أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - جورج حداد - ؛؛الوفاق الوطني؛؛ اللبناني ... الى أين؟؟















المزيد.....


؛؛الوفاق الوطني؛؛ اللبناني ... الى أين؟؟


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 1390 - 2005 / 12 / 5 - 11:27
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


لعله من تكرار المكرر القول ان "الكيان اللبناني"، الذي أنشاه الجنرال الفرنسي غورو، على قاعدة تقسيمات اتفاقية "سايكس ـ بيكو"، لم يكن يوما مقنعا تماما لأي من مكوناته الطائفية. حيث ان كل طرف كان يطمح دوما الى "تحميل" هذا "الوعاء السياسي" الهجين، بالمحتوى الذي يعبر عن قناعاته ومصالحه. وقد ارتضى المسلمون والمسيحيون، بمختلف فئاتهم ومذاهبهم، هذا الكيان كأمر واقع مفروض دوليا واقليميا. وكانت دائما تتنازع هذ الكيان ثلاثة اتجاهات:
الاول ـ اتجاه دولوي، براغماتي ـ سياسي "لاقومي"، يقوم على عنصرين: أ ـ القبول بالكيان اللبناني، استنادا الى مرتكزي "الجغرافيا" و"المواطنية". ب ـ العمل لتطوير الكيان دمقراطيا، سياسيا واقتصاديا وثقافيا، من داخله، كصيغة للتعايش والتفاعل الايجابي بين الاديان والمذاهب ومختلف العائلات الروحية والتيارات الفكرية والسياسية. وهذا الاتجاه منتشر في كل الطوائف، وحاز دعم الفاتيكان ذاته، الذي اعتبر لبنان "رسالة الى العالم"، الا انه ظل يمثل قشرة سطحية، لا سيما بين المثقفين والفئات المتنورة، لانه ـ باستثناء الوضعية الدرزية في حالتها "الجنبلاطية" ـ لم يتماه مع المؤسسات الطائفية التي يستند اليها "الوفاق الوطني".
الثاني ـ اتجاه قومي (عربي اساسا، و"سوري" من ضمنه والى جانبه)، ينظر الى لبنان كجزء من الامة العربية، او "الامة السورية"، ويعمل لربطه بالقضايا القومية، وفي طليعتها قضية فلسطين والصراع مع اسرائيل. والقاعدة الشعبية الاساسية لهذا الاتجاه هي اسلامية.
والثالث ـ اتجاه "قومي لبناني"، يؤمن بلاعروبة لبنان، وبوجود "الامة اللبنانية"، المتميزة عن الامة العربية. والقاعدة الشعبية الاساسية لهذا الاتجاه هي مسيحية وخاصة مارونية.
و"الوفاق الوطني" اللبناني انما قام على التوازن بين هذه الاتجاهات. واي خلل في هذا التوازن كان ولا يزال يهدد كيان الدولة اللبنانية واستقلالها الشكلي ذاته.
وعلى اساس هذا "الوفاق الوطني" قامت "صفقة" المحاصصة الطائفية اللبنانية على قاعدة 6/6 مكرر مع ارجحية مسيحية، وتحديدا مارونية، في مقابل القبول بلبنان "ذي وجه عربي" وانتمائه الى اسرة الدول العربية، والتخلي عن طلب الحماية الاجنبية، الاوروبية والغربية. وقد تجسدت هذه الارجحية المسيحية ـ المارونية في ما سمي لاحقا "الامتيازات".
واثناء معركة الاستقلال والتحرر من الانتداب الفرنسي، نجحت معادلة "الوفاق الوطني" في جمع كلمة اللبنانيين، المسيحيين والمسلمين والعلمانيين، لانتزاع الاستقلال في تشرين الثاني 1943، وللإقلاع بالدولة اللبنانية "المستقلة"، بدون "العراب" الفرنسي.
XXX
وفي نظرة سطحية للامور يمكن الاستنتاج ان الاتجاه الثالث، اي "القومي اللبناني"، الذي يرفع دائما شعار "السيادة اللبنانية"، كان هو الاحرص، قولا وعملا، على الكيان التوافقي للبنان واستقلال الدولة اللبنانية.
ولكن الوقائع التاريخية، ماضيا وحاضرا، تقول لنا غير ذلك:
فبعد جلاء الفرنسيين، ولا سيما بعد الحرب العربية ـ الاسرائيلية الاولى في 48ـ 1949، وتكريس وجود اسرائيل، بدأ "الوفاق الوطني" اللبناني يتعرض لنكسات خطيرة، هددت بشكل دوري الكيان اللبناني ذاته، على ايدي اصحاب الاتجاه الثالث، "القومي اللبناني" تحديدا.
كيف حدث هذا الخلل، الذي جعل الاتجاه "القومي اللبناني" يضطلع بدور المدماك الضعيف، المزعزَع والمزعزِع، الذي يهدد الكيان اللبناني بالانهيار؟
طبعا ان هناك توجهات سياسية ـ طائفية سلبية، معادية للعروبة والاسلام، كانت ولا تزال تحكم التوجهات والممارسات السياسية المنحرفة لهذا او ذاك من اطراف الاتجاه "القومي اللبناني". وقد تعززت هذه التوجهات بشكل خاص، بعد نشوء اسرائيل، التي اقامت اتصالات "سرية" مباشرة مع "الطائفيين المسيحيين = القوميين اللبنانيين". ويقال ان اول نائب كتائبي في البرلمان اللبناني، وهو المرحوم جوزف شادر، قد نجح في الانتخابات النيابية سنة 1953 بالاموال الاسرائيلية والاصوات اليهودية، قبل الهجرة المكثفة لليهود اللبنانيين الى خارج لبنان، وخاصة الى اسرائيل. الا ان هذه السلبيات، "الخارجية" و"الذاتية" اذا صح التعبير، لم يكن بالامكان ان تفعل فعلها، كما فعلت، لو لم يكن هناك خلل موضوعي، تكويني، في "الوفاق الوطني" ذاته. ونشير هنا الى وجهين رئيسيين لهذا الخلل:
"التمييز الكياني"
الخلل الاول، يتمثل في التمييز الكياني بين اللبنانيين، الناشئ عن الالتباس الشكلي بين التسمية "اللبنانية" للدولة، وبين "الخصوصية اللبنانية"، او "القومية اللبنانية" المتخيلة او المفترضة، التي ينادي بها قسم من المسيحيين، عن "حسن نية" بالنسبة للبعض و"سوء نية" وغرض بالنسبة للبعض الاخر. (وعلى قياس هذا الالتباس، هناك الالتباس الاخر بين تسمية الدولة السورية، وتسمية "الامة السورية" و"القومية السورية" التي كان يؤمن بها الزعيم انطون سعادة، وهو الالتباس الذي جعل سعادة يدفع حياته ثمنا له، حينما "احتمى" بـ"سوريا" الدولة، والذي يقع ضحيته اليوم الحزب الذي أنشأه، اي الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي يضحي بكل رصيده في سيره في ذيل نظام الدولة السورية، ايمانا منه بـ"الامة السورية"، التي هي شيء آخر تماما، بل ومناقض تماما للنظام السوري القائم). وهذا الالتباس الكياني ـ "القومي"، المسيحي ـ اللبناني، هو الذي جعل الشيخ بيار الجميل، مؤسس حزب الكتائب اللبنانية، يعتبر نفسه "ام الصبي" ويردد دائما شعاره المحبب "لبنان لنا!". والنتيجة المنطقية لذلك كانت: تحويل التنوع او "التمايز الطائفي" في لبنان، الى "تمييز وطني" بين "فئتين" من اللبنانيين: "لبنانيون ـ لبنانيون"، هم المسيحيون الذين يمثلهم حزب الكتائب وامثاله وتفريخاته، و"لبنانيون ـ طارئون" او "مستوردون" او الخ، هم المسلمون الذين تمثلهم "شر تمثيل" الاحزاب والتيارات العلمانية واليسارية والقومية العربية والاسلامية الخ. و"أشر" فئة في هذا "التمييز الوطني"، او التقسيم "الكياني" للبنانيين، هم المسيحيون الوطنيون، العلمانيون واليساريون والقوميون العروبيون و"السوريون"، الذين هم، من جهة، غير "مسلمين"، وبالتالي لا يدخلون، من وجهة النظر "الاسلامية"، في صفقة "المحاصصة الطائفية" التي يقوم عليها "الكيان"، ومن جهة ثانية، يعتبرون "لبنانيين ـ خونة" في نظر حزب الكتائب واضرابه من المسيحيين "القوميين اللبنانيين".
و"الامتيازات المسيحية"
وبناء على هذا الخلل الاول، يقوم الخلل الثاني وهو: ان "الوفاق الوطني" الطائفي، الذي سمي في 1943 "الميثاق الوطني" غير المكتوب، والقائم على العرف، أقر إعطاء "اولوية" للمسيحيين، ولا سيما الموارنة، في الدولة الكيانية اللبنانية المستجدة، من اجل تطمين المسيحيين على المستقبل، وتشجيعهم على القبول بالشراكة الوطنية، وكتعويض تاريخي مرحلي عن الاجحاف والاضطهاد والمذابح والمجاعة، التي تعرض لها المسيحيون في العهود الاستبدادية السابقة، المحسوبة على "الاسلام!"، وبالاخص العهد العثماني الاسود. وقد اثبتت التجربة التاريخية ان الطائفيين "المسيحيين" أساؤوا ايما اساءة استخدام هذه "الاولوية" التي اعطيت لهم، واصبحوا هم، بسبب هذه الاولوية، يشكلون الخطر الاساسي على الكيان اللبناني. فقد تجسدت هذه الاولوية في ما سمي "الامتيازات"، واهمها حصر مركز رئاسة الجمهورية في مسيحي ـ ماروني، تتمحور حوله سياسة الدولة. وانطلاقا من هذا الطابع "الكياني" الاول لمركز رئاسة الجمهورية، فإن اصحاب هذا المركز ـ كقاعدة ـ عملوا على تجاوز قيمته الدستورية، ليتخذ طابعا "كيانيا ـ قوميا" شبه مقدس، اشبه شيء بالمركز الملكي او شبه الملكي. وبالاستناد الى هذا التماهي "الكياني"، لمركز رئاسة الجمهورية، مع الوهم "القومي اللبناني"، فإن حزب الكتائب "اللبناني!" صار يعتبر نفسه دائما "ابو الشرعية" في لبنان، ووصيا على هذه الشرعية، حتى ضد اصحابها احيانا، وبالتأكيد ضد "اللبنانيين الاخرين"، اي بالاخص المسلمين.
ان هذه "الدالة المسيحية" على الكيان اللبناني، وما تجسدت به من "امتيازات"، حوّل الامتيازات، ومنافعها، الى "قاعدة مادية" وسياسية للانحراف الطائفي المسيحي، المتستر بـ"القومية اللبنانية"، التي كانت احيانا كثيرة، ولا سيما خلال الحرب اللبنانية، تختزل الى "المجتمع المسيحي" و"القومية المسيحية"، المعادية في وقت واحد للعروبة، التي اعتبرت عاملا "خارجيا"، ولـ"المسلمين" اللبنانيين، الذين اعتبروا "جالية" "غير لبنانية". وهذا ما دفع الوطنيين اللبنانيين، العروبيين، ومعهم الغالبية الساحقة من المسلمين اللبنانيين، لاطلاق تهمة "الانعزالية" على اصحاب التوجهات الملتبسة "المسيحية = القومية" اللبنانية.
XXX
بعد هذه النظرة السريعة الى بعض وجوه الخلل "الكياني" في آلية "الوفاق الوطني" اللبناني، لننظر كيف انعكس ذلك على ارض الواقع، وكيف اصبح اصحاب "القومية اللبنانية" من الطائفيين المسيحيين، اصحاب "الشرعية" ودعاة "السيادة"، اصحاب "التمييز الوطني" الكياني و"الامتيازات المسيحية" الكيانية، هم انفسهم مصدر الخطر الداخلي الاساسي على الكيان وعلى "الوفاق الوطني" اللبناني:
1 ـ لا بد اولا من النظر الى كيف تعامل اصحاب "الامتيازات" مع مركز رئاسة الجمهورية الذي اعطي لهم طوعا من قبل المسلمين: كان ولا يزال من المفترض ان يستخدم هذا المركز، ولا سيما من قبل المسيحيين، كمركز "لبناني"، لتعزيز "الوطنية اللبنانية"، بصرف النظر عن المدلول القومي الذي يعطيه كل طرف للوطنية. ولكن الذي حدث، للاسف، هو العكس. اي ان "المسيحيين" (بالمفهوم الطائفي السياسي لا الايماني والديني) قد مارسوا ـ بشكل عام ـ هذا المركز بعقلية "اسلامية!" تماما (نسبة الى انظمة الحكم "الاسلامية!" التي كانت سائدة في الماضي، والتي كانت تجعل الحاكم او السلطان، حاكما مطلق الصلاحية، كما كانت تتعامل مع كافة المواطنين كرعايا، ومع غير المسلمين كـ"اهل ذمة" ومواطنين درجة تاسعة وعاشرة). فاذا استثنينا المرحوم الرئيس الياس سركيس، الذي جيء به اصلا كرئيس "تسوية" انتقالي، فإن غالبية رؤساء الجمهورية اللبنانيين "المسيحيين"، بدءا من "أبي الاستقلال" الرئيس بشارة الخوري، وانتهاء بـ"راعي التحرير" العماد اميل لحود، تصرفوا كملوك غير متوجين، وسعوا الى التجديد او التمديد، وتميزت عهودهم باستغلال السلطة والفساد، ومعاملة المواطنين كرعايا، والمسلمين كـ"أهل ذمة" ومواطنين درجة رابعة وخامسة. ويكفي ان نشير بشكل خاص، كمثال نموذجي، الى عهد الشيخ امين الجميل، ابن الشيخ بيار الجميل ومدرسة "الكتائب" التي كانت تكاد تحتكر الكيانية اللبنانية: فبالرغم من ان عهد امين الجميل تزامن مع احدى المراحل الاكثر مأساوية في تاريخ لبنان الحديث، بوجود الاحتلال الاسرائيلي والنظام الدكتاتوري السوري "الشقيق جدا"، فقد تميز هذا العهد، اولا، بمستويات لا سابق لها من الفساد، حيث ـ وحسب جريدة "السفير" وغيرها من الصحف اللبنانية ـ خرج الشيخ امين من مركز رئاسة الجمهورية بحصيلة "اتعاب" تقدر بمليارات الدولارات. وثانيا، فإن فخامته تصرف وكأنه باق في قصر بعبدا الى ما لانهاية. وعمل المستحيل لتعطيل عملية الانتقال الدستوري للعهد. وحينما ادرك استحالة التجديد او التمديد لعهده الميمون عمد، حرفيا في ربع الساعة الاخيرة، لنقل السلطة الى حكومة عسكرية برئاسة الجنرال ميشال عون، ضاربا عرض الحائط بأي اساس من اسس "الوفاق الوطني"، ولسان حاله يقول "ومن بعدي الطوفان"، وحمل ارصدته وحقائبه وذهب الى اميركا، ينتظر ان يعود، طبعا حاملا "غصن زيتون" كحمامة نوح، ليرث حكم لبنان بعد خرابه التام.
2 ـ ان "الشراكة الوطنية"، المنبثقة عن "الوفاق الوطني"، كانت تفترض بمن يعتبرون انفسهم الاوصياء على "الكيان اللبناني"، ان يراعوا الاتجاهات السياسية والقومية العروبية لـ"شركاء الكيان"، على الاقل كرد تحية للمراعاة التي ابداها أولئك "الشركاء" في منح المسيحيين مركز الصدارة في "الكيان اللبناني". ولكن الذي حدث على ارض الواقع هو العكس، اي ان "الكيانيين اللبنانيين"، في السلطة وخارجها، استغلوا مكانتهم "المميزة" في النظام الطائفي اللبناني:
اولا، لتهميش واضطهاد وملاحقة التيارات السياسية الوطنية والتقدمية واليسارية، العروبية و"القومية السورية". وقد تبدى ذلك بشكل خاص في المعاملة اللاانسانية المزرية للاجئين الفلسطينيين، التي كانت تتناقض ليس فقط مع مبادئ الاخوة العربية، بل ومع ابسط مبادئ حقوق الانسان وشرعة حقوق الانسان التي كان لبنان من المشاركين الاساسيين في صياغتها ومن اوائل الموقعين عليها.
ثانيا ـ نظريا، كان من المفروض بأصحاب اتجاه "القومية اللبنانية"، المتاجرين بشعارات "السيادة" و"الاستقلال"، ان يكونوا ابعد الاطراف اللبنانية عن الاستقواء بـ"الخارج"، خاصة ضد "شركاء الكيان" ـ الطرف الاخر في معادلة "الوفاق الوطني"، اي المسلمين خصوصا والوطنيين والعروبيين عموما. ولكن الوقائع تقول العكس تماما. واليكم بعضها:
أ ـ بالرغم من ان الرئيس الاسبق كميل شمعون جاء الى الرئاسة في اعقاب الانتفاضة الشعبية السلمية ضد عهد بشارة الخوري، حاصلا على دعم "اسلامي" وعربي واسع النطاق، فإنه ـ وفور تسلمه السلطة ـ اتجه الى ضرب الاستقلال والحياد الدولي للبنان، والى تحويله الى قاعدة عسكرية اميركية ـ بريطانية، معادية لحركة التحرر الوطني العربية، ولضم لبنان للحلف التركي ـ الباكستاني، الذي تحول فيما بعد الى ما كان يسمى "حلف بغداد". وبهذه السياسة المنحازة والرعناء وجه عهد كميل شمعون طعنة نجلاء الى منطوق "الوفاق الوطني". وقد قرن هذه السياسة اللامتوازنة برغبته الجامحة بالتجديد لولايته، مشعلا بذلك فتيل الثورة الشعبية سنة 1958. وبعد قيام ثورة 14 تموز ضد الملكية والوجود البريطاني في العراق، لم يتورع عهد كميل شمعون عن استقدام الاسطول السادس الاميركي الى لبنان.
ب ـ بالرغم من التسوية التي تمت حينذاك، ومجيء عهد اللواء فؤاد شهاب برضى الجميع ظاهريا على الاقل، فإن حزب الكتائب لم يلق السلاح، وتابع تدريباته وتنظيماته العسكرية وشبه العسكرية، وعلاقاته السرية الخارجية. وحين اندلاع حرب الايام الستة، نزل المسلحون الكتائب الى الشوارع في صبيحة 5 حزيران 1967، للوقوف بوجه اي تحرك جماهيري وطني في لبنان، فيما لو صمدت الجبهات العربية. ولتبرير هذا الظهور الكتائبي المسلح المفاجئ، صرح الشيخ بيار الجميل مساء ذلك اليوم بالقول إن هناك الوف الشباب الكتائبيين هم مستعدون لدعم القضية الفلسطينية (!!؟؟). وهذا يعني ان الكتائب كانوا يستعدون للحرب الى جانب اسرائيل منذ احداث 1958، على الاقل. وطبعا ان الكتائب، والاحرار، وحراس الارز، وجيش لبنان الجنوبي وما اشبه، ترجموا لاحقا "دعمهم" للقضية الفلسطينية، بتخريب لبنان وذبح الفلسطينيين، والتعامل واسع النطاق وعلى مختلف المستويات وبمختلف الحقول، مع اسرائيل.
ج ـ ان قوات النظام السوري ذاتها انما دخلت لبنان تحت الشعار الكاذب الا وهو "حماية المسيحيين"، والذي كان يعني حماية الطابور الخامس الاميركي ـ الاسرائيلي الذي كانت ولا تزال تمثله الاطراف "الانعزالية" في لبنان. وما كان يسمى "الجبهة اللبنانية"، بأبرز اعضائها الشيخ بيار الجميل وكميل شمعون، هي التي ـ بنصيحة اميركية او بدونها ـ وافقت على استدعاء النظام السوري الى لبنان. وفي صبيحة مجزرة "السبت الاسود" في كانون الاول 1976، كان الشيخ بيار الجميل في دمشق للقاء الرئيس حافظ الاسد وطلب "المساعدة"، مما يؤكد ان المجزرة كانت مسرحية مؤامرة مدبرة لتبرير التدخل السوري في لبنان. وبعد ان تحقق للانعزاليين ـ بمشاركة او برعاية النظام السوري ـ التصفية الدموية للمخيمات الفلسطينية في تل الزعتر وجسر الباشا والضبية والاحياء اللبنانية ذات الاغلبية الاسلامية في النبعة وبرج حمود والمسلخ والكرنتينا، والتخلص من المعلم كمال جنبلاط و"تغييب" الامام موسى الصدر، اتجهوا الى الاستغناء عن خدمات النظام السوري والاشتباك معه في 1978، عامدين الى استدعاء الاحتلال الاسرائيلي في السنة ذاتها، ثم في سنة 1982.
د ـ جاء "الرئيس المنتخب" بشير الجميل الى مركز رئاسة الجمهورية، على متن دبابات الاحتلال الاسرائيلية.
هـ ـ شارك الانعزاليون (الطائفيون المسيحيون = القوميون اللبنانيون) علنا في مجزرة صبرا وشاتيلا (الحرس الخاص لبشير الجميل برئاسة ايلي حبيقة، جماعة سعد حداد، عصابة اتيان صقر "ابو ارز" المسماة "حراس الارز"). ولا يغير في هذه الحقيقة شيئا، بل يؤكدها، ان ايلي حبيقة (الذي لقب لاحقا "ابو علي") قد نال غطاء سوريا واصبح وزيرا في الدولة الامنية اللبنانية التي كانت تديرها المخابرات السورية.
و ـ حاول عهد امين الجميل فرض اتفاق 17 ايار على لبنان. وفي هذا العهد المشؤوم تم "اصطياد" واختفاء الوف المناضلين والشباب الوطنيين في "الغربية"، بالتنسيق بين الاجهزة الامنية و"الكتائب" و"القوات اللبنانية".
و ـ بعد وفاة العميل سعد حداد، ذهب العميل الاخر، اللواء انطوان لحد ـ الشمعوني سياسيا، لاستلام قيادة "جيش لبنان الجنوبي"، بموافقة القيادات "الانعزالية": شمعون والكتائب وغيرهم.
ز ـ شنت "الكتائب" و"الاحرار" و"القوات اللبنانية"، وبالتنسيق مع الاسرائيلين، حرب الجبل في 1983، بهدف طرد الدروز في الشوف وعاليه والمتن الى منطقة حاصبيا وراشيا. ولكنهم هزموا شر هزيمة، وهو ما تحملت تبعاته الجماهير المسيحية العادية في الجبل.
ح ـ شن الجنرال عون، حينما كان في قصر بعبدا، ما يسمى "حرب الالغاء" ضد "القوات اللبنانية"، من اجل فرض سيطرته الاحادية على المنطقة "المسيحية" (الشرقية)، تمهيدا لفرض سيطرته الاحادية على كل لبنان. كما شن ما يسمى "حرب التحرير" ضد قوات الحزب التقدمي الاشتراكي وضد المنطقة "الاسلامية" (الغربية)، تحت شعار "السيادة اللبنانية" وبحجة محاربة "الاحتلال السوري"، في حين انه لم يطلق طلقة واحدة ضد قوات الاحتلال الاسرائيلي. وكان هدفه الحصول على الدعم الاميركي والاوروبي، وضمنا الاسرائيلي، لاستبدال السيطرة الدكتاتورية السورية على لبنان، بسيطرة دكتاتورية "لبنانية" ذات "سيادة".
XXX
لقد انعكست هذه الارتكابات بشكل سلبي جدا على "الوفاق الوطني" اللبناني، واصبح كيان لبنان في مهب الريح. وهذا ما شجع الاحتلال الاسرائيلي على الاستمرار مدة 22 سنة، كما كان يشجع "الوجود" السوري على الاستمرار، وعلى تهديد اللبنانيين بالادعاء: اما نحن، واما الفوضى، بحجة ان اللبنانيين غير قادرين على حكم انفسهم. وحتى حينما انسحبت اسرائيل من جزين، ثم من الشريط الحدودي والبقاع الغربي، بفضل بطولات وتضحيات المقاومة الوطنية والاسلامية، كان الانعزاليون يراهنون على وقوع مجازر ضد المسيحيين، من اجل تبرير اعادة استدعاء الاحتلال الاسرائيلي او طلب تدويل لبنان. ولكن وعي المقاومة الاسلامية خصوصا، والقوى الوطنية والعروبية عموما، فوت على "الكيانيين" اللبنانيين هذه "الفرصة". وهذا ما يشجعهم ـ واللي استحوا ماتوا، كما يقال ـ حتى على المطالبة بالعفو عن العملاء والمجرمين الذين فروا مع الجيش الاسرائيلي، مما يتناقض مع الاعراف والقوانين في جميع بلدان العالم المتحضر.
XXX
ان المحصلة "التاريخية" النهائية التي آلت اليها المسلكية السياسية و"العسكرية" للانعزاليين "القوميين" المسيحيين = اللبنانيين، هي اختزال الدور المسيحي في آلية "الوفاق الوطني" التي يقوم عليها الكيان اللبناني، ومحورته حول مركز رئاسة الجمهورية، فيما يتعدى القيمة الدستورية لهذا المركز، بل وعلى حساب هذه القيمة. ومن طبيعة الامور ان النظام الامني السوري ـ اللبناني، الذي كان يحكم لبنان، بالتوافق مع اميركا، قد التقط بقوة هذا المعطى، وعمل على توظيفه لحسابه. وهو ما ظهر جليا في التمديد، في حينه، للرئيس الياس الهراوي، ومن ثم ـ وبالاخص ـ في التمديد للرئيس العماد اميل لحود، خصوصا وانه جزء لا يتجزأ من ذلك النظام الامني. ودون ان يكون التمديد، بالطبع، السبب الوحيد، فقد كان احد الاسباب المهمة الكامنة وراء اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بكل ما يعنيه ذلك من طعنة نجلاء في صميم "الوفاق الوطني".
ولا يحتاج المرء الان الى كبير عناء ليرى ان كل التركيبة "الوفاقية" اللبنانية اخذت تتمحور اكثر فأكثر على ما سيؤول اليه مركز رئاسة الجمهورية:
ـ هل سيستمر العماد اميل لحود حتى نهاية ولايته، وبأي ثمن؟
ـ من هو الوريث العتيد، سواء اختزل لحود ولايته ام لا؟
ويرى المراقبون بوضوح ان البازار الرئيسي، من واشنطن الى دمشق، مرورا بباريس، وعبورا فوق بيروت، انما يدور حول اسم الجنرال ميشال عون.
وتلوح في الافق خطوط سيناريو جديد، شبيه بسيناريو ربع الساعة الاخيرة، الذي نفذه الرئيس الاسبق امين الجميل.
لقد ارتكب الجنرال عون حينذاك، ربما ارضاء لباريس، خطأ فادحا هو السير مع صدام حسين. وهذا ما دفع الاميركيين لتفويض السوريين باخراجه بالقوة من قصر بعبدا.
الان تغيرت الظروف الدولية، والاقليمية، والمحلية. والذي سار مع فرنسا يمكنه ان يسير مع اميركا. والذي سار مع صدام حسين يمكنه ان يسير مع بشار الاسد.
فهل هناك ما يستبعد ان تتفق اميركا وسوريا على اعادة الجنرال عون، ولو بالقوة، الى قصر بعبدا؟!
وفي هذه الحالة، ماذا سيكون عليه مصير "الوفاق الوطني" اللبناني، عامة، ومصير المسيحيين اللبنانيين، خاصة؟!
ربما يكون الجواب على هذا وغيره من الاسئلة المصيرية عند غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، بوصف بكركي المرجعية المسيحية المشرقية الابرز، المؤتمنة على لبنان بصيغته التعايشية، وعلى الجماعة المسيحية العربية بمختلف مذاهبها، وعلى آلية التآخي والتفاعل الحضاري المسيحي ـ الاسلامي، التي لا وجود للعالم المعاصر بدونها!!



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا يراد من لبنان الجديد في الشرق الاوسط الكبير الاميرك ...
- -الفأر الميت- للمعارضة السورية
- العالم العربي والاسلامي ودعوة ديميتروف لاقامة الجبهة الموحدة ...
- هل تنجح خطة فرض تركيا وصيا اميركيا على البلاد العربية انطلاق ...
- الحرب الباردة مستمرة بأشكال جديدة بين -الامبراطورية- الروسية ...
- حرب الافيون العالمية الاولى في القرن 21: محاولة السيطرة على ...
- هل يجري تحضير لبنان لحكم دكتاتوري -منقذ!-؟
- أسئلة عبثية في مسرح اللامعقول
- الجنبلاطية والحزب التقدمي الاشتراكي
- وليد جنبلاط: الرقم الاصعب في المعادلة اللبنانية الصعبة
- القيادة الوطنية الجنبلاطية والنظام الدكتاتوري السوري
- القضية الارمنية
- سوريا الى أين؟
- سنتان على الحرب الاميركية ضد العراق2
- سنتان على الحرب الاميركية ضد العراق
- وماذا بعد الانسحاب السوري من لبنان؟
- جنبلاط، القضية الوطنية والمسيحيون الدجالون
- المفارقات التاريخية الكبرى في الازمنة الحديثة وتحولات المشهد ...
- المسيحية العربية والاسلام في المشهد الكوني
- من هم مفجرو الكنائس المسيحية في العراق؟! وماذا هم يريدون!؟


المزيد.....




- مؤلف -آيات شيطانية- سلمان رشدي يكشف لـCNN عن منام رآه قبل مه ...
- -أهل واحة الضباب-..ما حكاية سكان هذه المحمية المنعزلة بمصر؟ ...
- يخت فائق غائص..شركة تطمح لبناء مخبأ الأحلام لأصحاب المليارات ...
- سيناريو المستقبل: 61 مليار دولار لدفن الجيش الأوكراني
- سيف المنشطات مسلط على عنق الصين
- أوكرانيا تخسر جيلا كاملا بلا رجعة
- البابا: السلام عبر التفاوض أفضل من حرب بلا نهاية
- قيادي في -حماس- يعرب عن استعداد الحركة للتخلي عن السلاح بشرو ...
- ترامب يتقدم على بايدن في الولايات الحاسمة
- رجل صيني مشلول يتمكن من كتابة الحروف الهيروغليفية باستخدام غ ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - جورج حداد - ؛؛الوفاق الوطني؛؛ اللبناني ... الى أين؟؟