أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - حقوق المدن















المزيد.....

حقوق المدن


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 5181 - 2016 / 6 / 2 - 21:32
المحور: الادب والفن
    



كلّما زرت مدينة، بحثت عن ما يميّزها عن المدن الأخرى، فالمدن كما يُقال مثل النّساء، لكل مدينة عطرها ورائحتها ومذاقها، والمدينة ليست بيوتاً أو أبنية أو أشكال هندسية، بقدر ما هي بشر من لحم ودم وثقافة وفنون وعلاقات وتاريخ وعادات وبيوت عبادة، وطريقة عيش وملبس ومأكل، وهو ما يكوّن العقلية الجمعية وما يسمّى بالإنكليزية: Mentality.
والمكان بالطبع يؤرّخ للذاكرة، ويدلّ على الزمان، ففي حين تزدهر المدن بالسلام والعدل، تنكفىء وتتراجع بالحروب والطغيان. وحسب ابن خلدون في مقدمته الشهيرة قبل أكثر من سبعة قرون، ربط الظلم بالخراب، ومقابل ذلك ربط العدل والمساواة بالعمران والعكس صحيح، فالعدل هو أساس العمران، وبدونه لا يكون هناك أمن ولا استقرار، وحتى وإن كان لحين، فإنه سرعان ما يتدهور، بسبب غيابه.
حين بدأ داعش بعد احتلال الموصل بتدمير النمرود العظيم وإعدام الثور المجنّح وتجريف مدينة الحضر، أحسست بنوع من الغصّة، ألا يكفي إذلال البشر؟ ثم ما شأن التاريخ لكي يتمّ الانتقام منه؟ لكنّني أعدت قراءة المشهد راهنياً، فللبشر ذاكرة وحضارة وأماكن وعمران وتاريخ، وهو ما يُراد محوه أيضاً، أي استهداف البشر والشجر والحجر، وكل ما يدلّ على الحاضر من الماضي، وتلك وسيلة يستهدفها الإرهاب لغسل الأدمغة وتغيير خرائط التاريخ والحاضر، وهو ما استخدمته أيضاً بخصوص تدمير بعض معالم تدمر السورية وتحطيم بعض التماثيل تحت عناوين ماضويّة متخلّفة. ولعلّ المثال الأصرخ، هو ما تقوم به "إسرائيل" حين تسعى لتزييف التاريخ، وتشويه وقائعه وإنساب بعضها إلى غير أهلها، سواء بخصوص القدس الشريف أو عموم فلسطين.
المدن هي مستودع كبير للذاكرة، وهي أقرب إلى البارومتر الذي يُقاس من خلاله درجة ثقافة الشعوب والأمم، تحضّرها أو وحشيّتها، تقدّمها أو تخلّفها، قوتها أو ضعفها، غناها أو فقرها، وصعودها أو نزولها. ومثل هذا الخزّان التاريخي لا يخصّ الماضي فحسب، بقدر ما يتعلّق بالحاضر والمستقبل. والأمم الحيّة تدرك أهمية ذلك وتسعى إلى إحاطته بالرعاية ليكون أساساً للأجيال الحاضرة ولاستشراف المستقبل أيضاً.
في كلّ زيارة لمدينة إربيل الكردية أشعر أنّ هذه المدينة التاريخيّة الصغيرة، والتي هي من أقدم المدن المسكونة في العالم، وكنت قد عرفتها منذ الستينات، أصبحت مدينة مزدهرة وحديثة وفيها أسواق كبيرة، إضافة إلى الأسواق القديمة والقلعة التاريخية، وفيها الحدائق والفنادق والمطاعم والمعالم الثقافية، فلم يعد بالإمكان اجتياحها كما كان يتمّ في السّابق لملاحقة "متمرّدين" أو "ثوار" أو "عصاة" خارجين على القانون، وهو ما عبّرت عنه في محاضرة لي "عن جيبوليتيك المسألة الكردية من منظور مستقبلي"، بدعوة من جمعية الصداقة العربية - الكردية.
أصبحت إربيل مدينة التقاء مصالح وتقاطع سياسات داخلية وخارجية، إقليمية ودولية، وهناك شركات ومكاتب لمنظمات دولية وقنصليات أجنبية وامتدادات إقليمية ما لا يمكن شطبه بجرّة قلم، حتى إن داعش حين اقتربت منها أدركت خطورة الأمر، فتحرّك الجميع: الإقليميون والدوليون لحمايتها، لأنها تمثّل رمزياً مركز لقاء وتبادل مصالح.
المدن تمثّل السياسات الحضرية في الاقتصاد والتجارة والعمارة والثقافة، وهي مثل أية ظاهرة اجتماعية تنمو وتتطوّر ويكون لها هويّة، وهذه ستكون مفتوحة بالطبع، وليس كما كانت المدن في السابق، خصوصاً في ظل العولمة، فمدينة مثل دبي أصبحت عالمية بعد أن كانت أقرب إلى قرية في السبعينات. ويكفي أن تدخل مطارها وتقرأ اللوحات لمغادرة وقدوم الطائرات لتدرك أنك أمام مدن تتّسع للجديد وللتغيير وللتطوّر، خصوصاً مشاهد العمران والجمال وما خطّط له وما أنجزه الإنسان، أوَليس من دلالة لتأسيس وزارة باسم السعادة وأخرى باسم التسامح؟
في براغ تدرك عظمة الإنسان، فهذه المدينة التي بناها الملك الروماني تشارلز الرابع في القرن الرابع عشر الميلادي ، بنى معها صروحاً تاريخية مثل جسر تشارلز (الحجري) وكاتدرائية القديس فيتوس وجامعة تشارلز أقدم جامعة في أوروبا الوسطى. لا تزال بعض شوارع براغ وأزقّتها تهديك إلى عبق التاريخ، بحيث تشعر معها وكأنّك تعيش في ذلك الزمان، حيث الأبراج الذهبية التي تستعيد الماضي بازدهار الحاضر.
لم تعد المدن كما كانت في السابق مطوقة بالأسوار، وإن وجدت، فإنها للذكرى، حيث البوابات الكبيرة، لأنها أصبحت مفتوحة بحكم التبادل التجاري والمصالح الاقتصادية والتفاعلات الثقافية، وهكذا أصبح أكثر من نصف سكان العالم يعيش في مدن وبلدات يرتفع فيها مستوى التوسّع الحضري عاماً بعد آخر.
وخلال ربع القرن الماضي زاد سكان الحضر ملياري نسمة، وقد يصبح خلال العام 2050 ما يعادل ثلثي سكان العالم يعيشون في المدن، الأمر الذي سيعني إغناء مستوى التفكير والتواصل والبحث عن سبل أحسن للعيش المشترك والشراكة في السلام والتنمية وقبول الآخر والاعتراف بالتنوّع والتعدّدية والهويّأت الفرعية على أساس المساواة.
وبقدر الانبهار ببعض المدن مثل ريودوجانيرو وفيينا وبراغ وباريس وفينيسيا، والإعجاب بمدن أخرى مثل بودابست وكولون وجنيف وأمستردام ودبي وفاس وبيروت على الرغم من نكباتها، فإنّ الحزن سيكون شديداً على بغداد، المدينة التي كانت واعدة في الخمسينات والستينات ومفتوحة ومزدهرة وعامرة بالحدائق والجسور والعمران والمعارض والسينمات والمسارح، حيث التاريخ العربي القديم ممزوجاً بالحضارة العربية – الإسلامية لمدينة الرشيد، فإذا بالحروب العبثية والحصار وبعده الاحتلال، يسلب بغداد روحها، حتى لتغدو مدينة هرِمة كئيبة وحزينة ومكفهّرة، ناهيك عن تدهور الأمن وانفلاته. كيف أصبحت مدينة الحكمة والجامعة المستنصرية وجامع الإمام الأعظم (أبو حنيفة النّعمان) وحضرة الإمام موسى الكاظم، وعيون المها بين الرصافة والجسر، والرفاه والبهجة والأبهة، أسوء مدينة في سبل (العيش)، وليس عبثاً أن يتم تصنيفها كآخر مدينة في سلّم المدن.
حقوق المدن من حقوق الإنسان، وهي حقوق جماعية، لها علاقة بالتنمية والبيئة والسلام والاستفادة من الثورة العلمية - التقنية، وهي كلّها تندرج ضمن الجيل الثالث لحقوق الإنسان، وذلك بما له علاقة بحقوق الإنسان في المدينة، أي بتوفّر الأمن وسبل العيش الكريم من خدمات تعليمية وصحية وبلدية وإدارية وعمل وضمان، وغير ذلك. وأخيراً هل نستطيع إقامة مدينة حقوق الإنسان، أي المدينة التي تتوفّر فيها سيادة القانون واستقلال القضاء وفصل السلطات والحريّات العامّة والخاصّة واختيار المحكومين للحكام بصورة دورية وتغييرهم، أي مدينة هدفها الإنسان، مثلما هو وسيلتها للوصول إلى غاياتها النبيلة؟ ويبقى الإنسان غاية ووسيلة، هو مقياس كل شيء حسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس، ولأجله تُبنى المدن وتكون حقوقها من حقوقه.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القوة الناعمة: جدل في المفهوم والسياسة
- مأساة الفلّوجة وملهاتها
- الطفولة المعذبة في العراق: إلى أين؟؟
- حوار مع مجلة كولان الكردية
- كوابح التغيير في العراق
- عدوى التعصب الديني
- اتفاقية سايكس بيكو: الاتفاقية الحرام
- أسئلة ودلالات لحكايات النزوح العراقي
- عن فكرة الانتماء والهوية العراقية
- استراتيجية واشنطن وأولويات بغداد
- متى يعاد الاعتبار للسياسة عراقياً؟
- العراق.. تدوير الزوايا ومعادلات القوة
- الزبائنية وما في حكمها!!
- العربي أبو سلطان -محمد الهباهبه-: حالم لم يفارقه حلمه
- الماراثون العراقي والعودة إلى المربع الأول
- اللحظة اليابانية.. ال«هُنا» و«الآن»
- الفلوجة وسريالية السياسة العراقية
- محمد السمّاك :الشاب الثمانيني الذي يسيل من يراعه عطر الفلسفة
- «غوانتانامو» وتسييس العدالة
- وليد جمعة : كان يشرب من دمه كأنه النبيذ!


المزيد.....




- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - حقوق المدن