أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله سعيد - سرمدية الأحرف المضاءة على صفحات التاريخ العراقي- قراءة في رواية -وليمة لأعشاب البحر- الجزء الثالث















المزيد.....



سرمدية الأحرف المضاءة على صفحات التاريخ العراقي- قراءة في رواية -وليمة لأعشاب البحر- الجزء الثالث


خيرالله سعيد

الحوار المتمدن-العدد: 381 - 2003 / 1 / 29 - 04:42
المحور: الادب والفن
    



"سرمدية الأحرف المضاءة على صفحات التاريخ العراقي"
      "قراءة في رواية "وليمة لأعشاب البحر"
                 " الجزء الثالث "
                              د. خير الله سعيد / موسكو

وعناصر التشويق في النص الروائي، تلعب اللغة دورا رئيسيا فيها كما أن ـ عالم الرواية ـ هو عالم شامل لكل مناحي الحياة، بسلبيته وإيجابياته، بحيث أن منطق تفكير كل شخصية يختلف ـ بالضرورة عن تفكير الشخصية الآخرى ـ كما أن ثقافة ـ أبطال الروايةـ هي الأخرى تطرح قضية فلسفة الحياة كل حسب وجهة نظره، وعلى ضوء تجربته الخاصة. وبين العام والخاص، هناك روابط ونقاط التقاء، وتواشج وتنافر، لكن الأحداث التاريخية والسياسية، هي التي ترسم مسارات الرواية وفضاءاتها وهذه الرواية خير دليل على ذلك.
* ثمة أمر هام يلتفت إليه الروائي /حيدر حيدر/ هو: ذاكرة مهدي جواد، التعبة دائما، والمليئة بالأحداث السوداء والمآسي المتراكمة، حتى إنه على طول مسار الرواية، لم يتذكر حالة عشق أو حب وما الى ذلك في بلده العراق الأمر الذي يكشف مدى جدية "الإلتزام الحزبي" وعمق المسؤولية في كيان أي مناضل، فحتى الثرثرات في الحديث مع "آسيا الخضر" تقوده بانسياب نحو ساقية السياسة، وحتى اسقاطات الحالة النفسية، إثناء الدرس مع تلميدته كانت تصب بذات الاتجاه "حالة حصار" كتب هذه العبارة على صفحة الكراس المفتوح، وهو منكب علـى المنضدة يستمع للأسئلـة ولا يجيب" (ص75). الكوابيس السوداء والأشباح اللعينة تهاجمه في كل لحظة انفراد مع ذاته، ومع هذه الحالة يرتسم الوطن البعيد كلوحة حمراء "رقصت اللوحة فتغيرت الألوان، صار قوس قزح ما لبث أن انكسر… سمع أصوات طيور تصيح وتئن بينما الرصاص يختطفها، الجوع والمطاردة، والتشرد والفرار من وكر الى آخر تحت رعب الموت، اغتيالات بغداد والموصل والبصرة والحلة، ثم فاجعة الأهوار (ص 75).
* ثم ينفجر خزين الذاكرة بأسئلة أوغاد التحقيق: " اسمك ـ خليتك ـ أماكن الأجتماعات، الأوكار ـ نوع الأسلحة ومصادرها ـ ثم الإستفزاز الأعنف والأكثر رعبا في نفسه /خيانة القيادة/ "قيادتكم خانتكم، إنها في قبضتنا، أتريد الأسماء، استمع: عامر عبد الله، عبد القادر إسماعيل، زكي خيري، العبلي، صلاح أحمد، جميران، صلاح أحمد، عبد الأمير عباس، عزيز سباهي، كلهم اعترفوا، كتبوا براءاتهم، لقد سمعها ورآها الشعب على شاشة التلفزيون وعلى صفحات الجرائد، كالفئران  سقطوا وكشفوا الجهاز كاملا5 (ص75). ثم تبقى ترن في مسامعه شتائم الحقد، وهم يعذبونه، كوشم عالق في الجلد: "إذا لم تعترف على القيادة الجديدة ستعدم ككلب، إبن القحبة، ماكو شيوعية بعد اليوم في العراق، شنهو هاي الشيوعية… إنتم شنو؟ حفنة جواسيس، عملاء لموسكو، سيدتكم باعتكم، مصالحها معنا. انت متعرف أنو السوفيات تجار، قواد، ابن القحبة، شنهو هاي القيادة المؤقتة الجديدة؟ كالأخطبوط، كلما قصصت له ذراعا ظهرت أخرى. هيا أكتب كل ما تعرفه عن حسن العبيدي، إلياس ديمتري، إبراهيم العلاوي الأحمدي، خليل كرم. اعطوه الأوراق. اسمع إذا كذبت تعرف نهاية الصامدين في قصر النهاية6 (ص 76).
ويستفيق… لا. لا. ليس هذا العراق، تلك حالة من الهذيان القديم عن رجال كانوا يغنون ويضحكون… والآن انتهي كل شيء، كما يحدث في مسرحية عابثة"(ص 76).
* عابق هذا النص برائحة الدم والقهر وهلوسات الجنون، ترى من يفهم هذه الحالة؟! انقلاب عام 1963 كان في 8 شباط واسماه العراقيون "شباط الأسود" كان الناس صائمون رمضان" حيث وافق حدوثه في 14 /رمضان/ فأفطر الناس صيامهم، وجافوا أفراح العيد في هذه السنة ، لذلك عالق هذا الحدث في وجدان الناس، وسيبقى محفورا أبد الدهر. ومن هنا تأتي تركيزات /حيدر حيدر/ على قراءة تلافيف عقل بطله "مهدي جواد" لأنه شاهد عصر وشاهد عيان بنفس الوقت، وأحد أبطال المأساة، وحدث الرواية مهذب بعض الشيء، فالفضاضة أقبح في الواقع، والرواة الذين رووا لحيدر حيدر هذه الأحداث رووها بصدق وشمولية وتركيز على النواحي النفسية، ومنهم الشاعر كاظم السماوي، والشاعر مظفر النواب وغيرهم، ممن وردت اسماؤهم في سياق الرواية فلا عجب في نقل مثل هذه الاحداث البشعة والمريعة بهذا الشكل وبتلك التوصيفات، لأن الكاتب متضامن ومتعايش مع أحاسيس أبطاله، بل ويعرفهم بشكل شخصي ـ على ما اعتقد ـ لأن صدق مدلول العبارة يقول ذلك . وهذه الحالات من التجلي في سلوك ـ أبطال الرواية ـ هو إدانة دائمة لتاريخ تلك المرحلة، وبنفس الوقت، هو تسجيل أسطوري لأبطال هذه الملحمة العراقية.
وكتعويض عن هذه المأساة النفسية، وخلق حالة تعادل اجتماعية مع الواقع فإن الروائي يسمح بشطحات أبطاله، لأن تفلت بعض الشيء من حاضنها الاجتماعي وفضائها الروحي، لأن حالة القهر المتراكمة متسرمدة في النفوس، وسلوك ـ مهدي جواد ـ دليل على ذلك، فيما كانت /شطحات فله بوعناب استهزاءا بالواقع، بعد تجربة مريرة عاشتها المناضلة بعيت في سوق النخاسة، وأصبحت "ملاذ الهوى للأغراب من ثوري المشرق ، بعد أن ولغ فيها ثوار المغرب. وما حالة ـ التوازن الإجتماعي ـ الروحي ـ الذي تسير فيه آسيا وأمها لالا فضيلة و مهيار الباهلي، إلا نموذج يشير الى ضبط التوازن العقلي بين أجيال مختلفة، كل يرى الحياة بمنظاره ـ أنظر الصحفات 82 ـ 88.
*   *   *
* جريئة هذه الرواية، جرأتها تنبع من جسامة الحدث الذي أودى بشعبين الى هذا التمزق والتشتت، شعبين باسليـن، لم تخرج منها قيادة حكيمة توازن بحكمة ظروف العصر مع مصالحها، والابطال الفرديون لا موقع لهم بين ذئاب الإنتهازية السياسية، إن كانت في السلطة أو في الأحزاب، وهذه الفئة تعرف كيف تداري مصلحتها ، وهنا تكمن جوهر التساؤلات التي تنتاب ـ مهدي جواد ـ وهو في حالة شرود وحداني في منفاه الجزائري: "كان ساقطا على غير ما تشتهي رياح سفنه ، بين أرخبيل الماضي والزمن الراهن. بين الارض التي تميد تحت قدميه والاراضـي الصلبة المترائية على أبواب البحر. ـ كم كانت الهوة عميقة ، وكم كان الخراب كثيفا" ص88 ـ 89.
وما إن تبدأ أحلام اليقظة تداعب ذاكرته، حتى يأخذه طوفان الأحداث الرهيبة في أرض السواد، اسم على مسمى، فتتلاحق السلسلة بأحداثها المؤلمة (ضاغطة) على ذاكرته التعبة: "في المدن والأرياف والشوارع والساحات والمقاهي والجامعات كانت الحوارات تحتدم… كانوا جميعا يترنحون كسفينة باغتها إعصار، تحت الضربة التي شلت مبادرة الحزب، فراحت تشطره يمينا ويسارا، أفقيا وعموديا… ولكن أين توارت تلك الجحافل التي كانت تفيض كالسيل لحظة كانت صرخة الحزب تعلو في الفضاء!؟ … اللجنة المركزية على ضفة المراوغة وشاطئ النضال السلمي الديمقراطي والبرجوازية الوطنية… كان الزلزال يرج أرض العراق … وفي المعتقلات أمام فوهات البنادق وشفرات الحراب سقط المتخاذلون كالطيور في الأشراك، لقد أعدم سلام عادل وجمـال الحيدري عضوا القيادة الثورية، وفي معسكر الوشاش والرشيد خرق الرصاص أجساد الجنود والضباط، بينما كانت فرق الاغتيال القومي ـ الحرس القومي ـ تقوم بمهام صيدها في شوارع وأحياء بغداد والموصل والحلة والديوانية7.
هذا هو المشهد التراجيدي لكربلاء العراق الثانية والأعنف، إن موجات المغول الغازية لارض العراق في العصر العباسي عام 1258م لم تقم بمثل هذه المجازر البشرية كما قامت به جيوش العفالقة، من هنا تصرخ أحرف الرواية بكل هذا الغيظ لتدين الصمت الاخلاقي والديني والسياسي وبقية الأعراف ولتدخل ساحة التحدث بكل أنواع المباشرة، لتؤرخ ـ بشكلها الأدبي ـ هذه الأحداث، ولتنصف هؤلاء القلة من الثوريين الذين ابوا الانصياع لحكم القتلة، كي يبقى تاريخهم مشرقا على صفحات التاريخ العراقي المعاصر.8
"تحت هذه الغمرة بين لمعان الدم والاستشهاد والبسالة، فر قسم من قيادة اليمين الى موسكو، واحتمى قسم آخر بقواعد الثورة الكردية في السليمانية. ومن مواقع قيادة ـ ملا مصطفى البارزاني، شنت قيادة اليمين هجوما ضاريا ضد من سمتهم بالانشقاقيين من دعاة الخط الصيني والكوبـي المغامر، ودعت كوادر وقواعد  الحزب للالتفاف حول القيادة الشرعية الأمينة لتاريخ نضال الحزب" (ص 90).
* قراءة هادئة لمحتوى هذه الفقرة، نستشف من خلالها أن هذه القيادة اليمينية تهمها مواقعها القيادية لا المأساة الملمة بالشعب، والذين هم سببها، وهي بهذا الخطاب السياسي تريد كسر نفس المقاومة المتبقية في أجساد بعض الخلايا المشتتة وروح القيادات الناهضة، وبالمقابل من هذا التفكير، كانت هناك "مجموعة الكادر اللينيني بقيادة إبراهيم علاوي وجماعة بغداد بقيادة عزيز الحاج، ووحدة اليسار بقيادة أمين خيون، تدعو الى توحيد فصائلها تحت شعار (خوض كفاح مسلح طويل) لكن الصدع كان عميقا والضربة اخترقت القلب، كانت الحالة تشبه استفاقة ما قبل خفقة الموت. فلقد حزمت السلطة أمرها هذه المرة، ولكي تكون جديرة بأخلاق الخلفاء الذين أبادوا الزنج والقرامطة، صممت أن تكون وفية لميراثهم" (ص 90).
ـ هنا تتوضح علائم التخبط السياسي لقيادة ح. ش. ع، وتظهر روح المغامرة الثورية لدى "الكادر المتوسط" الرافض لهذه القيادة، وبالأفق بان خيط الإنقسام في الحزب كالخيط الابيض من الخيط الأسود، فيما راحت السلطات العراقية تستغل هذه الظروف للإجهاز على البقية الباقيـة، وأخذوا يحلون رموز الشيفرة بوضوح ومهارة: "ضرورة التحطيم الذري لهيولي الجنين الماركسي النامي في رحم الأرض العربية الى أبد الآبدين" كما يقول حيدر حيدر (ص90).
*  *  *


 الربيع ـ ظهور نسغ  الحياة الصاعد في الحب.
عنوان الفصل الثالث من الرواية /الربيع/ وهو يوحي بدلالته الطبيعية الى تفتح الحياة  وحيدر حيدر لم تغب عنه إيحائية الفصل الجميل من دورة الحياة، فهو يحدد ميقاته  بشهر مارس، حيث أشعة هذا الشهر التي تكسر حدود المدينة تتدفق كالشلالات ، ضامة تحت أجنحتها وطيوفها العشاق والطيور وحشرات الارض الدابة بين الأعشاب وتلال البراري (ص93) 
ينكسر هذا الوصف الجميل بسؤال يطلقه /مهدي جواد/ على نفسه: "ما الذي أتيت من أجله الى هنا"؟ وحتى يبقي على نشوة التخيـل بذهن القاري للإنسجام مع النص المشرق، يوحي بأن السؤال "كان صدى للهاجـس الداخلي، حينما اختلط عليه الصوت والسؤال تحت هذا الأصيل الشفاف، الجارح للقلب. فرارا ، فرارا نحو أرض لا تقسو، نحو رحم دافئ"(ص94).
وهذا الجواب كصوت داخلي لذاته، يثير أكثر من تأويل وفي مديات مفتوحة، يغازلها البحر للدخول في لجته، والضياع في متاهات الزرقة الآزوردية، بغية ترك مشاكل الارض والتحليق مع الما ورائية، ولو للحظة . "في ذلك الأصيل، وتحت تأثير بخار البحر ولمعان الأشعة فوق الماء و أسراب   النوارس، ثرثر قليلا عن أزمنة مضت، حكايات وتواريخ وهرطقات ابتلعها الوحل ومستنقعات الشرق. الزمن الذي يدور حول نفسه. والحادث الناقص الذي لا يكتمل كقمر أو حكاية شهرزاد" (ص 94).
إيحاءات للخروج من حالة الهاجس الوحشي الذي يسيطر على انسجة الخيال، ويعمي البصيرة عن مواطن الجمال في الوجود، صرخات الأنثى القريبة لرجل موغل في صحارى المنافي، "لماذا تتركني دائما معلقة في فضاء الرموز والهوامش" سؤال الرغبة الداخل في الأعماق، والمهيج لكل سواكن الروح والجسد "وحدهم الذين تغربوا أو نفوا أو اعتقلوا وعذبوا يعرفون صرخة الحنين الى المفتقد، الشيء الذي مضى ولن يعود، شيء لا يسمى ولا يرى تماما، يسمع أو يشم أو يتخيل، مزيج من الأصوات والروائح والأطياف والتكوينات الجديدة المغايرة للمضي يرتسم ويتشكل شفافا. جارحا، ملونا في الفراغ الضاوي" (ص 95).
رغم شفافية هذه اللغة الوصفية العالية وما تفيض به من معان، إلا ان سرمدية الجروح موغلة في النفس ومعشوشبة في ثنايا المخ، وما أن تفلت المخيلة بعض الشيء، نتيجة لحظات الصفاء الروحية، حتى تمسك بها ذاكرة الماضي الاسود، فتتكبل بسلاسل الأحزان عائدة الى حيث البدايات، والممرات الموصدة بوجه رؤيا الانطلاق. "وإذا سألته: أحقا لا تستطيع العودة؟! سمع الريح تبكي في أوراق الشجر والبردي، ورأى الأهوار النائمة في أعماق السماء، وسمع أصوات البجع والبط وهي تذعر في غسق الليل (ص 95).
من أوج الحالة النرجسية الحالمة بمديات للحرية أوسع، يسقط الكاتب حالات الإستيحاش الروحي حيث الماضي يمسك بتلابيب أبطاله ويعود بهم للوراء، "أخيرا قدموا جروه كالكلب وقالوا: "ظفرنا بك  إذن يا ابن الفاسقة، وقال هذا حقيقي، وقالوا له أنك خنزير لا تساوي فلسا وقال هذا صحيح، وقالوا له إنك لن تكون بعد الآن، وقال إني استحق ألا أكون بعد الآن" (ص95).
حالة من تأنيب الضمير وجلد الذات ، تطبق وعي ـ مهدي جواد ـ وراح يعترف أمام جلاديه بلا إنسانيته وهو يتعرض للصدمات الكهربائية القاتلة التي تلسع رأس القضيب والخصيتين متسربة من شريان الإحليل الدقيق حتى بوابة القلب" تماثلات الحالة العراقية مشابهة لحالة مناضلـي الجزائر، فالتعذيب واساليبه يتصدر بالمراسلات وفنون التعذيب تكتسب بالخبرة "راح الجلاد يضربني علـى أعضائي التناسلية بينما سيل من الشتائم البذيئة يسيل من فمه الأدرد، قطرات من سائل حار تنساب بين آليتي: الدم ـ ثم أغمي علي" ـ مرحى، مرحى بشير حاج علي".
شاهد القرن العشرين في عصر بوخروبه وكهوف ابن أبي أصيبعة والسلالة التي ستدخل التاريخ من بوابة الأست الضيقة" (ص96). مرارة الحالة النفسية يفيض بها النص الروائي، ولا يستطيع الكاتب الإفلات منها، فهو يشعر بها أكثر من أبطاله، وحالة الوجع هذه ، وعكسها بهذه الصورة، هو احتجاج صارخ من قبل حيدر حيدر ضد كل ما هو قمعي، وفي اي بلد كان، فليس من المعقول أن يسكت المبدع والأديب والفنان والمفكر على مثل هذه الفعائل بشرفاء الناس، لمجرد أنهم اعتنقوا عقيدة سياسية أخرى، تخالف توجهات الأنظمة العربية المعاصرة.
          ،    ،    ،
في تنويعات الفصول ـ كما ألمحنا ـ أن حيدر حيدر، ضمن عالمه الروائي يعزف على وتر النصف الثاني من الرجل، بغية اكتمال هواجس العوالم الداخلية لأبطاله ، ومن طرف آخر هون يكشف الطاقة المكبوتة عند طرفي المعادلة القائمة بين الرجل والمرأة، يضاف الى ذلك أن رؤية الكاتب الى عوالم أبطاله يجب أن تكون شاملة ، وليس مقتصرة على الجانب السلبي أو الإيجابي وحسب، بل وظيفة الأدب تملي عليه كشف كل جوانب حياة أبطاله، كحد أدنى، فليس من المنطقي أن تغيب الرغبة الجنسية، وشطحات المراهقة، ولغة الجسد الموحية بـ "اللبيدو" الكامن في خلايا الشرايين، على أعتبار أن العامل الفسيولوجي له انعكاساته في سلوك الإنسان اليومي، ثم عناصر التشويق في الرواية، تلعب دورا هاما في شد القارئ الى الأحداث، وإذا كانت الرواية أقرب الى الواقع من الخيال استوجب إدخال هذه العناصر في الحبكة الروائية، فما بالك برواية تتحدث عن وقائع حقيقية وأشخاص احياء لا زالوا، ووحشية وقساوة الأحداث تقتل اللغة الروائية إذا استمرت بنفس المنوال، فيحدث العزوف ويجافي القارئ الروائي، وهذه المعادلة هي أخطر نقطة لربط العلاقة بين الطرفين ـ القارئ والكاتب ـ ومجازفة حيدر حيدر في هذه الرواية ـ ضمن هذه البؤرة ـ كانت خطرة، إلا أنها تكللت بالنجاح، حيث أن أسلوبـه في السرد الروائي كان عاليا، وتوظيفاته لعناصر التشويق تلك كانت في محلها، دون إرباك للبناء الروائي.
ومن هذه الرؤية يدخل لدراسة نفسيات أبطاله الشرقيون، القادمون من الصحراء العربية ذات الشمس الحارقة، والخازنة للطاقة بشكل مخيف، والمحرومة تاريخيا من هذا الاختلاط المفتوح، لذلك نراه يرصد همسات هؤلاء الشخوص.
ـ مهدي جواد، يسجل في يومياته: "في المنفى المرأة وحدها العزاء، مخدر ناعم، يشف كالطيف في أمسيات الحزن وافتقاد البيت، موجة بحر ينغمر فيها وتوغل بين  الطحالب الملساء  والقواقع وفجوات الصخرة بعيدا ـ بعيدا تحت السطوة الجسدية وهذا الدمار الجميل للروح وهي في قبضة الشيطان وقد تقمص جسد إله ارضي أو إمرأة أو بحر أو غابة: آسيا" (ص98).
بينما "فلة بوعناب" تبحث عن شبق الجسد، بعدما طحنتها السنون وذوت نضارتها، وخانتها الرجال، لم يبق من بريقها غير حطام خافت، وهذا الشوق الهاجع في قرارة النفس (ص99) ـ هذه المرأة المجربة ذات التاريخ النضالي الطويل لم تكن خارج ثورات الجسد وفوران الروح عن الشريك أو العشيق. لأن عرق الحياة ما زال نابضا فيها، ورفاق النضال "جعلوها معبرا لشهواتهم ورميت هـي وتاريخها خارج نطاق السرب، وهي بسلوكها هذا تحاول الثأر لنفسها كشاهد على مرحلة، ومن زاوية أخرى، أراد حيدر حيدر، من رسم هذه الشخصية بهذا السلوك ليكشف زيف "النقاء الثوري" وعصمة الأخلاق، وتجاوز المحظور الديني عند فرسان السياسة في العالم العربي قاطبة، ثوري أو رجعي، ديني أو ملحد، ليؤكد حقيقة  إنسانية متشكلة في بنية الانسان ذاته اسمها ـ وظائف الأعضاء ـ ومن ناحية أخرى يشير ـ بسلوك هذه المرأة ـ النموذج  ـ الى اسباب السقوط الأخلاقي، فيدينه في هذا الكشف والذي لا يحتاج الى تأويل.
ـ تقول ـ فلة بوعناب ـ عن نزيلها ـ مهيار الباهلي "  ، وهي تحادث صديقه مهدي جواد: "أنه غارق في لاهوت كتبه هذا المهيار، غريب مختلف عن المشارقة، قل لي هل هو مجنون؟ يا خويا هو إما مجنون أو عبقري".
ـ لماذا؟ وتجيب: "لا أفهم عليه عندما يتحدث، رأسه مليء باختلاطات وسخافات ربي لا يدركها، يخلط الفلسفة بالسياسة بالشعر بالدين بالطبيعة، إنه يحدثني دائما عن شيء يسميه انتربولوجيا العربي، وراسك مهدي ما معنى هذه الأنتربولوجيا اللعينة؟" وعندما يقول لها مهدي "اسأليه، تهز رأسها مجلجلة بضحكة فاسقة: اسمع. مهيار يريد أن ينظمني… يحكي لي دائما عن تنظيم سري يقلب الأوضاع عاليـها سافلها في كل بلاد العرب، ويقول بأنه جاء هنا ليتصل بهؤلاء الثوريين" (ص 99).
هذا المسلك الصوفي والطوباوي بنفس الوقت تعزف أوتاره خارج جوقة اللحن العربي والمنوّطة بريشة أمريكية، فلا الجزائر فلتت ولا العراق! ولا هذا الزاهد نفسه،حيث أن ختام مسار الرواية يوقعه بين حرارة الجسد اللعين وشبق الرغبة والانفلات من صومعة التنسك، والزهد.
وهذه المرأة ـ فلة بوعناب ـ نموذج واقعي ـ رغم إن الاسم مبتدع من قبل الروائي، فهو الحالة الناطقة عن تناقض الواقع العربـي، وزيف الآيديولوجيا المهيمنة عليه، وهي الحقيقة بلا رتوش، "تقول عن نفسها: ـ مـن الوزراء الى ضباط الجيش  الى مديري الشركات الى امناء فروع الحزب عصابة الدولة بكاملها مرت من هنا. قد أكون سكة قطار ومحطة، لكنني أرشيف، تواريخهم كلها عندي. ودقت على صدرها. هنا الثوريون القدامى والماسكون بزمام دولة الأمر والنهي استراحوا في محطة فلة بوعناب حتى الشهداء قبل ان يستشهدوا عبروا تحت السارية، تطهروا في جنة عدن الارضية قبل أن يطيروا الى جنة السماء، المرأة الإفريقية ياخويـا مهدي مصنوع جسدها من حجر النار الشمسي، الحق أقول لك ، طبيعة ظامئة أبدا لا ترتوي من الأمطار على مدار الفصول. المهم ليس هذا. بيتي يوم كنت مهمة كان كبيرا. بيت الدولة كان في شارع العربي بن مهيدي، اكتراه لي وأثثه سرا وزير الداخلية. في الأسبوع كان يمر مرة واحدة، يتعشى أحيانا ويشرب قليلا من الويسكي وينام معي، وأحيانا لا ياكل ولا يشرب ولا ينام في البيت، كان رجلا عصابيا لا يعرف الإبتسام، يعاني حالة كآبة دائمة. فقط كان يبدو منشرحا وهو عارفي السرير كطفل. حتى في تلك اللحظات كنت أخشاه، أخشى الوحش الكامن فيه والجاهز للانقضاض، لكنه كان خائفا. كان يضع مسدسه تحت متناول يده وطلقة في حجرة النار. مم يخاف ما دامت المدينة كلها تحت رقابته، أسرارها وجرائمها ودسائس مسئوليها، ومراكز القوى وما يحاك في لياليها من المؤامرات" (ص101).هذا النص يكشف مدى فضيحة "الأنظمة" الثورية وغيرها، ويدين حالة اللاأمان وخيانة الضمير عند مسئولي الدولة، والشك المتبادل بين قياداتها ومن ثم هو رسالة تحذير خطرة وهامة يومئ بها الروائي الى مهمة الأدب في الكشف التاريخي، دون وجل او خوف، لأن قلم الحقيقة تسنده وقائع التاريخ، ومن هنا نفهم هذه الضجة المفتعلة في أكثر من عاصمة عربية ضد الرواية؟!!
وبغية الكشف الأفظع للواقع المأزوم والتناقض الآيديولوجي في رؤية القيادات العربية، يستمر الكاتب في محاورات أبطاله، فاسحا المجال لهم لقول كل شيء فليس هناك أكثر من هذا الطوفان الذي يجرف الكل. "في حمى هذه الصراعات المجنونة كنت أتساءل: أنت يافلة بوعناب، أيتها البقة الصغيرة ماذا تستطيعين أن تفعلي في هرجة هذا الكرنفال؟!
الثورة الوطنية انتهت، والرجال صاروا في موقع السلطة والمسؤولية، وها نحن اللواتي قاتلن في الجبال والمدن نتحول الى الحدمات المنزلية. جميله بوحيرد تزوجت من محاميها وهاجرت معه. جميلة بوعزة دخلت في النسيان، أنا مع آلاف النساء صرن الى ما يشبه المومسات أو الزوجات الصامتات المطيعات للرجال. انتهى دورنا الاستثنائي فاستدرنا الى وظيفتنا الأساسية" وتضيف وهي توجه كلامها الى "مهدي جواد ـ : "كلانا شجرة مجتثة من جذورها ومرمية على سطح الارض، نحن مهزومان في موقع واحد جغرافيته متباعدة" (ص102). قراءة حيدر حيدر لوقائـع الأحداث التي مر بها ابطاله، قراءة عميقة ومخيفة، تتجلى هذه القراءة في ثرثرات أبطاله ، عندما يمروا بلحظتين، الأولى: حالة الانفراد الشخصي، كل مع ذاته، والثانية في اللحظات التي يكونوا فيها قد انتشوا قليلا من الخمرة، وفي لحظة ود صافية، كل منهم يسمـع الآخر. حيث أن الصدق في نفوس هؤلاء، واندفاعهم المطلق لقضيتهم، هو العامل الموحد للتلاقي وكشف الهموم، بعد أن استووا بنيران تجارب منهارة، تطبق على كامل الكيانات، تأخذ الأحاديث بينهم شكل مكاشفة صريحة، لا يثنيها اي رادع، حيث أن عامل المقارنة بين ضياع الثورة وبين ضياعهم المطلق وانكسار أحلامهم، يجعلهم يكشفون مرارة المعاناة بتحمل المسؤولية وضياع الأهداف. وكإسقاطات شرقية في الرؤية لموضوعة "الجنس" يستغل حيدر حيدر هذه النقطة، ويدخل منها بجرأة غير عادية، لمحاكات موضوعات سر المرآة في التكوين وضديتها المرغوبة، باعتبارها أحد العوامل الباعثة لضعف الرجال الأشداء وكوامن نفسوهم النازعة نحو الرذيلة لحظة تمثيل هذا الجسد الإنثوي في المخيلة والرؤيا، وعندما يخفق فؤاد هذا الذئب الشرقي لقلب تلك الشاة (المرآة) فإن اسوار الحقد والحيازة تتشيد بحجارة غرانيتية داخل الروح، وترسم حدودا خطرة تمنع الاقتراب أو الدنو منها، إذا ما كان هذا الذئب فـي موقع سلطوي فإن شرارة "حرب داحس والغبراء" قيد الاشتعال، ـ تسترسل ـ فلة بوعناب ـ بثرثراتها اللعينة والتي لا تعرف حدود الانضباط: "في ذلك الزمن كان لي عشيق، في الثامنة والعشرين من عمره، نقيب في سلاح المظليين، فتي، صلب، معتد، كان يأتيني أواخر الليل بعد أن بدأت زيارات الوزير تقل وتتباعد. إسمه، صقر العمراوي، قبائلي من بجايه، متعصب لآيت أحمد والبربر، لم يكن يهمني ذلك. إنني أتذكر الآن عينيه الزرقاوين، وصدره وصلابة ذراعيه وهو يضمني. هذا ما كان مهما في ذلك الزمن… فيما بعد قتلوه غيلة وهو خارج من البيت، افتقدته وقتا ثم نسيته، ضاع في هرجة الموت السائد… كان مستحيلا إيقاف هذا الشلال المتدفق كالنيغارا: صقر العمراوي قاتل مع عميروش في الجبال ولم يمت هناك، ليس الوزير من اغتله، الرجال السريون نفذوا المهمة. قتلوه في الشارع الرئيسي… أوه ـ العفو… نسيت أن أقول لك أن ذلك المغفل كان يرغب الزواج مني وكنت أقول له: أنا لا أصلح لك ياسي العمراوي، امرأة مثلي مجوفة كالفزاعة، ما عادت تعرف الوفاء ولا الحب الزوجي، سنوات الوحل غمرت قلبي بالطين. يا سي عمراوي غير مسموح لي أن اتزوج وأرتاح، نحن تحت المراقبة. وعليك أن تنتبه لنفسك، لكنه باعتداد وثقة كان يتحدث عن نفسه ويلمح الى رقاب الذيبان التي لابد من قطعها يوما. كنت أفهم ما يعني، وأدري ما يجري في الظلام وتحت الارض وكنت خائفة عليه، لأني أعرف أساليبهم. من النافذة كنت ألمح كلابهم المرابطة في المنعطفات والتي تراقب الداخل الى المنزل والخارج منه" (ص103).
صاعق هذا النص بإدانته لوحشية النفس القذرة، وبكشفه للقيادات الثورية التي تستلم السلطة، ويكشف أيضا عن مدى الإيغال السادي في رؤية أصحاب النياشين  واسيادهم، فحتى الحب والزواج في عرف هؤلاء السادة محرم تارخيا9.
* كنت وادا لون ان الروائي حيدر حيدر، أنهى حياة بطلته "فلة بوعناب" بعد هذا الحادث المرير كي يكمل "سيناريو تكميم الأفواه العربي" لأن هذه الحالة المقززة لا تقبلها شرائع ولا أديان. لكنه ابقاها معلقة بين الحياة والموت كشاهد إدانة تاريخي يفقأ بها الأبصار التي تحاول "لغمطة" تاريخ الشعوب.
*  *  *
فصل الربيع لم تزهر اوراقه، وحالات الكآبة والسوداوية تلف أبطال الرواية، الباهلي ما زال موهوما بالثورة العالمية ويحلم بثوار خمسة من فصيلة ابي ذر الغفاري وعلي بن محمد وحمدان قرمط ليلهب هذه الدنيا العربية بالحرائق" واعترافات /فلة بوعناب/ توضح أن "ثورة المليون شهيد أغتالها العسكر والتجار في النهاية" ومهدي جواد، يحتضنه اليأس بدلا من أحضان اسيا الخضر، ويحاول الإنتحار، وتحت تلك الأراجيف الثورية الجوفاء يبرز السؤال: "نحن لسنا شيئا في هذا الوقت اللعين… لماذا لا نكف عن هذه الحماقات"؟ وبعد أن سجى الليل تحت سحر بونـة المطوق لشغاف القلب، أقبل من المدى الشرقي موج يحمل رائحة عبقة للوطن. على ذرى الموج لمعت أعشاب القلب التي ماتت" (ص 127).
*  *  *
* تقاطعات الفصول في الرواية ـ كما أشرنا ـ وظفت لخدمة عالم الرواية وهدف الكاتب، ولكي يستمر الإيقاع السردي للرواية في تنقلاته ولوحاته بين حالة وأخرى، بين الجزائر والعراق ـ كحواضن جغرافية لمسرح الأحداث، يبقى هذا السرد محافظا على توتر الحالة لقبول الأحداث ـ عند المتلقي ـ وتشكيلاتها عند ـ المؤلف ـ كتكنيك روائي محكم الحلقات. لذلك يأتي فصل ـ الأهوار ـ تاكيدا لذلك.
*هذا الفصل، ذو الخصوصية العراقية الواضحة، كشف عن حركة "حرب العصابات" في أهوار جنوب العراق، لفئة ثورية انشقت عن ح. ش. ع، راسمة رؤيتها الخاصة في المنظور السياسي لتفاعلات الواقع العراقي. أبطال هذه الحركة، ناس حقيقيون، يعرفهم المجتمع العراقي واحد واحدا، وهذا يعني أن صدق توصيفات الكاتب حيدر حيدر مبنية على الواقع لا الخيال، وشهود الأحداث ورواته مازالوا على قيد الحياة. لذلك يعرض لهذه الشخصيات على النحو التالي.
1    ـ خالد أحمد زكي ـ والذي سيحمل اسم "ظافر" فيما بعد ـ كان طالبا نشطا في صفوف الحركة الطلابية العالمية وأحد قادتها في المملكة المتحدة، يقول عنه حيدر حيدر: "مذ دخل العراق سرا قادما من لندن، حيث كان عضوا في مؤسسة برتراند راسل للدفاع عن المعتقلين في العراق، توجست القيادة اليمينية من هذا الغيفاري المتهور الملتاث بأفكار اليسار الأوربي الجديد، ومغامرات التوباماروس وحروب عصابات أمريكا اللاتينية رجل رقيق، عذب نحيل الجسم، وأنت تراه لأول وهلة يتماثل لك في الذهن أميرا رومانسيا من أمراء ويلز أو إسبانيا القديمة، وإذا يضحك ترى خجله الإنثوي يصعد كالورد الى وجنتيه البيضاوين. هذا الطفل الرقيق العاشق، 
ـ ما الذي أتى به من شوارع لندن وضبابها في هذا الوقت الغريب! يسأل مهيار نفسه" (ص 133).
مضامين هذا التساؤل ـ تعني بالوعي العراقي أن هذا الإنسان ما زال "طفلا" لم تعلمه التجارب بعد، وهو يقدم على عمل مسلح باندفاع ليس عاديا، وتجربة جديدة من "حرب العصابات" لم تحدث سابقة عليها في كل تجارب العالم الثورية، حيث الأهوار، عالم غريب، وتركة سومرية، لم تكتشف حدودها كاملة، وهذا الفتى الغض يقدم عليها كالعاشق المجنون، "في اعماق الفرات الاوسط، وهما يعبران المستنقعات والوحل والتعب وإيقاعات الرعب، سيدرك مهيار الباهلي ما الذي حدا بهذا الفتى الرقيق الرومانسي للقدوم الى ممكلة الموت الوحيدة هنا" (ص133).
ـ خالد هذا نموذج لحالات مماثلة في العراق كانت تعشق النضال الثوري وتنادي به، وتطرحه بجرأة على القيادة للحزب، لكن هذه القيادة، كانت توصفهم بنعوت محبطة للعزائم مثل "اليسار المتطفل، مراهقين سياسيين ـ وعي غير ناضج ـ طروحات ماوية، رؤية ضبابية" متناسية هذه القيادة روح الشباب والطاقات الكامنة فيها، وبنفس الوقت تخشى من صعود الشباب الى المواقع القيادية، وهذه القيادات الشائخة لا زالت كما هي وبنفس المواقع، ولم تغادر أماكنها إلا بسطوة عزرائيل، ومـن هنا يفهم أحد الأسباب الرئيسية للكوادر الوسطى في الحزب ش. ع. لأن تنجرف مـع خط الكفاح المسلح، ومن هنا ايضا نفهم اندفاعة خالد، والجيل الذي يمثله، "بوعي رجل ثوري عاش التجربة الهزيلة للخط السلمي الديمقراطي التي أودت بالحزب الى الكارثة" (ص134). وعلى أساس من المعارف النظرية والتجارب النضالية لحركات التحرر العالمية، وضمن خصوصيـة الواقع العراقي قدم خالد "وثيقة نظرية تؤكد على ضرورة استبدال التهريج السياسي بالكفاح المسلح والانطلاق من الأهوار، كما دعا القيادة السياسية لأن تكون طليعة هذا الكفاح. ثم يحدد في الوثيقة كيفية العمل والاعتماد على الريف دون إهمال المدن، مشيرا الى ضرورة وحدة الفصائل التقدمية الأخرى في العمل المسلح، والانتباه الى الثورة الكردية في الشمال ولاستناد إليها كجدار" (ص134).
طروحات عملية كهذه تهز أركان القيادة ، وترتجف عند سماعها في المقابل أنها تلهب حماس المناضلين الأشداء ذوي القناعة المطلقة بقضية الشعب المقدسة.
لذلك سعت قيادة الحزب ش. ع الى فرملة هذه الطروحات، والتشكيك بمصداقيتها لا سيما وإنها "يومذاك ارتفعت أصوات قيادة اليمين تروي بتعقل براغماتي أهمية التحالف مع الديمقراطية الثورية التي استولت على السلطة بانقلاب عسكري جديد، لقد قادها تحليلها العبقري المطعم والمشمول بالهداية الأبوية الخروتشوفية الى المطالبة بحل الحزب والإنخراط في حزب السلطة لتخريبه وتثويره من الداخل بخميرة البراليتاريا الماركسية10 (ص134).
هذا النص حقيقي وسياسي ـ حزبي، يشير الى عام 1965م وما بعده، وقد عرف في الوسط السياسي العراقي "بخط آب" وقتها كان يحكم العراق (عبد السلام محمد عارف) والذي أزاح البعثيين عن الحكم، وبدأت السيطرة للقوميين العرب، والغزل المصري العراقي آخذا بالتنامي والتفتح والتقارب اللصيق بين البلدين، ومعاداة القوميين للماركسيين صارت ملموسة في الشارع العراقي. لذلك جاءت صرخات ـ خالد زكي في اجتماع لجنة منطقية بغداد ـ صارخة وغاضبة ضد هذا الطرح اليميني الذي يدعو الى "الانخراط في حزب السلطة" وبالعبارة التاليـة: "اوه ـ اوه ـ يا للعبقرية الخارقة! واضاف: إنهم يأخذوننا الى مقصلة جديدة هؤلاء المناشفة" مشيرا بتحليلاته الى التجربة الفاشلة مع "الزعيم عبد الكريم قاسم" وكيف راهن عليه الحزب وفشل الرهان، ومن ثم جرد الحزب ومقاومته الشعبية من السلاح وبدأت المجزرة والحزب أعزل فذبحنا" (ص135).
حماسة الشباب في هذا الثوري جعلت من قيادة بغداد أن ترهب جانبه لا سيما وان طروحاته النظرية تستجيب للواقع، وعلى ضوء ذلك اكتشفه مهيار الباهلي، "اكتشف الوجه الآخر للطفل الهادئ، ويومها سال نفسه، كيف يحمل الإنسان في داخله قلب طفل وصرخة نمر! لا بد أنه كان مجنونا أو مصقولا بحلم شمسي، وعلى مؤشر هذه لبوصلة كان يتقدم في حقل ألغام، على كتفه بندقية وفوق جسده كفن ابيض (ص135).
*عندما يتعشق الإنسان قضيته فإنه يصبح جزءا منها، وتبدأ كل أحاسيسه الجسدية والفكرية تتفاعل معها، لأنه يدرك أن مصيره مرهون بها، فنجاحه من نجاحها وأي انتكاس فيها سيكون نكوصا عليه، هذه الحقيقة يكشفها نص حيدر حيدر وهو يتحدث عن هذه الشخصية الحقيقية، بل ونلمح تعاطفـه معها لأنه يدرك بحاسة الفنان اهمية مثل هذه الشخصيات في الواقع الاجتماعي والسياسي، كي تبقى حالة الذهن في الوسط الذي يعيشه، متوقدة دائما، لذلك نراه ملما بكثير من جوانب حياة "خالد زكي" ولا غرو في ذلك، ما دام معاصروه ورفاقه هم نقلة الرواية عنه، ليس العراقيون وحدهم بل وحتى الأجانب "قال عنه أحد أصدقائه الإنكليز بعد أن سمع بغيابه الطويل ـ عن لندن ـ كان خالد مزيجا من غيفارا ودانتون، ما كان مجرد إنسان ثوري: نادر وعظيم، لكنه كان حميما وقريبا من كل إنسان يعرفه، كان واضحا وهو في لندن، أنه يعد نفسه للقيام بأعمال عظيمة، لا كفرد إنما كأنسان جماهيري يحب شعبه حتى الاستشهاد" (ص 135).
هذه النعوت والصفات الثورية لم يتصف بها أي من قادة الحزب /في تلك المرحلة/ يضاف الى ذلك أن هذه العقلية الشابة لخالد زكي كانت متقدة ذكاء في الأمور النظرية، فهو إضافة لطرحه وثيقة "الكفاح المسلح" للقيادة، بدأ مع تيار الكادر اللينيني حربا فكرية لا هوادة فيها ضد العقل اليميني" (ص135).
كان هذا الفتى الحالم "يرى النجوم لامعة في ذلك الزمن، كما كان يسمع اصطخاب الموج وهو يسير مع مهيار الباهلي في أزقة بغداد المعتمة، ومن قلب الأهوار كان يتراءى الشعاع الوحيد والأخير الذي ينير هذه الظلمة"(ص136).

 



#خيرالله_سعيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سرمدية الحروف المضيئة على صفحات التاريخ العراقي قراءة في روا ...
- سرمدية الأحرف المضاءة على صفحات التاريخ العراقي : -قراءة في ...
- العراق في منظور السياسة الروسية ،في الأزمة الحالية


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله سعيد - سرمدية الأحرف المضاءة على صفحات التاريخ العراقي- قراءة في رواية -وليمة لأعشاب البحر- الجزء الثالث