أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - وليد جمعة : كان يشرب من دمه كأنه النبيذ!















المزيد.....



وليد جمعة : كان يشرب من دمه كأنه النبيذ!


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 5132 - 2016 / 4 / 13 - 20:57
المحور: الادب والفن
    




راجياً من كوابيسه
أن تجيء على مهلٍ
حيث أحلامه الشاحبة
شاحبة
وصحوته الكاذبة:
"ثراء في التفاصيل وفقر النوايا"
لقد كان حلماً عجيباً
فلا مسلك الضيف كان غريباً
ولا رهبة الموت رهبة
كان هذا ما كتبه وليد جمعة في استقبال موته المبجّل وقبل نحو عقدين من الزمان، وقد استعادته عالية ممدوح في محاورة لها مع عبد الأمير الركابي عن وليد جمعة نشرتها في جريدة الرياض قبل نحو عقد من الزمان على ما أتذكر. ولعلّ أكثر من صديق ومحب ومتابع لوليد جمعة كان قد توقّع ما ينتظره وليد جمعة بسبب مرض السلّ الذي أخذ يأكل جسده ويهدّم ما تبقى منه، ومع ذلك كلّه، فللموت رنين خاص حين يحضر ووقع لا يساويه شيء، ولقانونه مهابة وجلالاً وخشوعاً!!
ما زلت كلّما غاب صديق أتوجّع. أنظر إلى الجانب الآخر من الحياة الذي بمقدوره التعويض وإنْ لحين، لأن الموت يغيّر كلّ شيء، ولعلّي أقدّم الموت على الحب الذي هو الآخر يغيّر كل شيء، لأن الأول يضع نهاية، أما الحب فهو بداية، وهو ما قدّمه جبران خليل جبران على الموت. وأقول حين أسترجع الماضي، ما أكثر الناس، ولكن ما أندر الأصدقاء. إنهم يغيبون، هكذا فجأة تباعاً وعلى نحو سريع، لا يعطوننا وقتاً لكي نستوعب ما حصل ونتحمّل الصدمة، التي ما نكاد أن نخرج منها ولو مؤقتاً، حتى تداهمنا صدمات أخرى، وهكذا تنتج الصدمة صدمات، وتولد صدمة في بطن أخرى.
في معادلات كيمياوية سحرية تضع الحياة في طريقك صديقاً، دون سواه أو أصدقاء دون غيرهم، لا يغيّرها أحياناً تقلّبات الزمن ولا الخيبات والمرارات، ولا الصواعق وتبدّلات الأمزجة، ولا المرجعيات والمغامرات، ولا الكتابة والعمر. كثيرون يختفون من ذاكرتك ومن حياتك، لكن بعضهم يظلّ يمسك بك، وتمسك به مثلما تنجذب إليه حواسك، حتى وإنْ لم يكن صديقك المقرّب. وكان وليد جمعة من هذا النموذج الآسر، على الرغم من التباعد أحياناً.
العذاب النبيل
كان مرض السلّ يتقدّم، فيأكل جسد وليد جمعة، وهو الذي لا يخجل من ارتداء حزنه الجميل، واعتمار تعبه المرهق وتلفّح عذابه النبيل. كان يحاول أن يخفيه أحياناً وراء مزاح يمتزج فيه السخرية بالبكاء، فتتلوّن فيه الدعابة بالسواد، ثم يمطرنا بسيل من الشتائم المقذعة، وحين تصلنا تقترب من الورد الذي ينثره علينا، لأن ما كان يكتبه ويقوله وما يعبّر عنه من مرارات وعذابات، صميمياً وصادقاً، سواء أصاب في تقديره أو بالغ فيه أو أخطأ.
سألني مرّة هل قرأت الشاعر الحاج زاير: قلت له، كيف لا أقرأه وهو " بلدّياتي" كما يقال. قال أكمل : نحل جسمي أو تظِلْ روحي تعالي، فأكملت :
نحل جسمي أو تظِلْ روحي تعالي
هبطنه والنذل بها تعالي
يجاره الدهر ما أنصف تعالي
نخلط إهمومنه وانكعد سوية
قال لي أتعرف كيف نظم الحاج زاير هذه القصيدة، قلت له كلاّ، قال وبعد أن نظر إليّ بابتسامة لا تخلو من مكر : إنه يتهجّس شعر أبو فراس الحمداني، ثم أسمعني :
أقول وقد ناحت بقربي حمامة
أيا جارة لو تعلمني بحالي
أيا جارة ما أنصف الدهر بيننا
تعالي أقاسمك الهموم تعالي
ثم جاء على ما يعرف بالتناص أو القراءة الثانية:
صاحب أخا ثقة تحظى بصحبته
فالطبع مكتسب من كل مصحوب
كالريح آخذة مما تمرّ به
نتناً من النتن أو طيباً من الطيب
فماذا قال الحاج زاير بالموّال:
يا صاح جرح الكَلب ما يوس من طيبة
والّي يودّه الكَلب هيهات منطي به
إحظه بصحيب الذي ينطيك من طيبه
والناس جالريح لو مرّ الهوه يندبك
ريح النتن من نتن والطيب من طيبة.
مقهى المعقّدين: الأعدقاء " الأنبياء"
حين سمع الفنان والناقد عمران القيسي بوفاة وليد جمعة، بكى، بل انتحب مثل طفل، فاض بمشاعره ودموعه التي كانت تنزل على خدّه بغزارة.. تذكّر وليد جمعة ومنعم حسن، "منعم العظيم"، كيف كانا غاضبين من قول الشاعر اليوناني كفافيس، وهو من أصل اسكندراني حين قال : وما دمت قد خرّبت حياتك في هذا الركن من العالم، فهي خرابٌ أينما حللت.
واستعدتُ مع القيسي أجواء المقاهي البغدادية وروّادها من الشباب صحافيين وكتّاب وشعراء وطلبة وسياسيين غاضبين ومنهم من فارق العمل السياسي، من الشيوعيين والبعثيين، وغيرهم استذكر عمران القيسي كيف كان سهيل سامي نادر " العبقري الصامت" يتطلّع إلى أصابع عبد الرحمن طهمازي، وهي تصرّ على التقاط تلك الشعرة المعاندة من ذقنه. كان طهمازي الشاعر وخريج كلية الآداب، قد دخل التجربة لاحقاً في قصر النهاية وكتب عنها قصيدة يقول في مطلعها: آه لو تبكي على نفسك يا رحمن ساعة/ أنت بعد اليوم قد ضيّعت أيام الشجاعة.
كان مقهى "شاي أبو الريحة " في الباب الشرقي أو مقهى ابراهيم المسمّى " مقهى المعقّدين" "فضاءً هائلاً، تأتيه شلّة الأعدقاء المخالفين والمختلفين ومجمّع الأضداد، "الأنبياء" من كل حدب وصوب كل حلمهم كان يمرّ عبر التمرّد ولا شيء سواه، كنت أحياناً أتردّد على مقهى المعقّدين كما يحلو للبعض تسميته مروراً إلى شارع أبو نواس في المساء، أقترب من وليد جمعة لأسمع بعض تعليقاته عن قصيدة النثر وعن آخر الأفلام وأحدث الكتب وباقة من القفشات بخصوص السياسة والسياسيين والثقافة والمثقفين، ولأول مرّة كنت قد سمعت منه عن شلّة كركوك: إنهم يعرفون الانكليزية أكثر منّا، هم تربّوا في أجواء شركات النفط والانفتاح الثقافي والمعرفي (ويقصد المدارس الأجنبية والتنوّع الديني والإثني الذي تعرفه المدينة)، لكن بغداد هي بغداد. وحين نشير إلى مجموعة كركوك فنقصد: فاضل العزاوي ومؤيد الراوي وأنور الغسّاني وجليل القيسي وسركون بولس وجان دمو. وكنت قد قرأت لبعضهم ، خصوصاً لفاضل العزاوي الذي كان اسمه معروفاً لدينا.
وبالمناسبة أود أن ألفت النظر إلى كتاب ممتع وشائق وعميق قرأته في أواخر التسعينات للعزاوي وقد استشهدتُ به عدّة مرّات وهو بعنوان:"جيل الستينات – الروح الحيّة" وفيه إطلالة مؤصلة عن جماعة كركوك ومنابع ثقافتها واختلاطها بالمجتمع البغدادي، والعزاوي شاعر وروائي، أرّخ لحركة التمرد الجديدة، الأدبية والفكرية والثقافية التي شهدتها الستينات. وهو مبادر وجريء في اختيار المفارِق وليس المألوف منذ أواسط الستينيات:
وجه البوذي على صفحات الـ Observer .
يتعيّن في نقطة أزمة
إنْ كان الواحد + واحد
يتعادل في المضمر
معنى المعنى
الاّ نصبح
كان وليد جمعة يسخر بطريقته التي لا تخلو من استفزاز من الشاعر عبد الستار الدليمي، ويعتبره شاعر نصف بدوي. والدليمي سافر إلى بلغاريا، وتزوج من امرأة هناك، ثم طلّقها، لكنه لم يطق أن يراها تجلس مع رجل آخر، قيل أنه صديقها، فقام بقتل الاثنين معاً ودخل السجن ومات فيه. وقد هاجم الدليمي حينها مجموعة عمران القيسي "الصمت لا يتعب الموتى" وتصدّى له دفاعاً عنها وليد جمعة وجليل حيدر وكان القيسي قد كتب:
معدة شحّاذ طبل من كلكتا
أكتب في أشعار الموتى
معنى المعنى
إلاّ نصبح
زرعوا رأس أبي تمثالاً للملح هنا
عفّر نهر الملح جبينه
بالقبلة جرّح سيف الفارس نصف الأفواه
فكّر إن الزمن القادم
طفل بين الطاعة والرفض
أما وليد جمعة فيقول في قصيدة له عنوانها "مرثية سمكة" تختنق تحت الجسر:
إنها تطرق الباب
تطرق باب الماء
تريد أن تتنفس
لكن ليس لديها
ما تشتري الهواء
هل أنت عراقية ومضطهدة أخرى.
ويكتب شريف الربيعي على المنوال ذاته:
وأبي يرفع بعد كل صلاة
كفيه إلى الله ويدعو
أن تنتصر الشيوعية
وأبي لم يُلحد
لكن وجدوا في إبهام
القدم اليسرى
جرح الإقطاع
السلّ الجسدي والسلّ العقلي
كان وليد جمعة بسبب إصابته بالسلّ يشعر باستمرار أن جسمه يحتاج إلى الدفء، لأن البرد شديد، ولذلك فقد كان لديه معطفاً، حين يرتديه يسمى غوغول، الذي خرجت الرواية الروسية من معطفه، وقد أهداه إلى منعم حسن، ولكن تعليقات الشاعر الصعلوك الأول عبد الأمير الحصيري ظلّت تتكرّر على الذاهب والآتي، كيف أهدى وليد جمعة معطفه إلى منعم حسن، ولربما هو معطف غوغول.
سخرية وليد جمعة من حياة البعض وصلت إلى اعتبارهم "مسلولين عقلياً" وقد وصف حياتهم بالجنائزية، لأنهم حسبما يقول: يمجّدون الموت بحجة الشهداء وينتظرون التعليمات، فهؤلاء ليسوا سوى أموات، وحتى لو كانوا أحياءً فمع مرور الأيام تموت عاطفتهم وهي أجمل ما في الإنسان. وهو ما كان يعبّر عنها بشغف مصحوب بالحرمان ومحفوف بالكثير من الألم. سخريته كانت لاذعة بوصف حياة البعض بالسواد مثل الفحم والقتامة التي هي أشبه بالحزن، ومع ذلك تراه يحتار كيف يرقص هؤلاء كأنهم دبدبة، ويقفون على قدم واحدة أو يطيرون في الهواء أو يذهبون إلى تحت الأرض، ويودعون الجمهور البائس، الغاضب، المحتار، بابتسامة أقرب إلى الشتيمة. كان وليد جمعة يعتبر هذه الشرائح من المجتمع مخدوعة، حتى وإن زعمت أنها أكثر وعياً، وهو خداع مزدوج، يرثي فيه بعضهم بعضاً، ويقرفون من دواخلهم. فمن جهة إنهم فقراء روحياً وضيّقو أفق، ومن جهة ثانية مصابون بهوس وسواسي شديد.
وكنّا نردّد أحياناً مع الجواهري الكبير بيتين من الشعر، يعيد تكرارهما على مسامعي ويطلب مني أن أقرأهما على طريقة الجواهري النجفية ولهجته ذات الإيقاع الخاص:
وتجمّع الأقطاب، يأكل بعضهم بالحقد بعضا يتفحّصـــون مشاكل الدنيـــا سمـــاوات وأرضــــا
أيعالج المرضى أطباء بذات الجنب مرضى؟ يشكو المحبة "واحدٌ" لـ " ثلاثة" يشكون بُغضا
كان يمازحني بقوله كيف لك أن تجالس بعضهم. إن واحدهم مثل إنسان آلي مبرمج، أعداؤهم صغار مثلما يتجنبون الأقوياء وينحنون لهم. ويتجاوزون على الضعفاء أو المسالمين. قلت له نحن لا نحسن اختيار العدو الصحيح؟ قال أنتم دائماً تختارون العدو الخطأ، قلت له أليس التعميم خاطئاً. فلم نكن هكذا في كل الأوقات، تضيع أحياناً بوصلتنا، لكننا سرعان ما نهتدي إليها وإلى الطريق الصحيح.
قال لديكم شعور بالذنب، قلت له لا ينبغي التعميم مرّة أخرى: قال لي لقد قتل قابيل أخاه هابيل، ولهذا بعضهم يهرب من أعين الناس التي تلاحقه؟ قلت له أتقصد من في السلطة، فقال وسلطتكم أنتم، حتى وإنْ كنتم في المعارضة. كان يأتي من بيروت إلى الشام غاضباً وناقماً، وفي الشام وبعد لقاءات وتهدئة، يبدأ يسمي نفسه "وليد المهذّب"، لكن تلك الجرعة لا تستمر سوى أيام، فيبدأ بعدها بالقصف.
كنتُ دائماً أقول إن من لا يحمّر خجلاً إزاء أي فعل شنيع من أي أتى، فهو متواطئ، والتواطؤ بالصمت هو شراكة بالفعل، لأن الحيوانات وحدها هي التي لا تحمّر وجوهها ولا تشعر بالخجل. قال أنتم تريدون بناء سفن في وسط البحر تعليقاً على حركة الأنصار الشيوعية " البيشمركة". في كردستان العراق.
قلت له إننا نطلب المستحيل دائماً ولكننا نقبل بالممكن، وبأقل منه في الكثير من الأحيان. وتلك واقعية السياسة، وقد تسمّيها تنازلاً وذيلية، ويكون الأمر صحيحاً، فيما إذا تحوّلت الستراتيجيات إلى تاكتيكات دائمة ومستمرة، حينها تضيع البوصلة، لكن الأمر لم يكن هكذا دائماً، وأحياناً ندفع ثمن ضريبة توازن القوى كما يقال وبعض أخطائنا وعدم استفادتنا من الدروس والتجارب والخسائر. ولعلّي وجدت مؤخراً في عنوان كتاب المفكر الماركسي السلوفيني سلافوي جيجك" نطلب المستحيل كي نقبل بالممكن"، ما هو يتوافق مع الفكرة، أي رفع سقف المطالب والأهداف، لنقبل أحياناً، بما هو ممكن ، فهذه براغماتية السياسة .

ستينات الصراع
تعرّفت على وليد جمعة حين كنت طالباً في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في بغداد في أواسط الستينات وزادت معرفتي به من خلال "المحامي"حسن شعبان ، لعملهما سوية كموظفين في دائرة الضمان الاجتماعي التابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وفيما بعد تعمّقت العلاقة خلال الانشطار الذي حصل في الحزب الشيوعي في 17 أيلول (سبتمبر) 1967، وأدى إلى قيام تنظيمين شيوعيين: أحدهما باسم القيادة المركزية بإدارة عزيز الحاج والثاني بقي يمثل الحزب الرسمي (اللجنة المركزية ) بإدارة عزيز محمد.
وكانت مقاهي بغداد وحاناتها وجامعاتها وبعض أزقتها وحاراتها تضجّ بحركة دؤوبة تبدأ ولا تنتهي، تناقش موضوع الانقسام ومواقف هذا وذاك، أحياناً على نحو حاد، وفي أحيان أخرى بهدف تأجيج نار الصراع والتفرّج على المتصارعين، وفي بعض المرّات يكون الهدف معرفة حقيقة ما يجري. وانتقل الانقسام إلى المنظمات المهنية، فكان حصة التنظيم الطلابي في غالبيته الساحقة إلى جانب عزيز الحاج، وبقينا بضعة أفراد نحاول أن نجدف ضد التيار الهادر.
وما ساعدنا في استعادة بعض المواقع هو إن من بيننا كانت بعض الوجوه الاجتماعية كل حسب موقعه مثل: لؤي أبو التمن وصلاح زنكنة وسعد الطائي وحميد برتو وحسن أسد وشقيقه جمال أسد ويوسف مجيد وطه صفوك وسعدي السعيد وشقيقة مهدي السعيد وفائز الصكَر وعطيّة فاضل وشقيقها عطا فاضل ورقيّة الخطيب وشقيقها حمّاد الخطيب ورابحة الناشئ وعلي العاني وسلوى السعدي وهناء بوشه وفارعة فاضل وكاظم عوفي ومحمد الأسدي وشاكر المنذري ورواء الجصاني وآخرين.
قال لي وليد جمعة تعليقاً على موقفه الذي كان قريباً منّا، أنا لست معكم، "ولكن شين التعرفة أحسن من زين الما تعرفة"، هكذا كان يختزل بعض المواقف، فالرضا غير موجود في قاموسه والنقد والسخرية كانا أدواته. وعند حدوث انقسام " المنبر" عن التيار التقليدي في الثمانينات كان يوجّه مدفعيته الثقيلة إلى الاثنين معاً ودون هوادة، وأحياناً يخفّف عن المنبر لا رحمة به، بل بسبب ما تعرّض إلى التنكيل والعقوبات والإجراءات الزجرية.
وكان عمودي الحواري الذي أكتبه في المنبر التي أشرفت على تحريرها ، بعنوان "وخزة"، إضافة إلى عمود آخر المعنون " ضوء" قد حمل بعض هواجس وليد جمعة وحواراته وانتقاداته وآخرين، وكنت أسعى من خلاله لتنشيط الحوار بالاتفاق والاختلاف، وفتح باب النقد العلني، بما فيه لبعض مواقفنا. وأقولها الآن إنني كنت أحياناً أواجه بالسؤال أو حتى النقد، لاتباعي مثل هذا الأسلوب الذي لم يكن مألوفاً أو حتى مستساغاً في صفوفنا. ومما علق بذاكرتي حوار خاص مع وليد جمعة بلورته في عمود " ضوء" بعنوان الثورة الاجتماعية والجغرافيا السياسية، وهو يتعلّق بتكرار فشلنا وأين أصبحت شعارات الثورة الاجتماعية، وعن الهوّية الوطنية للشيوعيين وتعرضها للثلم والتشويه، لاسيّما الموقف من الحرب العراقية- الإيرانية. وعن المشروع الجديد الذي قال عنه " لا زلت غير مقتنع به"، وأنتم تكرّرون أخطاء من سبقكم. واختتم تعليقه بلازمة كان يرددها: إن ينصركم الله فلا مانع لدينا.
الرحيل المبكر
فاض المدى بوليد جمعة، فلم يعد يحتمل هذا الانتظار. لم يزعم إنه يريد أن يرحل وهو على صهوة جواده، ترجّل على مهل منذ حين ومشى خطوات متقطعة، استراح قليلاً، لعق دمه كي لا يخرج من فمه، شربه كأنه نبيذ، غصّ بسعال كما هي العادة، مسح جبينه المعرورق، ونظر إلى شجرة عسى أن يجد عصفوراً على أغصانها يغرّد، وجال ببصره نحو اللّا جدوى وزمجر ببضع كلمات، لم تكن سوى احتمالات: أعيش بهذا الحزن الأسود والألم المعاند أو أموت وأترك حياة كالممات لهذا وذاك، من الذين تعرفهم، أو أن أنتحر لأضع حدّاً لكلمات الشماتة أو التآسي أو الشفقة الكاذبة.
ردّد ذلك عليّ مرّات ومرّات، كنّا بعدها ندخل في عالم العراق واللّامعقول، غريب هو هذا العراق، فيه كل المواصفات لكي يكون عراقاً يليق بالبشر وفيه كل هذه القباحات التي تحوّل الحياة إلى ممات.
قلت له مرّة الشعراء لا ينتحرون على عكس الروائيين: لاحظ كيف انتحر مشيما الروائي الياباني الشهير العام 1970 الحائز على جائزة نوبل لرفضه تخلي الامبراطور عن إلوهيته، فحسب الاعتقاد السائد إن الامبراطور نزل من الشمس وبوجوده تصبح اليابان أرضاً مقدسة. حينها دخل مشيما صاحب الروايات الشهيرة (البحار الذي لفظه البحر – الكوميدية الإنسانية ، واعترافات قناع وثلج الربيع) وأربعة من رفاقه مركز القيادة العامة لوكالة الدفاع الوطني في وسط طوكيو وصاح بصوت عال " ليحيا جلالة الإمبراطور" ثم قام بعملية انتحار على الطريقة اليابانية التقليدية للمحاربين، والتي انتهت بقطع رأسه بسيف أحد رفاقه، ومثله فعل الكاتبان اليابانيان الكبيران دازاي وكواباتا. وكان الروائي الأمريكي أرنست همنغواي هو الآخر قد انتحر في العام 1961 بطلقة نارية في رأسه، وهو حائز على جائزة نوبل أيضاً. وكانت الروائية فيرجينا فولف قد انتحرت هي الأخرى ووضعت حجراً ثقيلاً في ملابسها ورمت نفسها في النهر وتركت رسالة لزوجها تقول فيها : "سأفعل ما أراه أفضل".
قال هذه فكرة. قلت له اليابانيون لا يسمّون ذلك انتحاراً، بل يطلقون عليه الموت الإرادي. وبعدها خضنا في حوار حول الأديان السماوية (الإسلام والمسيحية واليهودية) التي تحرّم الانتحار، لأنه نكران لمشيئة الخالق، وهو وحده واهب الحياة، بل إن المسيحية لا تجيز الصلاة على من انتحر.
الموت عند اليابانيين هو قمة النقاوة... إنه التطهير الروحاني الأسمى. والموت الإرادي عند الياباني ناجم عن رؤية (فلسفة) ونفس هادئة ومطمئنة واتزان روحي.. إنه انتحار عقلي هادئ، فهو ليس ضعفاً ولا جريمة، ومن يلتجأ إليه هو الفارس الشجاع، للتكفير عن خطيئة ارتكبها ولتأكيد استقامته ونزاهته والدفاع عن شرفه الذي هو عنده أسمى من الحياة. وهو ما عدت وراجعته في كتاب للسفير اللبناني سمير شمّا بعنوان "اليابان وأمريكا ونحن" وهو كتاب جمع بين الفكر والمعرفة من جهة والأدب والثقافة من جهة أخرى.
وحسب أندريه مارلو: الموت الإرادي هو الذي ينتصر فيه الإنسان على الموت بدل أن ينتصر الموت عليه. الموت الإرادي هو " موت الموت" ، وهناك عيد في اليابان اسمه "عيد الموت" يتنادم فيه اليابانيون كل عام من يوم 2 نوفمبر (تشرين الثاني ) ويأكلون ويشربون وينشرحون بكل غبطة.
لكن الشاعر اللبناني خليل حاوي انتحر في العام 1982 احتجاجاً على الغزو الإسرائيلي للبنان، قال ذلك وليد جمعة، ثم اضاف لنزيد جبهة الشعراء المنتحرين ثم قال منتصراً: صحّح معلوماتك هناك عشرات الشعراء انتحروا: هل نسيت ابراهيم زاير الذي انتحر في العام 1971 و" الرفيق" مايكوفسكي الذي انتحر في العام 1930 والشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث التي انتحرت في العام 1963 والشاعرة الجزائرية صفية كتو التي انتحرت في أواخر الثمانينات، وهناك شعراء مصريون انتحروا منهم الشاعر الاسكندراني منير رمزي الذي انتحر في العام 1945 وكذلك الشاعر فخري أبو السعود الذي انتحر في العام 1940.
قلت له كان اكتافيو باث الشاعر المكسيكي (الحائز على جائزة نوبل في العام 1990) يتحدث عن افتتان المكسيكي بالموت، ويقول: إنه لعبته المفضلة، التي لا تنفصل عن الذات المكسيكية، بإرث هندي وإسباني.
وكان أكتافيو باث يقول " أن تموت، هو أن تعود إلى الهناك، إلى الحياة الما قبل الحياة، وربما يكون الموت هو الحياة الحقيقية" وكان وليد جمعة يردّد على طريقة "أنا أفكر إذاً أنا موجود" التي قالها ديكارت، وكأنه يريد أن يقول أنا أنتحر إذاً أنا موجود ، وليس أنا حي فأنا موجود.
اكتافيو باث هو القائل إذا خلا رأس السياسي من الشعر تحوّل إلى طاغية. كنّا كلّما نستعيد هذه المقولة، نحتسب كم من السياسيين الذين يمكن تصنيفهم وفقاً لمعادلة باث.وقد وضع اكتافيو باث معادلة تقول: قل لي كيف تموت، أقل لك من أنت .
ومن باب المعلومات وصل الانتحار في اليابان العام 2009 إلى حد 34.427 إنسان، أي قرابة 95 عملية انتحار يومياً. ومع كل زلزال كبير أو تسونامي ترافقه عمليات انتحار جماعية.

لم يزعم أنه سيموت موتاً بطولياً، كما يدعيه الكثير من الدنكيشوتيين، ولم يدر بخلده إنه سيمكث إلى هذا الحد الذي يتجاوز فيه السبعين، مع إنها تزمجر وجعاً لا طاقة على احتماله، ووحدة لا سبيل لتحمّلها، في ظل متاهات مصحوبة بغيوم سوداء ورمادية وداكنة، وكانت تنمو فيما حوله غابة وحوش بكل شراسة ولؤم وخداع.
هل كان وليد جمعة مضروباً بلعنة الوجود، حيث الوحشة والوحدة والحيرة، تفترس جسمه النحيل، لتحيله إلى شكل مأساوي، يجمع بين الملحمية الدرامية ، وبين الملهويّة الفقيرة، مع إن عينيه ظلّتا مشعتين على نحو كثير البوح والحرمان!؟
لا يوجد شيء يشبه وليد جمعة سوى قصيدته، منذ أن كان جيلينا الستيني يتمرد على كل شيء، كان وليد الأكثر انسجاماً مع تمرّده، وظلّ يتصاعد في رفضه وسخريته، خصوصاً من أولئك الذين لبسوا ثوب العقل. أما قصيدته فهي حياته، ونصّه هو توأم فجيعته.
منذ خمسة عقود ونيّف من الزمان تجرأ على التحدّي، حين ترك حزباً قومياً ليقترب من حزب أممي، لكن في كلي التمردين لم يجد ضالته، فتضاعفت معاناته وازدادت مأساته، ولذلك ظل يجرّب ويتحدّى ويسخر حد البكاء من الآخر ومن نفسه، بحثاً عن حقيقته المفقودة، تارة بالشعر وأخرى بالنثر وثالثة بالمغامرة ورابعة بالنكد واللعنة، لكنه لم يقطف حصاده.
كان وليد جمعة يقول ما يحجم كثيرون عن قوله ممن اتخذوا لأنفسهم تسميات اليسار والوجوديين وما بعد الحداثة.. صدّق اليأس أحياناً، لكن اليأس لم يصدّقه، لهذا عاود الحياة بعد موت كاد أن يتحقق لعدّة مرات. وقع فريسة الغضب والعبث والوهم واللّامبالاة، لكنه عاد حيّاً يهجو ويشاكس، حتى وإن كان الجحيم أمامه، والجنون طريقه لأنه يريد أن يقبض على الروح ويؤنسنها حتى ولو بالموت الرحيم.
كان يريد موتاً بلا زيف، لم يعد يتحمّل هول هذا العناء المعتّق والجروح في كل من مكان ومن كل مكان، بدأ يلعق دمه كي لا ينضب، وكي لا تذهب الكلمات على عجالة، وتُطفئ الحرائق. كان لا يريد للنار أن تنطفئ، بالتبغ والحشيشة واللفائف والأراكيل والسكائر الغالية والرخيصة، كان يريد حياة أقرب إلى الموت.
يلاحق الدخان كأنه يرسم حتى وإن كان الأمر سراباً، ويسمع صوت تنفسه مثل موسيقى جنائزية ولكنها بحشرجة ، حيث غابت اللياقة البدنية فخذله الجسد وانحنى فوق روحه يلملم فيها، ويردّد أغنية قديمة.
شغف الموت
كان شغوفاً بالموت أكثر مما هو شغوف بالحياة، وظلّ وفياً لذلك الشغف حتى الرمق الأخير: قال لي مرّة لماذا قدّم الجواهري الكبير، الحياة على الموت، قلت له قد يكون ذلك من لازمة الشعر: وهو تتمة للصدر الذي سبق العجز، حيث الخطر رفيق الموت، والحياة رفيقها الأمان:
وأركب الهول في ريعان مأمنةٍ حبّ الحياة بحبّ الموت يُغريني
وهكذا تكوّنت الجدلية: الخطر والأمان، والحياة والموت، لينسجم ذلك في هارموني هو الإغراء: أي مغامرة الحياة رديفاً لمغامرة الموت، وهما صنوان يشدّان المقامر إلى حيث التحدّي.
هرب وليد جمعة قبلنا من شرك الآيديولوجيا. لم يطق القيود، ففرّمثل طائر من قفص، كان يريد حريته وقصيدته وهامشه وفردانيته ووحدته، لكنه سقط مضرجاً بخيباته وانكسارات روحه:
هجّيت من حزب البعث والكَفني نص مسقوفي.
تحدّثنا عن الأقنعة التي يلبسها البعض، وكان دائم السخرية، واستخدم الملاّ عبود الكرخي طريقاً للتوليف والله لكسر " الزنكنة" وأنعل أبو ... وحين كتب ماجد عبد الرضا عن "المطلق والنسبي" في نشرة رسالة العراق التي يصدرها إعلام الحزب الشيوعي في الشام، جادلني وليد جمعة بحدّة : ما هذا الهراء؟ وكتب قصيدة كنّا نتبادل في ترديد لازمتها "ونسبي"، مثلما كتب قصيدة بهجاء المؤتمر الرابع للحزب العام 1985 وكان عصام الحافظ الزند يحفظ بعض مقاطعها ويعيد تكرارها علينا. لم أرَ جدوى من نشر القصيدتين ، ولكنني اكتفيت بالإشارة إليهما، إلاّ إذا جمعنا أعماله فيمكن نشر ما هو ممكن منها.
كان وليد جمعة نسيجاً لوحده في لغته وسخريته وحياته، مثلما كان في قصيدته ومرضه وموته، مصادره تدل على ثقافته في الفكر والسياسة والأدب والصحافة، هو يساري لكنه الأكثر انتقاداً لليسار، لم يستطع أن يغيّب الأنا لصالح القطيع كما يسميه، أناه هي عصب الحياة الذي يربطه بالعالم، والنقد غذاؤه الروحي.
كان وليد جمعة شديد الاعجاب بأنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال والماغوط وحسين مردان، مثلما كان معجباً بالشعراء الهجّائين على مرّ التاريخ العربي- الإسلامي، والأدباء الصعاليك والعبثيين والوجوديين، وكان يقرأ كثيراً سارتر وألبير كامو وكولن ولسن سيمون ديبفوار وهي موجة ستينية اجتاحت جيلنا، وكان يتميّز علينا بأنه يحفظ بعض النصوص عن ظهر قلب، وكان يردّدها على مسامعنا، بل يتحفنا بها كما يقول ، وتحفل جعبته بالكثير من الأقوال المأثورة.
وكان يتردّد بالنشر ويرفض أن يجمع قصائده المبعثرة في ديوان أو مجموعة شعرية، على الرغم من أنني أحتفظ بمخطوطة لديّ أحاول أن أجمع ما بعدها من قصائد لطبعها، وهي مجموعة حصلت عليها من إياد الجواهري في كوبنهاغن ومن أحمد المهنا في لندن. وأعتقد إن عبد الأمير الركابي هو من لديه مجموعة كبيرة من قصائد وليد جمعة، وهو الأكثر إلماماً منّا جميعاً بوليد جمعة وسايكولوجيته وتموّجاته، وكان على صلة به طيلة نحو نصف قرن وفي فترات لاحقة كانت علاقته وطيدة بهاشم شفيق وعواد ناصر وأحمد المهنا وشفيق الياسري وعامر بدر حسّون وجمعة الحلفي وفاضل الربيعي، على الرغم من المناكفات والمشاحنات.
لعلّ أهم من قصيدته هو شيئياته ومزاجه ومهارته ونكاته وخصوماته واختياراته وبراعاته وبغدادياته وكرخياته ومشهدانياته، وثقافته تكاد تكون شفوية حسب الشاعر المبدع هاشم شفيق حيث يقول عن ثقافته " ثقافة مقهى وكلام وتداول أسماء وأفكار وعناوين كتب ومجتزءات ومقتبسات ومقولات ومآثر أدبية وحفظ أبيات شعرية"، ولعلّه يقصد بذلك إنه كان محدثاً يحاول إدهاش الآخر دون استعراض، خصوصاً بالإطلال على الجديد والمتميز والمغاير، فوليد جمعة كان مغايراً ومختلفاً ومفارقاً، وتكاد تلك السمات تنطبق على كل شيء عنده. لم يسع إلاّ إلى العزلة اللطيفة، وذلك لإخفاء ما في روحه من مرارة وألم مثلما هي البراءة والطيبة، المغمّسة بالحزن والقلق والحيرة.
إيقاعاته الشرسة ومعجمه اللغوي اتسم بالهجوم والصور والاستعارات والترميزات والخرائط. كانت القصيدة صاخبة حتى وهي في حقيبته لا يريد أن يطلّع عليها الآخرون. لا زلنا نتذكر عموده في جريدة بغداد " طكّ بطك" وكان يردّد لازمة لقصيدة مظفر النواب التي يقول فيها :

يحزب حسين ...
ماننساش حگنه أو حگ المناطر
تراهو ازماطنه ابزيجك
إخذها إمناحر إمناحر
لجل عيناك ...
مامش عالجروح احساب ولانهوه
لجل عيناك ...
يلتسوه الگباحه... أوتسوه ماتسوه
تفگ ...
وابغيردشر أوشدحزم ورصاص
ما نهوه
خذوها ابْگوه... عينك عينك
نستافيها بالگوّه
يحزب حسين ...
بس منك علامه ... انسچْ عليهم سچْ

الدونيون
كنت قد زرت وليد جمعة في كوبنهاغن عدّة مرّات وبصحبة قيس الصرّاف الذي كان يهتدي إلى أماكنه حيث يكون، وخصوصاً عندما نعجز في العثور عليه في غرفته البائسة، والتي انتقل بعدها إلى غرفة في دار العجزة، وكان أحمد الناصري (الرفيق أمين) قد كتب بعد رحيله إن كل ما كان يحتاجه جمعة غرفة نظيفة وبضعة كتب وشرائط فيديو، وبالطبع فسحة من الحرية للنقد والسخرية.
ولكننا عجزنا خلال المرّة الأخيرة لزيارتي لكوبنهاغن (2013) لإلقاء محاضرة في جامعة لوند (جنوب السويد) في الاستدلال إلى وليد جمعة، وضاعت فرصة لقاء ثمينة كنت قد حضّرت لها بأسئلة وتساؤلات، وكانت تعوزني بعض المعلومات وددت استكمالها وبعض الفراغات التي أردت سدّها، سواء في الذاكرة أو الشعر أو العلاقات.
كان وليد جمعة يضحك من خياراته ويشاغب حتى مع نفسه . قال لي جئت إلى لندن لأكون قريباً منكم وأراكم بعد غياب وحسرات، وهذا هو المهم و"شيريد اليصير خلّي يصير"، لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي تؤمن لي مجيئاً مضموناً (يقصد عمله في جريدة بغداد)، وأنت تعرف إن عقلي وقلبي في مكان آخر، وسرعان ما عاد من لندن إلى كوبنهاغن مهزوماً ومُحرجاً ومخذولاً. يقول إن في الخيارات شيء من الكيمياء التي كان يكرهها، مثلما هي الأمزجة والخيبات واللقاءات المبرمجة.
كنّا نجادل في مطلع الثمانينات في توصيف للدكتاتورية، قال أحدنا إنها فاشية، وقال الثاني إن أساليبها فاشية، وقال ثالث إنه حكم فردي وعشائري ودموي، وقال رابع لا تنسوا الطائفية، وقال خامس إنه استبداد وتخلّف وبدوية، وقال سادس كان أبو كَاطع يردّد إنها فاشية ريفية أو بدوية، وقال وليد جمعة: كفى فلسفة أيها الجمع ماذا تبقى: قولوا اختصاراً إنها دونية، ولتأخذ الجامعات ومدارس العلوم السياسية هذا التوصيف الذي يمكن أن يندرج تحته الكثير من المفاهيم. وحسب وليد جمعة الدوني ليس بالضرورة حاكماً، هناك دونيون في المعارضة أيضاً، ولم يتوان وليد جمعة عن تسميتهم وتحمّل بسبب ذلك ضرب مبرح قامت به إحدى المسترجلات.
رغم كآبته كان حضوره مضيئاً وصداقته باهظة وزواياه حادة. وبقدر ما كان بسيطاً ومتهكّماً، كان متعالياً ومتألماً. كان ولوعاً وملمّاً وناقداً للسينما، لم أجد مثله محترفاً ومولعاً بالسينما والأفلام سوى صادق الصائغ واعتقال الطائي، لكن شخصاً مثل طارق الدليمي المثقف العراقي البارز والمناضل العنيد والبعيد عن الأضواء، كان وليد جمعة يصغي إليه حين يتحدّث عن السينما، في حين كنّا نحن نستمع إلى وليد جمعة حين يستذكر معنا أفلام الستينات.
وكان يريد مباغتة الأشياء بما ينسجم مع مزاجه ورغائبه وانفعالاته فقد فاجأنا في قصيدته " الغروب النحيف"، لم يكن نوّاحاً، بل كان عصياً وهازئاً، وأجاد اللعب بالكلمات مثلما برع بالتوليف والتورية. أخاط قصيدته من قماشة شعر الحياة وكان مخزونه شاسعاً ومتّسعاً وبهياً.
في الغروب النحيف
وإذْ أتذكر رأس الحواش
وعكَد النصارى
والتسابيل
أبجي
في الغروب النحيف
رغم كل البلايا
أراه من المستحيل تماماً
كراهية هذا العراق
نجم ستيني
كان وليد جمعة، حتى وهو مقلٌ ولا ينشر إلّا ما ندر، هو أحد نجوم جيل الشباب في الستينات، فهو المثال المتطرّف لجيل غير اعتيادي في انتمائه وتطرّفه وقلقه وعواصفه وتقلّبه ومزاجيته وتموّجاته ومواهبه، في فرديته وشموخه وفي عبثيته ومأساويته.
وليد جمعة المنشق عن وسطه وجماعته الساعي للاندماج في جماعة أوسع وأكبر، ولكن كيف تستقيم الفردية حد الاتفاق والاندماج، وصولاً إلى الفناء والذوبان في ذات جريحة وروح نازفة. حين حصل تحوّله بدا منحازاً مثلما هو ذاهب إلى عرس، لكن قامته ضاقت والدهر انقلب عليه، واستيقظ على انشطارات رهيبة، فلم يكن الأمر بالنسبة له سوى وهماً.
تنازعه عاملان : انتماؤه لليسار ونقده لليسار على ذات الدرجة من القناعة. مرّة قال لي كنت أعتقد إن أعضاء حزب البعث وحدهم الجاهلون، المبتلون بحبك المؤامرات ونسج الدسائس، فإذا بي أكتشف جهلاً لا يقل لدى أعضاء الحزب الشيوعي، بل إن افتتناهم بالمؤامرات والتقارير أكثر من غيرهم، لكنه استدرك بالقول وجدت في بعض قيادات وكوادر الحزب الشيوعي مثقفين، وإنْ كانت الغالبية ركن الريف على حد تعبير ابراهيم الحريري، ويزيد وليد جمعة، بل أصبح بعضهم من روّاد الملالي (بصق حين تذكّر من كان يعلّق صورة الخميني فوق رأسه) والأغوات الأكراد، وعلق بالقول: فهؤلاء المغلوبون غير قادرين على القيادة.
عدّل من رأيه الحاد هذا عندما التقينا برحيم عجينة وعبد الرزاق الصافي في حانة "قصر البلور" بدمشق منطقة باب توما، فأبدى إعجاباً بثقافتهما على غير عادته، لكنه أعاد رأيه السابق: القيادة أفضل من القاعدة، قلت له وذلك من باب المناكفة والاستفزاز، لأسمع ما بعد التعليق: إنها النجف وكربلاء دون انحياز. واستطردت بالقول: إنهما مدينتان منفتحتان على العالم، تجارياً وسياحياً ودينياً وعلمياً وثقافياً ولا تنسى كلاهما متعلمان ودرسا في أوروبا، فعجينة درس الطب في الاسكندرية، ثم في لندن، والصافي بعد أن تخرج من الحقوق ، وكان قد تأخر فيها لأسباب سياسية، ثم درس في بلغاريا وعمل في "إذاعة صوت الشعب العراقي" التي كانت تبث من صوفيا وكان رئيساً لتحرير طريق الشعب. وكلاهما كانت لغته العربية ممتازة. صمت قليلاً، ثم قال بسخريته اللاذعة: لكنهما بلا قرار مثل سعدون حمادي وطارق عزيز ، أو مثل وزيركم الفهيم، لكنه بلا وزارة (ويقصد عامر عبدالله).
قال تصوّر يا عبد الحسين إنني أستطيع القول ودون أي شعور بالشطط إن القاعدة أسوأ من القيادة، فما بالك بقيادات بعضها لم يذهب إلى المدرسة، والآخر سار وراء أنصاف الأميين، والقسم المتبقي مغضوب عليه ولا يُعرف متى يتم الاستغناء عنه . لقد خسرتم أدواركم وباخت وعودكم وأنتم تحاربون خارج الميدان.
لم يرغب في الظهور بمظهر البطل، لأن البطولة غائبة، وهذه تحتاج إلى ملحمة وحكاية وحبكة درامية، وعلى نحو مفاجئ خاطبني: هل ستحكون كيف نمتم فوق الصخور، حتى مطلع الشمس وجاءكم الاتحاد الوطني الكردستاني، ليلتقطكم واحداً واحداً، وليفرض عليكم لاحقاً التغنّي بمجده وكبريائه، وهو الذاهب والآتي إلى بغداد يومذاك، مثلما تغنيّتم بالحزب الحليف وكاسترو العراق، وكنتم تمطروننا بشتى التهم لأننا كنّا ننتقد حليفكم "الغالي" واستخذاؤكم أمامه، كل ذلك وتقولون إنكم طليعة، وحين سمع بالمشاركة بمجلس الحكم الانتقالي: هاتفني قائلاً هل أعلن براءتي من الشيوعية وتجّارها ، ثم علّق ولكن حتى البراءة لم تعد لها من مدلولات، ولو قدّمنا البراءة سيكون مثل هذا الموقف أفضل من الانخراط بجوقة الطائفيين.
قلت له: لقد اجترحنا بطولات في بشتاشان لا حدود لها، وبرز من بيننا شجعان وأبطال حقيقيين، قال لي لكن المشهد العام كان هزيمة نكراء، ليس على الصعيد العسكري، بل على الصعيد السياسي، في الخطة والتحالف والمكان وفي اختيار العدو والصديق. وكرّر ذلك: قل لي أنتم: لماذا تنتقلون من هزيمة وفشل إلى هزيمة أخرى وفشل آخر، في حين كنتم قيادة للناس أيام الحكم الملكي؟ لكن وليد جمعة الذي كان ينتقدنا بشدّة وشراسة أحياناً، إلاّ أن نقده كان مملّحاً، وهو من موقع الصديق والمثقف النقدي، وحتى حينما يشط في انتقاداته ويرمي بمدفعيته الثقيلة ضدنا أو ضد العراق، فهو عن مرارة وحرقة وتكسّر أحلام، وسرعان ما يستفيق فيعدّل الميزان، وللأسف لم تكن لدى الكثيرين منّا سعة الصدور والرحابة في قبول النقد وأحياناً حتى سماعه وغالباً ما يتم صدّه أو مجابهته بتاريخه البعثي.
حين شنّت السلطة البعثية في أواخر العام 1978 وأوائل 1979 حملة شرسة ضد الحزب الشيوعي، ذهب وليد جمعة إلى جريدة طريق الشعب التي كانت تفرغ يوماً بعد يوم، أما بسبب الاعتقالات أو الاختفاء أو الهرب خارج العراق، وطلب العمل متطوعاً، وكان حين يأخذ سيارة الأجرة لتوصله إلى الجريدة، يقول للسائق بعد سؤاله إلى أين يتجه، فيجيبه بكل تعالٍ وفوقية إلى " التهمة"، وحين يستغرب السائق يكرّر عليه ألا تعرف التهمة إنها " طريق الشعب" فيتصور السائق إما إنه مسؤول أمني كبير، أو شخص مهم من الحزب الحاكم، ويضحك وليد جمعة في عبّه، قائلاً إذا كان السائق شرطي أمن، فإما أن يعتقلني وبذلك يجنبني شر الانتظار والقلق والبلاء القادم، أو إنه سائق عادي فسيخاف مني حين أخاطبه بهذه الطريقة، وإنْ كان غلباناً مثلي، فسينصاع ويوصلني حدّ الباب، وقد قال لي أن أحد السواق لم يأخذ ثمن الأجرة، ربما خوفاً أو ارتباكاً أو تعاطفاً مع طريق الشعب "المراقبة".
بعد مغادرة العراق إلى بيروت كتب في مجلة الرصيف (العام 1981) قصيدة بعنوان " حين تأتينا الشتيمة من شبابيك اليسار" يقول :
صفحة أخرى وتشحب
تتهاوى
وتقول الناس خانت
ربما أنت التخون
لا تقلْ إن الجنون
جبهة كالطير طارت
يا ابن آوى، كلّنا مثلك
ثعلب!!
حين جاء إلى لندن سألني السيد محمد بحر العلوم عنه، فقد سمع بوجوده، هل صحيح إنه هجّاء وشتّام وأحياناً بتوجهات طائفية؟ قلت له إن هذا آخرهمّ لوليد جمعة، فهو يهجو الجميع بمن فيهم أمه، وليس لديه محظورات. وكان يقصد قصيدته التي مطلعها :
" أريد أضرب هدف بحري وبرّي
وفرّج للخلك خير وبرّي
خلخالي الـ .. وبرّي
وطشّر هالـ ... عالجعفرية
وهي القصيدة التي كان السيد هاني فحص يردّدها كلما انفردنا وكان الجو مواتياً، ثم يأخذ بالضحك قائلاً: "نستأهل"!.
ذهب وليد جمعة إلى الموت كأنه سرب كامل من العصافير أو الأعاصير. أنفق حياته حتى القطرة الأخيرة، بحيث لم يترك للموت أن يأخذ منها شيئاً إلى القبر غير الجسد المتهالك. لم يكن وليد جمعة رقماً عابراً، بل كان كياناً قائماً وحتى الآن نحن لم نكتب له ، ولم نكتب عنه، بل إننا لم نقرأه جيّداً على شحّ ما وقع بين أيدينا، وهو ما نحتاج إلى جمعه وتوثيقه وتدقيقه. لقد كتبنا دموعنا وفداحتنا وخيباتنا وإنكسار أحلامنا. وعادة ما يموت الناس، فذلك أمر طبيعي، لكن وليد جمعة قتلته الحياة ذاتها، فقد ظل باحثاً عن الموت لأكثر من أربعة عقود من الزمان، لأنه استشعر الهزيمة منذ وقت مبكّر، وكان يريد الانتقال إلى العالم الآخر دون مكابرة، وأحياناً يتوسّل بما هو أقرب كي يصل إلى ما يريد بطريقة أسرع.
رثى وليد جمعة نفسه حين كتب قصيدة بعنوان: " العبئريون" سيرثونني ويقول فيها:
ملثمٌ بالموت
عندي مراسيم لدفني من يد القابلة
عندي له: عدته البغيضة الرثة
زجاجة السمّ ومرثيّة
حبلٌ من القنّبِ
لا مقصلة
- ملحوظة عن عتعتات الزمن-
تفلة على غباء الوطن
وحفرة في قاعة الخلد
أو المزبلة
الصمت والتطهّر
كان وليد جمعة متحرّراً من عبء الكتابات المدرسية والأبحاث الأكاديمية ، وكان يضع موهبته ونزقه، مع إحساسه باللاجدوّى، ويمدّ لسانه إلى التاريخ أحياناً، بكل هزء، لاسيّما، وهو يتلذّذ بالكلمات البذيئة، يخرجها من فمه ويعيد رجع صداها، وهو الذي يصرّ على تخريب نفسه أحياناً بإخراجها من الحياة.
عاش الجزء الأخير من حياته في ضجيج الصمت، كأنه يريد أن يتطهّر، أو بالأحرى أن يطهّر العالم من حوله. وقد تدرّب على أن يكون غليظاً، هجّاءً، باحثاً عن التعاسة، ليس على صعيد الحياة فحسب، بل على صعيد الكتابة والفوضى، فهما ركنان من أركان وجوده، وعلى الرغم من إن خياراته استفزازية حتى مع مجتمع الأدباء والمثقفين، فقد كان يجد من يستلطفه ويعتني به ويرافقه ويتحمّل كل تبعاته، حتى أكثر من أخيه حميد جمعة، النصير الشيوعي، الذي كان معنا في الإعلام المركزي في بشتاشان، والذي كتب له وليد رسائل طويلة، ويا حبذا لو احتفظ بها ونشرها، لأنها تشكل ثروة شخصية تركها، وهي وغيرها، من الرسائل، كل ثروته التي وزّعها في حياته، وسأحاول نشر رسالتين له تعودان إلى أواخر الثمانينات، وأعدُ القراء إذا ما استطعت من جمع قصائده سأقوم بنشر ما لديّ من رسائل، إضافة إلى ما يمكن أن يصلني من الأصدقاء، وهذا بمثابة نداء ثقافي لكل محبي وليد جمعة.
إنه الشاعر الملعون الذي كان يشرب من كأس الحزن حتى الثمالة ويدخن من غليون يظل مشتعلاً طالما هو مستيقظ ويسخر من كل شيء.. دائماً أتخيله يشرب عرقاً ويدخّن ويتصوّر نفسه يمشي في جنازته إلى صوب الكرخ، إلى سوق حنون ، يصطدم بالمدينة أو يصدمها بنفسه، يريد أن يزف نفسه إلى الموت، بدلاً أن يزف نفسه إلى امرأة، فلم يكن لديه علاقة معروفة بالنساء، بقدر ما كان في حالة هرج ومرج ولعب وسكر وعربدة وتدخين وقصائد وأصدقاء ومقاهي وحانات، وكان يتلمّس القصيدة قبل أن يخرجها من التنوّر.
لم يحمّلنا وليد جمعة همّه يوماً، كان يحمل الهمّ وحيداً، وأحياناً نحن نحمّله همّنا ونزجّه في صراعاتنا. وبقى وليد عصيّاً على النواح بروح الهزء. قد يكون سافر إلى مكان لم يفصح عنه، وبرّر سفره حتى لا تتعفن القصيدة، مثل العفن اليومي الذي أصاب كل شيء.
كان الشعر لديه إنْ لم يحرّك الدهشة المهملة والمنسية فينا بسخاء روحي لا مثيل له، فهو ليس بشعر، وعلى حد تعبير دولوز ينبغي أن يكون مثل الكهرباء.
أنشر هنا قصيدتين الأولى بعنوان : الأعدقاء والثانية بعنوان تحية العَلَمْ .
لم يكتب وليد جمعة رسالة الوداع قال لي وصوته جاءني عبر الهاتف بعد أسابيع من وعكتي الصحية: شلونك لك داد عبد الحسين " لتروح"، ثم ردّد أغنية قديمة:
ويّاك "داده" خذني / لتروح وتعذبني
وانكسرت نبرة صوته وكان كل منّا يسمع نحيب الآخر. كان حزنه كبيراً بتهالك الدولة وتدهور الثقافة وانحطاط حال بعض المثقفين، واعتقدتُ أن مهاتفته هي الأخيرة، فلم يقرأ شيئاً من شعره أو يرتّل آيات من نثره.. ولم يهجُ أحداً ولم يشتم نفسه. إنه كان يعيش في ضجيج الصمت المطبق.
وكنّا نردد مع محمود درويش
الحبر نملٌ أسود
أو سيّد
والحبر برزخنا الأمين




رسالة رقم 1
من وليد جمعة إلى عبد الحسين شعبان

21-9-1989
العزيز أبو ياسر
تحية من القلب،
تأخّرت بالإجابة على رسالتك التي وصلتني قبل أسبوعين . لقد فرحت بها وتستطيع أن تتصوّر أنني كنت " أجتر" الذكريات خلال هذه المدة محاولاً أن اقترب من الحياة والناس العزيزين عليّ.. وأنا في عزلتي البائسة التي اضطرّني المرض إلى اختيارها أكثر من الحاجة و"المشاكل"!
بعد تفكير طويل وبالرغم من خيبات الأمل- في السياسة على الأخص! وجدت أن القليل القليل من الناس ظلّوا محافظين على شرفهم الخاص وسط الدعارة العامة الشاملة التي تلف الجميع. لا أستثني نفسي ولا أعطي لها ميزات فائقة، فأنا في بغداد أفضل من أي مكان آخر حتى على مستوى الرضا على الذات. ولكن المودة .. الحنين إلى كلمة طيبة من صديق.. المواساة في محنة مشتركة هي كل ما تبقّى لنا فعلاً.
لقد تحدثت عن وجهات نظر و"نقدات" للظواهر والأشياء والبشر يا عبد الحسين، ولكن " لا رأي لمن لا يطاع" جملة كالسيف تمنعك من اعتبار نفسك، قلت ما يستحق أن يقال. فيما يخصّني توصلت إلى قناعة أكيدة في أن شعباً – شعبنا بمجموعه- يستحق هذه المصائر البائسة.. في الداخل وفي الشتات.. لا أريد أن أقرأ المقتل " بس جد لي فرقاً واحداً بين صدام حسين وعزيز محمد، علماً أن بعض النقاط ستذهب لصالح صدام على مستوى المنطق مثلا!!"
لا أكتب هذا لأنك مختلف مع عزيز محمد . أنت تعرفني جيداً في هذا المجال. وإذا ما وضعتني الظروف لاتخاذ موقف بين البعث والشيوعي – وقد ذقت نذالات الحزبين- فإن قراري: سريع وحاسم وهو أن أخلاق البعثي أرسخ من الشيوعي بما لا يقاس. لا أريد الاستفزاز، ولكن ما تجرّعته من مرار يكفيني، ولا أريد تعميمه على غيري أيها الصديق.
هل أنا سعيد؟ قطعاً لا. الوحدة في القطب الشمالي لم تجلب لي العافية الروحية. صحيح أنني لن أموت بالسل، غير أني أوشوش الموت هذه الأيام. والسبب ! أينما يمّمت وجهك ستلقى عراقياً محشواً بالنذالة ولا همّ له سوى إيذائك. صدّقني!!
سأفاتحك بموضوع قد تستطيع مساعدتي فيه. أنا الآن متقاعد.. أي نعم .. لي بقية من العمر حوالي 5 سنوات كما يقول طبيبي المختص.. وقد شفت ما تعرف عنه كل التفاصيل. والآن أنا أعيش لوحدي تماماً، وأكاد لا أرى أحداً في الأسبوع. لا مباهج ولا سهر ولا شرب لأسباب صحية.. ولا رفقة لأسباب ليست خافية على أحد.. وأظن أنني سأنتحر أو أجن في كوبنهاغن .راتبي يطخ الـ 500 دولار شهرياً وأستطيع استلامه في أي بلد حسب قانون التقاعد في الدانمارك مع تسهيلات كثيرة في السفر والإقامة. فهل تستطيع أن تدبّر لي إقامة في براغ لكي أموت بين 3 أو أربع أوادم أعرفهم من العراق؟
ليست هذه رغبة سياحية.. إنه قرار وأحاول أن أجد بديلاً للعيش مع بشر، فهنا الربع الخالي حقيقة ومجازاً. أجبني بسرعة وبتفصيل حول هذا الأمر وسلّم لي على الجميع.. أقصد القلائل الذين أحبهم.. وعلى رأسهم الاتحاد السوفييتي كما يقولون.. قبلاتي المعقّمة لساهرة وتمنياتي لها بسعادة غامرة، بعيداً عن حقارة الشام وراسلني باستمرار وبسرعة.
وليد 21/9
ملاحظة: كن صريحاً في الجواب وبدون مجاملة "الخاطر" قاضي الحاجات.
وإبعث لي عناوين فرنسا

رسالة رقم 2
16/11/1989
العزيز عبد الحسين
تحية مثل قلبك الكريم
قد تتعجّب.. ولكنني ما إن استلمت رسالتك وقرأت الصفحة الأولى منها حتى بكيت، أي وحق الكعبة.. ليس الأمر حزناً أو يأساً أو شوقاً، بل كان الغبطة الغامرة أولاً وأخيراً، لأنني لا أكاد أتبادل الحديث مع مخلوق بشري بعد عام كامل من الغياب!
هكذا وببساطة متناهية.. لقد وصلت إلى الدانمارك يوم 4-12 أي قبل حوالي السنة.. ومنذ ذلك اليوم لم أجد أحداً – كيفما كان – أتحدّث معه حول أي شيء. وأنت تفهم ما أعنيه بالحديث.. الحوار.. المصارحة الحرة الحبّية حول قضية .. حول ذاكرة .. حول وطن مذبوح.. حول قناعات ماتت تماماً لا عن يأس، ولكن حقائق الحياة أكبر وأصدق منها لا أكثر ولا أقل.
تجرّني إلى الحوار السياسي..؟ لا بأس!
أنا أيضاً كنت ضد القيادة المركزية. ولكن لسبب آخر.. كان شعاري "شين التعرفه أحسن من زين الماتعرفه.." وقد كانت طروحات القيادة المركزية مثل قصيدة سريالية.. حلوة بس غير معقولة. وأنا أساساً لم أكن – وما زلت- واثقاً من إمكانية إصلاح ح.ش.ع (لحزب الشيوعي العراقي) تحت أي شرط كان .
ولهذا السبب كانت ظاهرة ق.م. ظاهرة عابرة.. شعرية ورومانسية "وما أدري شنهيه" ولكنها راحت وخلّفت لنا منها (ك.س) مثلاً!! كل الأحلام " العراقية" مكتوب عليها الفشل منذ جلجامش. لا أقرأ لك المقتل ولا أرثي وطنا ميتاً، ولكنني أحاول أن اقتنص معنى الهم العراقي الذي يستعمل لأحزانه مفردة فارسية جميلة: دَرْدْ. وما أصدقها!
صدّق أو لا تصدّق: كل قناعاتي تشكّلت مرة واحدة وإلى الأبد في الستينات، ويبدو أنها ما زالت تحمل مصداقيتها هي أيضاً رغم أنها قناعات فردية معزولة عن سيرورة الصراع العام!! فيما بين "المطلق والنسبي".. ما بين التناقضات الرئيسية والثانوية.. ما بين العام والخاص.. ما بين هذا الخليط العجيب من آيديولوجيا + شعر + ممارسات مبتورة أعطت معادلتي نتيجة بسيطة هي (الحزب الشيوعي العراقي).
ولو بقت هذه النتيجة على مستوى الفكر.. على مستوى التحليل الذهني والعواطف لكانت أسلم وأفضل ولبقيت في الوهم الآيديولوجي الذي حدّده وسخر منه ماركس أكثر من مرة (أعتقد أن ماركس عاش كل حياته يسخر من الأوهام). ولكن الطامة الكبرى هي الممارسة. فما إن اقتربت من هذا الحزب .. ما إن وضعت قدمي على عتبة داره حتى واجهت أكبر وأخطر صدمة في حياتي. وهي ما تشير إليه: المصداقية. يا أبو علي ربعك كذّابين من البداية إلى هذه اللحظة. هذه هي حقيقة الورطة التي لم تجلب الخراب لنا وإنما للوطن بأكمله.
معقول أن تقرأ قصيدة لشاعر متخم عن الجوع.. ولكن العار أن تجد التناقض ما بين الماركسية وعضو الحزب بهذا الشكل المعيب، الذي يحوّل النضال إلى نكته. سأرسم لك خطاً بيانياً: لينين – فهد = ف + س... مثل هذه الصيرورة تقود إلى استنتاجات – مثل النكتة- لكنها تبكيني دائماً.. ما يهمني في هذه الناحية: البروسيس: فعبر هذه (العملية) نجد رابطة ما بين معاناة ماركس الذي هلك جوعاً، وف.ع الذي يتنقل أسبوعياً "بطائرة خاصة"!!.
هذا على مستوى السلوى. أما على مستوى الوعي.. فكلّهم لا علاقة لهم بماركس على الإطلاق. ولو تتوفّر لي الفرصة قبل أن أموت: لكتبت " عرض حال" موثّقاً عن علاقتي اليومية التفصيلية بهذه المخلوقات التي تظن أنك تعرفها أكثر مني. هذا ليس تجاوزاً وإنما ولكونك سياسي أكثر من شاعر- أنت تهتم بالتكتيك وتتغافل عن كثير من "السلبيات!!" لكي تجد "المادة" التي تتحرّك عبرها في العمل الحزبي.. إعفيني من هذه المهمة وستجد أن أحكامي أنا الواقف على التل أدق : لأنني أتفرّج على ما يحدث في القاع كما هو عليه بالضبط.. لا كما أريد ويُراد لي ذلك.. وهذه هي المهمة الحقيقية للمثقف، ولم يقم بها مع الأسف كل المثقفين العراقيين منذ الأربعينات حتى اليوم. لقد أسلموا قيادهم للحزب وأبوك الله يرحمه، فكانت النتيجة قادة جهلة وقواعد تافهة وسياسات فاشلة على طول الخط.
ولا عزاء للسيدات
على ذكر المخنثين: شاهدت الشهيد خالد الأمين بأناقة مذهلة يتهادى في شارع أبو النواس.. وأبديتُ دهشتي وإعجابي بهذا المظهر التحفة، وتساءلت عن أسبابه فأجابني ما بين الهزل والهم: من أجل الحزب.. كان الحزب يكسب الرجال الآن أصبح الحزب يكسب نسوان!!
هل تذكر الشاعر الأندلسي الذي سخر من مليكه الهارب من غرناطة باكياً:
ابكِ مثل النساء مُلكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال
جملة اعتراضية لساهرة: الحديث عن الرجولة والأنوثة لا علاقة لها بالذكر والنثية يا حبيبة.. مع الاعتذار لكون اللغة العربية ما زالت تستند على نفس القواعد في الاستعارة والكناية والتشبيه. منطق متخلّف إلاّ أنه السائد مع الأسف. وكما تعلمين : كل ما هو سائد مشكوك بأمره منذ أقدم العصور. لقد كان النبي والثوري والشاعر، نماذج التمرد على السائد دائماً عكس ما هو يجري حالياً.
يبدو أنني تفلسفت فوق مستواي فعلاً. ولا أريد أن أخيط وأخربط.. أي لك داد: أريد أخيط وأخربط. لكن مع مَن.. وأنا هنا في الأرض الخراب. في الجهل المطبق.. في العزلة الكلية الكاملة عن كل ما هو حي وإنساني ومحبوب.
وصلتني رسالة من أحمد المهنا يرحّب بي وبإقامتي في لندن- سأحاول السفر إلى أبو ناجي بسرعة.. أنا الآن متقاعد براتب محترم وأستطيع العيش حتى في بريطانيا ضمن ظروف معقولة. وإذا حصلت على فسحة للعمل فلن أتوانى عن استغلالها ولو بالمجان. أنا جوعان كتابة.. وأحب الصحافة.. وأتمنى أن تتوفر لي فرصة..لكنني أعرف معنى النشر في هذه الأيام ولا حرية للصحافة على الإطلاق. وهذا هو المأزق.
كنت أتمنى أن أصل إليكم لكي " أخرج" دولارات على كيفي وبطريقة مترفة.. ويبدو أن بلادكم الاشتراكية لا تستقبل الأثرياء!
حاول أن تدبّر لي .. ورزّل "ع" لأنه لم يراسلني .. الحقير الأصلع الكلب الـ KGB الـ.. بقية الشتائم. قلها أنت، لأنني استحي من ساهرة.. بس نعلة على عرضه الـ "ع" على عدم المراسلة.
قبلاتي لساهرة وسأردّ على رسالتها ما أن تصلني وحاول أن تسهب في الجواب لأنني وحيد.
وفي حاجة إلى السلوى
وأكاد أموت من الصمت
تحياتي لكل واحد
ولا عداوات بعد اليوم
ملاحظة .. لعدم وجود بشر فأنا أقامر حالياً على الخيل... كالعادة !
وليد
(المهذّب)

الأعدقـاء
"لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه"
علي بن ابي طالب ¬ .
طالبوني بقصيدة .
حسٌن هذا ولكن..
ما الذي نكتبه في غسق القرن؟؟
اقترحُت الغزلا..
وبمن؟¬
هيّا نُخّر الكلمات
خلف سبي امرأٍة في كربلاء..
طالبوني بقصيدة
ما الذي نكتبهُ عن غربة الروِح
اقترحُت الأصدقاء
أيّهم؟¬
لا تحرجوني..
بعضهم في موقع الجرِذ
وبعٌض آخٌر في موقِع الخنزيِر
شخٌص آخر في موقع الضبِع
وشخٌص قنفَذ الروَح احترازاً أو عصابا
والبقايا... زعماء
طالبوني بقصيدة
ما الذي نكتبهُ عن ، دوخة ¬ الناَس
اقترحت الناَس ِ
من منهم تريد؟¬
وعلى اّي القوانين تشيّد
كلمات و¬ - تسّوي¬- عالما من كلمات؟
عندما تعبُر هذا الشارَع المشبوه وحدْك
وتداري ورطة العيش بحّل العيش "وحدْك"
وعلى موقفَك التافه هذا
ستراهم يستفيقون صباحاً
ويعّدون جيوشاً وسلاحاً
ثم يغزوَن دماغ السلحفاة
طالبوني بقصيدة
فلتكْن عن..
لست أدري
قيل هذي أزمةٌ
أو زعل الوحُي
لعّل الأمر فقدان الدوافع
والموانع؟
أنت تدري جيداً كيف يحطّون المدافع
في شبابيك البيوت
وترى ما لا يراهُ الُجرذ والخنزير والضبع
وأشباُحُ الشوارع..
فأتئِدْ وأصبر على البلوى
وعادل بالقصيدة
دهرك المأبون وأحلم بالنهايات السعيدْة
وتدّرع بالسكوت
*****
تحية الَعلم

في الليل
في آخر ساعات الليل
استنفُر ذاكرة الوطن النذلِ٬-;-
أقول له في المرآة ٬-;-
تدبّر أمرك يا ولدي
فلكم أصبحت نحيفاً هذي الأيام ٬-;-
وحيث تكون الغفلة والتسويف ٬-;-
يقترح الصبر على المقسوم ٬-;-
أو يفتح شوطاً أخر ٬-;-
لكن من أشواط سباق الخيل ٬-;-
يا وطني٬-;-
(لكْ) يا وطنيَ مْن علّمك الكذب إلى هذا الحد
أنت مريض من دوخة منذ قرون ٬-;-
وتكاد تموت ٬-;-
فتدبّر أمرك ٬-;-
أو جرجر تاريخك في الطرقات ٬-;-
واستجدي لك عصراً حسن الطالع ٬-;-
وحين أكون أنا ٬-;-
عكّازاً للمعطوبين٬-;-
استعرضُ قائمة الطب ٬-;-
وأختار علاجاً فعّالاً للوطن الأحمق ٬-;-
في القرن الحادي والعشرين ٬-;-
يتعيّن أن يقرأ ديستوفسكي
كي يأرق


من رسائل وليد جمعة بخط يده (الجميل)



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- «وثائق بنما» وتبييض الأموال
- ثلاثة سيناريوهات محتملة في العراق - حوار مع جريدة الزوراء
- اللاجئون السوريون وهواجس التوطين
- الدولة العراقية معطّلة ومشلولة بسبب الطائفية السياسية وألغام ...
- تمنيت على الحزب الشيوعي إدانة المحتل أو مقاومته أو الدعوة لس ...
- مشروع التفكيك الجديد
- جورج جبّور : بين كتابين !
- إسرائيل عنصرية مقننة
- تحيّة وداع إلى زها حديد من جامعة أونور
- تمنيت أن يتّبع الحزب الشيوعي المقاومة المدنية السلمية اللاّع ...
- عن تفجيرات بروكسل
- حوار الحضارات أم صدامها؟
- .. وماذا عن سد الموصل؟
- الجامعة ومستقبل العمل العربي المشترك
- الحق في الأمل
- العراق.. الأزمة تعيد إنتاج نفسها
- كيف نقرأ لوحة الانتخابات الإيرانية؟
- اللاجئون واتفاقية شينغن
- العقد العربي للمجتمع المدني
- كيف ستدور عجلة التغيير في العراق؟


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - وليد جمعة : كان يشرب من دمه كأنه النبيذ!