أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فيصل القاسم - لماذا كلما ارتقى الغرب علمياً انحدر إنسانياً؟















المزيد.....

لماذا كلما ارتقى الغرب علمياً انحدر إنسانياً؟


فيصل القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 1390 - 2005 / 12 / 5 - 11:31
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لماذا لم يستطع الغرب مواءمة التفوق التقني العظيم مع الارتقاء الأخلاقي؟ لماذا وصل أعلى مراحل التقدم التكنولوجي والصناعي والعلمي ثم انحط قيمياً وإنسانياً وحضارياً؟ ألم تتوج القوى العظمى تقدمها التكنولوجي والعلمي والصناعي والاقتصادي الهائل بأفعال منحطة وساقطة لا تمت للإنسانية بصلة، كأن تضطهد مثلاً الأمم الضعيفة أو تستقوي بإنجازاتها الصناعية والعسكرية الرهيبة على غيرها بالغزو والاحتلال والاستعمار والإرهاب والتدمير والتخريب والاستغلال والنهب والسلب؟ بعبارة أخرى كلما ارتقت تلك القوى عسكرياً واقتصادياً وعلمياً انحطت أو هبطت أخلاقياً إلى الدرك الأسفل وغدت مجرد هياكل حديثة متطورة من الخارج ومتوحشة ومتغولة من الداخل.

ولو نظرنا حولنا لوجدنا كم البون شاسع بين التقدم الذي وصلت إليه أمريكا وأوروبا مثلاً وبين أخلاقياتهما السياسية والإنسانية المنحدرة باستمرار. إن الإنسان السوي الذي يمتلك الأساسيات الإنسانية الأولية ويتمتع بحس أخلاقي سليم لا يستطيع أن يهضم ذلك التناقض العجيب بين وصول تلك القوى إلى قمة التفوق الصناعي والتجاري والعلمي وبين تصرفاتها تجاه الدول والشعوب الأخرى بمنطق قطاع الطرق واللصوص والبلطجية والقراصنة والمستأسدين والحيوانات الضارية. أوليس غزو البلدان الضعيفة وترويع أهلها وإبادة مئات الألوف منهم ونهب خيراتهم وثرواتهم وتدمير ممتلكاتهم وإحراق الأخضر واليابس في ديارهم وتجريب أعتى أنواع الأسلحة الفتاكة وأحدثها فوق رؤوس الأطفال والشيوخ والنساء، أليس هذا قمة السقوط الإنساني والانحطاط الأخلاقي؟

كيف يروجون للحقوق الإنسانية في أدبياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية ثم يدوسون أبسط تلك الحقوق لدى الشعوب في الداخل والخارج ويحصدون بأسلحتهم الجهنمية الأجساد البشرية كما لو كانت أسراباً من الجراد والخفافيش؟ فمن جهة يزعمون أن الإنسان هو أعلى قيمة في الحياة ومن جهة أخرى يتعاملون مع ملايين الناس في أصقاع المعمورة بالتهديد والإرهاب والترويع والتجويع والاحتقار والقتل والتنكيل. آه كم أنت حقيرة وسافلة أيتها «الحضارة الحديثة» المزعومة! فما فيك حديث إلا اختراعاتك الصناعية والتكنولوجية الرهيبة، أما أخلاقك فهي أخلاق الوحوش الكاسرة والإنسان البدائي والعصور الحجرية والظلامية وشريعتك شريعة الغاب والأحراش وتصرفاتك تصرفات المخلوقات المجردة من ضمائرها وقيمها وإنسانيتها وأحاسيسها وأقانيمها.

ولا داعي هنا للتأكيد على الفرق الهائل بين الحداثة التقنية والحضارة، فالأولى قد تعني تحديث الإنسان لنفسه حياتياً ومعيشياً وتسخير الطبيعة والعلم لخدمة احتياجاته البشرية، أما الثانية فتعني أن تتناسب حداثته طرداً مع سموه الأخلاقي والإنساني وألا تكون الأولى مجرد تقدم تقني منزوع الأخلاق والقيم والأحاسيس كما هو الحال بالنسبة لما يسمى بالعالم المتقدم. ولا أدري لماذا لم يستطع الإنسان الصناعي والتكنولوجي الذي حقق معجزات علمية هائلة أن يطور نوازعه الأخلاقية والقيمية والإنسانية كما طور علومه ووصل بها إلى قمم شاهقة! أليس من الممكن أن يكون الرقي التكنولوجي مصحوباً برفعة إنسانية عظيمة؟ أم أن المشكلة ليست مشكلة العلماء والشعوب الغربية الطيبة عموماً بل مشكلة أنظمة سياسية متوحشة سخرت الإنجازات العلمية العظيمة لأغراض دنيئة؟

كم كان الشاعر العربي مصيباً عندما قال: «وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا». كيف نحترم الامبراطوريات التي أرست مصانعها عماد الصناعات الثقيلة الحديثة إذا كان أحد شعرائها «الكبار» يتفاخر بأن كلبه أشرف وأعز عليه من الأفارقة الذين يخدمون في مزرعته؟ لماذا ارتقى هؤلاء تكنولوجياً وانحطوا إنسانياًً؟ ما هذا التطور العجيب؟ ما الفائدة أن أصنع أرقى السيارات والطائرات ووسائل الترفيه والعمارات والأبنية والذرة، ثم أتعامل مع أخوتي في الإنسانية أو نظرائي في الخلق كما وصفهم سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بلا أخلاق وبسفالة عز نظيرها أو بحيوانية تترفع عنها الحيوانات ذاتها؟ وكم كان أحد الفلاسفة على حق عندما قال إن الحيوان المتوحش يقتل حيواناً آخر كي يأكله، أما الإنسان «الحديث» فيقتل الحيوانات كي يصنع من قرونها وأعضائها الأخرى أدوات للقتل؟ وهكذا أمر سادة الحضارة الحديثة بين قوسين، فهم يبدعون ويتفوقون في صناعاتهم واختراعاتهم لكن ليس دائماً من أجل رفاهية الإنسان بل من أجل افتراسه وسحقه. ليس صحيحاً أن سادة الثورة التكنولوجية أبدعوا إنجازات علمية عظيمة لكن البعض أساء استخدامها. أوليس الذين صنعوا أرقى وسائل الرفاهية وحموا الإنسان من ألوف الأمراض هم أنفسهم الذين صنعوا أعتى وسائل القتل والدمار والإبادة؟

ما الفائدة أن يخترع أولئك الحداثيون أمصالاً ومضادات طبية لمكافحة الأمراض ويكتشفوا الخريطة الجينية للإنسان بينما يقومون في الآن ذاته بتصنيع مئات القنابل النووية والفيروسات القاتلة التي تستطيع إبادة الكون مئات المرات؟ كيف تستوى صناعة أدوية عظيمة لمعالجة الأمراض المستعصية كمرض «الأيدز» مثلاً مع احتكار تلك الأدوية وعدم عرضها في الأسواق إلا بعد أن يكون المرض قد حصد أرواح الملايين وفتك بالمجتمعات الفقيرة؟ كيف تتفاخر الدول الصناعية الكبرى برمي ملايين الأطنان من القمح والحبوب الأخرى في قيعان البحار والمحيطات للحفاظ على أسعارها بينما يتضور الملايين جوعاً في أصقاع هذه المعمورة؟ كيف تتفاخر الدول الغربية بتخزين جبال من الزبدة والطحين والمواد الغذائية المختلفة بينما لا يجد الملايين ما يسد رمقهم في القارات الفقيرة؟ ما قيمة هذا التقدم الهائل في انتاج الغذاء والدواء إذا كان سيُحرم الملايين منهما؟ كيف يمكن أن نحترم سادة التقدم إذا كان أحد سدنتهم الكبار يدعو إلى القضاء على أكبر عدد من السكان في بعض الدول الأفريقية وتحديد نسلهم إلى الحد الأدنى كي تتمكن الشركات الكبرى من استغلال المعادن النفيسة في باطن الأرض التي يعيشون فوقها؟ ما الفائدة أن أحول تلك المعادن المستخرجة من باطن الأراضي الأفريقية إلى آلات عظيمة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً بينما في الوقت نفسه أقضي على ملايين الأرواح البريئة؟ أي تقدم هذا؟ أليس هو الانحطاط بعينه؟ أليست الاختراعات الخيرة بحاجة لقلوب وعقول خيرة وإلا أصبحت وبالاً على البشرية؟

كم أعرف أناساً لم يعودوا ينظرون إلى القادة الغربيين كممثلين للدول الراقية والمتقدمة بل كوحوش مفترسة. هل أخطأ رسامو الكاريكاتير عندما رسموا بعض زعماء «العالم المتقدم» على شكل مصاصي الدماء أو التنانين التي لا تـُخرج من أفواهها سوى النار والدمار؟ ما الفائدة أن يرتدي الزعيم الغربي أروع وأجمل ما أنتجته يد الإنسان من ملابس وحلي وساعات بينما يسكن في داخله وداخل أعوانه من أصحاب الشركات وتجار الحروب وحوش تتلذذ بقتل الشعوب وسحق عظامها؟ كم هو منظر صارخ ومتناقض ذلك الذي يظهر فيه الإنسان المتقدم بأرقى صورة وصلت إليها البشرية من حيث المظهر بينما هو لا يختلف عن إنسان الكهوف والمغائر في داخله! ما الفائدة أن يكون الإنسان الذي أنتجته الحداثة الغربية «متحضراً وراقياً» في كلامه وشكله وتعامله بينما هو مستعد أن يتحول إلى قاتل همجي عندما ترسله دولته في حملة استعمارية «تحضيرية» إلى بلد آخر؟ ألم نر ما فعل الجنود الأمريكيون والبريطانيون بالشعب العراقي في سجن أبي غريب وغيره؟

كم ضحكت ذات مرة عندما كان صحفي غربي يجري معي لقاء أثناء الغزو الأمريكي للعراق فأسقط صحن السجائر من على الطاولة إلى الأرض فتكسر فراح يردد بشكل هستيري عبارة (أنا آسف أنا آسف) كما لو أنه تسبب في حدث جلل. من الجميل طبعاً أن يعبر الصحفي الغربي عن أسفه بطريقة متحضرة لولا أن أسياده وأبناء جلدته وربما أحد أقربائه كان في تلك اللحظات يلقي أطناناً من القنابل والصواريخ فوق رؤوس الأبرياء في بغداد وغيرها.

إن الأسماء الجميلة التي أطلقها الأمريكيون على أعاصيرهم المدمرة ربما تفضح ذلك التناقض الخطير بين ظاهر «الحضارة» الغربية وباطنها. ألم يسموها «كاترينا» و«أوفيليا» و«ريتا»؟ أليست تلك أسماء أنثوية جميلة تظن وأنت تسمعها أنها لِـحِسانٍ فاتنات بينما هي في الواقع أسماء لأعاصير لا تبقي ولا تذر. لاحظوا التناقض بين اسم الإعصار وأفعاله! كم كان الأديب الروسي الشهير تولستوي على حق عندما قال ساخراً: «إن الذين يتظاهرون بأنهم أكثر الناس تحضراً ورقياً وتقدماً وهنداماً وشكلاً هم في واقع الأمر أبشع وأ كثر الناس وحشية وتدميراً وسفكاً للدماء في التاريخ».



#فيصل_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تعددت الأكاذيب والاستعمار واحد
- -الدمقراطية- العراقية:ضجيج ليبرالي وحُكم كهنوتي!
- مجلس الطُغيان الدولي
- متى يُحسن السوريون التعامل مع الإعلام؟
- محاكمة صدام على جريمة من وزن الريشة
- متى يقلد الحاكم العربي ذكر النحل؟
- أمريكا والشارع العربي: متى تأثر الرعيان بثغاء القطعان؟
- إلى الأمريكيين: إذا أردتم تحسين صورتكم لدينا فلا تصغوا لأزلا ...
- هل يحق للسعودية أن تتباكى على العراق؟
- كاترينا... من صنع أيدينا!
- ديكتاتورية الخبز
- لماذا البكاء على عراق مُقسم منذ خمسة عشر عاماً؟
- سامحكم الله يا آباءنا الطيبين!
- ليس دفاعاً عن الانفصاليين...ولكن
- لماذا أصبحت العروبة شتيمة؟
- عندما ينقلب العُربان رأساً على عقب
- الغوبلزية الجديدة
- اللعبة الإعلامية من فيتنام إلى العراق
- لماذا أصبحت القاعدة اتهام -القاعدة-؟
- يا زمان الوصل!


المزيد.....




- مؤلف -آيات شيطانية- يروي ما رآه لحظة طعنه وما دار بذهنه وسط ...
- مصر.. سجال علاء مبارك ومصطفى بكري حول الاستيلاء على 75 طن ذه ...
- ابنة صدام حسين تنشر فيديو من زيارة لوالدها بذكرى -انتصار- ال ...
- -وول ستريت جورنال-: الأمريكيون يرمون نحو 68 مليون دولار في ا ...
- الثلوج تتساقط على مرتفعات صربيا والبوسنة
- محكمة تونسية تصدر حكمها على صحفي بارز (صورة)
- -بوليتيكو-: كبار ضباط الجيش الأوكراني يعتقدون أن الجبهة قد ت ...
- متطور وخفيف الوزن.. هواوي تكشف عن أحد أفضل الحواسب (فيديو)
- رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية -لا يعرف- من يقصف محطة زا ...
- أردوغان يحاول استعادة صورة المدافع عن الفلسطينيين


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فيصل القاسم - لماذا كلما ارتقى الغرب علمياً انحدر إنسانياً؟