أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ضياء الشكرجي - ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 57















المزيد.....


ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 57


ضياء الشكرجي

الحوار المتمدن-العدد: 5111 - 2016 / 3 / 22 - 13:27
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 57
ضياء الشكرجي
[email protected]
www.nasmaa.org
ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي
الجزء الثاني

تجربتي الذاتية المتواضعة جدا بتقديري لكن الغنية جدا بتقديري
مع حزب الدعوة الإسلامية
النسخة الشيعية العراقية لـ(حركة الإخوان المسلمين)
ومع عموم الإسلام السياسي
من 1981 حتى 2006
مقدمة الجزء الثاني
إنها قصتي لربع قرن من عمري مع حزب الدعوة الإسلامية، ومع عموم الإسلام السياسي، إحساسا مني بأن هذه القصة، وهذه التجربة، ليستا من الملكية الشخصية، مما يسمح لي أن أتخذ قرار نشرها أو حجبها عن الرأي العام، أو لا أقل عن كل من له اهتمام بموضوعات هذا الكتاب، بل هي، أي تجربتي هذه، جزء من الملك العام وحجبها عن الرأي العام قد لا يبتعد عن أن يكون بمثابة الخيانة.

كما كنت قد أشرت في الجزء الأول إن سرد هذا التاريخ أمر يسبب لي الكثير من الحرج، لاضطراري ذكر الحوادث بشخوصها، والبوح بأسمائهم، ومع أكثرهم كانت لي علاقة تجعلني في غاية الحرج أن أتناولهم، في كثير من الأحيان مؤشرا على الجوانب السلبية من شخصياتهم. ومع هذا أقول إن كثيرا منهم ربما تغير، نحو ما هو أحسن، أو نحو ما هو أسوأ. وقد تكون أفكار البعض منهم قد تغيرت إيجابا أو سلبا، وبعضهم كانت الصورة عنه أكثر إيجابية مما آل إليه بعد تعرضه لاختبار السلطة وامتيازاتها، التي أفسدت الكثيرين، وأظهرت ما خفي من المعدن الحقيقي لكثيرين. كما يمكن أن يكون الكثيرون ممن أيدوا طروحاتي وعبروا عن انسجامهم معها في فترة ما، تكوّن لديهم موقف آخر، رافضا أو ناقدا، وقد يكون بعض من رأى نفسه بعيدا عني في فترة، يجد نفسه اليوم أشد قربا مني وأكثر انسجاما من مواقفي ووجهات نظري.

والكتاب على وشك أن أنتهي من إعداده للنشر ودفعه للناشر، ثم للقارئ الكريم، نجد على سبيل المثال مقتدى الصدر، الذي كان بالنسبة لي رمزا للتطرف بأقصى درجاته، يزحف خطوة بعد أخرى، مقتربا من العلمانية، ومع هذا أبقى أقول، حتى لو طابقت آراءه ومواقفه آراء ومواقف الاتجاه الديمقراطي العلماني الليبرالي، لا يمكن في ظل نظام يريد أن يكون ديمقراطيا وينعت نفسه بذلك، أن تكون كلمة القائد في تنظيم سياسي في كل الأحوال مطاعة طاعة مطلقة، وتعد من اللامسموح مناقشته أو نقده، ثم أن يقود حزبا رجل دين، يكون قائدا أبديا لذلك الحزب، فهنا تكمن المشكلة، وهنا تكمن المفارقة بين دولة يقول دستورها أنها ديمقراطية، وسلوكيات حزبية لا تنسجم مع التقاليد الديمقراطية. وهذا يقال عن معظم أحزابنا، بما فيها تلك (المدنية) المعارضة، ثم يبقى الحزب الإسلامي، مهما انفتح على الثقافة الحديثة متقاطعا، بدرجة تزيد أو تقل، مع ثوابت الديمقراطية، ودولة المواطنة، وعلمانية الدولة كضمانة لا بد منها لديمقراطيتها.

ضياء الشكرجي
هامبُرڠ-;- – تشرين الأول 2012


تجربتي في العراق بعد سقوط الديكتاتورية
العودة بعد ثلاثة وعشرين عاما

في الأيام التي كنا نتوقع شن أمريكا الحرب على العراق، ونحن نعيش شعورا مزدوجا، بين رجاء سقوط الديكتاتور هذه المرة، مما يمثل فرصة لإقامة نظام صالح، بالنسبة لي بشرط أن يكون ديمقراطيا، وبين القلق على العراق، مما يمكن أن تؤدي الحرب من تدمير للعراق، وما يمكن أن يقع من ضحايا من أبناء شعبنا. وكان مؤتمر لندن قد انعقد، وقاطعه كل من حزب الدعوة والحزب الشيوعي. فأخبرت من قبل التنظيم في لندن أن هناك نية بزيارة وفد من الحزب من تنظيمات أورپا إلى إيران، للتداول مع قيادة الحزب في إيران، واللقاء ببقية الأطراف الإسلامية العراقية، وبشكل خاص محمد باقر الحكيم، وكذلك اللقاء مع مسؤولين إيرانيين ربما، ولو بالنسبة لي هذا كان آخر ما أرغب به. على أي حال كنت أحد الذين رشحوا لعضوية هذا الوفد. كان على رأس الوفد إبراهيم الجعفري، وبعضويته من لندن كل من صادق الركابي، وعبد الرزاق الكاظمي، ووليد الحلي، وعلى ما أتذكر كان معنا أيضا علي العلاق من الدانمارك. ربما كانت الدوافع للزيارة إقناع أعضاء القيادة في إيران لإعادة النظر في قرار مقاطعة مؤتمر لندن، ما يترتب عليه من مقاطعة المشاركة في أي تشكيلة سياسية لإدارة المرحلة الانتقالية، التي لم نكن بعد نعرف كيف ستكون تفاصيلها، وما هي تصورات الأمريكان عن ذلك.

هنا أقص حادثة حصلت معنا، مارست فيها القيادة الطهرانية للحزب كذبة رخيصة معنا. ولا أدري عندما يكذبون على الكادر المتقدم للحزب، كيف سيتعاملون مع بقية أعضاء الحزب، بل كيف سيتعاملون مع جماهير الشعب، الموالية المخدوعة بهم، وغير الموالية. علي الأديب أحضر لنا أحد مسؤولي الداخل، ليقص علينا الوضع في داخل العراق، وتكلم عن تنظيم حزب الدعوة في الداخل، فقال لنا إن وضع التنظيم الآن أفضل من أي وقت مضى، [بالمناسبة هذا ولحد هنا كان ما قد سمعته أيضا من نوري المالكي] فلنا وجود، في الحوزة العلمية، ولنا وجود في الأوساط الجامعية، طلابا وأساتذة، ولنا وجود واسع في الجيش، من الجنود ومن كبار الضباط، ولنا وجود في الأوساط العشائرية. عندما وصلنا العراق اكتشفنا زيف تلك الأكذوبة. فقد وجدنا حزب الدعوة بعد دخولنا العراق أصفارا على اليسار.

من ضمن جدولنا في تلك الأيام النيسانية كانت زيارتنا لمحمد باقر الحكيم، الذي كان استقباله لنا في غاية الود. وحاول أن يقنع الوفد بضرورة التحاق الحزب بمؤتمر لندن، وبطريقة تحفظ للحزب مكانته، ولا تكون على نحو الالتحاق. لكنه أثناء كلامه، إذا به في لحظة يتحول من الحديث السياسي الموضوعي إلى النبرة العرفانية الغيبية، وهو يرفع كلتا يديه، قائلا: «لا ندري على أي شيء نحن مقبلون، فمن الممكن أن يأتي طوفان ويجرفنا جميعا».

يوم السقوط كنا جميعا في مقر الحزب في طهران، نتابع الأخبار على التلفزيون، فعلمنا بسقوط بغداد، مما يعني انتهاء الخمسة والثلاثين عاما من الديكتاتورية البعثية الصدامية. شخصيا خنقتني العبرة، لكني جاهدت البكاء، لأني لم أجد من الآخرين تفاعلا عاطفيا مع الحدث. بدأ الكلام يجري عن الدخول، وعلمت أن الجعفري كان من أوائل من دخل، وكذلك المالكي. شخصيا، ولعدم وضوح الأمر لي، كيف سندخل، ومتى، رجحت العودة السريعة إلى ألمانيا، لأهيئ نفسي من هناك، ولكن بعد إتمام تهيئة كتابي «مثلث الإسلام والديمقراطية والعلمانية» [اسم الكتاب الذي كنت قد اخترته هو «مثلث الديمقراطية والإسلام والعلمانية»، فتصرف الناشر بتغييره دون استشارتي]، لأني خشيت أني إذا ما دخلت العراق، لن أجد الوقت لإكماله، في الوقت الذي كان على وشك الانتهاء.

وشيء آخر جدير ذكره هنا، وهو إن إحدى الموضوعات التي نوقشت في طهران، هو ضرورة الاتفاق على إصدار جريدة موحدة لحزب الدعوة داخل العراق، بديلا عن (الجهاد) الطهرانية، و(الموقف) الدمشقية، و(صوت العراق) اللندنية. ونوقش الاسم، فطُرحت عدة بدائل للاسم، أتذكر اثنين منهما، مقترحي وهو «المسار»، ومقترح الجعفري «البيان»، متخذا الآية «هذا بَيانٌ لِّلنّاسِ وَهُدًى وَّمَوعِظَةٌ لِّلمُتَّقينَ» شعارا [وبيان هو اسم إحدى بناته]. وقد رجحت كفة مقترحه هذا بالنتيجة بعدد الأصوات.

أتصور إن عودتي إلى ألمانيا كانت في اليوم التالي مباشرة، أي في 10/04، وهو اليوم الذي جرى فيه مقتل عبد المجيد الخوئي على يد الصدريين في النجف. تلقينا هذا الخبر باستنكار شديد، رغم أننا لم نكن كـ(إسلاميين) على وفاق مع نجل المرجع الشاب ذي المنحى العلماني، والعلاقات الدولية (المشبوهة) بالنسبة لنا، كصداقته مع الملك حسين. ككل مساء سبت ذهبت مساء السبت 12/04/2003 إلى (دار الهدى) في هامبُرڠ-;-. وكان في ذلك الوقت شخص واحد من جمهور الدار محسوبا على الصدريين، فجاءني مستبشرا فرحا بمقتل عبد المجيد الخوئي، فاستنكرت عليه فرحه بتلك الجريمة، فأجاب بأنه ليس إلا أول من على قائمة التصفيات التي لا بد منها، والتي يخطط الصدريون لتنفيذها. فلما أردت أن أعرف من يا ترى غيره على القائمة، فأجاب: (1 محمد باقر الحكيم، 2) عبد العزيز الحكيم، 3) صدر الدين القبانجي، 4) محمد رضا السيستاني، 5) علي السيستاني). فعبرت عن استنكاري وقلقي، بالرغم إن البعض ممن ذكر لم أكن أطيقهم، لتطرفهم، ولولائهم الأعمى لإيران. بالذات صدر الدين القبانجي، وعبد العزيز الحكيم، كنت لا أحبهما أبدا، لكن القتل؟ فهذا خط أحمر بالنسبة لي.

ما أن وصلت هامبُرڠ-;- حتى عكفت على كتابي «مثلث الإسلام والديمقراطية والعلمانية»، فانتهيت من إعداده للنشر. وكنت قد اخترت له اسم «مثلث الديمقراطية والإسلام العلمانية»، باعتبار أن (الديمقراطية) هي محور البحث فيه، إلا أن الناشر (أحمد الجواهري صاحب دار العارف في بيروت)، وهو أيضا من حزب الدعوة، على الأقل آنذاك، ولا أعرف علاقته بالحزب من بعد ذلك، قد اجتهد في تغيير العنوان، دون إعلامي بذلك، ناهيك عن استئذاني أو استشارتي. ومع هذا قد يكون معذورا، لما له من أثر سلبي محتمل عند الجمهور المخاطب، في حال تقديم مفردة (الديمقراطية) نتاج ثقافة (الغرب الكافر)، على (الإسلام).

في 19/05/2003، أي بعد ثمانية وثلاثين يوما من سقوط الديكتاتورية، كان رجوعي إلى العراق، الذي كنت قد ودعته بالدموع، قبل ثلاث وعشرين سنة، أو بالضبط قبل 8422 يوما، منذ 27/04/1980 يوم مغادرتي.

طرت إلى دمشق، ومن هناك استقللنا سيارة من منطقة السيدة زينب باتجاه العراق. وفي بغداد، وحسبما عرفت من خلال اتصالاتي، توجهت ابتداءً ولأيام، لا أتذكر كم كان عددها، إلى دار لشقيقة أبي حوراء، أحد أفراد الحزب، وهو أحد اثنين رافقا إبراهيم الجعفري في دخوله، وذلك في ساحة بيروت في شارع فلسطين. وبقي الأمر معي كذلك، حتى زرت عائلة مدير مصنعنا آنذاك، فأصروا على أن أبيت عندهم، وهكذا كان، حتى استلامي لإحدى الدور التي كان النظام قد صادرها منا، وهي دار والديَّ الذي ملّكها والدي لوالدتي، ثم ملّكتها هي لشقيقتَيّ.

منذ البداية انتقدت بعض توجهات الحزب وعمله الإعلامي. فقد لاحظت تبني الحزب لپوسترات، تحمل صورتَي محمد باقر الصدر ومحمد الصدر، وعبارة تشير إلى أن حزب الدعوة يعتمد ما أسموه بـ «خط الصدرين». فقلت لهم إنه من غير الصحيح أن يقرن الحزب نفسه بالتيار الصدري، لكون الأخير متطرفا وغير عقلاني، لأني اعتبرت محمد محمد صادق الصدر هو المؤسس لهذا التطرف، أو على الأقل هو رمز هذا التيار. كما انتقدت التأكيد على قول محمد باقر الصدر «أوصيكم بالدعوة خيرا، فإنها أمل الأمة». وكتبت في حينها، وبُعيد التغيير، مقالة لجريدة (البيان) بعنوان «وصايا المرجع أو القائد؛ مدى إلزامها بعد وفاته»، وأتيت بأمثلة منها ما مرّ ذكره، ومنها وصف الصدر لمحمد باقر الحكيم بـ«عضدي المفدى»، أو ترشيح محمد الصدر للحائري مرجعا بعده. وبيّنت أسباب عدم صحة اعتماد هذه الأقوال كمعيار للتزكية. ومقالتي المذكورة منشورة في كتابي (لا لدينٍ «يُفسدُ فيها ويَسفكُ الدماء»).

وصدر في بداية دخولنا للعراق كراس بقلم حسن شبر بعنوان «تعريف بالدعوة»، فلم يرق لإبراهيم الجعفري هذا الكراس، فعمل بطرقه المعروفة الخاصة على أن يُهمَل، ولا يُعتَمَد توزيعه، لأنه لا يرى أحدا غيره مؤهلا للكتابة معرِّفاً الشعب العراقي بحزب الدعوة. فكتب كراسا بنفس العنوان [أو ربما بتفاوت طفيف بين العنوانين]. وعُرِض عليّ الكراس لمراجعته، فوجدت فيه استصحابا للفكر الحركي المعتمد في مرحلة العمل السري، بما يُفهَم منه على سبيل المثال أن السرية من أساسيات العمل المعتمدة من قبل الحزب، معطيا إياها غطاءً شرعيا، بإيراد أمثلة من سرية عمل الرسول محمد في بداية الدعوة، وكذلك السرية التي كان يمارسها بعض أئمة الشيعة، بسبب اضطهادهم وشيعتهم من قبل الأنظمة المعادية لهم، الأموية أو العباسية منها. والغريب إنه كان يتكلم عن السرية كمرادف للتنظيم. وهذا يمثل أيضا استصحابا لأجواء انبعثت في إيران في الثمانينيات، تشكك بشرعية العمل الحزبي إسلاميا، فوقع في خطأين، أولا عدم مراعاة متطلبات المرحلة الجديدة، التي تستوجب شفافية العمل، وعدم سريته، مما هو من لوازم النظام الديمقراطي، والثاني الخلط بين المفاهيم، بحيث يريد أن يثبت شرعية التنظيم الحزبي، فيتكلم عن أمثلة للعمل السري للرسول والأئمة، وكأن التنظيم يعني بالضرورة السرية. هنا أضفت هوامش تزيل هذا اللبس، اعتُمِدَت إضافتها، في وقتها قلت لحسن الحظ، والآن أقول لسوء الحظ، لأن أي تجميل لصورة الإسلاميين هو تزييف لحقيقتهم، ولو إني كنت أؤمن بما كتبت، لإيماني آنذاك بالديمقراطية ولوازمها، رغم إسلاميتي للوهم الذي كنت أعيشه، ألا هو وهم إمكان المواءمة بين الإسلام والديمقراطية. نعم أقول المواءمة صحيحة، ولكن هذه المواءمة أو عدم التعارض، هو عدم تعارض بين قراءة من قراءات الإسلام والديمقراطية، وهذه كانت قراءتي، ولكن الأفضل هو إبعاد أي فهم ديني عن قضايا السياسة. هذا الذي تبنيته من عام 2005، ونمى حتى اكتملت بنسبة ما ملامحه عام 2006، ولم يبلغ مدى الحسم الكلي إلا نهاية 2006.

قبل السقوط كنت لسنوات عديدة ألح على وجوب تعديل النظام الداخلي للحزب، بحذف ولاية الفقيه، واعتماد الديمقراطية، وعلى وجوب إعادة صياغة البرنامج السياسي، وأدرجت هاذين المطلبين أكثر من مرة في ورقة مشروع إصلاح في أكثر من مؤتمر عام للحزب، ولكن لم أجد أذنا صاغية. وعندما اقتربنا من موعد المشاركة في الانتخابات، وكان لزاما علينا أن نضع برنامجا سياسيا يناسب المرحلة، تشكلت لجنة لهذا الغرض، أتذكر من أعضائها (ضياء الشكرجي، نوري المالكي، صلاح عبد الرزاق، عبد الرزاق الكاظمي). وتركت بصماتي على هذا البرنامج، دون أن أنكر دورا لغيري، إلا أن بصماتي كانت واضحة. هنا أحببت أن أذكر أمرا مهما. وهو حضور عبد الرزاق الكاظمي كان تمثيلا لإبراهيم الجعفري، وليس تمثيلا لوجهات نظره الشخصية، لأنه كان يرى في الجعفري عبقري زمانه الذي لا يضاهى ولا يبارى. كنا نجتمع لساعات طوال، ونصل إلى صياغات، ثم يذهب بها الكاظمي إلى الجعفري، ويأتينا في موعد الاجتماع التالي، فيقص علينا كيف أن (السيد) قد سهر الليل كله عاكفا على المسودة، ليسجل لنا ملاحظاته. وعندما أقارن ما سجل (السيد) من ملاحظات ومقترحات تعديل مع النص المشتغل عليه، لا أجد إلا جملة واحدة، أخذنا بجزء منها، ولم نأخذ بها كليا بعد مناقشتها. ومع هذا يحاول عبد الرزق الكاظمي، وبشكل متكرر ومجّ، تجيير كل ما يراه من إيجابيات للجعفري، فيقول انظروا إلى دقة التعبير، أو إلى التفاتة (السيد)، أو إلى ملاحظته المهمة، وكلما كان يحاول أن يجيّر شيئا لصالح الجعفري بنسبته إليه، كنت أردّ في كل مرة، بأن هذا ما كنا قد ناقشناه نحن في اللجنة، ولم يجر إضافته أو اقتراحه من الجعفري. وغالبا ما كانت النصوص، التي يراها مهمة ويحاول أن ينسبها لسيده، هي من صياغاتي، ومن الطبيعي أني كنت أتذكر جيدا ما كنت أنا الذي قدمته من صياغة.

منذ البداية، وقبل سقوط النظام، ذكرت في مقالة لي أهم ما كنت أراه من بؤر الخطر على مشروع التحول الديمقراطي في العراق. فبالإضافة إلى إيران، والبعث، شخصت خطرا في التيار الصدري [ولم يدر في خاطري أن حزب الدعوة نفسه سيكون بعد سنوات هو الخطر الأكبر على مشروع التحول الديمقراطي]، لما لمست منه من تطرف وحالة من الهيجان اللاعقلاني، وتعامل صنمي مع قائده، يذكرني بطريقة تعامل حزب الله اللبناني مع حسن نصر الله. حتى إن مقالتي التي حاولت فيها أن أحلل عوامل انبعاث ظاهرة التطرف، وذكرت من تلك العوامل ما أسميته بـ«صدمة اكتشاف الذات»، أو «صدمة توهم اكتشاف الذات»، أقصد اكتشاف الهوية (الإسلامية)، فكنت أعني كأبرز مصداق لهذه الظاهرة على الساحة العراقية، هو التيار الصدري. ولذا مر وذكرت انتقادي لحزب الدعوة في الترويج لوحدة الخط، بما أسماه بـ«خط الصدرين». مرة كان لدينا اجتماع حزبي في إطار المكتب السياسي، أو اجتماع للشورى، في المنصور، وجرى الكلام عن علاقة الحزب بالتيار الصدري، وكان أكثر المراهنين على ذلك إبراهيم الجعفري. عندها أبديت رأيي، وقلت: «إخواني، أرجوكم لا نرتكب نفس الخطأ الذي زاولناه إلى أواخر الثمانينيات، عندما كانت أجواء التذمر والشعور بالأذى من الإيرانيين قد سادت أوساط أكثر العراقيين، ولاسيما أوساط (الدعاة)، وكان بعض إخواننا - وقصدت بالذات الجعفري - كانوا يواصلون الدفاع عن إيران والتبرير لأخطائها بل وإساءتها للقضية العراقية، كونها دولة شرعية لا يجوز الانتقاص منها، والآن نرتكب نفس الخطأ فندافع عن الصدريين، ونبرر لهم تطرفهم، لكونهم أبناءنا». وعرف الجعفري أني أقصده، فعقّب بكلام استهله بعبارة «أشكر الشيخ أبا آمنة على صراحته». [طبعا أنا أتكلم عن مقتدى الصدر والتيار الصدري عام 2003، بقطع النظر عن التحولات التي حصلت، وعن ظهور تيارات وكيانات إسلاموية أو شيعسلاموية أشد تطرفا].

ولنا قصة أخرى مع التيار الصدري، ذلك في أول احتفال للحزب في العراق بمناسبة ذكرى تأسيسه، التي يدعي أنها في السابع عشر من ربيع الأول (ولادة الرسول حسب الرواية الشيعية وولادة إمامهم السادس جعفر بن محمد). فكان أحد الذين اعتلوا خشبة المسرح الوطني، الذي أقيم الحفل في قاعته، هو حسين الشامي. فتناول التيار الصدري بالانتقاد، وقدم نصائح لمقتدى، ولم يكن يعلم إن أكثر الحاضرين هم من أفراد التيار من مدينة الثورة، لعدم امتلاك الحزب لجمهور آنذاك، فضجت القاعة بهتافات غاضبة ومعترضة ومعلنة التأييد لمقتدى، وهَمّ الجمهور الصدري بمغادرة القاعة، احتجاجا على كلام الشامي. المضحك - كان مضحكا لي آنذاك - كانت محاولة عامر الخزاعي لمعالجة المشكلة، فصعد إلى المسرح، وبدأ يصرخ بطريقة هزلية بائسة حقا: «كلنا وراء مقتدى، كلنا مقتدى الصدر». فلم ينفع ذلك معهم، بل غادروا القاعة غاضبين، ولم يبق إلا جمهور محدود جدا.

كنت حريصا على إبقاء الحزب بعيدا عن التطرف والتشدد، ولنفس السبب كنت أرفض ما يبديه البعض من رغبة في توحيد شقَّي الدعوة، بإعادة (تنظيم العراق) ثانية إلى صفوف الحزب. ولكن بعدما تحولت إلى العلمانية، وصار واضحا لي كم هو خطر الإسلاميين على المشروع الديمقراطي، أتمنى دائما، إذا ما استلم الإسلاميون الحكم، سواء في العراق، أو غيره، أن يستلمه المتطرفون اللاعقلانيون، من أجل التسريع بسقوط تجربتهم. [وهنا حريّ أن نذكر، كيف اندمج الحزبان عمليا، كواحد من إنجازات ونجاحات نوري المالكي، فجرى تهريب عبد الفلاح السوداني المتورط بالفساد، وتمكين خضير الخزاعي من تبوؤ منصب نائب رئيس الجمهورية، استهانة وإهانة للعراق، ومكافأة له كأسوأ وزير للتربية والتعليم.]

وقصتي الثالثة مع التيار الصدري، هو ما كتبته من مقالة، أردّ على دعوى التيار بكون مجلس الحكم ليس شرعيا، لأنه لم يكن منتخبا، فكتبت في جريدة (البيان) بما مضمونه أن كذلك يمكن القول أن خيار المقاومة ليس شرعيا، لأنه لم يجر استفتاء الشعب العراقي عليه. فانبرى أحد أئمة الجمعة للتيار الصدري، وهو رائد الكاظمي، الذي كان يؤم الجمعة في الكاظمية، رادّا على مقالتي، واصفا إياي بـ«الشيخ المجاهد في سبيل الدنيا ضياء الشكرجي». آنذاك كنت ما زلت أضع العمامة على رأسي، والتي طلَّقتها بشكل نهائي في أيلول 2004، وكان الفضل في ذلك بعد توفيق الله لجهاز المخابرات، ورئيسه آنذاك محمد الشهواني، وهذا ما سيأتي تفصيله.

وشهدت السنوات الأولى 2003، 2004، 2005 إلقائي كإسلامي، وغالبا بعمامتي، الكثير من المحاضرات حول الديمقراطية، والأرضية الشرعية لها من وجهة نظر الإسلام، حسب ما اعتمدته من فهم، وعموما عن ثقافة الاعتدال. فكانت هناك سلسلة محاضرات، لكن بلباسي المدني، حول الديمقراطية في طالبات وطلاب من (الجامعة المستنصرية)، كنت أدعى إليها من شباب في إطار منظمة مجتمع مدني، بتنسيق من طرف أمريكي غير حكومي، كانت تلقى صدى إيجابيا وحوارات مثمرة. كذلك كانت تتوجه إليّ دعوات من ناشطات إسلاميات، تارة من حزب الدعوة، وأذكر هنا بشكل أساسي ندى السوداني، وناجحة عبد الأمير، بل وحتى من المجلس الأعلى، إذ بادرت إلى دعوتي في إحدى المرات شقيقة همام (أم باقر)، حيث كان النشاط مقاما في إحدى مدارس البنات في الكرادة، وأتذكر هنا مجيء زوجة الشيخ حسين حمودي أحد أشقاء همام حمودي، الذي كان قد اعتقله النظام، واختفى أثره، وكانت زوجة (الشهيد) متوشحة بالسواد، وواضعة أمام وجهها ما يعرف بالعراق بـ(الپوشية)، والمأخوذة من المفردة الفارسية (پوشي)، بمعنى الستار أو الحجاب، كعرف اجتماعي اختفى تقريبا، ولكن بقي ملازما لزوجات رجال الدين، لاسيما إذا كانت المعنية أرملة. وكان الشقيق الأكبر للفقيد، ولهمام حمودي، نوري باقر حمودي (أبو صباح)، الذي تعرفت عليه في الحج عام 1977 مع صالح الحيدري، وتكونت صداقة متينة بيننا، قد عرفني مرة على أخيه الشيخ. الذي أردت أن أقوله إن الإسلاميين من جهة كانوا يستفيدون من طروحاتي الديمقراطية، كوني من وسطهم، مما يسجل لرصيدهم، بينما يعيشون من جانب آخر حالة من التردد، والمراوحة، بل وفي كثير من الأحيان التحفظ الكبير تجاه الديمقراطية. وقد مر وذكرت كيف كان قياديو (حزب الدعوة تنظيم العراق) يرون أن فكري الديمقراطي والمنفتح يمثل انحرافا عما يُسمّى بـ(ثقافة الدعوة)، التي يرون أنفسهم أشد تمسكا بها حتى من حزب الدعوة الأم، لاسيما أن أحد أبرز منظرّي الحزب هاشم الموسوي (السيد أبو عقيل)، كان على رأس المنشقين، وغدا المرشد الفكري والروحي للحزب المنشق الموسوم بـ(حزب الدعوة الإسلامية تنظيم العراق)، والذي أهم رموزه خضير الخزاعي وعبد الكريم العنزي (الذي انشق عنهم لاحقا) وعبد الفلاح السوداني، وزير التجارة المتورط بفضيحة الفساد، والهارب بحماية المالكي، والذي كان من المقربين للجعفري، قبل التحاقه بـ(تنظيم العراق) المنشق [والذي كان يسمى في لندن من شدة تدينه وتقواه بـ «راهب الدعوة»].



#ضياء_الشكرجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 56
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 55
- التناقضات في حكم سن التكليف
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 54
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 53
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 52
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 51
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 50
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 49
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 48
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 47
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 46
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 45
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 44
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 43
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 42
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 41
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 40
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 39
- ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 38


المزيد.....




- قناة أمريكية: إسرائيل لن توجه ضربتها الانتقامية لإيران قبل ع ...
- وفاة السوري مُطعم زوار المسجد النبوي بالمجان لـ40 عاما
- نزلها على جهازك.. استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة الجديد 20 ...
- سلي أولادك وعلمهم دينهم.. تردد قناة طيور الجنة على نايل سات ...
- قصة السوري إسماعيل الزعيم -أبو السباع-.. مطعم زوار المسجد ال ...
- نزلها الآن بنقرة واحدة من الريموت “تردد قناة طيور الجنة 2024 ...
- قصة السوري إسماعيل الزعيم -أبو السباع-.. مطعم زوار المسجد ال ...
- كاتب يهودي: المجتمع اليهودي بأمريكا منقسم بسبب حرب الإبادة ا ...
- بايدن: ايران تريد تدمير إسرائيل ولن نسمح بمحو الدولة اليهودي ...
- أستراليا: الشرطة تعتبر عملية طعن أسقف الكنيسة الأشورية -عملا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ضياء الشكرجي - ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 57