية التي قدمها "من مسرح- قصة – مواجيد- شعر صوفي".

والإمام المجدد سبق غيره في مجال المسرح والقصة والمواجيد النظمية..
ففي مجال المسرح . أملى الإمام المجدد مسرحية "محكمة الصلح الكبرى" سنة 1919م . تلك المسرحية التي تناوتها رسالة دكتوراة قدمت لجامعة الأزهر بعنوان "النثر الصوفي عند كتاب مصر المحدثين من 1900- 1940 " فذكرت أن هذه المسرحية أعظم ما كتب في النثر الصوفي منذ كتبت اللغة العربية إلى الآن.

والإمام المجدد أبو العزائم رائد القصة القصيرة في عالمنا العربي الإسلامي بلا ريب وها هي مجموعة قصصه القصيرة تشهد بذلك.. فلقد سبق الإمام المجدد الآخرين من كتاب القصة القصيرة زمنا حيث بدأ في نشر هذه القصص بمجلة "السعادة الأبدية" التي كانت يصدرها منذ عام 1900 إلى 1915م. ولو أن الباحثين والدارسين بذلوا مزيدا من البحث والدراسة، وأطلعوا على قصص الإمام المجدد والتي تقدم نماذج منها بين دفتي هذا الكتاب لشهدوا بذلك. فهو قد سبق زمنيا كل من يسمى برواد أو كتاب القصة القصيرة الذين ذكرناهم آنفا.

ثم تميز الإمام المجدد أبو العزائم بشيء هام، وهو عدم تأثره بالنهج الغربي في القصة القصيرة، كما تأثر غيره. لأنه المجدد.. والمجدد يؤثر ولا يـتأثر.. يغير ولا يتغير فهو المنوط به أن يجدد للأمة أمر دينها كما جاء بنص الحديث الشريف، وهو يؤكد ذلك المبدأ صراحة في كتابه "النور المبين لعلوم اليقين ونيل السعادتين" ص 126 فيقول: (لقد رأيت أكثر أهل زماني هذا قد تركوا آداب الدين وفضائله وراء ظهورهم، وعلوم العلماء المدونة في كتبهم هجروها، والتفتوا إلى القشور التي وضعها الفرنج مما نسخوه أو مسخوه من كتب سلفنا الصالح، ورأيت إعجاب أهل زماني بآداب بني الأصفر وشعرهم وعلومهم، ولو أنهم اطلعوا على علوم آبائهم وآداب أسلافهم وحكمة أجدادهم، والكنوز الخفية التي كنزها لنا إخواننا الذين سبقونا بالإيمان لميزوا بين الثرى والثريا، وبين الحق والباطل).
فالإمام المجدد جامعة إسلامية شاملة وكاملة ووسطية وتجديدية وعالمية.. فدوره أن يستنبط من القرآن والسنة الدواء والعلاج المناسب لروح العصر.

ونقدم للقارئ المسلم، بل نقدم للإنسان أينما كان، مجموعة من القصص القصيرة التي تعالج الكثير من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها بمنهج إسلامي راق، وبفكر وذوق أدبي بائع، جمع فيه كل المدارس الأدبية في هذا المجال، بل وسبق فيه.
وقد اتجه الإمام للأسلوب الرمزي للتعبير في عرض هذه المشكلات والأزمات وحلولها من خلال هذه المجموعة من القصص القصيرة.. والإمام المجدد يعتبر هذه القصص دروس عامة لضرب الأمثلة للحقيقة، تلك الأمثلة التي كانت تنفذ إلى سويداء القلوب، ويحدب عليها الخيال فلا تغيب عن بال. مثل كانت لـه في قالب روائي لا تغيب عن الذهن، ولا يعقبها النسيان، ولا يتطرق إليها الوهن.

ونسوق مثالا من هذه القصص القصيرة:

1- السياسي والحكيم والغشيم
السياسة: تدبير المنزل والمدن والمملكة، مأخوذة من ساس يسوس سياسة، أي أصلح إدارة المنزل أو المدينة أو المملكة، لجلب المنافع ودفع المضرات، مع رعاية الرحمة العامة بالمجتمع الإنساني.
فإن خرجت السياسة عن أصلها، كانت ظلما وجورا وكيدا، ومثال السياسة الحقة ما فعله الصديق يوسف عليه السلام مع إخوته، من أخذ أخيه منهم لينالوا الخير العام في المستقبل. وعمل تلك التدابير لنيل الخير مع الإخلاص سياسة، وقد مدحه الله عليها.
فقال : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)(يوسف: من الآية76).
وأما ما يسميه الناس الآن سياسة فهو كسياسة القط مع الفأر، أعاذنا الله وإخواننا منها.
الحكمة: هي وضع الشيء في محله، واستعمال كل شيء فيما وضع لـه، مع رعاية الشريعة المطهرة.
الغشم، التسليم من غير روية ولا نظر.
الغشيم، بين أبنائه وحفدته وأقاربه، في مزارعه ومصانعه وأسواق تجارته، في هناء وصفاء.
السياسي، نظر إلى نفسه وأبنائه وأقاربه نظرة إعجاب، فكره أن يعملوا عملا نافعا لغيرهم ، وأحب أن يتسيطر بالقوة القاهرة على الغشيم ومن معه، وكان عند الغشيم رجل حكيم.
السياسي، جمع الجيش وهجم على الغشيم
الحكيم، رأى الغشيم خرج من غير تدبير ليقابل السياسي فمنعه وقال: دعهم يدخلون البلاد وأجمع قومك وأعد العدة حتى إذا فرحوا بالنصرة وملكوا بعض القرى أمكنك أن تحصن قومك وبلادك، وترسم طريقة حكيمة تسـتأصل بها هذا الجيش الظالم.
الغشيم، سلم لـه وأقامه إماما.
الحكيم، أمر بإخلاء القرى أمام العدو.
السياسي، تيقن النصرة وأمن جانب الغشيم.
الحكيم، أنزل قومه في مكان محصن، ثم أمر بالسلاح فحمل وأقام أهل الرأي قوادا، وأمرهم بالصبر حتى يصدر أمره، ورسم المناورة بروية، فأرسل قسما خلف جيش السياسي من طريق مجهول، وأبقى قسما داخل البلد، وجعل قسما جناحا أيمن، وقسما جناحا أيسر ، ثم أرسل الطلائع وأمرهم بالهزيمة أمام الجيش.
السياسي، فرح جدا وأمر الجيش بالتقدم من غير روية، معتقدا أنه تمكن من عدوه، فأبعد في داخل البلاد، معتقدا تحصيل ضروريات الجيش من البلاد، فتفرق جيشه من السرعة والبطء فرحا بالغنائم.
الحكيم، انتهز تلك الفرصة، وأمر الجناحين والقسم الذي خلف العدو أن يلتقوا في نقطة كذا.
السياسي، لم يشعر إلا وقد أحاطت به الجنود فلم يجد لـه نجاة إلا بالهزيمة أمامه، معتقدا عدم القوة الاحتياطية، فهلك أكثر جيشه، ولما أن وصل إلى داخل البلاد، قابله الجيش الاحتياطي فأسر البقية، وبعد ذلك اصطلحوا على شروط مخصوصة.
الغشيم، علم أن هذا الفوز باتباع الحكيم، فأمر قومه أن يحافظوا على أوامر الحكيم ليدوم لهم الملك والمجد.
السياسي، رجع حزينا واعتقد أن الغشيم ما دام مقتديا بهذا الحكيم لا يمكن أن يتمكن منه، فجمع قومه وطلب أن يكيدوا معه للغشيم كيدا يخرجونه عن اتباع الحكيم، ليتمكنوا منه، ويجعلوا الجميع عبيدا لـه، فحضر مع إبليس في صورة إنسان، وقال: الرأي عندي أن ترسلوا لهم ما يفسد عقولهم، ويضر صحتهم، ويضيع أموالهم، وبذلك يخالفون الحكيم فنملكهم. فسألوه: ما هي تلك الأشياء؟ وما الطريق في انتشارها بينهم؟ فقال : أما ما يزيل العقل فالخمر والحشيش والبنج. وأما ما يفسد الصحة فالعاهرات خصوصا المريضات بالزهري، وأما ما يضيع المال فانتشار الربا، ولهذه الأشياء رابع لابد منه، وهو التفرقة بينهم.
السياسي (سأله) من أنت؟
إبليس : أنا العدو اللدود للغشيم.
السياسي: لم عاديته؟
إبليس : إنه أطاع عدوي الحكيم، فأمره بالمخالفة بعد أن كانوا جميعا عبيدا لي.
السياسي: كيف نتمكن من انتشار تلك المفاسد بينهم؟
إبليس : ترسل أولا تلك المفاسد إلى كبرائهم، فإذا تمكنوا من الكبراء قلدهم الأتباع، والأمير إذا فعل قبيحا لا ينكر عليه ، ولا يقدر أن يمنع من ارتكبه.
السياسي، أرسل تلك الأنواع المضرة في طريق الخفاء، فأرسل نساء عاهرات بآلات الطرب ومعهن الخمر إلى الحكام، فانتشرت تلك المضار بسرعة حتى تناسى الناس وصايا الحكيم.
السياسي، أرسل رجالا من أهل الخبث يحملون تلك الأشياء في الأسواق لتباع علنا، بعد أن يقدم كل واحد منهم هدية لحاكم المدينة التي يحل فيها، ويتردد عليه صباح مساء ليعلم أهل المدينة أنه محسوب الحاكم.
كان في المدينة تلاميذ للحكيم، فصاحوا صيحة النصيحة، فأصغى إليهم أهل التسليم وقالوا : هذا ما يخالف وصايا الحكيم فيجب مصادرته ورد الحاملين لـه.
وفود السياسي، الحاملون للشرور- أسرع كل واحد منهم إلى الحاكم في مدينته وقالوا لـه: كيف يصفو لك الملك وفي المدينة حزب يسعى في سلب املك ويعصب عليك قومك؟‍! فتدارك الأمر واقتلهم شر قتلة.
الغشيم، قبل منهم الكلام، وعظم عليه الأمر، فأرسل للحكماء المشتركين معه في حب تلك المضار، أن يسجنوا من تظاهر ضد الرؤساء، فقبضوا على تلاميذ الحكيم واعتقلوهم.
وفود السياسي، تمكنوا من القوم فأزالوا عقولهم، وأضروا أبدانهم، واضاعوا أموالهم وعقاراتهم، حتى بلغ من جنونهم أنهم اعتقدوا أن السياسي ورجاله أرحم بهم من والديهم.
الغشيم وقومه، تفرقوا حتى صاروا يمدون السياسي بما قام به لهم من المصالح والإصلاح، ويذم بعضهم بعضا وهم في هاوية الذل لا يشعرون بمكايد السياسة.
السياسي، لم يرض بإفساد العقول، ولا بضعف الأجسام، ولا بتحصيل الأموال، ولكنه سعى لمحو الدين والأخلاق، فجمع العقلاء لهذا الغرض، فجاء إبليس وجلس معه، فرجعوا إليه، فأمرهم بأن يبذلوا المال للغشماء الجهلاء من أعدائهم، ويخرجوهم من الدين، ويجعلوهم آلة في ذم دينهم بين قومهم ومدح غيره، ويظهروا أن الذي يخرج من الدين ينال المال الكثير والجاه، ثم نشروا بين القوم زخارف الأباطيل، وأكاذيب الأضاليل، وأظهروا أنفسهم بأنهم رحماء بالحيوانات وبالمرضى، ليسلبوا عقول البسطاء بغرورهم، فتمكنوا من إضلال رجال من أهل دينهم، فادعوا أنهم من دين الأمة وأنهم ارتدوا عنه، ونشروا المفاسد والأكاذيب فلم يرق ذلك عند الأمة، ولكنهم لما أصابهم من ضرر المفاسد المنتشرة بينهم ، لم يتمكنوا من دفع هذا الشر، لأن السياسي استولى على الأسلحة والأمتعة.
القوى القهار خالق السموات والأرض غضب على السياسي وقومه، لأنه لم يرضه أن يقهروا عباده، ويفسدوا بلاده، بل قاموا فكذبوه، وكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم، فغار لدينه غيرة منتقم قهار، فأوقع نار الحرب الانتقامية بينهم، ونظر إلى عباده نظرة حنان، وأيقظ قلوبهم إلى وصايا الحكيم.
الغشيم، تذكر مجده وملكه ، وبحث بروية كيف نال هذا الملك، وبأي شيء سلب منه؟! . فتحقق أنه ما قهر السياسي وقومه وتسلط عليه إلا بإهمال المحافظة على وصايا الحكيم، وما زال مجده وملكه وسلطانه إلا بترك وصايا الحكيم، فأطلق تلاميذ الحكيم من السجون، وجلس بين أيديهم ذليلا يبكي ويتوب إلى الله، وطلب منهم أن يغيروا كل ما خالف وصايا الحكيم، وأن يعيدوا الأمر إلى الماضي الذي وضعه الحكيم ، فعرضوا كل شيء في المملكة على القرآن والسنة، ومحو أنواع الشرور كلها، وقامت الأمة من نومة الغفلة ورقدة الجهالة.
السياسي، جمع عقلاء جميع مملكته ليتدارك الأمر، فجاء إبليس فقالوا: ماذا ترى؟ فقال: لا رأي لي، أعداؤكم رجعوا إلى القوى القهار، الحكم العدل، الذي يهب الملك لمن يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ولطم على وجهه، ونتف لحيته، وفر يدعو بالويل والثبور.
تلاميذ الحكيم انتشروا بين قومهم فقام في كل بلد حكيم أو صورة للحكيم، وكأن لسان حال الأمة ينادي
إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا
وإن نسام بها في الأمن أغلينا

إن تبتدر غاية يوما لمكرمة
تلق السوابق منا والمصلينا

وصار كل فرد منهم هو المعنى بقول الشاعر:
ويا رب يومك ذوب الغش ناره
فلم يبق إلا صارم أو ضارم

وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم

وصار كل فرد منهم حكيما، لأنه اتبع الحكيم الأكبر صلى الله عليه وسلم فاستخلفهم الله في الأرض، ومكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، فساسوا العالم أجمع بالعدل والرحمة، ومحا الله الظلم وأهله، والعاقبة للمتقين.

مواضع العبرة في القصة:
يشخص الإمام أزمة الأمة الإسلامية تشخيصا شاملا دقيقا وكاملا، فالسياسي رمز لأعداء الإسلام الصهاينة والصليبيين، والحكيم رمز للعالم الرباني والعارف الروحاني والوارث المحمدي الذي يجدد للأمة أمر دينها، والغشيم رمز لحكام السوء، ويثبت الإمام أنه لا علاج لهذه الأمة إلا بالتلقي من الحكيم إن أرادت عودة مجدها ودوام عزها.


2 – القصة الروائية
بمناسبة انتهاء الحرب العالمية الأولى التي قامت سنة 1914 م واستمرت مشتعلة ما يزيد على أربع سنوات بين انجلترا وحلفائها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا وغيرها، وبين ألمانيا والنمسا والمجر وبلغاريا وتركيا، وانتهت بهزيمة ألمانيا وحلفائها، واجتمعت الدول من جديد في مؤتمر باريس سنة 1919 م، وانتهى المؤتمر بخمس معاهدات صلح فرضت على الدول الخمس المنهزمة، وهي معاهدة فرساوي مع ألمانيا في 28/6/1919م، ومعاهدة سان جرمان مع النمسا في 10/9/1919، ومعاهدة نوبي مع بلغاريا في 28/6/1919، ومعاهدة تريانون مع المجر في 4/6/1920، ومعاهدة سيفر مع تركيا في أغسطس 1920، وقد استبدلت هذه المعاهدة بمعاهدة لوزان في 24/7/1923م.
وعقد العالم على مؤتمر الصلح هذا آمالا كبارا، وخيل إليه أنه فاتحة عهد سلام ووئام دائم بين الشعوب، ولكن الإمام أبا العزائم قال إن مؤتمر الصلح هذا ومعاهداته، إنما أريد به تعديل خريطة أوربا والشرق العربي السياسية، وذلك لأن روح التكالب على المصالح والمنافع وحب السيطرة والتوسع، كان هو هدف هذه الدول، وعليه فقد وزعت الممتلكات الألمانية على الدول الكبرى عن طريق الانتداب، الذي استحدثه مؤتمر الصلح ليطلي به الاستعمار بطلاء جديد، يخفف من اصطدامه بالشعور الوطني لشعوب هذه الممتلكات.
فالصلح لا يقوم إلا على دعائم من تخلي أطرافه عن الصفات المذمومة الشريرة، وتحلي أطرافه بصفات محمودة خيرة، فياضة بمشاعر الصدق والإخلاص والمحبة.
ومن ثم أملى الإمام رواية "محكمة الصلح الكبرى" ليقول هؤلاء المؤتمرين في مؤتمر الصلح بباريس، إن الدولة هي مجموعة من الأفراد يقيمون بصفة دائمة في إقليم معين، وتسطير عليهم هيئة حاكمة ذات سيادة. فإذا كانت مجموعة الأفراد هذه تميل بفطرتها إلى الشر واتباع الهوى والشهوات والعدوان والكراهية، والثورة والتمرد والرعونة والحمق والاندفاع، وتسلطت هذه الآفات على الشخصية الإنسانية، فقادتها إلى الانحراف، واندفعت بها إلى طريق الغواية والضلال، وبذلك تكون الدولة التي هي مجموعة من هؤلاء الأفراد، دولة تخرق المواثيق والمعاهدات، وتمزق النظم ، وتدمر القيم، وتسحق الأنظمة التي تخالفها وتقضي على الدول الصغيرة.
وتبدأ رواية "محكمة الصلح الكبرى" بلقاء بين "الخيال" المتجرد من كثافة الظلال وهو مرآة المحسوسات، وبين "الوهم" بلا محيطات وهو مرآة المعنويات ، وأخذ "الوهم" يبين "للخيال" عناءة مما شغله به الإنسان ، من هجر للشريعة وارتكاب ما يخالفها، فإذا بالخيال يبادره نفس الشكوى، ثم يتوجهان سويا إلى "العقل" ويعرضان عليه الحال ليهتديا إلى حسن المآل، فنصحهما "العقل" برفع هذه المظلمة إلى "محكمة الصلح الكبرى".. وبدا الإنسان المتجرد بإملاء صحيفة افتتاح الدعوى.
ونظرت الدعوى فعلا أمام "محكمة الصلح الكبرى" التي شكلت هيئتها من رئيس المحكمة "العدل" وعضوية كل من "القسط والعلم والهدى والتوفيق" وكاتب الجلسة "أمين".
ومثل أمام المحكمة المدعون وهم العقل والفكر والروية والعفة والشجاعة والكرم والعدالة والنور والعزة والرحمة والنطق والخشية والحكمة. كما مثل أمام المحكمة المتهمون وهم : النفس السبعية والنفس البهيمية والشهوة والجبن والبخل والعذر والحس والضيم والقسوة والجسم والتيه والحماقة.
وتقف كل نفس من هذه النفوس تبدي أوجه دفاعها بالحجج والبراهين، وبعد ثلاث جلسات من الاستماع إلى المرافعة ومواجهة بين الخصوم كل منهم للآخر، تصافحت النفوس المتصارعة في الإنسان، واصطلحت أمام هيئة المحكمة وجاء عقد الصلح يتضمن البنود الآتية:
أولا: أن تسارع النفوس إلى القيام بما أمرها الله به سبحانه بقدر الاستطاعة، وأن تترك ما نهاها الله عنه جملة واحدة.
ثانيا: أن تجاهد النفوس ذواتها في الله حتى تطيع المنعم الجواد لتفوز برضاه.
ثالثا: أن تحب النفوس الآخرة، لأن الله مدحها ورغبنا فيها، وتكره الدنيا لأن الهر ذمها وكرهنا فيها.
رابعا: أن تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا يجعلنا نتشبه به فنحيي سنته ونصونها من التغيير والتبديل.
وقد تأشر على عقد الصلح هذا من رئيس المحكمة وحكمت المحكمة بإلحاق عقد الصلح بمحضر الجلسة وإثبات محتواه فيه بما ينهي المنازعة.
وبذلك يبين من فصول هذه الرواية، أن الشر والرذيلة ليست من فطر الإنسان، وإنما ينشأ كل ذلك من اختلال التوازن بين غرائزه، ومن العوامل الخارجية التي تنحرف بهذه الغرائز عن أهدافها الفاضلة، وذلك ما يدلنا عليه قوله تعالى (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الروم: من الآية30) فالفطرة هي الدين القيم وذلك ما يدلنا عليه أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل في الحديث القدسي (كل عبادي خلق حنفاء فأجتالهم الشياطين، وأمروهم أن يشركوا بي غيري) وقوله أيضا: (ما من مولد إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
وعليه فإنه من الممكن القضاء على انحراف النفوس وعودة الإنسان بعد عناء وطول مجاهدة إلى الصراط المستقيم والخلق الفاضل.

وفي رسالة الدكتوراه التي نوقشت بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر فرع الزقازيق 1411هـ- 1991م للدكتور أحمد يسري الغرباوي بعنوان "النثر الصوفي عند كتاب مصر المحدثين 1900- 1940" يقول:
"وضع الإمام أبو العزائم لقصته الروائية التي سنعرض فيما بعد فكرتها عنوان: "محكمة الصلح الكبرى.. حوار روائي بين مطالب الروح، ورغائب الجسد لتزكية النفوس، وإصلاح المجتم" ولقد حدد الإمام من خلال العنوان المصطلح الفني الذي يمكن إطلاقه على هذا النمط من النثر، كما حدد الهدف الذي دفعه إلى الكتابة في هذا الموضوع بهذا الشكل الفني.
وأنسب المصطلحات الفنية لهذا العمل القصصي أنه "قصة روائية" كما قصد إلى ذلك الإمام نفسه، وكما أطلق عليها ذلك أيضا أستادي الدكتور "حسن جاد" في تقديمه لهذا العمل، وحوار هذه القصة الروائية طريف بارع شيق، من شأنها أن تشد الجمهور إليها لو أخرجت للتمثيل، يتحقق ذلك من خلال الموضوع والأشخاص والحوار المدار، كما أنها خالية من الاستطراد، والتعليق على الأشخاص، والأحداث، فليس ذلك مجاله رواية تخرج للتمثيل ، لأنها تحتاج إلى وقت محدد.
أما عن المفاجآت والصراعات التي ينبغي أن تسود الحكاية التمثيلية فإني أرها متمثلة في قصة الإمام أبي العزائم فيما سادها من الموضوع الجديد، والأفكار غير المطروقة، كما أنه جعل من المعنويات والمحسوسات أشخاصا تعقل وتفكر، وتتكلم وتحاور، وتعي ما تسمع، وذلك مثل الوهم والخيال، والفكر ، والعقل ، والتهور، وغير ذلك.
ثم صور الإمام في براعة الصراع بين العقل والنفس الشهوانية، وبين الفكر والتهور، وبين مثل الخير ومثل الشر، وما ساد حوارهم من أفكار وصلت في اختلافها حد التناقض، وتلك الأفكار كانت سببا في صراع الأشخاص، لتضارب مصالحها، وأهوائها وشهواتها ورغائبها، وما يمثله ذلك من صراع بين الخير والشر.
على أن جودة العمل القصصي التمثيلي تأتي من قدرة الإمام على الكشف عن النفس الإنسانية، ونوازعها وتصوير ما يدور فيها من صور الخير والشر وأسباب ذلك .. فهو يجعل من النفس الإنسانية ذاتها موضوعا لعمله.. يحللها ويتعرف على قواها، ويقف على طبيعة كل قوة، وما تؤديه لصاحبها من خير أو شر، وما يجب على الإنسان الصوفي من معرفة هذه القوى، وخواصها حتى لا يجعل شيئا يسيطر على أحاسيسه ، ومشاعره، وجوارحه، غير حبه لله سبحانه وتعالى وإخلاصه لـه، والإقبال على ما يقر به منه تعالى.

الأشخاص في محكمة الصلح الكبرى لأبي العزائم:
1- الوهم : مرآة المعنويات.
2- الخيال: مرآة المحسوسات.
3- الملك: هو النفس الناطقة الملكية، ووكيلها العقل، وهو الوزير الأول في المملكة- والخصم النفس السبعية.
4- الفكر: هو وزير داخلية الملك، إذ تعرض عليه الشئون الداخلية للملك، فيميز بين نافعها، وضارها بالحجة الجلية، ويعرضها على مولاه وخصمه النفس الشهوانية.
5- الروية: وخصمها التهور.
6- الشجاعة: وخصمها الجبن.
7- العفة: وخصمها الشهوة.
8- الكرم : وخصمها البخل.
9- العدالة: وخصمها الغدر والضيم.
10- النور: وخصمه الحس
11- هيئة المحكمة وما يمثلها:
أ‌- العدل : رئيسا وعن يمينه الهدى والعلم، وعن يساره التوفيق والرحمة.
ب‌- كاتب الجلسة: أمين.
جـ- رئيس الشرطة وجنده.

فكرة محكمة الصلح وتقويمها:
يبدو الوهم وهو مرآة المعنويات- وقد ظهر عليه الألم، حيث يدور حوار بينه وبين الخيال- مرآة المحسوسات- عما يورده الإنسان على كليهما من المفاسد- وألوان الضلال، والوساوس الشيطانية. وأشدها ما لا يليق بعظمة الله سبحانه، وتلك مهمة لم يخلقا من أجلها، ومن ثم تتفق وجهة نظرهما على التوجه إلى العقل ليعرضا عليه الحال باعتبار أنه ذو روية وفضل ، وأنه البرزخ الحاكم بين ملكاتها وبين النفس ، وأنواعها.
ولا يلبث العقل هو الآخر أن يشكو من أن الحس ودواعيه قد استعبد الناس إلا قليلا ممن اجتباه الله بسابق حسناه، ولذلك فقد فارقهم منذ خيرهم.
وهذا ما لا يستطيع الوهم والخيال اللجوء إليه تخلصا من شرور الإنسان، وإساءته إليهما على نحو ما ورد في شكاية كل من الوهم والخيال.
يرق العقل لحالهما، ويلطف، ويقول لهما: هلم بنا نرفع الأمر إلى الله تعالى، ثم إلى أولي الأمر في الإنسان، وهنا يبرز الإنسان المتجرد من بشريته، المتخلي عن حيوانيته- بعد أن سمع نجواهم، وفهم معناهم- ليعلن أمام الثلاثة- الوهم والخيال والعقل- أنه محب لأن ينال أبناء جنسه الخير والفلاح، ويؤيد رأي العقل برفع القضية إلى "العدل".

ونص الدعوة المرفوعة هي:
"بسم الله الرحمن الرحيم". والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فمن الإنسان المتجرد عن بشريته، المتخلي عن حيوانيته، المستعيذ بالله من نار إبليسيتيه، ثم من العقل والوهم والخيال إلى "العدل" عمم الله به النفع، إنا نتظلم إلى الله تعالى، ثم إليك مما نحن فيه من ظلم ظالمين وهم إبليس والحس، وجميع قوى النفس والسلام عليك وعلى من معك".

وفي هذا الموقف الدقيق في عرض القضية، وأخذها مسار الطريق الجاد إلى التنفيذ، لا ينسى الإمام أبو العزائم أن يصور ما جبل عليه كل من الوهم والخيال من تردد، ونفاق وملق، حيث يرجو أن العقل يستر الحال عن الخصوم لأنهما مقهوران ويخشيان الوبال، فيأذن لهما العقل بالانصراف خوفا عليهما من الإتلاف ثم يتلطف للإنسان المتجرد من بشريته – هو الآخر- للانصراف.
تفتتح الجلسة الأولى باسم الحكم "العدل" وكاتب الجلسة "أمين" الذي ينادي على العقل" المدعي" ويدور حوار بينه ، وبين الرئيس ، يعبر فيه العقل عن أنه كان في مسرات حياته ا لروحانية، وملاذ أفراحه العقلية، يسبح في فسيح العز والفخار حتى جذبته خصومته بمقتضيات كثافتها، ودواعي ميولها إلى سجن الشهوة الحيوانية، والخضوع لسلطان الحظوظ البهيمية، وهؤلاء الخصوم هم النفس السبعية، والنفس الشهوانية وأنصارها، والجسم والحس. ولا يلبث القاضي أن يأمر بإحضار الخصوم.
ويحدد الإمام أبو العزائم في محكمة الصلح الكبرى طرفي الخصومة في القضية، فالطرف الأول: يمثله العقل، وتوابعه من الفكر والروية والمنطق والعفة والشجاعة والكرم والعدالة..
والطرف الثاني : تمثله النفس السبعية، والنفس الشهوانية، وتوابعها من التهور والجبن والافتخار والتيه والاستهزاء والغدر والضيم.
ومن خلال الحوار المضطرم بين مختلف القوى النفسية تظهر ذاتية الإمام أبي العزائم في تعبير ممتع عن رأيه في بعض القضايا الفكرية، والاجتماعية، من وجهة النظر الصوفية ولكنها ليست ذاتية خالصة تفرض ما تراه هي، وتتجاهل الرأي الآخر، ولكنه من خلال الحوار يعرض كلا الرأيين ليحافظ على سلامة الحوار، والحرص عليه أن يأتي مواتيا لطبيعة الموقف فلا نحس فيه نوا أو قسرا. أو محاولة تطويعه إلى غير اتجاهه.
ثم يحتدم الصراع بين قوي الخير والشر في النفس الإنسانية ويتعاظم الحوار، وتعلو الأصوات وتتقارع الحجج، وتتصاعد حدة المواجهة إلى أن يصل الموقف إلى ما يشبه العقدة في العمل القصصي.. بعدها يأخذ شكل الانحدار الهادئ البطئ إلى ما يشبه الحل،إلى أن ينتهي الأمر إلى اتحاد القوى المتصارعة، ويعقد مجلس الحكم الذي يتلو فيه الرئيس "العدل" حيثيات الحكم التي تتسم بالإقناع والوضوح، وقوة التأثير ثم يصدر الحكم الذي يقابل من كل النفوس والقوى بالاستحسان، والمصافحة، والعناق، والاتحاد، والائتلاف.
وقد نجح الإمام أبو العزائم في إدارة الحوار، وترتيبه، وفي تحديد الهدف، وكيفية الوصول إليه، واستطاع من خلال هذا العمل الروائي الجديد على الأدب الصوفي أن يشرح الأفكار والمعاني الصوفية، التي تهدف إلى معرفة النفس، وقد اختار هذا الفن الأدبي لأن النفس تميل إليه، وتحبه، وتتقبله، ومن ثم سيكون ذا أثر حسن فيها.. وقد حقق الإمام هدفه الصوفي والأدبي معا، فمن يرد معارف صوفية فعليه بمطالعتها، ومن يرد متعة أدبية فإنه واجد بغيته في مطالعتها أيضا، ومن يرد إسلاما، أو أخلاقا، وتهذيبا وحكمة، فعليه بها ففيها جماع الخير كله للإنسان ومجتمعه، وبني جنسه.

لماذا اتجه الإمام أبو العزائم إلى النثر القصصي؟ وبم يقوم اتجاهه؟
يهدف الإمام أبو العزائم من وراء كتابة هذه القصة الروائية إلى أن يتوجه بها إلى الإنسان المؤمن، لكي يتبين عن طريقها حقيقة نفسه ليصلحها. فمن المعلوم أن الإنسان مجمع العجائب والغرائب، والمتناقضات كلها، ففيه من ملكات الخير ما يستطيع بها- إذا أحسن استغلالها- أن يكون الإنسان الحق الذي كرمه الله تعال، فخلق الكون وما فيه من أجله وسخره لـه، وجعله خليفة عنه- سبحانه- في الأرض، وعلى النقيض ذلك جعل الله فيه من قوى الخبث، ونزعات الشر ما يمكن أن يكون بها- إذا لم يهديها- من أخبث المخلوقات.
ولهذا يريد الإمام أبو العزائم أن ينبه الإنسان المؤمن إلى ما كمن فيه من هذه القوى ، وتلك.. حتى يعرف حقيقة نفسه، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه، وهنا مكمن سعادة الإنسان في دنياه وأخراه، وسعادة أسرته ومجتمعة، بل سعادة الإنسانية كلها.
ولهذا يصرح الإمام أبو العزائم بأنه ألف كتبه المختلفة لتحقيق ذلك، ثم تراءى أن يسلك في التعبير عن هذه المعاني والدعوة إليها أسلوبا جديدا، ونمطا حديثا، تتعلق به النفس ، ويرهف إليه الحس،ويتأثر به الوجدان، فيقول في مقدمة عمله الروائي "محكمة الصلح الكبرى" الذي أتناوله بالدراسة الآن (.. وبعد أن كتبت أكثر من أربعين كتابا ورسالة في بيان سبل الخير، والحث على السير عليها، تاقت نفسي أن أنواع الدواء ، بما يناسب نيل الصفاء ، وفي الإشارة ما يغني اللبيب ،ويسر الحبيب).
ونستطيع القول بأن اتجاه الإمام أبي العزائم إلى أن يعبر عما يريده من فكر ومضمون في إطار شكل فني أدبي هو النثر القصصي الروائي الصوفي- كان اتجاها مقصودا وهدفا ساميا، سعى إليه لكي يحقق ما يصبو إليه من إبراز مشاعره وأحاسيسه نحو ما يعتمل في صدره من فكر صوفي، يؤدي به واجبه، ويرضى ضميره، إنه اختار الوعاء الغني القادر على تحقيق ما يريد.
وفي ذلك تقدير منه للفن الأدبي عامة، والنثر القصصي خاصة، وكذلك نراه يمازج في روايته بين الشر والمواجيد أحيانا، فلعل النفس تتأثر بهذه الممازجة أسرع وأعمق، فا الإمام أبي العزائم للتأثير النفسي والوصول إلى الإقناع وعمقه كان أسبق من غيره عناية منه، ولذلك نلمح عناصر الجذب والتأثير والإقناع قد استوفت عناصرها.
وفي ذلك يتحقق الهدف الأدبي النبيل الذي يستحق به هذا النتاج الأدبي أن يحلل، ويدرس على أنه عمل مشترك بين الصوفية والأدب، استحقت به الصوفية الحديثة أن تتيه به على عصور الأدب الصوفي.
ويحق لي أن أقول – في حدود علمي- إن الإمام أبا العزائم بهذا العمل يعد أول من أدخل هذا الفن الأدبي في عالم الأدب الصوفي من أول نشأته في لغتنا العربية حتى اليوم. وأن ذلك يعد مظهرا من مظاهر التجديد في الأدب الصوفي.
إن الإمام أبا العزائم بتأليفه هذه القصة إنما كان مرآة صافية صادقة لمجتمعة عكست قضاياه، ومشاكله، وطموحاته، ولم يكن ذلك مقصورا على مجتمعه المحلي الذي يعيش فيه، وإنما تعداه إلى المجتمع العربي، والإسلامي، والإنساني قاطبة.
وهكذا اتصل الإمام أبي العزائم بأمته، ومجتمعه، وهكذا استمد منها العون والقوة، وهكذا استلمها آمالها، وآلامها، وأسباب سعادتها، وشقائها. وإن أي إصلاح سياسي، أو اجتماعي، أو اقتصادي ، أو فكري: فردي أو قومي، أو إسلامي، أو إنساني لا يمكن أن يبدأ بداية صحيحة، ويتجه أتجاها سليما، مثمرا نعيد ما بدأ به الإمام أبو العزائم، ولا يمكن أن يتم أو ينتهي نهاية ناجحة إلا إذا بدأ هذه البداية العزمية.



#محمد_عبد_المنعم_عرفة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [24]
- رسائل إلى الدكتور عدنان إبراهيم [6] المسيح الدجال
- رسائل إلى الدكتور عدنان إبراهيم [5] الدابة
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [23]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [22]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [21]
- رسائل إلى الدكتور عدنان إبراهيم [4] كما بدأنا أول خلق نعيده
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [20]
- رسائل إلى الدكتور عدنان إبراهيم [3] سر إظهار المجددين
- رسائل إلى الدكتور عدنان إبراهيم [2] شجرة آدم وحواء
- رسائل إلى الدكتور عدنان إبراهيم [1] حكمة خلق الإنسان وإيجاد ...
- أُحِسُ حيال عينيكِ.. بشئ داخلي يبكي
- قانون الكارما.. محكمة العدل الإلهي
- فن الإستمتاع بالحياة [3]
- رحمة الصوفية (إهداء للعزيزة الكاتبة فاطمة ناعوت)
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [19]
- الحج والجهاد في الإسلام.. رؤية الإمام المجدد السيد محمد ماضي ...
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [18]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [17]
- الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [16]


المزيد.....




- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبد المنعم عرفة - الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [25]