أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ذياب فهد الطائي - الحلقة الثالثة - نوافذ دائرة الطباشر















المزيد.....



الحلقة الثالثة - نوافذ دائرة الطباشر


ذياب فهد الطائي

الحوار المتمدن-العدد: 5173 - 2016 / 5 / 25 - 01:09
المحور: الادب والفن
    


عاد الرجل الى بيته فاكتشف ان الصحراء قد انسحبت , ليس من باب البيت فحسب ، وإنما من الحدود الترابية التي تشكل هضبة منخفضة عند الشطآن الهشة للنهر الذي بدا واضحا انه يخاصم القرية , وبدلا من الرمال الفاقعة التي كانت تدفع بالديدان (الفارسية ) الكبيرة كان هناك ملح ناعم كأنه عروق متعرجة في قشرة الأرض ورطوبة بالغة الغرابة تنز حينما يخطو عليها .

قالت المرأة : لقد عبر الكلب الى الجهة الشرقية , خاض في الماء ولم يسبح لأن النهر كان وشلا، أما الغزالة فقد اختفت في القلعة لأن الغرف المبنية من الجص تكون عادة باردة .

قال الرجل : يصرّ مدرس التاريخ, الذي نقله المحافظ أمس من القرية الى الوسط الذي يستقر على ذات النهر بعد أن فقد من وزنه النصف بسبب ماتأكله الجرذان السمينه من رغيفه اليومي ، إن قريتنا كان يحكمها الفرس وان القلعة بناها سابور بن أردشير ثم فتحها الروم , ولهذا تتباين عيون ابناء القرية وتختلف نساؤها فمن كانت بيضاء بعيون واسعة فأن اصلها رومي ومن كانت اميل للسمرة بعيون نرجسية مترددة فأن اصلها فارسي !

قالت المرأة : عيناي سوداوان !

قال الرجل : انت اذا مهاجرة !

قالت البدوية العجوز التي أولدت أم ( الكلي المعرفة )

:- ولكني لم اكمل حكايتي بعد ،حين بدأ يكبر كانت أمه تريده ان يتكسب من صيد العقارب ولاسيما العقارب السوداء لأنها تمتلك كمية كبيرة من السم ولكونها تمشي فاتحة ارجلها كعذارى نذور العرس الإلهي ، فقد أخبرها غجري يمت بصلة علاقة مشبوهة مع أخيها ذي الرأس المربعة والذي يملك لسانا شديد الوساخة حتى ان إمام جامع القرية طلب منه عند الوضوء ان يغسله ثلاثين مرة ، والذي يحاول ان يتشبه بأمبراطور روماني مجنون امتلأت مشاعره بعاطفة صارمة غاية بالغباء تدفعه الى التوسع الى الخارج عن طريق عمليات استيلاء أوتسليب قانونية ابعد قليلا من عمليات الأستيلاء الشائعة ولكنها أكثر قسوة .

في الزنزانة التي كان يشغلها يوما ما طبيب نفسي اختفى فجأة و لم يعثر عليه أحد ، وجد رجل ألأمن المكلف بتنظيف الزنزانه بعد كل عملية إخلاء ،ورقة مطوية سلمها الى الضابط المناوب الذي قرأ فيها أمام اسمه (( انه ذات متورمه ,على نحو غريب وغير مبرر، بألأنانية المفرطة والرغبة بأيذاء الآخرين وانها ،أي هذه الذات تتسم بالوقاحة وتعمد الى الهجوم , وتجد ان هذا هو الوسط الملائم كي تستشعر انها تعيش))

قال الغجري انه سيشتري السم وانه سيدفع لها تمرا وملابس جديدة للعيد , وافق( هو )وفكر ان يأتي بالنخل من جنوب النهر وينتقم من الغجري ولكن النخل لم يقبل ان يحمل التمر وظن( هو ) انهم خدعوه بأعطائه نخلا عقيما ولهذا قتل ثلاثين رجلا وست نساء ممن تولوا عملية ارسال النخيل .( لقد تم توضيح المبررات التي احتجت بها أناث النخيل بعدم رغبتهن بالحمل )

كان المذياع الصغير يذيع خبر استبدال القائد العسكري للجيوش العاملة على الأرض كلها و في البحار ، والتي كانت قد دخلت القرية بمئات الدبابات،بضابط من لبنان، استطاع بآلاف الحيل التي تعلمها وهو في المدرسة اليسوعية في الجبل ان يسرق عشر نجمات وان يعطي وجهه بشاشة مشكوك فيها ولكنها مخاتلة ليقنع الضابط السابق بترك الموقع ليدخل هو الى القرية بعد ان سمع ان نوعية ألاعناب التي تنتجها والتي تصلح لصنع نبيذ افضل من الذي يتم انتاجه حاليا في قريته التي انقطعت عن العالم بسبب الحرب والتي يتعذر عليها الحصول على الأسمدة النايتروجينية من مصانع الخليج العربي .

فكر أهالي القرية ان الضابط الجديد لابد وان يكون أطول من الضابط السابق الذي ربما يصل طوله الى المترين ، كما انه لابد وأن يكون أكثر امتلاء وان رأسه قد يزن اكثر من خمسين كيلو تماما كالكبش الذي جاء به ( الكلي المعرفة) يوم تم( ختان) ابنه البكر الذي بكى وهو يأكل عصفورا نيئا ،كان العصفور بثلاث أرجل واحدى عينيه مفقوءة وكان يزقزق في فم الأبن البكر وهو يقطعه بأسنان دقيقة مدببة كمسامير اليهود التي ثبتوا بها السيد المسيح .

في المقهى الوحيد الذي ظل فاتحا ، بعد دخول الدبابات والطائرات المروحية السوداء ،كان جهاز التلفاز الملون الكبير الموضوع على منضدة عالية تسمح للجميع بالمشاهدة لاسيما الذين يجلسون في ألأماكن البعيدة ،وهذا الجهاز يظل واحدا من ألآثار التي تشهد ان قريتنا كان لها في يوم ما عزا وربما سيكون بعد عقود من الزمن الدليل التاريخي الذي سيستدل به على ايام المجد التي تمتعت بها قريتنا ، في هذا المقهى ، الذي يفصله عن النهر شارع اسفلتي بأرصفة حجارتها صخرية بيضاء، والذي كان في البداية طريقا ترابيا ضيقا دخلت منه الجيوش الرومانية وهي تهاجم القلعة التي بناها سابور الفارسي كما ان( ابن المعتم ) أطل منه على النهر وهو يقود جيوش المسلمين ليدخل القلعة مساء ولكن ( الكلي المعرفة ) هو الذي جلب الأسفلت من الشمال والحجر الجبلي والحصى من الصحراء التي تقف خلف القرية ، ليجعل منه الشارع الذي يتبادل به العشاق من سكان القرية كلمات الحب وآهات العشق ولتنشأ فيه العديد من العلاقات المحرمة التي لم تكن القرية تعرفها من قبل، وحينما دخل الضابط الأمريكي أخيرا ، صرح انه سيظل يبحث عن الأسلحة المهربة وعن الأولاد السيئين .وهنا ايضا تم تنفيذ الحكم الصادر بموجب قانون( الحملة ألأيمانية) بفتاة شقراء طويلة بعينين كستنائيتين وشعر يتهدل على كتفيها.

عند بدء تحرك المساء ليدخل القرية من الجهة الغربية للنهر وهبوط قرص الشمس تدريجيا خلف الكثبان الرملية كا ن شعرها يتحول الى شلال ناري بالغ الغرابة وبالغ الروعة ايضا وهذا هو ما جعل ألسيد (المحافظ ) يترجل من سيارته ليتعرف عليها ، كانت تجلس وحيدة , تضع قدميها في الماء وعلى الطاولة أمامها كوب قهوة مركزة ، أكدت على النادل في الكازينو المحاذي للنهر ، أن يتأكد من غليها على نحو يعطيها طعما لاذعا , وكان بيدها سيكارة أجنبية كانت تدخنها على نحو يوحي بانها مسرورة بجلستها تلك .

كانت الفتاة موظفة في وزارة الخارجية قدمت الى قريتنا لزيارة اختها الطبيبة في المستشفى الرئيس في القرية ولتعينها في فترة ( النفا س ) بعد ان انجبت طفلا بوجه مكتنز وعينين خضربلون الفستق الايراني .

لاحقها السيد (المحافظ ) وعلى نحو متواصل وبالحاح ، كانت تحركه ثلاثة شياطين ، ولابد من القول هنا ولو من باب الحقيقة العلمية إن الشياطين هذه تختلف كليا عن الشياطين التي يتم وضعها على بعض الصفحات الملونة أو التي تتحرك في أفلام الكارتون المعدة للأطفال ، فهي صغيرة الحجم الى الحد الذي قد نحتاج فيه الى مجهر لرؤيتها كما إنها كانت لاتمتلك قرونا كالتي عند الثيران في حديقة القصر المطل على النهر أو كالقرون التي يمتلكها (الزلنطح) المرمي في الشطآن الطينية عند النهر .

كانت شياطين هادئة الطبع ولكنها بالغة الخبث تتحرك وفق منهج ثابت من دون أن تتأثر باية منطلقات عاطفية أو فكرية مهما كانت موضوعية أو ملائمة لمعطيات الحداثة .

في مكتبه ،حينما صرح لها السيد( ألمحافظ ) برغبته في ان يذهبا معا الى الفندق الذي يقع على الطريق الدولي خارج المدينة ، كانت الشياطين الثلاثة تعمل متزامنة ، كان الأول قد استقر في رأسه وكان الثاني قد فضل ان يعمل في المنطقة الوسطى لأنه كان يرغب أن يتجول بحرية اكبر ، أما الثالث فقد كان الأكثر خبثا وفضل ان يعمل في المنطقة السفلى , بين فخذية , ولابد من الإشارة هنا الى انه من المتعذر تسمية منطقة عمله صراحة لأن مثل هذا التحديد اللفظي قد يتسبب في مشاكل أخلاقية في مجتمع محافظ ومتماسك أخلاقيا .

حينها لم تجد الفتاة بدّا من شتم السيد ( المحافظ ) , قالت كلاما كثيرا ولكنه لم ينفعل أو يبدو عليه الغضب وكأنه اعتاد مثل هذه المواقف، ولكن سحنته اصفرت أولا ثم بدت شديدة الزرقة وقام من مقعده ليصفعها بقوة ويأمر الشرطي الذي على الباب والساعي الذي يخدم في المكتب والسكرتير الذي يجلس في الغرفة ، أن يأخذوها الى غرفة الموقف المؤقت تمهيدا لأرسالها الى دائرة الأمن مصحوبة بكتاب يشهد عليه ثلاثتهم أنها راودت( المحافظ ) ليسهل لها أمر نقلها الى القرية لتكون قريبة من أختها ،, هنا قد يتساء ل البعض ولكن ماذا قالت ؟!

قالت الفتاة : سيدي المحافظ انت رجل عديم المروءة وأنا أعجب إذا ماعلمت ان زوجتك لم تخنك حتى ألآن !!


في هذا المقهى وفي ذات اليوم كان جهاز التلفاز يعرض مشاهد من تسلم الضابط الجديد مهامه كقائد لقوات الأرض والجو والبحار الزرقاء التي تبدو على الخارطة المصبوغة باللون الأصفر ممتدة الى ما لانهاية ، فوجئ رواد المقهى واسقط بيدهم وانتابتهم حيرة مقلقة ، لقد كان الضابط الذي تربى في الجبل والذي درس في المدرسة اليسوعية والذي يحمل الآن عشر نجمات تلتمع ببريق أخاذ ، كان مجرد رجل صغير الحجم دقيق الملامح بعينين حلوتين , حتى ان احدى الفتيات التي كانت ممدة على سريرها تقرأ قصة ( أبو زيد الهلالي عاشقا) أصدرت آهة طويلة شعرت معها ان وجنتيها قد لامسهما هواء حاروهي ترفع نظرها الى جهاز التلفاز .
كان رواد المقهى الذين اسقط بيدهم قد توقفوا عن رمي النرد في محيط طاولة الزهر وحتى ان بعضهم قد كف عن تناول الشاي الذي كان يرشفه ببطئ متلذذا بطعم ( ألهيل ) ورائحته النفاذة .

:- ليس معقولا مانراه

قال رجل أشيب الشعر احدى عينيه فيها حول ظاهر .

: -حين كان( ابو زيد الهلالي) يعبر الصحراء الى تونس كان راكبا حصانا، لصهيلة رهبة ، أما هو فقد كان عظيم البنيان طويل القامة في عينية نار تلتهب باستمرار، شاهرا في يده سيفا يزن ثقل رجلين، ويقال انه كتب بيده (التغريبة) وهي اليد نفسها التي قطع بها الف رأس من أهالي تونس ليحتل أرضهم كما تزوج الف امرأة من نساء قادة البلاد ومثلهن من الفتيات اللواتي خالطت دماؤهن الزنجية الدماء العربية الحارة ، أين هذا من الضابط ألأمريكي الجديد الذي لايختلف عن اي بائع خضار في السوق ،إلا بنجوم عشر .

قال الرجل الذي في احدى عينيه حول ظاهر
: -لقد سألت ابني الذي كان في طريقه ان يصبح ضابطا , ماذا تعني هذه النجوم ؟ قال أن كل اثنتين تعنيان صنفا من الجيوش التي يحكمها ، اثنتان للأرض واثنتان للجو واثنتان للبحار واثنتان لتوزيع الطعام ، لقد رأيتم ما يأكلونه ! كان الطعام دوما حارا وطازجا .

قال رجل يجلس القرفصاء وهو يحدق بصورة الضابط على شاشة التلفاز
: ولكن بقيت اثنتان ؟!

قال الرجل الذي في عينيه حول ظاهر
: حسنا انهما احتياط فقد يتم انشاء صنف جديد .

قال النادل الذي كان جنديا : انها للصواريخ !

قالت المرأة : وألان لن يكون على الفطور بيضا!

قال الرجل : لماذا ؟ هل بدأت دجاجاتك تتعاطى حبوب منع الحمل ؟!

قالت المرأة : ليس الموضوع مزاحا , لقد اكتشفت امس ان الدجاجات الثلاث قد توفين , كنت مضطرة الى سماع ثرثرة جارتنا التي احدى عينيها من زجاج والثانية اجروا لها في المستشفى العملية مرتين ليبدلوا لونها البني المخاتل الى الأزرق اللأزوردي بتدخل أخيها عضو( قيادة الفرقة) والعامل في المستشفى كاتب استعلامات بعد ان كان ممرضا,
كانت الجارة تحكي لي بالتفصيل ما تبثه القناة الفضائية العاملة في دولة خليجية، ولأن ماتبثه تفاصيل عجائبية عما يدور في البيوت بعد مقايضة (الكلي المعرفة ) عمله بالتفرغ لتعداد النمل الأبيض وفرز الذكور عن ألإناث، لقد كانت جارتي فرحة أمس ، لأن القناة الفضائية بثت خبرا عاجلا عن موعد ولادة ابنتها المتزوجة في (العاصمة ) من بائع أدوات احتياطية للسيارات ألأمريكية المتوقع وصولها بعد سنتين ، العجيب ان ابنتها لم يثبت حملها بعد.

تابعت المرأة
:- كنت أود ان اعطيها بعض الطعام فوجدتها ميتة , لم يكن هناك من امر غريب يدعوها لأن تموت على هذا النحو الجماعي غير الحب !

قال الرجل
: الحب ؟!

قالت المرأة : نعم ، لقد هرب الديك ذو العرف الأحمر والذي كانت الدجاجات الثلاث يتمسحن به وهو يختال في القفص ، كن راضيات أن يكون لهن ثلاثتهن وبالطبع هذا ينسجم والتقاليد في القرية ولكن قريتنا لم تشهد طوال تاريخها منذ سابور الفارسي وحتى النساطرة المحترمين ومن ثم تاريخها الحديث ، اية قصة حب مشهورة ، فالناس هنا مشغولون بأمور اخرى اكثر اهمية ، كالتهريب أو مشاركة الصناعيين و التجار في (العاصمة ) دون تقديم اية مساهمة ولو رمزية في رأس المال او أي جهد في عمليات التسويق مثلا.

لقد كان رجال قريتنا على الدوام أناسا عمليين ومسألة الحب لديهم ، والتي هي في جوهرها ليست اكثر من علاقة بين ذكر وانثى ، تظل دائما مسألة عارضة لا تزيد عن خمس دقائق الا اذا كان الموضوع يتعلق بجلسة فوق العادة في أحد بيوت الغجر حيث تمارس محرمات شتى ولهذا السبب فهي تأخذ وقتا اطولا بالضرورة . ثم ان الحب لعبة الكسالى ولكن الحرب هي لعبة الرجال الذين يسهرون حتى الفجر في بيوت الغجر .

لقد هرب الديك , كما يبدو ، لأنه فضل ان يبحث عن طعام افضل في الجانب ألآخر حيث يرمي الجنود ما يزيد عن حاجتهم من الطعام الذي يأتيهم بالطائرات , اما الدجاجات فهو بالتأكيد سيجد بديلا عنهن، ولكن دجاجاتي المسكينات لن يجدن ديكا في الجوار ولهذا فضلن الموت .

في الليل ، وحين يهدأ كل شيء ، يرتفع نقيق الضفادع وصوت الرصاص، وهذان الصوتان المتلازمان يصمتان فقط عندما تكون الشمس قد تجاوزت الهضبة الشرقية .

تبدأ الضفادع اولا بصوت اوبرالي واطي الطبقة والى حد ما ناعم ، ثم تنطلق رصاصة كأنها الأنذار ببدء العمل ، صوت يئز مخلفا شريطا رفيعا واطئا ، يصمت الجميع ، حتى الأطفال يكفون عن البكاء المشاكس ، فيما ترتفع آذان الكلاب بترقب حذر وتتوقف نهائيا عن عادة الشمّ وهي تدور، وتشخص عيون النساء غائمة بغضب مكبوت , شيخ الجامع الوحيد في القرية ، وحده هو الذي يقف في وسط صالة استقبال الضيوف الفارهة في بيته الكبير الذي بناه بمساعدة شخصية بلغت بضعة آلاف من الدنانير من ( الكلي المعرفة ) , بالمناسبة فانه في تلك ألأيام السعيدة لقريتنا فان الدينار الواحد يساوي اكثر من ثلاثة دولارات, وألاصرار هنا على ذكر هذه المعلومة يعود في حقيقة الأمر الى كون الحسابات كلها يجري الان معادلتها بالدولار الأمريكي .

وتساء ل البعض عن السر الذي وراء قيام (الكلي المعرفة ) بدفع كل هذه المبالغ للشيخ علما بانه لم يدخل الجامع الا حينما كان بعد صبيا , حيث كان يتسلق السور الطيني ليلا ليسرق بيض الحمام الذي يحتمي بالسقف العالي للقبة, ولكن الشرطي المتقاعد والذي يواظب على ارتياد المقهى الواقع على ناصية الشارع الذي يمتد على جانبيه سوق القرية ، هذا الشرطي هو الذي همس موشوشا صاحب المقهى ان شيخ الجامع قد سافر الى البصرة ليقنع أحد الوجهاء في المدينة ممن يحتفظون بشجرة عائلية معتمدة من الوالي التركي ومصدقة من أحد المراجع الكباربأنها صحيحة في تسلسلها حتى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم ) عن الطريق الشرعي الوحيد وهو أبنته فاطمة الزهراء (عليها السلام ) , وان النتيجة كانت الشجرة المعلقة بباب الجامع .

شيخ الجامع يترقب بدء عمليات التحرش بالقوات الأمريكية التي لايرغب ان يسميها (علنا ) عمليات المقاومة لئلا يتهم بالأرهاب ، وهو يتلوقصار السور التي يحفظها ويدعوا الله ان يكون عادلا وينفذ وعده للمؤمنين ولكنه يستدرك انه يأمل برحمته قبل كل شيء ، لأنه يعرف جيدا، ان أيا من أبناء القرية لم يكن يوما ما مؤمنا وعلى وجه الخصوص الجنود الذين تم تسريحهم من الجيش بعد الغائه والذين كانوا مصدر ازعاج له ولمرتادي الجامع الوحيد في القرية .

تندفع زخات متقطعة من الرصاص ثم تدوي قذائف متتالية من مدافع صغيرة أو من قذائف مقاومة للدبابات لتتوالى بعد ذلك اصوات مختلفة لسيارات عسكرية ودبابات سريعة في الشوارع التي تم تبليطها بعد اكثر من ثلاثة آلاف سنه من ألأتربة التي كانت تقتحم البيوت عبر الشبابيك الخشبية ذات الشقوق بسبب دودة (ألأرضة ) التي تتكاثر على نحو اقرب للمعجزة فور تمكنها من ان تجد أول سنتمتر لها في الدار .

ماعاد الرجال في القرية يذهبون الى بيوت الغجر لأن الليل ماعاد هو الاخر آمنا ، وينطلق الرصاص على كل شبح يتحرك في الظلام ، كما ان الغجر هجروا مساكنهم بأتجاه الشمال ألأكثر امنا والذي تتوافر فيه ألآن فرص كبيرة للعمل بعد ان بدأت شركات ألاعمار تدفع اجورا عالية وبالدولار ، وبدأت تتكون طبقة جديدة من التجار ورجال الأعمال الذين يتحتم عليهم ان يجدوا بعض الراحة لتجديد نشاطهم ليوم آخر من العمل المرهق .

بألأمس وقبيل سويعات الفجر انطلق رصاص كثيف من جهة القصر الذي يحتل الواجهة الشرقية للنهر ويقع مباشره تحت الهضبة وفي ذات المكان الذي انشئ اولا كشارع ترفيهي للقرية ثم اقتطعه (الكلي المعرفة ) ومنع الذهاب اليه أو المرور فوق الهضبة المشرفة على (بلكوناته ) الواسعة والمحاطة بأسيجية مزخرفة من النحاس ألأصفر المحمر والذي يعكس اشعة الشمس ببريق متوهج، كان شبحا ضخما يسد الشارع يركض خارجا من القصر ، في الصباح وحين بدأ الناس يفتحون ابوابهم بحذر وخوف، وحين أطل ألأطفال المرعوبين بوجوههم الهلعة وعيونهم المفتوحة كأنها تريد ان تستوعب كل شيئ بلمحة واحدة قبل ان تغلق ألأبواب ثانية , شاهدوا جميعا الناقة الصفراء التي كانت فخر الحيوانات التي جاء بها (الكلي المعرفة ) الى القصر ممدة على الأرض وقد اخترقها الرصاص من كل جانب ولكن الغريب الذي لاحظه المتفرجون انها كانت ممددة بأبهة وكأنها اميرة نائمه ، وكانت تضع رأسها على افريز الرصيف الحجري .

كانت الناقة الفاقعة الصفرة هدية من أحد ملوك الجزيرة وقيل انها كانت التوأم ألأصغر لجمل كانت صفرته تتوهج كالذهب الذي جلبته زوجة (الكلي المعرفة) من الهند والذي تزينت به يوم زفاف ابنتها الكبرى التي تصر الآن على ان تتسول مادة يدها(بكاسة) من الذهب ألذي يصدر رنينا يستمر طويلا ما أن يلقي أحدهم بقطعة معدنية فيها ، كانت الناقة تتغذى على الفستق السوداني الذي تبرع الشيخ بشحنة كبيرة منه جاءت على باخرة وقفت في ميناء تركي حيث افرغت حمولتها التي سرعان ما تم نقلها بالشاحنات الى القصر ، وكان الذي تبرع بالشحنة هو نفسه الذي اودع السجن من قبل العسكر في السودان لأنه لم يستلم ثمن شحنة الفستق أو ( وهذا من باب ماقد يجوز ) انه استلم المبلغ ولكنه لم يظهره في الحسابات الرسمية لأنه ببساطة جرى تحويله الى الحساب السري في سويسرا.

وكالعادة ظهر رأيان ألأول وهو الغالب يقول بجواز أكل لحم الناقة فهي ليست (فطيسة ) ويقدم حججا طويلة لتبرير أكل اللحم والثاني يقول بأن أكلها حرام لأنها قتلت ولم يجر ذكر( اسم الجلالة)عند القتل ، وحين احتدم الخلاف وبدا واضحا ان خلافات فقهية ستتحول من النقاش الى استخدام السكاكين ،تقدم القصاب الذي يعمل في السوق والذي يقسم انه لم يشتر يوما اية ذبيحة لأنه يسرق كل ما يبيعه ولهذا فهو يقدم للقرية خدمة كبيرة بتخفيض الأسعار الى النصف مما يباع في القرى المجاورة، قال القصاب بأنه سيحل هذا ألإشكال وذلك لأنه سيأخذ الناقة الى محل الجزارة التابع له ويقوم بسلخها وتقطيها وعرضها للبيع متحملا كامل المسؤولية الشرعية نظير أن يكون السعر أقل من النصف للتخفيف عن كاهل المواطنين في هذه ألأيام البالغة الصعوبة .

حك شيخ الجامع رأسه ليجد ان كان هذا الحل مرض من الناحية الشرعية ورفع عمامته الى اعلى قليلا ثم قال بجواز ذلك شريطة ان (يسمّي) القصاب على الناقة عند التقطيع وان لايزيد السعر عن ربع السعر المماثل للحم الجمال في القرى المجاورة.

قال الرجل : ألا تعتقدين أنه بات من الضروري أن نفكر جديا بألأطفال ؟!

قالت المرأة : في ظل هذه الظروف ؟

قال الرجل : هذه الظروف قد تكون العامل الذي يدفعنا الى حسم التردد !

قالت المرأة : ولكنك تعلم أني راجعت الدكتورة في مستشفى القرية وذهبت الى مقام الولي أبو صالح ولكني لم أحصل على نتيجة !

قال الرجل : سنذهب معا الى ألولي وسنشعل عشر شمعات ونقرأ القرآن قبل الفجر وأعتقد انه لابد وان يساعدنا !

قالت المرأة : ولكن يارجل , يبدو انك نسيت ان مقام الولى قد تمت تسويته بالأرض.
وان ساحة مزروعة بشجيرات الصفصاف ، مكانه ألآن !

قال الرجل : ستظل روحه في المكان , سأذهب غدا الى الضابط الأمريكي لأخذ ألأذن بالخروج عند الفجر .

كان المترجم المرافق للضابط قصير القامة يملك عينين شديدة السواد فيما كان محيطهما أبيضا صاف ، وكان انفه الكبير المنتصب في منتصف الوجه يمثل علامه فارقة شديدة الوضوح وكأنها اعلان (مدفوع ألأجر ) فيما ينحدر من فوق أرنبة ألأنف اخدودان عميقان يكادان يلامسان زاويتي الفم الغليظ الشفاه، كان يحرك كفيه باستمرار وهو ينقل للضابط طلبه ويبدو ان الضابط لم يكن مقتنعا وكان في نظراته مايشي بألإستغراب ولكن المترجم أفاض بالشرح عن العادات والتقاليد وخصوصية الثقافة وأخذ يتكلم بلكنة ( ويلزية ) واضحة واستنتج إن المترجم ربما مايزال طالبا في احدى جامعات ويلز .
وأخيرا وافق الضابط بعد أن دون عنوانه واشترط ان يكون بصحبته زوجته وان ينقل بسيارة الكتيبة الى الساحة التي سحقت حشائشها السيارات المجنزرة والدبابات الثقيلة وتم اقتلاع أشجار الصفصاف ذات الأغصان المورقة والكثيفة بواسطة معدات متخصصة ثقيلة .

قالت المرأة ذات العين الزجاجية وألأخرى الخضراء انها تأمل ان يسمحا لها بمرافقتهم كي تدعو الولي أن يعيد ابنها الذي لاتعرف عنه شيئا بعد مغادرة (الكلي المعرفة ) لقصره واختفاءه وبعد ان عرض التلفاز المحلي دعوته للمقاومة .

لايعرف احد متى جاء الولي الصالح ليسكن بعيدا عن القرية ، في أول ظهوره كان يفترش ألأرض ويلتحف السماء ويأكل من حشائش ألأرض وبعض حيواناتها الصغيرة التي تخرج ليلا متلصلصة فينقض عليها بخفة ملحوظة .

كان نحيفا , فارع الطول ذو لحية صغيرة مدببة ولم يلحظ احد انها نمت اكبر بعد سنة من اول يوم رأوه فيه , كان أسود اللون والقرية لم تشاهد رجلا اسودا في تاريخها ولهذا كان الجميع في منتهى الحذر ولم يحاول أحد ان يختلط به أو أن يسأله عن سبب مجيئه الى القرية ، و كانت التحذيرات للأطفال مشددة بعدم ألأقتراب منه ، لايعرف احد أيضا كم استمر هذا الحال .

عاش في عزلة تامه ، وكانوا يشاهدوه يصلي فجرا بطوله الفارع ترف الجلابيه البيضاء فوق الهضبة كشراع تعبث به رياح رخية ، كان يشرف على القرية ويطيل النظر الى البساتين التي كانت حديثة الأعمار في حينه بعد ان دمر فيضان طاغ كل المزروعات وألأشجار المحاذية للشطآن الرملية , وكأنه شاهد يرقب بحيادية تطور القرية ،و بيقظة حرص على ان لاتفوته شاردة أو واردة.

قال الحارس الليلي ،اقسم ان مايقوله شهده بعينيه وهو يجوس خلال الهضبة اثناء حراسته ، أنه شاهد الكلاب تتسلق الهضبه وتقف على شكل نصف دائرة تتطلع الى الرجل الغريب وهو جالس القرفصاء أمامها وعلى رأسه عمامته البيضاء التي هي اكبر من أية عمامه لأي شيخ عرفه .
كانت الكلاب صامتة وفي غاية الأدب والهدوء وبعد فترة من الزمن تراجعت الى الخلف ووجوهها مرفوعة اليه ثم استدارت لتتفرق . أما زوجة شيخ الجامع وهي بالمناسبة أم لطفلة شقراء بعينين زرق والتي كانت ابنة لأحد النساطرة في القرية ولكن الحاكم التركي أضطره للنزوح عن القرية بسبب دعوته الصريحة الى تحقيق شيء من العدالة للتخفيف عن كاهل الفلاحين عن طريق خفض بعض الضرائب وحتى الغاء بعضها ، أن المرأة شاهدت ، عند أول خيوط الصباح ألأرجواني التي تتدفق الى الهضبة أولا ، كونها مرتفعة وليس لأن الفجر أو الصباح أو أول النهار يعشق أي منهم المناطق المتموجة ، كانت تقصد ان (تتغوط ) مصتصحبة ابريقا من ماء النهر , وبالطبع هذه عادة التزمت بها بعد زواجها من شيخ الجامع وهجرة أبيها ألإجبارية ، تقسم انها شاهدت الرجل الغريب يكلم غرابا حالك السواد كان يقف أمامه بشيء من الخضوع , وحين طار الغراب لوح له الرجل ألأسود .
وبالطبع اقسمت زوجة امام الجامع على ان ماتقوله كان حقيقة ، وكان ذلك بخاتم ألأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام وبالمسيح الحي .
وقالت زوجة المرابي ذو العينين المتلصصتين انها فهمت الآن لماذا تسرق الغربان قطع الصابون!!

كما جاء في تقرير لمخفر الدرك وباللغة العربية ، كتبة أحد أفراد الجندرمة عن حال القرية وألأمن فيها ( لوحظ ان الثعالب قد أوقفت هجومها الليلي المتكرر على اقفاص دجاج القرية منذ ان حل ّ الغريب ألأسود في أعلى الهضبة )).



#ذياب_فهد_الطائي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحلقة الثانية ؟نوافذ دائرة الطباشير
- نوافذ دائرة الطباشير /رواية 1/8
- رواية سيد القوارير للروائي حسن الفرطوسي
- الصورة الشعرية
- الحلقة الرابعة /سمات بنية القصيدة عندالشاعر حبيب البصايغ
- الحلقة الثالثة /سمات بنية القصيدة عند الشاعرحبيب الصايغ
- سمات القصيدة عند الشاعر حبيب الصايغ 1/4
- الحلقة الثانية عشرة/أسئلة الرواية الاماراتية
- الحلقة الحادية عشر /أسئلة الرواية الاماراتية
- الحلقة العاشرة /أسئلة الرواية الاماراتية
- الحلقة التاسعة /أسئلة الرواية الاماراتية
- الحلقة الثامنة /أسئلة الرواية الاماراتية
- الحلقة السابعة /أسئلة الرواية الاماراتية
- الحلقة السادسة /أسئلة الرواية الاماراتية
- الخامسة /أسئلة الرواية الاماراتية
- الحلقة الرابعة /اسئلة الرواية الامارتية
- الحلقة الثالثة ....أسئلة الرواية الاماراتية
- الحلقة الثانية //أسئلة الرواية الاماراتية
- أسئلة الرواية الاماراتية
- دراسة اولية لرواية (كاباريهت ) لحازم كمال الدين


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ذياب فهد الطائي - الحلقة الثالثة - نوافذ دائرة الطباشر