أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سعيد العليمى - طابع ونطاق المادية التاريخية - جورج لارين ( مقتطف )















المزيد.....


طابع ونطاق المادية التاريخية - جورج لارين ( مقتطف )


سعيد العليمى

الحوار المتمدن-العدد: 5116 - 2016 / 3 / 28 - 17:54
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


طابع ونطاق المادية التاريخية
ترجمة : سعيد العليمى
يؤدى مفهوم الممارسة إلى نتيجتين هامتين بالنسبة للمادية التاريخية، فهو أولا، يحدد الطبيعة النظرية للمادية التاريخية والطابع التاريخى لموضوعها. وهو ثانيا، يحدد الدور الحاسم للانتاج المادى وخاصة لنمط الانتاج الرأسمالى من أجل فهم التاريخ. والمادية التاريخية تؤكد فى المحل الأول على الرابطة بين النظرية والتاريخ. ولكن ذلك لا يعنى أنها تدور حول كتابة التاريخ بمعنى سرد للأحداث الماضية. فالتأريخ مختلف عن التاريخ. فبينما يُعنى التأريخ بتفسير الأحداث الماضية وكتابتها، يعنى التاريخ بالعملية الكونية الشاملة التى يبنى البشر بها عمليا حياتهم، وهو يتضمن ليس الماضى فقط وإنما أيضا الحاضر والمستقبل. فالمادية التاريخية معنية بالتأكيد بفهم الماضى، لكن ليس بالضرورة عن طريق سرد الأحداث التاريخية فى خصوصيتها، إذ هى تتعلق فوق كل شئ بفهم الحاضر من أجل تغييره وهكذا تشكل المستقبل. وعلى ذلك فليست المادية التاريخية نظرية منفصلة عن التاريخ (ألتوسير وباليبار، 1975،ص 105،هيندس وهيرست، 1975، ص 317). وليس التأريخ منفصلا عن النظرية (تومبسون، 1978، ص ص ،223 ، 236).

حين أقول أن المادية التاريخية هى نظرية عن التاريخ أعنى أنها محاولة لتطوير مقولات يمكن أن تطبق لفهم التشكيلات الاجتماعية ضمن نطاق التاريخ. ليست المادية التاريخية بالتأكيد فلسفة عامة أو تقييما مفارقا للمسار الضرورى للتاريخ ولكنها معنية بالتاريخ بمعنى أنها تنشئ المفاهيم الضرورية لجعل العمليات التاريخية قابلة لأن تعقل . وهذا يعنى أن المادية التاريخية ككل النظريات تستخدم التجريد لتشكيل مفاهيمها. ولكن هذه العملية التجريدية ليست منفصلة عن مستوى الملاحظة، حيث يجب أن تتم فى توافق معها (أنظر ويللر، وكذلك ويللر، 1973، ص 20).
وبينما نجد أن تومبسون محق حين يجادل ضد ألتوسير بأن المادية التاريخية ليست فلسفة مستقلة أو نظرية منفصلة عن التاريخ (1978، ص 236). لا يبدو مع ذلك أنه يدرك أن المادية التاريخية كنظرية لا يمكن أن تنشأ ببساطة من ملاحظة الأحداث التاريخية بواسطة عملية تعميم. إذ تتطلب المادية التاريخية كنظرية مفاهيم مجردة، ليس بمعنى توحيد تعميمات مشتقة من مجموعات مختلفة من الملاحظات ولكن بمعنى تأسيس فرضيات غير قابلة للملاحظة المباشرة مرتبطة الواحدة منها بالأخرى من أجل تفسير الظواهر التاريخية القابلة للملاحظة. إذ لا يمكن للملاحظة الخاصة عن تعاقب الأحداث التاريخية أن تولد من ذاتها مفاهيم مجردة مثل قوى الانتاج، وعلاقات الانتاج، والطبقة، وفائض القيمة وارتباطاتها الداخلية. وإن كان ذلك لا يعنى أن هذه المفاهيم وعلاقاتها النظرية قد نشأت بمعزل عن الأحداث التاريخية، كما يؤكد هيندس وهيرست (1975، ص ص 310، 312، 317)، فمثل هذه المفاهيم يجب أن تتوافق مع الملاحظات التجريبية ، ولكنها ليست مجرد نتيجة لها. لذلك لا تستغرق المادية التاريخية فى التأريخ ولا يمكن لنا أن نتصور الأولى كنتاج مباشر للأخير.
*مقتطف من كتاب اعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين - الناشر ألن & أونوين -1986 - لندن - المملكة المتحدة
ويمكن أن يجادل بأن وضع "النظريات العامة" مشكوك فيه وأن ماركس نفسه رفض دراسة المقولات العامة مثل "الانتاج بشكل عام" أو "العمل بشكل عام". وعلى سبيل المثال، فهو يؤكد بأننا "حينما نتحدث عن الانتاج، حينئذ، فالمقصود دائما هو الانتاج فى مرحلة محددة من التطور الاجتماعى" (مقدمة، الجروندريسه، ص 85). وحين يشير إلى العناصر العامة لعملية العمل يصر ماركس على أنه "مثلما لا يدلك مذاق العصيدة على من زرع الشوفان، لا تدلك هذه العملية البسيطة من نفسها عن ماهى الظروف الاجتماعية التى جرت فى ظلها" (رأس المال، المجلد الأول، ص 179). ويمكن أن نستنتج من ذلك كما يفعل بولانتزاس، أن صياغة نظرية عامة عن الاقتصاد أو الدولة أو البنى الفوقية مسألة مستحيلة لأن موضوعاتها النظرية ليست ثابتة. فما هو ممكن ومشروع هو نظرية عن الاقتصاد الرأسمالى أو الاقتصاد الاقطاعى ولكن ليس نظرية عامة (بولانتزاس، 1987، ص ص 17-24). لكن بولانتزاس لا يطور نتائج هذا الموقف بالنسبة للمادية التاريخية ويقتصر على القول بان واحدة من سمات جدارة الماركسية هى أنها رفضت "النظريات العامة المجردة، الغامضة، الضبابية، التى تتظاهر بأنها تكشف الأسرار الكبرى للتاريخ، والسياسة، والدولة والسلطة" (ص 22).
يبدو لى أن هذا النوع من الجدال يتضمن تشوشا. إذ يبدو من الضرورى التمييز بين عمومية النظرية وبين عمومية موضوع هذه النظرية، حيث الموضوع هنا يجرى تجريده من التحديدات التاريخية النوعية. فأن نتحدث عن "نظرية عامة للمجتمع" ليس نفس الشئ عندما نتحدث عن "نظرية للمجتمع بصفة عامة"، فماركس لم يكن لينكر أبدا الطابع النظرى العام للمادية التاريخية ولكنه كان سيرفض مفهوما للمادية التاريخية كنظرية عن المجتمع بصفة عامة. أضف إلى ذلك، أنه يمكن فقط لنظرة عامة عن المادية التاريخية أن تقترح فكرة أننا لا يمكن أن ندرس الانتاج، أو العمل أو المجتمع بصفة عامة، بدون الرجوع إلى تحديدات تاريخية نوعية. فالوضع النظرى العام للمادية التاريخية له صلة بطابع التجريد العلمى وتطوير المفاهيم غير القابلة للملاحظة من أجل فهم مجتمعات تاريخية نوعية. وما يتعين أن يرفض ليس هذا الطابع النظرى العام الضرورى وإنما اختزال موضوعة إلى مقولة عامة. فنتيجة مثل هذا الاختزال هى المحاولة الخاطئة لاشتقاق العينى الخاص من المجرد العام واستبدال تقييم منطقى مافوق تاريخى بالتحليل التاريخى.
بالطبع، لا ينكر ماركس أن كل المجتمعات، كل أحقاب الانتاج والعمل، بينها عناصر معينة مشتركة ومن ثم فإن المفاهيم العامة للعمل، الانتاج أو المجتمع، باعتبارها "تجريدات عقلانية، مفيدة لأنها تثبت المظاهر العامة وتجنبنا التكرار" (مقدمة، الجروندريسه، ص 85). ولكن من أجل فهم نوعية كل شكل من المجتمع يؤكد ماركس أولوية هذه التحديدات التى ليست مشتركة. إذ لا يمكن لنا أن نفهم مرحلة تاريخية خاصة للمجتمع باستنباطها من مفهوم المجتمع بصفة عامة كما لو كانت الأولى مجرد تركيب منطقى نوعى من العناصر الثابتة الكامنة فى الأخير، كما يعرض ذلك ماركس: "هناك سمات تشترك فيها كافة مراحل الانتاج، وتؤسس باعتبارها (سمات) عامة بواسطة الذهن، ولكن ما يسمى بالشروط العامة المسبقة لكل انتاج ليست أكثر من تلك اللحظات المجردة التى لا يمكن لمرحلة تاريخية واقعية من الانتاج أن تفهم بها (مقدمة، الجروندريسه، ص 88). وبالاضافة لهذه المفاهيم العامة التى تغطى عناصر مشتركة بالنسبة لكل الأحقاب يجب أن تكون لدينا مفاهيم مجردة أخرى ترصد العناصر التى ليست عامة أو مشتركة. من ثم فإنه من الممكن تأكيد أنه ليس هناك تناقض بين الطابع النظرى العام للمادية التاريخية والطابع التاريخى لموضوعها.
لقد سبق لى أن أكدت الرابطة بين المادية التاريخية والتاريخ، مفهوما ليس بمعنى التأريخ وإنما بمعنى العملية التى ينتج بها البشر عمليا شروط حياتهم المادية. هذا هو مايسميه ماركس وانجلز "المقدمة الأولى لكل التاريخ الانسانى"، أى، حقيقة أن البشر ينتجون حياتهم المادية بواسطة نشاطهم و "يميزون أنفسهم عن الحيوانات بمجرد أن يبدأوا فى انتاج وسائل معيشتهم" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 31). يؤكد ماركس وانجلز بهذه الطريقة الأهمية الحاسمة للانتاج من أجل فهم التاريخ. هكذا يبدأ ماركس مقدمة عام 1857 بقوله أن: "الموضوع المطروح أمامنا، فى بادئ الأمر، هو الانتاج المادى" (الجروندريسه، ص 83). مع ذلك تمضى مقدمة 1857 أبعد من الأيديولجيا الألمانية فى أنها تقدم مسألتين منهجيتين هامتين بالنسبة لكيف ينبغى أن يدرس الانتاج. الأولى والتى سبق ذكرها، لها صلة بفكرة أن المادية التاريخية لا يمكن أن تبدأ من مفهوم الانتاج بصفة عامة ولكنها يجب أن تتناول الانتاج "فى شكل تاريخى معين" (نظريات فائض القيمة، المجلد الأول، ص 285). المسألة الثانية توضح الأولى ولها صلة بفكرة أن المادية التاريخية لا يمكن أن تبدأ من أشد نظم الانتاج بدائية وإنما يجب أن تحلل أولا أكثرها تقدما حتى تكون قادرة على فهم الأولى.
فيما يتعلق بالمسألة الأولى، يقدم ماركس مفهوم نمط الانتاج باعتباره المقولة الأساسية فى تحليل الانتاج فى شكل تاريخى. لكنه لسوء الحظ لا يحدده بدقة، ولايوضح علاقته بمجتمعات تاريخية نوعية. على أنه يكاد يوجد تعريف لنمط الانتاج فى الجروندريسه حين يتحدث ماركس عن : "نمط انتاج نوعى.. يظهر فى آن معا كعلاقة بين الأفراد، وكعلاقة نشطة نوعية بينهم وبين الطبيعة غير العضوية، نمط نوعى للعمل (الجروندريسه، ص 495). فمثل هذا القول يوحى بأن الكتابات، التى تصف نمط الانتاج باعتباره تركيبا من قوى الانتاج وعلاقات الانتاج هى كتابات صائبة (لانج، 1974، ص 17، ميلوتى، 1982، ص 3، لاكلاو، 1969،ص 282 ، 1977،ص 34). ومن الهام أن نفهم الطبيعة التجريدية لهذا المفهوم. كما طرحه لاكلاو، حيث يرى أن نمط الانتاج "ليس مرحلة من التطور التاريخى العينى. وليس هناك، من ثم، تحولا تاريخيا يمكن أن يفسر على وجه حصرى بكشف المنطق الداخلى لنمط انتاج محدد" (لاكلاو، 1977،ص 42). وتحتوى المجتمعات التاريخية أو "التشكيلات الاجتماعية" عادة على عدة أنماط انتاج، واحد منها مهيمن . (يلاحظ أننى لا أتبع هنا الفكرة اللينينية عن التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية كحقبة أو فترة تاريخية، وإنما أفهمها كمجتمع تاريخى عينى). وتجرى التغيرات التاريخية فى تشكيلات اجتماعية معينة وتفسر بمساعدة مفهوم نمط الانتاج. ولكن تلك التغيرات لا تستنبط ببساطة من المنطق الاقتصادى لأى نمط محدد للانتاج (برتراند، 1979، ص ص 56-7).

ويلاحظ أن ماركس لم يوضح أبدا هذه العلاقة بطريقة مرضية. وقد كان مخطئا فعلا فى بعض المناسبات حين خلط بين المستويين: الأمر الذى يجعلنا نذهب أحيانا إلى الاعتقاد أن منطق نمط الانتاج يكفى لفهم كيف ومتى يتغير أو يتطور نمط الانتاج هذا . ومع ذلك فإن تحليل تحولات نمط الانتاج يمكن أن تتم فقط على مستوى التشكيلة الاجتماعية. لذلك لا يمكن للتاريخ أن يتصور كتعاقب ضرورى لأنماط الانتاج. هذه الطريقة فى الفهم لها نتائج هامة بالنسبة للمادية التاريخية والتحليل التاريخى. فعلى سبيل المثال، على المستوى التجريدى يفترض فى نمط الانتاج الرأسمالى أن يتمخض عن زيادة هائلة فى قوى الإنتاج . ولكن فى الوضع العينى لتشكيلة إجتماعية تاريخية يمكن لنمط الإنتاج الرأسمالى أن يستنفذ طاقته الكامنة فى مرحلة مبكرة للغاية، نتيجة لتمفصله مع أنماط انتاج أخرى وظروف تاريخية نوعية مثل الإمبريالية. لذا كان على ماركس وانجلز أن يدركا أنه فى حالة أيرلندا فإن الإمبريالية البريطانية قد "دمرت الحياة الصناعية"، وأعاقت تطورها، على خلاف الموقف الذى اتخذاه قبل ذلك فيما يتعلق بالهند والصين. وثمة حالة أخرى لها صلة بالموضوع هى الرأسمالية التابعة للبلدان غير المتطورة المعاصرة. وهكذا، وبغض النظر عن مشاكل أخرى، فإن فكرة ماركس بإنه لا يتحلل نظام اجتماعى قبل أن تتطور قوى انتاجية تماما، لا يمكن أن تطبق على مستوى نمط الانتاج ولكنها تصبح معقولة ضمن الظروف التاريخية النوعية لتشكيلة اجتماعية، ذات ترتيب نوعى لأنماط انتاج وعلاقات دولية معينة. وقد يفسر هذا جزئيا لم نجحت الثورات الاشتراكية حيث كان نمط الانتاج الرأسمالى معاقا بانماط انتاج ماقبل رأسمالية مرنة أو معاقا بالحكم الاستعمارى. ولكن، رغم أن هذا قد يكون معقولا أكثر من الموقف التقليدى الذى يحيل القول الفصل لنمط الانتاج، ماتزال هناك مشكلة مع فكرة أن التغير الاجتماعى أو الثورات الاشتراكية يسببها تطور أو استنفاذ القوى الانتاجية.
وفيما يتعلق بالمسألة الثانية، يقدم ماركس فكرة أن المادية التاريخية يجب أن تبدأ بدراسة الانتاج الراسمالى، الذى سوف يقدم مفتاحا لفهم أنظمة الانتاج الباكرة :
إن المجتمع البورجوازى هو التنظيم التاريخى للانتاج الأكثر تطورا وتعقيدا. والمقولات التى تعبر عن علاقاته، وادراك بنيته، تتيح أيضا التبصر بواسطتها فى بنية وعلاقات انتاج كل التشكيلات الاجتماعية المنقرضة... فتشريح الانسان يتضمن مفتاح تشريح القرد. إن صلة التطورات العليا بالنوع الحيوانى الأدنى لا يمكن فهمها إلا بعد معرفة التطور الأعلى بالفعل. وهكذا يزودنا الاقتصاد البورجوازى بمفتاح فهم القديم (مقدمة الجروندريسه، ص 105).

وقد أصبح الأمر على ذلك النحو لأنه فى ظل نمط الانتاج الرأسمالى فقط يجرى تحقق الدور المحدد للانتاج بحيث ينفصل الانتاج للمرة الأولى عن المؤسسات الدينية، والسياسية، وبنى القرابة، ويصبح مجالا متخصصا مستقلا بذاته. هذا ينتج مفاهيم ومقولات لم يكن من الممكن انتاجها هكذا من قبل.
خذ على سبيل المثال، مفهوم القيمة. يسأل ماركس لماذا لم يستطع حتى مفكر عظيم كأرسطو، أن يفكر فيه فى اليونان القديمة. وإجابته هى:
أن تنسب قيمة للسلع... هى طريقة فى التعبير فحسب عن أن كل العمل، من حيث هو عمل انسانى، متساو، ونتيجة لذلك فهو عمل ذو نوعية متساوية. بينما كان المجتمع الإغريقى مؤسسا على العبودية، وكان أساسه الطبيعى، هو عدم تساوى البشر وقوى عملهم. لم يكن من الممكن حل لغز سر التعبير عن القيمة، وهو أن كل أنواع العمل متساوية ومتكافئة ، حتى تكون فكرة المساواة البشرية قد حازت بالفعل شعبية راسخة. الأمر الذى يصبح ممكنا فقط فى مجتمع تتخذ فيه الكتلة العظمى من نتاج العمل شكل السلع (رأس المال، المجلد الأول، ص56 ).

ويرتبط ذلك أيضا بحقيقة أن انتزاع العمل الفائض يمكن أن يدرك بصفته كذلك عندما يظهر الاستيلاء الاقتصادى الرأسمالى على فائض العمل فى التاريخ، لأنه ضمن الرأسمالية فقط يمكن أن يتحدد الانفصال بين تكافؤ القيم التبادلية فى السوق وبين الاستيلاء على فائض القيمة عند مستوى الانتاج.
وقد يبدو هذا متناقضا ظاهريا لأن انتزاع العمل الفائض ضمن الرأسمالية مختف بسبب مظاهر السوق بينما انتزاع العمل الفائض ضمن الاقطاعية كان واضحا تماما وكان فائض العمل مميزا بدقة عن العمل الضرورى . تتقوم المسألة، على أى حال، فى أن الاقتصاد لم يكن يمثل مستوى مستقلا ذاتيا فى المجتمع الاقطاعى، أى مستقلا عن المؤسسات الدينية والسياسية، لذا فإن مفهوم فائض العمل بالذات لم يكن له معنى كمفهوم اقتصادى ولم يكن من الممكن بلوغه دون فكرة القيمة والعمل المجرد. فالاقطاعية مثلها مثل العبودية، يمكن أن يفهما بدقة بوصفهما نمطى انتاج، فقط حينما يتيح ظهور الرأسمالية تطور المقولات الجوهرية لإدراك أنظمة الإنتاج الأسبق. على أن ذلك لا يعنى أن المادية التاريخية يجب أن تنسب إلى الماضى مؤسسات وعلاقات هى نموذجية للرأسمالية فقط. فقد كان ماركس متيقظا إلى أن يشير إلى أن الانتاج الرأسمالى يزودنا بمفتاح القديم "ولكن ليس على الاطلاق على طريقة هؤلاء الاقتصاديين الذين يمحون كل الاختلافات التاريخية ويرون العلاقات البورجوازية فى كل أشكال المجتمع (مقدمة،الجروندريسه ، ص 105). فصحيح أن العلاقات الاقتصادية الرأسمالية تتيح لنا فهم العلاقات الاقطاعية والعبودية لكن لا يجب علينا أن نطابق الواحدة مع الأخرى.
ويتصور البعض أحيانا أن الموضوع الرئيسى لنظرية ماركس كان المجتمع الرأسمالى على وجه الحصر لسبب بسيط هو أنه ليست هناك معالجة منتظمة لأنظمة الانتاج الأسبق عدا الشذرات المتناثرة والاشارات المكتوبة لأغراض المقارنة عند تحليل نمط الانتاج الرأسمالى. ومع ذلك فحقيقة أن ماركس كان قادرا على إكمال دراساته عن الانتاج الرأسمالى دون سواه، لا تعنى أنه قد تخلى عن المادية التاريخية ومشروع دراسة أنماط انتاج أخرى. وهو يعرض لذلك قائلا: أن "هذه المؤشرات، حين تتواكب مع رصد صحيح للحاضر، تقدم مفتاحا لفهم الماضى أيضا- وهو عمل، بحكم جدارته، نأمل أن نكون قادرين على الاضطلاع به أيضا" (الجروندريسه، ص 461). ومع ذلك، فحقيقة أن المادية التاريخية تطورت بدءاً من ظهور الرأسمالية ونتيجة لظهورها تم تفسيرها من قبل بعض الكتاب، ماركسيين وغير ماركسيين، باعتبارها تعنى أن المادية التاريخية متعلقة بالرأسمالية فقط ويجب الا تطبق إلا عليها. فلوكاش، على سبيل المثال، يرى أن المادية التاريخية هى بمثابة "معرفة الذات للمجتمع الرأسمالى". وكسلاح أيديولوجي هى "فى المحل الأول، نظرية عن المجتمع الرأسمالى وبنيته الاقتصادية" (لوكاش، 1971، ص 229). حقا يمكن للمادية التاريخية كمنهج علمى أن تطبق أيضا على المجتمعات الأسبق ولكن "هناك صعوبة منهجية ذات وزن" تكمن "فى الاختلاف البنيوى بين عصر الحضارة والحقب التى سبقته" (ص 232).
ولكى يوضح لوكاش هذا الاختلاف البنيوى يقتبس المقطع الشهير الذى يؤكد فيه ماركس على أنه "فى كل الحالات التى تكون فيها الملكية العقارية هى العامل الحاسم، تهيمن العلاقات الطبيعية، بينما فى الحالات التى يكون فيها العامل الحاسم هو الرأسمال، تهيمن العناصر الاجتماعية التى تطورت تاريخيا" (مقدمة، الجروندريسه، ص 107، عن ص 213، إسهام فى نقد الاقتصاد السياسى). ويذهب جيدنز، لاحقا، فى نقده للمادية التاريخية إلى أن تنسيق الموارد السلطوية يشكل فى المجتمعات غير الرأسمالية المحور المحدد للدمج والتغيير الاجتماعيين. بينما نجد فى الرأسمالية، أن الموارد الموزعة تضطلع بأهمية خاصة للغاية"• (جيدنز، 1981،ص 4، أنظر أيضا ص ص 105 و 109). وهو يستنتج أن المادية التاريخية حين تجعل الأولوية للموارد الموزعة فإنها تبتعد تماما عن أن تكون نظرية كلية للتاريخ.

والواقع أننى لا أجد هذه الجدالات مقنعة تماما. فحقيقة أن المادية التاريخية يجب أن تبدأ تحليلها بالانتاج الرأسمالى، لا يترتب عليها بالضرورة أنها يجب أن تقتصر على الرأسمالية. ونفس المقطع له الذى يقتبسه لوكاش من ماركس تدعيما لفكرة تضييق نطاق فعالية المادية التاريخية يقترح تمييزا نظريا هو بمثابة استنتاج عام للمادية التاريخية ذاتها! فالنظرية العامة للمادية التاريخية هى التى تطرح فكرة أن العلاقات الطبيعية تهيمن حتى قبل ظهور الرأسمالية وأن الابداعات الاجتماعية التاريخية تهيمن من ذلك الوقت فصاعدا. فالمادية التاريخية هى التى تقترح الطابع التاريخى للمقولات والمفاهيم وتسعى لتفسير الاختلافات الحاسمة بين المجتمعات الرأسمالية وما قبل الرأسمالية. أضف إلى ذلك، حين يضع ماركس مثل هذا التمييز فهو لا يصف مجتمعا بدائيا لا تاريخيا، حيث لا تنتج العلاقات الاجتماعية عمليا من قبل البشر، بالتعارض مع المجتمع الرأسمالى التاريخى، حيث ينتج البشر علاقاتهم. وإنما يميز ماركس فحسب بين نوع من المجتمع حيث يمكن فيه للمرة الأولى، أن يصبح البشر واعين ويحاولون السيطرة على علاقاتهم الاجتماعية.
وجيدنز محق حين يؤكد على أهمية القوة لاقتطاع فائض الانتاج فى مجتمعات ماقبل الرأسمالية بينما فى المجتمعات الرأسمالية، يقتطع فائض القيمة بواسطة وسائل اقتصادية فقط. لكن لا يستتبع ذلك أن الموارد السلطوية فقط هى القاعدة المركزية للسلطة فى المجتمعات ماقبل الرأسمالية. إذ لا تكون هناك سلطة لأشخاص دون امتلاك الأرض، الأمر الذى يحدد علاقات اجتماعية معينة. وبالنسبة لماركس فمن الواضح تماما أن "الأفراد فى مجتمع كهذا، بالرغم من أن علاقاتهم تبدو شخصية أكثر، يدخلون فى ارتباطات الواحد مع الاخر فقط كأفراد منطوين ضمن تعريف معين: كسيد اقطاعى وتابع، كمالك أرض وقن، إلخ (الجروندريسه، ص 163). لذلك فمحاولة فهم القاعدة المركزية للسلطة فى المجتمعات ماقبل الرأسمالية بلغة أولوية الموارد السلطوية هو أمر موضع تساؤل. ذلك أن المسألة هى تفسير على أى أساس تحققت السلطة أو السيطرة على الأفراد. ليست هذه عملية تحكمية محضة. بخلاف ذلك، فالاجابة الوحيدة على سؤال من له السلطة فى المجتمع ماقبل الرأسمالى هى: هؤلاء من تصادف أن لهم السلطة. وكما أشار بوتومور "هذا لا يكاد يوضح شيئا، فهو لا يقول لنا كيف تأتى لهؤلاء الأفراد بالذات ِأن يشغلوا مراكز السلطة" (1964، ص 32،أنظر رايت، 1983).



#سعيد_العليمى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة الى ى . د . ستاسوفا والرفاق الآخرين فى سجن موسكو ف . إ ...
- وضع إنجلترا والدستور الإنجليزى - مقالات فى مجلة فورفارتس الأ ...
- الشيوعية فى اليهودية والمسيحية الأولية - القسم الثانى - كارل ...
- الشيوعية فى اليهودية والمسيحية الأولية - القسم الاول - كارل ...
- نمط الانتاج العبودى وبنيته الفوقية فى المجتمع الرومانى - كار ...
- فى الاصول التاريخية والاسطورية للشعب اليهودى - كارل كاوتسكى
- بين معركتين ( مقتطف ) ف . إ . لينين
- رسالة الى مستشرق فرنسى عن ترجمة بعض مؤلفات عالم الاجتماع بيي ...
- لاهوت التحرر الآسيوى بين الماركسية والمسيحية والثورة
- فى ذكرى ثورة ادسا الفليبنية ( 22 - 25 فبراير 1986 )
- حل العقدة فى متناول يدنا ( مقتطف ) ف . إ . لينين
- تريبوف فى السلطة ( مقتطف ) - ف .إ . لينين
- سفسطة سياسية ( مقتطف ) ف. إ . لينين
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضايا الثورة الافريقية ( 1 ...
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من دعاوى القومية اليهودية ( 1 ...
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من انقلاب السادات على مراكز ا ...
- حزب العمال الشيوعى المصرى ومطالب الحريات الديموقراطية فى مصر ...
- حزب العمال الشيوعى المصرى وطبيعة الثورة المقبلة ( 1971 )
- حزب العمال الشيوعى المصرى وقضية التحالف الطبقى والجبهة المتح ...
- حزب العمال الشيوعى المصرى وقضية التحالف الطبقى والجبهة المتح ...


المزيد.....




- ماذا قالت إسرائيل و-حماس-عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين ف ...
- صنع في روسيا.. منتدى تحتضنه دبي
- -الاتحاد الأوروبي وسيادة القانون-.. 7 مرشحين يتنافسون في انت ...
- روسيا: تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة مستحيل في ظل استم ...
- -بوليتيكو-: البيت الأبيض يشكك بعد تسلم حزمة المساعدات في قدر ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من رمايات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية م ...
- تونس.. سجن نائب سابق وآخر نقابي أمني معزول
- البيت الأبيض يزعم أن روسيا تطور قمرا صناعيا قادرا على حمل رأ ...
- -بلومبرغ-: فرنسا تطلب من الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة ض ...
- علماء: 25% من المصابين بعدم انتظام ضربات القلب أعمارهم تقل ع ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سعيد العليمى - طابع ونطاق المادية التاريخية - جورج لارين ( مقتطف )