أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - هويدا صالح - التحيّزات الثقافية والحضارية وأثرها على العمران والمدينة العربية















المزيد.....


التحيّزات الثقافية والحضارية وأثرها على العمران والمدينة العربية


هويدا صالح

الحوار المتمدن-العدد: 5113 - 2016 / 3 / 25 - 18:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


التحيّزات الثقافية والحضارية وأثرها على العمران والمدينة العربية
د.هويدا صالح ـ روائية وأكاديمية مصرية


صارت جدلية المثقف والسلطة، وتموضعه من هذه السلطة، سواء كان يقف عن يمينها ، يدعمها ويدعم مواقفها، أو عن يسارها، يعارضها وينتقد مواقفها هو التموضع الوحيد في وعينا للمثقف، ولا يخرج تفكيرنا في " موضوعة المثقف " بعيدا عن علاقته السلطة سلبا أو إيجابا، في حين أن ثمة مواضع أخرى يكون للمثقف فيها دور فعال بعيدا عن علاقته بالسلطة.
وربما ما حصر دور المثقف في هذه الجدلية، وهذه الدائرة المفرغة التي يدور فيها المثقف مع السلطة هو ميراث القهر والاستبداد الذي سيطر على الذهنية العربية، وتلك البنية الكلية التي تحكم وعي المثقف ووعي السلطة معا، مما أنتج نوعا من المثقفين كانوا على يمين السلطة، يروجون لخطابها، ويتبنون مقولاتها.
ثمة دور آخر يُفترض أن تطلع به السلطة بجوار دورها السياسي، وهو الدور الاجتماعي والاقتصادي، والمتمثل في الأدوار المنوطة بالسلطات التنفيذية في البناء الهيراركي للسلطة، مثل التعليم والصحة والعدالة الاجتماعية، فأين يقف المثقف من هذا الدور، وهل استطاع أن يسهم في بناء المجتمع؟ في التنمية المجتمعية والبشرية؟ هل استطاع أن يسهم في ملف العمران وتشكل هويات المدن ؟!.
من المتوقع أو المنتظر من أي سلطة أن تعمد إلى الهندسة المعمارية في اشتراطاتها العلمية والثقافية، وأن تشتغل على مفهوم التخطيط العمراني وتراعي الأنماط المعمارية التي تميز المدن، فمثلا مدينة مثل مدينة الإسكندرية ذات طابع كوزموبوليتاني خاص، فإذا عمدت السلطة إلى أن تعيد تطويرها مثلا ألن تراعي هذا الطابع المعماري الفريد لها أم تقيم منشآت عمرانية قد تتعارض مع الطابع المعماري للمدينة والهوية العمرانية لها؟!.
هل العشوائية في إقامة المجتمعات التي تحيط المدن الكبرى وسيلة من وسائل السلطة حتى تسيطر على المجتمعات عن طريق التمدد السرطاني التحتي؟ وهل ظهور طبقات مهمشة( البلطجية وأطفال الشوارع ) تتعاون معها السلطة و تستغلها في السيطرة على المجتعمات وتقوم بالأعمال القذرة نيابة عن السلطة أتى بناء على خطة مسبقة أم أن العشوائية في التعامل مع المجتمع هي ما أنتجت مثل هذه المكونات الاجتماعية؟!
إن المجتمعات العشوائية أو البينية التي أقيمت على أطراف المدن وباركت السلطة إقامتها، بل قننتها وأدخلت لها المرافق العامة بعد أن تمددت ونمت كان لها الدور الأبرز في ثورات الربيع العربي. وسوف يتضح ذلك من تحليل دور هذه الفئات المهمشة في ثورتي 25 يناير 2011، و 30 يونيه 2013 في مصر.
وقبل أن نستجلي علاقة المثقف بهوية المكان والعمران والمجتمع علينا أن نعرج على مفهوم المثقف، ولا شك أننا حين نعمد إلى تحديد مفهوم المثقف لا نستطيع تجاهل التعريفات التي أوردها العديد من الكتاب والمفكرين العرب المهتمون بقضية المثقف ودوره في المجتمع. إن هذا المفهوم هو من بين "المفاهيم الحديثة النشأة التي يصعب الجزم بوجودها في الثقافة العربية ، مما يجعل هذه العبارة "تحيل إلى مفهوم حديث للكاتب صانع الأفكار "، وبكون صورة المثقف، باعتباره صاحب موقف نقدي من قضايا المجتمع، وفاعل اجتماعي قادر على التأثير في الواقع. هذا إضافة إلى كونه أسس لنسق من المعارف الجديدة، اتخذت من الانقلابات العلمية الحديثة قاعدتها في إثبات نسبية الحقائق، لم يظهر إلا حديثا بعد أن ارتبط بتحول عميق في الوعي لدى الكاتب ذاته، وأصبح يعبر بالفعل عن قاعدة اجتماعية من القراء تدعم مواقفه وسلطته الفكرية، وهو ما لم يتحقق في الواقع العربي الإسلامي"( )
حاول الكثير من المفكرين العرب أن يقوموا بـ "التأصيل الثقافي" لمفهوم المثقف،فقد حاول الجابري مثلا أن يبحث عن صيغة تراثية في الثقافة الإسلامية لمفهوم المثقف، وأن يوجد له مرجعية تراثية في مقابل المرجعية الجرامشية الغربية لذات المفهوم.
حاول الجابري أن يعيد " بناء هذا المفهوم بالصورة التي تجعله يعبر داخل الثقافة العربية عن نفس المعنى الذي يعطى له في الفكر الأوربي حيث يجد مرجعيته الأصلية"( )
في حين أن عبد السلام المسدي قد قدّم تعريفًا للمثقف المنتمي في مقال له نشر في جريدة الرياض السعودية بتاريخ 1 مايو 2003 يقول فيه: " المثقف هو الذي من خلال إقراره بشرعية السلطة يحترف النقد، ليبني الصرح الثقافي الذي لا يقدر الخطاب السياسي السائد أن يشيده " مفرقا في نفس المقال بين المثقف الملتزم والمثقف المنتمي، وهي فكرة تساعد الباحثة في التفريق بين أنواع المثقفين ، والرهانات المطروحة عليهم والأدوار المنتظرة منهم،فالمثقف الملتزم يتعرض للتأديب الحزبي إذا خرج عن الخطاب التبريري السائد داخل المؤسسة التي ينتمي إليه، أما المثقف المنتمي يرتبط التصاقه بالمؤسسة النضالية أو ابتعاده عنها بما توفره داخلها من حرية تمكنه من الانتقاد للأداء العام ،والسبب أن المثقف إذا انتمى أو تحزب وقبل أن يكون مناضلا قاعديا، فإنه يرفض أن يقتصر دوره إعادة إنتاج الأدوار التي تطلبها القمة من القواعد.
كما يؤكد حسن عجمي في كتابه " السوبر حداثة " أن المثقف يختلف مفهومه ودوره في الحداثة وما بعدها إذ يقول:"ختامًا بالنسبة إلى الحداثة المثقف هو مالك المعيار الصحيح للحكم على المعتقدات وصاحب الحقيقة والمعرفة لأنه يوجد معيار صحيح وتوجد الحقيقة والمعرفة.أما بالنسبة إلى ما بعد الحداثة، فالمثقف هو الناقد، والرافض لمعيار صحيح، ولحقيقة ومعرفة واحدة؛ لأن المعيار متكثّر والحقيقة والمعرفة نسبية( ).
بينما يُعرّف برهان غليون المثقف المثقف من خلال اعتباره فاعلاً اجتماعيًا " إن المقصود إذاً من المثقفين هنا هو فاعل اجتماعي جمعي وليس مجموعة أفراد يشتركون في نشاط مهني أو علمي أو ذهني واحد يقرب في ما بينهم. وعندما نتحدث عن فاعل اجتماعي فنحن نشير إلى قوة محركة ودينامية اجتماعية لا إلى مبدع فكري "( ). يختار غليون تعريفاً للمثقف يتفق مع تصور الجابري، لكنه يزيد عليه باستحضار البعد الجمعي الذي يعطي للمثقف أهمية اجتماعية وسياسية، إذ يكتسب المثقف قدرته على التأثير ضمن المجتمع الحديث من انتمائه إلى نخبة واعية لمكانتها الاجتماعية ومتعاونة لتكريس قدرتها الجمعية، وتوظيفها للتأثير في القرار السياسي والفعل الجماعي. فالمثقف جزء من نخبة مثقفة، وإن كان برهان غليون حين حاول أن يتمثل هذا الدور على أرض الواقع وبعد اندلاع الثورة السورية ، وقيادة غليون للمعارضة السورية في الخارج وقع في ممارسات سلطوية واستبدادية لا تبعد كثيرا عن استبداد النظام السوري، وذلك لأن هؤلاء المفكرين جميعهم أبناء ذات المنظومة الفكرية التي تنتمي إلى البنية الكبرى الكلية والمتماسكة، وفي تقدير الباحثة أن نظام البنية لن يخرج لنا معارضة تناهض الاستبداد فكريا، بل يجب أن يعاد تفكيك بنية الاستبداد وليس صناعة بنية موازية لها. لم يستطع برهان غليون وهو يقود المعارضة السورية من الخارج أن يطبق الوعي الذي طالب المثقف أن يتسم به، والسبب هو "البنية الذهنية" التي حكمت غليون. وقد وقع أدونيس في نفس المأزق، رغم أن خطابه كان على النقيض من خطاب غليون، فقد رفض فكرة الثورات والاحتجاجات ومحاولات الشعوب لتحقيق التحرر والانعتاق من الاستبداد، ومن يرصد تصريحات وكتابات أدونيس في مساندة النظام الثوري بعد اندلاع الثورة يدرك أنه ابن ذات "البنية الذهنية" التي تحكم الجميع.
إذن هذا المثقف الذي تحدث عنه المفكرون العرب، ورأوه منتميا وعضويا ومشاركا في صناعة مجتمعه هل قام بهذا الدور حقيقة؟ أم انشغل بالسلطة وعلاقة الشد والجذب معها؟
وحين نتحدث عن دور المثقف العربي المنتظر منه لا نستطيع أن نحدد هذا الدور بعيدا عن رؤية دقيقة وقريبة للواقع العربي الذي يتسم بحالة من الانقسام والتشرذم، وذلك الدور الخطير الذي تلعبه النظم العربية مع المثقف، والتي تسعى جاهدة إلى الهيمنة والسيطرة بغض النظر عن متطلبات الشعوب ومصالحها، وفي سبيل تحقيق ذلك عملت النظم على تدجين المثقف ،وتهميش دوره، ولا غرو،ففي فترات سابقة كان للمثقف التأثير الأهم على ما هو مجتمعي ،فسعت السلطات والنظم في مجتمعاتنا العربية شاملة إلى إقصاء المثقف وتهميش دوره.
في بدايات حكم مبارك، وحين ولّى فاروق حسني وزيرا للثقافة أطلق الوزير مقولة تعبر عن سعي السلطة إلى تدجين المثقفين، قال:"سأدخل المثقفين الحظيرة" وقد حدث هذا التدجين، وأدخل فاروق حسني المثقفين المصريين الحظيرة عبر مهندسي التدجين أمثال: جابر عصفور وفوزي فهمي والسيد يس وصلاح فضل وغيرهم، وصار المثقف المصري بين خيارين كلاهما مر:إما يقف على يمين السلطة، فينال المنح والعطايا أو يقف على يسار السلطة، فينال الإقصاء والتهميش والتجاهل.وفي الحالتين فقد المثقف المصري دوره المجتمعي، وفي الحالتين اختزل المثقف المصري دوره في علاقته بالسطة، إما بالموالاة أو العداء.
هذا عن المثقف، وماذا عن السلطة وعلاقتها بالمجتمع؟! هل وعت السلطة أهمية التنمية المجتمعية؟ هل وعت السلطة أهمية التخطيط التنموي والعمراني؟ هل امتلكت تلك الثقافة التي تمتع بها الخديوي إسماعيل مثلا حينما استقدم مهندسين يخططون لبناء معماري للقاهرة يحافظ على الجماليات مثلما يحافظ على القوة والصلابة؟.
في حقيقة الأمر تخلى نظام مبارك عن كل شئ، مثلما تخلى عن التخطيط العمراني، وسمح للعشوائيات بالتمدد والتشعب حتى صارت مثل الشبكة العنكبوتية التي تحيط بالقاهرة المدينة العريقة.تخلى كذلك عن تنمية المجتمع. كان مبارك يسعى لتوريث ابنه جمال الحكم، مثلما نجح حافظ الأسد في توريث ابنه بشار.و كانت المعارضة القوية لملف التوريث هي جماعة الإخوان المسلمين، لأنها كانت المعارضة الوحيدة المنظمة والتي لها قواعد فعلية في الشارع.
عرف النظام كيف يحتوي المعارضة بأن يسمح لها بالوجود الصوري حتى يجمل صورته أمام الغرب الذي كان يطالبه بالديمقراطية. كانت المعارضة هشة وغير منظمة، فالأحزاب التاريخية مثل الوفد والتجمع لم يكن لها وجود حقيقي في الشارع،بل كان الوجودي الحقيقي للإخوان المسلمين فقط، أما السلفيين، فلم يؤمنوا وقتها بالسياسة، فقد رأوا الديمقراطية كفرا والخروج على الحاكم حراما، فلم يحسب لهم النظام حسابا في خريطته السياسية.
آمن النظام المصري بشكل جزئي بفكرة الديمقراطية التوافقية التي تقاسم فيها السلطة مع الإخوان اتقاء لشرهم ومعارضتهم، وظهرت هذه التوافقية معهم في انتخابات عام 2005، حيث سمح لهو النظام بأن يفوزوا بثمانية وثمانين مقعدا في البرلمان في مقابل أن يصمتوا تماما عن ملف التوريث، ووصل الأمر أن خرج محمد بديع مرشد الإخوان قبيل ثورة 25 يناير 2011 وصرح لجريدة المصري اليوم أنه لا يمانع في ترشح جمال مبارك للرئاسة لأنه مواطن مصري ومن حقه الترشح.
في مقابل هذا النفاق السياسي ترك نظام مبارك المجتمع للإخوان والسلفيين، وفكك دور المثقف من أسفل، سواء استقطب المثقف أو همشه وأقصاه.استولت جماعات الإسلام السياسي على المحتمع من أسفل، افتتحوا المراكز الطبية ومراكز الدروس الخصوصية في المساجد التي لم تكن تخضع لسيطرة وزارة الأوقاف، وأصبحوا يوفرون الخدمة الطبية والتعليمية للبسطاء والعامة غير القادرين بأثمان رمزية، ودخلوا كل بيت في مصر، استقطبوا الشباب وشكلوا وعيهم.
تخلت الدولة عن دورها المجتمعي،لأن النظام كان يريد معارضة كرتونية لا تنافسه سياسيا، واكتفى الإخوان بهذا الدور في سبيل الاستيلاء على المجتمع من أسفل.
حين ترك المجتمع لجماعات الإسلام السياسي تستلب وعيه، وتغيب دور المثقفين فيه انعزل المثقفون، وصاروا كائنات تعيش في ظل السلطة وتستقوى بها، ولم يعد لهم أي دور مجتمعي، وبالطبع لم يكن لهم دور اقتصادي بالتالي. أما الإخوان فقد انشغلوا بالاقتصاد الريعي الذي يقوم في معظمه على تجارة الأغذية والمرابحات في البورصة، دون أن يهتم أحد ببناء المصانع، أو الزراعة أو المشاريع القومية الكبرى مثلما حدث في عصر عبد الناصر.

ثورات الربيع العربي ضد القبح والاستبداد
إن الثورات العربية التى بدأت بإطلاق مطالب الحرية والعدالة والكرامة والدولة المدنية انطلقت من أسفل،من تلك الفئات المجتمعية المهمشة التي تركتها الأنظمة لتيارات لا تقل في في بنيتها المستبدة عن السلطة. إن النسق الذي هيمن على وعي تيارات الإسلام السياسي هو نسق ابن بنية الاستبداد ذاتها التي تدثرت بها السلطة في البلدان العربية.انطلقت ثورات الربيع العربي بصراع الطبقات المنسية المهمشة مع السلطة، السلطة التي تركت المجتمع دون تنمية وتركت العمارة دون هندسة جمالية، فقام بوعزيزي ابن هذه الفئة بإحراق جسده بعد إهانته على يد شرطية. وقد سبقه إليها خالد سعيد في مصر الذي مات نتيجة التعذيب، ولحقتهم الطبيبة السورية في درعا التي هنأت زميلتها المصرية بتنحي مبارك، فأهانتها شرطة بشار الأسد وحلقت لها شعر رأسها عقابا لها على مكالمة تليفونية تهنئ فها أختها المصرية بنجاح ثورتها. ثم توالت الاحتجاجات في اليمن وليبيا وبالطبع لم يهدأ العراق ولم يخلُ من الاحتجاجات. هكذا أفرزت العمارة العشوائية طبقات مهمشة تتثور وتتمرد، وصارت القاهرة الخديوية بجمالها شاهدا رئيسا على الثورة ضد القبح والظلم والفقر، وبعد تنحي مبارك استلهم الشباب جمال القاهرة الخديوية المحيطة بهم وبدأوا يزينون الميادين، ويعيدون الجمال إلى العمارة التي تأثرت بالصراع بين السلطة والشباب وبقية فئات المجتمع التي انضمت إليهم.
لكن ذلك الربيع العربي انتهى إلى صعود الطائفية والعشائرية. والسبب هو أن الثورات ينتظر منها أن تؤدي دورها في تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية حين يكون المجتمع مهيأ لذلك. فهناك ضعف فى بلداننا للقاعدة الاجتماعية التى من شأنها أن تسند قيم الديمقراطية والحرية والعدالة والدولة المدنية. لذلك حين انهارت قبضة النظام الاستبدادى لم يكن البديل فى عدد من هذه البلدان نظاما ديمقراطيا مدنيا، بل الذى حصل هو نكوص مريع إلى هياكل المجتمع التقليدي، الدينية والطائفية،فولدت ثورات الربيع العربي صعود تيارات راديكالية لا تؤمن حقيقة بالحرية ولا بالجمال ولا بأهمية الهويات العمرانية للبلدان التي قامت فيها ثورات، كما أنها لا تؤمن بدور حقيقي للمثقف،فالمثقف في رأيها هو رديف للملحد الذي يتم تكفيره.
لن ينجح المثقف في النهوض بمجتمعه إلا إذا سعى بشكل تجذيري عميق إلى إرساء قواعد نظام علماني ودولة مدنية،بحيث تكون المواطنة هى الهوية الجامعة لكل المكونات الثقافية للمجتمع، فلا يصبح ثمة وجود لهويات خاصة دينية أو طائفية،فدولة المواطنة لا تعترف بالهويات الخاصة إلا في حدود الحرية التي لا تتعارض مع قيم المواطنة والمدنية.
إن موقف المثقف العربي من الحريات عليه علامات استفهام كثيرة، سواء كان هذا المثقف ليبرالي أم يساري، فكلاهما لا يؤمن بالحرية المطلقة والمتكاملة، بل كلاهما تنازل عن حريات الرأي والتعبير والتعددية السياسية في سبيل الحصول على مكاسب من الأنظمة المستبدة، فاليساري نتيجة لخوفه من تيارات التشدد الفكري والإسلام السياسي تعاون مع النظم المستبدة، وكذلك الليبرالي نتيجة لحرصه على رأس المال وحريات المبادرة الاقتصادية تعاون أيضا مع النظم المستبدة، فى حين أن الحريات الأخرى كحرية الرأي، خاصة فى القضايا السياسية، فالاثنان يسكتان عنها، بل يطالبان بدولة قوية لتحفظ الأمن بدعوى ضرورة الاستقرار لازدهار الاقتصاد والأعمال.
والسؤال الذي يفرض نفسه ما الذي أدّى إلى تراجع دور المثقف العربي في العقود الأخيرة ؟!
يرى كريم حلاوة أن هناك عقبات حالت بين المثقف العربي ودوره الذي يجب أن يؤديه " : أولى هذه الإشكاليات نخبوية الثقافة والمثقفين ، هذه النخبوية التي تعبر عن وجودها في شكل قطيعة تسم علاقة المثقف بالناس العاديين الذي يفترض أن المثقف يتكلم لهم وباسمهم ، أما الإشكالية الثانية ،فهي عدم تحديد الأولويات ،فقد أُهدِرت جهود كثيرة لإثبات أولوية المسألة الوطنية عن المسألة الاجتماعية أو العكس"( ).
أما الإشكالية الثالثة فهي تتمثل في العلاقة التي تربط الثقافي بالسياسيى كحقلين للممارسة الاجتماعية يحتويان التماهي والتمايز والتداخل والاختلاف في نفس الوقت .. فيمكن لجدل الثقافي/ السياسي ـ في ظل ظروف الحوار والنقد ـ أن يفتح مجالات للتفاعل ،يمكن الممارسة الاجتماعية من تحقيق جدواها الإنساني ،أما في حالة انتماء كل من السياسي والثقافي إلى حقلين أيديولوجيين مختلفين ،وربما نقيضين ،فتتعذر عندئذ عملية تحويل الثقافة إلى جزء عضوي في الحياة الاجتماعية .... وتتمثل الإشكالية الرابعة في غياب ما أطلق عليه غرامشي المثقف العضوي ، تنشأ هذه الإشكالية من ضعف تطور المجتمع العربي وجنينية المجتمع المدني فيه "( ).
لكن كل هذه الاتّهامات تعكس رؤى أيديولوجية تحمل المثقف فوق طاقته ، فعدم الفاعلية لا يعود فقط لكون المثقف لم يستغل خصوصيته، وهي إنتاج المعرفة، بل قد تعود في مجملها إلى غياب فكرة القوميات، والقضايا الكلية الكبرى نتيجة للظرف التاريخي الذي مرّ به المثقف العربي نتيجة لحرب 1967 ، وتداعياتها الاجتماعية والسياسية والثقافية ،ليس على مصر وحدها ،بل على كل المجتمعات العربين ، إضافة للظروف التي مرّ بها العالم أجمع ، بعد ثورة الطلاب عام 1968 ، والمراجعات الفكرية والنقدية التي حدثت في شتى مناحي الحياة، كل هذا أثر على وضعية المثقف، حتى أن المؤسسات و النظم العربية لم تعد تراه فاعلاً في الشؤون العامة والقضايا المصيرية، كغيره من الفئات الاجتماعية الأخرى،بل لم تعد تعني بأن تُوليه قيادة المؤسسات الثقافية ، ممَّا أدّى إلى تكريس هذا الفهم لدى عامة الناس. ويزداد الأمر سوءًا عندما تُسند المواقع القيادية لغير مستحقيها.وقد كشف هذه الأزمة وهذا التحدي الأساسي هشام شرابي في كتابه:"أزمة المثقفين العرب"فالتحدي الحقيقي أمام المثقف العربي في اللحظة الراهنة هو أن يرتفع فوق ذاته وفوق الموقف الحالي، الذي يتسم باختلاط الأوراق. فلم يحظ المثقف العربي ووضعيته بدراسات معمقة تتناسب وحجم الدور المنوط به فالطاهر لبيب يرى أن " المثقف ككائن اجتماعي غائب أو مطرود أو منفي من الدراسات التي أنجزت حول تكوين العقل العربي"( )







المعمار وتمثلات الهوية الثقافية:
يعكس المعمار هوية الأمة الثقافية، فالعمارة قد تعكس هوية شعب من الشعوب حين يخطط لها هندسيا،وقد دعا المعماري المصري حسن فتحي منذ الستينات، إلى الاتجاه نحو العمارة الهوية من حيث هي كتل وفراغ بدءًا بالعمارة الريفية التي ينشئها الفلاحون الفقراء. وانتهاء بالعمارة البورجوازية المدنية:"لا شك أن شكل المعمار له تأثير عميق في سكانه و البيت هو مكبر الإنسان نفسه و بالتالي يعبر عن شخصية الإنسان و منزلته مع التفاصيل الأخرى لفرديته كما يتكيف حسب حاجاته الاقتصاديـة و بالتالي تتخذ المباني شكل المجتمع بما له من أبعاد كثيرة و لذلك على المهندس المعماري عندما يريد أن يصمم منزلا أو قريةً عليه أن يراقب حياة القرية ليكتشف كيف يقوم الناس بعملهم و كيف يستخدمون بيوتهم و ما هي عاداتهم و تقاليدهم بمعنى آخر أن يخضع القرية إلى بحث شامل اجتماعي و اقتصادي حتى يكون تصميمه متناسباً و متناغماً مع احتياجاتهم و طبيعة تكوينهم و أنماط سلوكهم( ).
إذن ما هو اجتماعي واقتصادي يجب أن يكون ماثلا في وعي من يصمم العمارة، لكن الدولة المصرية تخلت تماما عن دورها في العمران، وتركت المباني العشوائية تتمدد حول القاهرة الخديوية التي استعان الخديوي إسماعيل في تصميمها بالمهندسين الأوروبيين، البلجيكيين والفرنسيين والألمان، فشيد كل منهم عمارته وفق المدرسة التي ينتمي إليها،فجاءت القاهرة الخديوية خليطا فريدا من الطراز الكلاسيكي وطراز النهضة المستحدثة وطراز الباروك والروكوكو والطراز القوطي الجديد.
وقد اندلعت الثورة المصرية من قلب القاهرة الخديوية، من قلب ميدان التحرير الذي كان يُسمى ميدان الإسماعيلية نسبة إلى الخديوي إسماعيل. انطلقت الثورة لتحرر الإنسان المصري من استبداد نظام مبارك الذي تخلى عن هوية مصر الثقافية لصالح الحفاظ على أمنه الشخصي.
كانت القاهرة الخديوية محاطة بأحياء مصرية عريقة بنيت عمارتها سواء في عهود مصر القبطية أم الإسلامية، وهي أحياء تشير عمارتها بشكل لافت إلى الوعي الجمالي الذي امتلكه مصممو هذا المعمار، فهي تحتوي على الكثير من الجماليات والقباب والمنمنات الإسلامية.
ورغم هذه الجماليات سواء في في عمارة مصر القديمة أو الحديثة إلا أن الأحياء والضواحي التي نشأت حول القاهرة في عهد مبارك اتسمت بالفوضى والعشوائية. والمثير واللافت أن مبارك حين تولّى الحكم عم 1981 كان عدد العشوائيات في كل محافظات مصر 280 عشوائية خارج التخطيط العمراني ، بعد رحيل مبارك في عام 2011 صار عدد العشوائيات التي تحيط بالقاهرة فقط 1211 عشوائية، ناهيك عن بقية مدن مصر، فكما غيب مبارك دور المثقف بتجريف الوعي، كذلك غيب دور العمران والبناء الجمالي الذي يحافظ على الهوية العمرانية والثقافية بها.
هل استطاع المثقف أن يكون له دور في تعميق وعي السلطة بأهمية العمارة؟ هل استطاع فكر حسن فتحي الذي بدأ في الستينيات أن يؤثر في إدراك السلطة لقيمة المعمار الهندسي المبني على أسس علمية وجمالية ؟
ما هي علاقة المثقف المصري بنظام مبارك الذي اشتعلت ضده الثورة المصرية؟
لم يكن للمثقف أي دور، كما أن هذه العمارة التي نشأت دون تخطيط جمالي كانت لها آثار اجتماعية سلبية، لأنها افتقدت إلى الجمال، فقد وسعى المهندسون إلى استغلال كل فراغ يمكن أن يوفر متسعا لهذه الأعداد الضخمة من السكان ما أفقدها الانتماء للمكان، فالعمارة صارت برجماتية عملية دون أي أبعاد روحية أو جمالية، وقد يتم التساؤل عن افتقاد دور المثقف وتقصيره في نشر الوعي الجمالي، كما أن هذه العمارة التي نشأت دون أن تعمق الهوية تفتقد إلى الإحساس بالخصوصية، حيث افترض صناع المعمار تساوي الناس في إيجاد مكان للسكن دون الالتفات إلى الخصوصية الثقافية والحضارية والصناعية وخصوصية تحديد الهويات الوطنية والتراثية وإبرازها ودعمها ولم يراع كذلك الإمكانيات الاقتصادية ولا الحالة السياسية لكل منهما. فلم تستطع العمارة التي اتسمت بالعشوائية في الإنشاء إلى تحقيق معنى الحماية والأمان والراحة،فأدى ذلك إلى إحساس الغرابة والنفور بين الإنسان وبيئته. صارت العمارات مثل العلب الضخمة المتراصة دون مراعاة للفضاء الجمالي مما أدى إلى فقد العمارة لمعانيها ودلالاتها الرمزية من خلال علاقتها مع الأبنية الأخرى والفضاءات المحيطة وتوجهت نحو الفردية في التعامل مع المباني أو الأجزاء فأصبحت أبنية برجماتية تستوعب أكبر عدد من السكان دون أن تحرص على الحس الجمالي أو الروحي ، كأن حاجيات الإنسان الفرد هي مجرد مطالب مادية فقط.
أدرك شباب الطبقة المتوسطة المصرية بعد ثورة يناير معنى الهوية العمرانية،فبدأوا في مقاومة هيمنة الإخوان المسلمين على السلطة وتعاونهم مع السلفيين من جانب والمجلس العسكري الذي كان يقود البلاد من جانب آخر، بدأوا مقاومة هذه المنظومة المستبدة بفكرة هي ابنة الوعي المتطور، بل ابنة الوعي الجمالي الذي بثته الميديا الجديدة وهي فكرة الجرافيتي ، فبدأوا يرسمون على الجدران رسومات مقاومة تثبت اللحظة التي يريد الإخوان نسيانها، تصور ما حدث في شارع محمد محمود الشهير عن تخلى الإخوان عن قيم الثورة وتعاونوا مع المجلس العسكري. كان الوعي الجمالي العمراني هو وسيلة المقاومة، فجاءت الرسومات على الجدران لتصور شهداء الحرية الذين استشهدوا ، تفضح مواقف الإخوان المسلمين، تفضح الراديكالية الماضوية. صار الوعي الجمالي وسيلة للمقاومة والثورة والتحرر. وقد يتساءل أحد أليس هؤلاء هم أبناء المثقف التقليدي، فهم أبناء الطبقة الوسطى المتعلمة على أية حال!.
والحقيقة أن هؤلاء الرسامون والتشكيليون الشباب إنما هم أبناء الوعي المابعد حداثي، أبناء النظام الافتراضي الجديد الذي أفاد من مواقع التواصل الاجتماعي والميديا الحديثة في تعميق قيم الحرية. لذا لا نستطيع أن نحسبهم على المثقف التقليدي الذي غاب دوره عن هذه الثورة سواء بدفاعه عن السلطة أو انزوائه أمام المد الراديكالي لتيار الإسلام السياسي.



#هويدا_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جهود فاطمة المرنيسي في مساءلة التراث العربي .
- التفاعلات النصية في ديوان -بياض الأزمنة - لعلي الدميني
- اشتغال الأدب الشعبي في -حكايات شاي الضحى -
- دور المثقف في صناعة المجتمع..قراءة في كتاب -واحد مصري- لوليد ...
- السوسيولجيا السياسية في رواية أوقات للحزن والفرح
- تعرية الثقافة الذكورية في رواية نوافذ زرقاء لابتهال سالم
- الصراع بين الثقافة المحلية والثقافة الوافدة في إيران
- مفهوم مختلف للدين في أعلنوا مولده فوق الجبل
- اللامنتمي يحتج على قسوة البشر
- فن السياسة والأحكام السلطانية في كتاب-دولة الخلافة-
- هشاشة الخطاب الديني في حركات الإسلام السياسي
- عوائق مراجعة المفاهيم في الفكر الإسلامي
- أول محاولة لقلب نظام الحكم في التاريخ العربي
- الحب العذري عند العرب
- مقال د. سيد ضيف الله عن رواية - عشق البنات - لهويدا صالح
- قراءة في رواية ممرات للفقد ..لدكتور عمار علي حسن
- نجيب محفوظ بين السيرة الذاتية والتخييل السردي .. أصداء السير ...
- طرف من سيرة جدتي دولت
- الكرنفالية وتعدد الأصوات في رواية - كلما رأيت بنتًا حلوة أقو ...
- هل قتل النبي كعب بن الأشرف بكلمته؟!


المزيد.....




- كاميرات مراقبة ترصد فيل سيرك هارب يتجول في الشوارع.. شاهد ما ...
- على الخريطة.. حجم قواعد أمريكا بالمنطقة وقربها من الميليشيات ...
- بيسكوف: السلطات الفرنسية تقوض أسس نظامها القانوني
- وزير الداخلية اللبناني يكشف عن تفصيل تشير إلى -بصمات- الموسا ...
- مطرب مصري يرد على منتقدي استعراضه سيارته الفارهة
- خصائص الصاروخ -إر – 500 – إسكندر- الروسي الذي دمّر مركز القي ...
- قادة الاتحاد الأوروبي يتفقون على عقوبات جديدة ضد إيران
- سلطنة عمان.. ارتفاع عدد وفيات المنخفض الجوي إلى 21 بينهم 12 ...
- جنرال أوكراني متقاعد يكشف سبب عجز قوات كييف بمنطقة تشاسوف يا ...
- انطلاق المنتدى العالمي لمدرسي الروسية


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - هويدا صالح - التحيّزات الثقافية والحضارية وأثرها على العمران والمدينة العربية