أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد صلاح سليم - الحلاج: العاشق المصلوب















المزيد.....

الحلاج: العاشق المصلوب


محمد صلاح سليم

الحوار المتمدن-العدد: 5132 - 2016 / 4 / 13 - 01:12
المحور: سيرة ذاتية
    


"هؤلاء عبادك، قد اجتمعوا لقتلي تعصبًا لدينك، وتقربًا إليك.. فاغفر لهم! فإنك لو كشفتَ لهم ما كشفتَ لي، لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترتَ عنّي ما سترتَ عنهم، لما لقيتُ ما لقيت، فلك التقديرُ فيما تفعل، ولك التقديرُ فيما تريد" هكذا ناجى الحسين بن منصور الحلاج ربه وهو على الصليب، لم يفارق الحبُ خُلْدَه، ولم يخالط الحقد وَجْدَه، يسأل الغفران لقاتليه، ولا يطلب النجاة لنفسه، وكيف يجزع طلبا للحياة، أو خوفا من الموت؟ وهو الذي يرى حياته جزءًا من كلٍ أعظم، وموته التوحد بذلك الكل.. فليتهمه اللائمون، وليقتله الجلاّدون، فقد قال قبل آنٍ وكأنه تنبأ بما سيصيبه: "وإن قُتلت او صُلبت، أو قُطّعت يداي ورجلاي، ما رجعت عن دعواي" نعم فإنّ العشق عنده دعوة، والحب في فلسفته جهاد، فمتى أخاف مجاهدا الموت؟ وهو القائل:

اقتلوني يا ثقـاتي إن في قـــتلي حيـــاتي
ومماتي في حياتي وحيــــاتي في ممــاتي
أنّ عندي محو ذاتي من أجــّــل المكرمـاتِ
وبقائي في صفاتي من قبيــــح السيئــــاتِ
سَئِمتْ نفسي حياتي في الرسوم الباليــــاتِ
فاقتلوني واحرقونـي بعظامي الفانيـــــاتِ
ثمّ مرّوا برفاتـــــــي في القبور الدارساتِ
تجدوا سرّ حبيبـــــي في طوايا الباقيــــاتِ

ومتى تحمّل ذلك العالَم طاقة الحب تلك؟ ومتى فهم المنغلقون أنّ اللغة تطير لتتجاوز ما يعرفونه؟ هيهات أن يفهموا، فلو فعلوا لما ذاقت الأرضُ طعم الكراهية، ولو فَعَلَت لما ظلّت أرضا، ولاستحالت جنة. والبشر لا تعجبهم الحياة في الجنة!

فهاهو الحلاج العاشق يمضي إلى مصيره المحتوم بثبات، مضحيا بجسده الفاني، يفتدي به ما لا يفنى، يستبدل الخلود بالذي هو أدنى، ويأبى إلاّ الحياة الأبدية مهما كان الثمن، لا يثبطه خوف، ولا يهزمه وهن، لا تنقصه همة، ولا تخونه عزيمة، مرددا - حين قال له القاضي: "يا حلال الدم" - "ظهري حمىً، ودمي حرام، وما يحل لكم ان تتأولوا عليَّ، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السُنة، فالله الله في دمي"، إلا أنّ قلوبهم أصابها صممُ، وقد كان جاهزا مسبقا الحكمُ، فالحلاج بعشقه وعزيمته، وعلنه وسريرته، خطر عليهم، فقد قال الوزير حامد بن العباس للخليفة المقتدر بعد أن كان قد تردد في قتله: "يا أمير المؤمنين، إن بقى قَلَب الشريعة، وارتد خلق على يده، وأدى ذلك إلى زوال سلطانك، فدعني أقتله" نعم فلطالما كانت التهم بالمروق عن الدين في عصور العديد من الخلفاء والملوك ذريعة تخدم السياسة وتثبت المُلك، المُلك الذي يقوم على القمع، بالطبع يهدده العشق، فالسلطان المتأسس على الخوف، لن يصمد أمام سلطان الحب المتأسس على الحرية.. لذا كانت وقع كلمات الوزير على الخليفة لا تقبل التردد، وكان الحُكم بالإذن في قتل الحلاج.

يا لبؤسهم.. كم هم ضعفاء وكم كان الحلاجُ قويا، هؤلاء الذين يزعمون حماية الدين والدنيا، ثم يرددون كم أن الدينَ متين محفوظ من الله، ثم يَقتلون ويَصلبون ويُعذّبون باسم الله، وهُم إنما بذلك يُقرون بضعفهم وضعف دينهم، وهل احتكروا دين الله؟ هل فهموا وحدهم مُراد الله؟ هل كفر الحلاج، وآمن قاتلوه؟ هل مصير العاشقِ الصوفي إلى النار، ومصير القاتلُ إلى الجنة؟ هل هو الضال الأعمى، وهم المهتدون المبصرون؟ّ! هل يعلمون كيف الهدى يطلبون؟ أو يحسنون أين ينظرون؟ فهاهو ينقد أمثالهم:

وأي أرضٍ تخلو منك حتى تعالوا يطلبونك في السمـــاء
تراهم ينظرون إليك جهرا وهم لا يبصرون من العماء

فليتهم فهموا أن لشِعر العشاق لغة لا تُحاكم، ولكلمات التصوف خبايا تتجاوز الحرف، كما أن أبعاد الإنسان الروحية تُحلّق بعيدا عن الجسد، وتسمو فوق المادة، فالمشاعر أعقد من أن تُسجن في سجون القواعد، وأسمى من أن تستسلم لقيود القوانين، لذا كان الحلّاج ينظم شِعره، فيسبقه الشِعرُ وتتحرر منه الكلمات، كأن الكلمات ليست كلمات، إنما نبضات قلبٍ مُتيم، ودموع عاشقٍ يهيم، فأنّى يحاكمون الفؤاد أو يتهمون الدموع؟ فمقاييس المُحبين تختلف عن معايير الفقهاء والقضاة، وأهل العشق ليسوا كأهل الحكم والسياسة، وإن كان أهل الحكم يخشون العاشقين، ليس لأنهم عاشقين، بل لأنهم أحرار... وهل يخيف المستبدين غير الحرية؟!

الحب ما دام مكتوما على خطر وغــاية الأمن أن تدنو من الحـــذر
وأطيب الحب ما نّم الحديث به كالنار لا تأتِ نفعا وهي في الحجر

وحبيب الحلّاج فوق إدراك عقولهم الجامدة، وأكبر من أن يحيط به علمهم، وأعظم من أن يدافعون عنه برأيهم، لطالما اختلفت فيه الفلسفات، وتعددت له الأسماء والصفات، وحاولت معرفته الأفهام، وتطلّع إليه الأنام، كلٌ يراه حسب ما لديه من علم أو عرفان، إما بإشراقٍ أو وحي أو برهان، فهل احتكروا فهم كنهه؟ وهل تفردوا بمعرفة حقيقته؟ وماهم إلا قطرة في بحار الباحثين والعارفين والعاشقين!

لي حبيبٌ أزور في الخلوات حاضـر غائــب عـن اللحـظاتِ
ما تراني أصغي إليه بسمـعٍ كي أعي ما يقول من كلمـــاتِ
كلمات من غير شكلٍ ولا نطق ولا مثــــل نـــغمـــة الأصواتِ
فكأنّي مخاطب كنت إيــــــــــاه علي خاطري بــذاتي لذاتــــــي
حاضرٌ غائبٌ قريب بعـــــــيدٌ وهو لم تــــحوه رسوم الصفاتِ

لذا كما أثار الحلّاج أهل عصره، أثار الباحثين من بعد وحيرهم، فكلماته الشعرية التي توحي أحيانا باعتناقه مذهب وحدة الوجود، تناقضت مع بعض كلماته النثرية التي تدل على تنزيه الإله المطلق، فتضاربت فيه الأقوال، واختلفت فيه الآراء، فذهب البعض إلى تأثره بالفلسفات الهندية البرهمانية، ومنهم من نفى ذلك عنه، وهناك من شبهه بالسيّد المسيح، كلٌ حسب فهمه لتراثه.. فنجد الحلّاج في نثره يخالف الحلّاج الشاعر حيث يقول "إن معرفة الله هي توحيده، وتوحيده تميزه عن خلقه" فأي وحدة وجود في تلك العبارة وأي حلول؟! لذا رأى البعض الآخر أن هناك فرق بين معتنقي مذهب وحدة الوجود، ومن يقولون بوحدة الشهود... فأصحاب رؤية وحدة الشهود والتي يرجح بعض الباحثين أن الحلّاج منهم يرون الله في كل شئ، لكنهم ينزهونه عن الحلول الحقيقي في أي شئ، وأيًا يكن مذهب الحلاج، فالأكيد أن مذهبه كان العشق، وأن التجربة الروحية التي عاشها والتي لا تخلو من تمرد وإثارة، لا تخلو أيضا من غموض ربما لا يفهمه غير أبي المغيث الحسين بن منصور الحلّاج المولود في عام 244هجرية، بقرية فارسية، والذي ساح في البلاد طالبا التصوف، غارقا في تجرته الروحية الملهمة، ضاربا المثل في قوة الحب والإرادة، ومواجهة الخطر في سبيل المعشوق، وسبيل مذهبه، والذي رأى الله بعين قلبه، رآه في نفسه وفي خلقه، في سكونه وفي تحركه، في علنه وفي سره.
عجبت منك ومنّي يا مـــنية المـتمنّي
أدنيتني منك حتّى ظــننــت أنّـك أنّي
وغبتُ في الوجد حتى أفـنيـتني بــك عـنّي
يا نعمتي في حياتي وراحتي بعد دفني

فكان مصيره كمصير العديد من العاشقين في دنيا الكراهية، وكمصير العديد من المتمردين في دنيا التعصب، كمصير الأحرار في دنيا العبيد، والشجعان في عالم الجُبناء، فمن عادة الإنسان النفور من المجهول، ومعاداة الآخر الذي لا يفهمه، لكن هيهات أن يموت الحلّاج وإن قتلوه، أو أن يفنى وإن صلبوه، ما دامت كلماته باقية، تلهم العاشقين، وتغذي الفن والشِعر والموسيقى، لا زالت قصائده يترنم بها المترنمون، ويتلذذ بها المحبّون، فبموته عاش الحلّاج وبتراثه العشقي الفنّي سيعيش، عاش الحلّاج، وهلك قاتله.



#محمد_صلاح_سليم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الانقلاب السلفي: من الأزمة إلى التأزم
- أصول التطور في مواجهة اليقين: قراءة تفكيكية
- الفلسفة... لماذا؟ (1)
- فلتحيا الوحدة الوطنية!!
- أحلام مريضة
- الدين بين الحقيقة والضرورة!
- لا تسأل .... فالله يحب الصامتين!
- الوهم المقدس
- الدين بين الغاية والحقيقة .. ودور العلم في نقد النص الديني !
- ......محاربة الإله .... حقيقة أم خيال ...؟؟


المزيد.....




- مكالمة هاتفية حدثت خلال لقاء محمد بن سلمان والسيناتور غراهام ...
- السعودية توقف المالكي لتحرشه بمواطن في مكة وتشهّر باسمه كامل ...
- دراسة: كل ذكرى جديدة نكوّنها تسبب ضررا لخلايا أدمغتنا
- كلب آلي أمريكي مزود بقاذف لهب (فيديو)
- -شياطين الغبار- تثير الفزع في المدينة المنورة (فيديو)
- مصادر فرنسية تكشف عن صفقة أسلحة لتجهيز عدد من الكتائب في الج ...
- ضابط استخبارات سابق يكشف عن آثار تورط فرنسي في معارك ماريوبو ...
- بولندا تنوي إعادة الأوكرانيين المتهربين من الخدمة العسكرية إ ...
- سوية الاستقبال في الولايات المتحدة لا تناسب أردوغان
- الغرب يثير هستيريا عسكرية ونووية


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد صلاح سليم - الحلاج: العاشق المصلوب