أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالجواد سيد - محمد والقبائل والرسالة المزعومة















المزيد.....



محمد والقبائل والرسالة المزعومة


عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)


الحوار المتمدن-العدد: 5138 - 2016 / 4 / 20 - 12:31
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    




3-محمد والقبائل والرسالة المزعومة
ظهرت دعوة محمد الإسلامية فى خضم عاصفة من المتغيرات السياسية والإقتصادية والثقافية التى هبت على الجزيرة العربية قبل القرن السابع الميلادى، ففى خلال هذه السنين بدأ العرب يستشعرون قوتهم السياسية وهويتهم القومية بقوة، بعد أن أحاطت بهم القوى الدولية الكبرى لذلك الزمن المتمثلة فى الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية من كل جانب، فى الشمال والجنوب والشرق والغرب، وبعد أن أغدقت عليهم طرق التجارة البرية الدولية بين الشرق والغرب، والتى تمر عبر صحراواتهم الشاسعة من الشمال إلى الجنوب ،وبالعكس، الوعى والثروة، وجعلت منهم رقما مؤثراً فى العلاقات الدولية لذلك الزمن، وعلى نحو مماثل لما أحدثه ظهور وتدفق الثروة النفطية فى بلادهم فى العصر الحديث، وذلك فى نفس الوقت التى أحدثت تلك الثروة هوة طبقية سحيقة بين سكان المدن التجارية الغنية وبين القبائل الجائعة الساكنة فى جوف الصحراء، مما سهل توجيه أنظارهذه القبائل نحو غزو المناطق الغنية المحيطة بهم فى أراضى الإمبراطورتين المتصارعتين المتهالكيتين ، بيزنطة وفارس.
كان ظهور مملكة كندة فى وسط الجزيرة العربية حوالى عام 480م، وتمكن أحد ملوكها وهو الحارث بن عمرو من السيطرة على إمارة الحيرة العربية الواقعة على حدود بلاد الرافدين الجنوبية والتابعة للفرس، هو أول تعبير سياسى كبير عن تطلع العرب للوحدة والتفوق على جيرانهم الأٌقوياء، فرغم أن المنذر الثالث ملك الحيرة التابع للفرس تمكن من إستعادة إمارته حوالى سنة 529م، وأعدام الحارث ونحو خمسين من زعماء مملكة كندة لينتهى بعد ذلك وجودها السياسى، فقد كان قيامها فى حد ذاته سابقة لإتحاد قبائل وسط شبه الجزيرة العربية فى وحدة سياسية واحدة، وضعت تصوراً للوحدة فى هذه المنطقة، ومثلت سابقة مهدت الطريق أمام توحيد المنطقة بعد ظهور الدعوة الإسلامية.
كان فشل الأحباش، الذين كانوا قد سيطروا على اليمن سنة 525م بدعم من البيزنطيين(الرومان الشرقيين) فى غزو مكة حوالى سنة 530م، وذلك فى محاولة منهم للسيطرة على طرق التجارة الدولية البرية، التى كانت تمر عبر الجزيرة العربية، والتى كانت مكة مفتاحها الرئيسى، هو الحدث الكبير الثانى الذى عبر عن قوة العرب السياسية التى إكتسبوها بسبب أرباح التجارة، ولم يكن من المصادفة أن يكون قائد مكة فى هذه الحرب هو عبدالمطلب بن هاشم جد محمد، أحد كبار طبقة التجار المكيين واسعى الثراء، وأن يكون أبوه هاشم بن عبد مناف هو المهندس الرئيسى للمعاهدات التجارية بين قبائل الجزيرة العربية، والتى أشار إليها القرآن بإسم (إيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف)، ورغم أن إنتشار مرض الجدرى الذى إجتاح المنطقة فى ذلك الوقت كان من أكبر أسباب فشل حملة أبرهة الحبشى، والتى فسرها القرآن بقوله(ألم ترى كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم فى تضليل،وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول)، فلاشك أن قوة وصلابة المكيين وحكمة وخبرة طبقتها التجارية كانت هى العامل الرئيسى فى فشل الحملة.
أما الحدث الكبير الثالث، الذى عبر عن تنامى قوة العرب السياسية قبل دعوة محمد مباشرة، فهو إنتصار عرب بنى شيبان وحلفائهم من قبائل العرب على الفرس فى موقعة ذى قار حوالى سنة 610م م، فى أول سابقة من نوعها فى تاريخهم، وقد إعتادوا أن يكونوا تابعين لهم أو لمنافسيهم البيزنطيين، تلك الوقعة التى علق عليها محمد بمقولته الشهيرة(هذا أول يوم إنتصفت فيه العرب من العجم وبى نصروا) ليعلن بذلك عن دوره القادم، وعن الطبيعة السياسية لدعوته تعبيراً قاطعاً واضحاً لاشك فيه.
بدأت دعوة محمد إلى الإسلام ووحدة وتوحيد الدين والدولة حوالى نفس السنة الى وقعت فيها موقعة ذى قار، وقدإرتكزت على عقيدة إبراهيم، ونص القرآن قاطع فى دلالته حين قال على لسان محمد(قل هدانى ربى دينا قيماً، ملة إبراهيم حنيفا، وماكان من المشركين)، فهنا نجد محمد ليس مؤسساً لعقيدة جديدة بقدر ماهو مهتدياً لدين جديد، هو الحنيفية على ملة إبراهيم، أى التوحيد على دين إبراهيم، مما يبدو وكأنه نتيجة طبيعية لحالة التفاعل والإنصهار الفكرىوالدينى التى شهدتها بلاد الحجاز مع التراث الإبراهيمى على مدى زمن طويل، وذلك بعد هجرة اليهود الغفيرة من فلسطين إلى شمال الجزيرة العربية وإستقرارهم بها - فى مدينة يثرب بشكل خاص- على أثر تدمير الإمبراطور الرومانى تيتوس لعاصمتهم أورشليم سنة 70م، حاملين معهم تراثهم الدينى الكبير، وقصة نفى أخيهم إسماعيل إلى بلاد الحجاز ونشأته بين العرب وبنائه لكعبتهم مع أبيه إبراهيم، ذلك التفاعل الذى وصل ذروته فى الإعتقاد الذى شاع بين عرب الحجاز حوالى زمن محمد بأنهم من نسل إسماعيل، وبنشأة العقيدة الإبراهيمية الحنيفية التوحيدية المجردة تقريباً من الشعائروالطقوس بينهم، والتى مثلت بذرة الإسلام الأولى، قبل أن يضع محمد بصماته عليها ليحولها إلى عقيدة متكاملة الأركان.
وعلى ضوء هذا الواقع السياسى والثقافى الجديد فى تاريخ العرب، وبعيداً عن التصور الميثولوجى الشائع، فلم يكن من المصادفة أن يكون محمد إبن الأرستقراطية المكية التجارية الطامعة فى خيرات بيزنطة وفارس هو مؤسس الإسلام، والقائد المنتظرلتوحيد العرب، وأن يكون من بنى هاشم بالتحديد، مؤسسى العلاقات التجارية بين العرب، والمسيطرين على الكعبة مركز عبادتهم الوثنية، كما لم يكن من المصادفة أن يكمل باقى أركان العقيدة الإبراهيمية الحنيفية الجديدة من التراث الإبراهيمى نفسه، وأن يجعل منها طريقاً لتوحيد الدين والدولة معا، وهو ماحدث بالفعل، فقد كان جبريل الذى حمل رسالة السماء إلى محمد هو نفسه الملاك الأسطورى الإسرائيلى الذى ساعد موسى فى صراعه مع فرعون، كما بشر زكريا بيحيى، وبشر مريم بالمسيح، وكانت قصة الخليقة فى القرآن هى نفس قصة الخليقة الأسطورية المذكورة فى التوراة والمدراش، من حواء وآدم إلى نوح والطوفان حتى ظهور إبراهيم وإيمانه بإلهه الواحد ،كما كان موقع موسى فى التجربة الإيمانية الإبراهيمية هونفسه موقع محمد ، فجهود موسى فى توحيد قبائل اليهود هى نفس جهود محمد فى توحيد قبائل العرب، وشريعة وعبادات موسى فى التوراة والمدراش هى نفس شريعة وعبادات محمد فى القرآن، ومعجزة إعراج موسى إلى السماء،هى نفس معجزة إعراج محمد، وهكذا لم يبق سوى وضع لمسات طفيفة لتتحول يهودية العبرانيين إلى إسلام العرب، فقصة ذبح إسحاق تتحول إلى قصة ذبح إسماعيل، وقصة الحج عند العرب تظل كما هى بتفاصيلها إلى مكة، مع إضافة قصة نزوح إسماعيل وأمه هاجر إليها، وأسماء ملوك وأنبياء اليهود تتحول كلها إلى أسماء عربية، وأخيراً تتحول قبلة الصلاة من القدس إلى مكة، لينتقل بذلك ميراث إبراهيم كله من أبناء إسحاق إلى أبناء إسماعيل، وهو ماتم بالفعل بعد هجرة محمد إلى المدينة.
وبإكتمال صورة العقيدة الجديدة بعد التأمل والمعاناة التى غالباً ماإقترنت بالتجربة الدينية فى حياة أنبياء العالم القديم، لم يعد أمام محمد سوى الإعلان لقومه المكيين عن عقيدته الجديدة، التى ربط فيها توحيد الدين بتوحيد الدولة ربطاً قاطعاً لالبس فيه، والذى عبر عنه أكثر من مرة تعبيراً صريحا فى رده على عمه أبى طالب حين كان ينهاه عن شتم آلهة قريش بقوله(ياعم إنى أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدى إليهم بها العجم الجزية)، وهو رد لايختلف كثيراً فى محتواه السياسى عن تعليقه على موقعة ذى قار حين قال(هذا أول يوم إنتصفت فيه العرب من العجم، وبى نصروا).
قضى محمد نحو ثلاثة عشر عاماً فى مكة يدعو فيها قومه إلى عقيدة إبراهيم الجديدة، كانت الدعوة سرية خلال السنوات الثلاث الأولى منها، حقق خلالها نجاحاً محدوداً حيث آمن به نفر قليل من المقربين إليه على رأسهم زوجته الثرية خديجة، أكبر المشجعين له على زعامة العرب، وصديقه المقرب أبوبكر، وإبن عمه الصغيرعلى، ومولاه زيد بن حارثة، ثم قررالمجاهرة بالدعوة (فأصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) وخاصة داخل دائرة قبيلته من بنى هاشم (وإنذر عشيرتك الأقربين)، وبالفعل بدأ محمد بهم وإستطاع إقناع البعض منهم بجدوى دعوته الدينية السياسية، لكن معظمهم ظل على ديانته الوثنية، وإن لم يتخلى عن إلتزامه الأدبى بحماية محمد من أذى قريش بحكم العصبية القبلية، وذلك بإستثناء عمه أبو لهب الذى شارك معظم المكيين فى رفضهم لدعوته وإضطهادهم له، ومع ذلك فقد إستطاع محمد وفى خلال هذه السنوات القليلة ضم كثير من وجوه قريش، سواء من بنى هاشم أو من غيرها من بطون قريش، وعلى رأسهم عمه حمزة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان الأموى، وكثيراً من البسطاء الذين وجدوا فى دعوته سبيلاً للمساواة مع الطبقة الأرستقراطية التجارية الغنية، وبحلول العام الخامس من الدعوة كان عدد أتباعه قد إزداد بشكل ملحوظ، بحيث فكر فى توفير ملاذ آمن لهم بعيداً عن أذى قريش، وكالعادة فقد ربط بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وإختار الحبشة، التى تربطها بقريش مصالح تجارية قوية، وأمر أتباعه بالهجرة إليها طلباً للحماية من جهة، وفى محاولة لضرب تجارة قريش من جهة أخرى، فخرج إليها عدد كبير من أتباعه على رأسهم عثمان بن عفان وزوجته رقية، لكن المحاولة باءت نسبيا بالفشل، فقد أرسلت قريش سفارة بقيادة عمرو بن العاص، أحبطت مساعى المهاجرين لتعكير صفو العلاقات بين مكة والحبشة، ومع ذلك فقد قبل ملك الحبشة توفير الحماية التى طلبها المهاجرون،فظلوا فى بلاده حتى حصار(الشعب)الشهير، ثم عاد بعضهم إلى مكة بعد أن ظنوا أن محمد قد توصل لإتفاق مع قريش، بينما ظل البعض الآخر فى بلاد الحبشة إلى مابعد الهجرة إلى المدينة، ثم عادوا من هناك إلى المدينة مباشرة.
وفى حدود العام السادس من الدعوة صعدت قريش من تحديها لمحمد وكل بنى هاشم تصعيداً خطيراً وصل إلى حد المقاطعة الإقتصادية والإجتماعية التامة، والتى عرفت فى التاريخ بإسم حصار(الشعب)، حيث تعاهدت بموجب إتفاق مكتوب عُلق فى الكعبة، على حصاره بشعاب مكة هو وجميع أتباعه وكل من تعاطف معه من بنى عبدالمطلب، على أن لايتزوجوا منهم أو يتاجروا معهم بأى شكل من الأشكال، كادت محاولة قريش أن تنجح، وكاد محمد أن يستسلم ويعترف بآلهة قريش فى محاولة للتوصل إلى حل وسط معهم، ونطق بتلك الآيات التى إشتهرت فى التاريخ بإسم الآيات الشيطانية(واللات والعزى ومناة الثالثة، تلك الغرانيق العلى، إن شفاعتهن لترتجى) لكن محمد عاد وتراجع ورفض التنازل وقال بأن الشيطان هو الذى ألقى بتلك الآيات على لسانه.دلت حادثة الشعب على أن قريش لم تكن ترفض ديانة محمد الجديدة، لكنها كانت ترفض أن تكون هى الديانة الوحيدة، كما كانت ترفض تسفيهه لآلهتها وتحقيره لديانات العرب، والواقع أن قريش كانت ترى فى دعوته خطرأ على مركزها التجارى والأدبى بين العرب، فقد كانت مكة هى مركز التجارة الرئيسى فى جزيرة العرب، كما كانت كعبتها بمثابة معبداً لكل آلهة قبائلها، ولذا فقد كان من شأن التخلى عن النظام الدينى القائم، وتوحيده فى دين واحد أن يصرف أنظار العرب عن مكة كمركز لعبادتهم ومركز لتجارتهم، لم تكن قريش بعد - أو معظمها على الأقل - قد أدركت الهدف البعيد لدعوة محمد، بأن توحيد الدين سوف يزيد من مركز بلادهم ومركز كعبتهم، لا أن يقلل منها، وقد عزز من هذا الإعتقاد الخاطئ، المعارضة الشرسة لدعوة محمد التى أبدتها قبيلة أمية القوية، والتى كانت ترفض أن تؤول زعامة العرب على يديه إلى بنى هاشم وليس إليهم، وهو ماسيتضح فى الصراع الدامى الذى سينشب بينهم وبين بنى هاشم على ميراث محمد مستقبلاً.
إستغرق حصار الشعب حوالى ثلاث سنوات، لكنه فشل فى نهاية الأمر بسبب العصبية القبلية، فقد تعاطف بعض وجهاء قريش مع معاناة بنى عبدالمطلب بسبب روابط القرابة القرشية، وقاموا بتمزيق عهد المقاطعة المعلق فى الكعبة، وخرج محمد وأصحابه من الحصار سالمين، لكنه وفى حدود هذه السنة بالتحديد خسر أكبر سندين له، وهما زوجته الثرية خديجة وعمه أبوطالب، ولم يكن من المصادفة أنه وفى حدود هذه السنة التاسعة بالتحديد، بدأ يبحث جدياً عن حليف يمكنه أن يساعده فى صراعه الدموى القادم مع قريش. بدأ محمد بمدينة الطائف فزارها وعرض دعوته على وجهائها، لكن المحاولة باءت بالفشل، ثم بدأ يزور قبائل العرب فى منازلهم، ويلتقى بهم فى مواسم الحج والعمرة، فزار كندة وكلب وبنى حنيفة، لكن محاولته باءت بالفشل أيضاً، وعرض أحدهم عليه أن يؤول الأمر إليهم بعده فرفض وقال( يؤول لمن شاء الله أن يؤول إليه) ومرة أخرى قد يدلنا هذا التعليق على الطبيعة السياسية التى غلبت على دعوته ،وأن الدولة كانت الهدف قبل الدين، وأن الحلم الدائم بكنوز كسرى وقيصر كان حاضراً فى كل حديث.
وأخيراً وجد محمد ضالته فى يثرب القريبة المنافسة لمكة، بلد أمه آمنة بنت وهب من بنى النجار الخزرج ،والتى توفت فى طفولته عقب مولده مباشرة، وتبعها أبوه عبدالله بن عبدالمطلب بعد ست سنوات حيث دفن هناك مع أمه، كان المدخل طبيعياً وإنسانياً مع أخواله ومثوى أمه وأبيه، ولكنه كان أيضاً عملياً وسياسياً جداً، فبالإضافة إلى كون المدينة منافساً طبيعياً لمكة بين حواضر الحجاز الرئيسية، فقد كانت تعانى من مشاكلها الخاصة أيضا، حيث كان الأوس والخزرج القبيلتان العربيتان الرئيسيتان فيها فى حالة صراع مع بعضهما البعض أحياناً، ومع شركائهم اليهود سكان يثرب أحياناً أخرى، وكان من شأن القبول بشخص محمد القوى كمحلف بينهما، أن يزيل أسباب التوتر بين القبيلتين، كما كان القبول بأصحابه التجار الأغنياء بأموالهم وخبراتهم وإتصالاتهم، أن يزيد من مركز العرب فى مواجهة اليهود المسيطرين على يثرب من جهة، وأن يزيد من مركز يثرب فى منافسة مكة من جهة أخرى، أما ماكان يحتاجه محمد وأصحابه، فقد كان مزيد من الأنصار، وملاذ آمن وموطئ قدم يمكنهم من خلاله، أن يبدأوا حربهم الطويلة من أجل توحيد العرب. بدت المصالح مشتركة والصفقة مثالية، ولذ فقد تمت بهدوء وكللت بنجاح خلال السنوات الثلاث الأخيرة من عمر الدعوة فى مكة، ففى حدود العام العاشر، إلتقى محمد بحوالى ستة نفر من حجيج الخزرج وعرض عليهم دعوته، وفى العام التالى مباشرة إلتقى بنحو إثنى عشر منهم ومعهم بعض من الأوس، وتعاهدوا على الحلف فيما عرف بإسم بيعة العقبة الأولى أوبيعة النساء، لإنه كان عهد أدبى لايتضمن العهد على القتال، وفى هذه المرة أرسل معهم أحد رجاله المقربين، وهو مصعب بن عمير ليقرأ عليهم القرآن، ويعلمهم مبادئ الإسلام، ونجح مصعب فى مهمته ودخل كثير من سكان يثرب فى دين محمد، وعادوا فى العام التالى، وهم نحو سبعين رجل وإمرأتين، وتعاهدوا معه هذه المرة على بيعة الحرب، التى عرفت بإسم بيعة العقبة الثانية، والتى خرج على أثرها أتباع محمد تباعاً إلى يثرب - التى أصبحت تعرف بإسم المدينة المنورة بعد هجرته إليها- وسرعان مالحق بهم محمد مع صاحبه أبى بكر، ليبدأ الجزء الحاسم من دعوته، والتى كشف فيها الإسلام عن وجهه السياسى كشفا صريحاً واضحاً، حيث أعلن محمد الحرب على مكة وعلى العرب وربما على العالم كله بقوله (وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله)وليتحول بذلك الدين إلى دولة والنبى إلى ملك.
إن قصة محمد فى المدينة، وإذا مانحينا العاطفة الدينية والقناعات الموروثة جانبا، سوف تكشف عن وجه ملك قاسى القلب من ملوك العصور القديمة، ففى خلال شهور قليلة بنى فيها مسجده ومساكنه ووضع فيها دستوره - المختلف عليه - والذى لم يلتزم به فى كل الأحوال، فقد ظلت قريش طبقة متميزة عن أهل المدينة، كما كان التهجيروالإبادة نصيب الحلفاء اليهود - وبنى فيها بزوجته الطفلة عائشة، والتى أصبحت المرأة المفضلة لديه بعد وفاة خديجة، وهو أمر مبالغ فيه أيضا، حيث أصبح له بعد كل معركة حربية إنتصر فيها إمرأة جديدة، والتى غالباً ما كانت إبنة أو زوجة سيد القوم المهزومين، وذلك على عادة المنتصر فى العصور القديمة، وحتى بشكل أقسى مما كان معروفاً فى تلك العصور، فبينما كان اليهود الذى تعلم منهم الدين، يمنحون السبية شهراً كاملاً تنسى فيه أهلها المقتولين، لم يكن محمد يمنحها حتى لحظة واحدة، وهكذا أصبح السيف والقرآن والجهاد المزعوم هى الحقائق الوحيدة الثابتة فى حياة محمد فى المدينة .
بدأ محمد معاركه فى المدينة بإرسال ثلاث سرايا حربية على التوالى بقيادة عمه حمزه وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وسعدبن أبى وقاص، وكانت كلها لإعتراض قوافل قريش التجارية، وهو الهدف الذى ركز عليه فى البداية، إرباك تجارة قريش، مركز قوتها السياسية والاقتصادية تمهيداً للقضاء عليها، فأرسل حمزة إلى منطقة سيف البحر، وأرسل عبيدة إلى منطقة بطن راغب، وأرسل سعد إلى منطقة الخرار، ثم كانت السرية الرابعة هى سرية نخلة الشهيرة، التى قتل فيها قائدها عبدالله بن جحش ورجاله رجلين من قريش فى شهر رجب المحرم فيه القتال، وعادوا معهم بأسيرين وبغنائم القافلة الصغيرة، مما أوقع محمد فى حرج شديد بين العرب، إذ إنتهك حرمة أشهرهم الحرم وهى السنة التى وضعها أجداده أنفسهم بتحريم القتال فى أربعة أشهر محددة، يستطيع الناس فيها قضاء حوائجهم فى سلام ، لكنه فى النهاية عفى عن عبدالله بن جحش ورجاله، وقبض الأسيرين والغنائم، وإستن منذ ذلك اليوم عادة أخذ خمس الغنائم، على عادة ملوك العالم القديم، وكان القرآن حاضراً طوع بنانه كالعادة ، يبرر به ماشاء وينفى به ماشاء، فقال الآيات الشهيرة(ويسألونك عن الشهر الحرام، قتال فيه، قل قتال فيه كثير، إلى آخر الآيات).
وبعد حادثة نخلة مباشرة ضرب محمد ضربته الكبرى حيث ترصد قافلة كبيرة لقريش آتية من الشام بقيادة أبى سفيان، فأسرع بإعتراضها بهدف الإستيلاء عليها، وعندما علمت القافلة بذلك أرسلت إلى قريش تستنجد بها، بينما سلك بها أبى سفيان طريق آخر، وتمكن من الهرب من عيون محمد، لكن قريش وبعد أن أرسلت جيشاً كبير يربوا على الألف، رفضت العودة إلا بعد تأديب محمد ورجاله، فإلتقت بهم على ماء يسمى بدر، لكن محمد وأصحابه المدنيين إستطاعوا إيقاع هزيمة كبيرة بهم، قتل فيها صناديدهم وأشرافهم، شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة وإبنه الوليد، وأبى جهل الحكم بن هشام، والبخترى بن هشام، الذى كان قد توسط فى فك حصار الشعب عن محمد و بنى عبدالمطلب، وغيرهم من أشراف قريش، وكان جيش محمد قد إستطاع السيطرة على ماء بدر قبل قريش، كما كان لحماسة رجاله ورغبتهم فى الغنينمة أثر كبيرفى هزيمة قريش المنهكة، وهى الرغبة التى بدت فى تصارعهم الواضح على الغنيمة بعد المعركة بين من قاتل قتال مباشر، وبين من كان يحرس محمد فى عريشه، ذلك التصارع الذى تدخل خالق الكون - كالعادة- وحسمه بإنزال سورة الأنفال(ويسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لله والرسول،فإتقوا الله وإصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين - إلى آخر الآيات) وهكذا وكأن الله لم يعد لديه شاغل سوى تسوية منازعات هؤلاء الهمج، وكالعادة فقد فسر محمد ذلك الإنتصار بالملائكة التى أرسلها الله من السماء لتعينه على قتل المشركين، وليس بعناصر والقوة والتفوق التى توفرت له على أعدائه، تلك الملائكة التى سرعان ماستتخلى عنه فى معركته التالية مباشرة مع قريش، معركة أحد.
مضى محمد من بدر مباشرة ليقوم بالإجلاء اللاإنسانى ليهود بنى قينقاع عن المدينة، وكان يريد قتلهم بسبب رفضهم الدخول فى الإسلام ، وذلك لولا تدخل حليفهم عبدالله بى أبى بن سلول الخزرجى، ذلك الرجل المظلوم فى تاريخ المنتصر، والذى توصل معه - وبشق الأنفس - إلى إتفاق يقضى بإجلائهم ومصادرة أموالهم بدلاً من قتلهم. وهكذا توج محمد سنته الثانية فى المدينة بإنتصار ساحق على أعدائه، من العرب واليهود، ومضى قدماً فى مخططه بإخضاع العرب، وإجلاء اليهود عن الحجاز بعد أن رفضوا الإعتراف بنبوته أو بزعامته على شعب إبراهيم، فبدأ عامه الثالث بغزوتين ناجحتين أخريتين، فى ذى أمر وذى القردة، وبعمليتى إغتيال ناجحتين لقيادتين من كبار قادة اليهود، هما كعب بن الأشرف وأبو رافع اليهودى، لكنه سرعان ما واجه إنتكاسة كبرى لم تكن فى الحسبان فى موقعة أحد الشهيرة.
كانت موقعة أحد رداً على هزيمة بدر، فقد خصصت قريش أموال قافلة أبى سفيان للإنتقام من محمد والثأر لأشرافها، فحشدت نحو ثلاثة آلاف مقاتل، وتوجهت لمحاصرته فى المدينة، وهنا تخلى الوحى عن محمد، وإستجاب خطأً لإلحاح الشباب بالخروج للقتال، ورفض الإستجابة لنصيحة عبدالله بن أبى بالتحصن بأسوارالمدينة ومقاومة قريش من داخلها، وقال( ماكان لنبى أن يلبس لامته - أى يتجهز للقتال- ثم يتراجع عن الحرب) وخرج للقاء قريش فى بطن جبل أحد على رأس حوالى ألف من مقاتلى المدينة، إنسحب منهم عبدالله بن أبى، الذى أصر على موقفه، بنحو ثلاثمائة مقاتل، فكانت الهزيمة الساحقة، ثلث قتلى، منهم بعض كبار قادته، عمه حمزة وعبدالله بن جحش ومصعب بن عمير، وثلث جرحى، وثلث منهزم، كما أصيب هو نفسه وكاد أن يقتل فى المعركة، ولاشك أن تلك كانت أصعب اللحظات فى حياته السياسية كلها، وقد لونت سنته الثالثة فى المدينة بحزن كبير، وخاصة على مقتل عمه حمزة، والتمثيل بجثته على يد هند بنت عتبة بن ربيعة، الذى قتله حمزة يوم بدر، ومع ذلك فقد تماسك بعزم الجبارين، وظل قرآنه يسخر من عبدالله بن أبى ويصفه بالمنافق الذى قال(أيعصينى ويطبع الولدان)، ولم تكن تلك الهزيمة هى نهاية الهزائم، فقد بدأ عامه الرابع بمعركتين خاسرتين أخريتين، قتل فيها رجاله غدراً فى الرجيع وبئر معونة، لكنه إستعاض عن ذلك بإجلاء بنى النضير اليهود عن المدينة والإستيلاء على أموالهم، وذلك بحجة رفضهم المشاركة فى دفع دية قتيلين قتلهما رجاله خطأ، وفشلت محاولة عبدالله بن أبى تكوين حلف ضده من بعض الخزرج وبنى النضير وأشقائهم بنى قريظة، فقد تمسك كعب بن أسد، سيد قريظة بعهده مع محمد، وهو قرار سوف يكلفه حياته وحياة قومه فى المستقبل القريب. وهكذا وبرغم الهزائم القاسية الأخيرة، فقد بدا وكأن الأمور مازلت تسير فى طريقها المرسوم، فإذا كان قد عانى بعض الهزائم القاسية على يد قريش وحلفائها، فإن مخططه فى إجلاء اليهود عن جزيرة العرب كان مازال يسير فى طريقه المرسوم.
وفى السنة الخامسة من وجوده فى المدينة، واجه محمد أكبر تحدى قامت به قريش وحلفائها من العرب وبنى النضير اليهود للقضاء على حركته الدينية السياسية، فقد حشدت قريش نحو عشرة آلاف من جيوش العرب واليهود، وحاصرت المدينة فى وقعة الأحزاب الشهيرة، والتى عرفت فى التاريخ بإسم وقعة الخندق، حيث إستجاب خلالها لنصيحة أصحابه ولم يغامر بالخروج للقاء قريش مرة أخرى، وقام بحفر خندق حول المدينة وإتخذ موقفاً دفاعياً، مكنه فى النهاية من تحقيق الإنتصار على قريش وحلفائها،إذ تمكن بالخديعة من بث الفرقة بينهم وبين بنى قريظة الذين - وكما يقول تاريخ المنتصر- خانوا عهد محمد وتحالفوا مع الغزاة، ولو أنه لم يذكر كيف خانوه ولاماهى العمليات العسكرية التى قاموا بها فى ظهر جيشه، والتى بررت إتهامهم بالخيانة، فبعد حوالى شهر من الحصار المرهق والمحاولات الفاشلة التى قام بها فرسان قريش بقيادة خالد بن الوليد لعبور الخندق، هبت ريح عاتية بددت معسكرقريش وأجبرتها على الرحيل بعد حصار طويل خارت فيه نفوس المحاصرين من أهل المدينة حتى قال بعضهم ساخراً(كان محمد يعدنا بكنوز كسرى وقيصر، ونحن لانملك أن نذهب إلى الغائط - أى لانستطيع الخروج لقضاء حاجتنا)وهو القول الذى أكده القرآن حين رد على هؤلاء المرجفين بآياته التى تقول( وإذ يقول المنافقون، والذين فى قلوبهم مرض، ماوعدنا الله ورسوله إلا زوراً) وكأنه بذلك قد أكد أن وعد محمد لم يكن فى النهاية سوى كنوز كسرى وقيصر.
وحين رحلت قريش أدرك محمد أن تلك كانت آخر محاولاتها، وأن إنتصاره أصبح وشيكأً، وقال فى إحساس واضح بالقوة (اليوم نغزوهم ولايغزونا) وكان من شأن إحساس القوة هذا أن يجعل من بنى قريظة الهدف التالى مباشرة، ولكن بلارحمة هذه المرة، فبمجرد أن رحلت قريش صاح فى أهل المدينة (لايصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة)، فزحف جيشه وأصحابه على حصونهم، وحاصروهم لنحو شهر حتى نزلوا على حكمه، فحكم فيهم حليفهم سعد بن معاذ سيد الأوس، وكأنه يريد أن يتبرأ من تهمة إبادتهم الوشيكة، فقد كان يعرف رأى سعد بن معاذ فى حكم الأسرى، فهو الذى كان يريد قتل أسرى بدر بدلاً من قبول إستسلامهم، وهو الذى أيد القرآن موقفه بآياته(ماكان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض)، وبالفعل حكم فيهم سعد بن معاذ الدموى بالقتل وبسبى النساء والأطفال ومصادرة الأموال، ولم يكن منصفاً لحلفائه مثل عبدالله بن أبى، ذلك المنافق الإنسان، الذى أنصف حلفائه من بنى قينقاع، فشحنوا جميعاً فى مكان واحد موثقة أيديهم، وحفرت لهم خنادق فى سوق المدينة، ثم حملوا إلى هناك على دفعات لتضرب أعناقهم صبراً، فى واحدة من أبشع مذابح العالم القديم.
واصل محمد فى عامه السادس عملياته العسكرية، فقام بثلاث حملات رئيسية فى لحيان وذى القرد وبنى المصطلق، وهى الغزوة الشهيرة التى تزوج فيها جويرية بنت الحارث إبنة الحارث بن أبى ضرار زعيم بنى المصطلق، بعد مقتل زوجها فى المعركة، ثم مضى ليحقق قوله فى قريش يوم إنتصارالأحزاب(اليوم نغزوهم ولايغزونا)، فخرج فى إستعراض قوة فى نحو ألف وأربعمائة مقاتل من أهل المدينة، يريد دخول مكة وأداء العمرة، لكن قريش رفضت أن يشاع عنها بين العرب أن محمد قد إقتحمها بالقوة، فرفضت السماح له بالدخول، وجرت بينهم مفاوضات عرفت فى التاريخ بإسم صلح الحديبية، حيث كان يعسكر جيشه حول مكة، إتفق فيها على عشر سنوات من الهدنة، وعلى أن ينصرف هو ورجاله عامه ذاك ويعود لأداء العمرة فى العام التالى، وبرغم معارضة كثير من قادته لهذا الإتفاق وإصرارهم على دخول مكة بالقوة فقد قبله، حيث وجد فيه فرصة للتفرغ لإخضاع باقى القبائل، وبالفعل فقد أخذ بعد ذلك فى تكثيف حملاته العسكرية داخل الجزيرة العربية، فى كل إتجاه، من أجل إخضاع مزيد من قبائل العرب لسلطة دولته الناشئة فى المدينة، حتى زاد عدد الحملات التى قادها زيد بن حارثة وحده عن سبع حملات، منها حملة بنى فزارة الشهيرة، التى قتل فيها العجوز أم قرافة، بربط رجليها بين بعيرين، ثم بدأ فى توجيه رسائله التهديدية المختومة بعبارة (إسلم تسلم) إلى حكام الدول والممالك الواقعة على أطراف الجزيرة العربية، فراسل كسرى وقيصر والنجاشى وقيرس حاكم مصر، وملوك الحيرة وغسان واليمن وعمان والبحرين، فى إحساس واضح بالقوة واليقين من تحقق وعده القريب بكنوز كسرى وقيصر.
كانت السنة السابعة هى سنة اليهود، ففى هذه السنة، وبدون الحاجة إلى أى مبررات، واصل محمد إجلاء اليهود عن كل الجزيرة العربية، فغزاهم فى مراكزهم الرئيسية فى شمال الحجاز، فى خيبر ووادى القرى وفدك وتيماء، حيث أجلاهم وإستولى على أموالهم، وكالعادة، تزوج من إبنة القائد المهزوم، فتزوج من صفية بنت حى بن أخطب، زعيم بنى النضير، بعد تعذيب زوجها كنانة بن الربيع حتى الموت، لإقراره على الأموال.
وبعد الإنتهاء من إجلاء اليهود عن جزيرة العرب، بدأ محمد محاولته الأولى فى جس نبض الدولة البيزنطية بجنوب الشام، فأرسل قائده زيد بن حارثة على رأس نحو ثلاثة آلاف مقاتل إلى منطقة البلقاء بجنوب الشام، حيث إلتقى فى موقع قرية مؤته بجيش من الرومان وحلفائهم من قبائل العرب، لكن المغامرة إنتهت بهزيمة كبيرة ومقتل زيد بن حارثة ومن توليا القيادة بعده، جعفر بن أبى طالب وعبدالله بن رواحة، وفى هذه المعركة أدرك محمد قدرات خالد بن الوليد العسكرية، وقد كان قد قدم عليه مسلما فى المدينة هو وعمرو بن العاص فى تلك السنة، إذ تمكن خالد من الإنسحاب ببقايا الجيش فى سلام، فأطلق عليه لقب سيف الله المسلول، وإعتبره أحد قواده الرئيسيين، بعد أن كان من أشد خصومة عداوة، وعفى عن كل ماضيه، كما سيعفو عن جرائمه وتجاوزاته المستقبلية أيضاً.
لم تفل هذه الهزيمة من عزم محمد، فإنتهز أول فرصة سنحت له لنقض الهدنة مع قريش، وذلك عندما لجأ إليه حلفائه من خزاعة، لمساعدتهم فى الإنتقام من عدوان قبائل بكر، حلفاء، قريش. كان ذلك سبباً كافياً ليجعله يحشد عشرة آلاف من مقاتلى المدينة وقبائل العرب، يتبعهم مزيد من قبائل الأعراب الغير مسماة، الجندى مجهول فى حروبه وسبب معظم إنتصاراته، وقد صدقت وعده يكنوز كسرى وقيصر فتبعته فى كل حروبه طمعاً فى الغنينة. حاولت قريش إصلاح الخطأ ومد الهدنة ولكن بلاجدوى، فقد كان الوقت قد حان لغزوها وضمها إلى دولة المدينة، وإخضاع الحجاز كله بعدها، وقد عبر عن ذلك مبتهجاً فى قرآنه بقوله( إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك وإستغفره، إنه كان تواباً). حاصر محمد مكة وأرسل سراياه من عدة جهات، وكان على رأس إحدى هذه السرايا خالد بن الوليد، عدوالأمس وحليف اليوم، وهنا إرتكب خالد أولى جرائمه، فقتل بعض أسرى قبيلة جذيمة، حليفة قريش، رغم إعلانهم الإسلام ، لكن محمد عفى عنه، ولن تكون هذه الجريمة الأولى ولا الأخيرة لخالد بن الوليد، القائد الشهير فى التاريخ الإسلامى، والذى يتعلم أبناء المسلمين نموذج البطولة من سيرته، التى يدرسونها فى مدارسهم منذ نعومة أظفارهم.
وكذلك كان سعد بن عبادة، سيد الخزرج، على رأس سرية أخرى، ولكن عندما علم محمد أنه صاح وهو يدخل مكة( اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة) عزله عن القيادة، خشية على قومه منه، فقد كانت قسوة قلبه تعمل مع الغرباء فقط، أما أهله المكيين، وخاصة بنى هاشم، وعمه العباس، الذين نهى أتباعه عن قتلهم يوم بدر، فقد كان يميزهم عن جميع العرب، وقد إدخرهم للغد، وعندما خرج أبو سفيان زعيم قريش الأموى، وعدوه الأكبر، يفاوضه فى شروط التسليم، طلب تشريفه بشئ خاص، فأعلن محمد شروط الإستسلام( من إحتمى بالكعبة فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن) وهكذا منح أعدائه الأموين شرفاً عظيما، وذلك فى ذكاء وحكمة سرعان ما سيثبت التاريخ عدم جدواهما، حيث سينقلبون على أهله فى المدينة ويذبحونهم فى وقعة الحرة ذبح الأغنام، فى مستقبل قريب، ليس مفهوماً كيف غاب عن أعين النبى قارئ الغيب.
وهكذا دخل محمد مكة، وعفى عن أهلها، وقال لهم (إذهبوا فأنتم الطلقاء)، ولم يقتل منهم سوى عشرة نفر، ستة رجال وأربعة نساء، كان يكن لهم كراهية خاصة، ولم يكن هناك من يشفع لهم عنده، أما الأشراف فقد عفى عنهم، حتى عبدالله بن سعد كاتب الوحى السابق، والذى إرتد عن الإسلام وسخر منه وأشاع بين العرب أن محمد لايعرف ماذا يقول، فقد عفى عنه بواسطة عثمان بن عفان أخيه فى الرضاعة، وذلك دون أن يدرك، وللمرة الثانية، أن هذا الرجل بالتحديد، سوف يكون من أسوء النماذج التى ستفرزها دولته، ومن أسباب الفتنة الكبرى التى ستنشأ بين قومه المسلمين فى المستقبل القريب. كما عفى عن فرسان قريش، عكرمة بن أبى جهل وصفوان بن أميه، وكانا قد هربا إلى سواحل البحر الأحمر كراهية فى الخضوع له، ولم يرجع صفوان إلا عندما قال له عمير بن وهب، الذى أرسلته قريش لإقناعه بالعودة، كلمات ذات دلالة خطيرة(إبن عمتك، عزه عزك، شرفه شرفك، وملكه ملكك) فهكذا فهمت قريش رسالة محمد فى نهاية الأمر، رسالة ملك وليست رسالة دين، وعندما تذوقت طعم الملك الذى جلبه لها لم تتخلى أبداً عنه بعد ذلك، فعندما إنتفضت جزيرة العرب كلها على دولته بعد وفاته، وقفت مكة ومدن الحجاز كلها صفاً واحداً وأخضعتهم بالسيف بلارحمة، ليس إيماناً بدين محمد، ولكن إيماناً بالملك الذى جلبه لهم على العرب، بل وعلى العالم كله. وهكذا عاد صفوان وعاد عكرمة بن أبى جهل وأصبحا من أكبر قادة جيوش محمد، وأخرج صفوان خزائن سلاحه وساهم فى غزو الطائف مساهمة كبيرة، كما لعب عكرمة دوراً كبيراً فى حروب الردة بعد ذلك.
قضى محمد خمسة عشر يوما فى مكة ومنها إنطلق مع جيشه ومعه نحو ألفين من المكيين وهزم قبيلة هوازن فى حنين وغنم أموالها، لكنه أعتق سبيها نظراً لقرابتهم من قريش، ومن هناك تقدم لحصار قبيلة ثقيف فى الطائف، لكنه لم يستمر هناك طويلاً، إذ رحل إلى المدينة وترك جزء من الجيش على حصارها، وقبل العودة قام بتوزيع غنائم حنين على رجاله، فخص المكيين وأشرافهم بالنصيب الأعظم منها، وخاصة أبى سفيان وإبنه معاوية، وعمه العباس، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية، وغيرهم، بحجة تأليف قلوبهم وتحبيبهم إلى الإسلام، مما أثار غضب جنود المدينة لدرجة جعلتهم يحيطون به ويجذبونه من ردائه طلبا لحقهم من الغنيمة، لكنه كالعادة، بقوة شخصيتهوبوحيه الإلهى الجاهز دوما، تمكن من إقناعهم بأن ماقام به هو عمل ضرورى من أجل تأليف قلوب هؤلاء قريبى العهد بالإسلام، ثم عاد إلى المدينة حيث قدم عليه وفد ثقيف بعد فترة قصيرة معلنا الخضوع والدخول فى الإسلام، وكان سيدهم مالك بن عوف قد أعلن إسلامه قبل وصول الوفد، كما كان محمد قد إعتبره من المؤلفة قلوبهم ومنحه مائة بعير، وقد إنتهز محمد فرصة خضوع ثقيف لمداهنة غرمائه الأمويين مرة أخرى، فقام بإرسال كبيرهم أبى سفيان إلى الطائف لهدم أصنامها.
وبعد غزو الطائف إستراح محمد أشهراً قليلة، ثم قام فى السنة التاسعة ، بالتوجه على رأس جيش كبير قاده بنفسه لغزو المناطق الجنوبية من بلاد الشام مرة أخرى، وذلك فيما عرف بإسم غزوة تبوك، ورغم أن تلك الغزوة كانت إنتقاما لهزيمة مؤته، فقد كانت ضمن المخطط المرسوم بغزو أراضى الدولتين الفارسية والبيزنطية وتحقيق الوعد بكنوز كسرى وقيصر، لكنه لم يلتقى فيها بأى جيوش رومانية وإكتفى بإخضاع بعض القبائل العربية الحليفة لهم القاطنة على تخوم الشام، وعاد فى موكب نصر مهيب جعل مزيد من قبائل العرب تتوافد عليه فى المدينة معلنة خضوعها وإسلامها، وفى تلك السنة أرسل بيانه الشهير إلى العرب المتضمن فى سورة براءة أو سورة التوبة( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فسيحوا فى الأرض أربعة أشهر، وإعلموا أنكم غير معجزى الله، وأن الله مخزى الكافرين- إلى آخر الآيات)، وذلك فى موسم الحج الذى ترأسه أبو بكر، وأمر على إبن أبى طالب بتلاوة البيان نيابة عنه، حيث أعطى قبائل العرب مهلة أربعة أشهر للدخول فى الإسلام أو مواجهة الحرب، وهكذا فقد أرسى مبدأ القهر فى العقيدة بحكم قرآنى صريح ولم يعد هناك مفر أمام باقى القبائل التى لم تكن قد أعلنت خضوعها بعد سوى إعلان الخضوع ، فتوافدت عليه فى المدينة، من كل مكان فى الجزيرة العربية، معلنة خضوعها وإسلامها، كان العام العاشر والأخير فى حياة محمد فى المدينة هو عام الوفود، وإنتصاردعوته لتوحيد العرب فى دولة واحدة والتمهيد لتحقيق الوعد بكنوز كسرى وقيصر، وفى ذلك العام العاشر قام بحجته الأخيرة، والتى عرفت بإسم حجة الوداع، والتى ألقى فيها على الحجيج فى عرفة خطبة الجبل الخاصة به، والتى لخص فيها رسالته إليهم ، وذلك فى سورة المائدة التى قال فيها(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى، ورضيت لكم الإسلام ديناً)، وبمجرد عودته إلى المدينة مرض مرضه الذى مات به فى أوائل العام الحادى عشر، وكانت قبائل العرب وبمجرد أن علمت بمرضه قد بدأت بالتمرد والإنتفاض، لكنها وبمجرد أن تأكد نبأ وفاته، أعلنت ذلك التمرد صريحاً قاطعاً، فخرج مسيلمة فى بنى حنيفة باليمامة فى شرق نجد وأعلن النبوة بدوره ،كما خرج طليحة الأسدى فى بنى أسد وتبعتهم معظم قبائل نجد البدوية، كما كان الأسود العنسى قد خرج باليمن، وبدا أن كل الجهود التى بذلها محمد فى توحيد القبائل العربية تتلاشى، وأن دولته تنهار، ولكن خلفائه الأقوياء، أبو بكر وعمر، وبمساعدة قبائل الحجاز، تمكنوا من قمع تمرد القبائل العربية بمنتهى القسوة، وذلك فى الحروب التى عرفت فى التاريخ بإسم حروب الردة، وسرعان ماتماسكت دولة محمد من جديد، وبدأت رحلة تحقيق الوعد الذى لم يستطع إنجازه لهم فى حياته، وشرع خلفائه، فى تحقيقه نيابة عنه، وإكتساح أراضى الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية ونهبها والإستقرار بها، ليخلفوا لنا ذلك الحزام الأسود الذى يعانى منه العالم اليوم، حزام الإسلام، والممتد من أفغانستان حتى حدود المغرب.

أهم المراجع :
1-تاريخ الرسل والملوك – الطبرى - مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر- بيروت
2-تاريخ الدولة العربية - د. السيدعبدالعزيز سالم- دار النهضة العربية - بيروت
3-العرب فى العصور القديمة - د.لطفى عبدالوهاب يحيى- دار النهضة العربية - بيروت
4-صدر الإسلام والدولة الأموية - د. محمد عبدالحى شعبان - الأهلية للنشر والتوزيع - بيروت
5-الكتاب المقدس- طبعة إنجليزية - الجيديون العالمية - سنغافورة.



#عبدالجواد_سيد (هاشتاغ)       Abdelgawad_Sayed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صلاح الدين بين السنة والشيعة
- أنور السادات وسيد قطب ودستور الإرهاب المصرى
- هيكل بين سيد قطب وطه حسين
- الميراث الإبراهيمى وأغلال المرأة


المزيد.....




- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...
- الرئاسة الفلسطينية تحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية أي اقتحام ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: وعود كييف بعدم استخدام صواريخ ATAC ...
- بعد جولة على الكورنيش.. ملك مصر السابق فؤاد الثاني يزور مقهى ...
- كوريا الشمالية: العقوبات الأمريكية تحولت إلى حبل المشنقة حول ...
- واشنطن تطالب إسرائيل بـ-إجابات- بشأن -المقابر الجماعية- في غ ...
- البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالجواد سيد - محمد والقبائل والرسالة المزعومة