أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - طارق المهدوي - أوراق من دفتر الأوجاع















المزيد.....



أوراق من دفتر الأوجاع


طارق المهدوي

الحوار المتمدن-العدد: 5123 - 2016 / 4 / 4 - 19:25
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


   (لوحة العنبر للفنانة إنجي أفلاطون)
أوراق من دفتر الأوجاع 
 
 
 

 
 
 
           
 
على مدى نصف القرن الذي انقضى من عمري, رأيتُ وسمعتُ أفعالاً وأحوالاً جعلتني أحسد الأعمى والأصم, وما نسيتُ ذلك أبداً وأنا المبتلي بأوجاعي الخالدة، ولما كان قد صح العزم مني ولكن الزمن الردئ انفض عني, فقد اكتفيتُ بتدوين شهاداتي لوجه الحق قبل ملاقاتي لوجه الحق, في دفتر الأوجاع، والذي ضاقت جنباته بما يحمله, فراحت الأوراق تتساقط منه، الواحدة تلو الأخرى, على وقع الآهات المتصاعدة إلى عنان السماء مع كل وجيعة... آه...  آه...  آه... حتى مطلع الفجر...
 طارق المهدوي
 
 
 
 


ســوسـن
 
(1)
بمجرد انتهاء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 أدرك نظام الحكم أن بقائه مرهون بدعم المعسكر الاشتراكي، مما جعله يحاول الترويج لنفسه باعتباره نظاماً اشتراكياً، إلا أن هذه المحاولة اصطدمت بالشيوعيين المصريين الذين كانوا يصفونه بنظام رأسمالية الدولة الوطنية، مما أثار غضبه نحوهم فأخذ يحاصرهم ويضغط عليهم في مختلف المجالات، حتى دفعهم الشعور بالخطر نحو التقارب فيما بينهم، إلى أن اتحدوا عام 1958 تحت اسم الحزب الشيوعي المصري كإجراء تنظيمي للدفاع عن الذات، الأمر الذي اعتبره النظام تحدياً لقراره السابق بإلغاء الحياة الحزبية نهائياً من الخريطة السياسية المصرية، عبر حله لجميع الأحزاب القائمة وحظره التام لإنشاء غيرها، فسارع باعتقال عشرة آلاف شخص تحت اسم قضية الشيوعية الكبرى، ومن ضمنهم أبي الذي كان أحد القيادات الحزبية العليا وأمي التي كانت إحدى القيادات الميدانية للحزب، وأنا الذي كنت لم أزل محمولاً في أحشائها ثم ما لبثتُ أن أصبحتُ معلقاً على صدرها!!.
(2)
كانت وجبة التغذية اليومية المخصصة لكل معتقل والمسماة "جراية الجوع" تقتصر على رغيف خبز وقطعة جبن وبضعة أوراق من نبات الجرجير، وقد تحملوها على مضض لحين ولادتي، حيث أصيبت أمي بالشلل نتيجة لسوء التغذية فعجزت عن إرضاعي مما هددني بالموت، وانفجر بكائي مدوياً للتعبير عن رغبتي في الاستمرار على قيد الحياة التي وهبني الله إياها، وتسرب الخبر للخارج عبر زوار المسجونات الجنائيات. ورغم تشتيت المعتقلين الشيوعيين في عشرات السجون العمومية والمؤقتة والمعسكرات والكهوف، التابعة لمختلف الأجهزة السيادية على امتداد الأراضي المصرية، فقد تخاطبوا معاً عبر أوراق ابتلعها المسجونون الجنائيون، ليحملونها داخل أمعائهم وهم يجوبون سجون المحروسة طولاً وعرضاً، وقرروا أن يضربوا جميعاً عن الطعام طلباً لمعاملة أفضل لاسيما فيما يتعلق بالتغذية، حتى لا يموت الرضيع الذي كان خبره قد استمر في الانتشار داخل البلاد وخارجها. وقبل أن يتسع نطاق الإضراب ليشمل معتقلي الوفد والإخوان المسلمين وغيرهم، اضطر النظام لتحسين المعاملة واعتبرني منذ ذلك الحين أحد كوابيسه، رغم أنني كنت لم أزل في الساعات الأولى من عمري الذي كتب الله له البقاء!!.
(3)
تم توزيع أبي على سجن الواحات جنوب الصحراء الغربية بينما تم توزيع أمي على سجن القناطر في وسط الدلتا، وتلقى الاثنان كرفاقهما الآخرين تهديدات بالإعدام، وذلك ضمن الضغوط النفسية الرامية إلى إخضاع الشيوعيين لشروط نظام الحكم بأن يعملوا في مؤسساته الإعلامية والثقافية للترويج له باعتباره اشتراكي، فطلب أبي من رفاقه مساعدته على إيجاد طريقة لرؤية طفله الذي لم يكن قد رآه منذ مولده، ولا يعلم إن كان سوف يراه بعد ذلك أم لا تحت هاجس الإعدام. وبعد دراسة الموقف من كافة نواحيه تبين أنه يمكن نقلي بين السجون باعتباري ملحقاً عليها وليس مدرجاً بقوائم الاعتقال، وأنه توجد سيارة ترحيلات تابعة لمصلحة السجون تتحرك شهرياً من سجن القناطر إلى سجن الواحات في رحلة تستغرق يومين كاملين للذهاب والعودة، كما تبين أن أحد ضباط الترحيلات من حديثي التخرج، كان خلال دراسته الثانوية تلميذاً في مجموعات التقوية المجانية التي حرص أبي على تقديمها لشباب الحي، وقد رحب الضابط الشاب بالمهمة مشيراً بافتخار إلى خبراته المميزة في التعامل مع صغار الأطفال، والتي اكتسبها من معاملته اليومية لشقيقته "سوسن" لاسيما وأنها في مثل عمري!!.
(4)
               في اليوم السابق للرحلة انتبه الجميع إلى ما تنطوي عليه من مشقة، وأدرك الرفاق أنهم جميعاً أبائي، فحاولوا الشد من أزر أبي الذي استدار ليخفي دمعه، ثم أمسك الرفيق العم "أبو سيف" قلمه وأوراقه ليعيد كتابة إحدى الأغاني الفولكلورية بما يعبر عن رجاء الآباء بسلامة الوصول والعودة، رغم ما تنطوي عليه الرحلة من مخاطر، واختلط صوتهم بالنحيب وهم يرددون خلفه أغنية "قولوا لعين الشمس ما تحماشي... لاحسن حبيب القلب صابح ماشي". كما أدركت الرفيقات أنهن جميعاً أمهاتي فأخذن يشددن من أزر أمي إلا أن كلهن إنفجرن في البكاء مع أول دمعة انسابت من عينيها، وأمسكت الرفيقة العمة "إنجي" ريشتها وألوانها لتسجل آخر لحظاتي قبل رحيلي من عنبر الشيوعيات بسجن النساء في لوحة فنية تشكيلية أسمتها "العنبر"، وقد تعمدت أن ترسمني داخل لوحتها صاعداً لأعلى فوق مدرجات سلم حديدي وكأنها تأتمنني على رجاء الأمهات بمواصلة الصعود!!.
(5)
               اكتشف ضابط الترحيلات الشاب أن خبراته في التعامل مع شقيقته الصغرى داخل جدران منزلهم المجهز، لا تصلح للتكرار في عربة نقل ثقيل من النوع الذي يسميه المصريون "البوكس"، وهي تحمل جنوداً بأسلحتهم يحرسون مسجونين مقيدين بالسلاسل، وبراميل وأجولة مملوءة بالوقود والمواد الغذائية، لتخترق الصحراء القاحلة في رحلة ذهاب وعودة تستغرق يومين، لاسيما مع تعدد وتنوع المفارقات التي فرضتها نداءات الطبيعة على طفل في الشهور الأولى من عمره، كالجوع والعطش والحر والبلل وقضاء الحاجة والشقاوة وخلافه، إلا أنه مستلهماً توصيات أبويه بضرورة الحفاظ على حياة "الأمانة البشرية" التي بين يديه، قد بذل لحمايتي جهداً خارقاً كلله الله بالنجاح!!.
(6)
بكى الآباء في سجن الواحات أثناء مغادرتي إياهم وبكيت الأمهات في سجن القناطر خلال عودتي إليهن، كما بكى الضابط الشاب وهو يحتضن أبيه وأمه ليطمأنهما بنجاح مهمته الإنسانية النبيلة، والتي عوقب عليها بتأخير ترقيته ونقله من قسم الترحيلات بمصلحة السجون إلى قسم المواليد بمصلحة الأحوال المدنية. أما أنا فقد بكيتُ طويلاً لما ألحقته بي هذه الرحلة الشاقة من آلام بسبب تعدد إصاباتي، التي شملت فيما شملته المغص المعوي الناتج عما أكلتُه وشربتُه على غير المعتاد، والالتهاب الجلدي الذي يرجع إلى لفي بورق الجرائد بعد نفاد الغيارات القماشية، والحمى الحادة الناجمة عن لدغة أفعى صغيرة من الأنواع ذات السم الضعيف، بالإضافة إلى الثقوب التي ملأت جسدي بسبب الهجمات المتواصلة لحشرات طائرة وزاحفة وقافزة تنتمي إلى الفصائل الوحشية لمصاصي الدماء وآكلي لحوم البشر!!.
(7)
               بعد ثلاثين عاماً وخلال معاودتي لمصلحة الأحوال المدنية لتعديل بعض بياناتي، أفادني الموظف بأن اللواء قائد المصلحة يطلبني في مكتبه، فتوجهتُ إليه وأنا أتوجسُ خيفة من الأمر، ولكنني فوجئتُ بالرجل يقفز من مكتبه ليحتضنني ويقبلني، شارحاً لي أنه هو نفسه ضابط الترحيلات الذي سبق له في شبابه أن اصطحبني بين سجني القناطر والواحات، ومشيراً إلى أن انتقاله لموقعه الجديد سمح له بالتخلي عن اسم التمويه الذي كانت مصلحة السجون قد ألزمته به، وعاد لاستخدام اسمه الحقيقي "علاء"، ثم دعاني لزيارة منزلية أتعرفُ فيها على عائلته. حيث رأيتُ للمرة الأولى شقيقته "سوسن" التي هي من نفس عمري في قاعة الصالون المذهب الفاخر، وعلمتُ أنها مطلقة مثلي مما شجعني على مبادلتها كلمات الإطراء والإعجاب، ثم ما لبث مضيفي أن دخل الصالون بصحبة شقيقيه، وهما بدورهما لواءان يشغلان موقعين قياديين في جهاز سيادي. وسرعان ما أدركتُ لماذا فشل زواج "سوسن"، فالأخت الصغرى والوحيدة لثلاثة قادة عسكريين، كانت تحظى من اهتمامهم بدرجات تفوق قدرة زوجها المدني على قيادة قاربه، فقفز منه تاركاً إياه لها تحت قيادة إخوانها الثلاثة!!.
(8)
               كشفت "سوسن" لإخوانها الثلاثة عن إعجابنا المتبادل بقولها لهم على مائدة العشاء إنها أخيراً وجدت الزوج الذي يناسبها، وبلهجة مازحة لا تخلو من جدية خفية أصدر القادة "تصريحاً" بزواجنا، ولم أرُدُ عليهم سوى بابتسامة بروتوكولية مراوغة، فرغم إعجابي الشديد بالرقيقة "سوسن" وامتناني المطلق لشقيقها النبيل، إلا أنني لا أقبل سوى أن أكون القائد الوحيد للقارب الذي يحمل أسرتي. استأذنتُ القادة الثلاثة في نزولي إلى الشارع لشراء علبة دخان خاص بالغليون الذي أستخدمه ولا أستبدله بأدخنة أخرى منعاً للسعال، ورغم عدم يقيني بصواب ما أفعله فقد خرجتُ من منزلهم بلا عودة!!.
*****


دلال
 
(1)
               في عام 1964 تم الإفراج عن أبي وأمي مع عدة آلاف غيرهم من قيادات وكوادر وأعضاء الحزب الشيوعي المصري، بعد اطمئنان الجهات المعنية لنجاحها في "توضيبهم" على مدى خمسة أعوام من الاعتقال ليقوموا بتوفيق أوضاعهم السياسية نحو الخضوع لنظام الحكم الناصري، الأمر الذي ظهرت تجلياته سريعاً في قرارهم "التاريخي" بحل حزبهم والانضمام بشكل فردي كأسرى الحرب إلى عضوية حزب "الاتحاد الاشتراكي" الحاكم، مع إلحاق المثقفين منهم بالعمل في أجهزة الدولة الصحفية والإعلامية والثقافية وإلحاق الآخرين بالتنظيمات الرسمية للنقابات المهنية والعمالية، على أن يقوم هؤلاء وأولئك بالترويج للمشروع الناصري في مختلف الأوساط الشعبية وفقاً للإملاءات العليا. وكانت الجهات المعنية قد استخدمت في توضيبها للشيوعيين عدة وسائل منها إبهارهم بقرارات التنمية وإعادة توزيع الثروة وتوسيع نطاق الخدمات العامة بدعوى أنها قرارات اشتراكية، والضغط الخارجي عليهم عبر حشد التأييد الصادر من كبار قادة الحركة الشيوعية العالمية لجمال عبد الناصر باعتباره ثورياً مناهضاً للصهيونية والإمبريالية، بالإضافة إلى دفع الحزب الشيوعي المصري نحو حل نفسه من خلال المؤامرات المؤدية لتخريب أوضاعه الداخلية بواسطة ممثلي جناح "حدتو" في الحزب، والذين كانوا قد استعانوا بالجهات المعنية سراً، بعد إدراكهم لصعوبة سيطرتهم على شركائهم الآخرين في الحزب الذين يمثلون جناحي "طليعة العمال والفلاحين" و" الراية" وغيرهما من الأجنحة التي ضمت الرفاق الأكثر ارتباطاً بالواقع الوطني المصري، مقارنة بجناح "حدتو" الذي كان لم يزل يدار بتوجيهات قياداته اليهودية المقيمة في أوروبا ومناطق أخرى على جانبي المحيط الأطلسي!!.
               لم يكن أبواي ينتميان إلى جناح "حدتو"، لذلك فقد عوقبا على عدم إظهار تعاونهما أثناء توضيبات الجهات المعنية من أجل حل الحزب الشيوعي، فلم يحصلا على عضوية "الاتحاد الاشتراكي" كما لم يستعيدا وظائفهما السابقة في السلك الأكاديمي الجامعي، وتم إلحاقهما بإحدى الصحف الحكومية ليعمل أبي في مجال النقد الأدبي والتذوق الفني وتعمل أمي في مجال ترجمة وكالات الأنباء الأجنبية، وقد منحهما هذا الوضع دائرة صغيرة من الاستقلالية السياسية كانا حريصان على الاحتفاظ بها بأمل توسيعها تدريجياً في المستقبل رغم التحذيرات من إدراجهما ضمن قوائم المشاغبين. ونظراً لوقوع عملهما الجديد بمنطقة "وسط البلد" فقد اختارا لسكنهما شقة أرضية واسعة في إحدى العمارات الفخمة بحي"شبرا" المجاور، ثم قاما باستعادتي من جدتي لأمي والتي كانت قد استضافتني قبل عدة أعوام خلت في منزلها الكائن بحي "عابدين"، بمجرد أن طردتني مصلحة السجون خارج أسوار سجن النساء بالقناطر الخيرية فور بلوغي العامين من عمري بعد أن كنت مرافقاً لأمي منذ ولادتي بالسجن المذكور خلال اعتقالها السياسي فيه!!.            
(2)
               كان زوجان من عتاة المجرمين الجنائيين قد تم الإفراج عنهما مؤخراً نظراً لاكتمال مدة العقوبة، بعد محاكمتهما عقب تأميم"قناة السويس" عام 1956بتهمتي القوادة وتسهيل الدعارة الدولية، لتحويلهما منزلهما الواقع في مدينة "الإسماعيلية" بشرق البلاد إلى وكر للدعارة يتميز عن غيره من الأوكار باستخدامه للعاهرات اللواتي يتحدثن اللغات الأجنبية، ليكنَّ تحت طلب العاملين الأجانب لدى هيئة القناة قبل التأميم. ورغم ما اقتضته العقوبة من إبقاء الزوجين تحت المراقبة القانونية لمدة عامين تاليين على الإفراج، إلا أنهما نجحا في إبرام صفقة التفافية مشبوهة لإعفائهما من المداومة الليلية بقسم الشرطة مقابل تقديم خدمات الهوى المجانية للراغبين من المسئولين لاسيما ذوي المراكز العليا، الذين كان بمقدورهم الحصول على المزيد من الخدمات الإضافية المجانية مثل توصيل الطلبات إلى المنازل وتوفير صغيرات السن من الصبايا، واللواتي برزت بينهن "دلال" ابنة الزوجين القوادين باعتبارها الأكثر تميزاً من حيث مهاراتها في مختلف مجالات الترفيه المألوفة وغير المألوفة!!.
               وصل الضابط المنتدب من إحدى الجهات المعنية إلى مدينة "الإسماعيلية" قادماً من العاصمة، وقد ارتدى زياً خليجياً وأخذ يتحدث بلهجة أهل الخليج ليقيم في "كابينة" شاطئية مجهزة، ثم أرسل طالباً "دلال" لزيارته في "الكابينة" فسارعت القوادة "أم دلال" باصطحاب ابنتها ليلاً إلى"الزبون الخليجي"، الذي منحها الرسوم المالية المتفق عليها سلفاً مع إكرامية شخصية مضاعفة لتعود أدراجها بعد توصية ابنتها بإرضاء الزبون مهما كانت رغباته. وسرعان ما قامت قوة من زملاء الضابط المتنكر بمهاجمة "الكابينة" لتلقي القبض على "دلال" وهي في حالة تلبس مكتمل الأركان مع "الزبون الخليجي"، الذي خلع زي التنكر وعاد إلى موقع عمله الأصلي بعد أداء المهمة وتأدية التحية، تاركاً خلفه "دلال" ليتم التحفظ المشدد عليها بزنزانة انفرادية تحت بند المساومة على الحرية والأموال والحماية مقابل التعاون مع الجهات المعنية. وهكذا أرسلوها إلى المعهد المتخصص في إعداد نساء "السيطرة" للاستخدام كأسلحة بشرية هجومية، تخترق منازل المشاغبين وغير المتعاونين من قيادات الإخوان المسلمين والوفديين والشيوعيين، كأبي وأمي اللذان كانت "دلال" من نصيبهما بمجرد إكمالها للتدريبات النظرية والعملية الأولية في مجال "السيطرة"، استناداً لقواعد المدرسة الأمريكية الحديثة للسيطرة على البشر والتي كان المبعوثون الأمنيون الرسميون قد عادوا بها مؤخراً إلى "القاهرة"، بعد إتمامهم لدوراتهم التدريبية "السرية" رفيعة المستوى في مختلف الأكاديميات الموالية لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والمنتشرة على جانبي المحيط الأطلسي. ولما كان أبواي يبحثان عن خادمة مقيمة في منزل "شبرا" فقد ابتلعا "الطُعم" عندما أحضر المكوجي معه صبية لهما، طالباً منهما الإكرامية لكونها خادمة شابة مقيمة تحمل أوراقاً ثبوتية "رسمية" ورواية محبكة عن ظروف نشأتها واضطرارها للخدمة في المنازل، رغم أنه لم يكن في أوراقها وروايتها أي شيء من الصحة سوى اسمها الأول فقط "دلال"!!.
(3)
               أقامت "دلال" في الغرفة الصغيرة الملحقة بالمطبخ، وسرعان ما بدأت تستخدم مهاراتها المميزة لإغواء أبي الخارج لتوه إلى الحرية بعد خمسة أعوام من الاعتقال السياسي، إلا أن كل محاولاتها باءت بالفشل الذريع، فقد كان أبي نخبوياً في علاقاته النسائية رافضاً للتعامل الحميم مع أي امرأة لا تنتمي إلى نفس طبقته الأرستقراطية الأصلية، رافعاً في ذلك شعار"لا تسمح للغريب بقطف وردة من بستانك ولا تسمح لنفسك بقطف الورود من بساتين الغرباء". ونظراً لأن ما لايُدرك كله لا يُترك كله فقد تلقت "دلال" أمراًَ بالاستدارة نحوي لتنفيذ إحدى قواعد مدرسة السيطرة على البشر، ألا وهي قاعدة "نزع الأشواك المحتملة" والتي يترجمها المصريون إلى " تحويدة العريس" بما تقتضيه من توجيه ضربة استباقية ضد الصبي المحتمل مشاغبته مستقبلاً، بإغراقه في أي نوع من الملذات لدرجة الإدمان الذي يبعده عن طريق المشاغبات المؤرقة. وهكذا انتقلت "دلال" للإقامة في غرفتي ثم في فراشي بدعوى أنني مازلت صبياً صغيراً يحب الاستماع إلى حكايات ما قبل النوم، لتستدرجني امرأة الهوى المحترفة نحو الدخول برفق ونعومة في ذلك العالم السحري من الحكايات المجسمة، القائمة على استخدام الحواس الجسمانية الخمس لكل طرف في تعاملاته مع الجسم الحي للطرف الآخر، وفقاً لمجموعة فنية مبرمجة من ألاعيب الإرسال والاستقبال المتبادلة والتي تؤدي عبر ممر طويل من أرفع حالات اللذة الملموسة إلى أعلى درجات النشوة المحسوسة!!.
               كانت هزيمة 1967 قد وقعت، وبحكم عمله الصحفي فقد شاهد أبي عن قرب وجوه الشهداء، مما كسر حلمه الوطني وحول حماسه إلى انفعال دفعه لاتهام كبار المسئولين علناً بتعمد إضاعة الوطن، وبدلاً من رعاية حالته برفق طبي حتى يتجاوز صدمته العصبية، سواء من باب المراعاة لمركزه المهني والأدبي ولدوره التاريخي في مختلف أوجه النضال الوطني، أو من باب ما كانوا يسمونه آنذاك "إزالة آثار العدوان"، فقد اختصمه المسئولون الكبار من جانبهم معتبرين إياه عدواً شخصياً لكلِّ منهم، وأخذوا ينكلون به في عمله ورزقه ومصالحه وعلاقاته الاجتماعية ويتحرشون به أينما ذهب، وفقاً لإحدى قواعد مدرسة السيطرة ألا وهي قاعدة "الاستنزاف المتواصل للخصم" والتي يترجمها المصريون إلى "فركش له غزله"، وإزاء عدم استسلامه أقدموا على إجراء انتقامي ضده تم نقله حرفياً عن دول الاستبداد الشرقي البائدة، وكان هذا الإجراء هو الأول والأخير من نوعه في تاريخ السجلات المصرية للخصومة السياسية، حيث أودعوه في غرفة انفرادية داخل مستشفى المجانين كالمعتقلين بدون محاكمة وبدون علاج. ورغم اتخاذ هذا الإجراء خلال الأسابيع الأخيرة لحكم "عبد الناصر" إلا أن "السادات" لم يلغه عندما خلفه كرئيس للجمهورية عام 1970، كما أبقى عليه بعد تغييره لكل قيادات الجهات المعنية خلال إطاحته الناجحة بشركائه عام 1971 ليتولى حكم الدولة منفرداً كسلفه، مما أشار بوضوح إلى أن هذا الإجراء الانتقامي الشاذ بحق أبي سوف يستمر لفترة طويلة من الزمن الردئ، الأمر الذي استلزم إعادة ترتيب كافة الأوضاع العائلية سواء من جانبنا أو من جانب "دلال" التي كان قد تم تكليفها بتأدية مهمة أخرى في موقع جديد، فرحلت بعد أن أذاقتني مبكراً جداً طعم المطارحات الغرامية بمذاقه الذي يبقى مرافقاً لصاحبه على امتداد العمر كالوشم!!.
(4)
               تئن الحياة الاجتماعية في البلدان العربية بشكل عام تحت وطأة الانغلاق الذي تختلف شدته النسبية حسب اختلاف المناطق الجغرافية والمراحل التاريخية، إلا أن منطقة الخليج العربي خلال القرن العشرين قد تبوأت بجدارة مركز الصدارة لقائمة البلدان الأكثر شدة فيما يتعلق بالانغلاق الاجتماعي، لاسيما اختلاط الجنسين الذي اعتبرته السلطات جريمة تستوجب العقاب، مما أصاب العلاقات الطبيعية بين الرجل والمرأة هناك بخلل هيكلي جسيم لا تتوقف تعقيداته السلبية عن التداعي نحو الأسوأ، حيث أصبح معظم الرجال يلبون احتياجاتهم الغريزية إما عبر أجساد الخادمات الوافدات من مختلف بلدان العالم غير العربية، أو في أسواق المتعة السياحية المقامة سراً داخل البلدان العربية المجاورة الأقل انغلاقاً. في حين اتجه عدد كبير من النساء إلى المثلية الجنسية لتلبية الاحتياجات الغريزية لبعضهن البعض بالمنازل المغلقة عليهن من الخارج كالسجون، ناهيك عن المثلية الجنسية بين "الرجال" بالإضافة إلى الصندوق المغلق لظاهرة زنا المحارم. وبينما تستطيع مثليات كثيرات تجاوز الأمر بمجرد العثور على رجال حقيقيين يملأون الحياة بشكل طبيعي، إلا أن البعض منهن لاسيما أولئك اللواتي اعتدن تأدية الأدوار الذكورية في العلاقات المثلية يتمسكن بالمثلية كهدف غرامي في حد ذاته حتى لو توافر الرجال أمامهن ليصبحن "سحاقيات"، ومن بين هؤلاء وصلت إلى القاهرة فنانة تشكيلية تنتمي لإحدى العائلات الخليجية الحاكمة، والتي كان مجلس العائلة حريصاً على تزويجها مبكراً من قائد عسكري أصبح فيما بعد مسئولاً عن ملفات معلوماتية هامة تتعلق بمناطق توتر إقليمية دائمة الاشتعال، وسرعان ما تم الإعلان عن افتتاح معرض لأعمالها الفنية في كبرى قاعات الجاليري بوسط العاصمة المصرية، حيث كانت "دلال" تنتظر هناك للإيقاع بها!!.
               رغم حصولها من الجهات المعنية التي تعمل لصالحها على التوجيه النظري والتدريب العملي في مجال المثلية الجنسية، إلا أن "دلال" قد بذلت من جانبها جهداً شخصياً خارقاً حتى نجحت في الاستحواذ على قلب وعقل السحاقية الخليجية، التي قررت بمضي الزمن مكافئة معشوقتها المجتهدة بتعيينها في المؤسسة الكبرى المملوكة لها والتي كانت آنذاك تحتكر أسواق التوزيع الخارجي للإنتاج الصحفي والإعلامي والفني والإعلاني، حيث تولت "دلال" موقع مديرة المكتب الإقليمي للمؤسسة الاحتكارية بالقاهرة والكائن في إحدى عمارات حي "المعادي" المواجهة لنهر النيل مباشرةً، على أن تنتقل للسكن في شقة أخرى بنفس العمارة المملوكة أيضاً لعاشقتها، التي خصصت لنفسها "فيللا دوبلكس" بأعلاها لتقيم فيها بعض الوقت من العام، بدعوى الإشراف على سير العمل بالمكتب الإقليمي وهو ليس سوى ساتر ظاهري لإخفاء هدفها الحقيقي المتمثل في تحصيل أكبر قدر ممكن من المتعة الماجنة برفقة معشوقتها، وقد تجاوبت "دلال" بخبراتها المميزة مع كل الرغبات الشاذة للسحاقية التي دفعتها الغيرة إلى إلزام معشوقتها بارتداء الإسدال الأسود لكيلا تراها أعين الغرباء فتشتهيها أنفسهم، لاسيما وأن التجاوب كان يضمن لها الاستمرار ليس فقط في تحقيق المكاسب الشخصية ولكن أيضاً في توفير التدفق المعلوماتي لصالح الجهات المعنية بشأن الزوج الخليجي وغيره!!.
(5)
               بمجرد أن أصبح المكتب الإقليمي للمؤسسة الاحتكارية تحت إدارة "دلال" حتى قامت بإعادة تشكيل عضويته بالكامل، بحيث لم يعد يضم سوى العناصر النسائية التي انتقتها هي شخصياً بعناية فائقة تليق بخبراتها الموروثة في مجالي الدعارة والقوادة إلى جانب ما سبق لها أن تعلمته من دروس "السيطرة"، وقد تجلت اختياراتها على كافة المستويات ابتداءً برئيسات الأقسام مروراً بالصحفيات والإعلاميات والفنانات وفتيات الإعلانات، حتى المتخصصات في المهام التقنية كالطباعة والصوتيات والتصوير والإضاءة والديكور، وكذلك عاملات المراسلة ومضيفات البوفيه وغيرهن. ولما كانت معاملات المكتب تشمل فيمن تشمله بعض قادة الدول والحكومات وبعض رموز الرأي العام والمجتمعات وبعض كبار رجال المال والأعمال، فقد اشترطت "دلال" بوضوح على كل مرؤوساتها المسارعة بتلبية الرغبات الترفيهية لعملاء المكتب مهما كانت صعوبتها أو غرابتها، ولم تتوقف هي شخصياً عن ممارسة ذلك بنفسها كلما استدعت الضرورة وطلبها أحدهم لمتعته. وفي الجهة المقابلة اشترطت على عملاء المكتب ذوي الرغبات الترفيهية أن يلبوا أهوائهم وأمزجتهم مع عاملات المكتب دون الخروج من عمارة "المعادي"، حرصاً على سمعة المؤسسة إلى جانب السمعة الغالية لشخوصهم المشهورة، فكان كل واحد من الراغبين يصطحب العاهرة التي وقع عليها اختياره من بين نساء المكتب، إما إلى الفيللا الدوبلكس الخاصة بمالكة العمارة أو إلى الشقة التي تقيم فيها "دلال" أو إلى إحدى الغرف السرية الملحقة بالمكتب حسب رغبة العميل ودرجة أهميته لدى المتربصين به، حيث تم التجهيز المسبق لجميع المواقع الصالحة للمطارحات الغرامية بوحدات تصوير متطورة، لتنتهي "مناورات الفراش" بثلاث نسخ من فيلم واحد، تودع الأولى في الخزينة الخاصة بكشوف إنتاج "دلال" وتذهب الثانية للسحاقية الخليجية عساها تقتل الملل المحيط بحياتها الخاصة المشوهة أصلاً، أما النسخة الثالثة والأهم فتصل مع مخصوص للجهات المعنية التي استمرت توجيهاتها إلى "دلال" بشأن احتياجات محددة تجاه أهداف بشرية بعينها!!.
               في يناير 1977 احتج ملايين المصريين ضد سياسات نظام الحكم، فاستعد الرئيس "السادات" للهروب بطائرته الخاصة إلى "السودان"، لولا إخماد الاحتجاجات الجماهيرية لاحقاً بواسطة الجهات المعنية فكافئها "السادات" بمنحها المزيد من الصلاحيات، الأمر الذي ترتب عليه اتساع الآفاق الخاصة بتطبيقات قواعد المدرسة الأمنية الأمريكية الحديثة للسيطرة على البشر، بما صاحب ذلك من توسيع نطاق الاستخدامات التقنية المتطورة لوحدات التصوير صغيرة الحجم والقادرة على اختراق منازل العناصر المستهدفة، لمشاهدتهم بوضوح وهم "بلابيص" كما قال أحد وزراء الداخلية آنذاك علناً ليتفاخر أمام "السادات". ولمواكبة هذه التطورات فقد تلقت "دلال" تعليمات جديدة أدخلت بموجبها بعض الخدمات الإضافية على نشاطها التقليدي، فأصبح عملاء المكتب الغاوون قادرون على التقاط عاملات المكتب لاصطحابهن إلى حيث يرغبون أو الاتصال بهن هاتفياً ليصلن إليهم حيث ينتظرون، وذلك بمجرد نجاح إحدى نساء السيطرة في الإيقاع بأحد الرجال المستهدفين سلفاً. إلا أن هذا التطور الإضافي كان كفيلاً بتوفير نسخة واحدة فقط من فيلم "مناورات الفراش" لتودع ضمن الملفات الخاصة بالشخص المستهدف لدى الجهات المعنية، دون علم مالكة المؤسسة الاحتكارية والتي ضاقت بنقص حصتها من الأفلام فيما فسرته بتكاسل "دلال" نظراً لتقدمها في العمر!!.
(6)
               عقب اغتيال "السادات" عام 1981 بأيدي السلفيين، شنت أجهزة الدولة هجوماً واسعاً ومكثفاً ليس فقط ضد تجمعاتهم وأفكارهم ولكن أيضاً ضد كل ما يميزهم من سلوكيات بما فيها أزيائهم المفرطة في احتشامها لدرجة الهوس، الأمر الذي دفع "دلال" نحو خلع إسدالها الأسود لتعود إلى سيرتها الأصلية بارتداء الأزياء المفرطة في سفورها لدرجة الفجور. وهو نفس ما فعلته في ذات التوقيت الصبية "فرحة" بمجرد وصولها لأول مرة إلى "القاهرة" بالنية المبيتة والمشددة على عدم العودة مجدداً لمسقط رأسها، في تلك القرية الفقيرة الواقعة عند الأطراف النائية لمحافظة "بني سويف" شمال الصعيد، حيث كانت قد التحقت لتوها بكلية الإعلام في جامعة القاهرة ومن ثم أقامت باستراحة الطالبات في المدينة الجامعية. التقطت "فرحة" بمكرها الفلاحي طبيعة المرحلة، وأدركت أنها لن تحصل على فرصة عمل صحفي سريع ومميز بالعاصمة ما لم تخلع وتخضع، وهكذا قامت الجهات المعنية بعد إخضاعها بتمكينها من التدريب خلال فترة دراستها في إحدى الصحف الحكومية لتنشر اسمها على التفاهات التي تكتبها، مع منحها راتباً شهرياً ضخماً عبر تشغيلها بالقسم الصحفي في المكتب الإقليمي الذي تديره "دلال" لصالح المؤسسة الخليجية الاحتكارية من الناحية الظاهرية. وسرعان ما تبوأت الصبية "فرحة" الصدارة على رأس قوائم طلبات زبائن الترفيه من عملاء المكتب، ليس فقط لصغر سنها وفوران جسدها ولكن أيضاً لبشاشة وجهها وخفة دمها، حتى أصبحت البطلة الأكثر تكراراً في أفلام "مناورات الفراش" مع مختلف الرجال الذين تستهدفهم كاميرات التصوير، وهو ما كان يتفق آنذاك مع أفكارها المشوشة حول الممارسات المعبرة عن الانتماء الوطني والحرية الاجتماعية، ولم تتأخر السحاقية الخليجية عن ركب الإعجاب العام بالصبية العاملة لديها فأرسلت تدعوها إليها، ثم أخذت تكرر الدعوة حتى أحلتها تدريجياً محل معشوقتها السابقة "دلال" التي اكتفت بموقع القوادة!!.
               اكتشفت "فرحة" أن المثقفين من العناصر المستهدفة يعزفون عنها بسبب سطحيتها الظاهرة بوضوح في أحاديثها الريفية الساذجة، وإزاء تكرار هذا العزوف غير المألوف لديها بما يحد من انطلاقها نحو احتكار بطولة أفلام "مناورات الفراش"، فقد حاولت الصبية الحصول على بعض الإكسسوارات الثقافية المدنية العامة لتعويض القصور وسد النقص، وهنا قامت "دلال" بعد مراجعة الجهات المعنية بتوجيهها صوب مجلسي الذي كنت أعقده بانتظام بواحد من منتديات "وسط البلد"، لاسيما وأن أنشطتي في مختلف مجالات الشأن العام والخاص لم تخرج يوماً عن المتابعة بواسطة شبكات "الرادار"، سواء تلك الشبكات المحدودة التي تديرها "دلال" بدوافع أنثوية أو تلك الشبكات الأوسع نطاقاً العاملة لصالح الجهات المعنية بدوافع سياسية. وهكذا أصبحت "فرحة" أحدث أعضاء مجلس السمر الذي ألتقي خلاله مع مجموعة من أصدقائي المثقفين، حيث حرصت على تقديم نفسها لنا جميعاً باعتبارها مجرد طالبة جامعية تسعى للمشاركة في الحياة الثقافية ولو بالحضور، وسرعان ما انتقل حضورها من مجلس السمر إلى فراش الرغبة لكل واحد فينا تباعاً، وقد تعمدت الصبية أن تلتقط أولاً بأول جميع المفردات السلوكية واللفظية التي تميز المثقفين عن غيرهم فيما يتعلق بالمطارحات الغرامية، وكأنها كانت ترفع بجسدها العاري بصماتنا الثقافية، لإدراجها ضمن ملف خبراتها الجنسية من باب الاستيفاء وبحيث تستطيع استدعاء هذه البصمات لاستخدامها وفقاً لضرورات "السيطرة"!!.
(7)
               بدأت "فرحة" عملية رفع البصمات بي أنا شخصياً حيث حاولت منحي أكبر قدر من السعادة، في نفس الوقت الذي راحت فيه تستعلم مني عن كافة التفاصيل المتعلقة بالمطارحات الغرامية مثل الأهمية النسبية لاستخدامات الحواس المختلفة والكيفية والتوقيت الأنسب لكل منها، ومثل السلوكيات الأكثر تأثيراً خلال مراحل التحضير السابقة على افتتاح العرض الجنسي وتلك الأكثر لياقة خلال مرحلة ما بعد الاختتام... وغيرها. وبعد مرورها على جميع أفراد مجموعتنا انتهت الصبية بأكثرنا سذاجة وهو من النوع البشري الذي تصفه اللهجة العامية بأنه "يحب على روحه"، فوقع في حبها بعد أول خلوة واقفة بينهما على سلالم إحدى عمارات "وسط البلد". كان صديقنا الساذج كادحاً يكتب المقالات "الحنجورية" ويرسلها بالبريد للنشر في بعض الصحف والمجلات العربية الراديكالية، فيتلقى من هنا أو هناك على فترات زمنية متباعدة أموالاً قليلة، تبقيه كما هو من حيث عجزه عن تناول الطعام الساخن إلا خلال زياراته المتقطعة لأهله الفقراء في بلدتهم الريفية المجاورة لقرية "فرحة" بمحافظة "بني سويف"، إلا أن الفتى لم يدخر وسعاً لإرضاء أنوثتها الحقيقية المخفية عمداً داخل أعمق أعماق قلبها، ولإدراكها بأن وقوعها في الحب يعرقل طموحها المهني فقد صدته الصبية قدر استطاعتها للإبقاء على خلو قلبها، ومع ذلك انهارت دفاعاتها بمضي الزمن واستمرار محاولاته المبتكرة فبدأت تشعر نحوه بألفة تطورت إلى قبول ثم إعجاب ثم باتت على أعتاب الحب الأول في حياتها!!.
               بمجرد حصول "فرحة" على شهادة إكمال دراستها الجامعية تم تعيينها كمحررة بقسم التحقيقات المصورة في الصحيفة الحكومية التي كانت تتدرب بها خلال فترة الدراسة، أما فتى أحلامها الراديكالي فكان قد التحق كمحرر بقسم الحوادث في صحيفة معارضة أسبوعية، وسرعان ما كنت مدعواً إلى قاعة المناسبات بنقابة الصحفيين لحضور حفل زفافهما حيث قمتُ بالتوقيع كأحد شاهدي عقد القران. أسفر زواجها عن تراجع أدائها في "مناورات الفراش" بشكل ملحوظ، وازداد الأمر تفاقماً عندما بدأ نداء الأمومة الغريزي يلح بشدة على وجدانها، بما يستلزمه ذلك من نزع وسيلة منع الحمل "الميري" عن جسدها مع وقف علاقاتها غير الشرعية خارج فراش الزوجية لتنجب لزوجها الذي أحبته أطفالاً يشبهونه. وعليه فقد قررت الصبية طي صفحة الماضي القذر بكل سطورها الملوثة تحت مظنة ساذجة حول إمكانية انسحابها بسهولة، لاسيما وأنها أعطت لشركائها في الماضي اللعين أكثر مما أخذته منهم. إلا أن تفكيرها في الانسحاب قد أزعج كل الأطراف المعنية بماضيها، ابتداءً من القوادة "دلال" التي أصبحت تعتمد عليها كأهم عضوة فيما تديره من شبكات لخدمات الترفيه، مروراً بالسحاقية الخليجية التي اعتادت أن تهجر وليفاتها من جانبها هي دون أن تتعرض قبل ذلك في حياتها الماجنة للهجر من إحداهن، وصولاً إلى الجهات المعنية التي كانت بعض الملفات الهامة لديها فيما يتعلق بالسيطرة على البشر مازالت قائمة ومفتوحة، استناداً لاستمرار أداء "فرحة" لإنجازاتها الغرامية في "مناورات الفراش". ومع ذلك فإن انزعاج شركاء الماضي الداعر لم يمنع الصبية "فرحة" من تنفيذ القرار الأصعب بانسحابها، تمهيداً لدخولها بدون تحايل إلى عالم الأمومة الغريزي الذي يناديها بإلحاح بعد أن كانت قد دخلت بالتحايل إلى عالمي الصحافة والزواج!!.
(8)
               زارتني "دلال" في منزلي بشكل مفاجئ مع تباشير الصباح الأولى لأحد أيام الجمعة، مدعية رغبتها في إحياء المطارحات الغرامية القديمة جداً بيننا، ثم ما لبثت أن ادعت استنجادها بي لتوجيهها بالرأي السديد فيما يجب عليها فعله بشرائط أفلام جنسية فاضحة عثرت عليها خلال عملها بالمكتب، الذي قالت لي أنها سكرتيرته وليست مديرته، وأصرت على عرضها أمامي لأرى "فرحة" في أوضاع ترفيهية احترافية متعددة مع أشخاص مختلفين من طالبي الهوى، وغادرتني "دلال" بعد رؤيتي لأفلام "مناورات الفراش" حيث كانت هذه الرؤية هي بيت القصيد بالنسبة لزيارتها. اتصلتُ من جانبي على الفور بصديقي الذي هو زوج "فرحة" وطلبتُ منه بنية سليمة التوجه إلى المكتب الإقليمي الواقع في حي "المعادي"، للوقوف بنفسه على "ادعاءات" غريبة تخص زوجته الصبية قبل أن يقرر ما يراه مناسباً في هذا الشأن العائلي الخاص، لاسيما وإنني آنذاك لم أكن قد علمتُ بعد أي شيء عن شرور "دلال" أو عن المدرسة الأمنية للسيطرة على البشر أو عن التفاصيل المحيطة بما رأيته لتوي من أفلام "مناورات الفراش"، كما كنت اعتبر مغامرات "فرحة" قبل زواجها انحرافاً في مفاهيم الحرية الشخصية وهو انحراف قابل للتوبة وبالتالي للتسامح والغفران، والأهم هو أنني لم أكن أتخيل إمكانية استخدامي من قبل عصابات الأشرار ضد إحدى المنشقات عنهم وفق حساباتهم التي لا ناقة لي فيها أو بعير!!.
               سارع الزوج المذعور بزيارة "دلال" في مكتبها ليمضي معها عدة ساعات عصيبة، ثم خرج وقد ازداد ذعره متجهاً نحو محافظة "بني سويف"، حيث عقد اجتماعاً سرياً مطولاً للحكماء الكبار في عائلته الأصلية وأنسبائه من أقارب زوجته. وبعد ثلاثة أيام عثرت وحدات شرطة المسطحات المائية على الجثة الغارقة للصبية "فرحة"، إثر سقوطها في نهر النيل قبالة حي "المعادي" وهي تحمل في أحشائها جنيناً وأدته المياه قبل ولادته، وقُيدَت الوفاة باعتبارها حادث انتحار لأن أحداً لم يتقدم بأي اتهام جنائي..... انقطعت أخبار القوادة "دلال" مديرة المكتب الإقليمي، كما انقطعت أخبار السحاقية الخليجية مالكة العمارة والمؤسسة الاحتكارية، ولم تنقطع ممارسات السيطرة على المستهدفين من البشر وفقاً للمدرسة الأمنية الأمريكية الحديثة. أما الزوج فرغم مرور حوالي ربع القرن على الرحيل الدرامي الغامض لزوجته، إلا أنه ما زال حتى اليوم هائماً على وجهه ذهاباً وإياباً في طريق الكورنيش الممتد بمحاذاة نهر النيل من أقصى جنوب العاصمة حتى أقصى شمالها وهو ممزق الثياب، ليوزع نظراته المذعورة مرة إلى الأسفل حيث صفحة المياه البيضاء التي لا يتوقف جريانها ومرة إلى الأعلى حيث أسراب الغربان السوداء التي لا يتوقف طيرانها، مكرراً بشكل متواصل وبدون انقطاع على مدار الساعة مثلاً شائعاً للشكوى باللهجة العامية يقول: "يا فرحة ما تمت، أخذها الغراب وطار"!!.
*****


تيسـير
 
(1)
               في أواخر عام 1966 تم إعدام سيد قطب واثنين من إخوانه بتهمة قيادة إحدى المحاولات الفاشلة لقلب نظام الحكم، مع حبس العشرات لمدد تتراوح بين المؤبد والثلاث سنوات. وتجاهلت الأحكام الصادرة عن القضاء العسكري الإشارة إلى عدة مئات آخرين من الإخوان المسلمين المتهمين على ذمة نفس القضية، مما أدى لتحويلهم إلى معتقلين تحت رحمة الأهواء المزاجية لأجهزة الأمن السياسي، التي اشترطت لإطلاق السراح كتابة تعهدات خطية ملزمة بالنأي عن أي مشاركة مستقبلية في الشئون العامة حتى لو كانت صلاة الجماعة أوقراءة الصحف، وهو ما رفضه خالي الذي كان إماماً لأحد المساجد الأهلية بمسقط رأسه في حي "عابدين"، فبقي رهن الاعتقال عدة سنوات قبل نفيه إلى قرية صغيرة في بطن جبلٍ ناءٍ بأقاصي الصعيد تسكنها أغلبية من طائفة مسيحية معروفة بتشددها الدينى، حيث تحددت إقامته في منزل ريفي لا يغادره مطلقاً ولا يستقبل زائرين فيه إلا بعد حصوله على تصريح مسبق لكل زيارة من الحاكم العسكري العام!!.
               أما أبي فقد أصابته هزيمة 1967 بصدمة عصبية انفعالية، لاسيما وأن ثقته المفرطة في "وطنية" نظام الحكم شكلت إحدى أهم العوامل التي أقنعته هو ورفاقه قبل عامين فقط بالإستجابة لضغوط أجهزة الأمن السياسي، وحل الحزب الشيوعي الذي كانوا قد أعادوا تأسيسه بصعوبة بالغة عام 1958. فراح أبي عقب الهزيمة يردد علناً اتهاماً صريحاً بتعمد  إضاعة الوطن لكبار المسئولين، الذين سرعان ما عاقبوه بإيداعه في غرفة انفرادية داخل مستشفى المجانين كالمعتقلين بدون محاكمة وبدون علاج!!.
(2)
قام أبي بمجرد إيداعه في المستشفى بتطليق أمي حتى لا تتم مضايقتها بسببه أو يضغط عليه خصومه من خلالها، فأعربت أمي عن تقديرها لظروفه وانتقلت للحياة مع أمها العجوز، لاسيما وقد أصبحت تقيم بمفردها في شقتها المتسعة التي تشغل كامل الطابق الثاني والأخير بأحد البيوت القديمة الواقع على ناصية اثنين من أهم الشوارع التجارية في حي "عابدين" بقلب القاهرة، بعد اعتقال ابنها الوحيد ثم نفيه خارج العاصمة بما أعقبه من رحيل زوجته وأبنائه إلى الصعيد ليكونوا بجواره في محنته. وقد تسببت عودة أمي إلى مسقط رأسها في إفساد مخططات صاحب البيت، وكان يسكن الطابق الأول ويدير في الوقت ذاته المقهى الذي يحتل كل مساحة الطابق الأرضي بعد قيامه بفتح الجدران الداخلية لجميع محلات البيت على بعضها، وهو ينتظر بفارغ الصبر خلو شقة جدتي لأمي بوفاتها حتى يتمكن بعد ذلك من هدم بيته لبناء فندق سياحي محله!!.
فرضت الأوضاع العائلية الجديدة نفسها على إقامتي التي توزعت بين منزل جدتي لأبي بحي "مصر الجديدة" خلال الإجازات والأعياد، ومنزل جدتي لأمي بحي "عابدين" أثناء انتظام الدراسة لضمان جدية مذاكرتي تحت إشراف أمي. وفي الوقت الذي كانت فيه صبايا مصر الجديدة الرقيقات اللواتي في مثل عمري يتعاملن معي بنعومة تنضج الرجولة مبكراً، فإن " تيسير" ابنة صاحب بيت عابدين ذات الجمال الوحشي العدواني والتي هي أيضاً  في مثل عمري كانت دائمة الشجار معي كلما التقينا في السوق أو على السلالم أو عند مدخل البيت، الذي تتباهي دائماً بأنه مملوك لأبيها بينما نحن مجرد سكان عندهم!!.
(3)
               فجأة اختفى خالي، رغم كثافة أطقم الحراسة العلنية والسرية المدججة بالسلاح وتناوبها بانتظام على مدار الساعة حول المنزل الريفي الواقع في بطن الجبل والذي كان قد تم تحديد إقامته بداخله، وفشلت كل الجهود المبذولة للحصول على إجابات مفيدة بشأن اختفائه الغامض عن طريق السلطات الرسمية التي حاولت إخلاء مسئوليتها عبر اتهامه بالهروب من الرقابة، وهو ما لا يمكن حدوثه عملياً في ظل وضعه تحت الحراسة المشددة واللصيقة التي كنت بنفسي قد عانيتُ الأمرَّين من تشددها عندما اصطحبتني جدتي لأمي خلال إحدى زياراتها المنتظمة له، في ذلك اليوم الذي أسمعني خالي فيه شرحاً لبيت شعري يقول: "أسدُّ عليَّ وفي الحروب نعامة"!!.
               بعد مغادرة أمي إلى عملها نادتني جدتي لتوديعي بحرارة غير مألوفة حيث احتوتني في أحضانها لما يقارب نصف الساعة، وهي تبكي قائلة: " كان على عيني يا حبة عيني لكن خالك يناديني"، ثم اتجهت السيدة العجوز إلى الصعيد للبحث عن ضناها المفقود غير حاملة معها سوى العصا الخشبية الغليظة التي تتوكأ عليها وتتلمس بها في مواجهة وهن العظام وضعف البصر. كانت جدتي لأمي تتحرك وهي "مندوهة" بالنداء الغريزي للأمومة عساها تحصل على أي معلومات تساعدها في العثور على ابنها الوحيد حياً أو ميتاً، لكنها سرعان ما لحقت به في الاختفاء الغامض وكأن رمالاً متحركة قد ابتلعتهما تباعاً، الأمر الذي أسعد صاحب بيت عابدين حيث أعاد إحياء مخططاته بالاستيلاء على الشقة تمهيداً لهدم البيت وبناء الفندق محله، مما جعله يعاود مجدداً التودد لكل ذوي النفوذ في الدولة طالباً منهم أن يدعموه بأي ثمن حتى لو كان التضحية بشرف أهل بيته وعرضهم!!.
(4)
               في أواخر عام 1970 تولى السادات رئاسة الدولة، ليصطدم بمنافسيه داخل أجهزتها المختلفة، فيذيقهم ما سبق أن أذاقوه لغيرهم كالحبس والاعتقال والنفي وتحديد الإقامة ومنع السفر والطرد خارج الحدود وغيرها من العقوبات العادية والاستثنائية، وسرعان ما شرع في تفكيك الأنظمة السياسية التي كان منافسوه يستندون إليها كمراكز لقوتهم وعلى رأسها نظام الحزب الواحد المعروف باسم الاتحاد الاشتراكي، والذي بدأ هدمه مبكراً لتحويله إلى نظام الحزب الحاكم المهيمن والمحاط بعدة أحزاب معارضة مقيدة، مما شجع الاتجاهات السياسية الأخرى لمحاولة إعادة ترتيب صفوفها بهدف الحصول على موقع في الخريطة الحزبية الجاري تغيير ديكورها بما يلائم الرئيس الجديد!!.
               كانت أمي قد انسحبت من العمل السياسي المباشر نظراً لاختلاط الحابل بالنابل في خرائط التحالفات النفعية والاختصامات الانتهازية، واكتفت بعملها الصحفي بدون إظهار اسمها حسب التعليمات خشية من تذكير القراء بأوضاع أبي وخالي، كما كانت تكتب الشعر فلا يُسْمَح لها سوى بنشر العاطفي منه، لتحتفظ بأشعارها الاجتماعية في أوراق ملفوفة ومطوية داخل علب السجائر انتظاراً لإلقائها على الأذان القليلة للأصدقاء المقربين في مجالسهم الضيقة. لذلك فقد استقبل منزلنا في "عابدين" مندوبين عن الشيوعيين والوفديين والقوميين والإخوان المسلمين وغيرهم لإقناع أمي بالانضمام إلى صفوفهم التي يعيدون ترتيبها، إلا أنها كانت ترفض عروضهم لغضبها منهم جميعاً بسبب خذلانهم لأبي وخالي في محنتيهما، فينصرفون تاركين خلفهم كتباً كثيرة محظورة تحوي أفكارهم في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، لتكلفني أمي بمجرد مغادرتهم أن ألقيها في إحدى الخرائب المجاورة، وهي تردد بأسى واضح عبارة غير واضحة مفادها أن استمرار وجود هذه الكتب قد أصبح الآن يشكل خطراً يهدد وجود البشر!!.


(5)
               أثارني ذلك الخطر الغامض الذي تخشاه أمي لدرجة أنني رغبتُ في تحديه، فكنت أقوم بتنفيذ تكليفاتها لي فيما يتعلق بالأغلفة الخارجية للكتب فقط حيث أنزعها وأتخلص منها، مع الإبقاء على دواخل الكتب وإعادة تغليفها بما هو متاح من أغلفة أعمال الأدباء المصريين للتمويه، وذلك عبر إحاطة الدواخل المحظورة بالغلاف المسموح به ثم لصقه جيداً وتدبيسه من كل الاتجاهات. احتفظتُ بالكتب المموهة سراً في غرفتي لقراءتها بدل الكتب المدرسية المملة فشكلت بالنسبة لي البوابة الأولى لمعرفة حقائق الواقع المحيط بي، وأخذتُ أضع خطوطاً باللون الأزرق تحت السطور التي يعجبني ما تحويه من أفكار وأخرى باللون الأحمر تحت تلك التي لا تعجبني أفكارها، كما أخذتُ أكتب باللون الأسود على هوامش الصفحات المطبوعة ما يروق لي من تعليقات إيجابية أو سلبية تكشف انفعالاتي الجياشة تجاه ما يثيرني من أفكار!!.
أصبح سلوكي أكثر حكمة مع أقراني بمن فيهم " تيسير" ابنة صاحب بيت عابدين والتي كانت هي أيضاً قد تغير سلوكها معي بشكل مفاجئ إلى نقيضه، فأصبحت تنتظرني حتى نخرج سوياً لشراء شرائح الآيس كريم حيث تتعمد عند عبورنا الشارع أن تمسك يدي أو تدفع بسيقانها العارية لتلتصق بجسدي، وفي إحدى المرات دفعتني خلال عودتنا إلى أسفل سلالم البيت بدلاً من أعلاها لتمنحني قبلة ممتدة كانت الأولى التي أتذوق فيها طعم أنثى صبية عذراء مما أصابني بالخدر اللذيذ، فبقيتُ مستنداً بظهري على جدار بئر السلم كالنائم حتى أفاقتني بقبلة تالية بطعم فواكه شريحة الآيس كريم التي كنا قد انتهينا منها لتونا بطريقة لعقة مني ثم لعقة منها. قمنا بتسييل الدماء من إصبعي الإبهام لكلينا ووضعنا فوهتي الجرحين على بعضهما ضاغطين الإصبعين بشدة كلاً في اتجاه الآخر، ليختلط دمنا داخل أجسادنا ونصبح أزواجاً على طريقة الهنود الحمر كما قرأتُ بأحد كتبي المموهة، وفي أعقاب ذلك كانت غرفتي تستضيف " تيسير" طوال فترة غياب أمي بعملها لنلعب معاً لعبة "عريس وعروسة " وفقاً لقواعدها وأصولها من كل النواحي!!.
(6)
               بمجرد أن نشبت حرب أكتوبر1973 قررتُ من جانبي المساهمة كمتطوع في المجهود الحربي الوطني ضد العدو، بتسليم نفسي إلى مكتب الدفاع الشعبي الذي تم افتتاحه مؤخراً داخل مبنى قسم الشرطة المجاور، توجهتُ إلى القسم حيث وجدتُ عدة أبواب مغلقة بدون إشارات كان يجلس أمام أحدها جندي ريفي شاب بزيه الرسمي فاقتربتُ من مجلسه وسألته عن غايتي، لينفتح باب المكتب في تلك اللحظة ويخرج منه رجلاً يرتدي الزي المدني وهو يضع يده على الكتف العاري لفتاة سرعان ما اتضح لي أنها " تيسير"، ثم عاد أدراجه بعد قيامه بتوديعها قائلاً : "استمري وشدي حيلك يا بطلة وطمأني الوالد أننا سوف نرد مجاملتكم لنا في القريب العاجل"!!.
               ناديتُ عليها فنظرت في وجهي وهي مذعورة متجاهلة إياي رغم أن المسافة بيننا كانت تقل عن خطوتين اثنتين، ولما أعدتُ النداء بصوت أعلى مستنكراً تجاهلها ازداد ارتباكها وفرت مسرعة خارج القسم ليسقط رغماً عنها ما كانت تحمله تحت إبطها، فانحنيتُ أنا على الأرض لالتقاط ما أسقطته فوجدتُه أحد كتبي المموهة حيث كان الغلاف لرواية نجيب محفوظ " ثرثرة فوق النيل" وكانت الدواخل لكتاب "الأسس الأخلاقية للماركسية"، كانت الدبابيس التي سبق أن وضعتُها بنفسي لتحيط بكل اتجاهات الغلاف تبدو واضحة أمامي كما كانت خطوط يدي السوداء والزرقاء والحمراء تملأ الصفحات الداخلية للكتاب، وكان الجندي الريفي في الوقت ذاته يرد على سؤالي السابق له بقوله إنه لا علم لديه بموقع مكتب الدفاع الشعبي التابع للجيش لأنه يحرس مكتب الأمن السياسي التابع لجهة أخرى. عدتُ إلى غرفتي لأكتشف أن كتبي المموهة قد تعرضت للكثير من العبث بعد أن زارت تباعاً المكتب الواقع داخل مبنى قسم الشرطة المجاور بصحبة "البطلة تيسير"!!.
(7)
               حصلت أجهزة الأمن السياسي على ملف معلومات مبكر جداً بشأني لم تزل تستخدمه ضدي حتى اليوم، بينما حصل صاحب بيت "عابدين" على القرارات التي مكنته من هدم بيته وتشييد الفندق السياحي محله بعد طردنا من الشقة، استناداً لتحريات أمنية زائفة أفادت على خلاف الحقيقة بوفاة جدتي لأمي قبل عودتنا للإقامة معها، أما " تيسير" فقد حصلت على الجائزة الكبرى، فبعد أكثر من ثلاثين عاماً شاهدتُ صورتها تتوسط الغلاف الخلفي للجريدة الرسمية باعتبارها سيدة المنتديات الاجتماعية وحرم المسئول الكبير، الذي كان قد تم انتدابه مؤخراً ليصبح رئيساً لي في عملي المهني بإحدى المؤسسات الرسمية!!.
               أجابت الابتسامة الصفراء العريضة للزوجين في الصورة عن عدة تساؤلات، ليس فقط بشأن الدور المعلوماتي الذي قامت به " تيسير" في تلك المرحلة الغابرة من حياتي، ولكن أيضاً بشأن إصرار ذلك المسئول على معاملتي بغلٍ شخصي وكراهية شديدة دفعته منذ اليوم الأول لمجيئه رئيساً لي إلى أن يبذل من جانبه أقصى ما يستطيع لإيذائي، ذلك أنه كلما رآني أو شاهد توقيعي على أوراق العمل يتذكر الثمن الباهظ الذي تكبده للوصول إلى منصبه الكبير، وهو قبوله لاشتراط الزواج من إحدى "بطلات" أجهزة الأمن السياسي، كساتر لها يغطي دورها "البطولي" الذي تقوم به لحسابهم في إطار محاولاتهم للسيطرة الجنسية على المشاغبين ضمن العمليات السرية لمكافحة الأنشطة السياسية للمعارضة، ولا شك في أن تلك الأنواع مـن "صلة الرحم" التي تجلب العداوة هي السبب الحقيقي لتماديه في البطش والتنكيل بي وبآخرين غيري من موصولي الرحم معه، سعياً لتخفيف الهواجس التي تطارد رجولته إزاء زواجه البائس من سيدة المنتديات الاجتماعية "تيسير"!!.
*****
 
 


رابـحـــة
 
                                                                            (1)
               مع بداية عقد السبعينيات من القرن العشرين اتسع نطاق استخدامات التقنية الحديثة في مجال الاتصالات مما أدى إلى تراجع الأهمية النسبية لاستخدامات البريد، الأمر الذي تجلى بوضوح على بوسطجي ناحية "السبع عمارات" في حي "مصر الجديدة" حيث يقع منزل العائلة. فبعد أن كان يحرص على ارتداء أطقم البدلات الجديدة المحلاة بأربطة العنق وعلى تلميع حذائه وحلاقة ذقنه يومياً وهو سعيد لأن أهل الناحية ينادونه بالأستاذ "صابر"، أصبح يرتدي قميصاً كالحاً يتدلى بإهمال من فرط اتساعه ليخرج عن بنطال متسخ تملأه التجاعيد فوق حذاء متعدد الثقوب مع حلاقة ذقنه مرة واحدة كل أسبوع، وتراجع اللقب الذي سبق أن منحه إياه أهل الناحية إلى "العم" ثم ما لبث أن أصبح "الشيخ صابر"، بعد ارتدائه لجلبابٍ أبيض قصير على سروال أبيض طويل ووضع قدميه في نعلين مفتوحين من النوع الذي يسميه المصريون"شبشب زنوبة"، تاركاً لحيته تنمو وتتضخم في كل الاتجاهات!!.
               أحالته الإدارة إلى التحقيق بعد تلقيها شكوى مفادها أنه يترك البريد اليومي لأهل الناحية في المسجد، بدعوى أن من ينتظم في الصلاة سيحصل على خطاباته أما الذين لا يُصَلون فإنهم لا يستحقون الاستفادة بهذه الخدمة، وأسفر التحقيق عن لفت نظره وخصم أسبوع من راتبه، فامتنع عن الذهاب إلى مكتب البريد معتكفاً بالمسجد لينصح المصلين بوصاياه التي تدور حول "حرمانية" العمل لدى الحكومات المدنية، حتى جاء من أخرجوه واصطحبوه معهم ليختفي بعد ذلك نهائياً!!.
(2)
               عينت إدارة البريد موظفاً جديداً كبوسطجي لناحية "السبع عمارات"، وكان شاباً رقيعاً فاقد التركيز لتعاطيه المخدرات وزائغ البصر لولعه بالخادمات، لذلك فإنه كثيراً ما قام بتسليم الأمانات لغير أصحابها، لاسيما خطابات أبي والتي كان يضعها في صندوق البريد الخاص بجارتنا الأرملة الشابة "رابحة"، حيث يختلط عليه الأمر نظراً لإقامتها في المنزل رقم "عشرين" بينما كان أبي يضع نقطتين فوق بعضهما قبل عنوان منزلنا الذي يحمل رقم "اثنين"!!.
               لم تكن خطابات أبي موجهة إلينا بل كانت مرتجع مراسلاته إلى المسئولين، والتي تحوي أبحاثاً متعمقة في العديد من مجالات الشأن العام مع شكاوى دائمة يئن فيها من ظروف ما يصفه بالاعتقال السياسي في إحدى الزنازين الانفرادية داخل مستشفى المجانين، وكان المسئولون يفتحون المظاريف لقراءة محتوياتها أو نسخها بآلة التصوير الضوئي ثم يعيدونها إلى ساعي البريد وكأنهم قد رفضوا تسلمها، وذلك حفاظاً على مقاعدهم الوثيرة بإظهار ولائهم تجاه من يشكوهم أبي في مراسلاته. وبالتالي فقد كانت "رابحة" تتسلم مظاريفاً مفتوحة مما شجعها على قراءة ما فيها قبل إحضارها إلينا لاسيما وأنها كانت تعاني من الفراغ، فأولادها يدرسون في القسم الداخلي بإحدى المدارس الأوروبية تنفيذاً لتعليمات عمهم الأكبر الذي يتولى الوصاية القانونية عليهم، كما أن سلسلة المحلات التجارية الشهيرة التي ورثوها كان المرحوم قد قام خلال شيخوخة ما قبل وفاته بتأجيرها لمحترفين، أصبحوا فيما بعد يرسلون إليها نصيبها المالي الضخم من القيمة الإيجارية مع مطلع كل شهر في منزلها!!.
(3)
               انقلبت حياة "رابحة" رأساً على عقب مع قراءتها للسطور الأولى في خطابات أبي، حيث عجزت عن استيعاب حقيقة أن جارها الذي كان ملء السمع والأبصار في الصحافة والإذاعة والتليفزيون خلال صباها، قد سقط في أعماق بئر لا قرار لها بسبب الصدمة التي أصابته من جراء انكسار حلمه الوطني في أعقاب هزيمة يونيو 1967، فتحول حماسه إلى انفعال عصبي وهواجس تشككية تجاه المسئولين الذين راح يتهمهم علناً بتعمد إضاعة الوطن، فردوا من جانبهم رداً انفعالياً حيث اختصموه ثم أودعوه في غرفة انفرادية داخل مستشفى المجانين بدون علاج وبدون محاكمة كالمعتقلين. كما عجزت "رابحة" عن استيعاب حقيقة أنه ليس هناك من يقف إلى جواره ليساعده في محنته سوى أمه العجوز ضعيفة البصر وابنه الذي لم يزل صبياً صغيراً، فزوجته قد انفصلت عنه طلباً للأمان الذي افتقدته منذ ارتبط بها وإخوانه هاجروا جميعاً خارج البلاد هرباً بجلدهم من المضايقات المتعلقة بمنازعات سياسية لا يفهمونها، أما أولئك الذين كان أبي يعتبرهم رفاق مسيرته فقد زادوا الطين بلة بتعقيد محنته سواء بالتشهير أو بالسخرية أو بالشماتة من باب النفاق، وسواء بالصمت العاجز أو الامتناع عن مد يد العون لمن كان حتى الأمس القريب أحد قادتهم التاريخيين من باب الخوف!!.
               إلا أن "رابحة" استوعبت جيداً المعاني الكامنة فيما كانت الخطابات تحويه من آياتٍ قرآنيةٍ وإنجيليةٍ، كقول المستضعفين في الأرض: "ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيرا". وكإعلان السيد المسيح خلال محاكمته بأن مملكته ليست من هذا العالم لأنه لو كانت مملكته هنا لكان رفاقه قد دافعوا عنه!!.
(4)
               عادت "رابحة" إلى مسقط رأسها في أعماق الصعيد، وانفردت بجدها الأكبر الذي بلغ من العمر عتياً لتروي له وقائع محنة جارها التي أطلعتها عليها المصادفة البريدية طالبةً منه النصيحة، فأكد لها الجد أن المصادفات ليست سوى إشارات لمن اختارته العناية الإلهية بحكمتها التي تفوق علمنا البشري، وهي تتضمن توجيه الشخص المختار بشكل غير مباشر لتنفيذ مهام محددة عبر المضي في طريق ينطوي على الكثير من الآلام، ناصحاً إياها بعدم التراجع عما يمليه عليها ضميرها الإنساني الحي كصعيدية سليلة لعائلة عريقة من الصعايدة الأحرار!!.
               أخذت "رابحة" تتودد إلى جدتي وهي تسلمها الخطابات المرتجعة، وسرعان ما بدأت تساعدها في الأمور المنزلية كالطهي والتنظيف وترتيب الأثاث وتنسيق الديكور والأزهار وتغذية كلاب الحديقة مع اصطحابها بسيارتها للتسوق أو لاستلام معاشها الشهري، كما حرصت على مرافقتي إلى مدرستي سراً كلما استدعى الأمر للإسهام في حل المشكلات الناجمة عما هو معتاد من مشاجرات التلاميذ، والتي كنت أتعمد إخفاء مشاركتي فيها لكيلا أتعرض للعقاب بالخصم من مصروف يدي النقدي الضئيل أصلاً، ثم قامت بدلاً مني بعبء ثقيل يتمثل في قراءة صفحة الوفيات في الصحف صباح كل يوم لجدتي حتى لا تتأخر عن تأدية واجبات العزاء التلغرافية والهاتفية هنا وهناك. وتدريجياً تولت "رابحة" مسئولية تجهيز مستلزمات زياراتي لأبي يوم الجمعة من كل أسبوع والتي كانت لا تخرج عن المطبوعات والأدوات الكتابية، وتجهيز مستلزمات زيارات جدتي الأسبوعية له يوم الثلاثاء والتي كانت تشمل بقية احتياجاته من الأطعمة والمشروبات والملابس وغيرها، ونظراً لأن ما شهده تجهيز المستلزمات من لمسات أنثوية ناعمة لم يفت على أبي، فقد أرسل إليها شاكراً وراجياً إياها أن تزوره في الغرفة رقم "8" بالفناء الخامس لمستشفى المجانين!!.
(5)
في المستشفى أمسكت "رابحة" يدي بقوة ونحن نعبر ما أصبح مألوفاً بالنسبة لي من بوابات وأفنية، حيث كانت كل بوابة تفتح على فناء في نهايته بوابة أخرى تفتح على الفناء التالي الأشد خطورة من سابقه، فكان الفناء الأول مخصصاً للمصابين بالمستويات المتوسطة من المرض العقلي والذين لا يحتاجون إلى متابعة تمريضية دائمة، أما الفناء الثاني فقد تم تخصيصه للمستويات الحادة التي تتطلب وجوداً تمريضياً مكثفاً للرقابة اللصيقة، في حين كان الفناء الثالث يأوي المستويات الخطرة مما اقتضى من الممرضين المشرفين حمل العصي ضماناً للسيطرة، ثم يأتي الفناء الرابع بزنازينه المحكمة الإغلاق على المساجين الجنائيين الذين دفعهم المرض العقلي إلى القتل، وأخيراً كان الفناء الخامس المخصص للمعتقلين السياسيين المصابين بالحماس، ذلك المرض العقلي الذي يوقع بصاحبه في التهلكة عندما يدفعه نحو الخروج عن خطوط سير قطعان الحملان البشرية الوديعة. وخلال الرحلة الشاقة لعبور طريق الأفنية الخمسة فشلت محاولات "رابحة" لإظهار شجاعتها في مواجهة ما تعرضت له من تحرشات واحتكاكات ذكورية، طلباً للمال أو لأشياء أخرى، مع انتفاض جسدها واصفرار وجهها وارتعاد يديها، فكانت تارة تدعو للمتحرشين بالشفاء وتارة أخرى تمنعني من التشاجر معهم أو توبيخهم بقولها "ليس على المريض حرج"!!.
               في الفناء الخامس مررنا على شباك غرفة "الشيخ صابر" بوسطجي ناحية "السبع عمارات" السابق حيث تبادلنا معه التحيات وأوصانا أن نحتمي في المسجد من غضب الله بحق الظالمين، ثم وصلنا إلى الغرفة رقم"8" لنقف أنا وهي أمام أبي الذي ما أن رأى "رابحة" حتى التمعت عيناه ونسي أن يحتضنني ويقبلني كعادته، كما أنه لم يسألني عما أحضرتُه له من مستلزمات تمهيداً لإبداء ملاحظاته المعتادة حول الجودة والكمية، بل سرعان ما طلب مني الرحيل لكي يستطيع الترحيب بضيفته التي تحول اصفرار وجهها إلى اللون الأحمر، فلما نظرتُ إلى عينيها حائراً ربتت على كتفي وطمأنتني من جانبها لقدرتها على العودة بمفردها نظراً لما يتسم به طريق الأفنية الخمسة من "سهولة وأمان"!!.


(6)
               خصص أبي يوم الأحد من كل أسبوع بكامله لزيارات "رابحة"، وفي المقابل قام بتقليص المدد الزمنية لزياراتنا الأسبوعية أنا وجدتي إليه لتقتصر فقط على التحيات التقليدية وتسليمه ما يحتاجه من المستلزمات التي نجلبها له معنا، بحجة أن لديه ما يكتبه للمسئولين، ثم اكتفى بزيارة شهرية واحدة مني بحجة ضرورة تفرغي لاستذكار دروسي حيث كنت قد وصلتُ إلى مرحلة التعليم الجامعي، كما اكتفى بزيارة شهرية واحدة من جدتي بحجة وهنها تحت وطأة الشيخوخة لاسيما وإنها كانت قد جاوزت السبعين عاماً من عمرها. وبمضي الزمن وضع أبي جميع أموره بين يدي "رابحة" التي أحبته لدرجة صمودها في مقاومة ما لا يطاق من ضغوط الترغيب والترهيب، الصادرة ليس فقط عن خصومه ولكن أيضاً عن أهلها وأهل زوجها الراحل وأولادها أنفسهم الذين انتقلوا للإقامة الدائمة مع عمهم عقاباً لها على استمرار علاقتها بأبي، والذي أحبها من جانبه لدرجة أنه أصبح أكثر مرونةً في أفكاره وآرائه وأفعاله عما كان عليه في بداية محنته، حيث هدأت انفعالاته العصبية وهواجسه التشككية تجاه المسئولين الجدد والذين كانت الأمور قد دانت لهم بعد تداولٍ وتعاقبٍِ متتالٍٍِِِِِِِِِِِِِِِ، وذلك في نفس الوقت الذي بدأ فيه المسئولون الجدد يعيدون النظر لمحنته باعتبارها امتداداً لبعضِ ممارسات سابقيهم غير المقبولة من جانبهم!!.
               في ظل ما طرأ على مواقف الطرفين من تهدئةٍ متبادلة، استعانت "رابحة" بطابع الإصرار المستمد من جذورها الصعيدية لتقطع على نفسها خط الرجعة وتغلق الأبواب في وجه الإغراءات والتهديدات، وتزوجت أبي بالتشاور والتنسيق معي، حيث توليتُ من جانبي مهمة إحضار المأذون والشهود وإدخالهم سراً عبر طريق الأفنية الخمسة إلى مجلس عقد القران بالغرفة رقم "8" في الفناء الخامس لمستشفى المجانين!!.
(7)
               التحقتُ بالعمل في إحدى الهيئات السيادية الرسمية بعد إكمال دراستي المتخصصة في العلوم السياسية بتفوق، وسرعان ما اكتسبتُ ثقة رؤسائي ذوي المصداقية لدى قيادة الدولة العليا، مما شجعني على مطالبتهم بتبني مبادرتي لإنهاء محنة أبي، والتي كانت بنودها تتلخص في تراجع المسئولين عن اشتراطهم عليه لتقديم التماساً بالإفراج عنه، على أن أتقدم أنا من جانبي بالالتماس المطلوب، متضمناً التنازل عن الحق في أية مطالبات مستقبلية بالتعويض، ويلتزم أبي من جانبه بعدم الاعتراض على الالتماس المقدم مني أو التشكيك فيه، ليتم حفظ الاتهامات السياسية الموجهة ضده، تمهيداً لنقله إلى إحدى المستشفيات الخاصة لقضاء فترة النقاهة اللازمة قبل الخروج، وتنشر الصحف الرسمية صباح اليوم التالي خبر خروجه مصحوباً برسالة شكر موجهة مني إلى القيادة العليا والمسئولين. وإزاء استمرار الضغوط من قبل مجموعة المتابعة النخبوية السابق تشكيلها بمعرفتي، وإزاء استمرار "رابحة" في الاحتواء الناعم لعواطف أبي ومشاعره، تم قبول مبادرتي وتدرجت مراحلها كما كان مخططاً لها حتى كُللت بالنجاح!!.
               خرج أبي للإقامة في بيته الجديد الكائن بحي "مدينة نصر" مع زوجته الجديدة "رابحة"، حيث احتفلنا جميعاً بانتقاله من القفص الحديدي المظلم الذي أمضى فيه حوالي عقدين من الزمان إلى القفص الذهبي المشرق الذي تمنينا أن يمضي فيه ما تبقى من عمره، أما جدتي فقد قامت يوم "الصباحية" بزيارتهما في منزلهما الجديد للاطمئنان ثم عادت لترقد على فراشها في منزل العائلة بناحية "السبع عمارات"، وأغمضت عينيها لترحل راضية مرضية!!.
(8)
               انتبه أبي بعد أن تجاوز الستين عاماً من عمره إلى أن اشتغاله بالسياسة بما صاحبه من استضافات إجبارية شبه دائمة في السجون والمعتقلات وما شابه قد حرمه من ممارسة الأبوة، حيث أنه لم يقم معي بأي دور من الأدوار التي يؤديها الآباء عادةً تجاه أبنائهم سواء في المناسبات السعيدة أو الحزينة خلال أي مرحلةٍ من مراحل طفولتي أو صبايَّ أو شبابي، بل على العكس اضطررتُ أنا لتأدية كل الأدوار بما في ذلك المسئولية عنه هو شخصياً خلال محنته الأخيرة. سايرته زوجته عندما علمت برغبته في الأبوة وبدأت الاستعداد لكي تنجب له رغم تحذيرات الأطباء من خطورة العواقب لتجاوزها سن الإنجاب الآمن، وسرعان ما كشفت الأجهزة الطبية الحديثة عن حملها لجنين ذكر، فقرر أبي أن يسميه محمداً وقام بتجهيز كل شيء لاستقباله، إلا أنه خلال عملية الولادة المتعسرة ماتت "رابحة" ومولودها معاً أمام عينيه!!.
               انكسر حلمه الشخصي الوحيد واختلط وجها الزوجة والابن اللذين رحلا لتوهما في مستشفى الولادة بوجوه شهداء الوطن الذين سبق أن رحلوا في هزيمة يونيو 1967، فعاودته انفعالاته العصبية بشكل أكثر حدة واتسعت هواجسه التشككية لتشمل هذه المرة جميع خصومه وأصدقاءه وأقاربه، بمن فيهم أنا الذي كنت قد سافرتُ لتوي إلى السودان مكلفاً بإحدى المهام الدبلوماسية طويلة المدى لصالح الوطن، بعد أن تدرجتُ صعوداً في السلك الوظيفي حتى تبوأتُ مركزاً مرموقاً لا يقل عن المركز الأدبي الذي كنتُ قد حققتُه في العديد من مجالات الشأن العام!!
(9)
               كان صعودي المهني والأدبي قد أسفر عن تشكيل تجمع إجرامي شرير يضم خليطاً من الحاقدين والكارهين وأعداء النجاح، لاسيما في أوساط المعارضة السياسية عموماً وذوي الميول الفوضوية منهم على وجه الخصوص، والذين كنت قد كشفتُ ألاعيبهم أمام الرأي العام، وسرعان ما التف أولئك الأشرار حول أبي آخذين في تحريضه ضدي وهم مطمأنون لسريان سمومهم في عقله، بسبب فرط انفعالاته وهواجسه المرضية من جهة وغياب التصدي المباشر لهم بوفاة "رابحة" وسفري خارج الوطن من الجهة الأخرى، وبعد أن أملوا عليه قائمة الاتهامات الوهمية ضدي نصحوه بكتابتها وطباعتها لتوزيعها على من يهمه أو لا يهمه الأمر طمعاً في أن يؤدي ذلك إلى تعثري هنا أو هناك، وراحوا يساعدونه بقوة الشر الذي ملأ قلوبهم في تنفيذ عمليات التوزيع باليد أو بالبريد أو بغير ذلك من أدوات التشهير التي تفتقت عنها أذهانهم الإجرامية!!.
               تحملتُ من جانبي على مضض قسوة ترويج قائمة الاتهامات المناقضة للواقع ضدي، والتي أملاها تجمع الأشرار على أبي ليمطرني بها في غيابي، وانتظرتُ عودتي إلى أرض الوطن بعد انتهاء مهمتي الدبلوماسية لأحاول تهدئته واستعادة مشاعره الودية المفقودة نحوي أولاً، ثم تجاه الآخرين سواء كانوا من الأقارب والأصدقاء أو كانوا من الخصوم باعتبار أن اختلاف الرأي حول مجالات الشأن العام يجب ألا يفسد الود بين المختلفين!!.
(10)
               في الطائرة خلال عودتي النهائية إلى القاهرة التزم طاقم الضيافة بتنفيذ التعليمات التي صدرت لهم بأن يخفوا عني الصحف، التي كانت قد نشرت خبر وفاته منذ عدة أيام إثر تناوله لجرعة زائدة من أدوية الأعصاب عقب انفراد تجمع الأشرار به في جلسة نميمة موجهة ضدي، لأعود إلى أحضان الوطن وقد رحل عنه دون أن تتاح لي فرصة توديعه إلى مثواه الأخير!!.
               احتسبتُ أبي كما سبق أن احتسبتُ "رابحة" من الشهداء، أما أولئك الأشرار فقد احتسبتُ عليهم عدل من يمهل ولا يهمل... "وهو نعم الوكيل"!!.
*****


إيزيس
 
(1)
خلال النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين استأجرتُ غرفة مفروشة متواضعة فوق سطح منزل قديم مجاور لجامعة القاهرة، في منطقة "بين السرايات" التابعة  لحي"الدقي". حتى يتسنى لي استخدامها ليس فقط كسكن شخصي على مقربة من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التي كنت أدرس بها، وذلك بسبب الابتعاد الجغرافي لمنزل العائلة الكائن في حي "مصر الجديدة"، ولكن أيضاً لاستضافة رفاقي من الطلاب الناشطين الذين ينتمون لمختلف فصائل المعارضة السياسية باعتباري مسئولاً عن الفرع الطلابي لأحد التنظيمات الشيوعية السرية، وقد وفرت غرفتي المأوى الآمن نسبياً لاجتماعاتنا التنظيمية بمنأى عن أعين أتباع الجهات الرسمية من الطلاب المنتشرين داخل الحرم الجامعي، وبعيداً عن أعين أنصار الجماعات السلفية من الطلاب المنتشرين داخل المدينة الجامعية، لاسيما وأننا كنا نخطط خلال الاجتماعات لأنشطتنا المستقبلية الرامية إلى إعلام وتثقيف عموم الطلاب العاديين بواقع الهموم الحقيقية للوطن الغالي، في مواجهة التعتيم الذي تتسم به الدعاية الرسمية والتضليل الذي تبثه الدعاية السلفية داخل الأوساط الطلابية، رغم النهايات الميدانية المعروفة سلفاً لمحاولاتنا المتكررة الساعية إلى تعبئة الطلاب نحو التحركات الاحتجاجية السلمية التي رأيناها آنذاك تحقق المصالح الوطنية العليا على كافة الأصعدة، حيث كانت كل المحاولات تنتهي بتعرضنا لمختلف الاعتداءات الجسمانية العنيفة، سواء من قبل الميليشيات التابعة لفريق الطلاب الرسمي المزهو بالسلطة أو الميليشيات التابعة لفريق الطلاب السلفي الرافض لوجود غيره على ساحة المعارضة الجامعية، أو من قبل ميليشيات الفريقين معاً!!.
في تلك الأثناء أحيل إلى التقاعد العم " تادرس بسطا" مالك منزل "بين السرايات" وزوجته العمة " تريزا"، بعد حوالي أربعين عاماً من عمله كمهندس ري وعملها كطبيبة بيطرية في الأروقة الإدارية لبعض الهيئات العامة الحكومية. فعكف الزوجان على رعاية منزلهما العريق بنفس الحب الذي أولياه لابنتيهما التوأم الوحيدتين طالبتي الثانوي"إيزيس" و"إيلين" اللتين تطابقتا تماماً في كل التفصيلات الجميلة لشكلهما الخارجي، أما من حيث الجوهر فقد اختلفت الفتاتان إلى حد التناقض، سواء فيما يتعلق بالمشاعر والأفكار والآراء أو فيما يتعلق بالأفعال والسلوكيات!!.
(2)
كانت "إيلين"  ذات الشخصية البراجماتية النفعية تجتاز امتحاناتها المدرسية اعتماداً على الحظ والفهلوة، باعتبارها لا تقرأ سوى كتب التنمية البشرية من نوعية "كيف تحقق ثروة طائلة بدون مجهود؟" أو "كيف تسيطر على الآخرين بمعرفة أفكارهم؟"... وما شابه، وتمضي معظم وقتها أمام المرآة  تستعرض ملابسها وزينتها وتسريحة شعرها، وكانت إذا تلقت أمراً واجب النفاذ من أحد أبويها للمشاركة في تأدية أي مجهود لا يعود عليها بمنفعة مباشرة يعلو وجهها تجهم شيطاني يشبه دواخل بالوعات الصرف الصحي المسدودة، لتنفذ الأمر على مضض وكراهية يسفران عن خسائر جسيمة. أما "إيزيس" الحالمة الرومانسية التي تستذكر دروسها جيداً وتقرأ روايات "إحسان عبد القدوس" وأشعار "نزار قباني"، فكانت تحرص على منح أبويها الأدوية المقررة لهما في مواعيدها دون أن تنسى جرعة منتصف الليل، وتبادر بالمشاركة في تأدية جميع الأعمال المنزلية وإصلاح الأعطال مع الحفاظ على ابتسامتها الصافية، وتسارع لفتح الباب في رداء من الترحيب الأخوي بالطارق مهما كانت هويته أو طلباته، وتسعد بمرافقتها لأبويها عند خروجهما للتنزه أو التسوق أو الزيارات الاجتماعية أو للصلاة معهما في الكنيسة المجاورة، وعندما دقت باب غرفتي لتمنحني إيصالاً بالقيمة الإيجارية التي كنت قد سددتها لتوي إلى أبيها خلال صعودي، وشاهدت حالة الفوضى التي تعم المكان من حولي، اعتبرتني أحد المستحقين لرعايتها الرقيقة فيما يتعلق بالتنظيف والترتيب، ثم بتسريب بعض أطباق الحلوى المنزلية المميزة في مختلف المناسبات. وسرعان ما شرعت تتصفح كتبي لتناقش معي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بوعي لا يقل عن وعيها بأحوال الحركة الثقافية والفنية!!.
في إحدى الليالي فوجئتُ بها على غير المعتاد تقتحم غرفتي بدون استئذان أثناء استغراقي في نوم عميق، حيث أغلقت الباب خلفها بإحكام ثم شرعت تخلع عني ملابس النوم وهي تخلع ملابسها في الوقت ذاته وتدعوني بإلحاح لمطارحتها الغرام. اجتمعت دوافع الإعجاب المسبق والإغراء اللحظي مع عوامل المفاجأة واختلاط النوم بالصحو لدفعي نحو التجاوب معها حتى تم الأمر على أكمل وجه، رغم استمرار ذهولي الذي قادني إلى محاولة الاستيضاح، لتكشف لي الأنانية البادية في أدائها الجسماني مع الطابع البلاستيكي لبريق عينيها، أن تلك التي ترقد بجواري غير عابئة بما أسالته فوق فراشي من قطرات دموية عزيزة، ليست هي الفراشة "إيزيس" كما كنت أتمنى ولكنها شقيقتها الأفعى "إيلين"!!.
(3)
               أخذ شعوري بالازدواجية يثقل كاهلي، مع إصرار "إيلين" على أن تسرق فرحة الحب العذري من قلب شقيقتها بتكرار زياراتها الليلية السرية لغرفتي، وازداد الثقل على كاهلي مع عجزي عن إيقاف استمرار إعجابي المتدفق نحو "إيزيس"، وإزاء صعوبة البوح بما أعانيه لأي شخص لم يعد بمقدوري المضي قدماً في تحمل المعاناة الناجمة عن ازدواجية تدفئة فراشي اضطرارياً بالشقيقة التوأم لفتاة أحلامي، فغادرتُ منزل "بين السرايات" سراً بعد أن لملمتُ حاجياتي، وحشرتُ فيها عمداً شريط الكاسيت الذي كانت "إيزيس" قد أعارتني إياه لسماعه أثناء استذكاري لدروسي ويتضمن تسجيلاً لأحدث أغنيات فريق" المصريين" مع مقدمة بصوتها الحنون. وفي صباح اليوم التالي وجدتُ "إيزيس" تقف على أبواب كلية الاقتصاد التي كنت أدرس بها لتسألني بلهفة الأم عما أغضبني ودفعني للمغادرة، فرويتُ لها بعض الأكاذيب المحبكة عن ظروف وهمية. أومأت برأسها تسايرني رغم عدم تصديقها لروايتي، ثم طلبت مني أن نبقى حتى آخر العمر كالأخ والأخت اللذين لم يلدهما أبوان!!.
               التحقت "إيزيس" بقسم التاريخ في كلية الآداب، وأخذت تحقق النجاح تلو الآخر على صعيدي الدراسة الأكاديمية والأنشطة الطلابية، حتى أنها قد تم إيفادها عدة مرات لتمثيل الجامعات العربية في المؤتمرات الطلابية العالمية المخصصة لمكافحة العنصرية الصهيونية ضد الفلسطينيين و"الأبارتهيد الأفريكاني" ضد الزنوج، ورغم تخرجي من الجامعة قبلها بعامين إلا أنني لم أتوقف يوماً عن متابعتها للاطمئنان عليها. أما "إيلين" فقد التحقت بقسم الضيافة الجوية في أحد معاهد السياحة، واستمر اجتيازها لامتحاناتها الدراسية بالاعتماد على معايير الحظ والفهلوة مضافاً إليها تقديم الرشوة الجنسية إلى المسئولين الفاسدين ليمنحوها ما لا تستحقه من مكاسب، حتى أنها قد حصلت على عدة بعثات تدريبية لدى بعض شركات الطيران الأمريكية التي كانت تشترط هبوط المتدربين مع فريق الضيافة الأصلي بمطار "بن جوريون" في " تل أبيب"، وهو ما وافقت "إيلين" عليه بسهولة تودداً للجانب الأمريكي. ولم تشغلها اهتماماتها الجديدة أبداً عن الاستمرار في ملاحقتي لإعادة إحياء ما كان بيننا من مطارحات غرامية، دون التفات لاعترافاتي بأن ذلك الذي حدث أول مرة لم يكن في الإمكان حدوثه أصلاً لولا اختلاط الأمور الذي جعلني ظننتُها شقيقتها "إيزيس"!!.
(4)
               حصلت كل واحدة من الشقيقتين على شهادة إتمام دراستها الجامعية في صيف عام 1982، والذي شهد غزواً عسكرياً إسرائيلياً للأراضي اللبنانية، تضمن الكثير من الممارسات البربرية واسعة النطاق التي ارتكبها الجنود الصهاينة ضد اللبنانيين والفلسطينيين وغيرهم من العرب المقيمين والزائرين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين. وقد تجمد العم" تادرس بسطا" على مقعده المتحرك أمام شاشة التليفزيون وهو يتابع تقريراً وثائقياً مصوراً ضمن نشرة الأخبار عن ضحايا مذبحة "صابرة وشاتيلا" البشرية، حتى نفدت قدرته العصبية على تحمل مشاهد الضحايا المدنيين وهم يتساقطون أمامه كحمائم الصيد، فصرخ مخاطباً إياهم بقوله: "سامحوني يا أولادي فلو كنت شاباً لسافرت إليكم وحاربت معكم ضد قتلة الأنبياء". وظل يردد هذه العبارة بينما الدمع ينهمر متدفقاً من عينيه كالسيول إلى أن فارق الحياة، وبمجرد شعور العمة" تريزا" بأن روح وليفها وحبيب عمرها قد انتقلت للأمجاد السماوية حتى لحقت به في الرحلة الأبدية إلى الملكوت، حيث ذلك أفضل جداً من الأحداث المأساوية البشعة التي كانت آخر ما شاهدته أعينهم على الأرض!!.
               كنت لم أزل نزيلاً في سجن "المرج" ضمن الدفعة الأخيرة من بواقي إجراءات الاعتقال السياسي التحفظية، والتي سبق أن اتخذها الرئيس السادات ضد المعارضين لتصالحه مع إسرائيل، وهي البواقي الجاري تصفيتها تدريجياً بموجب إعلان القيادة الجديدة عن ضرورة التهدئة مع معارضي السادات من غير السلفيين، بعد اغتياله في أكتوبر1981 على أيدي الجماعات السلفية، وبالتالي لم أستطع المشاركة في الواجبات المتعلقة بوفاة العم  "تادرس" وزوجته العمة " تريزا"، إلا أنني خلال صلواتي التالية في مسجد السجن دعوتُ لهما كثيراً ليس فقط إكراماًَ لخاطر ابنتهما "إيزيس"، ولكن أيضاً باعتبارهما كانا يشكلان معاً نموذجاًَ مصرياً مميزاً في السعي لتحقيق السلام على الأرض بإفشاء التسامح والمحبة والمسرة بين الناس. أما "إيزيس" فقد استعانت بأحباء والديها من الأقارب والأصدقاء والجيران - وما أكثرهم - لإكمال جميع الترتيبات المطلوبة، بدءاً بنشر النعي اللائق على صفحات الجرائد مروراً بإقامة صلاة القداس الجنائزي في الكاتدرائية التي خرج منها الجثمانان لتشييعهما إلى مثواهما الأخير ودفنهما بمقابر العائلة، وانتهاءً بعقد مجلس العزاء الذي لوحظ فيه أن "إيلين" كانت تتوسط صديقاتها لتداعبهن وهي تضع على وجهها مساحيق التجميل. زارتني "إيزيس" بزي الحداد الأسود في سجن "المرج" ورغم حرصها على إخفاء نواياها فقد أدركتُ أنها جاءت لوداعي، كما أن تكرارها للعبارة الأخيرة التي رددها أبوها قبيل وفاته مباشرة أعطاني بعض المؤشرات حول ما تنوي فعله. وسرعان ما تداولت وسائل الإعلام خبراً عن عملية استشهادية ناجحة ضد أحد معسكرات الجنود الصهاينة في الجنوب اللبناني، نفذتها فصائل تحالف المقاومة بواسطة مجموعة فدائيين لبنانيين وفلسطينيين وعرب من بينهم عروس السماء المصرية "إيزيس تادرس بسطا"!!.
(5)
تعاملت "إيلين" مع الرحيل الدرامي المفاجئ لأسرتها بشكل نفعي محض، حيث انتقلت للإقامة في غرفة السطح بعد تجديدها، وأبقت على الفراش القديم المتهالك الذي سبق أن استضاف مغامراتها الغرامية معي، لتنام عليه بمفردها انتظاراً لعودتي إليه ذات يوم، وأسست في شقة الأسرة الراحلة فرعاً إقليمياً لشركة سياحية أمريكية كبرى. كانت "إيلين" في الأصل تفتقد إلى الإحساس والشعور والانفعال الإنساني الطبيعي تجاه الآخرين بكل ما يصدر عنهم من مشاعر أو أفكار أو آراء أو سلوكيات وأفعال، وتجاه الأشياء سواء كانت ثابتة أو متحركة، ثم زاد الطين بلة باقتصار نطاق خبراتها المباشرة على معاملاتها مع سائحي الشمال الجغرافي بمناخه البارد، إلى جانب ما استمدته من الدورات التدريبية التي تلقتها في المركز الرئيسي للشركة السياحية بالولايات المتحدة الأمريكية حول مهارات التنمية البشرية، حيث اكتسبت المزيد من الفهم والقدرة العملية على التعامل الميداني استناداً إلى القياس الهندسي البحت القائم على "المازورة" والمحسوب سلفاً وفق ما هو مدون في "الكاتالوج"، وذلك بالخصم مما هو غائب عنها أصلاً من الثنائيات الدافئة التي تميز الروح البشرية عن جهاز "الروبوت" البارد، كالحب والكراهية أو الفرح والحزن أو الإقدام والخوف أو الطمأنينة والارتياب أو غيرها!!.
رغم حتمية ما اقتضته العدالة الطبيعية بأن تتلقى "إيلين" من الآخرين ردود فعل سلبية تجاهها تتراوح بين البرود والتجاهل والنفور والعداء، ورغم أنني واحد من هؤلاء الآخرين، إلا أنها لم تتوقف عن ملاحقتي لإعادة ما كان بيننا منذ سنوات في فراش الهوى المهجور، على اعتبار أنني أغدقتُ عليها في لقائنا الأول بما لم يكن مألوفاً                            لديها قبل ذلك الحين ولم تستطع إيجاد مثله بعد ذلك الحين، من تدفق عاطفي وعطاء غرامي، نظراً لظني بأن التي كانت ترقد بين أحضاني هي فتاة أحلامي شقيقتها التوأم  "إيزيس". وقد طورت"إيلين" الأدوات التي تستخدمها لملاحقتي بما يوائم المرحلة الجديدة من نشاطها الذي أصبح بارزاً في المجال السياحي ونشاطي الذي أصبح بارزاً في المجال السياسي!!.
(6)
أخذ صندوق بريدي الخشبي يستقبل سيلاً من المطبوعات السياحية الفاخرة، والتي تتضمن الكثير من الدعوات الشخصية للمشاركة في ندوات ومؤتمرات ومهرجانات وغيرها من المناسبات العالمية المقامة داخل البلاد وخارجها، لأجد "إيلين" هناك دائماً في الصفوف الأولى تمنحني ترحيباً حاراً يصل إلى حد الاحتفاء واهتماماً مكثفاً يصل إلى حد التدليل، وسرعان ما تسلم منها الخيط بعض المشاركين الآخرين من مندوبي دولة عظمى ذات أطماع، راحوا يعربون عن إعجابهم بجرأتي فيما أكتبه من أبحاث ومقالات سياسية معارضة للحكومة، رغم أنني أعتبر نفسي من أشد المناهضين لأطماعهم وما أعارض حكومتي إلا عندما تنطلي عليها هذه الأطماع أو ترضخ لها. وقد وجدتُ في إحدى المرات ضمن الوارد البريدي مظروفاً أنيقاً مغلقاً بإحكام، اتضح لي لاحقاً أنه مودع باليد لخلوه من اسم الراسل وكذلك لغياب الأختام والطوابع البريدية التي تدل على مصدره أو جهة إرساله، وكان يحوي غليوناً من النوع النادر، مع بضعة أكياس تبغ أمريكي فاخر يعلم أصدقائي المقربون أنه اختياري المفضل، بالإضافة إلى خطاب مذيل بتوقيع رئيس الدولة العظمى ذات الأطماع يشيد فيه بمعارضتي الصلبة ويدعونني للعمل مع إحدى الجماعات الأهلية المحلية الصديقة لدولته، حتى نتمكن من الإطاحة بالحكومة "المستبدة" كإجراء مسبق وضروري لإحلال  "البديل الديمقراطي"!!.  
               هرعتُ لمقابلة الوزير الذي يرأسني، فدفعه إلحاحي غير المعتاد إلى الخروج من مكتبه على الفور لاستطلاع الأمر، وسرعان ما انفرد بي حيث أطلعتُه على التفاصيل ثم طالبتُه بإعادة الخطاب إلى الراسل الرئاسي عبر القنوات الرسمية، مع إبلاغه بأن المرسل إليه يعارض حكومته على الأرضية المشتركة للوطن الغالي الذي لا يرضى لأبنائه - مهما اختلفوا- بالخيانة أو بالتخوين. وهكذا قامت الدبلوماسية المصرية بإعادة الخطاب مصحوباً برد المرسل إليه الشفهي إلى الراسل الرئاسي عبر القنوات الرسمية للدولتين، بعد أن كان قد تم الإعلان عن كشف شبكة جاسوسية كبرى تابعة للدولة العظمى ذات الأطماع وتعمل تحت الساتر الشرعي لجماعة "البديل الديمقراطي"، وقد تضمنت قائمة الجواسيس أسماء بعض ضعاف النفوس من رجال المال والأعمال والسياسة والصحافة إلى جانب صاحبة التوكيلات السياحية الكبرى "إيلين تادرس بسطا"، التي كانت قد هربت إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد حصولها على جنسيتها!!.


(7)
               اتفقت الجاسوسة الهاربة "إيلين" مع أصدقائها أعضاء جماعة "البديل الديمقراطي" ومن خلفهم الدولة العظمى ذات الأطماع، اتفقوا على الانتقام مني، لقيامي بإعادة الخطاب غير المرغوب فيه إلى راسله الرئاسي عبر القنوات الرسمية مما أسفر عن كشف شبكة الجاسوسية، فتوقف سيل المطبوعات والدعوات التي كان صندوق بريدي الخشبي يستقبلها لمشاركتي في الندوات والمؤتمرات والمهرجانات وغيرها من المناسبات العالمية المقامة داخل البلاد أو خارجها، وسرعان ما أطلقوا في جميع الدوائر المحيطة بأماكن وجودي الطبيعية إشاعة محبكة تم بثها بجرعات قوية ومركزة مفادها أنني أحد الكوادر الأساسية لأجهزة الأمن السياسي، وأن معارضتي للحكومة والتي لا أتوانى عن إعلانها سواء فيما أمارسه من أنشطة أو فيما أكتبه من أبحاث ومقالات، هي مجرد تمويه لتغطية مناوراتي الالتفافية ولتسهيل ما أنفذه من مهام معلوماتية سرية في إطار عملي لصالح الأجهزة الأمنية. ورغم كذب الإشاعة جملةً وتفصيلاً من كافة الأوجه الشكلية والموضوعية بالعلم اليقيني لمختلف أجهزة الأمن السياسي الداخلي والخارجي وما أكثرها لدينا، إلا أنها اتفقت فيما بينها جميعاً على تأكيد الإشاعة المذكورة بالصمت تجاهها إن لم يكن بترويجها، لعل ذلك يساعدها في احتوائي الفعلي فتتحول الإشاعة إلى حقيقة أو لعله على الأقل يفقدني المصداقية لدى بسطاء الناس فينفضون من حولي، الأمر الذي يريح الأجهزة من الصداع الذي تسببه لها أبحاثي ومقالاتي وأنشطتي المعارضة!!.
               أخذ الأصدقاء الطبيعيون يتساقطون من حولي الواحد تلو الآخر تحت ضغط الأدخنة الكثيفة للإشاعة والتي حاصرتهم من كل صوب لدرجة الاختناق، رغم إعلان كل واحد فيهم عن أسباب أخرى لانسحابه خارج حياتي، فلم يتبق لي غير أولئك ذوي الصلات العضوية الحقيقية بأجهزة الأمن، وقد اضطررتُ لمصاحبتهم في إطار مقولة أجدادي حول نكد الدنيا على المرء عندما يرى عدواً ليس من صداقته بدُّ، أما هم فكانوا من جانبهم بمثابة البنزين المسكوب لإطفاء نيران الإشاعة فزاد من اشتعالها. ومنذ ذلك الحين حرص جيراني وزملائي الذين دفعتهم الظروف للتعامل معي على التزام الطابع الرسمي المحفوف بالرهبة، حيث بدأتُ أسمع منهم عبارات مفتعلة تتجاوز مجريات الحوار الاعتيادي بيننا مثل قولهم: "سعادتكم يا افندم... ربنا يقويكم على الأعداء". كما شرع أصحاب المصالح المعطلة في أروقة البيروقراطية الإدارية يتوددون لي طالبين المساعدة في إنجاز مصالحهم، حتى أصابني أحدهم مؤخراً بأشد أنواع الوجع إيلاماً عندما صاح في وجهي قائلاً: "أنتم قادة الدولة لا تشعرون بما نعانيه نحن بسطاء المجتمع من عذابات للحصول على حقوقنا". فشعرتُ بأن كل ما حدث مني ولي ومعي وضدي بسبب محاولاتي المتتالية لأجل إسعاد هؤلاء البسطاء على مدى نصف القرن المنصرم كأنه لم يكن، وشعرتُ بأنني لم أمُرُ من هنا أصلاً فكأن شخصاً آخر غيري هو الذي مر على وطن آخر غير "مصر" التي كانت دوماًَ من وراء القصد!!.
*****


فاطمة
 
(1)
مع بداية عقد الثمانينيات من القرن العشرين دفعتني رغبتي في الحصول على صحبة اجتماعية جديدة إلى المشاركة بأحد أفواج مصيف النادي لمدة أسبوع في مسقط رأسي "الإسكندرية"، رغم يقيني بأنها تئن خلال فصل الصيف تحت وطأة ما يثيره المصطافون من فوضى وعشوائية وشرور أخرى، يعجزون حتى عن مجرد التفكير فيها بمقار إقاماتهم الدائمة في المدن والقرى المنتشرة على امتداد الوادي والدلتا والواحات والسواحل، حتى أن مدينتي الأصلية لا تستعيد سحرها وجاذبيتها لتشبه سيرتها الأولى من انسجام سيمفوني بين مفرداتها المتنوعة إلا عندما يرحل المصطافون بحلول الشتاء، لتقتصر المدينة على أبنائها الذين مازالوا يشعرون بالزهو وهم يتنادون فيما بينهم بلقب "أبو اسكندر" أو "أم اسكندر"، ويزداد تمسكهم باللقب لو تركوا الإسكندرية لكيلا ينسوا أصولهم، وهو ما كانت تفعله جدتي التي حرصت على أن تخصني وحدي بهذا اللقب دوناً عن أحفادها الآخرين والذين ولدتهم أمهاتهم في "القاهرة" بعد انتقال العائلة إليها للإقامة الدائمة!!.
كان أحد الوافدين حديثاً لطبقة رجال الأعمال وللإسكندرية قد افتتح مؤخراً على شاطئ المدينة الغربي مشروعاً سياحياً، ثم قام بتأجيره لوافد غيره ليسارع المستأجر من جانبه بتقسيمه إلى قطاعات وتأجيرها بالقطعة لوافدين آخرين، مالبثوا بدورهم أن قاموا بتأجير ما يستأجرونه بنظام المفروش لغيرهم من الوافدين، الذين فتحوا كل الأبواب على مصاريعها لممارسة الأنشطة التجارية المختلفة وتقديم الخدمات المصيفية المتنوعة، بعد دفع الرسوم المالية المفروضة كمقابل للإيجار من الباطن أو لحق الانتفاع أو للإشغال اليومي أو للمرور العابر، حتى أصبحت أحوال المشروع السياحي تشبه حلبة السيرك وقد نزل عليها اللاعبون والمهرجون والوحوش جميعاً في ذات الوقت ليؤدي كلُّ منهم حركاته البهلوانية بدون أدنى تنسيق أو اتفاق، اللهم إلا في أمر واحد هو استمرار أسر السلحفاة العجوز التي كانت قد انجذبت بنداء غامض، فانسلخت عن خطوط السباحة المعتادة خلال الموسم السنوي لأسراب السلاحف المهاجرة جنوباً من سواحل المحيط الأطلسي الأمريكية، لتصل بمفردها إلى شاطئ الإسكندرية الغربي حيث حطت لتضع بيضها فيما ظنته مكاناً آمناً من وحوش البحر والجو المتخصصين في اقتناص البيض لالتهامه، دون أن تنتبه لوحوش البر الذين تكالبوا عليها وسحبوها بعيداً عن المياه، ليربط بعضهم إحدى ساقيها الخلفيتين بسلسلة حديدية تنتهي بوتد تم دقه في الأرض وليشيد آخرون سوراً حجرياً يحيطها من الجهات الأربع. وسرعان ما أصبحت السلحفاة العجوز الأسيرة مزاراً مدفوع الثمن لأطفال وصبيان يعبثون أو يلتقطون الصور التذكارية، أو غير ذلك مما يطرأ على مزاج "الزبون" طالما أنه قد سدد الرسوم المالية المفروضة مقابل اللعب مع "السحلفة" كما ينطقها عوام المصريين، وكثيراً ما كانت الأمزجة تتطلب ركوبها كالجواد أو قلبها على ظهرها لامتطاء الجانب الأسفل من الدرع أو إيقافها على أحد أجنابها لاحتضانها بعنف أو حشر الرمال داخل فتحات الدرع والجسد أو ضربها أو حتى التبول عليها، ولم تذرف السلحفاة دمعها اللؤلؤي إلا عندما رأت أبناءها الذين ما زالوا في البيض وقد تحولوا إلى طعام يلتهمه أبناؤنا وهم يتبولون عليها!!.
(2)
طاردتني صورة السلحفاة العجوز الأسيرة ليس فقط في صحوي بل أيضاً في منامي حيث زارتني عدة مرات متتالية لتنظر في عينَّي بحنان معاتب وهي تناديني باسمي، فأردُ عليها سائلاً عما تريد، وفجأة يتبدل وجهها المجعد المرهق بآخر لفتاة شابة من ذوات الشعر الأشقر والعيون الملونة تجيبني قائلة: "طال انتظاري لك يا أبو اسكندر". ومع تكرار الحلم عقدتُ العزم على تخليص السلحفاة العجوز من أسرها، فارتديتُ زي البروتوكولات واتجهتُ صوب مقر السلطات الرسمية الأقرب جغرافياً إلى المشروع السياحي حيث قدمتُ بلاغاً أطالب فيه بسرعة التدخل لإطلاق سراحها وإعادتها إلى حياتها البرمائية الطبيعية، وهناك علمتُ أن المطاعم العاملة بالمشروع تتناوب فيما بينها على إرسال الوجبات الغذائية اليومية الثلاث، من أطيب الأطعمة والحلوى والمشروبات التي لديها إلى جميع أفراد الطواقم العاملة في مقرات السلطات الرسمية الرئيسية والإقليمية والفرعية المحيطة بالمشروع السياحي، ولما كانت هذه المطاعم تستفيد من استمرار أسر السلحفاة العجوز فقد تم رفع أمر بلاغي هاتفياً إلى القائد الإقليمي الذي أمر مرؤوسيه باحتجازي داخل المقر لحين حضوره شخصياً، وبعد انتصاف الليل وصل القائد إلى حيث كنتُ مكوماً بالأمر ليوبخني بقوله: "تتحرق السحلفة واللي جاب السحلفة فأنا لا يهمني سوى ما يمس أمن الدولة فقط"، ثم أخرج من جيب سترته ولاعته الذهبية الحديثة ليشعل النار في بلاغي وهو يأمرني بسرعة المغادرة قبل تغيير رأيه، مع تحذيري من أن مجرد التفكير في معاودة الأمر مجدداً بأي شكل سيعرضني لعقاب شديد!!.
بدلتُ ملابسي حيث ارتديتُ زي المظاهرات كما حملتُ في يدي حقيبة أدوات معدنية خفيفة واتجهتُ إلى المشروع السياحي متسللاً عبر الشاطئ المجاور، وسرعان ما نجحتُ في تحطيم السور الحجري ونزع السلسلة الحديدية عن ساق السلحفاة العجوز، ثم أخذتُ أدفعها صوب البحر ففوجئتُ بامتناعها عن الحركة مما خشيتُ معه أن تكون قد أصيبت فاحتضنتها وتدحرجتُ بها حتى غمرتنا المياه، واستمر احتضاني لها وأنا أسبح دخولاً إلى عرض البحر، وما أن تجاوزنا مسافة المائة متر حتى قفزت السلحفاة برشاقة نادرة لأعلى ثم قامت بالغوص في العمق كالصاروخ ثم بالطفو مجدداً على سطح الماء حيث أخذت تتمايل يميناً ويساراً بجسدها الضخم، فتحرك في اتجاهي شيء لامع لم أتبينه في حينه بسبب انشغالي مع السلحفاة، التي ما لبثت أن نظرت في عينَّي نظرة حانية ثم اختفت في مياه البحر الأبيض المتوسط، بعد أن كنت قد أمسكتُ بيدي ذلك الشيء اللامع لأجده زجاجة مغلقة تحوي لفافة مطوية من ورق الشفاف الخفيف!!.
(3)
أرجو ممن تصله هذه الرسالة أن يسعى قدر استطاعته لإبلاغ السلطات الرسمية، فقد تكبدتُ مشقة بالغة وبذلتُ جهداً خارقاً لأكتبها على أمل وصولها إلى أيديكم التي لا شك ستكون كريمة معي بعد معرفتكم بما حل بي من أهوال 00000 اسمي "فاطمة" من مواليد مدينة الإسكندرية المصرية عام 1915 لأسرة ثرية وعصرية تفيد شجرة جذورها المعلقة على الجدار أن أصولها تدمج بين العربية والتركية والفارسية، هويتُ منذ نعومة أظفاري مادة العلوم حتى أنه عندما كان أقاربنا يسألوننا ونحن صغار عما نحلم به للمستقبل وكانت قريناتي يتحدثن عن زواج وأمومة وما شابه من أحلام وردية جميلة، فقد كنتُ أعلن فوراً رغبتي في أن أصبح "عالمة"، مع تحديد قصدي لمجال العلوم البحتة والطبيعية منعاً لاتجاه الظنون نحو مجال علوم الدين أو مجال عوالم الأفراح حيث أن المتخصصة في أيِّ منهما تسمى أيضاً "عالمة"..... حصلتُ على شهادة البكالوريا عام 1931 ولم أتراجع عن رغبتي في التخصص العلمي الذي رأيتُ نفسي قادرة من خلاله على خدمة بلدي وأهلي ورفع شأنهم، إلا أنه نظراً لصعوبة التحاق الفتيات المصريات آنذاك بالتعليم العالي لاسيما في المجال الذي اخترته فقد التحقتُ بالمدرسة العليا للعلوم في جامعة مدينة "ميونيخ" عاصمة ولاية "بافاريا" الألمانية، وذلك بمساعدة بعض أقاربي الذين كان قد سبق لهم أن درسوا هناك وعادوا بصحبة زوجاتهم الألمانيات إلى الإسكندرية!!.
 أثناء دراستي تم تكليفي بإعداد بحث ميداني عن النمل من خلال المعاينة المباشرة لرصد الخواص وتحليل السلوك وذلك في إطار مادة قاعة البحث التابعة لفرع الأحياء، وهو ما كشف لي حقائق مفزعة حيث وجدتُ أن جماعة النمل الأقوى تغير على الجماعة الأضعف لتأسرها، وتقيم حفلاً يأكل فيه المنتصرون الأعضاء التناسلية للأسرى الأحياء ثم يتبرزون على ظهورهم مادة لزجة سرعان ما تجف لتشكل ثقلاً ملتصقاً يبطئ حركتهم، وهكذا يضمن المنتصرون أن أسراهم لن يهربوا كما أنهم لن يحاولوا الإنجاب حتى لا ينشغلوا عن العمل كالعبيد في مملكة أسيادهم، وربما أيضاً حتى لا يثور الجيل الجديد من أسرى النمل ضد أوضاع العبودية أو يثأروا لأبائهم، وعندما يشيخ العبد الأسير المخصي ويغلبه الوهن مع استمرار أشغاله الشاقة بمرور الزمن، فإنه يصبح وليمة شهية لأسياده تزيد من قدرتهم على الإنجاب وعلى استجلاب المزيد من الأسرى لاستعبادهم في خدمة مملكة الأسياد..... فإذا أغارت إحدى جماعات النمل الأخرى الأكثر قوة على مملكة الأسياد فإنها تقوم من جانبها بأسر الجميع ليتكرر نفس السيناريو في المملكة الجديدة للأسياد الجدد، حيث يصبح كل واحد من الأسياد السابقين أسير حرب درجة أولى يحمل على ظهره ثقلاً ملتصقاً واحداً، بينما يصبح كل واحد من العبيد السابقين أسير حرب درجة ثانية يحمل على ظهره ثقلين ملتصقين متجاورين من فضلات الأسياد الجدد والقدامى معاً..... حصل البحث الذي أعددته على الدرجة النهائية، إلا أنه أصابني بصدمة جعلتني أعود إلى الموقع الميداني الملحق بالجامعة وأحرقُ ممالك النمل بجميع ساكنيها من الأسياد المستبدين وعبيد الدرجتين الأولى والثانية الخاضعين، الأمر الذي تسبب في إحالتي لمجلس تأديب جامعي قرر اعتباري راسبة في فرع الأحياء، فلم يعد أمامي سوى الاختيار بين فرعي الكيمياء والفيزياء للتخصص فاخترتُ الأول لغلبة المتغيرات فيه على الثوابت وغلبة الابتكارات فيه على الاكتشاف!!.
(4)
بعد حصولي على شهادتي الجامعية عام 1935 استكملتُ دراساتي العليا في مجال جديد، كان أساتذتي الألمان قد وصفوه بأنه سيوفر للإنسانية كل احتياجاتها من الطاقة اللازمة لتحقيق رفاهيتها المطلقة، وهو ما رأيته الأقرب إلى أحلامي بخدمة بلدي وأهلي ورفع شأنهم لاسيما وأن هذا المجال يقع في المنطقة المشتركة بين فرعي الكيمياء والفيزياء، لأنه يتعلق بدفع الذرة والنواة نحو الإنشطار المبرمج سلفاً عبر التخصيب الكيماوي بالجرعات المناسبة فيما أصبح معروفاً بعد ذلك باسم الكيمياء النووية، وقد حظي المجال الجديد باهتمام زائد، فكانت المعامل الخاصة به أكثر تطوراً من غيرها وتوافرت فيها كافة مستلزمات البحوث والتجارب في فرعي الكيمياء والفيزياء وغيرها من الأفرع العلمية ذات الصلة..... كنت أقبع في المعمل منذ الثامنة صباحاً حتى الثامنة ليلاً وأنا ارتدي البالطو والقفازات وكمامة الأنف والفم ونظارة حماية العيون من الضوء وقناع حماية الوجه من الرذاذ، لتنفيذ تعليمات أساتذتي بإجراء التجارب المعملية مع رصد ومتابعة التغيرات الدقيقة التي تطرأ على مدار الساعة داخل القوارير والأنابيب في أعقاب خلط المواد أو تسخينها أو تبريدها أو كبسها أو تهويتها، أو غير ذلك مما تقتضيه الأبحاث العلمية الكيميائية والفيزيائية، وإعداد التقارير التي تحوي تسجيلاً لكل ما يحدث من تطورات أولاً بأول ثم رفعها لأساتذتي. ازدادت ثقتي بنفسي بمضي الزمن فأخذتُ أبتكر من بنات أفكاري تعديلات تنفيذية على تعليمات الأساتذة بالحذف أو بالإضافة مع تسجيلها في التقارير بلون مختلف لتمييزها باعتبارها إسهاماتي الشخصية!!.
  بعد حصولي على درجة الماجستير عام 1938 بدأتُ أنتبه تدريجياً لما كنت قبل ذلك منشغلة عنه بالأبحاث العلمية والتجارب المعملية، ألا وهو غموض بعض الأحوال المحيطة مثل وقوع معاملنا داخل أسوار محكمة الإغلاق وانعزالها في مكان ناءٍ بعيد عن بقية معامل الجامعة، ومنع اختلاط الدارسين الأجانب ببعضهم وتكرار زيارات كبار القادة العسكريين لمعاملنا، وغيرها مما أخذتُ أسأل عنه بإلحاح فتلقيتُ أجوبة ذكية مجهزة سلفاً إلا أنها لم تحل دون فقداني للطمأنينة، حتى أنني طلبتُ استرداد وثيقة سفري المصرية التي كانت إدارة المعامل قد سبق أن سحبتها مني بدعوى تسجيل بياناتي، فأفادوني بأنهم سيحتفظون بها لحين حلول موعد مغادرتي النهائية للأراضي الألمانية ومنحوني تصريحاً للإقامة مختوماً بشعار وزارة الحرب..... كان التصريح يسمح لي بالخروج من دائرة المعامل للتجوال في نطاق الحدود الجغرافية لمدينة ميونيخ فقط، باستثناء يومي السبت والأحد المسموح لي فيهما بالخروج من المدينة على ألا أتجاوز الحدود الجغرافية لولاية بافاريا، حيث تستدعي مغادرة الولاية تصريحاً خاصاً لكل مرة على حدة شريطة أن تتم برفقة ضابط لا تقل رتبته عن "كولونيل" لضمان حمايتي ممن وصفوهم بالأعداء..... ازداد ارتيابي في الأمر كله فعاودتُ مراجعة ما سبق أن أجريته من أبحاث علمية وتجارب معملية مختلفة ولكن بنظرة جديدة ومن زاوية مغايرة، لأدرك أن ما شاركتُ فيه لا يتعلق برفاهية الإنسانية كما سبق أن خدعني الأساتذة الألمان بقولهم لكنه يتعلق بتدميرها!!.
(5)
قررتُ الهروب من هذا الشرك الخداعي بأي شكل للعودة إلى مصر فطلبتُ من إدارة المعامل تصريحاً بزيارة العاصمة الألمانية "برلين" لمشاهدة عروض الأوبرا ومعارض الفن التشكيلي، فاصطحبني إلى هناك أحد ضباط وزارة الحرب وقد وضع التصريح الخاص بي داخل جيب سترته مبرراً ذلك بأنه سيرافقني كظلي في كل خطواتي..... هاجمني الضابط بمجرد نزولنا في أحد الفنادق محاولاً اغتصابي لمعرفته بأن فتيات الشرق يبقين حتى الزواج أبكاراً بينما كل الفتيات الألمانيات اللواتي سبق أن عرفهن لسن كذلك، وقد ساومته بعدم إبلاغ قيادته عن محاولته الفاشلة معي مقابل أن يتركني أتسوق وحدي لشراء احتياجاتي من المستلزمات الحريمي، وما أن أصبحتُ بمفردي حتى سارعتُ صوب مبني السفارة المصرية لأجد بابه مغلقاً فأخذتُ أطرقه لما يزيد عن نصف الساعة، سمعتُ رداً كسولاً من الداخل بالحضور خلال مواعيد العمل الرسمية، وتحطمت كل محاولاتي بالنداء والرجاء والدعاء والبكاء على صخرة عدم وجود تعليمات إدارية للموظف المقيم داخل السفارة بفتح الباب ليلاً. ظللتُ ملتصقة بالباب الخشبي ومتشبثة بمقبضه المعدني حتى خارت قواي وانهار جسدي، لأسقط على الأرض مع وصول الضابط المرافق الذي حملني عائداً للمعامل وهو يشير إلى تكافؤ صفقة عدم الإبلاغ المتبادل عما فعله كل واحد منا في برلين، دون أن يُفوِّت الفرصة لتحقيق غرضه الدنئ ويسلبني بكارتي!!.
قامت الحرب العالمية الثانية عام 1939، وازدادت القيود على تحركاتي لدرجة أنني لم أغادر المعامل سوى مرة واحدة في عام 1942 إلى المبنى المجاور لمنحي درجة الدكتوراه في الكيمياء النووية، ثم تمت إعادتي مرة أخرى وعلى وجه السرعة للمعامل كأسيرة حرب تقوم بإجراء الأبحاث العلمية والتجارب المعملية تنفيذاً لأوامر من يأسرونها..... استمرت القيود من سيء إلى أسوأ حتى سقطت الدولة الألمانية تحت أقدام جيوش الحلفاء عام 1944، فقررت الإدارة العسكرية تفجير معامل ميونيخ بما تحويه من أبنية وبشر لمحو جميع الأسرار ولنحر كل الأشخاص حتى لا يقع هذا أو ذاك في أيدي الحلفاء، إلا أن المنتصرين كانوا قد اتخذوا قراراً مغايراً بالسيطرة على المعامل مع حماية سلامتها تمهيداً لتفكيكها بهدف نقلها، ثم إعادة تشييدها بما تحويه من أبنية وبشر على نفس صورتها الأولى في صحراء ولاية "نيفادا" حيث يوجد معسكر الكيمياء النووية التابع للجيش الأمريكي..... لم يلتفت أحد في جماعة المنتصرين لروايتي بأنني مجرد باحثة مصرية سافرتُ إلى ألمانيا لاستكمال دراساتي العليا، وبأن مشاركاتي العلمية في خدمة الأنشطة العسكرية الألمانية تمت بالتضليل أولاً ثم بالقهر عندما أكتشفتُ الخديعة، أي أن مشاركتي في المرحلتين كانت على عكس إرادتي الحرة، وربما جعلتهم ملامحي الشكلية لا يصدقونني فأنا من ذوات الشعر الأشقر والعيون الملونة كالأوروبيات، وهكذا وجدتُ نفسي في عام 1945 مكبلة على مقعد إحدى الطائرات العسكرية، التي اتجهت بي مباشرة نحو الأسوأ في معسكر صحراء نيفادا التابع لجيش الولايات المتحدة الأمريكية حيث مملكة الأسياد الجدد!!.
(6)
كما كان المنتصرون من جماعات النمل يلتهمون الأعضاء التناسلية لأسراهم بهدف منعهم من محاولة الإنجاب، فقد وضع الأمريكيون في طعامنا وشرابنا الإجباري كيماويات هرمونية تفقد متعاطيها المشاعر الجنسية والعاطفية والاجتماعية، وكما كان المنتصرون من جماعات النمل يتبرزون على ظهور أسراهم مادة لزجة سرعان ما تجف لتشكل ثقلاً ملتصقاً يعيق الحركة بهدف منعهم من محاولة الهروب، فقد أحاط الأمريكيون معاصمنا بأساور معدنية محكمة الإغلاق تحوي شرائح " ترانزيستور" تتيح لأجهزتهم الإلكترونية المتطورة أن تتعقب خطواتنا وتتابع تحركاتنا على مدار الساعة، وكما يحدث في ممالك النمل أيضاً فقد وجدتُ نفسي أسيرة حرب من الدرجة الثانية في مملكة الأسياد الجدد، أعكف على استكمال ما سبق أن بدأته في ميونيخ من أبحاث علمية وتجارب معملية تنفيذاً للأوامر العسكرية المباشرة، لأساهم بذلك في تطوير الترسانة النووية الأمريكية ذات الأغراض التي تتناقض تماماً مع أحلامي عن تحقيق الرفاهية المطلقة للإنسانية!!.
رغم أن الأمريكيين لم يعودوا بحاجة ملحة إلى مساهمات أسرى الحرب "الألمان" في مجال الكيمياء النووية، بعد أن ازدادت بمضي الزمن أعداد المتخصصين لديهم في هذا المجال سواء من أبنائهم الأصليين أو المهاجرين، إلا أنهم أبقونا في الأسر لحرصهم على استمرار الاحتكار النووي ولخشيتهم من أن تستنهض عودتنا إلى أوطاننا همم البحث العلمي لدى شعوبنا فتضيق المسافات بدرجة تهدد المصالح الاستعمارية القائمة، ورغم التغييرات والتبديلات التي طرأت على القيادات والإدارات في البيت الأبيض والكونجرس والبنتاجون بمضي الزمن، إلا أن قواعد أسر علماء الكيمياء النووية الألمان بمعسكر نيفادا بقيت كما هي، حيث استمرت كل القيود والممنوعات بما فيها منع الخروج أو الاختلاط بالناس. حتى الموت لم يكن مسموحاً به في غير التوقيت الذي يحدده الأسياد الجدد، فكل الأدوات والمواد القابلة للاستخدام من أجل الانتحار غير موجودة كما لا توجد ارتفاعات للقفز منها أو جدران صلبة لدق الرأس بها، أما الامتناع عن الأكل والشرب فهو غير ذي جدوى إذ سرعان ما تقوم الطواقم الطبية بضخ التغذية البديلة داخل معدة الممتنع بواسطة خراطيم الأنف شديدة الإيلام..... لقد أصبحتُ أكثر ميلاً للاعتقاد بأن الملف الخاص بي يوجد في حوزة إحدى العصابات الإجرامية المهيمنة بشكل مطلق على صانع القرار الأمريكي!!.
(7)
لا يختلف العام الجاري والذي يحمل رقم 1965عما سبقه من أعوام  قضيتها في الأسر، سوى أنني استمعتُ لأول مرة منذ بداية محنتي لأحدهم يدندن مردداً أغنية باللهجة العامية المصرية التي كدت أنساها، كانت إحدى أغنيات الحنين إلى الأهل والأحباب التي تقول كلماتها: "خايفة لما تسافر ع البلد الغريب... تنسى إنك فايت في بلدك حبيب"، فقفزتُ إلى حيث يقف مصدر الدندنة والذي أفادني في عجالة بأن اسمه "يوسف لوقا" من مواليد مدينة "المنيا" عروس الصعيد المصري، وبأنه كان قد هاجر مع أبيه إلى "البرازيل" وهناك اختطف الوباء أباه فانتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ليلتحق بالجيش كطباخ برازيلي مهاجر اسمه "جوزيف لوكاش" فيما يفسر وجوده أمامي نظراً لما تقتضيه قواعد الأسر من منع التقاء الأسير بأحد أبناء جلدته!!.
لم يكن أمامي مكان آمن للإنفراد به سوى داخل دورة المياه حيث رويتُ له ما حل بي فوعدني بإبلاغ السفارة المصرية، ولكنه عاد بعد أيام يجر أذيال الفشل فقد تلقى رداً دبلوماسياً بأن هذا الملف يندرج ضمن المحظورات التي تتجاوز السقف المسموح به في علاقة السفارة بالإدارة الأمريكية، وإزاء شعوره بمراقبة إحدى وكالات الأمن فقد قررنا الإسراع بالخطوة التالية قبل معاقبته أو إبعاده عني، لذلك اتفقنا على قيامي بكتابة تفاصيل محنتي في رسالة أمنحها له، ليتحرك بها على ثلاثة محاور، الأول هو تسليمها إلى السلطات الرسمية المصرية عبر أحد معارفه الصعايدة العائدين إلى القاهرة، والثاني هو نشر رسالتي بإحدى الصحف الأمريكية اليسارية، إما إذا عجز عن التحرك في المحورين المذكورين فلن يكون أمامه سوى إيداع الرسالة بين يدي العناية الإلهية، بوضعها في زجاجة مغلقة ثم إلقائها في المحيط الأطلسي صوب الاتجاه الجغرافي للبحر الأبيض المتوسط حيث تقع مدينتي الحبيبة الإسكندرية على الساحل الشمالي الغربي لمصر...... حاول يوسف لوقا طمأنتي لجدوى المحور الثالث والأخير بطريقته كصعيدي أرثوذكسي متدين، مؤكداً أنه قبل وضع الرسالة داخل الزجاجة لإلقائها في المحيط سوف يرش عليها ماءً طاهراً كان قد جلبه معه من كنيسته الأصلية بمدينة المنيا، وسوف يصلى متضرعاً ويطلب من السيدة مريم العذراء أن تحيط رسالتي برعايتها، حتى تصل إلى أيدي من تختاره العناية الإلهية بحكمتها التي تفوق علمنا البشري..... سرعان ما انتزعتُ لفافة الورق الشفاف الخفيف من دورة المياه لأكتب عليها محنتي في إطار من السرية التامة بهدف تسليمها إلى يوسف لوقا أو "بلدينا" كما يحب الصعايدة أن يتنادوا فيما بينهم، ومنه تصل الرسالة إليكم على أي وجه من أوجه المحاور الثلاثة حسب الأحوال!!.
(8)
تآكلت أطراف لفافة الورق الشفاف الخفيف من أعلى ومن أسفل بسبب طول المدة الزمنية الفاصلة بين قيام يوسف لوقا بإغلاق الزجاجة وقيامي أنا بفتحها، مما تسبب في ضياع البيانات التفصيلية التي يدونها الكاتب عن نفسه على الأطراف الورقية لرسالته والتي تساعد في معرفة المعلومات المفيدة بشأن كيفية الاتصال بأقاربه، فاعتبرتُ نفسي أقرب الأقرباء وقررتُ التحرك على ذات المحاور التي سبق أن أسفر عنها الاجتماع السري بين "أم اسكندر الخالة فاطمة" و"بلدينا الخال لوقا". توجهتُ إلى إحدى الصحف المملوكة للدولة إلا أن القائمين عليها رفضوا نشر الموضوع لما يتضمنه من اتهامات غير مباشرة للحكومة بالتقصير في حماية المغتربين، ثم كررتُ المحاولة مع صحيفة مملوكة لأحد أحزاب المعارضة فرفض القائمون عليها بدورهم نشر الموضوع، لما يتضمنه من تشويه لصورة النظام الأمريكي الذي يبشرون به أنصارهم كنموذج للحرية. لم يعد أمامي سوى إبلاغ السلطات الرسمية ومطالبتها بسرعة التدخل لإطلاق سراح الخالة فاطمة، ولما كان المقر الأقرب جغرافياً لمكان عثوري على الرسالة هو نفسه الذي سبق أن عوملت فيه بقسوة خلال اليوم السابق فقد مررتُ على نقابة المحامين لاصطحاب أحدهم معي، وهناك لم يوافق على مرافقتي سوى المحامي الملتحي الذي أخذ يطمأنني بضرورة اختلاف المعاملة هذه المرة، ليس فقط بسبب وجوده القانوني بصحبتي، ولكن أيضاً لأنني اليوم أطلب إطلاق سراح سيدة مصرية عجوز أسيرة لدى بعض الأمريكيين وليست سلحفاة أمريكية عجوز أسيرة لدى بعض المصريين كما طلبتُ بالأمس!!.
 ما أن دخلنا مقر السلطات الرسمية وكشفنا عن هوياتنا وقدمنا البلاغ الرسمي بطلباتنا حتى أحاط بنا أفراد طواقم "النوبتجية" في دائرة للتهكم والسخرية، وأخذ كبيرهم يعبث بلحية المحامي وهو يسبه لسابق مشاركته في الدفاع عن بعض المتطرفين دينياً، ولم يلتفت لرد المحامي حول قواعد المهنة التي تكفل توفير محامياً لأي متهم بصرف النظر عن اتجاهاته، وسرعان ما انقسمت الدائرة إلى اثنتين أحاطت إحداهما بالمحامي ثم اقتادته بعيداً عني، بينما أحاطت بي الدائرة الأخرى والتي اقتادتني إلى فوهة سرداب مظلم متجه لأسفل، حيث تم دفعي لأسقط في قاع بئر عطنة مخصصة لتجهيز"الزبائن" بخلع ملابسهم وأحذيتهم وتكبيل أياديهم وأقدامهم ثم تغطية وجوههم بأكياس سوداء، على إيقاع جنائزي لوصلات الترحيب بالعصي أو بالماء أو بالنار أو بالكهرباء أو غيرها من مفردات الترحيب التي يتلقاها كل "زبون" وتختلف درجة حرارتها حسب أحواله، وذلك قبل اقتياده للعرض على القائد المختص!!.
(9)
تعمد القائد على غير العادة أن يرفع الكيس الأسود عن وجهي حتى أراه، كان هو نفسه الذي التقيته بالأمس خلال موضوع السلحفاة وحذرني من عقابه الشديد لو عاودتُ الأمر مجدداً، لاحظ اهتمامي باللوحة التي تعلو مكتبه والمدون عليها اسمه ورتبته ووظيفته كرئيس وحدة مكافحة الإشاعات، فشرح لي أن الهدف من إنشاء وحدته هو منع بث الإشاعات أو تداولها عبر الردع الفوري لمن يروجونها بأي وسيلة من وسائل الاتصال حتى لو كانت هذه الوسيلة بلاغاً إلى السلطات الرسمية، مشيراً إلى أن أي معلومة تؤرق أمزجة السادة المسئولين أو السادة رجال الأعمال هي إشاعة حتى لو كانت صحيحة لأنها ببساطة تؤثر على استقرار الأوضاع الاقتصادية والسياسية للدولة. كما شرح لي سبب انزعاجه من صحبتي للمحامي الملتحي وبالتالي مسارعته بالفصل بيننا، فهو يراني مشاغباً مدنياً ويرى المحامي مشاغباً دينياً وبالتالي فإن التقائنا معاً ولو من باب المصادفة يعني بالنسبة له صب الوقود على النار مما يشعل حريقاً، ولعل هذا السبب هو الذي جعل أفراد بئر"التجهيز" يفرطون في صب الماء البارد بوفرة فوق رأسي لإطفاء الحريق!!.
رغم فتحي للزجاجة عدة مرات منذ عثوري عليها إلا أنها لم تتجاوب مع محاولات فتحها بعنف من قبل القائد، مما أثار أعصابه فدقها على الجدار لتتحطم ويتناثر زجاجها فوق أرضية المكتب، ثم أمسك رسالة الخالة فاطمة في يده اليمنى وأمسك بلاغي في يده اليسرى وراح يقرأ سطراً من هنا وآخر من هناك باستهانة وتهكم، وقبل إكماله لأيِّ من الورقتين أخرج من جيب سترته ولاعته الذهبية الحديثة ليشعل النار فيهما معاً، وهو يوبخني بقوله: "تتحرق فاطمة واللي جاب فاطمة فأنا لا يهمني سوى ما يمس أمن الدولة فقط". ولم يفته أن يحرر ضدي عدة محاضر بإزعاج السلطات وبإتلاف ممتلكات الغير وبترويج إشاعات تهدد الاستقرار، مع مخاطبة النيابة العامة لمعاقبتي على ما ارتكبته من جرائم واستكتابي تعهدات خطية بعدم تكرار هذه الجرائم!!.


 (10)
أكملتُ أسبوع المصيف ضيفاً إجبارياً على بئر التجهيز وزائراً متجولاً على بساط "الكعب الداير" لعدة مقرات رئيسية وإقليمية وفرعية تابعة للسلطات الرسمية، قبل أن يتم إخلاء سبيلي على ذمة القضايا المنظورة أمام محاكم الإسكندرية، مما اقتضى أن أقوم قبل عودتي إلى القاهرة بتوكيل محامٍ إسكندراني للدفاع عني في غيابي، فاتجهتُ صوب نقابة المحامين، لأجد المحامي الملتحي وقد تحطمت أنفه وتورمت إحدى عينيه وسقطت بعض أسنانه مع ظهور جروح قطعية بمختلف ملامح وجهه واحتراق مساحات متفرقة من شعر لحيته، فيما كشف حرارة ما تلقاه من ترحيب في بئر التجهيز!!.
أخذ كلاً منا يربت على ظهر الآخر ليشد من أزره، إلا أنه رغماً عنا وبدون اتفاق نظرنا إلى أعضائنا التناسلية للاطمئنان، ثم رحنا نحصى عدد الأثقال الملتصقة فوق ظهورنا من فضلات الأسياد الجدد والقدامى..... رفعنا أيادينا سوياً إلى السماء لنترحم على فاطمة أم اسكندر حيث تجوز الرحمة للميت والحي باعتبارنا لا نعلم إذا كانت لم تزل في عالم الأحياء أم انتقلت إلى العالم الآخر، وسرعان ما نفثت الصدور دعوة محاطة بتنهيدات حارة منكسرة: "في جنة الخلد، مع الأبرار والشهداء والصديقين، يا خالة فاطمة، اللهم آمين، اللهم آمين"!!.
*****


ســهام
 
( 1 )
               في منتصف ثمانينيات القرن العشرين انتزعت الحكومة مهرجان القاهرة السينمائي من أيدي الجمعية الأهلية الفنية، التي كانت قد أنشأته وأشرفت على استضافته بانتظام سنوي طوال عقد كامل من الزمان، حظي المهرجان خلاله بالتفاف نخبوي قوي نظراً لكونه النافذة الوحيدة المتاحة آنذاك لمعرفة أفكار وأراء وسلوكيات الآخرين، كما حظي في الوقت نفسه بإقبال جماهيري ساحق نظراً لكونه الفرصة الوحيدة المتاحة آنذاك لمشاهدة الغراميات السينمائية الحارة بدون حذف أو تدخل من مقص الرقيب الحكومي!!.
               لما كانت كل مفردات المهرجان قد اتسمت خلال حقبة الإشراف الأهلي بالخفة والرشاقة، فقد خشيت الحكومة من الانعكاسات السلبية المحتملة لوضع أياديها الثقيلة عليه لاسيما فيما يتعلق بالالتفاف النخبوي والإقبال الجماهيري أو بمساهمات الشركات الدولية المنتجة للأفلام، مما دفعها لمحاولة الإبقاء على الأوضاع كما كانت عليه ولو ظاهرياً، بإعلان الاستمرار في إبعاد مقص الرقيب عن الأفلام السياسية والغرامية، مع تشكيل لجنة تنظيمية شبه محايدة للإشراف على المهرجان، تضم بعض موظفي الهيئات الحكومية المعروفين بإسهاماتهم الفنية وميولهم الاستقلالية مع بعض الموالين للأجهزة الحكومية من الفنانين المحترفين، لكسب ود مختلف الجهات المعنية في الداخل والخارج. وبموجب هذه المناورة وصلتني مكاتبة رسمية من جهة عملي قبل الافتتاح بيوم واحد تتضمن القائمة الرئيسية لأسماء أعضاء اللجنة التنظيمية، حيث وجدتُ نفسي في ذيلها كمشرف على المركز الصحفي التابع للمهرجان!!.
( 2 )
               في إطار القواعد التي وضعتها اللجنة التنظيمية لمهرجان القاهرة السينمائي، كان لزاماً على الفيلم المشارك أن يجتاز عرضاً رسمياً بقاعة السينما التابعة للفندق العريق المطل على نهر النيل، قبل توزيعه للعرض التجاري في مختلف دور السينما الخاصة المنتشرة بالعاصمة وضواحيها، حيث يتكرر عرضه وفقاً لمعيار شباك التذاكر المحكوم بنوعية الإجابة على السؤال الذي اشتهر آنذاك حول تصنيف الفيلم "قصة واللا مناظر؟!". وبموجب القواعد ذاتها كان لزاماً على المركز الصحفي الذي أترأسه أن يقوم في أعقاب العرض الرسمي لكل فيلم بعقد ندوة عنه، يلتقي خلالها المشاركون من صانعيه مع المهتمين بالشئون السينمائية وذلك في قاعة الندوات التابعة للفندق ذاته. كما كان لزاماً على المركز أن يقوم بمهمة أخرى فقط هي منح بطاقات المشاهدة المجانية للصحفيين المختصين بالشأن السينمائي دون غيرهم!!.
               حرصتُ منذ اليوم الأول على توسيع نطاق الصلاحيات الممنوحة للمركز الصحفي بما يسمح لي بتقديم المساعدات التقليدية وغير التقليدية للجميع، رغم صرامة القواعد التي وضعتها اللجنة التنظيمية. فالصحفي الذي فاته حضور الندوة يستطيع الاتصال بي هاتفياً للحصول على نبذة مختصرة ومفيدة عن وقائعها لينشرها في جريدته صباح اليوم التالي، والذي حضر بدون مصور فوتوغرافي يستطيع أن يحصل مني على الصور المطلوبة للنشر، أما الذي يسعى لإجراء حوار مع أحد النجوم فإنه يجيئني لأرتب له انفراداً بالنجم أثناء تناوله الطعام فيضمن بذلك حصوله على صفحة كاملة في العدد التالي لجريدته، كما كان الذي يعمل في جريدة محافظة يحصل مني على موضوعات وصور"منضبطة" تنسجم مع اتجاهات الجريدة فتصلح للنشر على صفحاتها... وغير ذلك من المساعدات غير التقليدية التي يطلبها الصحفيون المختصون بالشأن السينمائي. كما تعمدتُ توسيع نطاق منح بطاقات المشاهدة المجانية لتشمل المتذوقين والهواة من محبي الفنون الراغبين في الإطلاع على ما هم محرومون منه طوال العام. وتعمدتُ غض الطرف عن تسلل بعض أفراد الجمهور العادي هنا أوهناك للحصول على صور فوتوغرافية تذكارية لأنفسهم بحوار مشاهير السينما، أو لالتهام قطع الحلوى المجانية التي كان يتم توزيعها خلال انعقاد الندوات!!.
( 3 )
   مددتُ جسدي فوق أريكة الأرجوحة الواقعة عند أبعد أركان حديقة الفندق، للحصول على استراحة قصيرة بين أشواط المباريات المرهقة التي كان المركز الصحفي يخوضها في مواجهة كل الأطراف، لأسباب تتعلق بإصراري على تلبية ما أراه مستحقاً من طلبات غير تقليدية للأطراف الأخرى. غفوتُ قليلاً بعد أن خلعتُ نظارتي الطبية وحذائي الضيق، لأصحو على صوت أنثوي يصطنع الدلال في محاولة فاشلة من صاحبته لإخفاء اللكنة التي ينطق بها سكان القرى الشمالية بدلتا النيل، وهو ما أكدته الصورة التي شاهدتُها لفتاة شابة ترتدي أزياء السهرات اللامعة وتضع مساحيق التجميل الليلية بينما الوقت لم يزل في منتصف النهار، وقد تعثرت في ملابسها مرة وانزلقت على الأرضية الرخامية مرة أخرى وهي تتمايل أثناء سيرها نحوي لإغرائي، الأمر الذي دفعني للإمساك بيدها واصطحابها إلى مقر المركز الصحفي، حيث أفادتني بأن اسمها "سهام"!!.
   أخبرتني بأنها أبدلت ملابسها داخل حمام الفندق، وتركت حقيبتها لدى الأمانات، بعد هروبها من منزل عائلتها الريفي الواقع في الوجه البحري، لتحاول العمل بالسينما التي تعشقها، وقد اختارت توقيت انعقاد المهرجان لما يوفره أمامها من فرصة تكفل لها الالتقاء بمختلف العاملين في المجال السينمائي. وكشفت لي عن إدراكها بمجرد أن وطأت قدماها أرض القاهرة لحقيقة أنها أصبحت كالطفلة التائهة في زحام مدينة العشرة ملايين نسمة، والذي يشبه ما يسميه الريفيون "مولد الليلة الكبيرة"، لاسيما وإنها لا تحمل بطاقة شخصية وليس معها من النقود ما يكفي لتناول الطعام ولا تعرف مكاناً للإقامة والمبيت في العاصمة، إلا أنها لا تستطيع العودة إلى منزل العائلة الريفي خوفاً من عقابٍ قاسٍ قد يصل لدرجة القتل. ولما علمت أنني أعيش بمفردي عرضت أن تقوم بخدمتي مقابل استضافتي لها في منزلي، الذي كان آنذاك عبارة عن شقة صغيرة بأحد المساكن الشعبية الواقعة فوق هضبة "المقطم" التابعة لحي "الخليفة". وما أن وصلنا ليلاً إلى عتبة باب الشقة حتى تعلقت "سهام" برقبتي، وطلبت مني أن أعبر بها العتبة دخولاً إلى الشقة وهي محمولة بين يديَّ الاثنتين كما يفعل عرسان الأفلام في ليالي الزفاف السينمائية!!.
( 4 )
   كانت "سهام" مهووسة بالسينما لدرجة أنها اختارت لنفسها حيزاً مكانياً محدداً في غرفة صالون منزلي، عبارة عن فراغ لا تزيد مساحته على متر مربع واحد، يقع فوق السجادة الحمراء في مواجهة المكتبة الخشبية المخصصة لجهازي التليفزيون والفيديو. وقد حاولت الإقامة على مدار الساعة في موقعها المختار لتلبية شغفها المرضي بمتابعة الأفلام، لولا أنني كنت أجذبها بصعوبة شديدة للجلوس بجواري على مائدة الطعام لنأكله سوياً أو للاسترخاء بجواري على فراش الرغبة لندفئه سوياً. لم تكن تنتبه لخروجي من المنزل أو عودتي إليه مهما كانت متأخرة، حتى أنني كنت أعود أحياناً في اليوم التالي لأجدها على حالها كما تركتُها بالأمس في موقعها المختار أمام مكتبة المرئيات. أما المهام المنزلية من طهي وتنظيف وخلافه فقد حافظتُ على تأديتي لها بنفسي وكأنني مازلت أقيم بمفردي بعد أن تسببت "سهام" في العديد من الخسائر الفادحة، وهي تحاول على مضض وكراهية إنجاز بعض أعمال المنزل التي كانت تضيق بها ذرعاً باعتبارها لا تليق بواحدة من نجمات المستقبل!!.
               كانت لا تتفوه إلا بالنصوص الحرفية لعبارات الحوار السينمائي، سواء تلك التي تنطق بها ألسنة بطلات الأفلام العربية، أو تلك الواردة على "تترات" الترجمة المصاحبة للأفلام الأجنبية، وكانت لا تتحرك للتعامل مع مختلف الأحداث اليومية الاعتيادية إلا تقليداً للممثلات في المناسبات الدرامية الشبيهة. بما في ذلك تحركاتها الغريزية خلال مطارحات الغرام بيننا، حتى أنها كانت تناديني في لحظات النشوة بأسماء بعض نجوم السينما من الممثلين المشهورين بتأدية أدوار الوسامة والفحولة. ولم تنجح محاولاتي لإقناعها بالخروج معي في يوم إجازتي الأسبوعية، إلا عبر إغرائها بإمكانية مرافقتها لي خلال جلستي مع أصدقائي الفنانين في أحد منتديات "وسط البلد"، شريطة تعريفهم بها على أنها سكرتيرتي في جهة عملي الرسمية!!.
( 5 )
               أدرك أصدقائي الفنانون من النظرة الأولى أنها عالقة في حبال الشهرة الفنية من شعر رأسها حتى أصابع قدميها، فتعمدوا استدراج عقلها الغاوي ليقع تحت أسر"نداهة" أحاديثهم الاستعراضية عن انجازاتهم الوهمية في مختلف المجالات الفنية. وقبل حلول موعد جلستي الأسبوعية التالية معهم بساعة زمن واحدة، كانت "سهام" قد حشرت عمداً من خلف ظهري إحدى المناشف القماشية الضخمة في مجرى الصرف الصحي بحمام منزلي، مما ترتب عليه احتجازي بصحبة السباك الذي قرر أن يفك مكونات الحمام قطعة تلو الأخرى بحثاً عن الانسداد. أما هي فقد تقمصت دور واحدة من شيطانات السينما مدعية شعورها بالإهانة لأنني اتهمتها بالإهمال الذي نتج عنه انسداد الصرف الصحي، ثم غادرت الشقة، دون أن يفوتها إغلاق الباب خلفها بعنف إظهاراً لغضبها أسوة بالمناسبات السينمائية الشبيهة!!.
               ذهبت "سهام" مباشرة إلى حيث يجلس أصدقائي الفنانون في منتدى "وسط البلد"،  واتجهت إلى طاولتهم النائية وكأنها تسأل عني، وسرعان ما عرضت الفريسة نفسها على الصيادين فقبلوا عرضها واصطحبوها للجلوس في مكان آخر، ليس فقط تحاشياً لاحتمالات مجيئي ولكن أيضاً لاختبار مدى تجاوبها مع رغباتهم، لتنتهي الليلة بسهرة أعقبها المبيت في عوامة نيلية خاصة بمنتج سينمائي من الشوام الذين يحملون جنسية إحدى الدول الأوروبية. أما أنا فقد أيقنتُ بأنني فقدتُها كما فقدتُهم إلى الأبد، بعد اتصالي هاتفياً بالمنتدى للاعتذار عن عدم مشاركتي في جلسة اليوم بسبب انشغالي مع السباك، حيث تلقيتُ إفادة بحضورها المنفرد ثم مغادرتها مع الآخرين. هؤلاء الذين راح كل واحد فيهم تباعاً يمنحها فتاتاً محسوباً بدقة مما يتوق إليه عقلها الغاوي من شهرة في مختلف المجالات الفنية، مقابل أن يتداولونها فيما بينهم ويتهادون بها مع أصدقائهم ويقدمونها كرشوة لرؤسائهم ويقيمون على جسدها العاري حفلات جماعية مصورة، حتى استنفدوا منها كل الأغراض الجنسية التقليدية وغير التقليدية، فاتفقوا على نسيانها وتجاهلها كأنها لم تكن، لاسيما وقد ظهرت في دوائرهم وجوه نسائية شابة وجديدة!!.
( 6 )
               عبثاً حاولت "سهام" الاتصال بصياديها دون رد، وعبثاً وقفت على عتبات البلاتوهات السينمائية والاستديوهات التليفزيونية والإذاعية وخشبات العروض المسرحية والفرق الاستعراضية، ودقت كل الأبواب هنا وهناك بحثاً عن أي دور تمثيلي أو غنائي أو راقص دون جدوى. فقررت العودة إلى منزلي المتواضع في منطقة "المقطم"، حيث تقمصت دوراً لواحدة من تائبات السينما، إلا أنني نصحتُها بالبقاء خارج حياتي التي لم يعد لها مكان فيها بعد أن تسببت في إفساد علاقاتي بأصدقائي عندما خانتني معهم. فنقلت التقمص إلي دور إحدى شيطانات السينما وراحت تلطم وجهها وهي تصرخ وتهددني بالاعتصام على سلالم العمارة حتى تفضحني لدى جيراني. انتزعتُ لنفسي المبادرة بالفضيحة فاستدعيتُ شرطة النجدة التي اصطحبتها إلى مديرية أمن القاهرة، حيث تقرر ترحيلها لمنزل عائلتها الواقع في إحدى القرى الشمالية بدلتا النيل لإخلاء سبيلها هناك بعد استكتاب ذويها التعهدات اللازمة بعلاج حالتها العقلية من مرض الهوس بالسينما!!.
               خضعت "سهام" للعلاج الكيميائي والروحاني على أيدي بعض أطباء الأمراض العقلية الريفيين المبتدئين في هذا المجال، والذين منحوها جرعات تزيد كثيراً على الحد المسموح به علمياً، سواء فيما يتعلق بالأدوية والجلسات الكهربائية أو فيما يتعلق بالترهيب الديني من العقاب المرعب الذي ينتظرها في آخرتها، مما جعلها تتحول إلى احتقار جميع أنواع الفنون التعبيرية والإيقاعية والتشكيلية مع كراهية كل أشكال الاختلاط الاجتماعي، فانقطعت عن الحياة واعتزلتها لتعتكف في زاوية صغيرة تقع داخل بدروم منزل العائلة الريفي للعبادة والاستغفار، وهناك وضعت مولوداً ذكراً مجهول الأب، يعاني تخلفاً عقلياً واضحاً بسبب ما تلقته الأم من جرعات علاجية زائدة وهي تحمله في أحشائها. أشارت إلى منتج السينما الشامي الذي يحمل جنسية إحدى الدول الأوروبية رغم ترجيحها أنني الأب، فذهب إليه أهلها يرجونه الستر لكلِّ من ابنه وابنتهم معاً متعمدين أن يخفوا عنه ما أصابهما من أمراض عقلية، كانت هي التي جعلتهم يلتمسون العذر لابنتهم عملاً بقاعدة "ليس على المريض حرج". أما الرجل الثرى الذي تجاوز السبعين عاماً من عمره فقد كان يعلم أنه عقيم لا ينجب، لكنه في الوقت ذاته يكره أن يرثه إخوانه الذين سبق أن تكالبوا عليه وتآمروا ضده حتى دفعه كيدهم للهجرة إلى أوروبا هرباً من الشام، فوجد في المولود ضالته ومنحه الأبوة، ثم سرعان ما أورثه بوفاته أموالاً طائلة أصبحت في أيدي أمه "سهام" باعتبارها الوصية القانونية عليه، بعد أن كانت قد اتخذت لنفسها اسماً يليق باعتكافها الديني وهو الشيخة  "الحبيبة أم عبد الله"!!.
(7 )
               شهدت منطقة "المقطم" حركة مكثفة لتشييد وتجهيز وتأثيث أحد المباني على الأرض الملاصقة لمنزلي، سرعان ما اتضح أنه يتبع جمعية أهلية، وقد خصصته لمشروع خيري متعدد الأنشطة يشمل فيما يشمله المسجد والمستوصف وملجأ الأيتام وحضانة الأطفال وسيارات تكريم الموتى... وما شابه. أما الدور العلوي للمبنى فقد تم تخصيصه لسكن صاحبة المشروع والتي هي في الوقت ذاته رئيسة مجلس إدارة الجمعية الأهلية، وقد شاهدتُها ذات مرة تتحرك وسط حراسة لصيقة من بعض الأشداء ذوي اللحى والجلابيب البيضاء الذين يحملون السيوف والعصي الغليظة، كانت ترتدي إسدالاً أسوداً كظلام الليل يطبق على جسدها من أعلاه إلى أدناه باستثناء ثقبين صغيرين تطل منهما عينان أطفأتهما الغيبوبة فأصبحتا كالتائهتان في قاع بلا قرار. أزعجني إطلال مسكنها الخاص على دواخل شقتي عبر كافة المنافذ، لاسيما وأنها تستخدم أنواعاً متطورة من الزجاج الملون أعجزُ معه عن معرفة إذا كانت تراقبني أم لا، مما أجبرني على إغلاق منافذ شقتي باستمرار لحماية خصوصياتي من أي تطفل محتمل، دون أن أهتم بإفراطها في إخفاء شكلها أو يلفت انتباهي اسمها الذي يردده حراسها وهو الشيخة "الحبيبة أم عبد الله"!!.
               كان المشروع الخيري بأنشطته المختلفة إلى جانب كل المشاريع الأخرى التابعة للجمعية الأهلية، مجرد سواتر للوحدتين الأكثر أهمية اللتين أنشأتهما الشيخة سراً، لتحمل الأولى اسم "جماعة مكافحة الانحلال" وهي عبارة عن تجمع لبعض رجال القانون السلفيين ويختص بمتابعة كل الأعمال الأدبية والفنية، لمطاردة تلك التي تراها الشيخة خارجة عن حدود الانضباط وملاحقتها قضائياً، بهدف وقف تداولها أو منع عرضها مع معاقبة أصحابها وتجريسهم أمام الرأي العام باعتبارهم من "الفاسقين المنحلين أعداء الشرع والدين"، لاسيما لو كانوا ممن سبق أن استخدموها جنسياً عندما كانت لم تزل تحمل اسم "سهام". أما الوحدة الثانية فقد حملت اسم "جماعة مجاريح الوغد" وهي عبارة عن تجمع لبعض النسوة اللواتي سبق أن تحطمت قلوبهم بسبب حبهم للوغد الذي لم يكن سوايَّ أنا شخصياً، ويختص هذا التجمع النسوي بمحاصرتي وتضييق الخناق حول علاقاتي الاجتماعية عموماً والنسائية منها على وجه الخصوص، بهدف إعادة تأهيلي لتتزوجني الشيخة التي لم تتوقف أبداً عن توجيه اللعنات لي نهاراً ثم اشتهائي في أحضانها ليلاً، منذ ذلك اليوم الذي دخلت فيه شقتي محمولة بين يديَّ الاثنتين، لتسلمني بكارتها طوعاً باعتباري أول من طارحها الغرام!!.
( 8 )
               دفعت الشيخة أموالاً طائلة لمأجورين زرعتهم حولي في أماكن وجودي الطبيعية،  ليمدونها بالبيانات التي تريدها عمن تعتبرهن "المجاريح" وهن النسوة اللواتي يدخلن حياتي، لترسل الشيخة بعد ذلك في طلبهن تباعاً حيث تقول لكل واحدة منهن على حدة أنها عرفت بعلاقتها معي عبر رؤية منامية كلفتها بإيقاف "الوغد" عن تحطيم قلوب المزيد من "المجاريح"، دون أن تكشف هدفها الحقيقي بإعادتي إلى أحضانها مرة أخرى باعتبارها هي شخصياً إحدى "المجاريح"، وكانت درجة تجاوب الطرف الآخر تحدد مدى إمكانية الانضمام لعضوية "جماعة مجاريح الوغد". فلما بلغ عدد العضوات عشرة مختلفات الأعمار والمستويات والتخصصات، بدأت الشيخة تقودهن لتسديد السهام المسمومة صوب أية وافدة جديدة على حياتي، والتي ما أن تصل المعلومات المطلوبة عنها من المصادر المأجورة حتى تعترض إحدى عضوات الجماعة طريقها بشكل يبدو طبيعياً، ثم تستدرجها في الأحاديث النسائية بحثاً عن المدخل الأنسب لإقناعها بأنها على حافة خطر داهم سيدمرها أسوة بغيرها، ضاربة لها المثل بإحدى عضوات الجماعة الأخريات، والتي يتم استدعاؤها لتروي على مسامعها قصصاً وهمية مرعبة لدرجة تدفعها نحو الفرار الفوري بجلدها ليس فقط من حياتي ولكن ربما أيضاً من البلد برمتها. فإذا كانت الوافدة الجديدة صعبة المراس فإنه يتم اشتغالها بواسطة عدد أكبر من عضوات الجماعة أو كلهن في آن واحد، وإذا فشلن فإن الشيخة تتدخل بأموالها الطائلة لتسخير الكثيرين من ذوي النفوذ في الدولة والمجتمع لصالح مخططاتها التي تتراوح بين الكيدية والاسترجاعية!!.
                كنت أرغب بشدة وإلحاح في أن أتزوج زواجاً شرعياً ناجحاً ينشئ أسرة سعيدة ومستقرة بشرط مسبق وحيد هو حدوث الحب أولاً، بعد أن فشلت زيجتي الأولى التي كانت قد افتقدت الحب فغاب عنها الاستقرار والسعادة مما أوقف استمرارها. لذلك كنت أمنح نفسي الفترة الزمنية الكافية لتنمو المساحات المطلوبة من الحب المتبادل بيني وبين المرشحة لمشاركتي في إنشاء الأسرة المستهدفة، دون انتباه لوجود المتربصات شراً اللواتي يجثمن على النبتة وهي لم تزل خضراء صغيرة ليحقنوها بجرعات مبرمجة من الخوف الذي تنمو معه الكراهية بدل الحب. فكانت علاقاتي الاجتماعية بالجنس الآخر تبدأ كمعزوفة سيمفونية تتناغم فيها الوتريات مع آلات النفخ وأدوات الإيقاع، وفجأة يعلو من هنا وهناك عزفاً نشازاً سرعان ما تعقبه مصادمات بين العازفين يحطمون فيها آلاتهم وأدواتهم، ثم مشاجرات بين المتفرجين يحطمون فيها المقاعد وخشبة العرض، لينسحب الجميع تاركين مسرح الأحداث خاوياً كالقبر. وبتكرار هذا السيناريو لعدة مرات متتالية بأشكال مختلفة في حياتي بدأتُ أدرك أن خلف الأكمة ما خلفها!!.
( 9 )
               استرجعتُ كل ما سبق أن علمني إياه أساتذتي في العلوم السياسية والعسكرية من استراتيجيات وتكتيكات ومناورات وفنون قتالية، لاختراق جدار المجهول الجاثم على أنفاسي. فوضعتُ خطة للهجوم الذي كان هو الوسيلة الوحيدة المتاحة للدفاع عن حياتي في مواجهة هذا المجهول، ورسمتُ الخطوات التنفيذية لخطتي ثم شرعتُ في الحركة... بدأتُ بالسعي خلف السيدات اللواتي يشرفن على تقديم أنشطة الترفيه الجنسي مدفوع الثمن وتوصيل خدماته للمنازل بواسطة الهاتف، وطلبتُ منهن موافاتي أولاً بأول بالشابات المستجدات في المهنة من ذوات المظهر الراقي، حيث واصلتُ الاستقبال والفرز لعدة أسابيع قبل اختياري لإحداهن والتي وافقت على التفرغ لتكون بمثابة "الطُعم" الذي أصطاد به عدوي المجهول. وما أن أبلغتني مندوبة الترفيه بتعرضها لتعارف مفتعل صادر عن إحدى عضوات جماعة "المجاريح"، حتى رتبتُ معها كيفية اللقاء بعيداً عن أي عيون محتملة لتمنحني ما يستجد لديها من معلومات وأمنحها توجيهاتي بشأن خطواتها التالية، والتي بموجبها مضت قدماً في افتعال الخضوع للاستدراج بنجاح أصبحت معه عضوة في الجماعة، ثم ما لبثت أن التقتها الشيخة على انفراد لتمنحها كغيرها التوجيهات بشأن خطواتها التالية ضدي، وهو اللقاء الذي أبلغتني بتفاصيله مندوبة الترفيه، قبيل مغادرتها مباشرة إلى "الإسكندرية" لتبدأ هناك حياة جديدة بالأموال التي كانت قد حصدتها كمكافآت من الفريقين!!.
               توجهتُ إلى مبنى المشروع الخيري المجاور لي، متقدماً بتبرع مالي كبير لأوجه الخير التي يرعاها المشروع، وبطلب للحصول على عضوية الجمعية الأهلية التي يتبعها المشروع، وبعد استلامي لبطاقة العضوية العاملة في زمن قياسي، عاودتُ التوجه مرة أخرى إلى ذات المبنى معلناً رغبتي في مقابلة الشيخة، لأعرض عليها إحدى المشكلات التي تؤرق علاقاتي الاجتماعية حتى تساعدني في حلها بما لديها من شفافية وقدرات روحانية مميزة. وبعد إخضاعي لإجراءات التفتيش الذاتي الدقيق والاستجواب المعلوماتي الصارم ومطالبتي بالتوضؤ والصلاة في المسجد التابع للمشروع تحت أعين الحراس، تم السماح لي بالصعود من داخل المسجد وأنا حافي القدمين إلى خلوة "فضيلة الشيخة" التي وافقت بشكل فوري غير معتاد على مثولي بين أياديها "الطاهرة الكريمة". وسرعان ما وجدتُ نفسي أقف وجهاً لوجه أمام العدو المجهول!!.
( 10 )
                رفضت السيدة ذات القناع والمختبأة داخل إسدالها الأسود مصافحتي، كما أعربت عن رغبتها في اختصار الحديث معي لأن صوتها بالنسبة لغير محارمها من الأجانب مثلي يعتبر عورة، وطالبتني بالحفاظ على عدة أمتار كمسافة فاصلة بيننا لإعاقة عمل الشيطان الذي هو ثالثنا. ولكنها في الوقت ذاته حاولت إبهاري باستعراض ما لديها من معلومات شخصية جداً تخصني، كانت قد عرفت بعضها باعتبارها "سهام" مهووسة السينما خلال إقامتها السابقة لعدة أسابيع في منزلي، بينما حصلت على البعض الآخر مقابل ما دفعته من أموال لمصادرها المأجورة والمحيطة بي في أماكن وجودي الطبيعية باعتبارها الشيخة "الحبيبة أم عبد الله". وبدأت تدعوني لما تراه "الهداية" بالتوبة عن تعدد علاقاتي النسائية، فشرحتُ لها أن ما فعلته يندرج تحت بند التعاقب وليس التعدد، وأنه لو كانت إحدى علاقاتي المتعاقبة مع الجنس الآخر قد نجحت حتى كُللت بالزواج الشرعي لما كان هناك مبرر لدخولي في العلاقة التالية، مما يعني أن المشكلة الحقيقية تكمن في فشل هذه العلاقات تباعاً أو ربما إفشالها بفعل فاعل ما زلت أجهل دوافعه. فنصحتني بالزواج من امرأة صالحة لاسيما لو كانت تحبني حباً حقيقياً مثلها هي شخصياً، واقتربت مني لتربت على كتفي ثم سرعان ما تسللت يدها لتخترق ملابسي وتتحسس صدري بشهوانية مثيرة!!.
                تزاحمت أمامي علامات الاستفهام حول كيفية حصولها على معلومات تفصيلية عن أدق خصوصيات حياتي، وحول دعوتها السافرة لزواجي بها والمصحوبة بشهوانيتها الفجة تجاهي في الوقت الذي من المفترض فيه أنها تعاديني، وحول صوتها الممزوج باللكنة التي ينطق بها سكان القرى الشمالية في دلتا النيل والذي كان مألوفاً جداً بالنسبة لي. وللإجابة عن استفهاماتي الحائرة استغفرتُ ربي ومددتُ يدي لأكشف عن وجهها الغطاء الذي كانت ترتديه، حيث وجدتُ أمامي "سهام" وقد اكتسبت ملامحها الكثير من الشراسة والعدوانية الممزوجة بغيبوبة الوجد والتيه. تراجعتُ إلى الخلف متلمساً الطريق لمغادرة المكان دون أن أنطق بحرف واحد حيث كانت المفاجأة قد عقدت لساني، فأشارت إلى حراسها الأشداء من ذوي اللحي والجلابيب البيضاء ليهاجمونني ويضربونني بما يحملونه من سيوف وعصي غليظة في أيديهم حتى شجوا رأسي وأحدثوا فيها جرحاً عميقاً نازفاً. تقمصت "سهام" دور واحدة من شيطانات السينما مجدداً وأخذت تلعق بشراهة وتمتص الدم الأحمر الذي كان يتدفق غزيراً خارج رأسي المصابة، ثم توقفت فجأة لتستعيد شخصية الشيخة "الحبيبة أم عبد الله" وأصدرت التعليمات الصارمة لحراسها بإلقائي على قارعة الطريق الخارجي، وهي تتحسر بصوت مرتفع على "الوغد" الذي رفض أن يكون له نصيب من أمات الله الصالحات الطيبات، رغم أن إحداهن قد أحبته حباً مرضياً وعشقته بجنون وصل إلى درجة الهوس بعد أن كانت مهووسة بالسينما!!.
*****


عــايـدة
 
(1)
مع بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين توترت الأحوال السياسية في السودان إلى درجة التهديد الحقيقي للمصالح المصرية، فقررت القيادة العليا إرسالي إلى هناك في مهمة دبلوماسية طويلة الأجل باعتباري أحد خبراء العمل في مناطق التوتر، وذلك بالتغاضي عن "مشاغباتي التاريخية" أو ربما بسبب هذه المشاغبات، لاسيما وأن أحد الخبثاء من كبار المسئولين قد داعبني وهو يودعني رسمياً في مطار القاهرة، بقوله: "سوف تنتهي واحدة على الأقل من متاعبنا سواء قضيت على التوتر أو قضى التوتر عليك، وسوف تنتهي الاثنتان لو قضى كلاً منكما على الآخر"!!.
               اكتشفتُ بمجرد أن وطأت قدمايَّ أرض العاصمة السودانية الخرطوم، أن المهمة التي سبق أن أعجزت الكثيرين من أسلافي قد رضيت بي مروضاً وراحت تسلمني مفاتيحها الواحد تلو الآخر، لاسيما وأنها شكلت بالنسبة لي الفرصة الميدانية الأولى لكي أترجم عملياً الفكرة التي طالما آمنتُ بها نظرياً، ومفادها أن لكل توتر خريطة يمكن قراءتها وحل شفرتها من خلال تحصيل المعلومات الدقيقة عبر الالتحام المباشر مع أصحابها ومصادرها البشرية، فأقدمتُ بسعة صدر على الاندماج الودي بالسودانيين، رغم التحذيرات الناجمة عن صورة ذهنية سلبية رسختها وسائل الإعلام والثقافة حولهم كبدائيين دمويين محاطين من كل صوب بالأوبئة والوحوش!!.
(2)
تقع المستعمرة السكنية للأجانب في الضاحية الجنوبية للخرطوم، ويتجمع فيها أعضاء الجاليات الأجنبية المقيمين والزائرين دون غيرهم، وهم يحرصون على إغلاقها بالبوابات الحديدية ذات التجهيزات الإلكترونية، فإذا اضطروا للخروج منها فإنهم يسيرون متجاورين ممسكين بأيدي بعضهم تحاشياً للاحتكاك بعوام الشعب السوداني من "البدائيين" وبالسكان العرب ذوي السلوكيات "المتطرفة"، والذين تقع مستعمرتهم السكنية في الضاحية الشمالية للخرطوم حيث يتجمع أعضاء الجاليات العربية المقيمين والزائرين مع المتجنسين من ذوي الأصول العربية التي يكشفها لون بشرتهم الفاتح، وقد أحاطوا المستعمرة بالمساجد وبمنازل بعض مرؤوسيهم من الأهالي، هؤلاء العرب الذين يتعمدون بدورهم تحاشي الاحتكاك بعوام الشعب السوداني من "البدائيين" وبالسكان الأجانب ذوي السلوكيات "المنحلة"!!.
كالسجين الذي ينتظر انقضاء مدة محكوميته بفارغ الصبر راح كل واحد من أفراد الجاليتين العربية والأجنبية على حدة يعد الأيام انتظاراً لموعد انتهاء مهمته وعودته إلى بلده، مع حرص الأثرياء من هؤلاء وأولئك على جلب السائقين والخدم من بلدانهم ضماناً للسيطرة عليهم مما أسفر عن زيادة عزلتهم الاجتماعية، وحرص الفقراء منهم على العيش عند حد الكفاف لتحقيق المعادلة الصعبة بتوفير أكبر مدخرات ممكنة في أقصر وقت ممكن الأمر الذي زاد بدوره من عزلتهم الاجتماعية. أما أنا فقد نأيتُ بنفسي عن ضواحي العزلة واستأجرتُ لسكني منزلاً متميزاً في وسط العاصمة له عدة مداخل ومخارج تكفل تواصله مع البيئة المحيطة به، والتي تضم مساكن متعددة المستويات لمختلف فئات الشعب السوداني، كما قررتُ الاستغناء عن السائق الشخصي لأقود بنفسي سيارتي التي تعمدتُ أن تكون شبابية صغيرة غير متعالية على سيارات الآخرين!!.
(3)
               استقدمتُ لمنزلي مديرة حبشية فاتنة الجمال في العشرينيات من عمرها كانت قد أطلقت على نفسها اسم "عايدة"، ليس فقط من باب التشبه بالجارية الحبشية التاريخية التي خلدتها الأوبرا العالمية، ولكن أيضاً من باب التشبث بحلم العودة لديارها الأصلية التي سبق انتزاعها منها عنوة قبل خمسة عشر عاماً في ظل الأحداث التي تبقى تفاصيلها كالحفريات على جدار الذاكرة، عندما اقتحم الانقلابيون العسكريون قصر "النجاشي" وقتلوا ضمن من قتلوهم والدها الذي كان أحد أفراد الطاقم الطبي المرافق للنجاشي والمقيم معه في قصره، واختبأت الطفلة تحت أحد الأَسِّرة حتى واتتها فرصة الاشتراك في المعركة دفاعاً عن أبيها، بأن مدت يديها الصغيرتين من تحت الفراش لتفك الأربطة عن فردتي حذاء أحد ضباط الانقلاب وتعقدهما معاً مما أوقعه على الأرض فرآها في مخبأها وأمسك بها، ليحصل عليها بعد ذلك كجارية شخصية ترافقه ميدانياً خلال ابتعاده عن زوجته للمشاركة في الحروب العديدة التي خاضها العسكريون الأحباش ضد جيرانهم!!.  
لما سقط الضابط قتيلاً بإحدى المعارك وقعت الصبية في أسر من قتلوه، وعندما سألوها عن اسمها قالت "عايدة" وهو الاسم الذي اختارته لنفسها بدلاً عن اسمها الأصلي "إيوان تورنهن دسالي"، وظلت تتنقل مع غنائم الحروب بين قادة الميليشيات والجيوش المتصارعة فيما بينها بشرق أفريقيا، حتى انتهى أمرها مع أحد الضباط المتقاعدين في الجيش الشعبي السوداني كجزء من مكافأة نهاية خدمته العسكرية بالإضافة إلى بعض المواد الغذائية والسلع التموينية نظراً لنقص السيولة المالية. وقد نقلها الضابط المتقاعد معه إلى الخرطوم كجارية مدنية وعندما ضاق به الحال عرضها للبيع سراً بمبلغ شكل بالنسبة له ثروة طائلة رغم كونه مجرد خمسين دولاراً أمريكياً. ولما دفعتُ له المبلغ المطلوب منحني إياها إلى جانب حافظة تحوي أوراقها الثبوتية الصادرة عن قيادة الجيش الشعبي السوداني باسم "عايدة" مع ورقة لنقل كفالتها إلى عهدتي الشخصية، وهي أوراق يصعب على الأجنبي التحرك بدونها!!.
)4(
               اتجهت "عايدة " إلى مؤخرة سيارة السيد الجديد وشرعت في فتح الحقيبة الخلفية لتقبع بداخلها كما اعتادت منذ أن تم أسرها للمرة الأولى، لكنني منعتُها من ذلك وأجلستُها على المقعد الأمامي المجاور لي، ونظراً لسابق ظني بأن الإنسانية قد تجاوزت العبودية منذ عصور فقد عجزتُ عن القبول ولو لمجرد لحظة بوضعي كسيد يسوق جاريته إلى الحرملك، فبادرتُ بمنحها حريتها حيث سلمتُها الحافظة التي تحوي أوراقها الثبوتية بما فيها ورقة "الكفالة". تنفستُ الصعداء عندما رأيتُ الابتسامة تعلو وجهها ثم قمتُ بمصافحتها للمرة الأولى، وبمجرد وصولنا إلى المنزل طلبتُ منها الاختيار بين مفارقتي مع اعتبار الخمسين دولاراً "قرض حسن" ترده لي حين ميسرة، أو البقاء معي كمديرة منزل حرة بالأجر على أن تسدد القرض خصماً مريحاً من مستحقاتها المالية عندي، فكانت حاسمة في ردها، إذ قالت بغير تردد: "لقد عاملتني كسيدة حقيقية لذلك فإنني أختار البقاء معك كجارية تحت قدميك برغبتي حتى تنتهي مهمتك وتعود إلى ديارك"!!.
               نجحت "عايدة" في تأدية كل الأدوار الحياتية بكفاءة منقطعة النظير، فهي المديرة الواعية أثناء صباحات العمل وهي السيدة الناعمة أثناء أمسيات الونسة وهي الأنثى الدافئة أثناء ليالي الوحشة. وكانت تزهو دائماً بأنها تشبهني في الكثير من الأفكار والأفعال، وتفسر ذلك بأن كلينا قد شرب من ماء النيل وهي تستعيد حكمة لأجدادها الأحباش تقول إن الطعام والشراب يؤثران على أفكار الشخص وأفعاله، وتنفيذاً لهذه الحكمة كانت تحرص على إعادة إطعامي مجدداً بالأكل المصري عند عودتي إلى المنزل، لإزالة آثار ما عساي أكون تناولته من أطعمة غريبة لقوم غرباء مما قد يجعلني أسلك مسلكهم في الأفكار والأفعال، غير عابئة بما أسفر عن إعادة إطعامي من زيادة ملحوظة في وزني!!.
)5(
               على مدى خمسة أيام في الأسبوع كنتُ أزاول بكل الحب ما تقتضيه مهمتي الدبلوماسية الشعبية من التحام بأصدقائي السودانيين، فاندمجتُ معهم في تفاصيل حياتهم وشاركتُهم مناسباتهم المختلفة. وكنتُ أزور الضاحية الشمالية يوم الجمعة للحفاظ على أواصر الأخُوَّة مع أصدقائي العرب، الذين كانوا يخفون نساءهم عني نظراً لأنني غير متزوج ويستقبلونني بترحاب مشوب بالحذر، خشية أن أكون قد التقطتُ أحد الأوبئة المعدية جراء اختلاطي بالسودانيين أو أن أكون ثملاً من شرب الخمر تأثراً بالأجانب. أما يوم الأحد فكنتُ أزور الضاحية الجنوبية أملاً في الحصول على بعض الترفيه الاجتماعي مع أصدقائي الأجانب، الذين كانوا يستقبلونني بترحاب مشوب بالحذر خشية أن أكون قد تحولتُ لأكل لحوم البشر جراء اختلاطي بالسودانيين أو أن أكون مرتدياً لحزام ناسف تأثراً بالعرب. ونظراً لصعوبة الجمع بين أفراد ينتمون إلى الفرق الثلاث في غير المناسبات الرسمية التي تدعو إليها رئاسة الدولة السودانية، فقد كنتُ أقيم حفلات الاستقبال والتوديع في منزلي ثلاث مرات متتالية لكل فريق على حدة كما اضطررتُ للقيام بنفس رحلة سفاري الأدغال ثلاث مرات متتالية مع كل فريق على حدة!!.
               اتفق أصدقائي من ممثلي حكومات ومجتمعات الفرق الثلاث على تنبيهي بإشارات واضحة في توقيتات متقاربة إلى أن أشد أنواع الخطر يحدق بي، حيث كنتُ قد أمسكتُ بالخيوط المعلوماتية الخاصة بواحد من أكثر ملفات التوتر أهمية على امتداد التاريخ والجغرافيا، ووضعتُ يدي على رأس الأفعى الذي قمتُ بتصويره في حالة التلبس وتوصلتُ لمعرفة ماهية الذين يكفلونه، ولم تنجح محاولات إثنائي أو تضليلي في الحيلولة دون اقترابي من فهم أسباب كفالتهم له على أرض السودان. ولذلك فقد قررت عدة أطراف محلية وإقليمية وعالمية التخلص مني نهائياً قبل إبلاغي لقيادتي في القاهرة بما أوشكتُ على فهمه حول الملف المذكور!!.


(6)
               تصادف أن انتهى العام الميلادي بيوم الجمعة، فأديتُ الصلاة في مسجد الضاحية الشمالية مصطفاً بجوار الإخوة العرب الذين شاركتـُهم بعد ذلك مأدبة الغداء "الشرعية" الخالية من الخمور ولحم الخنزير والأدخنة والنساء. ثم اتجهتُ إلى مزرعة أحد أصدقائي من الأهالي في وسط العاصمة حيث كانت عشرات العائلات من مختلف الأعراق السودانية تستقبل العام الجديد، باحتفال صاخب استعرضت خلاله الفتيات السودانيات بشكل تنافسي أجمل ما لديهن في كل شيء، وكان الفوز من نصيب الأميرة الزنجية الجميلة "روزا" ابنة سلطان القبيلة الجنوبي "الدونجا مونجا باي" والتي أوقعتني في فخ نصبته لي داخل أحد أكواخ المزرعة، ثم قامت بإغلاق باب الكوخ على كلينا لتنفرد بي طلباً لبعض "الشقاوة" الحريمي وسرعان ما خارت مقاومتي فجاريتُها في "شقاوتها" حتى بعد أن فكت قدمي من أسر الفخ!!.
استقبلتُ العام الجديد وأنا بمفردي كالعادة، فقد انتصف الليل أثناء اتجاهي بسيارتي من المزرعة إلى النادي الدبلوماسي بالضاحية الجنوبية، حيث كان أعضاء الجاليات الأجنبية يقيمون على حمام السباحة احتفالاً استوائياً ممتداً حتى صباح اليوم التالي. تعددت فقرات الاحتفال بين ما هو مثير وما هو أكثر إثارة وتلقيتُ الدعوات المعتادة من أصدقائي الأجانب باختلاف جنسياتهم لمشاركتهم طاولاتهم العامرة بكل عناصر الترفيه، إلا أنني آثرتُ الجلوس بمفردي انتظاراً لحدث جلل شعرتُ بدنوه مني، ورغم فشلي في ترجيح كفة الخير أو الشر فيما أنتظره فقد استسلمتُ للآتي من الغيب حتى غمرتني حالة من السكينة كانت آنذاك غير مألوفة بالنسبة لي!!.
(7)
               لا أدري من أين وفدت أو إلى أين قصدت، ولكني فوجئتُ بمرورها على مقربة بضعة سنتيمترات قليلة من طاولتي وهي تتعمد التمايل والاهتزاز برشاقة فيما كانت ترتدي كالأخريات النصف السفلي فقط من "المايوه البكيني"، فتوقف عندها كل ما يخصني من أجزاء وأعضاء وأشياء سواء كانت بداخلي أو في يدي أو حولي، ولما شهقتُ رغماً عني لأستعيد التقاط أنفاسي المتقطعة اخترقت أنفي الرائحة النقية للأنثى الراغبة، حتى أنها شعرت بما أصابتني به من اختلال في التوازن فعادت خطوتين إلى الخلف بذات الرشاقة المنطوية على تمايل واهتزاز، وسحبت لنفسها مقعداً لتلتصق بجسدي في جلستها، وتعمدت أن تلامس بشفتيها أذني وهي تحدثني بصوت يمزج بين فرحة كل ما سبق لي أن سمعتُه على مدى عمري من موسيقى وغناء بمختلف الآلات واللغات، ولم تتردد في الإعراب عن ترحيبها بأصابعي التي امتدت لملامسة الأجزاء البضة من جسدها العاري بهدف التأكد من وجودها الفعلي ككائن بشري حقيقي، وليس سراباً أو خيالاً ناجماً عن ضربة شمس أو لدغة أفعى وما أكثر هذه وتلك في السودان، ثم شجعتني على التمادي في اللمس إلي ما لا نهاية فازدادت حدة الزلزلة التي أوقعتها في نفسي!!.
               ذكرت لي اسمها الذي نسيتُه من فرط انجذابي إليها، وشرحت لي إنها قد وصلت حديثاً باعتبارها زوجة سفير إحدى الدول الصغيرة الواقعة في الشمال الأوروبي، وقالت لي إنها قد سمعت عني من نسوة كثيرات سودانيات وعربيات وأجنبيات وكشفت لي عن انتظارها لملاقاتي منذ وصولها لنخوض معاً أحدى المغامرات الغرامية الاستوائية. ورغم ارتباكي تحت وطأة الهجمات المباغتة والمباشرة والمتتالية لحواس البصر والشم والسمع واللمس، فقد مضيتُ قدماً كالمسحور حيث اشتركنا معاً في استخدام حاسة التذوق ليستقبل فمي قطرات نادرة بطعم وردي لا وجود له إلا في الأحلام، ومع الامتداد الزمني لتلك القبلة المتداخلة صفق جميع المحيطين بنا فأعادوني من منطقة الانجذاب إلى منطقة الوعي، وكانت تباشير الفجر الأولى قد بدأت تتنفس فأسرعتُ بمغادرة النادي الدبلوماسي بعد أن وعدتُها بلقاءات عديدة لاحقة!!.
(8)
               قررت بعض الأجهزة الأمنية المحلية والإقليمية والعالمية التعاون فيما بينها للتخلص مني نهائياً، قبل إبلاغي لقيادتي في القاهرة بما كنتُ قد أوشكتُ على معرفته وفهمه في ملف التوتر الأكثر أهمية على امتداد التاريخ والجغرافيا. وحددت تلك الأجهزة الإحداثيات العملياتية لمهمة التخلص مني والمقرر تنفيذها بواسطة تشكيلات قتالية متعددة الجنسيات، على أساس أن زمان التنفيذ هو توقيت مغادرتي للنادي الدبلوماسي عائداً إلى منزلي خلال الفترة الممتدة فيما بين منتصف الليل والساعة السادسة صباحاً، ومكان التنفيذ هو مروري بأعلى الطريق الجبلي الواقع عند الربع الأول للمسافة الفاصلة بين النادي الدبلوماسي ومنزلي!!.
لما حلت ساعة الصفر بالتقاء الإحداثيات الزمانية والمكانية بدأ تنفيذ العملية، فتمت محاصرتي داخل سيارتي الشبابية الصغيرة - والتي أقودها بنفسي- بواسطة عدة سيارات ضخمة ومصفحة، سرعان ما دفعت سيارتي بعنف من أعلى الطريق الجبلي نحو هاوية صخرية يزيد عمقها على مائة متر وتنتهي بأحد المنابع الأكثر هياجاً لنهر النيل، ذلك النهر العظيم الذي طالما أحببتُه من جانبي ولجأتُ أليه عشرات المرات شاكراً في أفراحي وحائراً في أتراحى، حتى أنني أغمضتُ عيناي وجلستُ هادئاً لاستقبال الموت في أحضانه، ولكن النيل رفض من جانبه أن يستخدمه الجناة في مخططهم مقرراً التدخل لتغيير نهاية السيناريو المرسوم سلفاً ليؤكد مجدداً أنه يبادل الطيبين من أبنائه حباً بحب، وهكذا فإنه بمجرد ملامسة أطراف سيارتي للسطح الخارجي الذي يعلو صفحة مياه النهر حتى هبت موجة مائية عاتية صاعدة لأعلى بقوة على غير المعتاد، فأعادت سيارتي عدة أمتار للخلف حيث علقت بين بعض الصخور الضخمة لفترة زمنية قصيرة وإن كانت كافية لخروجي عبر فتحة الزجاج المحطم، ثم ما لبثت الموجة أن قفلت عائدة بنفس القوة وهي تحمل السيارة الفارغة ليبتلعها الماء في جوفه، بينما أنا أجلس هادئاً على الصخور أرقب ما يحدث باطمئنان يليق بكوني في حضرة نهر النيل النجاشي العظيم!!.
(9)
               لحرمان الجناة من الشعور بنشوة النصر ولضمان استمراري في الملعب لحين انتهائي من الملف المذكور فقد نفيتُ تعرضي لأي أذى من جراء الحادث، وأنكرتُ حقيقة ما أصاب عمودى الفقرى من كسر كبير قال الأطباء إنه سوف يصيبني بالشلل التدريجي، مما دفعني للتعجيل بتسجيل الهدف الأخير في مرمى الخصم والانتهاء من الملف والمسارعة بتسليمه لقيادتي في القاهرة، ثم ما لبثتُ أن رقدتُ ملازماً لفراش الإصابة بمنزلي في الخرطوم لعدة أسابيع زارني خلالها كل أصدقائي السودانيين والعرب والأجانب لتهنئتي بنجاتي من الحادث. وكان من بين زواري سفير الدولة الصغيرة الواقعة في الشمال الأوروبي وزوجته التي نسيتُ اسمها من فرط انجذابي إليها!!.
بعد الانتهاء من المجاملات المتبادلة انتقل السفير إلى موضوع وصفه بأنه الأهم، حيث أبلغني بعلمه أنني وزوجته معجبان ببعضنا وإنه يرغب في ألا يكون "العزول" الذي يعطل مسيرة الإعجاب المتبادل بين رجل وامرأة، ولكنه يرغب أيضاً في أن يحقق لنفسه بعض الفوائد الجانبية ويتوقع ألا نبخل عليه بها، فهو سيترك زوجته في منزلي منذ تلك اللحظة إلى أقصى مدي أريده لمطارحة الغرام بيننا إلا أنه لا يريد العودة إلى منزله خالي الوفاض، فهو يطلب أن يتم ذلك في إطار ما وصفه من جانبه بأنه صفقة متكافئة لتبادل النساء بيننا، تشمل زوجته مقابل مديرة منزلي "عايدة"، التي كانت آنذاك تقدم له واجب الضيافة فشرح لها عرضه محاولاً إقناعي وإياها بجدوى مجاراته في تحطيم المفهوم التقليدي للأسرة، هذا التحطيم الذي اعتبره السفير أحد أبسط "إنجازات" الحريات في بلاده، مشيراً بزهو إلى أن بلاده قد تجاوزت ذلك كثيراً لتصل إلى حدود تحطيم كل المقدسات المعروفة في الشرق كالأوطان والأديان والأنبياء، ومستعرضاً بافتخار بعض الرسوم الكاريكاتيرية القميئة التي دأبت صحف بلاده على نشرها للسخرية من هذه "المقدسات"!!.
 (10)
               دقت "عايدة" بأصابعها على رأسها في محاولة فاشلة للضحك باعتبار الأمر مجرد دعابة سخيفة، فلما أيقنت من جدية العرض حبست الدمع داخل مقلتيها، وأبلغتني باللغة العربية التي لا يفهمها السفير أنها تستغرب من جانبها هذه الصفقة الشاذة وترفض المشاركة فيها، ولكن بما أنها قد سبق أن اعتبرت نفسها جاريتي فسوف تفعل ما تؤمر به من جانبي، إلا أنها سألتني عما إذا كنت سأستطيع التعامل معها مجدداً كامرأة أم لا بعد عودتها من منزل السفير. اتكأتُ على العصا الطبية للنهوض من فراش الإصابة متجهاً إلى باب منزلي بصحبة السفير وزوجته التي نسيتُ اسمها من فرط انجذابي إليها، وشكرتُهما على الزيارة إلا أن يدي رفضت مطاوعتي بالتحرك إلى أعلى لمصافحتهما، فقبلتني الزوجة من وجنتاي وقفزت كالقطة إلى داخل السيارة الفارهة التي ترفرف عليها الأعلام وتحيط بها سيارات الحراسة الضخمة والمصفحة، تلك السيارات التي لاحظتُ للمرة الأولى أنها هي ذاتها كانت قد شاركت في المحاولة الفاشلة للتخلص مني!!.
               ما أن أغلقتُ باب منزلي حتى سمعتُ أصوات جلبة وضوضاء صادرة عن المطبخ، فاتجهتُ إلى هناك متكئاً على عصاي لأجد "عايدة" قد جمعت كل ما في المنزل من جبن وزبد وألبان ومواد غذائية وسلع تموينية أخرى تم تصنيعها في الدولة الصغيرة الواقعة شمال أوروبا، تلك الدولة صاحبة الرسوم الكاريكاتيرية القميئة الساخرة من مقدساتنا والتي يمثلها السفير صاحب العرض الشاذ بالتبادل النسوي، والذي كان قد غادرنا لتوه. ألقت "عايدة" بكل ما جمعته في صندوق القمامة وهي تقسم بأغلظ الأيمانات الدينية والدنيوية ألا تشتري مثله مرة أخرى، خوفاً من أن تناولنا لطعام هؤلاء القوم الغرباء قد يجعلنا نسلك مسلكهم الغريب، وفق الحكمة الشهيرة لأجدادها الأحباش والتي تقول أن طعام الشخص وشرابه يؤثران على أفكاره وأفعاله!!.
*****
 
دنيا
 
(1)
               أطلق المصريون اسم "أرض الخوف" على السودان منذ كان يشكل الإقليم الجنوبي متعدد الاستخدامات من قبل سلطات "القاهرة" بما فيها استخدامه كمنفى عقابي للمشاغبين منهم. ورغم استقلاله سياسياً عن مصر عام 1956، إلا أن واقع الوجود المصري الميداني هناك قد استمر كما هو عبر العديد من الأفرع العاملة في مجالات التجارة والري والتعليم والشئون الدينية والإعلامية والمعلوماتية وغيرها، حتى أن الحكومة المصرية ضمت لفترة طويلة وزيراً سيادياً لشئون السودان، كما ضمت سفارة مصر هناك أكبر البعثات الدبلوماسية على امتداد العالم. وبالتالي لم تتوقف معاقبة المصريين المشاغبين بإرسالهم إلى أرض الخوف، في مهام قهرية تسفر عن قهرهم ليعودوا إلى "القاهرة" وقد أصبحوا خاضعين طائعين، إن لم تقتلهم المخاطر المتعددة المحيطة بهم قبل عودتهم، والتي تشمل فيما تشمله الطقس شديد الحرارة والفيضانات المغرقة والأوبئة المهلكة، وانتشار كواسر البر وجوارح الجو وتماسيح النهر وقروش البحر وغيرها من الوحوش المفترسة والزواحف السامة، إلى جانب الفقر المدقع والتخلف التقني والحساسيات المفرطة للسودانيين تجاه المصريين باعتبارهم كانوا حتى وقت قريب "يحتلون" بلادهم، ليس فقط لصالح أنفسهم ولكن أيضاً كوكلاء للإمبراطوريتين العثمانية والبريطانية!!.
               أدت الأجواء غير المواتية في أرض الخوف إلى إفشال مهام الموفدين المصريين التقليديين المقيمين هناك الواحد تلو الآخر، بصرف النظر عن مواقعهم داخل البعثة الدبلوماسية أو خارجها، حتى أسفر الفشل عن تدهور العلاقات الثنائية لدرجة وقوع اشتباكات مسلحة على الحدود المشتركة بين البلدين في السنوات الأولى لتسعينيات القرن العشرين، مما أسقط بعض القتلى والجرحى، الأمر الذي تطلب قيام "القاهرة" بالبحث عن نوعية مختلفة من المصريين لا تستسلم للفشل لإيفادها إلى السودان. وهكذا قررت القيادة إلحاقي على وجه السرعة بالسفارة المصرية هناك في مهمة طويلة المدى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بترحيب خبيث من الجهات الأمنية المعنية والتي كانت قد ضاقت بمشاغباتي السياسية ضد الفساد والاستبداد والتبعية على أرض الواقع المحلي، فاعتبرت مهمتي في أرض الخوف عقوبة مناسبة بحقي، لاسيما مع تزايد المخاطر باتساع نطاق النفوذ الميداني الداخلي لإحدى الجماعات السودانية المعروفة بتطرفها الديني والسياسي، واستخدامها للعنف الذي تصل شدته إلى حد التصفية الجسدية لخصوم الجماعة بفتوى شرعية من مرشدها الروحي، علماً بأن قوائم الخصوم تحوي الكثيرين من الأشخاص ذوي الأفكار الليبرالية والأساليب الحياتية المنفتحة اجتماعياً مثلما هو حالي، الذي كانت الجماعة قد رصدته بتكليف من المرشد نظراً لاحتواء بعض كتاباتي المنشورة على تحفظات تجاه التطرف الديني والسياسي!!.
(2)
               اعتبرتُ الأمر من جانبي تحدياً شخصياً، فنجاح مهمتي يفيد المصالح الوطنية العليا، ويؤكد في الوقت ذاته أن مشاغباتي ضد سوء الإدارة المحلية لا تحول دون تلبيتي لنداء الوطن على الوجه الأكمل. فتأقلمتُ مع حرارة الطقس والفيضانات والفقر والتخلف، وتحاشيتُ الوحوش والأوبئة والحساسيات المفرطة قدر المستطاع، وخففتُ درجة إعلاني عن أفكاري الليبرالية وسلوكياتي الاجتماعية المنفتحة إلى الحد الذي لا يثير المتطرفين ضدي، ولكنه يضمن في الوقت ذاته التحامي الودي والمباشر بمصادر المعلومات الأصلية، عبر الاحتكاك اليومي السوي المؤدي للتفاعل الإيجابي مع السودانيين بمختلف أعراقهم وثقافاتهم، في كل أوجه حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والرياضية. وهكذا انتبه السودانيون إلى أنني لا أتعالى عليهم كغيري، بل أن حبي لأهلي في جنوب الوادي لا يختلف كثيراً عن حبي لأسرتي في شماله، لاسيما وأن الشعبين يعانيان معاً من نفس الداء المتعلق بسوء الإدارة المحلية مما يجعلهما أيضاً شقيقين في المشقة. وسرعان ما أصبحت أرض الخوف برداً وسلاماً من حولي، فتدفقت سيول المعلومات التي تشمل كافة النواحي ذات الاهتمام المشترك، بما في ذلك الملفات شديدة التوتر، والتي كانت قد استعصت ليس فقط على زملائي المصريين ولكن أيضاً على دول عظمى رصدت أموالاً طائلة لمجرد الاقتراب منها، دون أن يكلفني الأمر سوى إظهار مشاعر الود والاهتمام الحقيقية تجاه أشقائي أهل السودان!!.
               رغم أن اختراقي لأي ملف معلومات جديد ونجاحي في حل شفرته كان يجلب التقدير لمجمل فريق العمل وللسفارة المصرية كلها باعتباره إنجازاً جماعياً، لاسيما لو تعلق الأمر بأحد الملفات شديدة التوتر، إلا أنه في الوقت نفسه كان يستفز عداوات جديدة ضدي شخصياً باعتباري منبع المعلومات على وجه التحديد، وذلك من قبل الجانب الآخر الذي يحتله أصحاب المصلحة في استمرار التوتر بشروره، والذين ظلوا حتى وطأت قدمايَّ أرض الخوف يضللون الإنسانية بإخفاء المعلومات الصحيحة عنها داخل أعماق المتاهات السودانية. وبما أن أولئك الأعداء الجدد هم أنفسهم من يتصدرون قمم جبال الجريمة العالمية، فقد قرروا التخلص مني وشرعوا يتربصون بي لقتلي، ولكن الإرادة الإلهية استمرت ترعاني بإحباط مخططاتهم المتعددة وإجهاض محاولاتهم المتتالية، أو على الأقل تعديل مساراتها لتخفيف نتائجها السلبية، كالحادث المدبر الذي كانوا قد نجحوا خلاله في الإيقاع بسيارتي الصغيرة داخل فخ محكم لسياراتهم المصفحة ذات الدفع الرباعي لإسقاطي بنهر النيل، مما أسفر عن إصابة عمودي الفقري بكسر كبير أثر سلباً على النخاع الشوكي لدرجة تؤدي إلى الشلل التدريجي. وفي ظل غياب الحماية الأمنية لشخصي فقد بادرتُ من جانبي بحماية نفسي بنفسي عبر كافة الوسائل بما فيها التمويه، حتى أنني قبيل عودتي النهائية من السودان لبلادي، قمتُ بحجز تذكرة طيران إلى "القاهرة" مروراً بعدة مدن إقليمية كمحطات للزيارات السياحية المؤقتة، مع إجراء بعض الحجوزات الفندقية في محطاتي الواردة بالتذكرة هاتفياً لتأكيد التمويه، وخلال وجودي على أرض مطار "الخرطوم" قفزتُ داخل طائرة أخرى تابعة لشركة عالمية، تسمح لوائحها بالركوب المفاجئ للدبلوماسيين العاملين في مناطق التوتر عند مغادرتهم الاضطرارية أو عودتهم إلى بلدانهم الأصلية. أما الطائرة التي كان من المفترض أن تقلني حسب الحجز "التمويهي" فقد تأخر إقلاعها، بعد أن حاصرها الجنود وقاموا بتفتيشها ليخرجوا من حاوية حقائبها جسماً غريباً، اتضح لاحقاً أنه عبوة ناسفة كانت بمثابة مكافأة نهاية خدمتي الشاقة في السودان لمدة قاربت الخمسة أعوام!!.
(3)
               عدتُ نهائياً إلى "القاهرة" خلال النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، شاعراً بالزهو والافتخار، لأقيم بصفة مؤقتة في شقة مفروشة بحي "العجوزة"، وقد تعمدتُ أن تطل شرفتها على نهر النيل وتضم بين جدرانها قطع أثاث فخمة لاسيما غرفة الصالون، لاستقبال ضيوفي البارزين الذين كنت أتوقع زياراتهم لتهنئتي بنجاح مهمتي الدبلوماسية في أرض الخوف، بعد أن أفادتهم ملفاتي المرسلة من السودان بشكل خرافي على هامش مقصدي الأصلي بإفادة المصالح الوطنية العليا، وذلك ابتداءً برؤساء القطاعات الذين انتقلوا لرئاسة مجالس الإدارات ورؤساء مجالس الإدارات الذين تولوا حقائب وزارية والوزراء الذين أصبحوا في مواقع أكثر أهمية، وصولاً إلى من هم أعلى والذين حصلوا على احترام نظرائهم في الدول الأخرى، وهم يباهونهم بالإنجازات المصرية المتمثلة في الإمساك بأدق خيوط المعلومات التي تتعلق بأهم ملفات التوتر العالمي، مروراً بالعديد من الفوائد المتنوعة حسب تنوع استخدامات المرسل إليهم لملفاتي. وسرعان ما استأجرتُ من المستشفى القريب أحدث أجهزة العلاج الطبيعي مع طبيبة شابة فاضلة لمتابعة حالتي والاطمئنان على عمودي الفقري المكسور، وكانت هي الوحيدة التي يستضيفها يومياً صالوني الفخم وشرفتي المطلة على نهر النيل، دون أية زيارة من أي نوع لضيوفي البارزين المنتظرين، فيما فسرتُه لنفسي بأنهم يمنحونني بعض الراحة قبل أن يتم تكليفي بمسئوليات هامة في الداخل تليق بإنجازاتي الخارجية!!.
               بمجرد مرور الفترة الرسمية لإجازات العائدين نهائياً من الإلحاق الخارجي، توجهتُ لمقابلة رئيس مجلس إدارة جهة عملي الأصلية وفقاً للأعراف الوظيفية المتبعة، إلا أنه تهرب مني تاركاً لي مع السكرتارية قراراً بترقيتي ونقلي إلى وظيفة شرفية استشارية خارج الهيكل التنظيمي للعمل اليومي، فتوجهتُ إلى رئيسه مستفسراً متظلماً من هذه الإحالة غير المباشرة إلى التقاعد، لأجده يعرب عن استعداده لدعمي ومساندتي لو أنني قمتُ بشراء إحدى "لوحاته" الفنية المعروضة في الجاليري المجاور لإكساب جدران شقتي المزيد من الفخامة، مشيراً إلى أنني قد أنهيتُ لتوي مهمتي الخارجية ولم تزل بحوزتي عملات أجنبية، ومؤكداً أن شراء لوحاته غير مخالف للدين أو القانون، ولما كان يبيع تلك اللوحات الساذجة بعشرات الألوف من الدولارات وهي لا تساوي قروشاً فقد اعتبرتُه مرتشياً، وانسحبتُ من أمامه متجهاً إلى المسئول الأعلى، والذي وجدتُُه يستخف بالأمر وينصحني باستثمار وجود المسئولين الذين استفادوا من ملفاتي في مختلف المواقع الهامة، لاستخلاص بعض التوكيلات والتراخيص التجارية والسياحية باسمي، تمهيداً للتنازل المدفوع الثمن عنها بمعرفته هو لرجال المال والأعمال الراغبين، على أن نتقاسم سوياً أرباح هذا النشاط الذي وصفه بأنه غير مخالف للدين أو القانون. فانسحبتُ من أمامه لأصعد إلى أعلى درجات السلم حيث الجهات المعنية، ولما كانت كل تفاصيل حياتي ماثلة أمامهم كالكتاب المفتوح فقد شرعوا يفاوضونني بدون مقدمات على السماح لي بمواصلة الصعود المهني المصحوب بامتيازات إضافية، مقابل عودتي المشروطة إلى سابق نشاطي الفكري والسياسي والتنظيمي في صفوف الحركة الشيوعية المصرية، والتي ترغب هذه الجهات في إعادة إحيائها لاستخدامها ضد التيار الديني ذو النفوذ المتنامي. ورغم العلاقات العضوية المباشرة والمميزة بين الجهات المعنية وقادة الحركة الشيوعية، فقد طالبوني بأن تكون عودتي تحت إشرافهم السري لأتلقى وأنفذ توجيهاتهم واحتياجاتهم أولاً بأول، فيما اعتبرتُه من جانبي مساومة رخيصة لا تليق باسمي وتاريخي وأحلامي لوطني الغالي. انسحبتُ من أمامهم وأنا أتذكر قصة ذلك اللاعب الشهير بإحدى دول الاستبداد الشرقي البائدة، والذي كان قد جلب لفريقه صدارة أهم البطولات الرياضية العالمية مما أفاد مدربه ورئيس ناديه ووزير الرياضة وأعضاء القيادة العليا لدولته، ولكنهم جميعاً وبعد توزيع الفوائد فيما بينهم قرروا إلزامه بالجلوس الأبدي على "دكة الاحتياط"، لأن أحد زملائه الفاشلين أوشى بأنه كان ذات مرة يرتدي أسفل ملابسه الرياضية شعاراً مكتوباً بالقلم الرصاص يتضمن كلمة واحدة فقط هي "الحرية"!!.
(4)
               شعرتُ بغلظة الكابوس الذي حاصرتني حلقاته المتداخلة، والتي بدأت بإحالتي للتقاعد الفعلي وأنا دون الأربعين من عمري، وانتهت بمساومتي على اختراقي لإحدى الجماعات الشريرة بهدف ممارسة ما هو أكثر شراً ضمن إطار من الشرور لم يعد لي فيه ناقة أو بعير. ولم أجد مخرجاً من هذا الكابوس سوى البحث عن وظيفة لائقة خارج البلاد لفترة مؤقتة أتبين خلالها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، بما يساعدني على إعادة غزل الثوب الذي أرتضيه كرداء لنفسي. ووجدتُ ضالتي بخلو أحد المواقع الإعلامية التابعة لمنظمة الوحدة الإفريقية في مقرها بالعاصمة الإثيوبية "أديس أبابا"، وسرعان ما تم اختياري للوظيفة، فأتممتُ كل إجراءات السفر المعتادة والمعروفة واتجهتُ صوب مطار "القاهرة"، إلا أنني فوجئتُ قبيل إقلاع الطائرة التي تقلني بلجنة رسمية تقوم بإنزالي أنا وحقائبي إلى أرض المطار، مع إبلاغي بأن قراراً سيادياً قد صدر بمنعي من السفر دون شرح لأية تفاصيل عن الجهة التي أصدرت القرار أو أسبابه، في حلقة كابوسية جديدة أشد غلظة من سابقاتها. وأثناء عودتي إلى شقة حي "العجوزة" لم أستطع الإفلات من مطاردة إحدى أغنيات "الشيخ إمام عيسى"، والتي كانت كلماتها تخاطب "مصر" بقولها: "ممنوع من السفر، ممنوع من الابتسام، ممنوع من الكلام، ممنوع من السكات... ممنوع من إني أصبح في حبِك أو أبات... وكل يوم في حبِك تزيد الممنوعات... وكل يوم بحبِك أكثر من اللي فات". ابتلعتُ مشاعري الجريحة داخل جوفي كالعلقم في حلقي، وعاودتُ مجدداً زيارة المسئولين الذين سبق لي أن انسحبتُ من أمامهم صعوداً وهبوطاً، فاستقبلني كل واحد فيهم بترحاب شديد مبدياً تعاطفه الكامل وتضامنه المطلق معي، ومتهماً غيره بالمسئولية عن قرار منعي من السفر، ومتعهداً باتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بتصحيح الأوضاع، عبر إلغاء القرار الذي اتفقوا جميعاً على وصفه بالشذوذ، كما اتفقوا على تفسيره بمبررات حمائية، سواء كان المقصود هو حمايتي شخصياً أو حماية ما بحوزتي من معلومات سرية، دون أن يُفوِّت أحدهم الفرصة من غير تذكيري بطلباته السابقة التي كنت قد رفضتُها في حينه. ومع استمرار رفضي لطلباتهم لم يتحرك أحد حتى ضاعت الوظيفة الإعلامية الإفريقية، فشعرتُ لأول مرة بوجع بالغ في عمودي الفقري المكسور، وتداخل فرط الشعور بشدة أوجاع الانكسار الجسدي مع قسوة أوجاع القهر المعنوي، فانهمر الدمع العصي غزيراً وكأنني طفل صغير وجد نفسه فجأة بمفرده في بطن الحوت!!.
استمرت عقوبة منعي من السفر كسيف مسلط على عنقي، هذا العنق الذي طالما حملتُه طوعاً فوق كفي لأداء واجبي الوطني دون خوف، بينما كان الذين يمنعون سفري يتحايلون للهروب من تأدية الواجب الوطني خوفاً على أعناقهم الرخيصة. ونظراً لما اكتنف هذه العقوبة من غموض مريب يتعلق بهوية الجهة المانعة وماهية أسباب المنع، ونظراً لأن العقوبة بدون ذنب هي في حد ذاتها ذنب بحق الذي يتعرض لها، فقد بدأتُ أتشاور مع المحامين بهدف اللجوء إلى القضاء لكشف المستور حتى يتسنى التعامل معه. فافتعل أحد مسئولي الجهات المعنية "مصادفةً" ليلتقيني على الماشي في أحد الشوارع الجانبية لحي "العجوزة"، بعد أن أمضى يوماً كاملاً في الصلوات أعقبه بيوم آخر أمضاه وهو يتجرع الخمر ليتمكن لسانه من الانطلاق، وحدثني المسئول عن أنه شخصياً رغم كونه قد شارك بنفسه في عدة عمليات قذرة ضدي لإلحاق الأذى الجسيم بي والإضرار بمصالحي، خلال مسئوليته في جهة عمله عن مكافحة "الأنشطة الصحفية والإعلامية والثقافية الضارة"، إلا أنه يرفض التصعيد والذي سوف يصل حتماً إلى حد تصفيتي جسدياً، لو لم أتراجع عن فكرة مقاضاة الجهات المعنية بالدولة والتي يراها ليست فقط فوق القانون ولكن أيضاً فوق الجميع، ومحذراً إياي من الاعتداد بأهمية الأدوار الوطنية التاريخية التي سبق لي تأديتها، مشيراً إلى أن هذه الأدوار لن تمنحني على أي حال حصانة تفوق غيري ممن سبق لهم تأدية أدوار مميزة، ثم راحوا ضحايا لظروف غامضة أسفرت عن محوهم نهائياً بإزالتهم من الوجود، مثل ذلك الضابط المخضرم وابنه الضابط الشاب، واللذين سقطا قتيلين في منزلهما بعد دكه عليهما بالمدفعية الثقيلة والمقذوفات الصاروخية. وأيضاً المؤرخ المخضرم الذي سقط قتيلاً في منزله بفعل تسرب غازي، بمجرد قيامه بتسليم المطبعة الجزء الأخير من كتابه حول "شخصية مصر" والذي يقترب فيه من كشف مستور الجهات المعنية. والمخرج الشاب الذي توفى بشكل مفاجئ إثر انتهائه من إخراج فيلم سينمائي حول الجهات المعنية بعنوان "كشف المستور"... وغيرهم. وقد نسى محدثي أنه بدوره لا يحظى بتلك الحصانة ولم يمنحني الفرصة لتنبيهه إلى أننا في الهم سواء رغم اختلاف المواقع، فصافحني مسرعاً واستدار للخروج من الشارع الجانبي إلى الطريق السريع، حيث دهمته سيارة سوداء بدون أرقام وهربت، تاركة إياه جثة هامدة مغطاة بورق الصحف التي طالما عمل على مكافحتها، قبل قراره بأن يكشف لي بعض المستور!!.
(5)
               داهمت الشرطة مركزاً شهيراً للتدليك والتخسيس يقع في حي "العجوزة" بعد أن أثبتت التحريات أنه مجرد ساتر لممارسة الأفعال المنافية للآداب على نطاق واسع، وكانت السيدة الشابة "دنيا" من بين المقبوض عليهن، حيث تم اتهامها ليس فقط بتقديم نفسها ولكن أيضاً بالتوسط لتقديم سيدات هوى أخريات إلى الزبائن داخل أروقة المركز، مع قيامها بالتزوير في الأوراق الرسمية للادعاء بأنها طبيبة علاج طبيعي، بينما هي لم تزل طالبة في السنة الثالثة بكلية العلاج الطبيعي نظراً لتكرار رسوبها عدة مرات بسبب عدم انتظامها في الدراسة، وهي اتهامات يترتب عليها فصلها من التعليم الجامعي وحبسها لمدة لا تقل عن خمسة أعوام إلى جانب إدراج اسمها في قوائم العاهرات المسجلات بجرائم الآداب. فسارعت الجهات المعنية بالتدخل لاختطاف "دنيا" من وسط زميلاتها المحتجزات رهن التحقيق، وأزالت كافة الآثار التي تخص مشاركتها في الأفعال محل الاتهامات مع محو كل الأوراق التي تشير إلى مجرد وجودها، سواء في تحريات الشرطة أو محاضر الضبط أو تحقيقات النيابة. ثم ألحقتها الجهات المعنية من خلال نفس أوراقها المزورة بالعمل كطبيبة علاج طبيعي في المستشفى المجاور لي، والذي كنت لم أزل أستأجر منه بعض أجهزة العلاج الطبيعي مع طبيبة شابة فاضلة تمر على منزلي يومياً لمتابعة حالتي والاطمئنان على عمودي الفقري المكسور، هذه الطبيبة التي حصلت فجأة على إعارة خارجية مميزة براتب خيالي، لتقوم إدارة المستشفى بإحلال "دنيا" محلها في التعامل معي!!.
               نظراً لاستمرار عدم معرفة المحامين لماهية الجهة السيادية التي أصدرت القرار الشاذ بمنعي من السفر، فقد اضطروا لرفع دعوى قضائية باسمي أمام المحكمة لإلغاء القرار، مع تحريك الدعوى ضد كل ذوي الصلات المحتلمة بالقرار كرئيس الوزراء وأعضاء حكومته المسئولين عن الحقائب السيادية بالإضافة إلى قادة الجهات المعنية، حيث تم تحديد موعد الجلسة الأولى المخصصة لإجراءات النظر الشكلي في قبول المحكمة للدعوى أو رفضها بعد شهر واحد، فقامت الجهات المعنية باستدعاء "دنيا" لتكليفها بتنفيذ المهمة المنتظرة خلال هذا الشهر. وما كان منها سوى أن شرعت على الفور في تهيئة أرض المعركة للإنفراد بالهدف مع تثبيته ثم ضبط اتجاه الفوهات نحوه استعداداً للتصويب، فأقنعتني بإعادة الأجهزة الطبية المستأجرة للمستشفى، والتوقف عن دفع قيمة "أتعاب" زياراتها المنزلية لأنها ستتولى علاج عمودي الفقري بصفة ودية خارج نطاق عملها في المستشفى، الذي سرعان ما أبلغتني باستقالتها منه حتى تتفرغ لعلاجي حيث اكتشفت فجأة أنها تحبني بجنون، ثم طالبتني بإنهاء خدمة مديرة منزلي الشابة بدافع الغيرة الحريمي، لاسيما وأن "دنيا" قد قررت الإقامة معي بصفة دائمة في شقة حي "العجوزة" بعد أن أصبحت لا تطيق فراقي ولو للحظات قصيرة من الزمن. ونظراً لتعدد مهاراتها وتنوعها فقد نجحت "دنيا" في أن تؤدي على الوجه الأكمل جميع مهام العلاج الطبيعي والسكرتارية وإدارة المنزل، إلى جانب تألقها المتميز وابتكاراتها الإبداعية في فنون تدفئة الفراش بالمطارحات الغرامية، حيث وجدت نفسها تواصل الفنون الترفيهية التي كانت مجال تخصصها الأصلي قبل إلقاء القبض عليها في مركز التدليك والتخسيس!!.
(6)
               في إطار مهمتها السرية ضدي ألزمتني "دنيا" بإضافة اللبن الحليب إلى ما أشربه من شاي صباح كل يوم، باعتبار ذلك أصلح لعمودي الفقري المكسور على أساس أنها الطبيبة المسئولة عن علاجه. وبعد اطمئنانها لقبولي بالعادة الغذائية الجديدة، غادرتني متجهة نحو أحد المعامل الكيميائية لكي تتسلم "العهدة" وهي عبوة الهيرويين الوفير المقرر دسه في شرابي الصباحي، حيث يتكفل الحليب بإخفاء ما كان يمكن ظهوره من دوائر شبه زيتية على وجه الشاي السادة لو بقي بلونه الأحمر الأصلي. وادعت "دنيا" أنها ستزور شقيقتها في منزل العائلة الريفي الكائن بأحد الأقاليم النائية، لتبيت معها ليلة واحدة على أن تعود لشقتي في صباح اليوم التالي، وبمجرد مغادرتها داهمني شعور بالوحدة المتوحشة فدفعني للذهاب إلى النادي المجاور، وهناك اختارني الأعضاء لرئاسة لجنة إجراء القرعة العلنية لتوزيع راغبي الاصطياف على مختلف الأفواج في المصايف المتعددة التابعة للنادي، نظراً لأنني العضو الوحيد الذي لم يتقدم بطلب للاصطياف خلال ذلك الموسم الصيفي. وكان عبء سحب الاستمارات وإعلان نتائجها ثقيلاً للغاية على كاهلي لاسيما مع تكرار اعتراضات الأعضاء بما تؤدي إليه من إعادة الإجراءات مجدداً. وانتهى الأمر مع حلول الساعات الأولى من صباح اليوم التالي بقبول أعضاء النادي لقراراتي، بعد إتاحة الإمكانية لتبادل الأفواج والمصايف فيما بينهم بالتراضي وفقاً لمصالحهم وظروفهم!!.
               عادت "دنيا" إلى شقتي بعد عودتي بفترة قصيرة وإن كانت كافية لارتدائي الجلباب ثم استلقائي فوق فراشي طلباً للنوم، ففتحت الباب بنسخة المفتاح التي كنت قد منحتُها إياها، واتجهت مباشرةً صوب المطبخ حيث سارعت بإعداد كوب الشاي المخلوط بالحليب وعبوة الهيرويين باستثناء جرعة هيرويين صغيرة احتفظت بها لنفسها، ودخلت إلى غرفتي لتقدم لي شرابي الصباحي فرفضتُه بشدة لأنني على أعتاب النوم وليس الصحو عقب ليلة كاملة أمضيتُها في الإشراف على إجراء قرعة المصايف بالنادي. فما كان منها إلا أن دست جرعة الهيرويين الصغيرة التي سبق أن احتفظت بها لنفسها في كوب عصير ألحت على أن تسقيني إياه حتى آخر رشفة، مما أدخلني إلى متاهة غيبوبة عميقة لفتني في غياهبها ثلاثة أيام متتالية. ولقلة خبراتها في مجال جرائم النفس سواء من الزاوية الجنائية أو من الزاوية الطبية فقد توهمتني "دنيا" ميتاً، ولخشيتها من رواية التفاصيل إلى مسئولي الجهات المعنية تحاشياً لاتهامها بمحاولة سرقة جزء من "العهدة" فقد أبلغتهم بتناولي لكامل العبوة، مما جعلهم بدورهم يتوهمونني ميتاً بفعل عبوة الهيرويين الوفيرة والكفيلة بقتل عشرة أفيال، والتي يفترض أن تكون قد اخترقت دمي بكاملها حسب إفادتها لهم. وحضر أحدهم إلى شقتي متنكراً في الزي الخاص بشركة شهيرة لصيانة الأجهزة المنزلية وهو يقود سيارة تابعة لنفس الشركة، ليدعي أنني سبق أن استدعيته هاتفياً لإصلاح الغسالة التي كان البوابون يعلمون سلفاً أنها معطلة بعد أن قطعت "دنيا" عمداً توصيلاتها الداخلية. أما المسئول المتنكر الذي زارني ميتاً بعد طول انتظاري لزيارته وأنا لم أزل على قيد الحياة، فقد قام بالوقوف في وضع الانتباه أمام جثتي المفترضة مؤدياً تحية الشهيد، وهو يخاطبني بقوله: "إنها التعليمات الملعونة واحنا ناس عاوزين ناكل عيش، الله يرحمنا ويرحمك يا صاحبي"، وخلال انحنائه لتقبيل جبيني قفز الدمع من عينيه رغماً عنه، وبح صوته وهو يودعني بعبارة "سلام يا صاحبي" التي كررها عدة مرات، ثم غادر الشقة حاملاً معه الملف الخاص بقضية إلغاء قرار منعي من السفر، لتتبعه "دنيا" بعد التقاطها لكل ما خف وزنه وارتفع ثمنه من مجوهرات وتحف وأجهزة إلكترونية وأوراق نقدية. وفي اليوم التالي نشرت صفحات الحوادث بالصحف الحكومية أخباراً عن مصرع مستشار بارز في وزارة سياسية إثر تناوله جرعة مخدر زائدة، وهي الأخبار التي قامت هيئة المحامين التابعة للدولة بإيداعها في حافظة مستندات مرفقة بمذكرة قانونية تم تقديمها إلى رئيس المحكمة، لطلب شطب الدعوى القضائية المرفوعة باسمي واعتبارها كأن لم تكن نظراً لوفاة المدعي قبل البدء في إجراءات التقاضي، الأمر الذي أجبرني لاحقاً على حضور كل جلسات المحكمة المخصصة لنظر دعواي، والتوقيع في محاضرها لإثبات أنني ما زلت حياً. حتى أصدر القضاء حكماً حاسماً ونهائياً لصالحي ليس فقط بإلغاء القرار الشاذ المطعون فيه، ولكن أيضاً بنزع سلاح منع سفر المواطنين من أيدي الجهات المعنية بعد ثبوت أنها تسيء استخدامه!!.
(7)
               أسفرت جرعات المسكنات المكثفة التي طالما كنت قد تعاطيتُها لعلاج عمودي الفقري عن إضعاف مفعول جرعة الهيرويين الصغيرة التي دستها لي "دنيا" في كوب العصير، فأفقتُ من غيبوبتي بعد ثلاثة أيام، بينما كانت بعض الجماعات المحلية والإقليمية والعالمية تنتظر دفن جثماني ليتبادلوا الأنخاب احتفالاً بالتخلص النهائي من مشاغباتي ضد مصالحهم. وأجريتُ بمجرد إفاقتي عدة اتصالات هاتفية للإبلاغ عما تعرضتُ له فوجهني الجميع نحو وحدة المباحث الجنائية في قسم الشرطة المجاور، باعتبار أن ما حدث يقع حصرياً ضمن نطاق اختصاصها دون غيرها فيما يتعلق بجرائم النفس، فذهبتُ فوراً إلى هناك لأجد الوحدة بكاملها مغلقة بدعوى وفاة أحد المحبوسين داخلها أثناء استجوابه، وفي اليوم التالي كانت أبوابها مفتوحة إلا أن الضابط المسئول عن تلقي بلاغي والتصرف فيه لم يكن موجوداً، حيث استدعته النيابة لسماع شهادته في حادث وفاة المتهم المحبوس، وفي اليوم الثالث كان مكلفاً بمأمورية ميدانية لمرافقة موكب أحد كبار القادة، وفي اليوم الرابع كان يقوم بتأمين الاحتفال الرسمي لإحدى السفارات بالعيد الوطني لدولتها..... وعندما التقيته بواسطة نائب برلماني بعد أسبوع كانت معالم الجريمة قد ضاعت، سواء بالنسبة لبقايا الهيرويين في دمي والتي انسحبت بمرور الزمن، أو بالنسبة لبصمات الجناة على مسطحات شقتي والتي طمستها المياه ومواد التنظيف والبصمات الجديدة لأشخاص كثيرين زاروني بعد الحادث بدوافع مختلفة. وقرر ضابط المباحث المسئول أن يستعلم من المستشفى عبر البريد العادي بشأن طبيبة العلاج الطبيعي المتهمة "دنيا"، فتلقى الرد بعد أسبوعين على شكل إفادة بريدية بعدم وجود طبيبة بالاسم المذكور في المستشفى، فقال لي ساخراً:"معلهش يا صاحبي، تعيش وتعمل دماغ مخدرات غيرها"!!.
               علمت الجهات المعنية من تفاصيل بلاغي الذي قدمتُه لوحدة المباحث في قسم الشرطة المجاور أن "دنيا" هي التي أوقعتهم في المأزق، عندما حاولت الاحتفاظ لنفسها بجرعة صغيرة من الهيرويين ثم اضطرت فيما بعد لأن تسقيني إياها مع إبلاغهم بأنني تعاطيتُ العبوة بكاملها، الأمر الذي أعطاهم مؤشراً مخادعاً بوفاتي، بينما كان من شأن معرفتهم بالتفاصيل الحقيقية أن يستبدلوا أدوات التنفيذ بغيرها مما هو متاح لديهم في "جراب الحاوي". وقد تفاقم المأزق الذي وقعوا فيه بسبب اضطرارهم إلى مناشدة ضابط المباحث المسئول لمساعدتهم في الهروب بفعلتهم والإفلات من العقاب، ثم ازدادت حدة تفاقم مأزقهم بسبب شروعي في البحث عن "دنيا" بنفسي، حيث استعنتُ بأصدقائي من موظفي وزارتي الصحة والتعليم ورئاسة الجامعة وإدارة الكلية واتحاد النقابات الطبية، فقمتُ بزيارة كل خريجات العلاج الطبيعي اللواتي يحملن اسمها ويقل عمرهن عن الثلاثين عاماً دون أن أجدها، ثم اتجهتُ إلى شئون الطلاب لأجد صورتها تتصدر ملفها كطالبة متكررة الرسوب بالسنة الثالثة في الكلية، ونجحتُ في اختراق الأوساط الطلابية لألتقط وأتابع كل الخيوط القريبة منها، والتي أفادني أحدها بأنها قد عاودت نشاطها السابق في مجال ممارسة الدعارة، فاعتمدتُ على أصدقائي المتعاملين مع هذا المجال كزبائن حتى أمسكتُ بها خلال قيامها بزيارة منزلية لأحدهم، إلا أنها حاولت الهروب بالقفز من شباك غرفة نومه فسقطت على أرض الشارع المزدحم وقد تكسرت عظامها. استدعى المارة والجيران سيارة الإسعاف التي حملتها بشكل رسمي، قبل تسليمها على محضر رسمي إلى سيارة شرطة النجدة التي حضرت بطلب مني، لتقوم من جانبها بترحيلها إلى مستشفى الشرطة حيث تم استلامها أيضاً بموجب محضر رسمي، مع إبلاغ ضابط مباحث القسم المجاور بإشارة رسمية ليتولى المسئولية عنها. وهكذا لم يجد الضابط المسئول بداً من تأدية عمله حيال بلاغي وإن تعمد إغفال أهم وقائعه، مما أسفر عن "تجنيح الجناية"، حيث عوقبت "دنيا" أمام محكمة الجنح بتهمة واحدة فقط هي السرقة بالإكراه، رغم الملاحظة الذكية للنيابة بأن قيمة الهيرويين المستخدم في الجريمة تفوق كثيراً قيمة المسروقات!!.
(8)
               بالمخالفة لمقتضيات وظيفته كان ضابط المباحث قد تجاوب مع التوجيهات الهاتفية للجهات المعنية إلى درجة التواطؤ الجنائي، سواء بتهربه من تلقي بلاغي وإضاعته للوقت مما طمس معالم الجريمة، أو بامتناعه عن بذل أي مجهود حقيقي للقبض على المتهمة بموجب صلاحياته، أو بإغفاله لأهم وقائع الجريمة بالشكل الذي أسفر عن تجنيح الجناية، أو بعدم تسجيله لاعترافات المتهمة حول شركائها الذين حرضوها وأمدوها بعبوة الهيرويين، حيث لم يتم إدراج أي اسم فيهم ضمن أوراق القضية لحمايتهم رغم إرشادها عنهم... ولكنه لم يجرؤ على السماح للجهات المعنية بإدخال أحد العناصر البشرية إلى غرفة احتجاز "دنيا" في المستشفى لتصفيتها جسدياً، قبل أن تثرثر بتفاصيل معلوماتية حول المهمة السرية التي كانت مكلفة بها لقتل أحد موظفي الدولة البارزين، رغم تعهداتهم بإخراج الأمر وكأنه "انتحار" لاسيما وقد سبق لها إلقاء نفسها من شباك غرفة نوم الزبون، بل أن ضابط المباحث سارع بنقل "دنيا" إلى مبنى مديرية الأمن العام لحمايتها من جهة ولإخلاء مسئوليته من الجهة الأخرى. إلا أنه في اليوم التالي لدخولها السجن العمومي تنفيذاً لعقوبتها عن جنحة "سرقتي بالإكراه"، عثرت الإدارة على جثتها وهي معلقة من عنقها في أحد القضبان الحديدية لشباك زنزانتها بواسطة قطعة ملابس حريمي، فيما تم تسجيله رسمياً كحادث انتحار. واتصل بي الضابط المسئول هاتفياً لإبلاغي بالخبر وهو يسألني بإلحاح عن موعد مغادرتي النهائية لحي "العجوزة"، سواء بانتقالي لشقتي التمليك في حي "الهرم" أو بعودتي إلى منزل الأسرة في حي "مصر الجديدة" أو لمنزل العائلة بمدينة "الإسكندرية"، وكأنه يبلغني رسالة مفادها أنني مازلت في خطر وأنه عاجز عن حمايتي، متناسياً أنه بدوره قد أصبح في خطر بعد إطلاعه على بعض المستور!!.
               كان تشكيل عصابي يضم ثلاثة قتلة محترفين قد وقع في أيدي الشرطة بعد قتلهم لأحد الأجانب بغرض سرقته، وذلك استجابة للضغوط التي تواصلت من قبل سفارة دولة القتيل الأجنبي، وسرعان ما تبين قيام التشكيل العصابي الثلاثي بقتل أكثر من عشرين شخصاً قبل ذلك في جرائم تم قيدها ضد مجهول، فتدخلت الجهات المعنية في أمرهم وساومتهم بعدم توجيه أي اتهام ضدهم بشأن ضحاياهم العشرين السابقين، مما يعني إفلاتهم من حبل المشنقة، مقابل اعترافهم بقتل شخص آخر لم يكونوا هم الذين قتلوه في حقيقة الأمر، بل كانت زوجته العرفية ذات الماضي "الترفيهي" هي التي قتلته داخل شقتهما بحي "العجوزة"، لأنها شاهدته يخونها مع صديقتها طالبة العلاج الطبيعي "دنيا" على فراش الزوجية، وتمت محاكمتها أمام محكمة الجنايات التي عاقبتها بالسجن المؤبد، وهي تقوم حالياً بتنفيذ عقوبتها في السجن العمومي، حيث كانت قد أشرفت بنفسها على "انتحار" صديقتها السابقة "دنيا" عقب عدة اتصالات أجرتها معها الجهات المعنية. وبمجرد اعتراف التشكيل العصابي زوراً بقتل زوجها، خرجت الزوجة القاتلة من السجن، لترفع عدة دعاوى قضائية ضد ضابط مباحث قسم الشرطة المجاور تتهمه فيها زوراً بإجبارها على الاعتراف الباطل بالقتل، إلى جانب توجيه عدة اتهامات كاذبة أخرى له كالضرب والتعذيب والاغتصاب مما يسيل لعاب المحامين راغبي الشهرة والصحفيين راغبي التشهير بالشرطة. في نفس الوقت الذي تم فيه فتح حقيبة سيارة ضابط المباحث بمهارة احترافية، لوضع عدة عبوات هيرويين واردة من ذات المعمل الكيميائي الذي سبق أن زارته "دنيا" لكي تتسلم "العهدة" الخاصة بمهمتها ضدي، مع إبلاغ النيابة لضبطه في حالة تلبس وهو يقود سيارته المعبأة بالمخدرات، وسرعان ما تمت إحالة الضابط إلى مجلس تأديب عاجل قرر في جلسته الأولى عزله من وظيفته ومعاقبته بالسجن المشدد لمدة خمسة أعوام. وقد انقطعت أخباره نهائياً بعد دخوله أحد السجون العمومية تنفيذاًَ لعقوبات قاسية عن جرائم ملفقة لأسباب لا يعلمها غيري... كان لسان العدل يلح على رأسي مردداً مقولة: "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين" بينما كان لسان الرحمة يهمس في وجداني قائلاً: "اللهم لا شماتة"!!.
*****


دولــت
 
(1)
               مع بداية عصر الانفتاح الاقتصادي ظهرت في مصر مراكز القوى الجديدة سواء من الرجال ذوي السلطة والمال أو من النساء ذوات الشهرة والمهارات الجنسية الناعمة. وبمضي الزمن أخذ نفوذ هؤلاء وأولئك ينمو ويتمدد فبدأت مصالحهم تتداخل وتتقاطع مما اضطرهم إلى إبرام بعض التحالفات فيما بينهم، الأمر الذي أسفر عن تشكيل عدد محدود من التكتلات الأخطبوطية ذات المؤسسات القابضة، التي تتغلغل في كل شبر داخل الدولة والمجتمع لتؤدي أدواراً موازية لوظائف الدولة والمجتمع، دون الخضوع للقوانين الرسمية المعمول بها في الدولة أو للأعراف الواقعية المرعية في المجتمع، فيما يشبه عصابات "المافيا" المعروفة على المستوى العالمي، لاسيما مع استعانة التكتلات الأخطبوطية المصرية في أنشطتها المتعددة ببعض العناصر البشرية كمستشارين وخبراء وقادة ميدانيين، من بين الأجانب الذين سبق لهم العمل لصالح عصابات "المافيا" العالمية. إلا أن أهم التكتلات المصرية خلال ربع القرن المنصرم كانت هي تلك التابعة للجهات الأمنية المعنية والتابعة لمعسكر النفط الخليجي والتابعة للمعسكر الأمريكي – الإسرائيلي، إلى جانب تكتلات أخرى أقل أهمية تابعة للفئات الطفيلية المحلية وللتيار السلفي الإسلامي وللجماعات اليسارية الشعبوية وغيرها!!.
               عقدت التكتلات المصرية فيما بينها عدة اتفاقات لتسوية نزاعاتها التنافسية ولتوزيع مناطق ومجالات النفوذ، ولوضع الحدود الفاصلة لتطلعات والتزامات كل تكتل حسب ترتيب موقعه داخل هرم القوة، إلا أن ذلك لم يمنع انشقاق بعض الفصائل والأجنحة عن تكتلاتها الأصلية وانتقال أعضائها إلى تكتلات أخرى، كما أنه لم يحد من تكرار الخروقات والتجاوزات التي كان أي تكتل لا يتوانى عن ارتكابها كلما تيسر له ذلك للتنصل من تعهداته أو لتوسيع نطاق امتيازاته، لاسيما وقد نجح كل واحد من التكتلات الثلاثة الكبرى في اختراق الآخرين للتجسس عليهم بواسطة أدواته الخاصة، مع احتجازه لبعض أتباعهم كرهائن تحت يده يمكن استخدامهم عند الضرورة ضد تكتلاتهم الأصلية. ورغم وجود حالات نادرة للعضويات المزدوجة إلا أنه كانت هناك حالة واحدة للعضوية المثلثة وهي "دولت"، التي تحمل لقباً عائلياً مدوياً يكشف انتمائها العرقي لأكبر قيادات الجهات المعنية، وقد تزوجت في أواخر ثمانينيات القرن العشرين من الابن الأصغر لشيخ مشايخ شركات توظيف الأموال المصرية، وهي تشغل في الوقت ذاته مركزاً هاماً باللجنة العربية – الإفريقية للمشروعات المشتركة، والواقعة في "القاهرة" كإحدى أهم الواجهات العلنية التابعة سراً لمكتب "السفاري" والذي يتخذ له موقعاً في العاصمة الفرنسية "باريس"، ليتولى من هناك القيادة العلنية لجميع الأفرع الخارجية المنتشرة على امتداد العالم كله لمكافحة الأنشطة الشعبية المعادية للأطماع الأمريكية، بتوجيه عضوي مباشر من الجماعة السرية المعروفة مجازاً باسم "المكارثية" والتي تضم أصدقاء الجهاز المعروف يقيناً باسم "سي- آي - إيه"!!.
(2)
               كان شيخ مشايخ شركات توظيف الأموال قد تغاضى متعمداً عن المغامرات الجنسية الفاضحة والمفضوحة داخل البلاد وخارجها لزوجة ابنه "دولت"، في إطار خطته لاستغلال عضويتها بالتكتلين الآخرين اللذين ينافسان تكتله بهدف حماية ما سبق أن انتزعه بالخداع من أموال الشعب المصري، عقب تلقيه لإفادات عبر جواسيسه بوجود خطة لضرب شركات توظيف الأموال باعتبارها تمثل الجناح الاقتصادي للتكتل التابع لمعسكر النفط الخليجي، فأودع الشيخ العجوز ما بحوزته من أموال في حساب سري باسم "دولت" لدى أحد بنوك سويسرا لإبعاد هذه الأموال عن أيدي منافسيه، إلا أن التعاقد المبرم بينه وبين البنك بشأن الحساب المذكور كان لا يسمح بالصرف إلا بموجب توقيعين اثنين معاً من ثلاثة توقيعات لها وله ولزوجها الذي هو ابنه الأصغر، مما يعني أن "دولت" تعجز بمفردها عن التصرف في الأموال المودعة باسمها، بينما يستطيع الشيخ العجوز بالمشاركة مع ابنه التصرف فيها على أي وجه بما في ذلك نقلها إلى أوعية بنكية أو استثمارية أخرى بعد انقضاء الغمة المنتظرة!!.
               في إطار مصادرتها لكافة شركات توظيف الأموال انقضت الدولة على أملاك الشيخ العجوز، فلم تجد بحوزته سوى بعض المقومات العينية والعقارية التي تقل قيمتها عن عشرة بالمائة من إجمالي الإيداعات الشعبية لديه، حيث كانت التسعون بالمائة المتبقية قد سبق له تحويلها إلى عملات أجنبية وإيداعها في حساب سري لدى البنك السويسري باسم "دولت"، والتي سارعت من جانبها باستثمار نفوذها في الدولة والمجتمع والناتج عن عضويتها المثلثة في التكتلات الكبرى لإبقاء الأموال المودعة باسمها بعيدة عن المصادرة، ثم قامت بتسليم سلاحاً نارياً مملوكاً لزوجها إلى قائد القوة المنفذة لعملية الهجوم على شركات الشيخ العجوز، حتى يستخدمه في قتل أحد أفراد القوة المهاجمة لإلصاق التهمة بزوجها الذي ما لبث أن صدر ضده حكم بالإعدام وتم تنفيذه فوراً، في نفس الوقت الذي استخدمت فيه كل ما تحوزه من مقومات إقناع سلطوي ومالي وجنسي ليموت الشيخ العجوز مسموماً داخل سجنه. وبحصولها على شهادتي وفاة زوجها وأبيه استطاعت "دولت" بسهولة أن تتصرف كما يحلو لها في الأموال التي كانت تنتظرها لدى البنك السويسري، والسابق نهبها من الشعب المصري بخديعة الربح الحلال!!.
(3)
               استطاع التكتل التابع لمعسكر النفط الخليجي بعد عقد زمني كامل أن يتجاوز محنة تدمير جناحه الاقتصادي المتمثل في شركات توظيف الأموال، واستعاد نفوذه مجدداً في الدولة والمجتمع بالاعتماد على أجنحة أخرى حديثة أعادته إلى قلب المثلث الذهبي لهرم القوة، واحتفظت "دولت" بعضويتها المثلثة كسابق عهدها مع احتفاظها لنفسها بالأموال المنهوبة من الشيخ العجوز، الذي كان قد سبق له أن نهبها - قبل مقتله- من فقراء الشعب المصري المتطلعين إلى الربح الحلال، وفي إطار عضويتها المثلثة تلقت "دولت" تكليفاً موحداً بثلاثة توقيعات ممن تتبعهم في التكتلات الثلاثة، لاستخدام كل ما تحوزه من مقومات استدراج سلطوي وغواية مالية وإغراء جنسي لإدخالي في أي واحد من "بيوت الطاعة" التابعة لأي واحد من التكتلات الثلاثة، بعد أن حالت الإرادة الإلهية عدة مرات دون تصفيتي جسمانياً رغم تكرار محاولاتهم وتنوعها، عقاباً لي على ما يتهمونني به من إغضابي لثلاثتهم إثر نجاحي في تسجيل أهداف صحيحة هزت شباكهم، مثل حرماني للجهات المعنية من بعض أسلحتها الاستبدادية والتي كان آخرها سلاح منع سفر المواطنين المغضوب عليهم، لاسيما وأنني كنت قد استصدرتُ لتوي أحكاماً قضائية نهائية وحاسمة بنزعه من أياديها بعد أن أساءت استخدامه ضدي باعتباري أحد المغضوب عليهم، إلى جانب استمرار انتقاداتي لمعسكر النفط الخليجي واتساع نطاق معارضتي لأنشطتهم المشبوهة في كتاباتي المنشورة، أما المعسكر الأمريكي – الإسرائيلي فلا ينسى قيادتي في بداية ثمانينيات القرن العشرين لمظاهرة جماهيرية كاسحة ضد أول وجود لجناح إسرائيلي بمعرض القاهرة للكتاب، حيث تم تدمير جناحهم وإنزال نجمتهم السداسية تحت الأقدام مع استصدار قرار سيادي فوري بالاستجابة لطلب الجماهير الغاضبة بعدم استضافتهم مجدداً في المعرض!!.
               بعد دراستها المتعمقة لبياناتي التفصيلية الموجودة داخل ملفاتي الشخصية، بما تحويه من أفلام "مناورات الفراش" السابق التقاطها لي على امتداد مختلف الأزمنة التاريخية مع سيدات الترفيه التابعات لمختلف التكتلات، شرعت "دولت" تتحرك تجاهي، فكلفت إحدى تابعاتها من المحيطين بي في دوائر وجودي الطبيعية بدعوتي إلى احتفال صاخب يستضيفه قصرها الفخم الواقع في ضاحية "6 أكتوبر"، بمناسبة رأس السنة الأولى للعقد الأول في الألفية الثالثة. وعندما جلستُ بمفردي أمام بار المشروبات اقتربت مني "دولت"، ثم جاورتني خلال جلوسي على مائدة الطعام لتمارس معي مختلف الألعاب الاحتكاكية المثيرة، حتى التصقنا ونحن نرقص سوياً فوق المسرح الخشبي المجاور لحمام السباحة، ومع حلول ساعات الصباح الأولى انتبهتُ إلى مغادرة جميع المحتفلين بمن فيهم صاحبة الدعوة لنبقى في المكان بمفردنا أنا وهي وثالثنا الشيطان، كما انتبهتُ إلى استغراق عجلات سيارتي في سبات عميق، فتجاوبتُ مع ندائها الأنثوي الملح للصعود سوياً إلى غرفة النوم الرئيسية بالطابق الثاني، حيث اكتشفتُ على الفراش أنها تعرف عني الكثير من المعلومات، في حين أنها لا تسمح لي سوى بمعرفة اسمها الأول فقط "دولت"!!.
(4)
               نظراً لانتمائي إلى ذلك النوع من الرجال الذي لا يشعر بالراحة إلا على فراشه الخاص، سواء عند النوم أو الترفيه، فقد تمسكتُ برغبتي في أن يكون لقاؤنا التالي بمنزلي مقابل تأجيل معرفتي للمعلومات الأساسية عنها لحين حلول الوقت الذي تراه هي مناسباً. وفي الليلة المتفق عليها حضرت "دولت" لزيارتي وهي ترتدي ثوباً شفافاً تم اختصاره كثيراً من أعلاه وأسفله، ورغم أننا بقينا حتى صباح اليوم التالي نتمرغ سوياً على فراش الهوى لتدفئته، حيث حرص كل واحد فينا على ممارسة كل ما سبق أن تعلمه من فنون المطارحات الغرامية لإمتاع الآخر، إلا أنها أصابتني بحيرة شديدة بمجرد نهوضنا الأول من فوق الفراش لتناول العشاء، حيث خاطبت جهاز اتصال يشبه زر البالطو بقولها "الهدية"، فإذا بجرس باب منزلي يدق فتسارع هي بالذهاب لتعود حاملة كعكة كبيرة من النوع المحشو والمغطى بالشيكولاتة التي أُحبُها، ولما فرغت علبة سجائرها قبيل الفجر عاودت مخاطبة نفس الجهاز قائلة "الدخان"، ليدق جرس الباب مرة أخرى وتذهب لتعود بعلبة سجائر جديدة لها وكيس تبغ من النوع المميز الذي استخدمه في غليوني، وفي المرتين تمسكت "دولت" بما سبق أن اتفقنا عليه من تأجيل حصولي على أي معلومات بشأنها حتى تقرر هي ذلك!!.
               في الصباح وجدتُ الصحف اليومية قد تم دفعها إلي داخل شقتي من أسفل الباب بخلاف المتفق عليه مع البائع الذي كنت قد ألزمتُه بتسليمي الصحف في يدي، تحاشياً لابتلالها بالماء عند تنظيف العمارة ومنعاً لقيام أحد الأطفال الأشقياء بسحبها إلى الخارج في إطار اللهو، فلما اتصلتُ هاتفياًً بالبائع مستفسراً أفادني وهو مذعور بأن العمارة قد حوصرت منذ الليلة السابقة بسيارات سوداء مصفحة بدون أرقام، تحمل عدداً كبيراً من المسلحين الذين أحاطوها من كل الجهات، وأن مسلحين غيرهم قد احتلوا مداخل العمارة وانتشروا في ممراتها وأروقتها، وألزموا السكان والبوابين بعدم الخروج أو الدخول أو حتى الإطلال من نوافذهم وأغلقوا المحلات التجارية بدعوى وجود حالة طوارئ قصوى مؤقتة، مشيراً إلى أن أحد هؤلاء المسلحين هو الذي تسلم منه الصحف الخاصة بي ونهره دون أن يدفع له ثمنها، ثم انقطعت مكالمتي الهاتفية مع بائع الصحف قبل اكتمالها. ولكي لا تتكرر المضايقات التي أصابت جيراني بسبب زيارة "دولت" لي في منزلي فقد اضطررتُ إلى تبديل بنود الاتفاق معها، لتكون لقاءاتنا التالية في قصر"6 أكتوبر" مقابل أن تمنحني بمجرد وصولي إلى هناك المعلومات الأساسية التي تخصها وتبدد حيرتي بشأنها في الوقت ذاته!!.
(5)
               التزمتُ من جانبي بالبند الذي يخصني في الاتفاق فاتجهتُ إلى قصر "6 أكتوبر"، واستجابت "دولت" لرغبتي فكشفت لي أوراقها بشكل مباشر وبكل وضوح، فالمطلوب مني هو دخولي بصفة دائمة ومعلنة داخل أي واحد من بيوت الطاعة العديدة التابعة لأي واحد من التكتلات الثلاثة الكبرى، ويقابل ذلك حصولي على حزمة عروض سخية، تشمل فيما تشمله أوضاع مهنية وسياسية مميزة وتوكيلات تجارية وإعلانية رابحة ومواقع قيادية في مختلف منظمات المجتمع المدني، ومساحات مفتوحة في المؤسسات الإعلامية والصحفية الرائجة لمتابعة أنشطتي الثقافية، وغيرها من المقومات التي تمنحني السلطة والمال والشهرة معاً بما يصاحب ذلك كله من وفرة في العلاقات النسائية المتنوعة، بالإضافة إلى نقل اسمي من الملفات السوداء التي تحوي المغضوب عليهم إلى الملفات الخضراء التي تضم الأحباء، دون أن يفوتها تحذيري من أن رفضي سيؤدي حتماً إلى استمرار محاصرتي على كافة الأوجه والنواحي والمستويات، حتى ينجح أحد التكتلات الثلاثة في نقل اسمي إلى الملفات البيضاء الخاصة بالذين تم محوهم وإزالتهم من الوجود. أسعدني وضوح الصفقة فشرحتُ لها أنني لا أقبل سوى بالدخول في بيت طاعة الجهات المعنية باعتبارها جزء من النسيج الوطني رغم ميلها لاستبعاد أجزاء الوطن الأخرى، شريطة أن يكون دخولي مؤقتاً ومرتبطاً بمهمة وطنية محددة ومشتركة ومتفق على أهدافها سلفاً بيني وبينهم دون أن تنطوي على أي ضرر بأجزاء الوطن الأخرى، وبحيث أستعيد استقلاليتي بمجرد إتمام المهمة أو التراجع عنها، لأواصل مشروعي الخاص بمكافحة الفساد والاستبداد والتبعية، مؤكداً لها أن ذلك هو ما فعلتُه سابقاً وأفعله حالياً وسأظل أقوم بفعله في المستقبل دون أي مقابل وبصرف النظر عن ممارسات الجهات المعنية ضدي شخصياً!!.
               لم تشأ "دولت" تفويت فرصة وجودي معها في القصر بدون أن تنفرد بي لتحصل مني على بعض المطارحات الغرامية، فحاولت إثارة رجولتي بما كانت تعلم يقيناً أنه يثيرني من أقوال وأفعال، دون جدوى حيث كان جسدي قد جف نظراً لغزارة ما فقده من عرق رغم كوننا في فصل الشتاء، كما كان دمي قد فر هارباً خارج عروقي التي أخذت تميل إلى اللون الأزرق، وأنا أسترجع في ذاكرتي ما سمعته عن شرور لا تحصى سبق أن تعرض لها العديد من الرجال على أيدي جليستي، بمجرد أن كشفت لي عن اسمها الكامل الذي ينتهي بلقبها العائلي المرعب. وعبثاً استعانت "دولت" بوصيفاتها المتنوعات الأشكال والألوان، اللواتي قمن بالالتفاف حولي لتأدية عدة رقصات التحامية عارية وشديدة الإثارة، وإزاء إصرارها على تلبية رغباتها الشهوانية معي، فقد أصدرت "دولت" أوامرها لإحدى وصيفاتها التي باغتتني بحقنة عضلية اتضح لاحقا أنها تحوي جرعة مكثفة من المنشطات الجنسية، الأمر الذي دفعني كيميائياً لمسايرتها بشكل آلي صرف يخلو من أي أحاسيس سوى الإحساس بوخز كل أنواع الأشواك والمسامير بمختلف أجزاء جسدي، حتى أنني غادرتُ المكان مسرعاً بمجرد أن انتهيتُ من مهمتي الآلية وأنا أشعر بأنني كنت مفعولاً به وليس الفاعل!!.
(6)
               امتنعت "دولت" لأسباب عاطفية عن ممارسة الضغوط ضدي باستخدام أي واحدة من الأدوات الغليظة المتوافرة لديها، واستمرت تطاردني عبر أدواتها الناعمة لأتراجع عن موقفي الرافض للصفقة، ولنفس الأسباب العاطفية أقنعت رؤسائها بإبقائي ضمن بند الذين لا يزالون تحت التفاوض الناعم في خانة "ذهب المعز"، حتى وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 ووقف كبير كبراء هرم التكتلات العالمية في "واشنطون" يهدد الجميع على الملأ، وهو يوجه أتباعه معلناً "أن من ليس معنا بشكل كامل فهو ضدنا ويجب محاربته حتى القضاء عليه"، وسرعان ما رفعت التكتلات المصرية الثلاثة الكبرى حالة التأهب والاستنفار الأمني والعملياتي إلى أقصى درجاتها، وقرروا ثلاثتهم أن يتحالفوا معاً للثأر من التكتل المسئول عن أحداث سبتمبر، ألا وهو التيار السلفي الإسلامي الذي كانوا يظنونه قليل الأهمية فإذا به يقلب حسابات العالم كله رأساً على عقب، وتمثلت الخطوة التحالفية المشتركة الأولى بينهم في محاولة تأكيد هيبتهم، عبر إحالة جميع المستهدفين ضمن خانة "ذهب المعز" مثلي إلى خانة "سيفه البتار" بالتصفية الجسمانية المباشرة، دون أن يشفع لي عندهم أنني رغم خلافاتي العديدة والعميقة معهم، إلا أنني لم أتوقف يوماً عن السعي بكل الوسائل لدى كافة الأطراف للحيلولة دون حدوث ما حدث في سبتمبر أصلاً بإزالة دوافعه ومسبباته، ليس فقط عبر تجفيف منابع الإرهاب المحلي والإقليمي والعالمي، ولكن أيضاً عبر وقف الاستغلال الاقتصادي والظلم الاجتماعي والقهر السياسي، سواء بين الأوطان وبعضها أو داخل كل وطن على حدة. ولما كان خصومي يعلمون أن نقطة ضعفي الجسمانية هي عمودي الفقري، الذي سبق لهم أن كسروه في محاولة فاشلة لقتلي بواسطة مصيدة عربات مصفحة أوقعوني داخلها أثناء تأديتي لواجبي الوطني كدبلوماسي مصري في السودان، فقد قرروا توجيه إحدى أدواتهم الغليظة نحوه مجدداً لعلها تكون القاتلة!!.
               تلقيتُ اتصالاً هاتفياً من أحد كبار قادة الجهات المعنية يبلغني فيه بصدور توصيات سيادية لتكليفي بمسئوليات مهنية وسياسية هامة تليق بحماسي وخبراتي وإخلاصي للوطن، وذلك في إطار الحرص على توحيد الجبهة الداخلية لتمكين الوطن من مواجهة التحديات الجسيمة التي فرضتها أحداث سبتمبر على العالم كله، بما يضمن العبور الآمن للأزمة وتداعياتها القائمة والمحتملة، ودعاني محدثي إلى زيارته بشكل فوري في مكتبه الواقع على الطريق السريع الدولي المؤدي لمطار القاهرة، رغم أن ذلك اليوم كان يوافق الجمعة الذي هو بمثابة الإجازة المقدسة للمصريين. وما أن وصلتُ بسيارتي الصغيرة إلى منتصف الطريق السريع حتى وقعتُ مجدداً داخل مصيدة عربات نقل ثقيل، انتهت بتحطيم سيارتي كلياً ثم دفعها وأنا بداخلها للسقوط من أعلى أحد الكباري العلوية!!.
(7)
               أرادت العناية الإلهية مرة أخرى الإبقاء على حياتي، فانتفخت وسائد الهواء الداخلية لتحيطني من كل الجهات وسقطت سيارتي فوق إحدى الأشجار الضخمة مما قلل من قوة ارتطامها بالأرض، لينتهي الأمر بتكسير ما تبقى من عظام سليمة في عمودي الفقري مع فرم لحمي الحي ونخاعي الشوكي دون وفاتي. اتصلتُ عبر هاتفي المحمول بشرطة النجدة التي تكاسلت في حضورها على غير المعتاد بحجة أن الاستدعاء تم خلال صلاة الجمعة، ولم تصطحب معها الفني المسئول عن تصوير الحادث فوتوغرافيا بحجة أن إجازته الأسبوعية توافق يوم الجمعة، وبدلاً من المسارعة بنقلي إلى المستشفى فقد تم ترحيلي مع سائقي عربات النقل الثقيل لقسم الشرطة، بدعوى ضرورة تحرير المحضر قبل تحويلي رسمياً للكشف الطبي في أحد المستشفيات الحكومية باستخدام "أورنيك عيادة ميري"، الأمر الذي اتضح لاحقاً أنه يستلزم مبيتي في القسم حتى اليوم التالي انتظاراً لعودة المأمور من إجازته ليفتح درج مكتبه المغلق على دفتر "الأرانيك"!!.
               استمر الدم يتدفق بغزارة خارج فمي حتى أوشكت حياتي على التسرب مني، ولم يكن أمامي للنجاة سوى دقائق معدودات، قمتُ خلالها بالتنازل عن بلاغي والتصالح مع المشكو في حقهم والاعتذار لضباط النجدة والقسم على ما سببتُه لهم من إزعاج، ثم لملمتُ ما تبقى من جسدي متجهاً صوب أقرب مستشفى، حيث سقطتُ أرضاً فاقداً للوعي بمجرد وصولي، فاحتجزني الأطباء لإجراء عدة عمليات جراحية كبرى بهدف وقف النزيف الدموي وإزالة العظام المفتتة التي تناثرت داخل جسدي وترقيع العمود الفقري المكسور، مع إعادة تثبيته بالشرائح والمسامير البلاتينية إلى جانب حقن النخاع الشوكي بالمنشطات الحيوية اللازمة... وغيرها. وعند إفاقتي وجدتُ أمامي باقة ورد عليها بطاقة باسم "دولت" كانت تحوي سطوراً تنصحني فيها بتنفيذ التعليمات "الطبية" حرصاً على السلامة "العلاجية"!!.
(8)
               إزاء إصراري على تكرار المحاولات المضنية والمدفوعة بالعزيمة والعناد الإيجابي، استرجعتُ قدراتي على السير والحركة بشكل شبه طبيعي بعد عام كامل، زارتني خلاله "دولت" عدة مرات لتذكيري بأنه كان يمكنني تحاشي ما حدث لو كنت قد عملتُ بنصائحها، وفي زيارتها الأخيرة لي ساومتني على أن أتزوجها مقابل تدارك الأمر كله، بما في ذلك استصدار القرارات اللازمة لعلاج عمودي الفقري بالمركز الألماني الأشهر عالمياً في هذا النوع من الجراحات، الأمر الذي أغضبني لدرجة أنني أشهرتُ عكازي الطبي في وجهها مهدداً إياها بالضرب، ليسارع عشرة من أتباعها المردة باقتحام غرفتي وهم يصوبون فوهات أسلحتهم النارية نحو رأسي، فتراجعتُ بإنزال عكازي إلى الأرض وطلبتُ منها ومنهم بأعلى صوتي أن يغادروا حياتي بلا عودة!!.
               كان تحالف التكتلات المصرية الكبرى الثلاثة ضد تكتل التيار السلفي الإسلامي في أعقاب أحداث سبتمبر قد أضر بمصالح بعض القيادات والكوادر والأعضاء هنا وهناك، مما أسفر عن حركة انشقاقات واسعة في التكتلات الثلاثة، وسرعان ما انضم المنشقون إلى التيار السلفي الإسلامي واتفقوا فيما بينهم على تلقين رفاق الأمس درساً دموياً قاسياً، لاسيما وقد علموا بواسطة جواسيسهم، أن الاجتماع الدوري السري التالي لتحالف التكتلات الثلاثة على وشك الانعقاد في أحد فنادق منتجع "طابا" السياحي المتاخم للحدود المصرية مع إسرائيل. اختار المجتمعون من أعضاء الوفود الثلاثة "دولت" لتتصدر طاولة الاجتماع باعتبارها المنسق العام نظراً لتبعيتها المثلثة، وبعد أن تبادلوا النصح والإرشاد بشأن الإنجازات والإخفاقات، عرضت "دولت" تفاصيل تجربتها الفاشلة معي كنموذج ميداني لحالة وصفتها بأنها نادرة، وطلبت من المجتمعين دعمها بكل ما يرونه مفيداً للتعامل مع حالتي، وقبل أن يشرع الآخرون في التعقيب والتعليق كانت السيارة المفخخة التابعة للمنشقين قد اخترقت أسوار الفندق وجدرانه ثم وصلت إلى غرفة الاجتماع الدوري السري، ليقع انفجار مدوي يؤدي إلى انهيار الفندق كله على رؤوس من فيه، وتتكفل القوة التدميرية الهائلة للعبوة التفجيرية الضخمة بتسوية الأنقاض بالأرض ودفن الجميع تحت الركام، حتى أن أجهزة الإنقاذ والإطفاء والإسعاف والدفاع المدني قد استغرقت عدة أسابيع لتجميع أكثر من مائة قطعة بشرية متجاورة مع بعضها في لفافة قماشية، للحصول على جثة غير مكتملة لسيدة متسلطة كانت حتى وقوع الانهيار تسمى "دولت"!!.
*****


أحـــلام
 
(1)
               لم تشهد الجغرافيا البشرية على امتداد مساحاتها الشاسعة منذ بداية التاريخ البشري وحتى يومنا هذا مواصفات تداني ما لدى "أحلام" من جمال وكمال، فهي الأروع بلا منازع سواء بالنظر إلى الملامح والقوام ودلال الخطوة واللون والصوت وبريق النظرة، أو بالنظر إلى الإصرار والعدل وحكمة الرأي والعطاء والفهم ورحمة القلب. قال البعض أنها تصغرني سناً فقد تمت ولادتها يوم بلوغي الحُلُم، وقال آخرون أنها تكبرني كثيراً وقد انتظرتني إلى حين بلوغي الحُلُم لترافقني طوال حياتي بعد أن اختارتني دوناً عن الآخرين، إلا أنني كنت أعلم يقيناً أنها مولودة معي في نفس لحظة ميلادي، حيث بكينا سويّاً وحَبَونا سويّاً وعبرنا سويّاً مراحل الطفولة فالمراهقة ثم الصبا والشباب حتى وصلنا سويّاً إلى أعتاب النضج!!.
               استمرت "أحلام" تنمو مع استمرار جسدي في النمو إلى أن أتم الجسد أقصى اكتماله ببلوغي العام الثامن عشر من عمري، فانتقلت رفقتها بعد ذلك إلى عقلي واستمرت تنمو معه حتى حوصر العقل بقهر الأقربين وغدرهم وبجهل الأبعدين وفقرهم، وهو الحصار الذي أفلتت منه "أحلام" ليستمر نموها الانفرادي بعد ذلك، لدرجة أنه لم يعد بمقدوري اللحاق بأذيالها، ولكن حبها الجارف لي أبقاها معي لتستمر برفقتي طوال صحوي وألزمها بمنحي كل ما أحتاجه من ثقة وسكينة بعد ما كنت أنا الذي أمنحها الرعاية التي تحتاجها، فكانت تغادرني عند خلودي إلى النوم على أن تعاودني أو تستعيدني بمجرد إفاقتي مجدداً!!.
(2)
               حاولت "أحلام" تعويض فشلي المتكرر مع الناس البسطاء، الذين طالما حلمتُ من جانبي بإسعادهم دون جدوى، لأسباب خارجة عن إرادتي وإرادتهم كالقهر والغدر المحيطين بي والجهل والفقر المحيطين بهم، لذلك كانت تتسلل مني برفق وتغادرني لتخترق الأثير وتطير نحوهم، وقد اختارت لهبوطها موقعاً فوق جزيرة صخرية صغيرة تتوسط نهر النيل عند بداية دخوله إلى جنوب العاصمة بين ضاحية "حلوان" العمالية شرقاً وضاحية "البدرشين" الفلاحية غرباً!!.
               بمجرد هبوطها على الجزيرة كانت "أحلام" تتخذ لنفسها الأوضاع الملائمة لبنود جدول أعمالها، فقد تنساب بنعومة لتدخل عقول وقلوب الناس الطيبين في الضاحيتين، بما يسمح لها أن ترشدهم نحو ما يجب عليهم فعله تجاه هذا الموضوع أو ذاك، ليغلب الوفاق وتسود المحبة ويعم الخير. وقد تتقمص أشكال الوحوش الكاسرة والجوارح الضارية والزواحف السامة، لتعقر أو تنقر أو تلدغ أشرار الضاحيتين وما أكثرهم، لعل إصابتها لهم تحد من شرورهم وما أكثرها، لاسيما وأنهم يحظون بحماية قيادتهم الجماعية القوية المعروفة باسم "عصابة الأسياد"، والتي تضم أربعة من كبار الأشرار ذوي النفوذ القائم في الضاحيتين بدون وجه حق، وهم السيد الظالم المستبد، والسيد الفاسد المفسد، والسيد الذيل التابع لأهل الخارج، والسيد الدرويش صاحب الضلالات!!.
(3)
               استمرت "أحلام" تحقق الإنجاز تلو الآخر على ضفتي النيل سواء بجلب الخير لأهالي ضاحيتي "حلوان" و"البدرشين" أو بمنع الشر عنهم، حتى قرر كل فريق منهما أن يبني لها في أراضيه مقاماً مبروكاً ليستقبل زياراتها الكريمة، واختلف الفريقان إلى حد التشابك بالأيدي حول أيهما الأجدر باستضافتها أولاً، إلا أنها أوعزت للفريقين بحلٍ يتمثل في بناء مضيفتين كبيرتين إحداهما عمالية في "حلوان" والأخرى فلاحية في "البدرشين" بدلاً من المقامين، على أن يلتقي أهالي كل ضاحية يومياً مع بعضهم داخل المضيفة الخاصة بهم للتشاور فيما بينهم بشأن مشكلاتهم وأسبابها وحلولها، أما هي فسوف تبدأ بزيارة الذين يتوصلون أولاً إلى حلول لمشكلاتهم!!.
               سرعان ما اكتشف الناس البسطاء على ضفتي النيل أن مشكلاتهم متقاربة وأن أسبابها متشابهة، وأن الإمكانية الوحيدة لحلها هي أن يتضافروا معاً لمقاومة الشر والتصدي للأشرار دون الخوف من عصابة "الأسياد الأربعة"، وبمضي الزمن اتسع نطاق التحركات الجماعية للأهالي فازدادت قوتهم، مما أدى إلى تعثر خطوات الأسياد وتعطيل مصالحهم الشريرة التي اعتادوا تمريرها بالمخالفة لقوانين الدولة وأعراف المجتمع قبل ظهور "أحلام"، فالتقوا في اجتماع رباعي للبحث عن مخرج صدامي أو التفافي من هذا المأزق، ليسفر الاجتماع عن قرار بقتل "أحلام" بعد الانتقام العلني منها بشكل مذلٍ ومهين، عقاباً لها على ما ألحقته بمصالحهم من خسائر جسيمة، ولتكن عبرة لأهالي الضاحيتين الذين استمدوا منها الجرأة على تحدي أسيادهم الأربعة، وعبرة لغيرهم ممن يمكن أن تسول لهم أنفسهم في المستقبل أن يحذو الحذو ذاته!!.
(4)
               كانت أعماقي تتمسك بملامح "أحلام" محفورة كالجداريات، ترفض الانصياع مثل الخاضعين وتأبى الرحيل مع الغابرين وتقاوم الضياع وسط الفوضويين، هي "أحلام" خالدة باقية مني للقادمين في أزمنة الزحام الآتية، لأترك لهم رايات ليست بالضرورة خفاقة على كل المستويات ولكنها بالضرورة ليست مرتخية على أي مستوى، ولأحول دون وقوعهم في براثن الشعور بالذنب الذي يطاردني ليجلدني يومياً بسبب تكرار مراهناتي الخاسرة على فرق غادرة، كانت دوماً تسجل أهدافاً عكسية وتنقلب ضدي بمجرد نجاحي في تسجيل هدف صحيح، لأتلقى اللعنات من جانبي الملعب قبل أن يقذفني جمهور الفريقين بالأحجار فأجد نفسي وكأنني أصبحت العدو رقم واحد للجميع، ومع ذلك فأنا مازلت وسأظل فخوراً بكل الأهداف التي سجلها التاريخ باسمي بعد نجاحي في هز شباك الخصوم، لاسيما تلك الأهداف التي اخترقت شباك عصابة الأسياد الأربعة فأغضبتهم، وجلبت أحقادهم وعداوتهم الشرسة ضدي شخصياً وضد كل ما يخصني من "أحلام" كانت لم تزل محفورة كالجداريات في أعماقي!!.
               أصبح الظالم المستبد غاضباً مني بعد استصداري لأحكام قضائية نهائية ضده، كشفت ستره ونزعت من يديه سلاحاً طالما أساء استخدامه بمنع وتقييد حرية المواطنين في السفر والعودة حسب هواه ومزاجه، بينما أخذ الفاسد المفسد يعاديني لأنني بالتنسيق مع حماة الأموال العامة أعددتُ عدة أكمنة مُحكمة لبعض كبار مساعديه في مختلف المرافق الهامة للدولة، وهم يتقاضون رشاوى ضخمة لإحقاق باطل أو إبطال حق، أما الذيل التابع لأهل الخارج فقد أصابه الحقد تجاهي عقب قيامي باستخدام القنوات الدبلوماسية الرسمية لإعادة خطاب وصلني من رئيس دولة عظمى ذات أطماع، يدعوني فيه للعمل مع إحدى الجماعات الأهلية المحلية الصديقة لدولته، بما ترتب على ذلك من كشف شبكة جاسوسية تابعة للدولة ذات الأطماع، وأخيراً فإن الدرويش صاحب الضلالات لا ينسى تسليطي للأضواء على الدعم المستور الذي كان يوفره عن طريق كبار مساعديه لأنشطة إرهابية تتستر بالدين، وذلك خلال تأديتي لمهمة دبلوماسية طويلة المدى في السودان!!.
(5)
               وضعت عصابة الأسياد الأربعة خطتها الانتقامية من "أحلام" موضع التنفيذ، بتقسيم الأدوار فيما بينهم، ثم بقيام كل واحد منهم في إطار دوره المرسوم بتوزيع التكليفات التفصيلية على كبار مساعديه، والذين استعانوا من جانبهم بصغار المساعدين. استخدم الأشرار أدواتهم التقليدية المعروفة من قهر وخداع تجاه ضعاف النفوس في أوساط أهالي ضاحيتي "حلوان" و"البدرشين"، حتى حصلوا على المعلومات الكافية عن "أحلام" بما فيها نقاط القوة والضعف، الأمر الذي منح الأربعة فرصة ليحتاطوا لأنفسهم منها ثم استدرجوها بمجرد أن حطت على أرض الجزيرة الصخرية في فخٍ مُحبك جعلها تتمثل بشراً سوياً، ليأسرونها قبل أن تتمكن من اتخاذ أي شكل آخر قادر على الإفلات. ثم استعانوا بأحدث أنواع التقنية عالية التطور لإبقاء "أحلام" حبيسة داخل قفص أثيري من الموجات الكهربائية والذبذبات الإلكترونية والإشعاعات فوق التقليدية، بحيث لا تستطيع الخروج بينما يستطيعون هم الدخول إليها بارتدائهم للأزياء الواقية!!.
               كانت عصابة الأربعة قد علمت خلال تحرياتها أن قوة "أحلام" تكمن في حريتها، وأن استمرار تقييدها يؤدي إلى إضعافها حتى تصاب بالهزال وتفقد قدراتها على فعل أي شيء للدفاع عن نفسها. لذلك فقد انتقلوا إلى المراحل التالية من خطتهم الانتقامية ضدها بمجرد أن أوقعها الهزال على الأرض. كانوا قد قرروا أن يتناوبوا اغتصابها داخل قفصها الأثيري أمام أهالي الضاحيتين مع تصوير حفل الاغتصاب كفيلم وثائقي، ثم يقوم كل واحد فيهم بانتزاع الجزء الذي يروق له من "أحلام" وهي حية بطريقته الخاصة ليمحوه أمام الآخرين كما يحلو له، بعد تسمية الأجزاء الأربعة وهي الرأس والجسد والساقين والذراعين، وفي ذلك فليتنافسوا مع بعضهم حول الابتكارات المميزة لكل منهم!!.
(6)
               قام الظالم باستخدام سلسلة حديدية لتكبيل "أحلام" ثم أخذ يلكمها بيديه ويركلها بقدميه ويجلدها بالسوط ويضربها بالعصا، حتى ظن نفسه قد استعاد توازنه الداخلي المفقود من خلال سيطرته عليها، إلا أن إحدى ضربات العصا طاشت منه فأصابت نصفه الأسفل قبل شروعه في اغتصابها، مما شل حركته وأعجزه عن مجرد الوقوف فركع على ركبتيه وهو يلعن الألم. وجاء دور الفاسد الذي أدخل على "أحلام" ثلاثة من الأغنياء المستهترين الراغبين في ممارسة الغرائب الشاذة ليغتصبونها مقابل عمولة مالية منحوها له، إلا أنهم وجدوا فرصة لممارسة ما هو أكثر غرابة وشذوذاً باغتصاب الفاسد نفسه الذي أصبح تحت قبضتهم داخل القفص، ليركع بدوره على ركبتيه راجياً إياهم أن يتركوه مقابل إعادته لكل العمولات التي سبق أن انتزعها منهم بالتحايل. أما التابع فقد حاول الاستعانة بأدوات تعويضية أمريكية للتنشيط الجنسي بطريقة التدليك التكنولوجي، وفجأة تلامست الأسلاك الملتفة حول جسده لتصيبه بماس كهربائي، فأخذ يرتعد بعنف حتى نزعها عنه مساعدوه ليسقط جاثماً على ركبتيه. وأخيراً دخل الدرويش مهللاً باعتبارها واحدة من سبايا الحرب بعد ابتلاعه لجرعة زائدة من سفوف المنشطات العشبية، والتي ما لبثت أن أصابته باحتقان ونزيف دموي من كل فتحاته، الأمر الذي انتهى باستدعاء طبيب لم يستطع سوى إقالته من وضع الانبطاح أرضاً إلى وضع الركوع!!.
               كان من الطبيعي أن يسارع الأربعة بتحطيم الكاميرا التي صورت فيلماً وثائقياً يفضح فشلهم، ومع ذلك فقد انتقلوا إلى المرحلة الأخيرة من مخططهم الانتقامي، حيث اختار الظالم ساقي "أحلام" فبترهما بالسيف وأخذ يأكلهما أمام الجميع إظهاراً لوحشيته الدموية، أما الفاسد فقد اختار جسدها ليقطف أعضائه الواحد تلو الآخر ويبيعها كقطع غيار لمن يرغب في أوساط الأطباء الفاسدين، واختار التابع رأسها لإرساله إلى معامل الخارج حتى يواصل علماء أهل الخارج أبحاثهم العلمية لمعرفة كل التفاصيل التي تخصنا في إطار حرصهم على استمرار تخلفنا عنهم، وهكذا لم يجد الدرويش سوى اليدين فأحرقهما بالنار المشتعلة ثم ألقى بهما بعد ذلك في وعاء مملوء بماء النار لإذابتهما تماماً، وهو يتلو بعض التعاويذ المعبرة عن ديانات لم يستطع أحد معرفة هويتها وإن كانت لا تمت بصلة لما ورثناه عن أجدادنا!!.
(7)
               أفقتُ من نومي فجأة تحت وطأة وخز غريب في قلبي، ذات صباح معتم بشهر كئيب يتوسط عاماً حزيناً في منتصف العقد الأول للألفية الثالثة، فلم أجد "أحلام" ترافقني أو تحلق حولي كعادتها، ولما كانت هذه هي المرة الأولى في عمري التي أفتقدُها فيها فقد انتفضتُ من مرقدي مذعوراً، أبحثُ عنها بمد اليدين وتدقيق النظر وإطراق السمع وتركيز الشم، فإذا بي أتخبط دائراً حول نفسي كمن يسبح في الفراغ، ثم خرجتُ أجوبُ الأرض طولاً وعرضاً لأسأل الناس شباباً وشيباً عن "أحلام" ضائعة دون إجابة. طال بي الطريق حتى وصلتُ بعد عدة أيام إلى تلك الجزيرة الصخرية الصغيرة، التي تتوسط نهر النيل عند بداية دخوله إلى جنوب العاصمة بين ضاحية "حلوان" العمالية شرقاً وضاحية "البدرشين" الفلاحية غرباً، وقد أرهقني الجوع والعطش وتورمت قدماي من فرط السير بغير هدى، فسقطتُ على الأرض عاجزاً عن الحركة، ولكنني لم أتوقف عن الصراخ المتواصل بأعلى صوتي منادياً عليها!!.
               طال بقائي فوق أرض الجزيرة واستمر ندائي على رفيقتي الضائعة، حتى اطمأن لي المشعوذون المحليون، واقتربوا مني لحكاية التفاصيل المرعبة عما أصاب "أحلام" خلال زيارتها الأخيرة للناس البسطاء من أهالي الضاحيتين، واتفقوا جميعاً على أن قلبها قد أفلت من المذبحة، وأنهم رأوه حياً نابضاً وهو يفر خارج القفص. قال البعض أنه يرقد في قاع النهر انتظاراً لمن ينتشله، وقال آخرون أنه يحتمي بالبسطاء من عمال "حلوان" وفلاحي "البدرشين" الذين مازالوا يثقون في "أحلام"، إلا أنني كنت أعلم يقيناً أنه طالما لم يزل القلب حياً ينبض فهو قادر على إعادة إنتاج "أحلام" جديدة، لتبحث عني ملتاعةً بنفس قدر لوعتي وأنا أبحث عنها..... "وقد يجمع الله الشتيتين بعدما... يظنان كل الظن ألا تلاقيا"!!.
*****


نـاولــة
 
(1)
يتسم شارع "الهرم" بكثافة سكانية عالية يصاحبها احتقان مروري دائم على امتداد طوله البالغ عشرة كيلو مترات، ليس فقط لكونه يصل العاصمة بغرب البلاد وبجنوبها ولكن أيضاً لما يحويه من مزارات تفتح أبوابها على مدار الساعة للزبائن المصريين والعرب والأجانب الراغبين في السياحة الأثرية أو الترفيهية. وعند منتصف الشارع تقع المنطقة التي مازالت تحمل اسم كازينو "الأريزونا" رغم إزالته منذ ربع قرن في إطار المد الأصولي الرافض للسياحة، حيث حل محله مشروع إسكاني تم تصميمه هندسياً على شكل مربع ذو ثلاثة أضلاع مغلقة بينما ضلعه الرابع هو الوحيد المفتوح، ليصل بين الشارع ومداخل عدة أبراج متشابهة ومتلاصقة تحوي في مجموعها ما يقارب الألف شقة سكنية من النوع الفاخر، يتم استثمار معظمها بالتأجير المفروش للسائحين الباحثين عن الترفيه أو للمصريين العاملين في مجال السياحة الترفيهية، مما يجعل الحصول على وظيفة بواب لأحد أبراج المشروع فرصة ذهبية يتصارع عليها النازحون من مختلف الأقاليم الجغرافية بحثاً عن عمل في القاهرة الكبرى، لاسيما وأن البواب يحصل على سكن مجاني مكتمل المرافق له ولأسرته وراتب شهري ثابت من صندوق اتحاد الملاك، إلى جانب ما يمنحه إياه كل ساكن على حدة كإكرامية مع مطلع كل شهر كما يحصل على أجور إضافية لغسيله السيارات، إلا أن الأهم هو ما يتحصل عليه من عوائد وعمولات واقتطاعات مقابل قيامه بالوساطة في التأجير المفروش ومستلزماته من مختلف الخدمات المتنوعة المصاحبة للسياحة الترفيهية!!.
أخذ صراع البوابين على الوظائف شكلاً إقليمياً بمجرد اكتمال تشطيب أبراج "الأريزونا"، مع سعي كل بواب لإحضار أحد أقاربه أو أبناء بلدته الأصلية لشغل أي وظيفة حراسة أو نظافة خالية في المشروع تمهيداً لترشيحه كبواب مقيم، وذلك حرصاً على تدعيم "العزوة القبلية" في مواجهة أقرانه، إلى جانب اطمئنانه لأن الوافد الجديد سوف يتستر على ممارساته بما فيها العمولة التي قام بتحصيلها منه كشرط مسبق لتوظيفه. وبمضي الزمن أسفر الصراع الإقليمي عن ظهور تكتلين متساويين للبوابين، أحدهما يضم أبناء محافظة "الفيوم" الوافدين عبر المدخل الجنوبي لشارع الهرم والآخر يضم أبناء محافظة "البحيرة" الوافدين عبر المدخل الغربي!!.
(2)
حاول البوابون من أبناء التكتلين الإقليميين لمحافظتي الفيوم والبحيرة إظهار الانسجام فيها بينهم أمام السكان دون جدوى، نظراً لأن أي احتكاك كان كفيلاً بكشف حقيقة تربص كل تكتل بالآخر لاسيما عند وقوع تجاوز لحدود مناطق النفوذ فيما يتعلق بالوساطة لتأجير المفروش ومستلزماته، الأمر الذي حدث صباح أحد الأيام الشتوية في أواخر العقد الأول للقرن الواحد والعشرين، فأسفر عن معركة حامية استخدم فيها الفريقان عدة أسلحة بدائية كالعصي التي ارتفعت في أيدي الرجال والأحجار التي انطلقت من أيدي زوجاتهم، ولم تتوقف الاشتباكات إلا بتدخل أصحاب المحلات التجارية العاملة في المشروع خوفاً على زجاج الواجهات، فأقنعوا طرفي المعركة باللجوء الفوري للتحكيم عبر مجلس عرفي برئاستي، نظراً لأنني أقدم السكان إلى جانب صعوبة الاستخفاف بقراراتي أو الالتفاف عليها بسبب موقعي المهني البارز في مؤسسة سيادية هامة!!.
صعد البوابون المتصارعون "بربطة المعلم" ليدقوا باب شقتي وهم على يقين من وجودي نائماً بداخلها، فسيارتي الخاصة مستقرة في موقعها أمام مدخل البرج ولم تحضر أية سيارة رسمية لاصطحابي، كما أنني لم أطلب بعد من المكتبة المجاورة إرسال الصحف الصباحية اليومية المعتادة.  وإزاء استمرار عدم ردي رغم إلحاحهم في الضغط على كل أزرار الجرس و"الإنتركوم" والهواتف الأرضية والمحمولة، مع استمرار عدم فتح الباب الخشبي رغم قوة قبضاتهم المتعددة التي انهالت عليه، وإزاء رائحة الغاز الكثيفة التي كانت تندفع خارجة من شقتي فقد أدركوا خطورة الموقف وتكاتفوا معاً لتحطيم الباب، ليجدونني مسجياً على ظهري فوق فراشي بدون نطق أو حراك وقد بدت بوضوح علامات الاختناق على وجهي الذي أصبح يميل إلى اللون الأزرق، بسبب تسرب الغاز من كبرى عيون الموقد مع انغلاق كافة منافذ التهوية. وإزاء بقائي على حالي واقعاً في أسر غيبوبة الاختناق رغم قيامهم بإغلاق محبس الغاز وبفتح كل الشبابيك لتجديد الهواء فقد سارع بعضهم لإحضار أقرب طبيب!!.
(3)
كانت الدكتورة "ناولة" وهي الجارة الجديدة التي لم تظهر سوى مؤخراً لتشتري شقتين متجاورتين تطلان على شارع الهرم، واستخدمت إحداهما كمسكن خاص بها وشرعت في تجهيز الأخرى كعيادة طبية منخفضة الرسوم، كانت لم تزل نائمة، ورغم خشية البوابين منها حيث يرونها "عزباء غريبة الأطوار" فقد استجاروا بها لنجدة جارها المصاب، والذي ما أن علمت باسمه حتى أتت مهرولة وهي لم تزل ترتدي ملابس النوم. أفسحت "ناولة" لنفسها مجالاً لتجلس بجواري وطالبت البوابين بمغادرة المكان حفاظاً على نقاوة الهواء، ثم رفعت وجهها إلى السماء للاستعانة بالعناية الإلهية وهي تقسم برحمة جدها الأكبر على أن تتخلص من حياتها إذا فشلت في إنقاذ حياتي، لاسيما وأن وجدانها مازالت تؤرقه مشاعر الندم وتأنيب الضمير بسبب فشلها السابق في الحفاظ على وجودي داخل حياتها، رغم مرور عشرات الأعوام والأشخاص والأحداث التي أضفت بعض الصخب على المحيط الخارجي للحياة دون أن تعلق في الوجدان. استرجعت "ناولة" من ذاكرتها الطبية قواعد الإسعافات الأولية لحالات طوارئ الاختناق، ثم أخذت تستنشق الهواء ملء رئتيها لتضخه في فمي عبر عدة دفقات متواصلة ومتعاقبة من "قبلات الحياة" المبتلة بدمعها الملهوف، كما أخذت تدلك صدري بيمناها تارة وبيسراها تارة أخرى، ليقتحم الهواء جهازي التنفسي ويتخلله ساعياً لطرد الغاز الخانق والحلول محله!!.
في استجابة فورية لعمق أعماق روحي التي هي من أمر ربي تحركت بداخلي حاستا التذوق واللمس مع طعم الشفاه الأنثوية الندية ونعومة الأيدي المنسابة على الصدر الخشن، لتسترجع ذكريات السعادة الغابرة التي كانت قد تركت حفرياتها الغائرة في الوجدان قبل أن يطويها الغياب القهري، وإزاء ثقل غيبوبة الاختناق فقد استعانت أعماق روحي في صراع البقاء بحواس السمع والشم والبصر بداخلي، بأن أيقظتها من سباتها عبر تذكيرها بالعلامات المميزة لتلك السعادة العائدة من قديم الزمان بعد طول غياب وتنبيهها لحتمية المشاركة في استقبالها والاحتفاء بها. وما أن نجحت الروح في إعادة الوعي إلى الحواس الخمس حتى تدفق اللون الأحمر مجدداً ليملأ شرايين الجسد المسجي، والذي أخذ ينشط تدريجياً ويتحرك بشكل غريزي في كل الاتجاهات للاطمئنان على عودة أطرافه المختلفة إلى الحياة بعد أن كانت قد أوشكت على مغادرتها، ثم ما لبث العقل أن انضم لموكب الحركة النشطة فأعاد إضاءة مصابيحه التي سبق أن أطفأتها غيبوبة الاختناق، ليستعيد ترتيب أفكاره ويتذكر بصوت مرتفع وقائع ما حدث منذ البدايات الأولى!!.
(4)
قبل ما يزيد على الثلاثين عاماً حاصرتني الضغوط من كافة الاتجاهات، فرغم عراقة عائلتي وجدتُ نفسي فقيراً لدرجة اعتقادي بأنه لا يوجد من هو أفقر مني بسبب الغلاء الناجم عن التشوه الانفتاحي الذي قادته الرأسمالية الطفيلية آنذاك، ووجدتُ نفسي وحيداً بعد اختفاء كبار عائلتي قهراً إما في غياهب الاعتقال طويل المدى، أو في متاهات المنافي التي هاجروا إليها هرباً من مضايقات وصلت إلى حد قطع الأرزاق على الخلفيات السياسية لمن كان شيوعياً أو قومياً أو ليبرالياً أو أصولياً، كما وجدتُ نفسي مهاناً إزاء تلاحق قرارات التفريط الوطني والقومي في إطار الالتزام بمقتضيات التحالف الجديد مع الولايات المتحدة الأمريكية، والذي أفسد الزهو بانتصاراتنا على أعداء الحياة والحق والحرية في أكتوبر 1973. لكل ذلك فما أن وقعت أحداث يناير1977 حتى اعتبرتُها فرصة لتنفيس ما فاض به جوفي من مرارات، وانضم صراخي إلى صرخات المحتجين الآخرين على أمل أن ينبه الاحتجاج إلى ضرورة إصلاح أحوالنا!!.
فشلت الاحتجاجات بعد إخمادها بقوة السلاح. ولما كان الشيوعيون قد تم تحميلهم المسئولية ليس فقط عن قيادة الاحتجاجات ولكن أيضاً عن فشلها، ولما كان من الطبيعي أن يتراجع الفاشلون عدة خطوات للخلف، فقد حوصر الشيوعيون حتى تم طردهم خارج الخريطة السياسية على أيدي المد الأصولي الذي عاد بقوة جماهيرية كاسحة وبترحيب سلطوي في أعقاب فشل احتجاجات يناير1977. وهكذا اعتكف الشيوعيون وانكمشوا في تنظيمات صغيرة شديدة الانغلاق والسرية، حتى أنها أصبحت مرتعاً لكافة أنواع الفساد والاستبداد وغسيل المخ وسوء استغلال الأقدم لحسن نوايا الأحدث، الأمر الذي جعل من السهل بالنسبة للأكثر تنظيماً على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية أن يخترق التنظيمات الشيوعية الصغيرة من أعلى ومن أسفل. ومع ذلك فقد تم استدراجي داخل أحد تنظيماتهم مدفوعاً بغضبي من مرارات الفقر والقهر والمهانة وبتاريخي العائلي وبسذاجتي الناجمة عن حداثة السن وغياب التوجيه، وسرعان ما وجدتُ نفسي مسئول النشـاط السياسي للتنظيم في الجامعة مما جعلني محط إعجاب زميلاتي الطالبات، لاسيما بنات الطبقة العليا منهن واللواتي كن ينظرن إلى المناضل الشيوعي باعتباره "صاحب دماغ وحركات كده مختلفة عن بقية الأولاد"، ومن بينهن ابنة أحد كبار المسئولين في الدولة والتي كانت تدرس الطب!!.
(5)
تابعتني طالبة الطب "ناولة" كظلي أينما ذهبتُ لتدعم كل أفعالي الصائبة والخاطئة، حتى شعرتُ نحوها بميل عاطفي أخذ ينمو مع تكرار زياراتها لي في الغرفة الحقيرة التي كنت أستأجرها فوق سطوح أحد البيوت المتهالكة المجاورة للجامعة كسكن شخصي ومقر تنظيمي، وعندما قادتنا مشاعرنا الدافئة برفق إلى مطارحة الغرام لم تتردد في دعوتي لفض بكارتها وهي تقسم برحمة جدها الأكبر أنه لن يمسّها أحدٌ سواي حتى آخر العمر، فلما أصبح كل واحد فينا يرى الآخر دائماً في منتصف المسافات بينه وبين كل مفردات الحياة بحلوها ومرها اتخذنا قراراً مشتركاً بالزواج. خاضت هي من جانبها حرباً ضد تسلط والدها وخشيته من اهتزاز موقعه الرسمي تحت وطأة مصاهرته لإحدى العائلات المعروفة بميولها المعارضة والمشاغبة، وخضتُ أنا من جانبي حرباً ضد استبداد قيادة التنظيم وخشيتها من اهتزاز سيطرتها على أفكاري تحت وطأة زواجي بإحدى الفتيات "البورجوازيات"، واتصلت قيادة التنظيم بوالدها ليتفق الطرفان على توجيه ضربة مزدوجة تهدم ما كنا - أنا وناولة- قد شرعنا في بنائه من صرح للسعادة!!.
استصدر والد "ناولة" لنفسه قراراً بالتعيين سفيراً خارج البلاد واصطحب ابنته معه بعد أن حصل على وعد من الأجهزة الأمنية بإدراجي ضمن أقرب قائمة للاعتقال، كما قام بتغطية إحدى الصفقات المريبة لقيادة التنظيم مقابل دفعهم بواحدة من تابعاتهم للإيقاع بي حتى أتزوجها، الأمر الذي حظي بترحيبهم لكونه يضمن لهم بقائي تحت سيطرة التنظيم، ويوفر لهذه التابعة في الوقت ذاته التمويه الاجتماعي اللازم لتنفيذ ما هي مكلفة به من عمليات قذرة لتجنيد المستهدفين الجدد إلى عضوية التنظيم عبر الاستدراج الجنسي. وهنا بدأت إحدى الماهرات التي تكبرني سناً من تابعات التنظيم تمارس فنون الانفراد بي، في نفس الوقت الذي صدر فيه قرار باعتقالي ضمن قوائم تحفظات سبتمبر 1981 الشهيرة، فساعدني التنظيم على الهروب بمنحي أحد مخابئه الريفية الآمنة بشرط عدم اتصالي بالخارج سوى من خلال تابعتهم التي أقامت معي بصفة دائمة، حتى تزوجتُها ليس فقط تتويجاً للأمر الواقع ومنعاً لإثارة فضول الجيران أو غضبهم، ولكن أيضاً لأنني مهدد بتنفيذ قرار الاعتقال في ظل ظروف سياسية أصبح يكتنفها الغموض لاسيما بعد اغتيال رئيس الجمهورية في أكتوبر 1981، مما يتطلب وجود شخص ذي صفة بجواري وحيث يمكن توفير هذه الصفة للسيدة تابعة التنظيم فقط بزواجي منها. وفي اليوم التالي للزواج تعرض المخبأ للمداهمة حيث تم اقتيادي لتنفيذ قرار الاعتقال في سجن "المرج"، فأنهى والد "ناولة" مهمته الخارجية وعاد بصحبة ابنته بعد إبعادي عن طريقها باعتقالي وتزويجي في ضربة واحدة مزدوجة!!.


(6)
كان اسم زوجتي في الأوراق الرسمية يختلف عن الاسم الذي يناديها به أهلها والذي يختلف بدوره عن الاسم الذي تستخدمه داخل التنظيم، وهو غير الأسماء العديدة المستخدمة فيما تنفذه من عمليات تجنيد المستهدفين الجدد، وكانت لجنة السيطرة المركزية قد ألحقتها كمتدربة بإحدى الصحف الموالية للتنظيم مع وعد معلق بتعيينها كضمان للسيطرة عليها ومن خلالها استمرار إخضاعي لسيطرتهم. ونظراً لاحترافهم فنون العمل السري العصابي فقد اضطررتُ لبذل الكثير من الجهد على مدى زمني طويل حتى اكتشفتُ ألاعيبهم فحسمتُ موقفي بضرورة طلاق الزوجة والتنظيم معاً، إلا أنها كانت حاملاً في الأسابيع الأولى مما يستدعي إسقاط الجنين، كما كانت قد حصلت خلال وجودي رهن الاعتقال على توكيل مني لقبض أموال مستحقة مقابل نشر بعض كتبي فاستثمرت أموالي في شراء شقة باسمها مما يستدعي استردادها. وإزاء حرصي على توضيح ألاعيب التنظيم للرأي العام منعاً لتكرارها مع أبرياء آخرين فقد عرضتُ ما أنويه على أحد المسئولين لاستشارته، فقام بإبلاغ والد "ناولة" الذي سارع من جانبه في امتداد لاتفاقه السابق مع قيادة التنظيم بتسريب نواياي إليهم ليبادروا هم بالضربة الأولى ضدي!!.
وصلني تكليف عاجل بمهمة تنظيمية سرية لتسوية نزاع داخل إحدى خلايا فرع التنظيم بالإسكندرية باعتبارها بلدتي الأصلية، الأمر الذي تطلب إقامتي هناك عدة أيام، فلما عدتُ بعد ذلك إلى منزلي بالقاهرة وجدتُ كالون باب شقتي المسجلة باسم زوجتي قد تم تغييره، بعد أن قامت لجنة السيطرة المركزية باصطحابها وكل ما في المنزل من أثاث وأجهزة وملابس وأوراق، ليضعوها تحت وصايتهم من أجل الضغط والمساومة بهدف إخضاعي للقبول باستمرار الأمر الواقع بدون شوشرة، فنفذتُ على الفور قراري بطلاق الزوجة والتنظيم معاً مضحياً بكل شئ بما في ذلك رغبتي في كشف ألاعيبهم أمام الرأي العام، وإن أصابني التردد بشأن التصرف الأكثر حكمة لقطع الشك باليقين فيما يخص الجنين الذي اعتبرته في كل الأحوال مجنياً عليه مثلي!!.
(7)
أصيبت "ناولة" باكتئاب نفسي حاد دفعها إلى هاوية الإدمان الذي زين لها أن تدس السم في طعام أكلته مع أبيها فمات الرجل وعولجت هي، ليتم إيداعها في إحدى المصحات النفسية تحت علاج الاكتئاب والإدمان وهاجس الانتقام الدموي ممن أفسدوا سعادتها. أما أنا فكنت قد التحقتُ بالعمل المهني في مؤسسة سيادية هامة وصعدتُ على سلمها الوظيفي حتى وصلتُ إلى أحد المواقع البارزة، كما كنت قد أصدرتُ عدة كتب تتعلق بالشأن السياسي المحلي مما حقق لي القليل من الشهرة والثروة مع الكثير من غضب أولئك الذين كشفت كتبي عوراتهم، فاستخدم كل غاضب أدواته لمعاقبتي والنيل مني دون أن يصل الغضب إلى حد الثأر الجسدي، حتى كان يوم من أيام الجمعة الذي يوافق الإجازة الأسبوعية المقدسة للمصريين، عندما تلقيتُ اتصالاً هاتفياً من أحد المسئولين يبلغني فيه بأن لديه أخباراً سارة ويدعوني إلى زيارته فوراً بمكتبه الواقع على الطريق السريع، والذي ما أن دخلتُه حتى وقعتُ في مصيدة عربات نقل ثقيل انتهت بتحطيم عظامي وفرم لحمي الحي داخل سيارتي الصغيرة!!.
أرادت العناية الإلهية ألا أموت، فاتصلتُ بالشرطة فى محاولة للاستعانة بها من أجل حفظ حقوقي المستقبلية تجاه سائقي عربات النقل الثقيل ومحرضيهم، عبر تقديمي بلاغاً يتضمن شكوى ضد السائقين، بهدف إثبات الواقعة وتسجيل بياناتهم رسمياً سواء في دفتر أحوال شرطة النجدة أو في دفتر أحوال قسم الشرطة، إلا أنه بعد التشاور الهاتفي مع الجهات الأمنية المعنية ظهرت عدة عراقيل بيروقراطية أفشلت محاولتي. وإزاء تصاعد العراقيل واتساع نطاقها أصبح استمراري في محاولة حفظ حقوقي نوعاً من الانتحار، فلم يكن أمامي سوى التنازل عن بلاغي وتصالحي مع المشكو في حقهم واعتذاري عما سببتُه لضباط النجدة والقسم من إزعاج، ثم اتجهتُ بمعرفتي إلى أقرب مستشفى للإبقاء على حياتي التي كانت قد بدأت تتسرب مني. هويتُ على الأرض بمجرد دخولي المستشفى فاقداً للوعي من فرط ما نزفتُه من دماء، فقامت إدارة المستشفى بتفتيشي حيث استخرجت من محفظتي مبلغاً مالياً ضخماً تم إيداعه في الأمانات إلى جانب بطاقة الائتمان البنكي والتي طمأنتهم لوجود أرصدة مالية كافية لسداد فواتير العلاج، والبطاقة القديمة لإثبات شخصيتي حيث كنت قد تركتُ بطاقتي الجديدة في قسم الشرطة لاستيفاء إجراءات تقفيل المحضر بتوجيه الاتهام ضد "مجهولين"، وبعد الفحص قرر الأطباء احتجازي بالمستشفى لإجراء عدة عمليات جراحية كبرى في عمودي الفقري الذي أصابه الكسر مجدداً، بعد أن كان قد سبق كسره في مصيدة شبيهة تم إيقاعي داخلها أثناء تأديتي لواجبي الوطني كدبلوماسي مصري بالسودان!!.


(8)
توقفت أنفاسي عدة مرات ولفترات زمنية طويلة مع انقطاع متعدد لنبض القلب خلال العمليات الجراحية المتتالية، مما رجحت معه إدارة المستشفى وفاتي الأمر الذي يستلزم حضور أحد الأقارب لتوقيع الأوراق واستلام الجثمان، وحسب ما هو مدون في بطاقتي القديمة التي بحوزتهم فقد أرسلت الإدارة أحد السعاة إلى عنوان شقتي الأولى التي كانت زوجتي السابقة قد استولت عليها بعد تسجيلها باسمها. وسرعان ما حضر إلى المستشفى "ابني" الذي لم أكن قد رأيته من قبل ليضع يده على "التركة" تنفيذاً لتوجيهات أمه التي كانت تنتظره في الخارج، وذلك باعتباره الوريث الوحيد لأبيه المتوفي، وما أن فوجئا بي حياً حتى اختفت الأم وبقي هو ليبلغني بغضبه الشديد منها وبرغبته في إكمال حياته معي وعدم العودة إليها، نظراً لمحاولتها المرفوضة من جانبه أن تستخدمه حتى تضع يدها على تركتي باعتبارها الوصية القانونية عليه بعد وفاتي. طلبتُ من إدارة المستشفى نقلي إلى جناح فندقي يتسع لإقامته معي، كما طلبتُ الكتب المتعلقة بتربية الأولاد المراهقين ورعايتهم فقد وجدتُه يعاني توتراً عصبياً ملحوظاً وهو لم يزل في السادسة عشرة من عمره!!.
بعد أن أمضيتُ ثلاثة أشهر في المستشفى عدتُ إلى منزلي بصحبة "ابني" الذي اعتبرتُه سندي في تلك المرحلة الحرجة، كما استأجرتُ ممرضة محترفة لترافقني طوال اليوم. وفي الوقت الذي كان هو يبحث فيه لنفسه عن مفردات التسلية وعناصر الترفيه، كانت الممرضة تساعدني على معاودة الحركة، باستخدام قفص حديدي محيط بعمودي الفقري مع عكازات رباعية في البداية استبدلناها بعد ذلك بعكازات ثنائية ثم أحادية مع لف رباط ضاغط بدل القفص الحديدي، حتى تمكنتُ تدريجياً وبمساعدة الممرضة من استعادة قدراتي الحركية شبه الاعتيادية بدون احتياج لأية أجهزة تعويضية، وإزاء رغبتها في أن تغادرني مشكورة إلى حيث يحتاج إليها غيري من المرضى أو المصابين، فقد اضطررتُ للاستغناء أيضاً عن المساندات البشرية المتمثلة في يديها الحانيتين، ومنحتُها مبلغاً مالياً ضخماً كمكافأة طبيعية لنهاية خدمتها المضنية معي!!.
(9)
التمستُ العذر لانشغال "ابني" عني خلال مجهوداتي الشاقة لتجاوز الإعاقة باعتبار ذلك من سمات مرحلة المراهقة، كما أنني لم أتبين حينذاك أن غضبه من أطماع أمه غير المستحقة في تركة أبيه كان دفاعاً عن أطماعه هو الشخصية في الاستيلاء على هذه التركة، فهو يرفض أن يكون مجرد أداة لتمويل أمه رغبة منه في الحصول لنفسه على النصيب الأكبر من أموالي، مع منحه بعض "الفكة" لأمه التي استمر يلتقيها بشكل منتظم مخفياً ذلك عني رغم تكرار مطالبتي إياه بصلة الرحم معها، إلا أنه التزم على مدى خمسة أعوام أمضاها في كنفي بالسرية التامة فيما يتعلق ليس فقط بلقاءاته مع أمه، ولكن أيضاً بإحصائه لأموالي والتخطيط لكيفية تسييل أملاكي ثم تحويل هذه وتلك إلى دولارات يهاجر بها للولايات المتحدة الأمريكية. وكان لزاماً عليه انتظار تلك الأعوام الخمسة حتى بلوغه العام الواحد والعشرين من عمره ليصبح راشداً من الناحية القانونية فيمكنه تنفيذ الخطة المتفق عليها بينه وبين أمه، ومن خلفها التنظيم السري العصابي الذي أصبح بدوره مجرد واجهة لمن خلفه!!.
لما كان يومنا هذا هو أحد أيام الأسبوع التالي لبلوغه سن الرشد القانوني، فقد نهض "ابني" صباح اليوم مبكراً وتناول إفطاره وحلوياته وشرب شاياً بالحليب كما أشعل لنفسه لفافة تبغ، وقام على غير عادته بغسل جميع الصحون والأكواب التي استخدمها. ثم أحكم إغلاق كافة منافذ التهوية في المنزل، واتجه صوب محبس الغاز الخاص بكبرى عيون الموقد ففتحه على آخره وأنا لم أزل نائماً، ثم غادر مسرعاً وهو يحمل حقيبته التي كان قد وضع في داخلها كل ما هو ثمين بالنسبة له!!.
(10)
لم تفارقني "ناولة" طوال اليوم حيث أجرت عدة اتصالات هاتفية ترتب عليها إحضار اسطوانة أوكسجين وبعض الأدوية والعصائر وحضور مدير النيابة، الذي طالبني بتسجيل أقوالي وتوجيه الاتهام بمحاولة قتلي في محضر رسمي، إلا أنني رفضتُ طلبه مدعياً أن ما سبق أن تفوهتُ به ربما يكون كابوساً غير واقعي داهمني أثناء الغيبوبة، رغم استدعائه للبوابين الذين أفادوا بوقائع تفصيلية اكتملت معها الصورة... فابني الذي يفترض فيه أن يكون سندي قد غادر المنزل في الصباح الباكر مسرعاً ومتوتراً، ليلتقي عند إحدى النواصي القريبة بأمه التي اصطحبته معها داخل سيارة سوداء بدون أرقام كان على متنها طاقم من الأشخاص الذين يرتدون البدلات الرسمية والنظارات السوداء، وقد أعادوه معهم عند العصر على مظنة مسبقة بحتمية إغلاق ملف وفاتي، بدعوى أنها قد نجمت عن حادث قدري مفاده نسياني لإغلاق محبس الغاز بعد استعمالي لكبرى عيون الموقد في أي غرض يخصني، فلما علم من البوابين أنني مازلت على قيد الحياة ازداد توتره وعاد أدراجه بجوار أمه في نفس السيارة السوداء مع ذات الطاقم الرسمي الأسود. واضاف مدير النيابة أن ما لديه من تحريات أولية يفيد بسفره إلى سيناء استعداداً لعبوره الحدود "سلكاوي"، بهدف الهروب في حالة تلقيه ما ينبئ بأنني قد وجهتُ إليه أصابع الاتهام!!.
أدركتُ أن الخطر لم يعد قاصراً على الأطماع الإجرامية لصبي مشوش ومسلوب الإرادة بفعل غسيل المخ، بل أنه يتجاوز ذلك كثيراً ليصل إلى حد وقوع الصبي تحت طائلة التصفية الجسدية من قبل "شركائه"، نظراً لانفرادهم به في الدروب المجهولة لصحراء سيناء القاحلة المهجورة، مما يعني أنهم سوف يتخلصون منه بمجرد اتهامي له بمحاولة قتلي وقبل سيطرة العدالة على أمره، تحاشياً لما قد تجره اعترافاته من بعثرة معلومات يصعب عليهم لملمتها. كما أدركتُ أن أمه في ظل استمرار خضوعها لغسيل المخ العصابي قد لا تأبه كثيراً لمصرعه، سواء اعتبرته من جانبها شهيداً أو مجرد أداة فاشلة للثأر من العدو حسب الإخراج الفني لعملية التصفية الجسدية. أما الجناة الحقيقيين المتمثلين في قادة التنظيم السري ومن يتسترون خلفهم فلن تستطيع يد العدالة معاقبتهم لأنهم "أذكياء" بحيث لا يتركون خلفهم ما يدينهم من الأدلة، ليظلوا كما هم بعد كل عملية طلقاء يعيثون في الأرض فساداً. فاستمر تمسكي بموقف الامتناع عن توجيه الاتهام. وما أن انفردتُ بنفسي ليلاً بعد مغادرة الجميع حتى أدرتُ مؤشر المذياع، الذي كان يردد قوله تعالى "إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم"... صدق الله العظيم.
طارق المهدوي
 
 
 
 


فهرس الأوراق
 
الأولــــى : سوسن ................................................................... 3
الثانيــــة : دلال ...................................................................... 7
الثالثــــة : تيسير .................................................................... 18
الرابعــــة : رابحة ..................................................................... 24
الخامســـة : إيزيس ................................................................. 32
السادســـة : فاطمة .................................................................. 40
السابعــــة : سهام.................................................................... 51
الثامنــــة : عايدة .................................................................... 61
التاسعــــة : دنيا ...................................................................... 69
العاشــــرة : دولت..................................................................... 82
الحادية عشرة : أحلام .............................................................. 91
الأخيــــرة : ناولة ..................................................................... 97
 


 
 

 
 
 
 
 
·        مؤلف الكتاب وصاحب دفتر الأوجاع المستشار الإعلامي طارق المهدوي.
·        عمل في السابق كدبلوماسي بعدة سفارات مصرية في الخارج, وكصحفي مسئول عن بعض المطبوعات المتنوعة.
·        صدرت له عدة نصوص أدبية ودراسات سياسية أهمها:-
  -  اللون الأسود, مجموعة قصصية, الهيئة المصرية العامة للكتاب, القاهرة, 1991.
  - بعض الذي عملوا, مجموعة قصصية, الهيئة المصرية العامة للكتاب, القاهرة, 2008.
 - الإخوان المسلمون على مذبح المناورة, دار آزال, بيروت, 1986.
 - أوراق مهملة في المسألة المصرية, دار آزال, بيروت, 1987.
 - مصر بين الاستبداد الفرعوني والعولمة الأمريكية, دار الثقافة الجديدة, القاهرة, 2000.
 - انهيار الدولة المعاصرة في مصر, دار العالم الثالث, القاهرة, 2006.
 
 
 


يمكن استخدام هذه الصفحة كغلاف خلفي للكتاب أو كصفحة داخلية أخيرة بدون عنوان.
 

 



#طارق_المهدوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المدينة بين زلزالين
- عشرات السنتيمترات
- دعاء جدتي ضد الظالمين
- معلهش إحنا بنتبهدل
- عالجوهم أو اعزلوهم
- أشعار نازفة وشعارات ناسفة
- فوبيا العداء للجنس في الأذهان الفاشية
- صديقي المحارب الأممي كارلوس
- أخلاقنا وأخلاقهم
- استدراج الملحدين في أكمنة الدولة المصرية
- الغياب المتبادل بين الفن والجماهير (4) التذوق
- الغياب المتبادل بين الفن والجماهير (3) الوعي
- الغياب المتبادل بين الفن والجماهير (2) التطبيق
- الغياب المتبادل بين الفن والجماهير (1) الإبداع
- من سجلات الفاشية العسكرية في زمن العولمة
- من سجلات الفاشية العسكرية في زمن المكارثية
- يا نجاتي...فرقع البلالين
- ليس فقط لأنهم كاذبون محترفون
- سبع أرواح
- محلك سر


المزيد.....




- -انتهاك صارخ للعمل الإنساني-.. تشييع 7 مُسعفين لبنانيين قضوا ...
- لماذا كان تسوس الأسنان -نادرا- بين البشر قبل آلاف السنوات؟
- ملك بريطانيا يغيب عن قداس خميس العهد، ويدعو لمد -يد الصداقة- ...
- أجريت لمدة 85 عاما - دراسة لهارفارد تكشف أهم أسباب الحياة ال ...
- سائحة إنجليزية تعود إلى مصر تقديرا لسائق حنطور أثار إعجابها ...
- مصر.. 5 حرائق ضخمة في مارس فهل ثمة رابط بينها؟.. جدل في مو ...
- مليار وجبة تُهدر يوميا في أنحاء العالم فأي الدول تكافح هذه ا ...
- علاء مبارك يهاجم كوشنر:- فاكر مصر أرض أبوه-
- إصابات في اقتحام قوات الاحتلال بلدات بالضفة الغربية
- مصافي عدن.. تعطيل متعمد لصالح مافيا المشتقات النفطية


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - طارق المهدوي - أوراق من دفتر الأوجاع