أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن مروح جبير - رواية : أحزان شجر الخابور الفصل الأول















المزيد.....



رواية : أحزان شجر الخابور الفصل الأول


حسن مروح جبير

الحوار المتمدن-العدد: 5189 - 2016 / 6 / 10 - 08:11
المحور: الادب والفن
    


حسن مروح جبير




أحزانُ شجر الخابور


رواية






&&&&&&&&&&&&&&&





































الجـزء الأول





































إن أهـم ما أحتاج إليـه هو تسجيل التجارب ، لا بالترتيب
الذي وقعــت به ، لأن ذلك هو التأريخ ، ولكن بالترتيب الذي
غدت فيه لأول مرة ذات دلالة بالنسبة لي ...



لورانس داريل





























(1)


( يثقل عليك الزمن كحلم قديم ، غامض )
هوراكي موراكامي

شيء ما في رقـّة نسيمة اندفعت ، بحماس ، في غبش الفجر الصادق، تحسس ما حول سّرتي ، ثم انحدر إلى مها و أخرى ، ولمّا استكان ، شعرتُ ، وكأنه أخذ بزمام شيء آخر ببنان
أنامل مختلجة . وشعرت أني حبست أنفاسي ، ثم رأيتني كطــائر يغد ف في شبكة صياد أمضــه
الطوى. وقد دام الحال لوقت ما ،قبل أن استرد وعيي ، وأجدني قريبة من حافة السـرير ، ويدي
تشد بأنامل متشنجة على ملاءته الناعمة، وكأني أقف لاهثة فوق جرف هارٍ لنهر ثائر الأمواج.

أسعفنــي أن وجدتني استيقظت ، وتبدد ما يشبه اختلاط الأحلام ، وتحولها إلى كابوس ربما كان بمقدوره أن يسقطني أرضا من السرير. فتحت عيني لأرى كم تبقى من ساعات النهار، وكم
استغرقت فـــــي النوم ، ورأيت ظلال المساء زحفت إلى المكان . وإلى جوار السرير أتاحت لي
الفرجة الشاقوليـة فـي الستارة ، ومن خلف زجاج النافذة ، رؤية مساء جديد حل ليخلف أنفاسه
الثقيلة فـــي ليلة أخرى موحشة كوحشة (دارا وشكة*) ، مع أقسى شـــعور إزاء شيء ما ثمين لا زال مفقودا ، شيء يشق على الروح ، والجسد محاولة استرداده ، أو احتواءه مرة ثانية .

استعدت رتابــة أنفاسي ، وقد سقط بصري فوق المرآة ، فأرخيت أجفاني متحاشية تأمل إطارها . ومكثت ، إلى حد ما أستعيد ذلك الذي يشبه الحلم ، إلا أني اكتشفت خلفه حلــــم تال لم يمتلك سحرا ، فشعرت أني صحوت تماما من قيلولتي ، وكأني فرغت توا من تأمـل ، وبخاطـــر حزين كيف كانت الفراشات تحلق باتجاه المصباح ، ولما تكتوي بحرارة زجاجتــه تسـقط أرضا
فتدوسها أقدام المارة ، ثم تقذف الريح بأجسادها الضعيفة أسفل الرصيف ؛ فكان انتابني شعور
بالإيلام لوهلة ، ولكي لا ألمح إطار المرآة ، مرة أخرى ، أغمضت عيني تماما ، وكأني أتحاشى
كل ما يمتلك سلطة التشويش في احياء الذكرى .

تزحزحت باتجاه وسط السرير ، كأني سأمنح نفسي نهزة أخرى ، لكي أجتاز ، بلا عناء تلك
الهنيهة ، حيث ينشط ، في خللها الشعور بالوحدة ، والوحشة ، وبذلك الشيء الثمين المفقود ،
الذي لم يكن (شبل) كما يظن البعض ، وكأني سأرى الظلام احتوى روحي فـــــي سدفته مثلما
احتوى جسدي ،والقرية ،وأكواخها البائسة ، ونخلة الأرجوحة المعمرة ،وظلال جدر المدرسة
.عازفة ، تماما عن الاقتراب من النافذة ، وإزاحة ستارتها قليلا مثلما اعتدت كل مساء .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*: دارا وشكة : قرية صغيرة في تلال حمرين جنوب مدينة خانقين .


3








كنت ، في الساعة الثامنة من كل مساء ، وبعد إيصاد باب حجرة الضيوف ، خشية أن يعثر علي بعض أحفادي،أراني معلقة بين السقف ، والأريكة ،وأبدو في وقفة مريبة ،فيصاب بالفزع ،أو الخوف ، فيهرع إلى أمه ليروي لها وقفتـــي المريبـــة ، دو أن يدري كيف أواصـل التحديق عبر الظلام إلى نافذة ردهة الصف الأول التي يتخذ منها الحارس مأوى له ليــلا ، كنت ، وكأني
أتأمله عن قرب ، وكانت ذبالة الفانوس المرتعشة تتيح لي رؤيته تماما ، وهو يتمدد بفرعــــه
الجاف فوق فراشه كاشفا عن نصف جسمه الســفلي ، ورأســه يعلو ، ويسقط فوق وســادته .
بينما تتراءى لي تلك الصورة التي لم تمح من رأسي ، صورة تيماء ، وقد شحب وجهها الجميل
،أو غاضت منه دماءه ، وكأني لا زلت أسمع صوت تنهدها ، دون أن يطغى على صوت لهــاث
حارس المدرسة الاجرد .

كان باب الحجرة مواربا عندما اندفعت بشرى إلى وسط الحجرة ، وكمن أصابته دهشة ، أنّت،وشكت :
ـ أواه .. لازالت جدتي العزيزة نائمة .. يبدو أنها متعبة ! .
وطرق أذني صرير الباب ، وهي تواربه برفق خلفها ، وقد تركني ما قالته أشعر، وكان بابا آخر أوصد فـــي وجه نور قادم من كواكب قريبة بدد ظلمة غشت الروح ، والبصر لأكثر من اثنتي عشر عاما . ثم كأن الصبية ، ودون أن تشعر ، رمت قلبي عن وتر غير مرئي رميــة سديــدة ، آه .. لا زالت جدتي نائمة ! ومضت دون أن تلتفت إلى ما خلفت ، في القلب ، والجوارح ، من نيران . الذي لم يشفع أمامه تذكر حديثه عما أشاعه عريي الكامل من ضجة في أركان البيت!.

كان لوقع(جدتي) أثرا مشوبا بالحسرات ؛ أو هو أشبه برمي حجرة أخرى باتجاه قلب نخلـة
الأرجوحة لغرض بائس . بل،كأنه شارة صادقة إلى عمر شرع بالأفول ، أو بدأت أعوامه تنحدر
باتجاه رغام مساء اكتنف خط الأفق الغربي ، حيث بدأت آخر أشعة نهاره تنطفئ ، ولن يعود ، بكل أجواءه ، وحوادثه مرة أخرى ، وكأنها أشارت إلى شيخوخــة ، وانطفاء ، وعتمـة ؛ وكان
أزيز الباب ، رغم خموله ، حاكى أنينا ً متوجعا ، وقد ولج إلى القلب من خلل مسامات سريــّـة
، وتوسد الوجدان ،وما من يصده ، أو يمنعه ، حتى ذلك الشيء الذي انحدر، متسللاً ، بحرص
، من السّرة إلى رحاب أخرى، وكان عابثا عبثا لطيفا ،لم تعتده أنامل (شبل) التي أرهقها النقـر
، باستمرار ، فوق زر ( المورس *) . ولم أشك ، بعدئذ، إلا أنه شيء آخـــر غريب ، بقــدر ما
تصورته في ظل الإغفاءة الثقيلة ، إنها بدفء ، ونعومة كفه ، وأنامله ، وقد اكترثت لها برفقة
شعور غامض حتى محقته يقظتي ، وفتح عيني لأرى ضلال المساء تطوف فاترة، وحزينة حول
سريري ، ووحدتي التي كانت كثيرا ما تطرقها أطياف ( شبل) بخمـول ، فقد تغير كل شيء من
من حولنا حتى مشاعر القلوب ، وتلاعب العواطف ، بل حتى الطرقات التي تتخلل الحقول لتمر
بالقرية . وقد أصبح ، فجأة ، الصبيان فتيين ، وطلبا إلى التجنيد قبل أقل من عاميــن ؛ إلا إني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* : المورس : جهاز مخابرة أستخدم في وحدات الجيش العراقي آنذاك .

4








آثرت رغبة التغاضي عن الطريقة التي التقيته بهــا ، وكأني أتحاشى المزيد من الشعور بالألم
، حتى وإن قيظ للشبح أن يتراءى في هيئة ظل،أو كائن هلامي، وكان مرَّ كاختلاجة ضوء باهت
، وبقدر ضئيل أتاح لي رؤيته بهيئة بشرية فقدت مظهر تماسكها .

أتراه الليل كفر القرية، والمدرسة ، وأغلق الطرقات ، وأطبق على الأراضي الهامدة المحيطة
بالحقول المحروثة بعد موسم الحصاد الفائت ؟ وهل أنار(وافي) القنديل الزيتي في وجه المساء
،أتراه يلمحه المار يتلجلج في ردهة الصف الأول القريبة من إدارة المدرسة ؟، لا ادري ، وهذه
قوة سرية،غامضة تبقيني في سريري مع شعور مستجد بالنبذ ، قوة تقسرني على إطباق أجفاني أمام المرئيات التي بدت أكثر بؤسا ، وشحوبا حولي . وكانت السكينة أتاحت لي أن أصغي إلى صوت خفق إطارات السيارات الذاهبة ، والقادمة إلى المدينة فوق الطريق المعبـــد المار شرق القرية ، وأحيانا اسمع أصوات أبواقها ، أو تخفق أذناي في التقاطها ، فأشعر بي ، وكأني فقدت عزائي ، وأراني ، وكأني أنـوح ، مرة أخرى، مثلما نحتُ فــــي العام الثاني لرحيــل ( شبل ) ، وكنت واجهت مرارة الفقدان ، والوحدة ، وحدة امرأة ، أصبحت ، بغتة أرملة. وأتذكر أني كنت دندن بقلب منفطر ، وقد أثقل عليه كل ما يوحي بالرحيل :

يصطخب القطار في طريقه الطويل
وددت لو يموت عنا ذلك النهار
في نفق الظلمة نحو مطلع النهار
وددت لو ينحرف القطار
عن دربه المشؤوم .... *

تنقطع التخاطرات الشجية ، أشعر بالجفاف ؛ كانت هناك ، فــي أزقة القرية تتشالى الكلاب صاخبة أمام الأبواب ، وفي الثلمات التي أحدثتها في أعالي الجـــدر ، أصغي إلى رغاء أبقــار ،
وثغاء الحمــلان الصغيرة ، وهـــي تستقبل أمهاتها التي عادت من الأراضي المجدبــة جائعــة ،
وكأني أشـّم رائحتها ، وهي ترتفع مع سحابات الغبار التي أثارتها أظلافها الحـادة النهايات فـي
الأزقة .وحين تطغي السكينة أسمع طنين البعوض ، أو طنين بعوضة تســتهدف أذني من خلف
الوشــاح مثيرة غضبي ، واشمئزازي ، ولا أدري سر استهداف البعوض الأذنين ليــلا ، ولماذا
يفعل ذلك بكل عدوانيــــة ، أتراه يبحث عن مأوى ، أم تثير غرائزه رائحة الأذن الوسطى ؛ لقد كان يفعل ذلك بدربة ، وجـراءة ، وكأنه يستهدف الأذن بحاسة خاصة ، او بمجس مزود بمؤشر
يهديه إلى المكان في خط مستقيم ، وكان ذلك من ابغض العادات التي يمارسها هذا الضرب من
الطفيليات ، وقد غفلت وزارة الصحـــــة ، أو وزارة الزراعة عن مكافحتها ، وهكذا مكثت تعلن جهرا عن شهوتها بطنين مزعج ، متواصل ، يبعث على الملل ، والشعور بالعجز إزاء ضرب مؤلم يثيره كائن صغير ، عدواني .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* : محمود البريكان .

5







ليت الحلم بقي مستمرا ، ولم تبتدره اليقظة ، بل ليت الكف الناعمة واصلت عبثها ،ولم تشد بنانها لتوقظني ، بل ليتها أمهلتني نهزة لتنحدر بنعومة ، وتواصل مداعباتها ، وتدرج ، كطفل
يحبو فـــوق سطوح ملســاء ، تعيد إلى ذهني حكاية ذلك الجسد الصغير ، الطفولـــي الذي تلقى حبـــات البرد بصـــراخ مزعج ، وقد روت لي أمي كيف فعلت ذلك الطقس ، وكنت لا زلت فــي القماط ، وكانت لم تأبه لصراخي ، وفي قلبها كانت تشعر بالسرور ، رغــم الآلام التي سببتــها
حبات البرد في راحتيها ، وهي تبتسم ، وتواصل دلك جسدي الرقيق ، مطمأنة نفسها: لا ضرر ، إنه ثلج آذار .

هاء لاح كل شيء ، بعد اليقظة أكثر تجهما ، وشحوبا ، وخواء ، وهاهو الصمت وحده يكتنف
المكان ، يتواءم ، تماما ، مع وحشة المكان ، مع الخواء ، يتغلغل في اللاشيء . وأراني وحيدة
في البيت ، وحيدة في السرير ، والوحشة العظمى تتغلغل في كل مسامة من مسامات الجـــدر ،
وتيارات الريح التي تطرق الأزقة ، والحقول بلا موعد .

يده كانت طفلا نزقا ، عابثا ، لا تكف تنزلق ببطء ، مرسلة شحنات استاتيكية إلى كل حاسة ، منتشية باكتشافات المواطن المغيبة ، واللقى الثمينة المنسية تحت ثياب الحداد الثقيلة ، تبحث عن ظــلال الســحر بدغدغات يانعــة ، تطرق أماكن أكثر خصبــا ، تجــوب تلاعا ، وتهبط مع منحدرات ، ومنخفضات واهنة ، وتنكمش فــي أماكن ، يفلجها ترف المتاهـات الباهية ، وإرهاص القبض ، فـــي يقين ، على ما يجــود بشذا ، ونوار يرسل عرفا يضج فــــي المكان حتى يضيق به ، ولا تني تتمتع بالدفء ، وبتلك الرائحة الفائضة الشبيهة برائحة القرفة
، ولا تهدأ ، حتى ترتخي الأنامل مع انسياب الكشح حيث ، هناك ، ترّق النسائم ، ويروق معـها الجو، ويتسع الفضاء ، وتطل شمس غب نهار ندي ، فتستجد مواسم ، وتنشط مشرقــة .. إنها
يده ، وحدها ، التي أثارت كل هذه الحرارة ، وفتحت كل تلك الينابيع ! .

أمد يدي لأسعف ما تبقى من أن يقرقف ، ويسقط في قرار الموجة المحتدمة ، أشل حركتها ، أو أنقلها إلى موطن شرع يطلبها بإلحاح ، فتستسلم ، وتنقاد بطواعية مواكبة ضحكته المكتومة
، وكان أصغى ، بحبور ، على صوت تنهيدة خاملة ، أعقبتها أخــرى ، يتنهد هو الآخــر، يلثـــم خـدي بحرارة ،يلثمه في المكان المجاور إلى المكان الذي كان يسقط (شبل) قبلاته المثلجة فوقه
، وتأخذني أنفاسه إلى دفء مواسم الحصاد ، وإلى رائحة الأرض التي تبددت منذ أعـوام . وقد
خيل لي أنه لا يدرك أسرار بهاءها ، إلا أنه ربما يشترك معي في التمتع باسترواح شذا قرفـة ،
خيل لي إنها انبعثت من مسام صدره البهي ، وأشرقت في روحي ، مثلما أشرقت صورة الرجل
الأول على الأرض البتول في لوحة ( ميخائيل انجلو ) ! . أف ..حنان ، لقد أبصرتنـــي ما كان
لا يخطر على البــال ، لقد دللتني على طرقات باهيــة تحفها الزهور ، والفراشات ! ، فنقلتنــي قدماي إليها ، بلا تلكؤ ، وقد كانت تضرب في طرقات رخوة ، تحفها الأشواك ، والحجارة.ومن
فوق كتفك ، بت ذاهلة ، ذلك حينما تأملت فرع البنت المياس ، فرع لقاء الذي سكب فــي قـوام
رائع . توجهت بالشكر ، والعرفان لمبدعه .

6







أشعر ، وكأني اسمعه يتحسر ، أو يتنهد ، ويحيص إلى جواري . أسأله وقف كفه ، يطيعني ،ونتبادل قبلة ، تسقط قبلته بحرارة قرب أذني، شعرت وكأنه أسقطها إلى جوار المكان الذي كان (شبل) يطبع قبلاته السريعة ، الباردة فوقه ،انقبض على ذاته شيء ما في روحي ، وكياني، لقد كان (شبل) فتى مسكينا ، وساذجا ، وكان لا يحسن إلا الضرب فوق زر جرس(المورس).وكأني كتمت أنة أرادت الانفلات من أعماق صدري بصوت شاك ، مجهد ،ولم ينتبه هو، فدسست أنفي في شعر صدره الأشقر،الكثيف ، وشعرت أني أتنفس الهواء مقرونا برائحة القرفة ، ثم رويت له ، بصمت موحي ،المزيد من حكايات الآهات ، والتنهدات المخزونة فـي الصدر، أو المتوارية تحت الترائب ، وكيف تكاثفت ، وكيف عجزتُ عن طردها ، وكأنها أمست فــي مستودع ليس له مخرج ، وبدت أشبه بغازات ضاغطة ، وهاء ، كأن منفذا ضيقا تيسر لخروجها ، سأ ل :
ـ وكيف تنفذ ؟ .
همست ، وكأن هذا البوح الذبيح تركني أعاني دوارا :
ـ لا أدري .
ـ هل يتطلب أمرها وقتا طويلا ؟.
اعترضت رأيه قائلة :
ـ قد يرجى أمر .
ـ ....

أرخى ساعده خلف جيدي ، ثم أرسله مع امتداد الوسادة الطويلة ، وحدق في وجهي :
ـ هل يتطلب صبرا ؟.
تحسرت قبيل أن أقول :
ـ لا جدوى من الصبر ، إنه لم يعد ، كما كان ، إ كسيرا مسكنا للآلام .
ابتسم ، وردد بسذاجة :
ـ من صبر ظفر .
نهرته :
ـ يا له من ...

غشى الظلام عيني ، وانتشر في جو الحجرة ، تراءى لي الأفق احتجــب عن البصر ،
وانقطع الطريق الموحش باتجاهه ، وغلقت الأرجاء ، رأيت كأن ليلا ثقيلا تدفق على القرية
، ليل شتاء من شتاءات الماضي البعيد ، شتاء حزين من شتاءات فترة الاستعمار العثماني
المقيت الذي دام قرونا متسخة اتساخ زجاجة فانوس وافـــي . وسمعته يلقــي صوتا باردا ،
مثلجا في أذني :
ـ من منا لم يذله ، يوما ، بالصبر .

7








وقال ، وكأنه أدرك ما في الشكوى من مرارة :
ـ أتراه لقاء عابرا درج مع الصدفة ؟ .
أطرقت مع شعور بالهوان ، وقلت ، وكأن لا أحد يسمع شكواي :
ـ آه .. لازال الطريق موحشا ! .
ـ إلى القرية ؟.
ـ ..
وشعرت ، كأني سأبكي ، من جديد ، ليس كما بكيت ( شبل) ، بل بصمت ، وبمرارة أشد ، فقال:
ـ آسف ..

صـّر السرير تحتي بالشكوى ، والضجر، بينما ذهب بي البال ، ليقطع ذلك الشوط المضني ، وكأني سأدمي قدمي فوق صعيده المشوك ، ثم ينعطف ليعود بي إلى الربيــــع المبــكر ، أو إلى بداياته اللاواعية ، وكنت أتقدم في الشهور المتأخرة من عامي الرابع عشر.وكنت أرغمت على ارتداء الملاءة السوداء . في ذلك الزمن الذي مر كالهباء حشرت جسدي الفتي بين حشد نسوة القرية اللواتي طوقن عرافا طرق القرية عصرا ،ولا أدري كيف أدرك وجودي،وقد تلفت حوله، وكأنه يستميح النسوة عذرا لثـوان ، وأشــــار باتجــاهي ، ليقــول : لنقرأ كف هـــذه الصغيرة ،الحلوة ،إنها تبدو أشبه بسنبلة ( ماكسيباك) بدأت تنضج ! هيا تعالي ، اقتربي . وعلى حيـــاء بسطت كفي أمامه ، فتفرس في خطوطها ، وراحتها المملوءة ؛ وأطلق حسرة ، شعرت ، وكأن غصة اعترضت فــــــي حنجرته ؛ وقد تغضنت وجـــوه النسوة، وشملني بنظرات مستغربــة ،
، متوحشة . ولما رفع العراف رأسه ، تحسر ، ثم قال : أرى ، وكان زورقا يحملك ، يقطــع بك شوطا في يوم ذي ريح عاصفة ، يتمزق شراع الزورق ، فيعلو شراع ثان ، كان الحظ جاد به
، وقد قرب الزورق يغرق، وتغيبه الأمواج المتلاطمة ، فتغيبين معه في قرار ظلام أسود.وثمة
جدار يحجب النظر ..نظرك .. تشعرين بالوحدة ، والضياع ، جدار قديم ، كالح، وكئيب ،ولا ظل له، يسمع من خلفه صوت بكاء نسوة ، ونباح كلاب . ولما حاول استعادة أنفاسه،انبرت(نجمة
غافل ) بصوتها الرجولي متحدية ، بينما وجهها الأسمر يحتقن بالدماء ، فتزداد سمرته :
ـ ما هذا الهراء ، لم نفقه مما قلت حرفا واحدا ! .
تأملها على مضض ، وبسط كفه أمامه ، وكأنه يعلن عن حيرة :

لم أنس نبوءة العراف ،إن ذكراها لا زالت ترافقني إلى اليوم،وقد رحل(شبل) ،ورأيتني أبحر
بلا شراع في لجة الموج في نهر عاصفة ،وعيناي تسألان السماء ، من أين أحصل على شراع
لأجدف باتجاه الساحل ، وعلى أي صورة ، وفــــي أي أمر . وهذا ( ليلـــو) يقف سـدا ، جدارا
قديما ، ويحجب النظر ، فلا أتبين الساحل ، الساحل الذي لم يكن بعيدا، كما يتراءى لي . بينمــا
القطار يمضي، يصطخب في نفق الظلام ..إلى أين يمضي ، لا أدري ؟. ووحدهما عيناي تبكيان
، وتستدران الشفقة من قوى علوية غير مرئية ، فيصدها الجدار الكالح ، وأمواج الرغام .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الماكسيباك : ضرب جيد من القمح ، أستورد ، آنذاك ، لزراعته في العراق .

8







كنت ، كمومياء ، ملتصقة فوق كرسي في قطار يصطخب ، وحتى هذا النهار لم ألمـح ما يشير إلى شيء من الفرج ، رجوت أن يتجسد في نوع جديد من المسرة ،أعني هذه الخارجــــة
عن حاجات الجسد المحض، وهناءات الفراش القصيرة العمر.وكأنني تعمدت أن أشير له شارة عابرة عن الصبر، ولكي أتحاشى عذاب تلك الهواجس، وبلبلتها المتقلبة الريح المتشعبة الأذى

ضغطت كفه، وجدتها لا زالت محتفظة بحرارتها ، ونعومتها ، كانت أنامله تتخل غدائر رأسي
السود القصيرة ، الناعمة . رويت له ، وأنامله لا زالت تستعذب نعومة الشعر ، وسواده :
ـ كانت قبل يوم تسترسل في ضفيرة طويلة ، وتكاد نهايتها تنتهي عند عجيزتي .

تحشرج صوتي ، شعرت بالمرارة ، لقد عاد إلى بالي ذلك النهار ، أو صباح ذلك النهـار الذي قصصت فيه ضفيرة شعري، صبيحة ذلك النهار الذي نقلوا فيه نعش(شبل) وشيعوه إلى طريــق
السيارات الذاهب إلى المدينة . حيث ستحمله ، هناك ، سيارة إلى مثواه البعيد . منذ ذلك النهــار الذي أقسرتني في خلله تقاليد القرية ، تعبيرا عن الحزن الشديد ، لم يمّس فيه المقص شـــعرة
واحدة .. اجل ، منذ اثنتي عشر سنة ، فاسترسل في ضفيرة ، سوداء فخمــة . ترقد ليــلا ، إلى
جواري أشبه بأفعوان كبير ، ومخيف ، يحرسني من عيون شـــريرة ، ومن نظرات (ليـــــلو )
التي يرسلها حادة من ظلام روحه الثقيل ، ومن تحت حاجبيه الكثين .

ألقى باله إلى مكان بعيد ، وكأني أوقظه من سرحانه ، قلت :
قالت حين ألقتها إلى جواري ، ورفعت المشط لتمرره في الغدائر القصيرة ،
ـ هـاء بدوت أكثرشبابا ، وحسنا ، وحيوية .
ـ من تلك التي قالت ؟.
ـ سها ابنة أختــي .
ـ أختك التي زرتها ؟.
ـ أجل إنها أختي الوحيدة . هل أبدو أكثر شبابا حقا ؟.

انسحبت كفه ، وانزلقت الأخرى مع امتداد الكشح ، كأنها في رحلة استطلاعية لاختبار نعومة
وفرها الصقيع، كما وكدت أمي،على سجيتها ،آنذاك . واشعر بها تنحرف باتجاه الحدب المرتفع
، ولما بلغت ، في سعيها القمة ، ضرب ، برفق ، فوقها مسرورا ، فعل ذلك ، قبل أن تندفع ،في
جرأة إلى مكان آخر ، قبل أن يتيسر لي القبض عليها ، وكانت اعترتها رعشـة .
جاء رده متأخرا :
ـ بل في فورة الشباب .

أمسكت بيده . كنت نسيت ما تحدثت به عن الصبر ، والظفر ، كانت أنفاسه تلفح صفحــة

9








وجهي ، وكأنها تحتفظ بحرارة القيظ ، وقد حملت رحيقا ً منعشا حاكي رائحــة قرفة تسامت من من إبريق ترك فوق لهب أزرق، وانتشرت في هواء المكان. وكانت كفه تضـغط ظهري،تلصقني
به ، حتى افترش ثدياي عشب صدره ، رأيت شعر صدره الأشقر الكثيف ينسحق فوق صدري أشبه بعشب ذابل . أتاح لي شعور أنني أحسست بدقات قلبه ، وكأنها تناجي دقات قلبي ، وقد تقاربـــا تماما . وكانت يده تسحب رأسي إلى الخلف ، فيتيح له الانفراج مزيد من الفرصة لإلقـاء قبلاتـه فوق نحري ,وكنت أطبق أجفاني ، قاطعة اتصالي بحبال الماضي ،وأواصره المؤذية ،متحاشية تأمل أثار الجرح الطويل في صفحـة خده الشمال ، وكأني أهرب من سؤال سيترك شـعورا بالألم ، ولكي لا أشعر بتلك الشارات الحـزينة التي تخللت سني العمر في وقت مبكر، فتزيد من وقعهـا
، على الروح ، أشبه بهمسة حائـرة ، لا أدري أين قرأتها ، ومتى : ( بعض الناس يموتون عند الجزر، بعضهم في مياه ضحلة ، وبعضهم عند طغيان الماء .. ) وما ينبغي علي ، الآن ، على
الأقل، إلا أن أنسى ، وأتخلى زمنا قصيرا عن آلام تلك الخيبات ، فـهي تعشعش فـي أوكان العقل الباطن ، بل تعرش في الذاكرة ، مثلما تعرش النباتات الضعيفة ، المتسلقة بما حولها .


شعرت بكفه تبعث في الجسد الخامل حرارة ، توقظ حواسا أخرى توارت في زوايا منسية
، توقظ أنفاس اليقظة ، وتجرف صقيع الشتاءات المتراكم ، فيتبدد ما يشبه الخمول ، تمر كفــه
ملقيـــــة ظلالا، وتبعث الرحيـــق ، تفعل مثلما فعلت أولــى غيوم الخريف عندما تغشى الأرض
الظمأى بظلها الرقيق ، أشعر بها تلهث أيضا ، فيشاركها كل شيء هذا اللهاث الغيبي المتقاطـر
، يتوهج شعور غني بالنسيان ، ملك أرثا من السحر ، ويمضي في طريق لاحب تحفه زهور ،
غاب عني حتى وجه طفولتي ، ووجه العراف ، بكل قسوته ، وهو يتأمل وجه ( نجوى غافل ) الممعن في السمرة ، بل نسيت الأرجوحة ، وفراش النجيل ، والتطلع بفتور إلى سماء الربيــع
الزرقاء ، ورائحة العشب ، وندى آخر ما ألقتــه سحابات الربيع من ودق منعش ، بدا أشــبه
بدموع الوداع ، نسيت آخر صخب سرب للعصافير مّر فوق صفرة ســــنابل (الماكسيباك) ، بل صار بإمكاني نسيان كيفية استعادة وجه القرية الشاحب شحوب الحقول .

أخيرا سكنت كفه بعد جولتها المجهدة ، وطوافها المتلهف ، رقدت بكل حرارة وصالهــا ، وعبثها فوق الفخذ الشمال ، رقدت منبسطة بعد تجوالها الجنوني ، لتلقاها فوق نعومته تعـوم
في الحلم ، المفعم بحرارة اللقاء . ولم يكف يسمع صوت قبلاته ، مسعورة ، متلاحقة ، تنبض
بفيض من الصدق ، بينما تتسارع دقات قلبه ، تُسمع كنشيد يتردد له صدى فـــي آخر الأرض
اليباب التي لمحها بصري حينما تبلغ الأرجوحة أعلى مستوى لها فـــي الارتقاء ، أجل حينمـا يفزع العصافير هذا التمادي ، وقلة الحـــذر، أو نسيان الخوف من ســـقطة مميتـــة . ضحكت
، فسأل مستنكرا : ما يضحكك ؟


10





ـ لقد حلقت العصافير هاربة ! .
ـ ما قلتِ ؟ .
ـ لا شيء .
وعاد يضمني إليه ، يجاهد في الاستحواذ علي بين ساعديه ، أشعر بحرارة الشوق للاتحاد
، فيزداد التصاقا بي ، وكأنه شعر بي جزء كان مفقودا منه لا بد من استرداده ، واحتــــواءهِ
في غاية الحرص ، والإخلاص عبر هذا العناق الحميمي المستعر ، المتواصل ، وقد رأيتنــي
عثرت على ما يشبه ذلك الشيء المفقود ، الشيء الثمين الذي كان تبدد في يوم عاصف ،أو
شعرت به ذهب مع أدراج الرياح السموم .
ـ آه .. ! .
ـ ماذا ؟ .
ـ ينبغي أن أشكره شكرا مبالغا فيه .
ـ تشكر من ؟.
كان يلهث ؟ . وبعد ثوان قال :
ـ الشبح ، أما رأيتهِ يجوس في الحجرة .
داعبت ذراعه :
ـ آ.. يبدو رأيته أيضا ً ! .
ـ لثوان ، ربما كان شبحها . أين الضفيرة ؟.
ـ شبح من ؟ .
ـ شبح امرأة لم تعد في الوجود .
ـ وما تفعل بالضفيرة ؟.
ـ لتبقى لدي ذكرى عابقة .
لثم خدي ثلاث مرات .
ـ إنها لدى البنت التي تحبني أكثر مما تحب أمها .
ـ هل أراك في وقت قريب تحملينها لي .
ـ وهل سأراني أطرق بابك في يوم ما ؟ .
ـ ربما .
ـ كيف ؟ .
ورشت نسيمة ريح محملة بشذا ورد الجوري ، فاخذ نفسا عميقا إلى صدره ، وقال بصوت
باك ، أو هكذا تراءى لي :
ـ أرانا أمسينا أصدقاء .
تحسرت ، ثم قلت :
ـ أصدقاء ! إنه لقاء عا... بر أوجدته الصدفة .
ضحك باحتراس ، ثم قال بصوت منشرح :
ـ طوبى للصدفة أيضا .


11





أطرقت ، فقط التبس علـّي أمر ما . هل كانت يد المنون خطفت روح ( شبل) صدفة فوق الجبل
، وكيف ارتقت بنفسها إلى القمة العالية ؟ وتنهدت ، وقد رأيتني كمن يسقط في هوة لا قرار لها
، هوة من الظلام الثقيل ؛ وشعرت به أدرك ما يخالجني ، فمد ذراعه ، وربت عاتقي بحنان ، ثم
سمعته ، وكأنه يهمس لي ، من مكان بعيد .. بعيد :
ـ سيحزنني أن لا أراك مرة أخرى .
تحسرت :
ـ سيحزنك ؟ ومن أنا .. مرثيلا * ؟.
ابتسم ، وسأل :
ـ ومن هذه ..؟ .
ـ امرأة حسناء خلدتها الكتب .
ـ حسناء خلدتها الكتب ! .
ـ حسناء جدا .
تحسّر ، وقال ، بعد شعور بالتردد :
ـ وأنت امرأة لا تنسى ، وأنا أحبك .

رفع رأسـه ، وسحب كفه ، وجعل وجهي بين كفيه ، محدقا في عيني ، فرأيتنــي ، رغم شحوب الظلام ، كأني أعوم في أمواه زرقاء لا تلوح لها شواطئ ، أو سواحل ، ثــم لا أدري
كيف أطبقت رائحة القرفة المنعشة فـي هواء المـكان ، ثم كيف انبعثت ألوان طيف شمسي ،
، وفـــي أي طريقة تسللت إلى روحي ، وجسدي ، وفــي خلل ثوان فقط ، كان كل عضو يختلج ، أو يضطرب . بينما كفــّه ، لا تتوقف تمّسد غدائـــر شــعري السود بحفاوة ، لتنزلق بعد ذلك ، إلى العنق ، ولم تتوقف إلا عند نعومة العاتق ، قبل أن تتسلل ، برفق ، إلى الثبج . وتضغطـــه
بحنان لا ينسى .

غبنا في قبلة طويلة ، لا زلت أتأمل أطيافها الباهية ، وكأنها لا زالت ، بكل امتلاء تحتفظ بألوانها ، ورحابتها ، ونداءاتها المتعاقبــــة . ولم أرَ نهزة لأرد ، على ما أبداه من توجسـات
نسيت مشاعره القلقـــة ، فقد طرق سمعي صوت سعال جاف خلف جدران تبدو قريبة ؛ وكأن صوت السعال المتهالك في هذه الساعة أقلقه أيضا ، قال ، وكفه تربت كتفــي العاري ، وكأنه شعر بما جعلني أتنصت بحذر:
ـ إنه جارنا البقال في بيته .
ـ هل يشكو داء في صدره ؟ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* : مرثيلا : الراعية الحسناء في رواية دون كيخوتة لسرفانتس .

12







ـ حين تتأملين وجهه نهارا لا تشكين في ذلك ، ولكنه يسرف في تدخين السجائر الرديئة .

كان بسط كفه ، وتركها في ذهاب ، وإياب فوق ظهري . بينما حدتني رغبة التحدث معه عن ذلك الظل المرهف ، الطويــل ، وكانت أذني التقطت همسته الساحرة ، وكأنـه نفث ريح أنفاسه فــــي هواء الحجرة الواسعة ، فشعرت بما يشبه الدوار ، أعقبه شعور بالخـوف ، وكأن صوت خفه طرق أذني وهو يخطف نفسه من أقصى الحجرة إلى الباب، شعرت أنه خطف نفسه بجلجلة
،تأملت طريق خطفته . وراودني شــعور بالوجل : لقد أحسن الرجل ضيافتي ، وأمرني بإيصـاد الباب دوني ، وهو يشير إلى المفتاح ، إلا أن أنفي التقط تلك الرائحة الدافئة ،والمنعشة ،كأنها
انبعثت من كائن غير مرئي ، واحتشدت فـــــي المكان ، وفي ثوان من الذهول ، وجدتني ، من جديد ، إلى جواره في سيارة الـ ( O. M ) المتهالكة . كان قاعدا إلى جواري ، وفخذه يلتصق
بفخذي ، بينما السيارة العتيقة تدب فوق الطريق القديمة بمفاصل شاكية ، بينما كنت أواصـــل
التمتع باتصال سرّي، يشتد سحره كلما ارتجت السيارة ،وقد رأيتني اهرب بنظراتي إلى الأرض
الميتة الموازية إلى الطريق ؛ وكأني أتوه ، مرة أخرى ، في طرقات الأعوام الضائعة.

زحزح يدي ، وانحنى فوقـي ، ثم لا أدري كيف تمكن من حملي بين ذراعيــه إلى ســـريره الأبيض القريب ، السرير الذي لا يتسع لشخصين إلا إذا كانا نحيفين ، وبالكاد يفصلهما فـراغ
. ولقيتني فوق ملاءته الزرقاء ، وكان واقفا ، وكأنه يجاهد فـي استعادة توازن أنفاســـه ، لقد
أرهقه ثقل جسدي ، وربما شعر بالدوار .

وكأني نسيته ، وقد طرق أذني صوت أزيز عجلات السيارات ، الذاهبة ، والقادمة في الطريق
الممتد إلى العاصمة البعيدة ، وأعقبه، أو تخلله نباح كلاب سائبة تجوب طرقات ، وأزقة المدينة
في الظلام الموحش الذي يغشى الأزقة ملتصقا برائحة نتنة ، وكانت الكلاب تتشاجر ، ولهنيهة
نأى نباحها ، كأنها سعت إلى أزقـــة أخرى بعيــدة ، ثم أتيح لي أن أصغي إلى صوت ريح نديــة عبثت في أغصان شجيرات ورد الجوري القائمة خلف النافذة المجاورة للسرير ، القائمة فــــي الحديقة المنزلية الصغيرة .

كنت أغمضت أجفاني ، وأرهفت السمع إلى حفيف الليل ، وهو يمس جبهة المدينة الغافيـــة ،
والتي أرهقتها طبول الحرب المنبعثة من مكبرات الصوت . ثم خيل لي أنه لا زال يلهث ، وكان
يقترب، ثم يزحف إلى جواري؛ فيصر السرير تحت ثقل جسده ، حتى خشيت تحطم إحدى قوائمه
. إلا أن طغيان تلك الرائحة على جميع الروائح أنساني شعوري المتوجس بالسقوط ، وإحداث ضجة ، ثم أراني ، وكأني تلقيت طعنة في عضو ما من جسدي . وكنت لا زلت أصر على إطباق
أجفاني ، وكأن ذلك الحياء لا زال يلازمني ،فقد كنت في كل لقاء لي مع (شبل)أخفي عيني تحت
ساعدي ، محترسة النظر إليه ،عائدة إلى أيام الصبا ، والطواف في الحقول لرعي الأبقار،وإلى


14








سويعات الاسترخاء فوق بساط النجيل ، والاستغراق في تسريح البصر باتجاه خط الأفــــق ، أو
إرساله بحرية إلى السماء الزرقاء ، والبحث عن سرب بط مهاجر. وكأن (شبل )عاد من سريته
المرابطـة في الجبال الوعرة ، بعد غياب شهر ، أشبه بثور أعد لتلقيح الأبقار ، ثور هائــج ، لا
يغمض له جفن في الليلة الأولى ، والثانية أحيانا ، من إجازته ، حتى يضيء الأفق السناء الأول
، ويلقي أشعته المرتعشة ، الباردة ، على ما بقي من سوق نباتات القمح . ولما أراه يتهالك إلى جواري ، يبتسم بإعياء ، ثم يقول :
ـ إننا نعرس في كل شهر مرة ، إن أعراسنا لن تنتهي إن شاء الرب .
أهمس ، وكان ألقى رأسه ، فوق الوسادة ،إلى جوار رأسي ، وقد أصبحت أذنه قريبة من فمي
، وذراعي لا زال فوق عيني ، كأني احترس رؤيته تحت ضوء الفانوس الأصفر الشاحب،وأنفي
يلتقط ،على إكراه ، رائحة الكيروسين الثقيلة التــي تبعثها ذبالـــة الفانوس فــي هــواء الحجرة الراكد :
ـ نعم ابن عمي ، لقد أرهقك السفر في الطريق البعيدة أيضا .

يضمني ، بحرارة شوق متوارث ، يلتصق صدري بصدره ، ينسحق ، في هدوء الليل ، وشذا
ورد الجوري شعر صدره الأشقر فوق صدري ، بينما روحت تلك الرائحة الشذية التي تحاكي رائحة القرفة إبان شمها في مساء شتائي . يلثم وجنتي ، ويهمس :
ـ كانت مشرقة تحت أشعة الغروب ، ولمعان زجاج النافذة ! .
ابتسمت . سأل :
ـ يكفي ، أم لا يكفي ؟.
لا أدري ما يعني ، فاعتصمت بالصمت ، فأردف بقوله :
ـ قلت يكفي ، أم لا يكفي ؟ .
ـ ماذا ؟ .
ـ السرير يا عزيزة .
تركني أبتسم ابتسامة شاحبة ، متجهمة ، فقلت ببرم :
ـ بالكاد .
ضحك ، وقال :
ـ بل يكفي .

يحتويني بين ذراعيه ، وكأني سأسقط أرضا . تلتقط أذني صوت سعال جاره البقال المؤلم ، وهو يطلقه من فناء منزله القريب ، يكتنف روحي مزاج غير مريح ، وكأني أشم رائحة (ليلو).
ـ إنه يذهب إلى دورة المياه .
يعود، يضمني بحرارة أشعر بها اصطخبت في السرير ، ويضغط ، يحتج جسدي ، أو يشكـو


15








مرسلا ثلاث طقات ندت عن بضعة فقرات . أفتح عيني في الظلام الشفيف ، ألمح ألــوان أطياف قزحية تتقاطع في المكان ، و تنعكس فوق الجـدار المقابل،وفوق أجنحة المروحة ، وسرعان ما تعكسها المرآة باتجاه الباب الموارب ، بعد أن خطفت فوق لوحة ( ديلاكروا ) كما تخطف أجنحة
فراشات ، أو يعاسيب ملونة . وهناك (عباءتي ) السوداء المعلقة خلف الباب تبدو فــــي هيئــة
متشنجة ،بل كأنها غراب أسود انتصب فوق قرنة مرتفع . والليل يمضي حالما بسكون يتواشج
مع سكون الحقول المحيطة بالمدينة . ووحده السرير يرسـل صريرا مسموعا ، يظاهـره صـوت
لهاث ، ويده تزيل حبات عرق صغيرة انبثقت فوق صفحتي وجهـي ، بينما ذهني بذهب برفقـــة ذلك الصرير ، وعيناي تحاولان ، بلا جدوى ،اكتشاف تعابــير وجـهه ، وكنت شعرت بالانفصال عن وجودي ، وقد كربت القرية ، بكل بؤسها تتوارى خلف ضباب ، يطفـو فوقه علم المدرسة ،
وأعلى النخلة التي استسلمت لاندفاع حركة الريح .وكان السرير يدور بنا فـــي الحجرة ، وتدور
الموجودات معه ، المرآة ، ولوحة (ديلا كروا) والأريكة ، والباب الموارب ،والعباءة التي فقدت تشنجها ، والنافذة العريضة ، بينما الألوان القزحية لا تكف تتقاطع، تقاطع الأفكــار، وتشوشها
، وكفي تكافح ، لـتزيل حبات العرق عن جبهتي ، وجيدي . بينما فمه قريب من أذني ، يبوسها بحرارة :
ـ هل تشمين رائحة الطلع ، كأن عراجين قريبة ترسله إلى المكان ! .
كأن الرائحة أسكرته . وكمن تلفه عتمة المساء في القرية سألت ، ما يضر ، أو يمنـــع إن كنا
فوق سريري في القرية ؟ بلا شك ستدفع الريح شذا العراجين في نخلة الأرجوحـة إلى المـــكان
، وستمتلئ رئتيه بها ، وكنت كثيرا ما تمتعت بها حين تنشط الريح القبل . ابتسمت رغم عتمـــة لأماني ، وبعدها ، فضمني إليه ، احتواني ، وكأنه يلذ له أن يحتمي تحت جناحي ، أشعر بدفء كيانه ، بقوته ، وهو يكبح شعوري بالوحشة ، فأمضي معه ، أود لو أروي له شيئا عن ( شبل) ،وكنت انقاد معه متجردة من مخاوفي التي أرست دعائمها غربة الطريق الموحشة التي سـعيت فيها وحيدة اثنتي عشر عاما . وكانت الساعة فــي الحجرة البعيدة أرسلت عدة دقات لم أستطــع إحصائها ، إلا أني اعتقدت إن الليل بلغ منتصفه ، ليل أيلـــول المهادن ، وريحه الرفيقة بليونــة
العراجين الصفر .
ـ أتزورينها دائما ؟.
ـ من أزور ؟.
ـ أختك .
ـ إنها أختي التي أحبها كما أحببت أمي .
ـ أرجو أن لا تنسي الطريق إلى البيت ؟.
ـ بيتها ..لا ..لا .
تنهد بحرارة :


16








ـ بل بيتي .
داعبتُ شعيرات صدره الشقراء ، وتحسرتُ :
ـ آ .. بيتك ! .
ـ أرجو أن لا يرغمك المساء أيضا .
وسقط وجهه فوق صدري ، وسمعته يسحب شهيقا طويلا حتى شعرت به سيختنق . ولما اعتدلت أنفاسه سأل بصوت حزين:
ـ ولماذا هذه الـ : آه ؟.
كان لا زال يلهث إلى جواري ، سحبت زاوية الملاءة من تحت أقدامنا ، وأزلت حبات العرق
عن وجهه ، وصدره العريض ، فسأل بسذاجة :
ـ ما يقول هذا ؟.
وترك كفه فوق ثديي الشمال مائلا باتجاه الفراغ الضيق بين النهدين ، شعرت بدقات قلبي لم تنتظــم بعد ، أو إنها اضطربت عند سقوط كفه فوق صدري . قلت :
ـ هلا سألته ؟.
ـ وهل تراه سيجيب ؟.
اندفع لي ، ورفع كفه ليمرره فوق غدائر شعر رأسي القصيرة ، وشعرت به يستلطف نعومتها ، ورائحتها :
ـ لقد سألته ، فما تراه يقول ؟.
ضحكتُ ضحكة مكتومة ، حذرة ، ثم أخبرته :
ـ إنه خجول .
ـ وما يخجله ؟.
وبصوت اعترته غصة قرأت ، وكأني أروي له الحكاية برمتها :

قد كان لي مشرب يصفو برؤيتكم
فكدرتــه يد الأيـــام حين صفـــا *

احتضنني ، وكأنه يصونني من أسى الذكرى ، وشعرت أني عثرت على من أستطيع أن أبثــه
همومي ، وأشجاني ، فاستقبلته بين ساعدي بحرارة وكأني كنت بانتظاره مذ هوت نخلة الأرجوحة الثانية :
ـ هلا فتحت ضلفة من النافـــذة .
ـ ستهجم الهوام ، وصرار الليل ، وسيتسلل سعال الجار الكريه جهوريا .
ـ حسنا افتح الباب قليلا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الجنيد بن محمد الجنيد .

17









وعاد إلى بالي كيف كنت أوصد النافذة في بيتي في القرية ، خشية ولوج الهوام ، وحشــرات الحقول . وكانت مروحــة الســقف تدور دورانا بطيئا حول نفسها ، ولا أدري لم خيل لي كأنــها تخوض في وحل ، مما جعلني أشعر بالقرف ، وانحراف المزاج . وكان أدلى ساقيه من السـرير
، ثم نهض ، ووقف ، وكأنه يتهيأ للتثاؤب بصوت شاك ، ولما توسط الحجرة همست خلفـــــه ،
وكأني أتوسله ، بل أدعو لكي يقف قبالتي ، وكان عار تماما ، فاستدار ، وهو يجمع كفيه فــوق
ملتقى فخذيه . هتفت به مستنكرة ، فأدلى ذ راعيه إلى جانبيه ، تأملتــه لثـــوان ، ثم سرعان ما دفنت وجهي في وسادته الطويلة ، وكأني أحتمي بها ، وكنت ، فـــي الـواقع ، تحت تأثير شعور
ما ،أتأمل تفاصيل ذلك الجسد الباهر ، وهو فـــي قعدته المهيبة ، معتمـدا على ذراعه الشمـال ،
ومشيرا بسبابة ذراعه الأخرى ، وكأنه سيلامس ســـبابة أخرى ، وقد تراءى بهيا في التفاتته ،
واتساع صدره ، ورشاقته ، وذراعيه ، واستدارة فخذيه ،ورشاقة ساقيه . وكانت فـــي وقت ما
تبادلت مع (حنان ) نظرات الاندهاش ، وقالت ، وكأن قامة ( لقاء) تتخاطف أمام باصرتيها :
ـ أي فنان رائع هذا الـ ( ميخائيل *) ! .

تراءى لي أني اكتشفت شبها كبيرا برجل اللوحة الخالدة . وكنت لا زلت منبهرة الأنفــــاس ، وكنت للمرة الأولى أتأمل جسد رجل عار ، وقد خشيت ، وأنا أكتم أنفاسي في وسادته ، أن ألقى
حتفي ، أو يغمى علي . فـــــي تلك الهنيهة تراءى لي كيف سقط (أبو بريص) ميتا ، وهو يعاني
الحسرات ، بعد التأملات الطويلة لجسدي العاري التي أتيحت لعينيه في الحمام .

واربَ الباب ، ولا أدري أين مضى ، إلا أن قرع قطرات الماء لبلاطات الحمام أعلنت عن وجوده . قعدت نصف جالسة ، ومن فتحة شاقولية بين فلقتي الستارة ، تأملت أغصان شجيرات
ورد (الجوري)،كان بعضها ينوس مع ريح تهب هبوبا متكاسلا ، وينعكس ضوء مصباح عمود الشارع على بعضها . وقد انقطع ، في تلك الساعة ، مرور السيارات في الطريق العام ، وكانت الساعة ، وكأنها تتثاءب كسلا أيضا ، قد أعلنت عن الثالثة ليلا . ولا أدري متى ،ولماذا لا أشعر
بالوسن يثقل أجفاني ، وقد انصرمت ساعات الليل ، لاكما تنصرم مع (شبل) ،وهو يعانــي البرد
في الربيئة المعلقة في رأس الجبل المكلل بالثلج . ورغم الوحشة التي تبوأت عند انصرافه إلى الحمام ، وغشت مكانا ، و كأنها حجبت الجدار ، وجزء من لوحة ( ديلا كروا) ، وصوت قرقعة المياه ، أراني أعتلي الأرجوحة ، فتندفع بي طوعيا إلى أقصى ارتفـــاع لها ، تروح ، وتجيء ،
وفي الأسفل لم ألمح له ظلا ، بل لم أر يده ترتفع ، وتشد على حبل الأرجوحة المتين ، ذهب بي الظن أن الريح هي التي كانت تفعل ذلك ، الريح التي أعلنت عن وجودها بأزيز ترسله العراجين
التي،كثيرا ما كانت تتراءى، لي وحدي ، كأنها أعناق فصلت عنها رؤوسها ، وكان هذا الشعور
الغريب ، وحينما يتمرد في صدري لا يتركني إلا بعد أن أراني منهكة القوى ، ملقاة على صعيد
موحش،وقد جفت دموعي فوق خدي، فأسأل السؤال الذي لا يكف عن مناكدنــي : عــلام كل ذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* : لوحة آدم لميخائيل إنجيلو .

18







الحزن ،والشعور بالغربة ، هل كنت أحب ( شبل ) وهل هو فراقه لا زال يشجيني حتى هــذا اليوم ؟ ، وأجيب دون تفكر: لا .. لم يخطر على بالي مثل هذا الأمر ؛ وعلى تلك الوتيرة يبقى السؤال حيا ، نابضا كعرق يواصل النبض في جسدي. وكأني أواصل الـتأرجح ، أشعر ، وكأن
الريح تقودها ذهابا ، وإيابا ، فترى تنوس تحت نور الكواكــب ، وإرتعاشات سعف النخلتين ،
وبقايا رائحة الطلع ، وسقوط بعض العراجين القديمة . وأنا أندفع ، تقــذف بي قوة لا مرئيــة
إلى فوق ، إلى الكواكب حتى لم أعد ألمح أثرا لبيوت القرية ، أو أكواخها . أو ألمح ظــلا لعلم
الدولة فوق مدرسة القرية، وكأنه يخفق، مع الريح السموم في كسل.أرتفع دون أن يراودنــي
خوف من سقطة مريعة تتهشم فيها عظامي جميعها ،وكأني أكتشف أيد خفية تدفع الأرجوحة ، وثمة أنفاس منبهرة تسمع تتردد باحتراس ، وكأن هناك ، إلى جوار جذع النخلة التي لا زالت
قائمة ، ثمة من ينتصب بعود سامق مع ارتفاع جذع النخلة ، وفي طريق التراجع لمحتــه ظلا
شفيفا يكاد يلتصق بظلها ، أبطأت ، ثم هتفت به :
ـ أي أنت ؟.
ـ أنا .. لا أنا .
ـ أنت هو ! .
ـ من هو ؟ .
ـ الذي يؤرجحني .
ـ أنا ! .
ـ أجل ، الذي همس همسته ، ونفث أنفاسه في جو الحجرة أيضا ً، ما تفعل هنا ؟ .
ـ حضرت كي أصونك .. إنني حارسك .. إنني من يرعاك .
كان له نفس جرس صوت (شبل ) . فصحت به فزعة :
ـ أنت .. شبل يا هذا ؟ .
ـ ومن شبل ذا ؟.
أطلق قهقهة ترددت في جوف ليل القرية القلق ، ثم وجدتني عدت لأدفن وجهي ، مرة أخرى في الوسادة ، وأشم رائحة قرفة ، ثم أشعر، وكأني سأكتم أنفاسي ، واراني كفراشة تحترق .

فتحت عيني كأني أبحث عن ظل هذا الكائن الحي ، اللامرئي ، سواء فـــــي وسط الحجرة ، أو إلى جوار العباءة السوداء المعلقة ، وكأنه يتوارى بين طياتها ، إلا أن رجاحة سكون الليل الذي أوحى لي أن السعال لم يعاود صدر الرجل البقال ، وأنه منحه فرصة ليواصل نومة ثقيلة
إلى الفجر. وحده السؤال الذي كان من الأجدى إلقاءه على سمعه، وهو إلى جوار النخلة يتمتع
بظله النحيف ، الخارق :
ـ ما معنى أن تقودني الصدفة ، وهل ترانا إلا ضحايا الصدف ، تقودنا إلى حيث تشاء ، وترغب
، مثلما تقود البعض منا إلى الموت أحيانا .. الموت عند الجزر .


19









لا زال مؤلما التفكير على تلك الشاكلة ، إلا أني ، بلا وعي ، كأني أُسَتدرج إلى هذا الضرب من التفكير، ربما حدث هذا معي بعد أن جيء بجثمان ( شبل) من الجبل فجأة ، كان خيل لي أن
قوام كفنه من الثلج ، فقد كان تحدث كثيرا عن الثلج في إجازاته ، ثلج يكاد يخفي هيئة الجـبل ،
ويموه الربيئة حتى تبدو أشبه بمغارة طويلة ، مظلمة ، كان ، كما لم أنس تحدث بلهجة خائفة
عن الثلج : إنه يهبط من الفضاء كثيفا ، شلالات من الندف البيضاء ، اعتقدتُ ذات مسـاء أنـه
سيدفن الوادي المجاور ، فتموت جميع الكروم المعمرة فيه ، نعيش في وسط أبيض ، دنيا ،أو
عالم مكفن ببياض مدهش يدفعني ليلا ، ونهارا إلى الحنين إلى تذكر دفء قريتي ،أشعر،لشدة
البرد ، أن لا وجود لقريتي الدافئة ، وأن لا طريق يؤدي إليها ، بل إنها لم يعد لها وجود .

كان هذا التفكير يكرس عنفه في وجه لحظات الصفاء ، مرارا أذكّرُ نفـسي أن (شبل ) مات
، بل أمسى طيفا ، أو ذكرى ، يخطف نفسه في خلل ثوان ، ويختفـــي ، يتراءى كظل يطل بوجه
رمادي ، فقد ملامح وجهه ، ثم يتبدد ، ورغـــم عتمة تلك الهواجس رأيتني أقارن ، بصفاء بين
جسد (شبل ) وجسد الأب التي جسدتها ريشــــة (انجيلو) بكل بهـاء .. جسد يحيطه النور،ويشع
ضياء ، وأراني أكتشف أن جسد الفتى (شبل) لم يكن سوى نسخة مشوهه عن التكوين الأصلي الرائع ، إنني لم أنس شارة التحدي التي أباحها على امتداد ذراعه . أبتسم ، ثم أسـتنكر أن أعثر
على من يغريه التفكيــر إلى تلك الحدود التي لا تطرأ على بال أحد من الخلق ، ليس في قريتنا ،
بل في المدينة أيضا، أية مدينة تخطر على البال ، وهل تراه العربجي ( وارد) أو ( وافي) رفيق
صباه يصرف الوقت ذاهلا ، وقد جنح به الخيال على تلك الصورة ؟.

عاد يمشط شعر رأسه المبلل بأنامله ، هكذا تأملته ، وبنفس النظرة ، والإحساس ، وأنا لا زلت في بيتي ، وفي سريري ، كان ستر نصفه السفلي بـ ( منشفة ) كبيرة ، وهو فـــي طريقـه إلى الأريكة . وقد أمسى ظلام الحجرة أكثر شحوبا ، وخفت نور المصباح فوق أوراق أغصــان
شجيرات الجوري . عند هذا الحـد من التفكير لم أرَ من المجــدي مواصلته ، تلفعت بالمــلاءة ،
وليس ثمة ما يمنعني من الذهاب إلى الحمام ، تقدمت ، وكان ظلي يتبعني أشبــه بذيل طاووس
حتى واربت باب الحمام دوني ، وقفت وقد شغلني أمر الطريقة التي ذهبت بها إلى الحمام ، لقد
مشيت على نهايات أصابع قدمي خائفة ، قلقــة ، رأيت كأني ألقيت عني كل ما كان يصونني من طوارق الأيام ، بدوت امرأة أخرى ، بل ( فرح ) أخرى .

* * *

كان يتكأ على ذراع الأريكة ، وهو يستغرق في تأمل ثوب الحداد ، والوشاح بدبوسه الذهبي
،والجوربين الأسودين ،وكان أحدهما يتدلى من السرير، وكأنه أنتزع من الساق عنوة ، وألقي


20









عبثا .

قعدتُ فوق حافة السرير ، وأشرت له ليذر مكانه إلى الحجرة الأخرى ؛ نهض وهو يبتسم ، واستدار،بعد أن تأملني لثوان بنظرة زرقاء . وكانت معالم الحجرة أشبه بكائنات استيقظت توا ،
، ونور الفجر يتألق على نسيج فلقتي الستارة في غفلة عن سعال البقال، وكان كل شيء يؤذن لنهار جديد . سارعت لالتقاط ثوبي ، ثم ارتديته في حركة سريعة ، وسحبت الجورب المتدلي
بعهر قبل الآخر الملقى أرضا إلى جوار قائم السرير،بينما تخليت عن الوشاح ،وشرعت أجفف شعري القصير ، بلا عناء ، بمنشفة كانت ترسل عرفا ذكيا ،أشرق بصفاء ابتسامة (ايناس) !.

لم أنس ما قاله في لهجة شابها الشيء الخفي من التوسل ، وكان أقلقني شكي هــذا ؛ لأن
سويعة الغبش المبكرة منعتني من رؤية ما يبدو في عينيه ، لأقول أنه كان يقول متوسلا :
ـ أرجو أن لا تقودك الصدفة في المرة القادمة .
أعود لتطرق بالي صورة ( وارد ) الرجل البائس ، لأرى،وعلى مقربة منه وجه زوجه(نزيلة)
الذي تشرق أساريره حينما تلمحني أمام باب دارتها ، وأسأل ، وكأن أوان السؤال قد ولى : هل كان لهذين الوجهين دور في فعل الصدفة..أذر السؤال لشأنه ، متنازلة ، كعادتي ، عن ملاحقته بإلحاح لا نفع يرجى منه ، وكأني لا زلت أسمع همستي الحائرة مع نفسي : وهل أوحي له أني،
سأطرق بابه ، مرة أخرى ؟ وكأن شيئا ً أشبه بآصرة ، أو وشيجة عُقـِدت ، سرا ، بين قلبينا ،
وأنه كان غالط حين أشار إلى الصدفة ، أو ربما ذهب به الظن أنه كان لقاء عابرا ، أتيح لامرأة
أرملة أدمنت لقاء الرجال ، شعرت بالأسى ، وأنا أستعيد هذا السؤال المّر ،بينما لا زلت لم أترك
سريري الذي منحني لونه الرصاصي شيئا من الدعة ، أو الطمأنينة :
ـ ومن يقودني إذن ؟ .
تنهد ، وقال :
ـ فؤادك .
ابتسمت ابتسامة يشوبها ، في السر ، غموض ، وشحوب ، وقلت ، وكأني أحبط حلما له :
ـ وإن لم ينتبه إلى ذلك ؟.
ابتسم ، وكأنه ، يطمأن نفسه ، ورّد :
ـ بل سينتبه ، إنه أكثر منا تحسسا .
ـ تلك هي رغبتك .
ـ بل أحدس أنه سيقودك ، مثلما يقودك إلى شقيقتك .
أطرقت ، وكأني أسأل كائنا غير مرئي . قلت :
ـ هل أحببتني ؟.
حرك قدميه فوق البلاطات قلقا ، وبدا أمامي ، وكأنه يستغرب عواطفه :
ـ سأشعر بالوحشة في غيابك .


21









ـ ماذا ؟
ـ سأحبك أكثر . ما يمنع من أن تكوني زوجتي ؟.
ـ خمـّن ؟.
ـ لا أعرف .
ـ آه ..لا تعرف ..نعم لا تعرف ! .

تناهى صوت مذياع في الحجرة الأخرى يتنقل مؤشره بين إذاعات عربية ،لا زالت تهتم ، في السطور الأولــى من نشرات الأنباء الحزينة ، والشامتة ، بتطورات الحرب العراقية الإيرانية ؛ عندئذ تركت مكاني ، وتبعتـــه إلى الحجرة الأخرى ، قعـدت إلى جواره فوق الأريكة الطويلــة ،
مثلما تقعد زوجة إلى جوار زوجها ، تأملت الساعة ، كانت عقاربها أشارت إلى الساعة الرابعة فجرا إلا قليلا من الدقائق . تثاءبت . وأخبرته :
ـ لم يتبق من الليل سوى اليسير . لننم بعض الوقت .
تثاءب . والتفت لي مبتسما :
ـ هاء انتقلت العدوى لي .

نهض ، ولم ننتظر شيئاً ، فذهبنا باتجاه الحجرة ، حيث أمضينا سحابة الليلة فوق سريره
الشبيه ببياضه أسرة المستشفى ، قطعنا الممر كتفي إلى كتفه . وقفت خلف الســتارة ، وأزحـتَ
حرفها ، وعلقت قائلة :
ـ أنظر ..
أصغينا إلى صوت السيارات الذاهبة فجرا إلى العاصمة ، أو المدن المجاورة ، كانت عجلاتها تأز فوق قار الشارع ، وكأن كائنات غريبة تشحذ سيوفا ، أو مدي بإصرار، ودون توقف. وبغتة تعالى سعال البقال ، ثم أطلقه بتواصل ، سألت نفسي ، وقد خيل لي أن الرجل سيختنق ،أو يلقى حتفه : ما يمنعه من معاينة رئتيه عند أحد الأطباء . ثم أخبرته :
ـ إنه مريض حقا ! .
ـ نصحته بمعايدة طبيب أخصائي ، فلم يكترث ، وقال وهو يتصنع السخرية: لألقى نحبي قبل أن
يذهب بي مع الذاهبين من الجيش الشعبي إلى حمأة الحرب .
تثاءبت ، سأل :
ـ نامي ما بقي من الليل .
ـ وأنت ألا تنام ؟ .
ـ نعم .
أشار إلى الثوب الأسود :


22








ـ وهـذا ؟.
ـ إنه ليس للنوم .
اندفعنا إلى السرير، سحبني إليه ، وهو يتحسس حافته خلف ظهري ،التحفنا الملاءة الندية ،
ويده تضمني إليه .
ـ منذ متى تمارس الرياضة ؟ .
ـ منذ زمان بعيد .
ـ قبل أن تتزوج ؟.
تثاءب ، وربت كتفي ، وكنت أعب أنفاسا تحمل أطياف ذلك العرف المحاكي لرائحة القرفـــة حينما تغلى في أماسي ليالي الشتاء . وسمعته يهمس بصوت يغالبه الوسن :
ـ ما يمنعنا من الزواج ما دمنا أرملين ؟ .
ابتسمت ، ثم ضحكت ضحكة كتمتها بعد سماع صوت سعال الرجل البقال ، وقلت :
ـ لاشيء .
ربتَ فوق عجزي ، وألقى قبلة حارة فوق خدي بصوت مسموع ،سرعان ما ذكرتني بقبــلات
( نجمة غافل ) السلافية .
ـ طالع حسن إذن .
ـ أتراك تقول الحق .
قال ، وقد شعرت بغصة ندم لما سألته سؤالي بسذاجة مفرطة :
ـ ولماذا لا أقوله ؟.
ـ ولقاءنا هذا ؟.
ـ لقاء تعارف عن قرب .
ـ أتسخر .
ـ ليس في طبعي السخرية من الآخرين .
تثاءب ، وتثاءبت ، وشعرت ، كأن موجـة ضباب غشتنا .

* * *

لا زلت لم أنس رغبتي في سؤال (حنان) عن سـّر ذلك الانبهار الذي أهاجته تفاصيل الجسد
الرجولية في لوحة ( انجيلو) ، فقد شغفني بما يمليه من فتنة ، جعلتني أراه وكأن موجة شــــذا
لا تكف ، تدوم حوله ، فتنة لا زالت ذكراها تلقى صدى يحمله روح حنين ؛ جعلني أدفن وجهـي
في صدره ، ثم أتركه ملقى فوقه وقد فرغ من جميع الهموم ، يسحرني ذلك الطـــرق المطمئن ،
وهو يوهب الحياة ، فتتدفق في الجسد النشوان بكل دفء ، وديمومة ، ولم تك ( حنان ) وهذا ما لمسته في نظراتها بأدنى شعور مني ، إلا أن حياء صدني عن إلقاء سؤالي ،وحرصـا على


23









البقاء عند الحدود التي ألفناها معا . وكانت سبقتني في الزواج ، وكأني سأحرجها بقول حقيقة
حرصت أن لا أبوح لها بها تتعلق بذلك الانبهار بروعة هذا الجسد الرجولي، وكأن هذه الدهشة
تعيب تفاصيل جسد الآخر ، وإلى قبوله على علاته ، هذا ما كان يغازل أفكــاري منذ عهد بعيــد
. وكان ( شبل) المسكين مفتقر إلى الكثير من تلك الشمائل ، أو الصفات ، وهذا ما كان أحزنني بصمت ، وألجأني إلى القنوط ، بل تركني مع شعور عذري يتسم بفورة عبير سنابل(ماكسيباك) عندما تمتلئ بالحبوب في نيسان ، وبحبور يمتلك حبور عصافير اشتدت أجنحتها توا فحلقت في
مرح .

وجدتني فــــي وضع غريب ، مع رجل ، تطوقني ذراعه بحرص ، وكنت كأني فـي أحضان سريري الرصاصي ، القي سمعي إلى الريح ، وكأنها تعابث شجيرة (الخروع) العليلة أو تعزف
على وتر غير مرئي شد طرفيه إلى نهايتي عرجون مقوس فــــي نخلة الأرجوحة ، وكنت قبيل ذلك كأني أناجي أطيافا غابت، كنت أحتضنها شاكية، سألت فزعا:أين أنا ،غير أن ذراعه ضمتني إليه ، بينما كفه الأخرى لا زالت منبسطة فوق فخذي النصف عــار ، كنت فتحت عيني بحــذر ،
فأدهشني أن أرى النهار بلغ ضحاه في وجه مشرق . شكوت خائفة :
ـ لقد استغرقنا في نومة ثقيلة ! .
قال ، وكأنه استيقظ قبل ساعة :
ـ لقد أعلنت الساعة ، قبل دقائق ،عن العاشرة صباحا .
دفعت كفه فزعة :
ـ دعني إذن ! .
ضحك :
ـ إلى أين ؟ .
ضحكت بصوت متعب ، واستدرت إليه بكليتي ، التـّفَت ذراعي حول رقبته المتينة ، والتقت
نظراتنا حتى شعرت بحرارة بدنه ، وأنفاسه ، وبشفتيه تقتربان من شفتي :
ـ أخشى أن يُطرقْ الباب .
ـ ومن تراه يطرق باب أمريء اعتزل الناس ؟.
ـ لنذهب إلى الحجرة البعيدة .

تبعته ، متخذة من ملاءة السرير عباءة . ولما أوصد باب الحجرة ، التفت لي :
ـ الآن .. اطمئني .
تلفتُ حولي ، وكنت لا زلت خلف الأريكة الصغيرة المجاورة إلى مكتبته الصغيرة . أتعثر بذيل
المـــلاءة ، ولم أنتبه إلا وهو يشد عليهــا ، ويلقيها جانبــا ، و يطوقنــي بذراعيه من الخلف ،



24







اعتمدت بذراعي على متكأ الأريكة ،ولم يمكث سوى ثوان حتى سمع لهاثه. ومن منافذ مجهولة
هبت ريح ندية ،ومن أفق بعيد تناهى ما يشبه قرع أجراس قطعان ضأن عادت شبعى من مروج
ليست قريبة من القرية . تراءى وجه ( نجمة غافل ) ببشرته الممعنة فــي السمرة ، فخشيت أن
تطرق أنفي رائحـــة بدنها القريبة الشبه برائحة ماعز حلوب ، ثم رأيتني ، وكأني أتامل وجـــه
(شبل ) في صورته في زي قاتله ، أغمضت أجفاني ، ثم ضغطت شفتي الدنيا بين صفي أسناني
، ولم أعد أسمع له لهاثا ، فقد استسلمت لما يشبه دوامة تخوض في غمامة مجبولة من النـدى
، والطيب ، وكأني تحت سقف كوخ قديم أصغي إلى صوت قرع حبات المطر .
ـ أين هو بيتك ..ها هوذا بيتك ؟ .
ـ ماذا ؟.
ـ لا أحد ينتظرك هناك .
ـ أجننت ؟ .
ـ سأكون كذلك حينما تذهبين .
تراجــع إلى الأريكــة الطويلـــة ، ألقى نفسه فوقهـا ، تقدمت باتجاهه كنمرة متحفزة ، التقت نظراتنا ، كان وجهــه معروقا ، شاحبـا ، رفع ذراعه كأنه سيتحاشى صفعة ، وتلقاني بنظرات
مرهقة ، يتدوالها الاستغراب ، وما يشبه الشعور مبدئيا بالهزيمــة ، ولما لم تتيسر لي حريـة
المناورة فوق الأريكة ، تراجعت ، ويدي تشد فوق معصمه ، وتراءى له ، كأني سألقيه أرضا
، وأسحلــه فوق بلاطات الحجرة ، وبدا الاستسلام حتى فـــي نظراته الخاوية ، ولما هوى من الأريكة ، هتف ، وهو يعتمد على ذراعه الشمال :
ـ ماذا .. هل جننت ؟.
أطلقت ضحكة ، مغتنمـة فرصة ، لا يطرق ، في خللها سمعي صوت سعال البقال المتألم .


* * *

دُفـِعَ البابَ الموارب مرة أخرى ، وجاء الصوت الطفولي رخيم النبرة ، بهي النقاء :
ـ ألا زالت جدتنا الزينة نائمــة ؟.

ابتسمت بفتور،وفتحت عيني . كان الظلام يسود جو حجرتي الصغيرة . تململت ، فصرت
نوابض السرير تحت ثقل جسدي بشكوى جماعية . سألتني الصبية بقولها :
ـ هل أفتح النور يا جدتي ؟ .
ـ أجل يا بشرى .
تقدمتْ باتجاه زر المصباح ، وهي تقول :


25








ـ أراك عدت متعبة ، من زيارة جدتي البعيدة ، هذه المرة ! .
تنهدت، وقعدت مثلما يقعد المرضى في المستشفى فوق أسرتهم البيضاء. وكأني أتنهد قلت:
ـ أجل .. متعبة .
ـ أكان طول الطريق الذي ...
قاطعتها :
ـ نعــم .. طول الطريق ، ومشقة السفــر .
ـ أمي تسال إن كنت ترغبين في شيء من الطعام ؟.
قلت ، وكنت لا أرغب في تناول طعام أي البنتين ، فهما لازالتا لم تحسنا طهي الطعام :
ـ بل يتوافر المزيد لدي .
ـ حسنا يا جدتي ، سأزودك باللبن ، إنك تحبين اللبن .

تنهدت . وأرسلت ساقي إلى الأرض ، لكني مكثت في قعدة خاملة ، وكانت استعادة ما جرى
أنهك قواي ، وفكري ، لقد كان جسدي يقرقف فـــي كل لمســة . وكانت رغبــة مواصلة الرقــاد تشجعني على العودة إلى السرير،إلا أني رأيت الأوان قد فات،ومن الأجدى أن أتوجه إلى الحمام
،ثم أتفقد حجرة الاستقبال التي لم أستقبل فيها أحدا من ذوينا منذ عهد بعيد ،لأعـود إلى المطبخ
لإزالة ما هما من الغبار في خلل أيام غيابي عن البيت .

بلا بد تغير شيء ما ، وتحت سلطة تأثير الإهمال ، وكان الغبار ، في القرى ، لا يكف يتسلل إلى الأمكنة حتى من فوق عتب الأبواب ، وكنت غبت ثلاث ليال عن البيت، وعن قريتـي . وكان بصري ، وقلبي ، وحواسي ، دهمها الغم لمقدار ما هما من الغبــار ، حتى بدا المزيد منـه فوق أوراق شجيرة الخروع التي تراءت في وقفة من أثقل صدره الهم ، كما بدا الخواء عميقا ،ثقيلا
، وهو يتمطى في كل موطن ، في الأزقة ، والطرقات، وفي زرائب الحيوانات،رأيته أشبه بغلالة
شفافة ، ناعمة ، ولا لون لها ،أو قد تشبه صعيد الطرقات الذاهبة من القرية ، والمتوغــلة فـي
الحقول البعيدة عن القرية . غلالة رقدت فوق كل سطح ، ولا يمكن إزالتها إلا بعد جهـد ، رقدت
فوق ملاءة قماش ستارة النافذة ، ومكتبتي الصغيرة ، وملابسي السود الحزينة ، وأحذيتي فــي
درجها القديم ، وحتى على ابتسامة (شبل) في صورته في البزة الكردية ، والتي واريتها بعيــدا
منذ ما يقارب من عام .

لم يسعفني الوقت لكي أتفقد البقرات الثلاثة ، وحتى هذه الساعة لم يعد بهن إلى الزريبـــة ، فقد ساقتهن ( بشرى) ، قبل ذهابي إلى شقيقتي إل زريبة الأبقار الأخرى في باحة بيت (بشير).
الآن أحكم الظــــلام قبضته على كل المحاور ، وواجهات البيوت الحزينة . واستعمال المصباح


26









اليدوي يثير فزعهن في مثل تلك الساعة ، ولن أراه يعينني على تأملهن بطريقتي ،التي تتجلى
في ملامسة راحتي لجباههن ، وما تفيض به نظراتي من رعاية ، رغم ما يتمتعن به من قــوة
حواس الشم تمكنهن من التعرف على رائحتي ، لكن أتراهن ، الآن ، يتمكن من إدراكهـا ، أو
تمييزها ؟. ألم تكن تغيرت ، او لحقت بها روائح أخرى . ورأيت التفكير على تلك الوتيرة تشحذ
في كياني الهمة ، فهل أذهب ، وأختبر ظنوني ؟ وهل أراني أصبت في ما جنح إليه خيالي ؟ . وأراني صادقة الحدس ، والفطنة ، أم أن الظنون شــطت بي ، وذهبت معهـا إلى شواطيء لا
وجود لها .

كانت (العزيزة ) ستؤكد ذلك ، إنها بقـــرة تملك حاسة شم تمكنها من تمييز رائحتي من خلف الجدار ، أو بعد أن ألج ، وأخطو إلى جوار شجيرة الخروع ، فترفع رأسها ، وترســـل صوتهـا
طويلا ، يدعوني إليها : أمــــا ه ، أما هذه ( المترقبة ) ذات العروق الهجين لا تستبق نظراتها
إلى العلف الذي أحمله بين ساعدي ، بل تمد منخريها إلى وسطي ، وتغترف شهيقا عميقـا من الهواء إلى رئتيها بعدئذ تمسّد قذالها بثوبي في رفق ، ولا تكف حتى تستدرجني إلى ملاطفتهـا
، فأحرر ذراعي باتجاهها ، وأدغدغ جبهتها ، ثم أمسد خديها الأسيلين . وتمكث ( غزالة) ذات العينيـن السوداويين ، الواسـعتين الحزينتين ، مكتفية بنظرات تأملية ، ذاهلة ولكنهــا تشي بسعادة ، تطلق فــي نهايتها تنهيدة عميقة تشبه آهة المرأة الثالثة التي أحبت رسول حمزاتوف. تفعل ذلك ، ثم تدس مقدمة رأسها فـــي المِعلف .

استرجعت ذلك بخاطر حزين ، معتقدة أني فقدت شيئا ، أو جزءً من عواطفي،أو علاقتي التي
حافظت عليها ، في الفة حميمية ، مع ما حولي ، وخصوصا مع تلك الكائنات المسكينة . وكنـت
لا أدري كيف عدت إلى القرية ، فقد كنت موزعة الفكر ، والأهواء ، كنت، وقدماي يقطعان آخـر زقاق ينتهي بالزقاق المنتهي إلى سوق المدينة ،انتبهت إلى خطواتي التي تقاصرت ، وتبـاطأت
، وأنا أشمل جدر المنازل، وواجهاتها الشاحبة ،المنازل الملتصقة ببعضها ،وكأن بعضها يدعـم بعضا خشية التداعي ،والسقوط ، اشملها بنظرة قاتمة ، وخاوية سرعان ما تنصرف مع الريـح
التي ثورت غبار الأزقة ، وروائحها المنفرة القريبة من رائحة البصل حينمـا يناله الفساد . كنت
ووددت لم ينتهِ الدرب ، ولن تسعى بي قدماي إلى سيارة الـ ( لاندكروزر) أن لا ألمح أثـرا لها ،
أو أرى وجه (حنون) كنت وددت لو ضل الدرب بقدمـي ، أو زلتا إلى مـكان لم تطرقــــه رائحــة
أنسي . رجوت أن أتوه فـــي ذلك الدرب الموحــش الذي لا نهايــة له دون أن أعبا بهؤلاء الذين
يسعون فيه وحدانا ،وزرافات ، وقد تفشت فيها أنفاس ( دارا وشكا ) المكبوتة ، أحث الخطى حتى أسقط ملاقية حتفي ، لقد رأيتني ، وكأني أعود إليها ، لأراها لا زالت منبـوذة بين تـــلال



27









حمرين الرمادية . وقد قال (شبل) المزيد عنها : هناك ، عندما كنت فـــي اللواء الآلي الخامس
والعشرين ، إبان المسيرات الآلية ، والراجلة ، رأيت تلك البيوت الطينية الواطئة منزوية بين تلال شاحبة صيفا ، متجهمة شتاء . وثمة بئر ، أو عين ماء ، وشجرة نخيل تمد عنقها فوق الأكواخ شاكية العطش ، كان أحزنني رؤية وجوه الناس الحزينة ،الشديدة السمرة ، وذلك الصمت ، والخواء الذي يتفجر تحت وهج الشمس ، أشجتني تلك العزلة ، والعقـــم الذي يلوح
في كل شيء ، ويتشنج في زوايا أفواه النساء . حتى الطريق الصاعدة إليها لمحتها تمضــــي إليها على إكراه ، بل كأنها تمضي إلى المجهول ، والتي لماما ما نقطعها ســــيارة ، وقـد روى
( شبل) بنظرات زائغة ؛ أن أوحش الأمكنة ( داراوشكا ) .. أن هي إلا مقبرة قديمة ، وفيها تحيا بعض الأسر الفقيرة على نمط خاص ، متجهم أيضا ، مثلما عاش أجدادنا ، فليس ثمة مستوصف طبي ، ولا عمود كهرباء يشمخ بصليبه فوق الأكواخ* ، وحده الصمت المتوحش يطبق بفكيه على المكان ، ويغمره ، مع أشعة الشمس التي تبدو ، هناك ، أكثر توهجا ، هناك
بموت الناس بصمت مجحف .

بدت قريتنا أمام وجهي ( داراوشكا ) أخرى ، أو هي (داراوشكا ) نفسها بعد أن دكت ، وسويت التلال من حولها ، وتلك نخلة الأرجوحة هي نخلتها ، إنها لا تكترث بشيء ، ولا تنتظر
شيئا ، وقد غشتها رائحة الحرب القريبة الشبه من رائحة أنفاس شيخ يحتضر. هذا ما تأملته عينا (شبل) في عيون الصغار ، الحفاة وهم يقفون شبه مذهولين على منكب الطريق يتمتعون ، بذهول ، بمرأى العجلات المدرعة ، ووجوه الجنود التي تبدو مخيفة النظرات تحت مظلات خوذهم الروسية الثقيلة ، يتأملون الأحذية السود المتجعدة ، وكيف تطرق الأرض بصوت ثقيل
، وكأنها أحذية شياطين هبطوا سرا من أودية زاجروس الموحشة . أطلقت تنهيدة ضاق بها صدري ، وكأن شيئا ما وكد لي إنني أذهب إلى ( داراوشكا ) إلى وحشــة الزمان الموغلة فــي
تضاعيف لا شكل لها من الهوان ، والتي تعلن عن ذاتها عند هبوب الريح السموم .

كأن أيد خفية تقيد خطواتي ، تكاد تشل حركتها ، وقلبي منقبض مثلما انقبضت ملامح وجهي
، والتصقت ببعضها التصاق دارات المدينة ، ومع كل خطوة ثقيلة أتقدم بها ، يتراءى (شــبل)
،وكأنه تحرر من البزة الكوردية ، يروي لي كيف هي ( داراوشكا ) حتى وجدتني كربت اهتف محتجة : لماذا أعود إلى القرية إذن ، لماذا تراه لم يدعوني للبقاء معه ليلة أخرى ، وماذا ينتظرني في القرية ، وفي بيتي الموحش حتى من همسة ، أو ضحكة صادقة تخرج من القلب،
والروح ، ما ينتظني ، هناك ، في بيتي الموحش ، وفي سريري الذي أحزنني أني طليته بدهان
رصاصي ، ما ينتظرني غير وحدتي ، وذكرياتي الحزينة ، القليلة ، وآخر ضحكة أطلقتها أمي
بسعادة ، وثيابي السود ، وشجيرة الخروع ، وهديل اليمام فوق ســـعف النخلة ، أو من فوق


28









أصول العراجين التي بدت كأعناق عصافير مذبوحة ، آه ..ليس هناك ســوى الأكواخ البائسة ،
والأراضي الميتة ، وليل القرية الموحش ، وتشالي الكلاب ، وعراكها فـــي الأزقة ، وأطيــاف
غريبة ، مخيبة ، وأصوات لا تكف تناجي من رحلوا ، أو ذهبوا إلى سـاحة الكريهة ، لاشـيء
سوى الصمت البالغ القسوة ، وتراءي وجه ( ليلـــو ) بأنفه الأفطس، ورائحة أعطافه،وروحه
الثقيلة . لا شيء ، هناك يلوح بنضارة ، كل ما هناك شاحب ،ثقيل الظل، كوجه بدوي ملثم قدم من الصحراء توا، لا يدعوك إلى تأمله ،حتى نظرات(غزالة) حزينة ، منكسرة ، يشوبها فتور .

وددت لو فقدت القدرة على أن أتذكر من أنا ، أو فقدتها فـــــي تمييز الطرقات ، والأزقة
ووجوه الناس الشاحبة ، وتهت كمعتوه يجوب الطرقات دون هدف ، لو أن أحدا لا يسأل من أنا ،أو من أكون ،أو أين أنا ، وددت لو أتحول إلى سحابة ،إلى هبة ريح غير مرئية ،أو عمود دخان يتصاعد إلى فضاء عال ثم يتبدد فـي الأقيانوس الرحيب بين الكواكب ، ولم يتبق له ظل ، أو رائحـة ، بل لم يعد شيئا مذكورا .

أراني ، في تلك الساعة ، كأني أحمل عبئا يثقل كاهلي ، أنوء تحت سلطة غاشمة من الأفكار
، والأهواء ، والرغبات التي لا تلقى من الآخرين سوى الاستنكار دون أن أر فكاكا ، ماذا جرى
لي ، ولماذا أفكر على تلك الطريقة الموحشة ، ما جرى ، كأني فقدت جميع الأواصر التي تربطني بقواي البدنية ، والعقلية ؟ أين اتزاني ، لماذا بغضت التوجه إلى بيتي ، وأحفادي ، وقريتي . ما فعل بعقلي ، وقلبي ، ورأسي ، وبالدورة الدموية في جسدي،الرجل الغريب هذا؟.

كأني حين استيقظت ، ووجدتني ، لا زلت أتوسد ذراعه ، أدركت أنني بعد سويعات سأهجره
،وأعود إلى ذلك الطريق الموحش الذي سرت فيه ما يقارب أثني عشر عاما دون أن تطأ قدماي
نهايته ، معانية أوجاع الفناء ، والهباء ، هل كان الأجدى مواصلة توسد ذراعه المفتول ؟ وإلقاء رأسي فوق صدره العريض ، واسترواح ذلك الشذا الشبيه برائحة القرفة ، دون أن استيقظ ، أو أفتح عيني على الحقيقة المرة التي أدور حولها دوران حصان الناعور حول دولاب الماء ، دون أن أحدق أو أرى حقيقة تصيبني بشظايا نيرانها ، ولا أرى مفرا منها ..كيف
سأعود , وبأي قلب ، وعينين ، بل بأي روح ، أو صورة أجدني بين أشيائي القديمة ؟.

انتظرتُ الآخرين في سيارة (حنون) ، وتجاوز انتظاري ما ينيف على ساعة ، كنت في خلها ألوذ بوجهي ، أو أهرب به من ناحية إلى أخرى ، وكأن أخي ( ليلــو) سيطاردني شاهرا خنجره الصدأ، بينما في واقع الحال كنت أهرب بوجهي إلى ناحية أخرى متقية نظرات (حنون)



29









وكأنه يصوبها باتجاهي أشبه بسهام صدئة ، كنت خشيت أن يلمح وجهي ، ويكتشف ما لحق به من تغيير ، وكأنه سيسأل : ما جرى ، شيء ما فيك تغير . إلا أنه انبرى قائلا ، وأنامله تعبث بسلسلة مفاتيح :
ـ لولا تلك اللغة اللعينة * لكان نذير يواصل دراسته الجامعية ! .
قلت مكرهة على تذكر جانب مما يؤلم من الأمور القديمة :
ـ نعم .. هذا صحيح .
أطرق ، ثم قال :
ـ إنه ولد مسكين ! .
ثم شكا ، في لهجة متذمرة ، بقوله :
ـ لقد تأخر هؤلاء النفر في السوق ! .
ـ .....
ـ كيف حال الأخت أم سها ؟
قلت باقتضاب ، وقد تركني سؤاله عن نذير أشعر بالتطير .
ـ على ما يرام .

أتراه سينقلني ، مرة أخرى ، ويعود بي إلى القرية ؟، يقطع ذلك الطريق الترابي إليهـا مثورا عاصفة غبارية ، حمــراء ، ثقيلة خلفه ؟ هل سأعود إلى سكينة حياتي ، وإلى ركودها ،
ورتابتها الشبيهة بحياة شجيرة ( الخروع ) ؟ إنه لأمـر محزن ، أمر مخيّب ، لم ير ، في خللـه
ما يشي بإشراق ، سوى ومضات مرت لاهية فــي بواكير العمر ، يوم كان الربيع يجيء مفعما
بالريح الطيبة ، والخضرة ، وزقزقة العصافير ، وحبورها ، وأنا إلى جوار (شبل) نرعى الأبقار
، ونتسابق لنقطف الزهور الصغيرة ، أو نسعى لصيد اليعاسيب ، والفراشات ذات الألوان المتباينة ، أو الأستلقاء فوق العشب ، والتمتع في تأمل سماء القرية الصافية ، أو الفضاء حيث
تقطعها أسراب عصافير ، أو طيور بط مهاجرة .

حين انحرفت سيارة الـ ( لاندكروزر) إلى الطريق الذاهب إلى القرية ، أرسلت بصري، وأنا في خضم استرجاع الماضي ، إلى القرية ، كان قد قادني ذلك الحلم ، وكأني سأرى نخلتي الأرجوحة ، وإن الحبل لا زال موثقا إليهما ، إلا أن نظراتي سرعان ما ارتدت مخذولة محملة بالغبار ، وما بقي من لفح ريح السموم ، وكأنها نظرات ( وافي ) بعد افتضاح أمره ، تنهدت بصمت من يشعر بسلطة الحرمان ، وانغلاق أبواب الرجاء . إلا أني شعرت ، وكان (حنون) استفزه صوت تلك الحسرة المكبوتة ، فالتفت إليه ورأيت عينيه تفيضان بالسؤال بوقاحة :
ـ ما يشجيها إلا أمر واحد ، لم يكن قط رحيل زوجها .


30










وخشيت أن يتجرأ ، فيعود يروي بلهجة حسود : ليس ثمة ما يدعو إلى التحسر سوى الشعور
أن الوحدة تثقل مرور الأيام على قلبك ، وتضغط على صدرك العامر . ورأيته يبتسم ، بمـــكر،
ابتسامة ميتة ، رأيته ، وكأنه يعالج غصة عسر إطلاق ما يرغب في تفسيره الخبيث ، وقد كانت آذان النسوة ، والرجال يقظة ، وتصغي إلى كل ما يقال ، فكرت بذلك حتى أحزنني أني شعرت بالخوف من أن يشم بي تلك الرائحة الشبيهة برائحة القرفة ، فقد تسللت إلى بدني .

قبل الوصول إلى شجيرة ( الخروع) خلعت عباءتي ، ونفضت ما علق بها من غبار الطريق
، لقد أهمل هذا الـ ( حنون) تلك النافذة ، ولم يهتم بتعويض زجاجتها المكسورة ، قد ذهب تنبيهي إياه ، وشارتي له سدى ، فبقي الغبار يتسلل ، مع امتداد الطريق الزراعي إلى داخل السيارة بكثافة ، يلتصق بالوجوه ، ولحي الشيوخ ، والملابس ، وكان اكتفى بالقول :
ـ أجل ينبغي تعويض الزجاجة بأخرى جديدة .

كانت تلك السيارة اليابانية العتيقة من نوع ( لاندكروزر) أستورد أعداد كثيرة منها خصيصا لدوائرالدولة الزراعية ، فهي تتميز بمتانة تمكنها من الخدمة في الأراضي الزراعية ، والأراضي الوعرة . ، ولما استهلك أغلبها بيعت في مزاد علني ، فابتاعها الفقراء ، وأعادوا ترميمها ، وظهرت في المدن ، مرة أخرى ، على هيئة سيارات أجرة ، وكنت ابتعت هذه ،مشجعة ( حنون) ليعمل بها لقاء أجر ، فإستجاب حالا ، وكان يشكو البطالة .

تأبطت عباءتي . ودورت المفتاح في القفل ، وبعد ثوان ولجت ، استقبلتني رائحة الغبار ، والهواء الراكد ، وشيء من الدفء المحتفظ برائحة جسدي ، وروحي ، ويدي ، ثم لا أدري كيف دهمني شعور بالحزن ، وما يشبه الخيبة ، شعور ، وجدته ، بعد تفكر ، يشبه الإحساس
بالغربة . وكنت متعبة ، فألقيت عباءتي فوق الأريكة القريبة ، وتقدمت باتجاه السرير ، تحسست ، بحذر ، ببنان أناملي ، كان هناك غشاء رقيق ، غير مرئي من الغبار ركد فوقه ، حدتني رغبة في سحبه ، وتكويره ، وحمله إلى فناء المنزل الصغير لنفض الغبار عنه ، وكان هما ، ببطء، في خلل غيابي عن المنزل أثنين ، وسبعين ساعة ونيف هما في خللهما ، على خلوة المزيد من الغبار تاركا أثــرا يشبه الإثـم في وجه بشع من وجوه الوحشة ، بعدئذ عدت
وواربت الباب دوني ، بسطت الملاءة فوق السرير . وكان الهواء المحبوس لا زال يحتفظ بشيء من الدفء المتخلف من وقدة الظهيرة ، فتحت ضلفة النافذة تاركة عموداً شاقوليا من الفراغ لدخول الهواء . وألقيت جسدي بخمول في السرير ، استقبلتني نوابضه بصرير جماعي
، وكان جسدي ، وهكذا شعرت ، أصبح أكثر وزنا بقليل مما كان عليه ، وبلا انتباه كان بصري
يذهب باتجاه الجدار القائم عند مؤخرة السرير ، كانت ، هناك ، لصق الزاوية القائمة لا زالت


31









تقبع منضدة تعلوها مرآة كبيرة ، يحيطها إطار لم تبلغ مهارة النجار القدرة على منح زخارفـه
عناية تسر الخاطر ، وكنت كثيرا ما أتأمله مكرهة ، حتى تأزني رغبة تغييره . وكأن لوحة (رامبرانت) الرائعة المعلقة فوق المرآة تستهجن ، بسكون عميق، هذا الشكل البدائي الساذج
، ولا تتوائم مع زخارفه ، إلا أن أحدا ما ، سواء من زميلاتي المعلمات اللواتي أمضين وقتا يسيرا في زيارتي ، أو من الزائرات الأخريات ، لم يلقـّن بالا باتجاه هذا الأمر الذي يقلقني ، إنه لا زال ، حتى هذه الساعة ، وفي الوقت الذي أتأمل في إثناءه اللوحة يوحي بشعور يبعث على
الإغاظة التي تشبه النكاية ، ولا زلت أرى أن هذا الشعور القديم ، المدغم بسّرية فاشية ، كان له ما يشبه رباط ممتد مع امتداد زمن قدره اثنا عشر عاما ، بل هذا ما كشف عنه القيام فــــي
بيت الرجل الغريب ليلتين متتاليتين ،نسيت في زمنها الشبيه بالحلم المتقلب بين الهناء، ورعب الكوابيس ، والسعال الذي لا ينفك يقلقني كلما طرق أذني ، وقد كان يذكرني بأمي . نسيت كل ملامح الوجوه إلا وجه ( شبل ) ، ولمرة ، أو مرتين وجه ( ليلـــو) يطغي على ملامحه نهاية أنفه الأفطس ، الواسعة ، دون أن يتعداها إلى رائحة نفسه .

آه ..( شبل) ، ربما كان هو ذلك الظل الذي خطف نفسه ، ثم تبدد مع ظل عباءتي المعلقة إلى
جوار الباب .، لقد أشجاني أنني لم ألمحه ببزته الكاكية ، وقد خطف نفسه خطفة خجولة ببزة قاتلهِ ، ولمرة واحدة ، خطف نفسه بجسد عار ، ذلك حينما شرع البقال بإ طلاق سعاله في فناء منزله ، وعلا أزيز قوائم السرير في ذهاب ، وإياب ، كان أفزعني لثوان ، ثم راح يتمطى قلقــًا
، وكأنه حضر ليتم طقوس آخر ليلة من ليالي أعراسه التي كانت ذكرياتها تثير عذابه ، هناك ، في الربيئة الكئيبة ،المعلق بابها بين السماء ، وقمة الجبل ،المتواري بابها بين الكتل الثلجية .

سأمت معاودة تلك الذكريات في مثل هذه الساعة ، وأطبقت أجفاني مؤثرة نسيان كل تلك الذكريات التي أمست أشبه بأحلام قديمة ،تآكلت حواشيها ، أحاول أن استرخي في السرير ، السكينة تيسر لي نومة ثقيلة لا تتخللها الأحلام ، حذرة من أن أصدر حركة خشية أن لا يزعجني صرير نوابض السرير ، وكان يتناهى شخب بقايا ريح السموم من خلل الفتحة الشاقولية التي صنعتها ضلفة النافذة ، إنها تحمل معها صوت تقصف بعض أوراق شجيرة الخروع الجافة ، وكانت عجزت من أن تلقي بظلها بين جدار الدار ، والنافذة .

قبيل أن تدفعني رغبة الرقاد على جانبي الشمال ، أو ربما عقب حركتي البطيئة لمحاولة ذلك ، صّرت نوابض السرير شاكية ، وفي حركتي الحذرة تلك لا زلت مصرّة على إطباق أجفاني ،وكأنني لا زلت أعاني وزر ظل، ومرأى ما حولي ، وكان صوت الشكوى يملي علي مقارنة لم



32








تكن في البال قبل ذلك ، فهناك بلغ معي الخوف منزلة ، وكأن إحدى قوائم سريره الأبيض ستتحطم تحت ثقل جسدينا ، قلت لا وجه للمقارنة البتة ، لقد تردد في أذني تردد زقزقة لمـّة عصافير تهافتت على طعام وفير ، وهو في ذهاب ، وإياب يجيء في نغمتين مختلفتين ، كانت
نغمة الذهاب أكثر إصرارا ، أكثر مرحا ، وتوكيدا لوجدها في سكينة الليل ، أما الأخرى فعجزت
على أن تجيء بذلك الحماس الذي لا يشوبه ونى ، وكانت لا تختلف عن الهبوط في الأرجوحة
إنها تحاول جاهدة في امتصاص المزيد من الشوائب اللامرئية ،بل هو شيء يحاكي ضرب من الاستلاب . سمعتها ، لثوان ، وفي جلاء ، أشبه بموسيقى رتيبة صدحت في جوف الليل بحرارة
تعلن وجودها ، تصدح في أرجاء البيت ، و كأنها تطرد قيامة وحشته التي أرسى دعائمها غياب الأحباب ، هكذا أعلنت عيناه ، قبل أن يعلن عنه بلسانه ، ربما حدث ذلك قبل أن يبدأ البقال نوبة سعاله الثانية ، وكانت أنفاسي تتسارع بصوت مسموع ، تأملني بنظرة ذاهلة .ربتُت
ذراعه قائلة :
ـ توقف .
لم يجب ، فخيل لي أنه لم يصغ ِ لهمستي الحائرة ، فتوسلتُ :
ـ توقف .
ـ ماذا ؟.
ـ الزقزقة ! .
ـ أتقصدين صوت السرير ؟.
ـ إنه يشبه صوت آلة ! .
لثم خدي المعروق , وأزال حبات عرق عن جبهته بسبابته . وسأل :
ـ لا أفهم شيئا ؟.
ـ أنسيت جارك البقال ؟ .
ـ البقال .. ما به ؟.
ـ ربما يصغي الآن ، بشغف أنساه مواصلة السعال ، إلى هذا الصوت الغريب .
ـ إنه لا يسمع .
ـ أهو أصم ؟
ـ لا ..
ـ لقد سمعنا سعاله ، وهو سيسمع ، أيضا ..
ضحك :
ـ ليذهب إلى الجحيم .
ضحكت بهدوء :
ـ يا للهراء ! .


33









وأردفت :
ـ ولماذا الجحيم ؟.
ـ ليشوى به حتى يتهرأ لحمه .
ضحكت :
ـ ولماذا :
ـ لقد أقلقك سعاله .
ـ لقد آذته نوبة سعال حادة كما سمعته !.


ابتسمت ، وكأني أناغي نفسي : لأتمتع ، وحدي ، إذن بالإصغاء إلى هذا الصوت ، ليسقط ، كمياه شلال صغير في أذني ، يسقط ثرا ً، مع تدفق نسيمة حملت شذا زهور الجوري ، بل لأستأثر به وحدي ، فقد كان مرافقا مخلصا لما يجري ، إنه ليس ذلك الضرب من النواح الهادر ، القادم من فوق العراجين من كل جهة إلى أذني ، نواح اليمام الباكي وذا ذهن ( المايسترو) منصرف بكليته إلى النوتات ، غافلا عن مؤثراتها ، وهي تتحرر من الأوتار ، والشوكات ، ورقائق الإيقاعات لتتحد ، محاولة رواية الحكاية ، بجرس صوتها المداعب للأحلام ، فهي تقول هامسة ، ما كان لا يقال ، شيء قد تقوله الريح .. ربما ، حينما تتخلل أعواد الأسـل في الحقول النائية التي تتمع بالصفاء ، ربما مثلما تمتعت شهرزاد بالكف عن الكلام المباح .

وعلى وتيرة تلك الأحلام المهدهدة ، ومع وقع تأثيرها الناعم ، انتظمت أنفاسي ، وكأن هواء المكان أصبح مفعما بذلك الأريج الندي إلى الحد الذي أشرقت تحت تأثيره ألوان لوحة ( ديلا كروا ) ، أو تألقت بصفاء سماء الفجر ؛ غفوت حتى أيقظتني أنامل ، وكأنها كائنات رقيقة تتنفس الأحلام ، مضمخة بعبير أنفاس شجيرات ورد ( الجوري) شعرت بها تتعثر سكرى فــي
بطاح مترفة لم تطأها أنامل أخرى سوى أنامل (شبل ) في ذلك العهد البعيد ، وكان مرورها مرورا عابرا ، قد يشبه مرور الربيع في جنوب العراق ، ولما انحدرت إلى السفح ، شعرت كأن لصا ً خبيثا وقف ،لاهثا خلف جدار حجرتي ، فقطعت أنفاسي ، ولم أسمع سوى شكوى شجيرة الخروع وهي تلقيها في تضاعيف ريح السموم ، وطنين البعوض ، وفتحت عيني خائفة ، كأني
أبحث عن أفق بعيد ، أفق موهه غبار الصحارى حتى فقد حقيقته في رمال ( تل اللحم ) ،وإستوسد ثراه الرمادي . وعاد إلى بالي كيف تعثرت أناملي ، وتصارعت في حجري إبان ليالي الوحدة الطويلة ، ثم انكمشت على نفسها ، ورأيت كأني ســأستغيث ، وكأن نهايــة أنف
( ليلــو) تتسع ، وهو يندد أمامي بقوله :
ـ عيب ، لقد أصبح الأولاد رجالا ! .
أو ما يرويه الصدى في الحدب البعيد بصوته المرتعش :


34









ـ ما يقوله الناس عنا ..يا ..أخـ ..ت ؟ .
أحتجُ في وجه الظلام ، وقد اجتاح الخوف حتى مفاصل أطرافي ،وألقاهما في ما يشبه العتمة :
ـ ما يقولون : لقد تزوجت المرأة الأرملة .

أيقنت أني أطلت ، بلا مبرر، من عمر مكوثي فوق حافة السرير ، لذا تركته باتجاه الباب المواجه إلى المرآة الكبيرة ، دفعته برفق . عثرت على أحد فردتي الخف خلفه ، أما الأخرى فرأيتها مقلوبة على ظهرها عند أقدام الجدار بحيــاء ، رفستها باستياء ، ودفعت قدمي فيها ،
وتقدمت في الممر الضيق المؤدي إلى الحمام . وقبيل انهمار قطرات الماء من الصنبور فوقي
، وقفت لأنضو ثوبي الأسود ، وأتركه معلقا في لوحة ذات مسامير تنتهي بكرات خشبية ملونة
، لا زال مرآها يمضي بي إلى الأيام التي أقبل فيها ( شبل ) من الشمال . نبهني صوت ما ،وكأن
كائنا بشعا يزحف قريبا مني ، ألقيت سمعي لأعثر على مصدر الصوت ، بينما نظراتي تتفحص
الجدر ، وكأني سألمح ( أبا بريص) رافعا رأسه ، وفاتحا عينيه على وسعهما دهشة ، ورغبة
في ثوان من التأمل الشهواني ، الغريزي إلى جسدي العاري ، القريب منه ، وكان ثمة مايذكر
في مثل هذا الضرب ، سواء في مقدار الخوف ، أو الحذر لا فسحة تتسع لذكره في تلك الوقفة
، ورأيت الجدر خالية منه رغم انفراج النافذة الصغيرة انفراجا يتيح لمثل تلك الزواحف التسلل
إلى الحمام هربا من حرارة الجو ، وبعد إلتفاتة غير مقصودة اكتشفت مصدر ذلك الصوت الذي
أثار بي رغبة الحذر ؛ لقد كانت الريح تعبث بأوراق شجيرة الخروع الجافة ، فتصطدم ، أو تحتك ببعضها ، حتى يجيء صوت الاحتكاك أشبه ببكاء أبح في الظلام . التفت ، بعد ذلك إلى الخلف التفاتة سريعة ، لم أعثر شيء من الثوم معلقا على الجدار ، يبدو نسيت تعليق مقدار منه ، فقد أشيع إن الزواحف هذه تهرب من رائحته ، هذا ما قيل ، كما قيل إن الأرواح الشريرة تنفر من تلك الرائحة نفسها .

كأنني في وقفتي العارية تلك أنتظر أمرا مريبا ، ولكي أشعر بالاطمئنان تماما سحبت (المنشفة ) الزرقاء المعلقة في أحد كلابي اللوحة ، وشددت على طرفها ، وطوحت بها في الهواء بعنف ، لقد كنت خائفة من أن يكون أحد هذه الزواحف البغيضة توارى في أحد طياتها
في ساعات غيابي ، وأعدتها إلى مكانها ، وبلا قصد، عدت ، فتأملت وجهي ، ونهدي في المرآة
الملصقة ، منذ ثلاثة أعوام في الجدار ، ورأيتني ، في غدائري السود القصيرة أكثر فتـــــوة ، وشبابا ، فتحسست عنقي ببنان أناملي بحذر ، كأني أبحث عن الصفرة التي خيل لي أنها شابت
صفاء سمرته القمحية اللون ، وعدت فشددت على نهدي ، رفعتهما إلى أعلى صدري خشية
أن أرى ضررا لحق بهما بعد شـــّد ، ومداعبة بلغت حرارتها في قوة أحضرت (شبل) بلحمه
، ودمه ليخطف نفسه بجسد عار في الحجرة ، لكنهما لاحا أشد انتصابا ، وأكثر امتلاء ، شعرت
بنشوة من حقق نصرا في معركة ، لاحت في رأسه خاسرة ، قبل أن يخوضها . وهنا سألت:


35








ـ كيف ، تراه ، سيمضي الليل وحيدا ، وهل سيأوي إلى سريره ، وهل تراه يعيش في دارته
وحيدا ؟ .

تأوهت ، وامتدت يدي لتدور صنبور الماء ، وكأني رغبت في إلغاء اتصال الحلم في الواقع
، فها أنا في بيتي ، بل بين جدره التي ألفت آهاتي ، ولهفتي ، وأبقتها في طي الكتمان ، ها أنا
مرة أخرى بصحبة شعوري بالرتابة ، وما تبعثه من تداعيات ، وانثيالات الذكريات القديمة الفاترة المذاق ، وما تبعثه الوحدة من تطلع مشوب بالأسـى يبلغ فــي شدته ما يتركه الشــعور
غب تناول كمأة فاسدة ، لا أقصد ، بما أبديته ، في تلك الشارة أن تكون باتجاه ( شبل) المسكين
، فالأعوام القصيرة التي أمضيتها معه لا زالت تصونها ظروف غامضة يطغي عليها الجهل، والتقاليد ، والنظرة القاصرة ، الغير واثقة إلى المرأة ، حتى أني لا زلت ، إلى اليوم لم أنس كيف كنت عاجزة ، على أن لا أتذكر كيف منعني الحياء من أن أهمس في أذن ( شبل) ، حتى ،وهو في حالة من حالات ضعفه التي أعرفها ، أو بعد نهاية كل عرس من أعراسه السقيمة ؛
إننا لا يمكن أن نتفق في ساعة ما على شيء يقف بيننا كعمود خاو من الرماد ، شيء قد يكون غامضا بالنسبة له ، أو يبدو لعينيه كشبح استطاع رؤيته على ما تبعثه الكواكب من نور باهت
بعد غياب القمر ، ولم يتبين نوعه ، لقد كان نظر الفتي ينتهي ، أبدأ ، عند خط أفق قريب .

كانت تلك شارة تركت شعورا مؤسيا في القلب ، كذكرى آلام جرح لم يشفَ بيسر . ولكن القدر أراد لها أن تندرج معه ، ففقدت معناها . إلا أني اليوم ، لا زلت أشم ريحها ، مثلما تشم
فاكهة فاسدة .

استرسلت قطرات الماء ثقيلة تسقط فوق رأسي ، وجسدي ، يبعث وقعها خدرا كأنه وقع خفق أجنحـة عصافير تتزاحم حول أمهما للحصول على المزيد من الطعام ، ولما هما المزيد ،
أصبح لها تأثير مداعبات أنامل دافئة ، وأطياف تهبط من فوق إلى الأسفل ، ولما تغادر آخر محطاتها ، تسقط أرضا مرسلة فرقعة غير محبوبة ، ثم تنتهي إلى حشرجة وهي تندفع في فوهة التصريف الضيقة ، حشرجة تنتهي بشعور ثقيل بالأسى ؛ إنها أشبه بحشرجة احتضار .
ومن الفراغ القائم في النافذة الصغيرة يفد صوت رغاء ، قاطعا المسافة مع امتداد الجدار، ليقرع أذني بجرسه المناغي ، همس هاتف : إنها (العزيزة) . أتراها استروحت رائحة بدني في
الريح الخفيفة السرعة المارة بالزريبة البعيدة في بيت (بشير) ، يا لها من بقرة عجيبة انحدرت
من سلالة نادرة ، أليفة تمتد أصولها عبر مئات الأعوام ، إنها من ضرب لا يألف حياتـه ، ووجوده إلا إلى جوار الإنسان ، وكأن ثمة أصرة تربطها به ، والإنسان ،اليوم ، يرعاها ، ويوفر لها ما تتناوله ، حينما لا تعثر عليه فــــي الأراضي الجرداء ما يذهب بشعورها بالجوع


36







، كانت توكد تلك الآصرة في حركة أذنيها ، وفي لمع المقلتين ، ثم فـــي صوت الرغاء ،وهي
تطلقه صافيا ، ودودا : أماه .

قطعت الممر ، وبقايا قطرات الماء تترك أثرا خلفي مفعما برائحة مشاعر جديدة مدعمة بذلك الشوق الذي يدعوني لمغازلة بقراتي الثلاثة ، تلك الآصرة المشحونة بالدفْ الذي يربطني
بسرية بالمكان ، أو الشعور بوجود أشياء محبوبة حولنا ، أو وشائج محملة بما يشبه ريح طيبة ، تشرح الصدر ، فيصفى البال ، والنظر إلى وقت ما ، حتى يعكره تراءي ملامح (ليلـــو)
أو طغيان رائحة روحه . وامام المرآة الكبيرة في حجرة النوم أمررت المشط الخشبي في غدائر
شعري السود ، ووجدتني شعرت براحة أني تخلصت من كثافته ، ومن العناء الذي أبذله في تصفيفه ، ثم توحيده في ضفيرة ، تشعرني بثقلها ، في كثير من الأوقات فوق ظهري . وفي المرآة بدوت في مظهر أسرني ، شعرت ، وكأني في العشرين من عمري ، فكل ما بي بدا عامرا
ينبض ، ويضج بالحياة ، والعافية .

صـّر الباب ،التفتُ ، رأيته لا زال مواربا ، عندئذ سعيت إلى خزانة ثيابي السود ، لأرتدي ثوبا جديدا أسود أيضا . وفي طريقي إلى المطبخ أحزنني هذا السواد ، شعرته شيئا كثيفا يركد
في الخزانة ، له لون ، وثقل ، ورائحة الزمن الذي يمر ثقيلا في القرية ، حتى القمصان ، والتنورات التي أرتديها عند الذهاب إلى المدرسة لاحت ، أيضا ، كأنها نسجت من زفت تبعث رائحته على الغثيان ، غثيان ثقيل يترسب في الصدر ، وفي الحواس كالطمى الذي تحملها المياه في اندفاعاتها المتهورة ، إنها تربك الحواس ، وتوصد المسامات لكي تمنعها من مواصلة إفرازاتها ، وقد فاقت الروائح الأخرى في قوة الهيمنة . لقد شرعت ، عقب تأملها العارض ، تعود تلك الأطياف الحزينة ، وكأنها أفاقت بعد غفوة ، فسألت : أتراني سأمضي العمر مجللة بالسواد لأن ( شبل ) مات ، أو ليتباهى ( ليلـــو ) بإخلاصي الوهمي لذكرى ابن عمه ؟ . ورأيتني أنشد ، وكأني لا زلت بعوز إلى شعور بالعزاء ، أو كما أعوز الجسد المريض
المزيد من الدواء لكي يشعر بالشفاء :

كان القمر
كعهده ، مذ ولدنا باردا
الحزن في جبينه مرقرق
روافداً ، روافداَ
قرب سياج قرية


37









خـّر حزينا
شاردا *

أعددت شيئا يسيرا من الطعام ، كان خيل لي كأنه سيكون بنكهة (الكباب) الساخن الذي
يهوى تناوله في الفطور ، ولكني قعدت أتناوله دون شهية ، وكان لم يصرفني عن تأمل مشاعر
الإحساس بغلق المسامات سوى صوت رغاء ( العزيزة ) لقد أرسلته في ظلمة المساء الجاثمة
بعناد فوق الأكواخ ، مناجيا ، متميزا بسيل من الحنين إلى لقائي ، قلت ، بلا بد ، حملت الريح
إلى منخريها رائحتي ، أو رائحة الطعام في المقلاة ، كان الرغاء دعوة ، وشكوى أهاجتها وحشة ساعات ليل القرية الأولى . تأوهت ، وقد توقفت يدي بين صحن الزاد ، وفمي ، وشكوت
بدوري ، انتظريني حتى الصباح ؛ لكن ما أبعد الفجر عن هذه الساعة المكتومة الأنفاس ؟ .

رفعت رأسي ، لقد كان يسمع حسيس ثياب ، أو تردد أنفاس متلاحقة تقترب من الباب الموارب :
ـ أين أنت يا جدتي ، هاهو اللبن .
ـ أنا هنا .
أز الباب ، وهي تدفعه بكتفها ، تركت قدر اللبن أمامي ، واستدارت لتلقي بنفسها على ظهري
، وتطوقتني بذراعيها النحيفين ، وأدارت صفحة وجهــــي ، وأذني ، وقبلت خدي بحرارة كما
تقبل ( نجمة غافل) بصوت مسموع ، صديقاتها ، وهتفت بلهجة مستنكرة :
ـ ما هذا ، من فعل بك هذا ؟.
ارتعش بدني ، وتوقفت عن مضغ ما فمي من طعام ، وسألت ذاهلة :
ـ ماذا يا عزيزتي ؟ .
شرعت كفها الصغيرة تمسد غدائري القصيرة ، الناعمة :
ـ أين هي ضفيرتك المتينة ، الجميلة ؟.
تنهدت ، وشعرت بالطمأنينة تعود إلى داخلي بدرجة متينة من التماسك ، والحرارة ، وقلت :
ـ لقد قصتها سهى .
ـ سهى ، ولماذا سمحت لها بقصها ؟.
وأردفت بقولها :
ـ ولماذا انقطعت عن زيارتنا ؟ .

كانت رائحة بخار الشاي تسامت في هواء المكان ، أمرتها لتغلق مفتاح الغاز، وسألت :
ـ ما بال العزيزة تطلق رغاء حزينا ؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* : الشاعر محمود درويش .


38








ضحكت الصبية ، وعادت تحتضنني من الخلف ، وكفها تربت عاتقي برفق شعرت كأنني لا زلت أتمتع بسقوط قطرات الماء فوق كتفي ، وجسدي . أجابت ، وكان فمها قريبا من أذني :
ـ ربما شعرت بك قريبة منها ، إنها أطلقت ،إبان أيام غيابك رغاء باكيا ،موحشا ! .
ـ هل كانت جائعة ؟.
ـ بل المعالف مملوءة دريسا ، وشعيرا .
بعد صمت قصير ، قالت بعتاب :
ـ كأنك غبت شهرا عنا ! لا تذهبي حتى لا يؤلمنا الانتظار .
ـ أجل .. أجل .
ـ ما هذه الأجل .. قولي نعم . لقد رأيت بيتك يبكي بصوت مسموع ، وإلى جواره شجيرة الخروع مطرقة أسى ! .
ـ أف .. كفى إيلاما .
ـ لن أدع هذا المأفون يأخذك إلى المدينة .
ـ حنون ؟.
ـ آ .. ما معنى حنون يا جدتي ؟ .
ضحكت :
ـ الكثير الحنان .
ـ ما الحنان ؟.
ـ الحب ، والمودة .
ـ وما المودة ؟.
ـ لونا من ألوان الحب .
ـ وما ألوان الحب ؟.
ـ حب الوالدين ، وحب ذوى القربى ، وحب الأرض ..و..
ـ وحب العزيزة ؟.
ـ نعــم .
ـ لأنها تعطينا الحليب ؟ .
ـ ويطرد وجودها الوحشة .
ضحكت ، وقال :
ـ عمت مساء ، سأذهب .

أدارت وجهي إليها ، قبلتني ثلاث قبلات بطيئة ، ذكرتني ، مرة أخرى بـ ( نجمة غافل) أو بصوت قبلاتها المصّوتة ، فعلت ذلك قبل أن تمضي ، وبعد أن فرغت من ذلك أشارت قائلة :



39








ـ سأذهب . لن أنسى كيف سأقبلك في الصباح الباكر.هكذا مضت ، وتركتني أطلق حسرة بصوت مسموع ، وشعور طارئ بالوحدة يستجد حولي ، ويهيمن في المكان ، شعور بلون آخر ، ربما كان اقرب إلى لون سماء القرية في ظهيرة صيف نشطت في خللها رياح السموم الجافة،وكأنها
تقذف كراتٍ من اللهب .

تناولت بضعة رشفات من الشاي ، وأطرقت ، لقد تبادر إلى بالي أني تركته يعاني شعورا متعاظما بالوحدة ، والفراغ ، والإصغاء مكرها إلى سعال البقال ، أو إلى أناشيد المعركة السقيمة تحملها الريح من مقر قيادة الشعبة الحزبية ، ربما تركته يعالج ضربا من الإربــاك ،أو
الشعور بالفتور، وأن غيابي ، لا محال ،أوحش روحه ، وبيته ، وأخرس العنادل بين شجيرات ورد الجوري . وبلا بد سيرى ما تركه مكوثي معه في خلل يوم ، وليلة ، وبضعة ساعات ، سواء في سريره ، أو بين ذراعي أريكتيه ، سيرى ما تركته في ( منشفته) الجديدة التي لم يستعملها قبلي ، وفي مرايا الحجرات ، وأقداح الماء ، وأكواب الشاي ، وما تخلف مني في هواء المكان ، وفــي ذاكرته ، ومخيلته ، وزرقــــة عينيـــه ، وما تركته نظراتي على لوحـــة
( ديلا كروا ) في مسحة من البهاء ، وانطباع . ولكي أصدق ما تبادر إلى بالي ، وأورث هموم الأسئلة ، هرعت إلى فستاني الأســـود الذي لا زال ملقى على ذراع الأريكـــة الشبيهة بأرائك
مقاهي المدينة ، تلقفته ، وجعلت أنفي بين طياته ، كانت رائحة القرفة لا زالت عالقة بنسيجه ، بل استوطنت خيوطه الدقيقة ، وأعلنت عن وجودها على مبعدة بضعة ياردات منه ، ولوهلة وجدتها معرشة فـي هواء المكان . أتراه سيشمها الوافد إلى الحجرة ؟ وإن استطاع ، فإنه ، بلا تردد سيسأل :
ـ من كان هنا ، إنها رائحة رجل غريب ! .

أهرع إلى النافذة ، أدفع حرف الستارة ، وأشرع ضلفة الشباك أمام ريح الليل المفعمة برائحة
بقايا النباتات التي درستها الريح ، التقط الفستان ، وأحمله إلى الحمام ، أعثر على الخف لا زال مبللا ، ألقي الفستان في (طست ) نحاسي ثقيل . أرى أن كل همي يتجمع في رغبة التخلص من
آثار رائحته في نسيج الفستان ، أو حتى في الجوربين ، وربما جف بعضها في جرس صوتي
، وتوارى في منابت غدائر رأسي ، وملمسها الناعم ، ولما فرغت من غسله بمسحوق شذي
علقته إلى أحد مسامير اللوحة ، فتدلى من أكرة زرقاء ( زرقة سماء مرتفعات راوندوز) التي
بهر صفاءها نظرات (شبل) في ضحى ربيعي لم يذكر له في رسائله السرية ، والفورية ساعة ، أو يوم . وفي وقفة غشتها حيرة ، نبهني صوت سقوط قطرات الماء من حرفه فوق أرضية
الحمام الإسمنتية ، أغمضت عيني ، وشرعت أصغي بلا لب حتى رأيت كأني أصيخ السمع إلى
قطرات المطر، وهي تســقط من سقف الكوخ فوق سريرنا الحديدي ، وترســم دوائر سـوداء



40










مختلفة الحجوم فوق ملاءة السرير البيضاء ، وكان ذلك الشتاء ممطرا ، ومثلجا ، وقد روى (شبل) في إحدى رسائله أنهم مدفونون في جبل من الثلج ، وأن الوفر سقط كثيفا ، (في ذلك النهار، لم أعد أصدق إن هناك شمس قادرة على أن تبعث الدفْ ، أو تستطيع إذابة كتل الثلج المتراكمة فوق الربى ، والسفوح العظيمة ) .

في وقفتي الذاهلة أمام تلك القطرات المتساقطة من حرف الفستان ، لم أدر كيف شاعت رائحة قرفة ، وضاق هواء الحمام بها ، ارتجف بدني ، وامتدت يدي لتشرع النافذة الصغيرة أما م الريح ، وكانت لا زالت تعبث بأوراق شـــجيرة الخروع ، فاندفعت بصوت مسموع مــع
وقع نقيق ضفدع توارى إلى جوار الشجيرة في وقت مبكر، كان صوتا حادا لم أشك أنني سأسمعه من فوق سريري أيضا .

عدت إلى حجرتي يدفعني شعور بإحباط لم يبلغ من الحّدة أن يجعل وجه ( ليلو) يتراءى لي
بنهاية أنفه الأفطس ، ورائحة نفسه ، وكانت الريح لا زالت لا زالت تحمل أنفاس النهار الحارة
، المشبعة برائحة الحقول ، والأراضي المسبخة المحيطة بشمال القرية بنصف قوس يشبه الهلال . أوصدت النافذة ، وسحبت شقة الستارة ، ولم أرَ ما أفعله ، وكنت رقدت رقادا ثقيلا ،
وكأني عدت مع ( شبل) في مسيرة راجلة شاقـة بد أت من ( دارا وشكا ) وانتهت إلى الطريق
الذاهب إلى مدينة ( خانقين ) ، ثم لاح ( التلفاز) على مقربة مني ، ضغطت زره ، وتراجعت إلى الأريكة ، فاجئني صوت الموسيقى المشجي ، وعلى (الشاشة ) أشرقت ، بكل رشاقة خط النسخ
: صور من المعركة ، ضغطت الزر بحنق ، وتراجعت إلى القنفة مع شعور مجبول بخيبة أمل
دعمته رائحة ندية لأعواد قرفة ، كأنها روحت مع هواء المكان . فكرت في وسيلة قد تجعلني أكثر هدوء ، وشعورا بالرضا ، إلا أني لم أرٍ منفذا مريحا إليها إلا في اللجوء ، مرة أخرى إلى السرير ، كان ذهب بي الظن أننا سنكون معا مرة أخــرى ، وفي سرير واحد ، إلا أنه سريري
، وليس سريره الأبيض الشبيه بأسرة المستشفيات . ثم كان ليس من اليسير أن أستسلم لإغفاءة في وقت قصير ، ودون أن أستعيد شيئا مما جرى فـــي ســاعات لقــاء لم يطرق بالي
في وقت ما ، لقاء لا زال يعذبني ما تخلف في رأسي ، وجسدي ، بل وجميع حواسي ، من دوار
، ربما تركته الطريقة التي خطف فيها الشبح نفسه فــي المكان ، أو حين تراءى لعيني بهيئـة ( شبل) بجسد عار قبل أن يتوارى ، هل تراه مكث هناك في بيته ، وقد كان أول شعور بدا كنذير
، طرقت روحي رائحته ، فسمعت حسيسه من فوق سرير الرجل . وفي وقت متأخر قلت أنه كان أمرا حسنا أنني لم أفكر بإيصاد الباب ، أو قفله دوني ، ولم أطفا النور ، وبقيت أنامل كفي
تتصارعان في حجري ، وقد سرت في دماءهما رعشة تعاظمت عند ما خطف الشبح نفسه .


41








وهو يطلق نفثاته ، وكانت سريعة الانتشار ، أشبه أن تكون عديمة الرائحة ، أو قريبة بدرجة محدودة من رائحة فساء كائن لا يتوقف عن تناول طعامه .

ترددت كثيرا قبل أن أقطع الرواق القصير الذاهب إلى المطبخ ، إلا أن وجود الكرسي القديم المتروك إلى جوار النافذة أتاح فرصة ، وفي خلل ثوان رأيتني أرسل نظرات متلصصة من خلف زجاجة النافذة ، كان النور الوحيد الوالج إلى المطبخ من مصباح الممر لا يسمح للناظر إلى النافذة أن يتبين شيئا خلفها . وسرعان ما تيسر لي تبين ما في ردهة الصف الأول ، فقد كان فانوس ( وافي ) الصغير يرسل حوله نورا أصفر، باهت ، ورأيت ، كأن الكهل الأعزب يلقي السمع إلى ما يتلى من أنباء من مذياعه الصغير الـ ( ناشينال) وكان المذيع يتلو بيانا جديدا عن
سيرالمعارك الفاشية على امتداد الحدود ، وكأنه يطرح عن كاهله عبئا . قلت : لقد كانت مراقبتي له متأخرة كثيرا عن موعدها ، ثم سألت : متى يكف عن ممارسة عادته السقيمة ؟ ولماذا لم يتزوج ، هل ترك رفض ( نجمة غافل) طلب يدها من قبله غصة ، لم تترك فــي نفسه
الشجــاعة ليكرر طلب يد امرأة أخرى ، ومن ترضى ببعل مثل ( وافـــي ) الرجل البوش ، الذي
يجهل الناس قبيلته ، وحينما يسأل عنها يقول مع شعور بالتبرم : إنني بشر من سائر الناس .
وحدها (نزيلة ) تمنّت ، عقب شعورها بالندم لزواجها من وارد ، الزواج منه ، معللة أســباب
ذلك أنه احسن خلقا :( من هذا العربجي ) التعيس .

كان ( وافي ) الذي لا يدري أن قريتنا ليست مسقط رأسه ، هكذا نقل ( ليلـو ) الحكاية كما رواها ( ناطور*) يعيش مع ما تخلفه آماله من إحباط بصمت لا جرس له ، صمت الحقول المجدبة في الليل . ولم تطف ، فوق ملامح وجهه ، في يوم ما ، طيف ابتسامة . و(وافي ) هذا
هو حارس مدرسة القرية منذ تأسيسها قبل أعوام . لم يقلقه أمر مثلما يقلق ، ويتحرج عند رؤيته لي قريبة منه ، أو يتلقى بعض الإرشادات ، والنصائح ، أو أدعوه لإزالة ما تكاسل عن رفعه مما تركه طلاب المدرسة ، وطالباتها ، منبهة إياه أن لا ينسى دورة المياه ، وكان بعض
الطلاب ، والطالبات الصغار لا يحسنون استخدامها ؛ فكان يزوي ما بين حاجبيه برما ، ويتلقى
الأمر على كراهة ؛ إلا أن ما جعل (وافي) يفر بنظراته مني إلى جهة أخرى بعيدة ، أو يطأطأ رأسه متحاشيا شعورا غريبا لم يكد ينس مصدره ، كما لم أنس أنا كذلك .

كانت ( تيماء ) تكبر المعلمات سنا ، متوسطة الطول ، يميل جسدها إلى البدانة ، حوراء العينين . ثرثارة ، أمضت في التعليم تسع سنوات تقريبا قبل نقلها إلى مدرسة القرية من إحدى مدارس المدينة ، لم أر لزوما في التعرف على مزيد من التفاصيل عن حياتها رغم إنصرام



41








عامين على انتسابها إلى مدرسة القرية ، وكانت رفيقاتها يعلمن أنها زوج رفيق متفاني في الحزب ، معروف في المدينة .

كانت ، كثيرا ما تدعو ( وافي ) وتأمره ، فلا يرى حرجا ، حتى ذهب بي الظن أنه يتلقـــى
أوامرها برضا مشفوع بطيف ابتسامة ، ولم ير متكلفا حينما دعته في يوم ما إلى دهن ( سبورة ) بدهان أسود بعد انتهاء دوام المدرسة ،وقد استجاب طائعا ، ودون أن يتلكأ بهز رأسه علامة الموافقة.

في بواكير أيام كانون الثاني ، وقد انصرف الطلاب إلى بيوتهم في القرية ، والقرى المجاورة
، كما انصرف المعلمون ، والمعلمات بعد أن حشروا أجسادهم في سيارة ( الفولغا ) القديمة التي تنقلهم إلى المدرسة يوميا ، ألمحت ( تيماء ) لي عن لزوم تأخرها إلى ساعة أخرى ، لكي تصحح أوراق امتحان درس التأريخ للصف السادس ، معتذرة عن القيام بذلك في منزلها . ولما
كنت في بيتي ، وقبل أن ،أهم بتسخين طعام الغداء ، وقد انشغل الصبيان في نضو ملابسهما ،
في تلك الإثناء انتبهت إلى أني نسيت حقيبتي الصغيرة فوق منضدتي في إدارة المدرسة ؛ تذكرت محتوياتها الثمينة ، ففيها قرطي الذهبيين الثمينين ، وساعتي الـ ( سيتزن) ، وخاتم ذهبي ، وقلمي الـ ( شيفر) ، ونصف راتبي . كنت أتممت وضع الطعام أمام الصبيين ، وأخبرتهما بالأمر ، وبعودتي السريعة إليهما .

كان باب المدرسة مواربا ، وفي الفناء عمت سكينة منتشية ببقايا روائح أجساد الصغار الشبيهة برائحة عصافير ، وثمة ريح خفيفة تهيج الغبار ، وتعبث بقصاصات أوراق . وقد قطعت الفناء دون أن يصدر خفي صوتا مسموعا ، مندفعة باتجاه إدارة المدرسة ، لاح أمامي بابها لا زال مواربا ، بينما كان باب غرفة استراحة المعلمين المجاورة لا زال مشرعا ، وفي رواق قريب ، إلى الداخل ، كان هناك ، مخزن الكتب ، والقرطاسية ، يقبع في الظل ، بل تغشاه
شبه ظلمة . لم أدر كيف حانت مني التفاتة لألمح باب حجرة المخزن شبه موارب ، خطفت الحقيبة من فوق المنضدة ، وتسللت بخطوات حذرة ، كان ثمة صوت هامس ، قادتني قدماي ، لا شعوريا باتجاه المخزن ، ما يفعل ( وافي ) في داخله .. أيسرق بعض الدفاتر؟ ، وقفت ، قبل أن أنظر ما يجري ، وتنصت :
ـ آ .. آه .. آ .. ! .
ثم ، وبصوت متوسل :
ـ آ .. بلى .. آ ..
إنها ( تيماء ) إذن ، وهذا الكهل العزب ، كيف جرى الأمر؟ أتراها أتمت تصحيح أوراق امتحان



42









درس التأريخ ؟ لأنتظرها في الإدارة ، فكرت ، على تلك الطريقة في فضول . ولم تمض دقائق طويلة حتى أطلت ، ورأتني أتفقد محتويات حقيبتي الصغيرة ، نبهتني شهقة تعجب أطلقتها ،
وقد وقفت فوق عتبة الباب بوجه شاحب البشرة :
ـ ما عاد بك ، ومتى ؟ .
ـ كنت نسيت حقيبتي .
أطل ( وافي ) بعد ذلك ، متلددا ، منكسا وجهه ، أمرته أن ينصرف ، وسألتها :
ـ وهل أتممت تصحيح الأوراق يا تيماء ؟.
تلكأت في الرد ، ثم قالت ، وهي تهرب بنظراتها باتجاه فناء المدرسة :
ـ أجل . أتراه السائق ينتظرني ؟ .
ـ لا أدري .
تناهى بوق سيارة في الطريق المحاذي إلى سياج المدرسة . تململت فــي مكانـــي ، ثم تقدمت خطوة عريضة راغبة في تركها في مكانها،إلا أنها قطعت الساحة إلى جواري معتصمة بالصمت
، وكانت لا زالت بشرة وجهها لم تستعد دمائها ، ولا حت شاحبة . سألت بعد تفكير :
ـ لماذا مع هذا ؟ .
ابتسمت ، وردت بوقاحة :
ـ وهل يختلف الأمر مع غيره ؟ .
شعرت أنها لم تفهم مغزى سؤالي ، وكمن شعر بمرارة الهزيمة ، قلت بصوت كأنه أنة :
ـ أبدا .
ـ لقد رأيتنا إذن ؟.
وأردفت هامسة :
ـ أنت لا تعرفين شيئا عن هلال .
ـ ومن هلال هذا ؟ .
ـ إنه زوجي .
وأردفت ، كأنها تستنكر أسئلتي :
ـ إنه يعاني ضعفا جنسيا شديدا .

تركتها أمام باب السيارة بفم جاف ، وحنجرة مرتعشة ، دون أن أفكر في دعوتها لمشاركتي طعام الغداء . وكان ( حنون ) يسأل، وكأنه يتوسلها بصوت ساخر :
ـ أنذهب إلى المدينة يا ست تيماء ؟
ولما لم تجب ، أردف قائلا :
ـ كأنك تعانين صداعا ! .


43








ابتعدت . بينما يتردد سؤال في البال بعناد ، حتى شعرت به يناكدني :
ـ منذ متى تختلي بحارس المدرسة ؟.

كاد الكرسي ينحرف عن مكانه تحت ثقل جسدي ، فشعرت بخطــر السقوط سقطة مريعة ، لقد انزلقت قوائمه قليلا ، ولكن باتجاه الجدار، حدث ذلك حينما استعدت إحدى صور ( وافـــي ) وكان يمارس عادته السرية ، وهو نصف عار ،أني لا زلت أتذكر انه يملك شيئا فضيعا قد يكون
أغرى(تيماء) حتى تناست هيئة ( وافي ) وملامح وجهه الجافة ؛ هبطت وأنا أقسم على أن أكف عن مراقبة الرجل، لقد كان من الشائن تعقب أمره ، وهو يعاني الحرمان من كل ملذات الحياة،
وقدعاد إلى البال أني لم أبح بسرالمرأة ، وكنت ، فيما بعد سألتها ،أي بعد أقل من أسبوعين من عثوري عليها مع ( وافي ) في حجرة مخزن الكتب ، والقرطاسية :
ـ كيف كان يعاني ضعفا جنسيا ؟.
ابتسمت ابتسامة فاترة ، وشفتها السفلى تختلج :
ـ لولا نسيت الأمر برمته .. أرجوك .
ـ ولماذا كففت عن تصحيح الأوراق في المدرسة ؟.
لوت عنقها ، وتأففت برما ؛ فاستدرت عنها ، وعلى مبعدة عدة خطوات التقطت أذني غمغمتها
، لقد قالت بحنق :
ـ أواه .. يا للقروية المتغطرسة ! .

وإلى جوار الكرسي الذي كان الشاهد الأمين على كل تلصصاتي ، من خلف الشباك على كل ما يقوم به الحارس ، من فعاليات مقززة في كثير من الأحيان ، في فراشه ، أو إلى جواره ، سألت ، مرة أخرى ، ولما أتم سؤالي أشعر بمقدار ما عليه من بلاهة :
ـ لماذا مع هذا ؟.

مضى شهر ، وكنتُ استهجنتُ ســؤالي ، وكأني اكتشفتُ سخف مغزاه ، وســوء غايته ، ومعناه ، وتنهدت . وفـــي ساعة لم تكن متأخــرة من صباح يوم قارس الريح تلقيت فيه تحيــة
(تيماء ) المقتضبة التي اكتشفت فـــي نظراتها ما يشي بالاعتــذار، مصحوبة بحـــرارة تبعثهـــا نشوة الابتعاد ، تمامــا عن المدرســة ، بل عن نظراتي التي لم تعد تحتملها ، وكأنها ، ما دامت فـــي المدرسة ، تلاحقهـا فـــي كل مـكان . لم تطق مواصلة حيــاة قلقـــة ، فنقلت نفسها معتمدة فــــي تسريع النقل على زوجها العضو القيادي في الحزب لتستقر فـي إحدى مدارس مدينتها من جديد ، وكان (حنون ) انتظـرها أمام بوابة المدرسة، ومن مكان منزو تلقت تحية (وافي) وكأنه يعالج عبرة احتقنت فـــي حنجرته . وكانت ثمة سحب تغيب سماء القرية ، وبرق ، ورعد يلـوح



44









فـــي الأفق الشمالي الغربي ، وما أن انطلقت السيــارة بها ، حتى شرعت السحب ترســـل رذاذا ناعما جعلني ألتفت إلى النافذة ، ثم أوصدها ،فقد شرعت حبات ثقيلة تطرقها بعنف، وقد أنصت لها بكل جوارحي حتى شعرت بها تطرق صدري ، وكياني ، ثم لم أر بي قدرة على تفسير مثـل
هذا النوع المستجد من الأسى .

أعلنت الساعة ، بدقات غاضبة ، عن الساعة الحادية عشرة ليلا . وكنت فرغت من تنظيف الأواني ، ووضعها في مكانها ، وغسل أرضية المطبخ . وقبيل مغادرة المكان تناهى ، من خلل فطر في زجاج النافذة صوت ينبعث من مذياع ( وافي ) الصغير يهتف في ظلام الحقول معــولا

آنه أمك قالت لي القــاع وأنت وليدي
عريس وربعة يزفونه وعرسك عيدي

لويت فمي برما ، تنهدت ، ومضيت إلى حجرة نومي مرهقة الخاطر ، والبال ، تصدع رأسي أنواء عمر سقيم . وكانت ثلة من كلاب القرية شرعت تتشالى ، وتتشاجر بالأسنان ، والمخالب
، وسرعان ما تحول نباحها إلى شجار صاخب ، وقد ميزت من بينها نباح الكلب الهرم ، تناهى ، وكأنه ينبعث من صدر مسلول ،إنه يطلــــق نباحه بجهد محسوس دون أن يذر مكانه لنصرة
فصيلته ؛ لقد أقعدته شيخوخة ، وأنهك قواه التقدم في العمر .

حاولت لملمت شتات أفكاري ، إلا أن ذهني كان شاردا ، وكأني لا زلت تحت تأثيــر شــعوري
المؤلم الذي دهمني بعد أن تركت منزله خلفي ، وضربت قدماي في صعيد الأزقة القـــذرة ؛ إلا انه كان يتشظى ، ويدع جسدي وحده يتنفس تلك الريح الرخية ، ويلتقط شذا أزهـار الحـديقة
المندفع من خلل الفتحــــة الشــــاقولية التي تركها الباب الموارب ، أقول لا زال مسكونا بصدى الزقزقة ، وكأنه لا زال يروح ، ويجيء به ذلك السرير الحريري ، ولا جدوى من أن يغيب فــي السكون الشديد،أو يتبدد مع صوت بقايا ريح السموم المتخللة أغصان شجيرة الخروع الواجمة في وقفتها أبدأ ، أو يرهقه السعال .

استلقيت فوق السرير ؛ ضجت نوابضه تحتي ضجيجا جماعيا ، لم يلذ لي ، كسابق عهدي معه ، الإصغاء له ؛ لقد سمعته متوجعا ، شاكيا ، رفعت ردفي ، وألقيته ، فاستجابت النـــوابض بشكوى أمـّر، ولا مثيل لها تحت ذلك الدفء الوقور المفعم برائحة قرفة ،وأنفاس أوراد . وكنت أزن ، بعد الامتناع عن تناول الرز ، والنشويات ، وبعض البقوليات ، أقل من وزني الســــابق ،



45








وكان ناهز السبعين كيلو غراما ، أو أكثر قليلا قبل عام؛ وكان أحزنني أن أرى وزنـي في ازدياد مستمر ، لم يوقفه أذى المسيرة المستمرة في ذلك الطريق الموحش ؛ فرأيتني أسعى إلى مكتبـة
المدرسة عساني أعثر على كتاب يخوض في تخفيف الوزن ، وتحاشي السمنة ،والبدانة ، ولما
لم أعثر على مثل هذا الكتاب طرقت مكتبة المدينة الوحيدة ، فوجدت صاحبها ينصحني ، وفـوق
شفتيه المتورمتين ظل ابتسامة بممارسة الرياضة يوميا ، بعد أن نفى وجود مثل تلك الكتب فـي
مكتبته الفقيرة ، أو حتى في مكتبات المدن الكبيرة، وقد تضائل استيراد الكتب بعد إعلان الحرب
؛ عدت متبوعة بما يشـــبه الخذلان ، ولجأت إلى نظام غذائي معتدل ، ومارست الرياضة شــبه عارية في حجرة نومي ليلا، وفجرا لساعتين أو أكثر، وكنت أتعرق تماما ،أو تسح حبات العرق
فوق كتفي ، وصدري ، وردفي ، ولما أقتعد حافة السرير لاهثة ، أراني ،وكأني تركت الحمام توا ، والممر المؤدي له ، ولما ألتقط أنفاسي أنير مصباح الحمام ، والممر المؤدي له وهنـاك
أستسلم لوقع قطرات الماء ، وهــــي تقرع جسدي ، وتداعبه ، وأراني مستسلمة لأيد صغيرة
جدا ، وهي تداعبني في كل موضع بلمسات رقيقة ، بينما أناملي تبحث عن شيء ما لتقبض عليه بحرارة الشعور بنشوة ، لا يني الحرمان يشعل نارها على هيئة فتنة تثير التوجسات .

ترقى نظراتي إلى الجدار ، ثم بسأم ، إلى ما فوق المرآة ؛ أراني أسرح متأملة ، مرة أخـرى
لوحة ( رامبرانت) الرائعة ، إلا أن نور المصباح الفضي ما كان ليكشف عن تفاصيلها ، وألوانها مثلما هي عليه في النهار . تلك اللوحة التي حملها (شبل ) من أحد المحال في مدينة
السليمانية قبل رحيله بعام ، وثلاثة شهور ، أخرجها من حقيبته الكبيرة ، وألقاها بيننا ، وهــو
يقول بصوت مسرور :
ـ أنظري ، كم هي رائعة ، إنها واحدة من لوحات جيدة أبدعتها رسام كردي شهير في المدينة
أنظري اسمه في أسفل اللوحة ، أنني لا أكاد أتبينه ! .

قربت اللوحة إلى وجهي ، وقرأت ( رامبرانت) ، ابتسمت ، وأوضحت له :
ـ أجل إنه اسمه ، إنه فنان شهير حقا ، لو عثرت على لوحة أخرى له ، فلا تتلكأ عن اقتناءها
ابتسم بفتور ، ثم سألني :
ـ لا أفهم .
ـ اشترها حالا .
ـ هل أعجبتك ؟ ما اسم الرجل .. شيركو .. آزاد ؟ .
ـ رامبرانت .
ابتسم ابتسامة بلهاء . ولم يقل شيئا .




46







لم أر ما يدعو إلى تنبيه (شبل ) من يكون الرسام حقا ، فهو لا يعنيــــه البته إن كان كرديا ، أو
هولنديا ، إنه لا يعلم من هو (رامبرانت) أو (غويا ) أو ( ديلاكروا) ، ولكنه لم ينس وصيتـــي ،
فحمل معه لوحة ( ديـلاكروا ) فاستأثرت باهتمامي رغم استنساخها الرديء فـي ورق صقيـــل ، لماع ، وبقيت لوحة (رامبرانت) تستأثر باهتمامي ، فحرصت عليها حرصي على ذكرى أمي
، وأحـلام ( شبل ) الساذجة ، البسيطة ، والتي مرت هادئــة رتيبة ، وكانت ربطت بيننا أواصر نشأت إبان أعوام الطفولة ، والصبا ، حينما كنا نذهب معا إلى المدرسة الابتدائية فـــــي احدى
القرى المجـــــاورة ، قبل أن يشرع ببنـــاء مدرسة قريتنا التي تجاور بيتي اليـــوم ، وكان
(شبل ) انقطع عن الدراسة في وقت مبكر ، ووجد نفسه سأم الفراغ ، وشعر بالضيــــاع فذهب يرعى الأبقار فــــي الأراضي المجاورة ، ما لبث كثير وقت حتـى رآه يقطع الطريق إلى التجنيد ، لنراه بعد شهر، جنديا في إحدى وحدات صنف المخابرة ، ثم أمضى أكثر أيامه في ألوية المشاة الجبلية .

كنت لا أدري كيف اختفت لوحة ( ديلاكروا) ، وكنت لا زال بقدرتي ، إلى اليوم ، تأمل خيولها
العربية ، وكأنها تخترق عواصف الغبار ، بحثت عنها في أرجاء البيت ، وفي الصناديق الثلاثة
المقفلة على حاجيات لا يمكن التفريط بها ، ولم أر لها أثرا ، وبعد تفكير اعتقدت أنها اختفت في خلل أيام العزاء الثلاثة ، أو لعلها سرقت ، وكان معلقة في الجدار المواجه إلى السرير الخشبـي
العالي ، وعلى ارتفـــاع وا طيء ، ولم أكد أكذب ظني ، فقد تأملت خيطها لا زال شيئا منه فـــي المسمار ، ولكي أنساها علقت صورة (شبل) في مكانها ، ولكن الأمر أثار فضول بعض النسوة
اللواتي يزورنني بين فينة ، وأخرى :
ـ من ذا الرجل الكردي ؟ .
ـ إنه شبل .
ـ شبل يا لسوء النظر ؛ لقد غشيت عيني .

أه .. لقد فقد (شبل ) ! مثلما فقدت لوحــة ( ديلاكروا ) ، سرقه الزمن بيسر ، وفــي وقت مبكر ، فتغير كل شيء حولي ، وأمامي ، تماوجت المرئيات ، وارتبكت الخطى . إلا أنه ، وبعد سبع سنين شب الصبيان ، وتغير موقع ، وبنـــاء البيت ، وأصبحت مديــرة مدرسة القريـــــة ، وارتبطت ، مثلما يرتبط الرعاة بعواطف غريبة مع البقرات الثلاثة ، فهي لم تعد علاقة ماديــة
محظ ، بقدر ما أمست علاقة روحية لا يمكن التخلي عنها ، وتفسير أسرارها ؛ لقد كانت أذنــاي لا تسمعان رغاء ( العزيزة) مثلما تسمعه آذان الآخرين ، لقد كان يجيء بجرس محبوب ، أشبه
بنداء مفعم بالحنين ، والشوق : أمـــاه .. !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* : بقرة من نسل أبقار جدها نافع .



47








أما هذه (المترقبة ) فشأنها شأن آخر يختلف عن (العزيزة) وعن (غزالة) الأكثر صبرا ، وتحملا ، ووقــارا مثلما وصفها (بشير) ، بل رأيتهــا أكثــر تفكــرا ، لقد رأيتها تنظرني بجميــع حواسها ، السمع ، والبصر ، والشم ، ولما تجدني قريبة منها تسارع إلى دس أنفـها بين ثنيـات ملابسي ، وتأخذ الهواء إلى رئتيها بصوت مسموع ، ثم يسمع زفيرها عميقا ، تشملني،بعدئذ ،
بنظرة طويلة ، لم أتعلم كيف أفسرها ،ولكنها نظرة حب عجيب ، تدفعني أحيانا إلى تقبيل شفتها
الناعمة الشعور ، ثم مداعبة خديها ، وغرتها البيضـــاء ذات الشكل المعينـــي ، ولما ألتفت إلى (غزالة) تلك البقرة الهجينة الدماء ، أراها وقفت وقفة متأملة ، مــأخوذة بإحساس من ينتظــــر شيئا مجهولا ، تشع من مقلتيها السوداوين ،الواسعتين نظرات دافئــة ، تشملني بها من الأعلى إلى الأسفل ، فأسعى ، بلا جهد إلى تمسيد قذالها ،أو حك جبهتها ،وعندها تستحسن ذلك الوداد ،وتكتفي دون أن تطلب المزيد ، وهي ترفع رأسها ،وتخفضه؛ ثم أراني تأخرت في ملأ المعالف بأعواد ( الجت) ، أو بالتبن المخلوط بحبوب الشعير، مع حفنة من الملح .

توزعت اهتماماتي بين المدرسة ، والبيت ، وأسرتي الولدين ، وتربية البقرات الثلاثة ، وبين التأمل ، والقراءة ، وزيارة بعض الصديقات اللـــواتي خدمن معي في مدرسة القرية ، ثم
نقلن إلى مدارس المدينة القريبة ، أو دعوة (نجمة غافل) وأختها (فضيلة) إلى تناول الشــاي ،
،والبسكويت في بيتي عصرا ، وكان الحديث يقتصر على استرجاع الماضي ، وانقطاع العــراف عن زيارة القرية ، وكان صـوت ( نجمة غافل) الشبيه بصوت رجل أدمن تدخين التبــغ الرديء وحده يملأ هواء المـــكان بضجة ، ترسل على جرســه عينا ( فضيلة ) ومــضات مختلجة تــكاد تنتزع ما لاح على شفتيها من ابتسامة خفرة .هكذا تبدو (فضيلة) وهي تستعيد ، بشغف ساعات
زفاف (نزيلة) البنت الشبــه عليلة كما تهوى ،دائما ،أن تصفها إلى ( وارد العربجي) المنكود ،
وكانت تؤكد ما قاله أحد رجال القريــة حينما هاجـر ( وارد) إلى المدينة : لقد خرج الشــؤم من القرية برمته يوم خروج وارد منها ، وقد علقت (فضيلة) وكأنها تؤيد ما قاله الرجل المبغض :
ولكنه أصاب ( نزيلة ) المسكينة ، وها هي ، إلى اليوم ، تعاني داء غريبا أعيا الأطباء ، وقبله العرافين .

على تلك الشاكلة خفت وطأة الشعور بالوحدة في أغلب ساعات النهارات ، وبقيت أعاني منه
شيئا ، ليس ضئيلا ، في ساعات الليل ، وحينما أكون في سريري ، ألقي السمع ، وكأني أسمـع
أصداء الماضي ، تتخلله ، في أوقات نزيرة صوت ما أشبه بالصرير المتقطع ، ذهب بي الخيال
أنه صوت جهاز ( المورس) يبعث رسائلا من كوكب آخر قريب ، ربما سـكـنه روح (شبل ) بعد
أن حملته أنواء شتاء عاصف وهو يتجول فوق قمة جبل (كورك) المتوحدة مع فضــاء أبيض ،
شديد النقاء ، ربما ، هناك فاضت روح المسكين . في تلك اللقاءات أشارت ( حنان) إلى اغتنام
الفرصة، والزواج قبل أن يذوي هذا الرواء، وتنأى بي سنوات العمر إلى الفراغ الموحش، وها



48






هي تمر سريعا مرور ريح فوق صعيد شاحب ، وأشارت ضاحكة :
ـ سأعثر لك على زوج يعجبك .

لازال السرير يضج تحت ثقل جسدي ، يشكو ما يشجيه كمن ألم به داء عضال . ولو أراه ، الآن ، إلى جواري ، وعقارب الساعة تشير إلى الدقيقة الحادية عشرة قبل منتصف الليل ،لكنـّا
أصغينا ، بانتشاء ، إلى الموسيقى الجماعية التي ترسلها عشرات النوابض ، وكأنها مجموعـة
(أكورديونات) ترسل موسيقاها بعذوبة فتنساب ، بيسر مع ريح الهزيع الثـــاني من الليل ، تلك
الريح التي أيقظت شجرة الخروع التي ما انفكت تعاني دوارا أورثته إياها ، فـــي ساعات النهار
الحارة ريــاح السموم الجافة ، نصغي إليها ليس مثلما أصغيت إلى سعال البقال الذي آلمني إلى
حد ما،لعل أعضاء سائر الجسد ستشترك في نشوة واحدة ،نشوة مشتركة لا يتسرب إلى نعيمها
الشك ،أو الخوف من دنو نهايتها .حتى تبلغ آخر مطاف لها ، أو ذروة ، كما بلغت روح (شبل )
ذلك المكان الأزلي ، وقد رجوت أن أفك ( شيفرة ) رسائل الحب المجفــرة التي يرسلها لي بين
آن ، وآخـر من مكانه القاصي في ذلك الكوكب الدري ؛ إلا أني لا زلت عاجز ة .

كل لقاء كان عرسا حتى تجلا عرسه الكبير، كعرس ( جلال الدين *) ولكن فوق فروة الجليد
البيضاء ؛ مسكين أنت يا ابن عمي ، لم يبكك القلب فــي ظلام غرفــة النــوم الصغيرة ، المبنيـّـة لشخص واحد آثر العزلة ، وأحب التأمل ، وكأنه يستغرق فـي التفكر، وزيارة (أم ســهى ) فــي فترات متقاربة ليس لقسوة ألمت بي لانقطاع الرجاء بعد أن اختلفت بنا الطرقات ،طرقات وعرة
لا يمكن أن تلتقي فــي زمان ما . أجل ، مثلما لا يلتقيا خطــان مستقيمان متوازيان مهــم امتدا ، هكذا شاكستنا الريح ، والمقادير ، ووجــه القرية المتجهـم ، وكانت أصغت ، ببلاهـــة إلى وقع طبول الحرب الذي لا ينقطع ليلا ، أو نهــارا ؛ وكان البكاء لا يجدي نفعا ، فقـد تملكنــا يأس لا قامع له ، ويبقى السؤال فاترا ، يسقط في القلب مثلما يسقط رماد البراكين فوق ما حوله :

هل بالطلول لسائل رد أم لها يتكلـــم عهد *2

وعلى تلك الوتيرة سقطت إعياء ، هنا على منكب الطريق ؛ فقد أرهقني امتداده ، وأخافتني وحشته ، ووجدتني كمن يلتقط أنفاسه ، وينتظر من يأخذ بيــده ، قد يكون أشبــه برفيـق يؤنس
وحشة ما حوله ، ويطمئن إلى صوت أنفاسه ، وهي تتردد في ظلام القرية بسرية تامة ،وكأنـي
رأيت رأسي المتعب تخلى عن همومه ، وأنا أتوسد ذراعه ، بينمــا الأخرى تطوقنــي ، وكأنــها تحميني من مخاوفي ، وتوجساتي ، ومشاعري التي أرهقها الشوق إلى نومــة تقر فـــي خللهـا عيناي ، وأجفاني ، فيعود القلب إلى إرسال وجيبه الرتيب ، وكأنه ألقى عنه كل أتعابه،وأوصابه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* : جلال الدين الرومي وهو يصف يوم مماته .
*2 : دوقلة المنبجي .

49








لكن ،هيهات ، فقد بات الشعور يرتادني ، وكأنك تركت ريحا عاتية تصفق فــي أبواب ، وشبابيك دارة خربـة ، مهجورة ؛ فوجدتني خرقتُ الشرنقة بطريقة أخرى ، فبات كل الســرور
الحاصل ممنونا ، ولا لون له ، أو وجه ، هكـذا تجسد لي واقعي الجديد ، وهو لا يكف يحمــــل
رسائله السرية ،والفوريــة ، دون أن أمتلك الحـول فــي فك ( شيفرتها ) ، أو طرحها جانبــا ؛
وقد تجسد ذلك جميعه في لحظة واحدة ، اللحظة التي خطف فيها نفسه عاريا في ظلال المكان
الشاحبة التي ألقاها مصباح الشارع،وعكستها ستارة النافذة كشيء يتيح إلى ما حوله فرصة ، ليتطلع بسكينة حالمة باتجاه رفقة سعيدة ، لا تخلف ندما ، رفقة لم تبلغ شوطها الأخير .



#حسن_مروح_جبير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نصف مجنون / القصة الفائزة بالمركز الأول في مسابق رونق الابدا ...
- تحليق حالم إلى رحيق زهرة مجفّفة / رواية الكاتب محمود يعقوب


المزيد.....




- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن مروح جبير - رواية : أحزان شجر الخابور الفصل الأول